وارثة خديجة أم سلمة أم المؤمنين

هوية الکتاب

وارثة خديجة أم سلمة أم المؤمنين

شركة دار المصطفى الأحياء التراث

لبنان - بيروت - ص.ب: 24/197

يطلب من:

لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة - ط ا - ص.ب: 24/197 - برج البراجنة – بعبدا 2020 1017 - هاتف: 09611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 0096311647012 إيران - قم - خ سمية - 16 مترى عباس آباد بلاك 24 هاتف: 7738865 - فاكس: 7738855

البريد الإلكتروني: INFO@DAR-ALMUSTAFA.NET

الموقع: WWW.DAR.ALMUSTAFA.NET

اسم الكتاب:... وارثة خديجة أم سلمة أم المؤمنين

نشر وتوزيع:... شركة دار المصطفى لإحياء التراث

الطبعة:... الأولى 1423ه - 2002م

جميع الحقوق محفوظة لشركة دار المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لإحياء التراث

ص: 1

اشارة

ص: 2

وارثة خدیجة امّ سلمة امّ المومنین

(حیاتها، مواقفها، احادیثها)

تألیف

نزار محمّد شوقی آل سنبل القطیفی

نشر

شرکة دار المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم لأحیاء التّراث

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

نشر

شركة دار المصطفى الأحياء التراث

لبنان - بيروت - ص.ب: 24/197

يطلب من:

لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة - ط ا - ص.ب: 24/197 - برج البراجنة – بعبدا 2020 1017 - هاتف: 09611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 0096311647012 إيران - قم - خ سمية - 16 مترى عباس آباد بلاك 24 هاتف: 7738865 - فاكس: 7738855

البريد الإلكتروني: INFO@DAR-ALMUSTAFA.NET

الموقع: WWW.DAR.ALMUSTAFA.NET

اسم الكتاب:... وارثة خديجة أم سلمة أم المؤمنين

نشر وتوزيع:... شركة دار المصطفى لإحياء التراث

الطبعة:... الأولى 1423ه - 2002م

جميع الحقوق محفوظة لشركة دار المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لإحياء التراث

ص: 6

مقدمة

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و الصَّلاهُ وَ السَّلام عَلی أشرف الخلق أجمعين نبينا محمد و أهل بيته الطيبين الطاهرين و على صحابته المخلصين و من تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.

و بعد:

فقد تمر على الإنسان لحظات تكون الكلمة الهادفة و المقصودة من دواعي توفيقه غير المترقب، و من شواهد ذلك كلمة الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام لجارية بشر الحافي التي غيرت مسار تأريخه، فإن الإمام عندما مر على دار بشر و صادف خروج جاريته و كان صوت اللهو و الطرب يخرج من الدار قال لها: لمن هذه الدار؟

قالت: لسيدي.

قال: سيدك عبد أو حر؟

فتفاجأت من هذه الكلمة، فقالت: أقول لك لسيدي فتقول عبد هو أو حر! هو حر!

قال: صدقت، لو كان عبداً لأطاع مولاه، و مشى الإمام علیه السلام لسبيله.

فأخبرت سيدها بما سمعت فأثرت فيه هذه الكلمة فكانت فيها نجاته فخرج من حياة اللهو والطرب و اتجه لمولاه الحقيقي فكان أحد الزهاد المشهورين.

و قصة هذا الكتاب الماثل بين يديك - عزيزي القارئ - مصداق من مصاديق التوفيق غير المترقب الذي كان منشأه كلمة هادفة، فقد جمعتنا الأيام في مجلس أحد الأخوان بالعلامة المحقق حجة الإسلام السيد علي الميلاني حفيد المرجع الكبير السيد هادي الميلاني، و صاحب الكتب الكثيرة في العقائد و التي منها

ص: 7

الكتاب العظيم (... الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار)، فدار بيننا الحديث، و الحديث ذو شجون، و من جملة ما ذكره السيد الجليل في ذلك المجلس أن أم المؤمنين أم سلمة رضی الله كانت كثيراً ما تصحح أحاديث روتها بعض نساء النبي صلی الله علیه و آله، فتروي الأولى شيئاً و تروي أم سلمة ما يصححه، و حبّذا لو كتب حول هذا المضمون، فأخذت هذه الكلمة من نفسي، و حدثتها بأن أقوم بهذا العمل، فمرّت على ذلك المجلس شهور بل قد طالت إلى سنين - سنتين أو ثلاث - و الفكرة لا زالت ترن في نفسي، إلى أن وفق الله سبحانه و تعالى فعزمت على القيام بهذا العمل، فتطورت الفكرة إلى أن أكتب حول أحاديث أم سلمة رضی الله في أهل البيت علیهم السلام، فشرعت في ذلك في شهر رمضان المبارك من سنة 1418ه- باعتباره عطلة رسمية للحوزة العلمية، و قطعت في ذلك الشهر الكريم مشواراً معتداً به، ثم هل العيد و جاء شهر شوال فتركته متجهاً للدرس الذي من أجله هاجرت من وطني حتى حل الصيف و بدأت العطلة الصيفية، فكنت أستغل أيام العطلة لتكميل البحث الذي أنا بصدده، و عند نهاية الشوط تطورت الفكرة لأن أكتب حول حياة هذه السيدة الجليلة و سيرتها، و يكون البحث في الأحاديث أحد فصول الكتاب، إذ لم أجد كتاباً خص هذه المرأة العظيمة بدراسة مستقلة عن حياتها مع ما هي عليه من الجلالة و العلم و المعرفة و الإيمان، و ما لها من الحقوق على المسلمين، و كونها إحدى أمهات المؤمنين، فاستقر الرأي على ذلك فواصلت البحث في طريق غير معبدة، و سير غير متواصل، إذ لم يكن هناك كتاب أسير على ضوئه، و الدراسة تأخذ من وقتى الشيء الكثير، فاستقريت - تقريباً - كل الروايات التي حدثت بها و تحدثت عنها في بطون الكتب من حديث و تاريخ و تراجم وفقه و...، لعلي أجد ضالتي في شيء منها، فبارك الله لي في هذا السعي

ص: 8

فكان هذا الكتاب الماثل بين يديك.

ثم وأنا في اللمسات الأخيرة للكتاب أطلعني بعض الأخوة على كتاب من الحجم الرقعي يتحدث عن حياة السيدة أم سلمة فاطلعت عليه سريعاً إلا أنه لا يعني بالنسبة لما كتبته و توصلت إليه شيئاً فلم أدرجه في قائمة المصادر التي اعتمدت عليها.

و في الأخير و عندما بلغ الكتاب مرحلة الطبع أطلعني أخ آخر على كتاب من جزئين عن حياة أم سلمة للكاتبة آمنة الحسني من المغرب العربي، طبع عام 1419ه، فاضطررت إلى أن أمر عليه و لو سريعاً فوجدته وافياً بالموضوع و إن اختلفت معها في بعض النتائج، فرجعت إليها في موردين رأيت الإغفال عنهما مضراً بالبحث، و أثبت ذلك في الهامش من موضعهما.

و مما تجدر الإشارة إليه عنوان الكتاب (وارثة خديجة) فلعل القارئ يتعجب من ذلك، ولكنه حينما يقرأ الكتاب يدرك أن السيدة أم سلمة رضی الله هى أكثر سيدات بيت النبي صلی الله و علیه و آله إخلاصاً للرسول صلی الله علیه و آله و احتراماً له و طاعة، فلذا اخترت هذا الاسم، فإني أراها الوريثة من بين زوجات الرسول صلّی الله علیه و آله للسيدة خديجة علیها السلام مع الفارق بين المقامين.

و في الأخير أشكر كل من وقف معي في هذا الكتاب، أو شجعني على مواصلة البحث فيه و هم كثيرون، و أخص بالذكر سماحة السيد الميلاني حفظه الله الذي غرس بذرة الكتاب في نفسي، و الذي قرأه بكامله و أتحفني بملاحظاته القيمة، و العلامة الفاضل الشيخ محسن المعلم القطيفي حفظه الله، الذي قرأ الكتاب أيضاً و أفادني بملاحظاته القيمة، و القائمين على مركز المصطفى، فقد بذلوا لي كل ما طلبته منهم حول الموضوع فجزاهم الله خير جزاء من أحسن عملا، و أشكر أيضاً

ص: 9

أصحاب دار المصطفى لنشر التراث، فقد فتحوا لي مكتبة الدار لأستفيد منها ما أريد.

و في الختام أرجو من الله العلي القدير أن يتقبل مني هذا العمل القليل، و أن يجعل ثوابه نوراً يستضيء به والدي في قبره، و أن يكون في ميزان أعماله يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إنه هو الكريم الرحيم.

اللهم ثبتنا على القول الثابت و اجعل خير أعمالنا خواتيمها و خير أيامنا يوم نلقاك، و اغفر لنا ما يعلمون و ما لا يعلمون إنك على كل شيء قدير، وصل و سلم على خير خلقك محمد بن عبد الله و أهل بيته الطيبين الطاهرين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

نزار آل سنبل القطيفي

ذو القعدة 1421ه

ص: 10

الباب الأول

اشارة

يحتوي على خمسة فصول:

الفصل الاول: هويتها الشخصية

الفصل الثاني: أم سلمة في ظل الإسلام

الفصل الثالث: مميزات شخصيتها

الفصل الرابع: مكانتها الاجتماعية

الفصل الخامس: مواقفها العقائدية

ص: 11

ص: 12

الفصل الاول: الهوية الشخصية

اشارة

ص: 13

ص: 14

نسبها

1- اسمها:

هند بنت أبى أمية المخزومية، و قيل: إن اسمها (رملة)، و هو خلاف المشهور حتى قال في الإصابة: (و قال أبو عمرو: يقال: اسمها رملة و ليس بشيء) (1)

عرفت في الوسط الإسلامي قديماً وحديثاً بكنيتها (أم سلمة).

2- أبوها:

حذيفة و يقال: (سهيل) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يكنى بأبي أمية و أبي مناف، يعرف عند العرب بزاد الراكب أو (الركب) لكرمه، قال في الإصابة: (و يلقب بزاد الراكب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه و معه زاد بل يكفي رفقته من الزاد) (2)

و قال الطبري في تأريخه: (و كان اسم أبي أمية بن المغيرة سهيل - و هو زاد الراكب - و كان إذا سافر أنفق على أصحابه و أهل رفقته فسمي بذلك زاد الراكب) (3)

و جاء في أسد الغابة: (.. ويعرف بزاد الركب، وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم) (4)

و يظهر من كلام لأم سلمة أن أباها كان يتمتع بشهرة واسعة و سمعة عالية عند

ص: 15


1- الإصابة في تمييز الصحابة 4 : 458.
2- الإصابة 4: 458.
3- تأريخ الطبري 11 : 539.
4- أسد الغابة 6: 293.

العرب و كان محترماً في أوساطهم، و لعله كان من أجل ما اشتهر به من الجود و الكرم، لحب العرب هذه الصفة و احترام صاحبها، قالت أم سلمة رضی الله: (إنها لما قدمت المدينة أخبرتهم أنها ابنة أبي أمية بن المغيرة فكذبوها، و يقولون ما أكذب الغرائب! حتى أنشأ ناس منهم إلى الحج فقالوا: ما تكتبين إلى أهلك؟ فكتبت معهم فرجعوا إلى المدينة يصدقونها فازدادت عليهم كرامة ..) (1)

و هو خال أبي طالب علیه السلام و قد رثاه بقوله:

كأن على رضراض قص و جندل من اليبس أو تحت الفراش المجامر (2)

على خير حاف من معد و ناعل إذا الخير يرجى أو إذا الشر حاسر

ألا إن زاد الركب غير مدافع برو سحيم غيبته المقابر (3)

نادوا بأن لا سيد اليوم و قد فجع الحيان كعب و عامر

و كان إذا يأتي من الشام قافلاً قدمه قبل الدنو البشائر

فيصبح آل الله بيضاً ثيابهم و قدماً حباهم و العيون كواسر

أخو جفنة لا تبرح الدهرعندنا مجعجعة تدمى وشاء و باقر (4)

ضروب بنصل السيف سوق سمانها إذا أرسلوا يوما فإنك عاقر

يا لك من راع رميت بآلة شراعية تخضر منها الأظافر (5)

3- أمها:

عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك الكنانية من بني فراس (6)، و زاد في الطبقات

ص: 16


1- مسند أحمد الحديث رقم 25403 .
2- الرضراض: الحصى الصغار، القص: لغة في الجص، عن كتاب العين. و الجندل: صخرة مثل رأس الإنسان، عن لسان العرب.
3- السرو: سخاء في مرؤة، و سرو الأرض ما انحدر من حزونة الجبل، عن كتاب العين.
4- الجفنة: ما يوضع فيه الطعام، و يظهر أن المراد من المجعجعة الإبل، و الشاء و الباقر الغنم و البقر.
5- شرح نهج البلاغة 291:18
6- الإصابة 4 : 458

بعد مالك: ابن جذيمة بن علقمة جذل الطعان بن فراس بن غنم بن مالك بن كنانة (1)

و ذكر صاحب إعلام الورى قولاً آخر حيث قال في تعداد زوجات النبي صلی الله علیه و آله و سلم: (السابعة: أم سلمة و هي بنت عمته عاتكة بنت عبد المطلب، و قيل: هي عاتكة بنت عامر بن ربيعة ..) (2)

و قال في ص 145 في ذكر عمات النبي صلی الله علیه و آله و سلم: (و كانت عاتكة عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي ..)، فيحتمل للجمع بين القولين أن عاتكة بنت عبد المطلب علیه السلام الزوجة أبيها لا أمها، و يؤيده ما ذكره في أسد الغابة في ترجمة عاتكة بنت عبد المطلب: (تزوجها أبو أمية بن المغيرة المخزومي فولدت له زهيراً و عبدالله ابني أبي أمية، و هما أخوا أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم الأبيها)(3)

4- قبيلتها:

ترجع أم سلمة في نسبها إلى بني مخزوم، و بنو مخزوم من قبائل قريش الكبيرة، لها مكانتها و وجاهتها في قريش و عند العرب، و كان بينها و بين بني هاشم ،مصاهرة، و تسمى ريحانة قريش، و علل ذلك بما لنسائها من الحظوة عند الرجال، و لعل ذلك لما عرف عنها من الجمال، و قد جاء عن الإمام علي علیه السلام قوله: «أما بنو مخزوم فريحانة قريش تحب حديث رجالهم و النكاح في نسائهم» (4)

و كان يضرب ببني مخزوم المثل في الكبر و التيه (5)، و قد اشتهر منها رجال كان لهم الدور البارز في الجاهلية و الإسلام و تمتعوا بشهرة واسعة النطاق، فكانت لبعضهم الكلمة الأولى و الأخيرة في قريش، و قد أكثر شعراء العرب في مدح بعض

ص: 17


1- الطبقات لابن سعد 8: 69.
2- إعلام الورى ص 141.
3- 13 31/1.
4- نهج البلاغة 4 : 28.
5- شرح نهج البلاغة 19 : 355.

شخصياتها، و نذكر على سبيل المثال ما قاله شاعر من بني هوازن أحد بني أنف الناقة حين سقى إبله عبد الله بن أبي أمية المخزومي بعد أن منعه الزبرقان بن بدر:

أتدري من منعت سيال حوض سلیل خضارم منعوا البطاحا(1)

أزاد الركب تمنع أم هشاما و ذا الرمحين أمنعهم سلاحا

هم منعوا الأباطح دون فهر و من بالخيف و البلد الكفاحا

بضرب دون بيضهم للخف إذا الملهوف لاذ بهم و صاحا (2)

و ما تدري بأيهم تلاقي صدور المشرفية و الرماحا (3)

و قد اجتمع في قبيلة مخزوم النقيضان من ناحية دينية فكان منهم طغاة المشركين و من حارب الله و رسوله علناً بكل ما أوتي من قوة و قدرة كأبي جهل لعنه الله، و منهم الذي دخل في الإسلام يوم كان وليداً كأبي سلمة رضی الله، و سوف نلم ببعض رجالهم لماماً بدون تفصيل:

1-هشام بن المغيرة: شخصية جاهلية بارزة عرفت في الأوساط العربية بالكرم و الشجاعة و الوجاهة، و قد مدحه الشعراء كثيراً و أشادوا بذكره، و هو خال أبي

طالب علیه السلام وقد افتخر به في شعره على أبي سفيان حيث قال:

و خالي هشام بن المغيرة ثاقب إذا هم يوماً كالحسام المهند (4)

و إن رجلاً يفتخر به أبو طالب علیه السلام و هو سيد البطحاء لعظيم الشأن في قومه، و قد روي عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قوله: «لو دخل أحد من مشركي قريش الجنة لدخلها هشام بن المغيرة، كان أبذلهم للمعروف، و أحملهم للكلّ (5)» (6)

ص: 18


1- الخضرم بكسر الخاء و الراء و سكون الضاد: الجواد الكثير العطية، و الجمع خضارم و خضارمة، عن لسان العرب
2- الطلخف الطعن الشديد عن العين و لسان العرب.
3- شرح نهج البلاغة 290:18
4- شرح نهج البلاغة 285:18
5- الكل اليتيم و الذي هو عيال و ثقل على صاحبه.
6- شرح نهج البلاغة 18: 293.

و مما يشير إلى بعض صفاته الحسنة ما روته أم سلمة حيث قالت: قلت يا رسول الله إن عمي هشام بن المغيرة كان يطعم الطعام و يصل الرحم و يفعل و يفعل فلو أدركك أسلم، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: كان يعطي للدنيا و حمدها و ذكرها و ما قال يوماً قط: اللهم اغفر لي يوم الدين (1)

2- الوليد بن المغيرة أخو هشام المتقدم ذكره، و كان من أثرياء قريش و أصحاب الوجاهة و الرياسة فيهم، و هو أحد العظيمين الذين عناهما القرآن في قوله تبارك و تعالى: (وَ قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَ-ٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) زخرف: 31، و الثاني عروة بن مسعود الثقفي من الطائف لأنهما كانا عظيمي قومهما و ذوي الأموال الجسيمة فيهما، و لهذا دخلت الشبهة على مشركي قريش لظنهم بأن الأحق بالنبوة هو من كان ثرياً، و فيه نزل أيضاً قوله تعالى: (ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا- وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا- وَ بَنِينَ شُهُودًا- وَ مَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا) (2)

3- أبو جهل عمرو بن هشام طاغية قريش و فرعون أهل الشرك، قتل في غزوة بدر كافراً.

4- خالد بن الوليد.

5- الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، و اسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، و قد اجتمع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم مع المسلمين في داره الواقعة على الصفا أيام سرية الدعوة، قال عنه الشيخ الطوسي رحمه الله: (صحابي شهد بدراً) (3)

6- جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، و هو ابن أم هانئ أخت الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، كان فقيهاً فارساً شجاعاً ذا لسان و عارضة قوية، و في الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام: «و كان معه - أمير المؤمنين علیه السلام- جعدة بن هبيرة المخزومي، و كان أمير

ص: 19


1- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 1: 118.
2- المدثر: 11-14.
3- رجال الطوسي: ص 6.

المؤمنين علیه السلام خاله، و هو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان: إنما هذه الشدة في الحرب من قبل خالك، فقال له جعدة: لو كان لك خال مثل خالي لنسيت أباك » (1)، و جعدة هذا هو القائل:

أبي من بني مخزوم إن كنت سائلاً و من هاشم أمي لخير قبيل

فمن ذا الذي ينأى علي بخاله كخالي علي ذي الندى و عقيل (2)

و يروى أنه صلى بالناس الغداة يوم ضرب أمير المؤمنين علیه السلام، قال : الخوارزمي: (و تأخر علي فدفع في ظهر جعدة بن هبيرة المخزومي فصلي بالناس الغداة)(3)، قال عنه أصحاب الرجال: (تابعي ثقة) (4)، و عده بعضهم من الصحابة، و قال آخرون كانت له رؤية و لم تكن له صحبة (5)، و هو من رواة أحاديث أم سلمة في كتابنا هذا.

7- ابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة، و هو الذي فتح القهندر و كثيراً من خراسان فقال فيه الشاعر:

لولا ابن جعدة لم تفتح قهندركم و لا خراسان حتى ينفخ الصور (6)

8- خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، قاتل ابن أثال الطبيب الذي أغراه معاوية بسم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، و كان خالد بن المهاجر مخالفاً لبني أمية و منقطعاً إلى بني هاشم (7)

مولدها و وفاتها

لم يشر المؤرخون قديماً وحديثاً إلى سنة ولادتها غير أنه بالإمكان أن نعرف

ص: 20


1- الاختصاص: ص 70.
2- أسد الغابة 1: 285
3- المناقب: ص 383.
4- تهذيب التهذيب 70:2.
5- تهذيب التهذيب :2 70.
6- شرح نهج البلاغة 18: 308.
7- شرح نهج البلاغة 307:18.

ذلك و لو بوجه التقريب بمعرفة أمرين: سنة وفاتها، و عمرها، و من سوء الحظ أن المؤرخين قد اختلفوا في ذلك اختلافاً شديداً غير أنا لا نعدم الوجه القريب، و نقول في تحقيق ذلك:

وفاتها

اختلف المؤرخون و أصحاب الرجال في ذلك على أقوال، بعد أن اتفقوا على

أنها آخر زوجات النبي صلی الله علیه و آله و سلم وفاة:

الأول: أنها توفيت سنة 57 ه، ذكره ابن الأثير كقول (1).

الثاني: توفيت سنة 58 ه، ذكره ابن منظور (2).

الثالث: توفيت سنة 59 ه، نقله عن الواقدي كل من مختصر تاريخ دمشق و الإصابة، و تهذيب الأسماء، و عمدة القارئ، والطبري، و غيرهم ا(3).

الرابع: توفيت سنة 61 ه، يوم عاشوراء، انفرد به الدميري (4).

الخامس: توفيت سنة 61 ه، بعد أن سمعت باستشهاد الإمام الحسين علیه السلام، جاء في الإصابة: (و قال ابن حبان: ماتت في آخر سنة إحدى و ستين بعد ما جاءها نعي الحسين بن علي علیه السلام..)، و ذهب إليه غيره أيضاً (5).

السادس: توفيت سنة 62 ه في خلافة يزيد بن معاوية (لع) (6).

و ترد الأقوال الأربعة الأولى بما ورد من الروايات الكثيرة التي صرحت

ص: 21


1- الكامل في التاريخ 515:2.
2- مختصر تاریخ دمشق المجلد :4 جزء 7: 154، عن الواقدي.
3- لمختصر المجلد : الجزء ،2، ص 280 التهذيب :12 ،483 الإصابة 4 459، عمدة القارئ للعيني المجلد 1 الجزء ،2، ص172 الطبري 11: 603 ، و اختاره ابن قتيبة في المعارف ص 136.
4- حياة الحيوان الكبرى 168:1.
5- مختصر تاريخ دمشق المجلد 1 الجزء 2 ص 280 تاريخ الإسلام للذهبي 4: 5، الإصابة 4 : 460.
6- راجع الإصابة 460:4، مجمع الزوائد 9 : 246، تهذيب التهذيب 12: 483.

بوجودها يوم قتل الحسين علیه السلام، و أنها أول صارخة في المدينة عليه علیه السلام، و قد أعلمت بذلك من سمعها من أهل المدينة حيث أعطاها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم التربة الحمراء التي جاء بها جبرئيل علیه السلام و قال لها: «إن فاضت دماً فاعلمي بأن الحسين علیه السلام قد قتل»، و قد تعرضنا لهذه الروايات، و الروايات التي تنص على أنها سمعت نواح الجن على الحسين علیه السلام في الفصل المختص بحديثها فراجع، مضافاً إلى الروايات التي دلّت على أن من المسلمين من دخل عليها يعزيها بقتل الحسين علیه السلام، و أنها نددت و أرسلت إلى أهل العراق في ذلك.

فهذه الروايات تدل على أنها كانت موجودة إلى ما بعد العاشر من المحرم من سنة 61 ه، فيدور الأمر بين القول الخامس و السادس، و الأقرب منهما السادس حيث ورد في صحيح مسلم أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، و عبد الله صفوان دخلا على أم سلمة في خلافة يزيد بن معاوية فسألا عن الجيش الذي يخسف به و كان ذلك حين جهز يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بعسكر الشام الغزو المدينة المنورة و كانت وقعة الحرة سنة ثلاث و ستين (1).

و قد استشهد بهذا الخبر صاحب (2) لرد قول الواقدي من أن وفاتها في سنة 59 ه، و الذي يظهر لنا بعد التتبع و التدقيق: أنها كانت موجودة في سنة 63 ه فيحتمل وفاتها فيها، و وجه الاستظهار ما جاء في كتاب (3) في أحداث غزو المدينة المنورة في عصر يزيد بن معاوية (لع) بواسطة قائد جيشه مسلم بن عقبة (لعن)، فإنه قال: (.. فجاء عمرو بن عثمان بن عفان بيزيد بن عبد بن زمعة، وجدته أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و كان عمرو قال لأم سلمة: أرسلي الله معي ابن ابنتك، فجاء به إلى مسلم..) (4) ، فإن هذه الجملة تنص على وجودها أيام

ص: 22


1- صحيح مسلم 8: 166.
2- الإصابة الإصابة 4 : 460.
3- الإمامة و السياسة 15:2.
4- الإمامة و السياسة 2 : 15.

وقعة الحرة التي وقعت سنة 63 ه، فيحتمل أن وفاتها فيها على أقل تقدير، و لم أرَ من ذهب إلى ذلك أو أشار إليه و هو أقرب الاحتمالات.

عمرها

ما وجدت من تعرض لبيان عمرها الشريف إلا مصدرين:

المصدر الأول: الطبقات الكبرى لابن سعد و هذا نص روايته:(أخبرنا محمد بن عمر، عن الزبير بن موسى، عن مصعب بن عبد الله، عن عمر بن أبي سلمة قال: نزلت في قبر أم سلمة أنا و أخي سلمة و عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية و عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي، فكان لها يوم ماتت أربع و ثمانون سنة) (1)

المصدر الثاني: النجوم الزاهرة للاتابكي قال: وطال عمرها و عاشت 90 سنة و أكثر، (2)، و قد ذكر هذا الرأي أيضاً صاحب كتاب نساء أهل البيت علیهم السلام (3)

و الآن و على ضوء ذلك يمكن لنا أن نحدد وقت ولادتها التقريبي فنقول: أما على المصدر الأول فتكون ولادتها قبل البعثة بثماني سنوات، و ذلك لأن عمرها يتوزع على ثلاث و ستين سنة بعد الهجرة، و إحدى و عشرين سنة قبل الهجرة، منها ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، و ثماني سنوات قبل البعثة.

و أما على المصدر الثاني فتكون ولادتها قبل البعثة بأربع عشرة سنة، و ذلك لأن عمرها المبارك يتوزع كالتالي: ثلاث و ستين سنة بعد الهجرة، و سبع و عشرين سنة قبل الهجرة، منها ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، و الباقي و هو أربع عشرة سنة قبل البعثة.

و حينما نريد أن نقرب أحد القولين بالموازين الطبيعية فسوف نقرب الرأي الثاني، و ذلك لأن أم سلمة من أول الداخلات في الإسلام كما سيأتي في نقطة

ص: 23


1- الطبقات الكبرى 76:8، تهذيب الأسماء 2: 362.
2- النجوم الزاهرة المجلد 1 الجزء 1 ص 155.
3- نساء أهل البيت علیهم السلام 269:1.

لاحقة فهي من العشرة الأوائل أو بعدهم بواحد، وكانت حينها متزوجة بابن عمها أبي سلمة، فإذا أسلمت في السنة الأولى من البعثة فسوف تكون - على الرأي الأول متزوجة -مدخولاً بها وعمرها ثماني سنوات، وهو بعيد بل غير مقبول عادةً، وأما على الرأي الثاني فسوف يكون عمرها حين زواجها - على فرض أنها تزوجت سنة البعثة - أربع عشرة سنة وهو مقبول عادةً إن لم يكن هو المتعارف عليه في ذلك الزمان.

مدفنها

و حينما توفيت تولت تغسيلها أم أيمن (1) و نقلت إلى بقيع الغرقد و دفنت هناك كما نص على ذلك السمهودي في وفاء الوفاء (2) تبعاً لعمر بن شبة النميري في تاريخ المدينة كما يظهر من السند، و نص الثاني في ذلك هو:(حدثنا محمد بن یحیی قال: سمعت من يذكر أن قبر أم سلمة بالبقيع حيث دفن محمد بن زيد بن علي قريباً من موضع فاطمة بنت رسول الله صلی الله و علیه و آله، و أنه كان حفر فوجد على ثماني أذرع حجراً مكسوراً مكتوباً في بعضه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله و سلم فبذلك عرف أنه قبرها، و قد أمر محمد بن زيد بن علي أهله أن يدفنوه في ذلك القبر بعينه، و أن يحفر له عمق ثماني أذرع فحفر كذلك و دفن فيه)(3).

و يوجد الآن في مقبرة البقيع محل يقال عنه قبور نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم و هو قريب من المكان المدفون فيه الأئمة الأربعة من أهل البيت علیهم السلام، الإمام الحسن و السجاد أهل و الباقر و الصادق علیه السلام، و هو المكان الذي قال عنه النميري قريباً من موضع فاطمة علیهما السلام، إلا أن قبرها - فاطمة علیهما السلام- مردد بين أماكن متعددة، و هذا المكان المذكور هو أحد الأمكنة التي تزار فيها السيدة فاطمة علیهما السلام الاحتمال دفنها فيه، و القبر

ص: 24


1- الطبقات لابن سعد 8 / 34.
2- وفاء الوفاء المجلد 2 الجزء 3 ص 912
3- تاريخ المدينة 1: 120.

الموجود الآن و يعرف بقبر فاطمة هي فاطمة بنت أسد علیه السلام أم أمير المؤمنين علیه السلام، و أما سائر نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم فهل دفن هنا أو في مكان آخر أو بعضهن هنا و بعضهن في مكان آخر؟ فالذي يظهر من بعض الروايات التاريخية أن بعضهن في غير هذا المكان و تحقيقه في محل آخر.

زوجها الأول

تزوجت أم سلمة أولاً بابن عمها أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، و تلتقي معه في الجد الثاني أعني (عبد الله بن عمر)، و هو من أوائل من آمن برسالة السماء فقيل إنه الحادي عشر (1)، و قيل إنه أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجته أم سلمة (2)، و سوف نأتي على ذكر ذلك في الحديث عن إسلام أم سلمة رضی الله و هجرتها إلى الحبشة، و هو أخو الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من الرضاعة أرضعتهما كما أرضعت حمزة بن عبد المطلب علیه السلام قبلهما ثويبة مولاة أبي لهب كما قيل (3)، و هو ابن عمة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم برّة بنت عبد المطلب علیه السلام.

و ذكر البعض أنه أول من هاجر إلى المدينة أيضاً و اختلفوا في وقت هجرته، فقال ابن الأثير: قبل بيعة الأنصار في العقبة (4)، بينما ذهب ابن خلدون إلى أن هجرته بعد بيعة الأنصار الثانية فقال: (فلما تمت بيعة الأنصار - و يعني الثانية - ... أمر رسول الله صلی الله علیه و آله أصحابه ممن هو بمكة بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالاً، و أول من خرج أبو سلمة و نزل في قبا) (5)

و من الحكايات التي تروي في حياته أول إسلامه ما نقله غير واحد من: أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي لما و ثب عليه قومه ليعذبوه و يفتنوه عن الإسلام

ص: 25


1- أسد الغابة 3: 196.
2- أسد الغابة 3: 196.
3- تاريخ الطبري 3 : 164، أسد الغابة 3: 195.
4- أسد الغابة 3: 196.
5- تاریخ ابن خلدون 14:3

هرب منهم فاستجار بأبي طالب علیه السلام، و أم أبي طالب علیه السلام مخزومية و هي أم عبد الله والد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأجاره، فمشى إليه رجال من بني مخزوم و قالوا له: يا أبا طالب هبك منعت منا ابن أخيك محمداً، فما لك و لصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي و هو ابن أختي و إن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فارتفعت أصواتهم و أصواته.. (1)

ولدت له أم سلمة رضی الله سلمة، و عمر، و زينب و درة، قال مصعب بن عبد الله: إنها ولدتهم في الحبشة (2)

و الذي يواجهنا في حياة هذا الصحابي الجليل سنة وفاته و كيفية موته حيث ذهب المؤرخون إلى أقوال، و إليك ما ذكره ابن الأثير: (قال مصعب الزبيري: توفى أبو سلمة بعد أحد سنة أربع من الهجرة، و قيل: توفي في جمادى الثانية سنة ثلاث من الهجرة، و قال أبو عمر: أنه توفي سنة اثنتين بعد وقعة بدر، وقال ابن إسحاق توفي بعد أحد) (3)

و من الروايات التي بينت وقت الوفاة و سببها ما رواه ابن سعد بسنده إلى عمر ابن أبي سلمة قال: (خرج أبي إلى أحد فرماه أبو سلمة الجشمي في عضده بسهم فمكث شهراً يداوي جرحه ثم برئ الجرح، و بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أبي إلى (قطن) (4) في المحرم على رأس خمسة و ثلاثين شهراً فغاب تسعاً و عشرين ليلة ثم رجع فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنة أربع و الجرح منتقض، فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة..) (5).

و لنا تأمل في صحة هذه الأقوال جميعاً؛ لأن هناك من الروايات و الأحداث التاريخية ما يدل على أن وفاته قبل التواريخ التي تقدمت، فمنها الروايات التي

ص: 26


1- أسد الغابة 3: 196، شرح نهج البلاغة 56:14.
2- سير أعلام النبلاء 1: 151
3- أسد الغابة 3: 196.
4- قطن: اسم جبل لعبس،عن کتاب العین.
5- الطبقات 8 :69.

حكت زواج السيدة الزهراء سلام الله علیها الآتي ذكرها إن شاء الله في فصل لاحق، فإنها تدل على أن أم سلمة في ذلك الوقت كانت زوجة للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، و قد زفّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة سلام الله علیها على عليّ علیه السلام في دار أم سلمة، و كان لأم سلمة دور ملموس في حركة ذلك الزواج المبارك من أول الخطبة حتى الزفاف، و قالت في تلك المناسبة شعراً أيضاً، وقد عقد الإمام على علیه السلام علی السيدة فاطمة في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة في الشهر الذي وقعت فيه غزوة بدر، و بنى بها في ذي الحجة من نفس السنة كما هو المشهور(1)، فكيف حضر أبو سلمة بدراً وأحداً و مات في السنة الثالثة أو الرابعة ؟!

و يؤيد ذلك ما رواه ابن سعد في الطبقات: (إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوم خرج إلى أحد نزل عند الشيخين - اسم مكان - فأصبح هناك فجاءته أم سلمة بكتف مشوية

فأكلها..) (2).

و الذي يظهر أنها كانت زوجته وإلا لكان من المناسب أن يتقدم بالكتف المشوية أبو سلمة.

فمن المحتمل أنه توفي في السنة الأولى من الهجرة، أو أوائل السنة الثانية منها و لم يشهد بدراً، و يشهد لذلك أمور:

الأول: ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قبل وقعة بدر في سنة اثنتين من التاريخ أم سلمة، و اسمها هند.. (3)

و رواها الطبري أيضاً فقال: قال الحارث: و حدثني محمد بن سهيل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة قبل وقعة بدر في سنة اثنتين من التاريخ أم سلمة و اسمها هند(4) .

ص: 27


1- الصحيح من سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله 4: 25.
2- الطبقات 3: 63 .
3- مستدرك الحاكم 4: 20.
4- تاريخ الطبري 10: 96.

الثاني: ما رواه السمهودي عن أبي عمر: تزوجها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سنة اثنتين بعد بدر في شوال (1)، و يؤيده ما ذكره في تهذيب التهذيب أولاً: (تزوجها سنة اثنتين من الهجرة بعد بدر و بنى بها في شوال) (2)

فإذا كانت بدر في شهر رمضان فلابد أن أبا سلمة مات قبل ذلك التأريخ.

و لما توفى أبو سلمة حضره الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و دعا لها بالمغفرة، و روي ضمرة بن حبيب أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، دخل على أم سلمة يعزيها بأبي سلمة فقال: اللهم عزّ حزنها و اجبر مصيبتها و أبدلها به خيراً منه.

قال: فعزّى الله حزنها و جبر مصيبتها و أبدلها خيراً منه و تزوجها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (3)

و روي عن الإمام الباقر علیه السلام: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، دخل على أم سلمة حين توفي أبو سلمة فذكر ما أعطاه الله و ما قسم له و ما فضّله، فما زال يذكر ذلك ويتحامل على يده حتى أثر الحصير في يده مما يحدثها (4)

أولادها

ولدت أم سلمة ولدين و ابنتين و كلهم لأبي سلمة زوجها الأول كما تقدم، و قد اختلف المؤرخون في ذكر أعمارهم و أيهم الأكبر، و ما سنذكره في ترجمة كل واحد منهم ما هو إلا مجرد تقريب لأحد الاحتمالات، و إلا فتحقيق ذلك خارج عن وضع الكتاب فلا يهمنا البحث عنه بأكثر مما سنذكره، و أبناؤها هم:

1- سلمة بن أبي سلمة: الثمرة الأولى لحبها الأول، فهو وليدها البكر، و به كانا يكنيان، و لم يذكر المؤرخون سنة ولادته، و غاية ما ذكره بعضهم: أنه ولد في الحبشة، و قد زوجه الرسول صلی الله علیه و آله أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب بعد قضية صلح

ص: 28


1- وفاء الوفاء ج 2 الجزء 3: 912
2- تهذيب التهذيب 12: 483.
3- الطبقات 71:8.
4- الطبقات 8: 72 - 73

الحديبية الواقعة في السنة السابعة للهجرة، و كان يقول صلی الله علیه و آله: «هل جازيت سلمة؟» لأنه هو الذي ولى عقد أمه عند زواجها بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم (1)

فمن هذا و من معرفتنا لوقت هجرة والديه إلى الحبشة و هي في السنة الخامسة للبعثة يمكن أن يقرب تاريخ ولادته بأن لا ينقص عن السنة الخامسة للبعثة و لا تزيد على السنة السابعة لها، إذ من المستبعد أن يتزوج و عمره لم يبلغ السادسة عشرة، و لو ولد في السنة الثامنة للبعثة و ما بعدها لكان عمره حين زواجه ثلاث عشرة سنة أو أقل منها و هو بعيد. و يمكن أن نطرح احتمالاً آخر و هو أنه ولد قبل الهجرة إلى الحبشة، فإن زواج أم سلمة بأبي سلمة كان على أقل تقدير في سنة البعثة، و أسلما و بقيا في مكة حتى السنة الخامسة بعد البعثة ثم هاجرا إلى الحبشة، فليس من البعيد أنه ولد في إحدى هذه السنين الخمس و لا سيما على الرواية القائلة إنه هو الذي ولي عقد أمه على النبي صلی الله علیه و آله، و يترجح هذا الاحتمال بعد ملاحظة ما سيجيء في الفصل الثاني، عند الكلام حول هجرة أم سلمة إلى الحبشة، فإن أحد الاحتمالات أنها لم تبق في الحبشة إلا ثلاثة أشهر في المدة القصوى، و أنها ولدت زينب في الحبشة و هو أكبر منها، و ليس تحقيق ذلك بمهم.

و لم يحفظ لسلمة رواية عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، و قيل: إنه حضر حرب الجمل مع علي علیه السلام، و ستأتي الرواية في ترجمة أخيه (عمر)، و بقي سلمة إلى خلافة عبد الملك بن مروان، و ليس له عقب (2)

2- عمر بن أبي سلمة: على ما عليه أكثر المؤرخين وعلماء الرجال، و ضبطه الشيخ الطوسي (عمرو) في موضع (3)، و قال في موضع آخر:(محمد بن أبي سلمة

ص: 29


1- سير أعلام النبلاء :2 337 السيرة النبوية لابن كثير :3 174 التاريخ الكبير للبخاري 4: 80.
2- تاريخ الطبري :10: 58، أسد الغابة 2: 337. (3) رجال الشيخ الطوسي ص 50.
3- رجال الشيخ الطوسي ص 50.

عبد الله بن عبد الأسد.. شهد مع علي علیه السلام و أخوه سلمة، و أمهما أم سلمة زوج النبی صلی الله علیه و آله و سلم، أتت بهما إلى على علیه اللسلام فقالت : هما عليك صدقة، فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك، و قيل: سلمة و عمرو إبنا أبي سلمة، قال ابن عقدة: هذا أصح) (1) و جاء في أسد الغابة عنوانان: الأول: (عمر بن أبي سلمة) (2)، و الآخر: (محمد بن أبي سلمة ) (3)، و الصحيح أنهما واحد.

و هو من الصحابة الأجلاء الموالين لأمير المؤمنين علیه السلام، قال عنه ابن الأثير: (عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد القرشي المخزومي، ربيب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأن أمه أم هل سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم.. يكنى أبا حفص ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، و قيل: إنه كان له يوم قبض النبي صلی الله علیه و آله و سلم تسع سنين، و كان يوم الخندق هو و ابن الزبير في أطم حسان بن ثابت الأنصاري، و شهد مع على الجمل و استعمله على البحرين، و على فارس، و توفي بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان سنة ثلاث و ثمانين روى عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أحاديث روى عنه سعيد بن المسيب و أبو أمامة بن سهل ابن حنيف و عروة بن الزبير) (4)

و قد ذكر صاحب السير ما يكون رداً على قول ابن الأثير من أنه ولد في سنة اثنتين للهجرة في الحبشة حيث قال: (ولد قبل الهجرة بسنتين أو أكثر، فإن أباه توفي في سنة ثلاث من الهجرة وخلف أربعة أولاد هذا أكبرهم و هم: عمر وسلمة و زينب و درة. ثم كان عمر هو الذي زوج أمه بالنبي له و هو صبي.

ثم إنه في حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم تزوج و قد احتلم و كبر فسأل عن القبلة للصائم، فبطل ما نقله أبو عمر في (الاستيعاب) من أن مولده بأرض الحبشة سنة اثنتين. ثم إنه كان في سنة اثنتين أبواه - بل وسنة إحدى - بالمدينة و شهد أبوه بدرا. فأنى يكون

ص: 30


1- رجال الشيخ ص 29.
2- أسد الغابة 4: 79.
3- أسد الغابة 4: 319.
4- أسد الغابة 4 :079

مولده في الحبشة في سنة اثنتين بل ولد قبل ذلك بكثير...

و قال: و روي عن ابن الزبير قال: عمر أكبر مني بسنتين. و قيل: طلب علي من أم سلمة أن تسير معه نوبة الجمل فبعثت معه ابنها عمر. و طال عمره و صار شيخ بني مخزوم. قال محمد بن سعد توفي في خلافة عبدالملك بن مروان. و نقل ابن الاثير: أن موته كان في سنة ثلاث و ثمانين) (1).

و لا يخفى ما في كلام الذهبي من الخبط أيضاً كما يتضح مما تقدم من أن أبا سلمة لم يشهد بدراً، وأن الذي زوج أمه هو سلمة و قد جازاه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بتزويجه بابنة حمزة و أنه هو أكبر ولد أبي سلمة لا عمر، نعم هناك روايات تدل على أن عمر هو الذي زوج أمه.

ثم إن الإمام علياً علیه السلام لم يطلب من أم سلمة الخروج معه، بل ردّ على من أشار عليه بذلك فإنه العارف بحكمها و وضعها، و قد أرسلت هي ابنها عمر يوم الجمل ابتداء منها مع اعتذارها من عدم القدرة على الخروج معه، و قد نقلنا كلامها فيما تقدم، و سيأتي في الفصل المختص بحديثها و في حوارها مع عائشة ما يشفي الغليل، و قول الذهبي نابع من حقده على الإمام علیه السلام لما عرف عنه من النصب و البغض و العداء للإمام علي علیه السلام و من يشايعه!

و نكتفي الآن بما ذكره الطبري في تأريخه: و قامت أم سلمة فقالت: يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله عزوجل، و أنك لا تقبله مني لخرجت معك، و هذا ابني عمر، و الله لهو أعز علي من نفسي يخرج معك فيشهد مشاهدك، فخرج فلم يزل معه، و استعمله على البحرين.. (2)

و يكفي أن نذكر في فضله ما قالته أمه أم سلمة عنه، و ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام له في رسالته له و هذا نص كتاب الدرجات الرفيعة فيما يرويه عن (الكلبي) من

ص: 31


1- سير أعلام النبلاء 3: 407 - 408.
2- تاريخ الطبري 3 :470.

جملة كلام لأم سلمة رضی الله في رسالة وجهتها إلى الإمام علي علیه السلام: (.. و لولا ما نهانا الله عنه من الخروج، و أمرنا به من لزوم البيوت، لم أدع الخروج إليك و النصرة لك، ولكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة، فاستوص به - يا أمير المؤمنين - خيراً).

قال - يعني الكلبي، و الكلام الآن لصاحب كتاب الدرجات-: (فلما قدم عمر على أمير المؤمنين علیه السلام أكرمه، و لم يزل مقيماً معه حتى شهد مشاهده كلها، و وجهه علي أميراً إلى البحرين، و قال لابن عم له: بلغني أن عمر يقول الشعر، فابعث إلي من شعره، فبعث إليه بأبيات له أولها:

جزتك أمير المؤمنين قرابة رفعت بها ذكري جزاء موقرا

و لم يزل عمر المذكور عاملاً لأمير المؤمنين علیه السلام على البحرين حتى عزله، و استعمل النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين مكانه، و لما أراد عزله كتب إليه علیه السلام: أما بعد فإني وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، نزعت يدك بلا ذم لك و لا تثريب عليك، فقد أحسنت الولاية و أديت الأمانة، فأقبل غير ظنين و لا ملوم و لا متهم و لا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام، و أحببت أن تشهد معي، فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو و إقامة عمود الدين إن شاء الله تعالی) (1)

و ذكر هذا الكتاب السيد الرضى رحمة الله في نهج البلاغة، و يظهر من هذه الكلمات أنه كان مؤمناً قوي الإيمان، و فارساً شجاعاً يستظهر به على جهاد العدو.

توفي في سنة 83 ه كما مرّ، أو سنة 86 ه كما ذكره ابن الأثير في كتابه التاريخ.

3- زينب بنت أبي سلمة: جاء في أسد الغابة: (زينب بنت أبي سلمة بن عبد

ص: 32


1- الدرجات الرفيعة ص 198 ، عن كتاب الجمل للكلبي.

الأسد القرشية المخزومية، ربيبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أمها أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، كان اسمها برة فسماها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم زينب، و نقل مثل هذا عن زينب بنت جحش رضي الله عنها، ولدتها أمها بأرض الحبشة و قدمت بها معها..، و تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسدي فولدت له، وكانت من أفقه نساء زمانها، روى جرير بن حازم عن الحسن قال: لما كان يوم الحرة قتل أهل المدينة فكان في من قتل ابنا زينب ربيبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فحملا فوضعا بين يديها مقتولين، فقالت: (إنا لله و إنا إليه راجعون)، و الله إن المصيبة فيهما على لكبيرة..) (1).

و في هذا النص تصريح بأنها ولدت في الحبشة، و هناك نص آخر رواه الإمام أحمد في مسنده عند ذكره لقصة زواج أم سلمة بالرسول صلی الله علیه و آله و سلم يدل على أن ولادة زينب كانت في المدينة، و محل الشاهد من النص هو: (..قالت: فلما وضعت زينب جاءني النبي صلی الله علیه و آله و سلم فخطبني..) (2).

و من مفارقات المؤرخين والمحدثين هنا أنهم يقولون: بأن زينب ولدت في الحبشة، و مع ذلك يروون في قصة زواج الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بأم سلمة: إن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لما عقد على أم سلمة كان يأتيها فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها، و كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حيباً كريماً يستحي فيرجع، فعل ذلك مراراً.. (3).

و الجمع بين هذين لا يصح على قولهم من أن الرسول صلی الله علیه و آله تزوج أم سلمة في السنة الرابعة للهجرة، ولكنه يصح على ما قربناه من أن زواجها بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان في السنة الأولى من الهجرة، و هذا أحد ما نؤيد به احتمالنا الراجح، و لا يكون ذلك أيضاً إلا على احتمال أن أبا سلمة عاد ثانية إلى الحبشة، و أما إذا قلنا بأنه لم يعد و بقي في مكة المكرمة فلا يمكن أن تكون - حين زواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم بأمها - طفلة

ص: 33


1- أسد الغابة 5: 468 - 469.
2- مسند الإمام أحمد الحديث رقم: 25403.
3- كما في الطبقات 8 :71، و غيره.

ترضع، و سيأتي الكلام حول عودة أبيها إلى الحبشة.

كما أن فرض كونها رضيعة حين زواج الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بأمها لا يصح على قول من قال: بأن أم سلمة ولدت زينب أولاً، ثم من بعدها سلمة، ثم عمر ثم درة كما هو صريح رواية الحاكم (1)، و عليه فإن صحت رواية الرضاع و أن زينب ولدت في الحبشة فمن المحتمل أن التي كانت ترضعها أم سلمة هي أختها درة، ولكن النساخ أو الرواة قد خلطوا بينهما، و ليس تحقيق ذلك مما يهمنا الآن.

و زينب من رواة هذا الكتاب، ولها روايات في أهل البيت علیهم السلام لم نذكرها في الكتاب لأنها ليست عن أم سلمة، و من نماذج ذلك ما رواه الذهبي: (ابن لهيعة: عن عمرو بن شعيب: حدثتني زينب بنت أبي سلمة: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان عند أم سلمة فجعل الحسن من شق و الحسين من شق و فاطمة في حجره فقال: رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت) (2)

و تعد زينب من فقيهات النساء، فقد جاء في رواية: (و كذلك قالت زينب بنت أم سلمة و هي يومئذ أفقه امرأة في المدينة) (3)

توفيت قريبا من سنة أربع وسبعين (4)

ثم إنه جاء في أسد الغابة هذا العنوان: (أم كلثوم بنت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومية، ربيبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أمها أم سلمة، إلى أن قال: عن موسى بن عقبة، عن أمه، عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: لما تزوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت للنجاشي هدية و لا أراها إلا سترجع إلينا..) (5)

و على فرض أن تكون النسبة إلى أبي سلمة صحيحة فالظاهر أنها زينب بنت أبي سلمة إذ لم يذكر لأبي سلمة بنت ثالثة، و يحتمل أن تكون الراوية امرأة أخرىٌ

ص: 34


1- المستدرك 4: 19.
2- سير أعلام النبلاء 3: ص 201.
3- تفسیر ابن کثیر 205/1.
4- السابق.
5- أسد الغابة 5: 613.

فإن بعض من روى هذه الرواية أطلق الكلام و قال: (عن أم كلثوم) و لم ينسبها (1)، و الله العالم.

4- درة بنت أبي سلمة: جاء في أسد الغابة: (درة بنت أبي سلمة بن عبد الأسد القرشية المخزومية ربيبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أمها أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ...، و قال أبو عمر: إنها معروفة عند أهل العلم بالسير و الخبر و الحديث في بنات أم سلمة ربائب النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وقال الزبير: ولد أبو سلمة بن عبد الأسد، سلمة و عمرو و درة و زينب، أمهم أم سلمة بنت أبي أمية) (2).

أخوتها و أخواتها

1- زهير بن أبي أمية: ورد ذكره في كتاب: (أسد الغابة) في ترجمة أمه عاتكة بنت عبد المطلب: (تزوجها أبو أمية بن المغيرة المخزومي فولدت له زهيراً و عبد الله ابني أبي أمية، و هما أخوا أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله لأبيها)(3).

و قال في الإصابة: (زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي أخو أم سلمة أم المؤمنين..)(4) .

و ذكر ابن خلدون في تاريخه: (و استجار رجلان من بني مخزوم بأم هانئ بنت أبي طالب، يقال: إنهما الحرث بن هشام، و زهير بن أبي أمية أخو أم سلمة، فآمنتهما و أمضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أمانها، فأسلما..)(5)

2- عبد الله بن أبي أمية: جاء في أسد الغابة: عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، و اسم أبي أمية حذيفة، و هو أخو أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و كان يقال لأبيه أبي

ص: 35


1- صحيح ابن حبان 516:11.
2- أسد الغابة 5: 449.
3- 1: 31.
4- الإصابة 572/2.
5- 44:3

أمية زاد الركب، و زعم الكلبي أن أزواد الركب من قريش ثلاثة: زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف، قتل يوم بدر كافراً، و مسافر بن أبي عمرو بن أمية، و أبو أمية ابن المغيرة، و هو أشهرهم بذلك، و إنما سموا زاد الركب لأنهم كانوا إذا سافر معهم أحد كان زاده عليهم، و قال مصعب و العدوي: لا تعرف قريش زاد الركب إلا أبا أمية وحده.

و كان عبد الله بن أبي أمية شديداً على المسلمين مخالفاً لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و هو الذي قال له: (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل...) (1) الآية، وكان شديد العداوة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لم يزل كذلك إلى عام الفتح، وهاجر إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم قبيل الفتح هو وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، فلقيا النبي صلی الله علیه و آله و سلم في الطريق.

أخبرنا أبو جعفر بن السمين البغدادي بإسناده إلى يونس بن بكير عن ابن اسحق قال: (و كان أبو سفيان بن الحارث و عبد الله بن أبي أمية قد لقيا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بثنية العقاب فيما بين مكة و لمدينة فالتمسا الدخول فمنعهما، فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: یا رسول الله! ابن عمك و ابن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، و صهري قال لي بمكة ما قال! ما ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما و حسن إسلامهما، و شهد عبد الله مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فتح مكة مسلماً و حنيناً و الطائف، و رمي من الطائف بسهم فقتله و مات يومئذ..) (2)

3- عامر بن أبي أمية: في أسد الغابة: (عامر بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم أسلم عام الفتح روى عن أم سلمة) (3).

ص: 36


1- سورة الإسراء: 90 .
2- أسد الغابة 3: 118 .
3- أسد الغابة 3: 78 .

4- مسعود المخزومي أخو أم سلمة (1).

5- المهاجر بن أبي أمية: ذكر الطبري في تاريخه: (أخو أم سلمة ابنة أبي أمية زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعل الله لأبيها و أمها، و قال: كان المهاجر بن أبي أمية قد وجد عليه رسول صلی الله علیه و آله و سلم، فقال لأم سلمة كلمي لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فهذا يومه عندك، فأدخلته في بيتها، فلما دخل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يرعه إلا مهاجراً آخذ بحقويه من خلفه، فضحك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قالت أم سلمة: إرض عنه، رضى الله عنك فرضي عنه و ولاه صنعاء فانطلق حتى أتى مكة فبلغه أن العنسي قد خرج بصنعاء، فرجع إلى المدينة فلم يزل بها حتى توفي النبي صلی الله علیه و آله و سلم و ولاه أبو بكر صنعاء فمضى في ولايته) (2).

و قيل كان اسمه الوليد فغيره الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى المهاجر، قال في الإصابة: الوليد بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة بنت أبي أمية أم المؤمنين تقدم ذكره في ترجمة المهاجر، و كان اسمه الوليد بن أبي أمية فغيره النبي صلی الله علیه و آله و سلم حين أسلم قاله بن عبد البر، و قد ذكر ذلك الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي حدثنا بن سلمة و ابن جعدبة و بين سياقيهما اختلاف، قالا جميعا: دخل النبي صلی الله علیه و آله و سلم على أم سلمة و عندها رجل فقال: من هذا؟ قالت: أخي الوليد قدم مهاجراً فقال: هذا المهاجر، فقالت: يا رسول الله هو الوليد فأعاد فأعادت فقال: إنكم تريدون أن تتخذوا الوليد حنانا، انه يكون في أمتي فرعون يقال له الوليد (3)

6- عمار بن ياسر: الصحابي الجليل، قيل: إنه أخو أم سلمة لأمها (4)، و قيل: إنه أخوها من الرضاعة (5)و هو الصحيح فإن أمه (سمية) أول شهيدة في الإسلام، و هي غير أم (أم سلمة) المتقدم ذكرها.

ص: 37


1- سير أعلام النبلاء 1: 171.
2- تاريخ الطبري 41:10.
3- الإصابة 613/6.
4- الطبقات لابن سعد 71:8.
5- المستدرك للحاكم 17:4.

7- قريبة بنت أبي أمية: جاء في أسد الغابة (قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، لها ذكر في حديث أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و هى أختها) (1).

و جاء في ترجمة عبد الله بن زمعة: (عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، أخت أم سلمة أم المؤمنين، كان من أشراف قريش، و كان يأذن على النبي صلی الله علیه و آله) (2).

و ذكر أيضاً في ترجمة يزيد بن زمعة: (يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن (أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، أمه قريبة بنت أبي أمية المخزومية، أخت أم سلمة، أسلم قديماً و كان من مهاجرة الحبشة قاله هشام بن الكلبي: و صحب النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و روى عنه هو و أخوه عبد الله بن زمعة و إليه كانت المشورة في الجاهلية، و ذلك أن قريشاً لم يجمعوا على أمر إلا عرضوه عليه، فإن رضيه سكت، و إن لم يرضه منع منه و كانوا له أعوانا حتى يرجع، و كان من أشراف قريش قاله الزبير، و قال أيضا: إنه قتل مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالطائف، و خالفه غيره، فقال ابن شهاب و عروة و موسى بن عقبة و ابن اسحق: انه قتل يوم حنين) (3).

8- ريطة بنت أبي أمية بن عبد الله بن عمر بن مخزوم: المخزومية أخت أم سلمة كانت زوج صهيب بن سنان ذكرها البلاذري (4).

مواليها

كانت لأم سلمة رضی الله مجموعة من الموالى و الإماء، أعتقت بعضهم و كاتبت آخرين و أهدت إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم بعضهم، و سوف نستعرض أسماء ما توصلنا إليه من

ص: 38


1- أسد الغابة 5: 534.
2- أسد الغابة 3: 164.
3- أسد الغابة 5: 110.
4- لإصابة 660/7.

خلال البحث في كتب الرجال و التاريخ:

1- أفلح بن حميد.

2- ثابت مولى أم سلمة، و روى عنها (1).

3- خيرة أم الحسن البصري.

4- أبو صالح: مولى طلحة بن عبيدالله و يقال: مولى أم سلمة اسمه زاذان (2).

5- سائب مولى أم سلمة مديني، روى عنها (3)

6- سفينة. و جاء فيه: سفينة بسين مهملة وفاء و قبل آخره نون، فهو سفينة مولى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يقال: كان مولى أم سلمة فوهبته للنبي صلی الله علیه و آله و سلم يكنى أبا عبد الرحمن (4).

و جاء في التهذيب في تعداد موالي الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: هو سفينة مولى أم سلمة أم الله المؤمنين أعتقته و اشترطت عليه أن يخدم النبي صلی الله علیه و آله و سلم حياته فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقته (5)، و قال: سفينة و اسمه مهران بن فروخ مولى أم سلمة (6).

و جاء في معجم رجال الحديث ما لفظه: (سفينة أبو ريحانة: من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و رجال الشيخ (21).

أقول: عد بعضهم سفينة هذا من الممدوحين، و استند في ذلك إلى عدة روايات: منها: ما ورد في كف الأسد عنه و خضوعه له، و قد رواه المحدث النوري في المستدرك ج 3 باب السين من الفائدة 10، من الخاتمة، و رواه الكليني ج 1 باب مولد الإمام الحسين علیه السلام (116) الحديث 8

و منهاك ما رواه في المستدرك أيضاً عن عمار بن ياسر، قال: كنا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، في غزوة ذات السلاسل: فرجعنا منها ظاهرين و لحقنا سقي من السماء..

ص: 39


1- الجرح و التعديل 2 :461.
2- تهذيب الكمال 33 :420.
3- الجرح و التعديل 4 :243.
4- إكمال الكمال ،4 ،308، تاریخ الطبری 157:10.
5- تهذيب الكمال 1: 207.
6- عيون الاثر 2: 398.

حتى ورد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الوادي فنظر إلى شدة جريانه و قلة الناس في عبوره، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: تسفن يا سفينة على الوادي، فنزل سفينة عن فرسه و وضع عنه سلاحه فرمى بنفسه في عرض الوادي دونه وصار كالسفينة، فنزل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فمشى على ظهر سفينة حتى صار في جانب الوادي و دعا أمير المؤمنين علیه السلام فنزل و عبر على سفينة ثم قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: قم يا سفينة فحسبك هذا افتخاراً.. الحديث.

ثم إن اسم سفينة - على ما ذكره ابن شهر آشوب و الكفعمي - قيس إلا أن البرقي قال: سمه عبد الرحمن بن قيس) (1).

7- السرجسي: بالراء الساكنة والجيم المكسورة بين السينين المهملتين نسبة إلى سرجس، و هو اسم لجد شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب السرجسي مولى أم سلمة قارئ أهل المدينة(2)، و قال ابن حجر شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني القاري مولى أم سلمة، أتي به إليها و هو صغير فمسحت رأسه و كان ختن يزيد بن القعقاع (3)، و الذي يظهر من بعض الكلمات أن مولى أم سلمة هو أبو شيبة أعني نصاح.

8- صالح بن أبي صالح (4).

9- صبيح: بضم الصاد و فتح الباء الموحدة، مولى أم سلمة، وقيل مولى لزيد بن أرقم، روى إبراهيم بن عبد الرحمن بن صبيح مولى أم سلمة عن جده صبيح قال: كنت بباب رسول الله صلی الله علیه و آله فجاء على و فاطمة و الحسن و الحسين فجلسوا ناحية فخرج رسول الله صلی الله علیه و آله فقال : إنكم على خير و عليه كساء خیبری فجللهم به، و قال: أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم (5).

ص: 40


1- معجم رجال الحديث : 163، بتصرف واختصار.
2- الأنساب 4 243 ، الجرح و التعديل 4 335 .
3- تهذيب التهذيب 4: 330.
4- كتاب المجروحين 1 366.
5- أسد الغابة 3 11، الجرح و التعديل 4: 449.

10- عبد الله بن رافع أبو رافع: و يقال: عبد الله بن أبي رافع، و سئل أبو زرعة عن ذلك فقال: الصحيح ابن رافع، و سئل عنه فقال: مديني ثقة، روى عن أم سلمة (1).

11- عبد الله بن زیاد بن سليمان بن سمعان المخزومي أبو عبد الرحمن المدني، مولى أم سلمة (2).

12- قيس: ذكره ابن حبان في (الثقات) و كناه أبا قدامة (3).

13- "مخوض (4).

14- المهاجر: قال في الإصابة: (المهاجر مولى أم سلمة يكنى أبا حذيفة صحب النبي صلی الله علیه و آله و سلم و خدمه وشهد فتح مصر و اختط بها، ثم تحول إلى طحا فسكنها إلى أن ،مات ذكره أبو سعيد بن يونس، و أخرج الحسن بن سفيان، و ابن السكن، و محمد بن الربيع الجيزي، و الطبري، و ابن منده، من طريق بكير مولى عمرة سمعت المهاجر يقول: خدمت رسول الله صلی الله علیه و آله سنين فلم يقل لي لشيء صنعته لم صنعته؟ و لا لشيء تركته لم تركته)؟ (5)

15- ناعم بن أجيل الهمداني، أورده جعفر و قال: كان في بيت شرف في ،همدان، و كان من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، روی عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد: أنه من الصحابة قاله البردعي، أخرجه أبو موسى، و قال الأمير أبو نصر: و أما أجيل بضم الهمزة و فتح الجيم و سكون الياء فهو ناعم بن أجيل الهمداني أبو عبد الله مولى أم سلمة، أصابه سباء في الجاهلية فصار إليها فأعتقته، كان أحد الفقهاء بمصر، روى عن عثمان و علي و ابن عباس و غيرهم.

و قال أبو أحمد العسكري: ناعم مولى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لا أعلم له حديثاً مسنداً و روى بإسناده عن كعب بن علقمة، عن ناعم مولى رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال: حضرت

ص: 41


1- الجرح و التعديل 5: 53 .
2- تهذيب التهذيب 5 : 192 ، الجرح و التعديل 5: 60.
3- تعجيل المنفعة 346.
4- تهذيب الكمال 23: 151.
5- الإصابة 230/6

علياً علیه السلام بالكوفة أو بالبصرة فخطب على بعير ثم نزل ودعا بكبش أقرن فذبحه و قال: هذا عن علي و عن آل علي (1)، و ناعم بن أجيل مولى أم سلمة يكنى أبا قدامة (2).

16- نبهان مولى أم سلمة، يكنى أبا يحيى (3)، نبهان أوله نون مفتوحة و بعدها باء ساكنة معجمة بواحدة فهو نبهان مولى أم سلمة كنيته أبو يحيى حدث عن أم سلمة (4)، نبهان المخزومي أبو يحيى المدني مولى أم سلمة و مكاتبها، ذكره ابن حبان في الثقات (5).

17- نعيم أبو إبراهيم: قال ابن الأثير: مولى أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم أورده الحسن بن سفيان في الصحابة، و روى بسنده إلى نعيم أبي إبراهيم أنه قال: كنت عبداً لأم سلمة فكنت أبيت على فراش رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أتوضأ في مخضبه أخرجه أبو نعيم و أبو موسى (6).

18- أبو أسماء (7).

19- أبو سليمان (8).

20- أبو كثير: مولى أم سلمة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، روى عن مولاته أم سلمة (9)

21- أبو ميمونة مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وكان قارئ أهل المدينة في زمانه و عليه قرأ نافع بن أبي نعيم (10)، و يحتمل أنه السرجسي.

شمائل و صفات

امتازت أم المؤمنين أم سلمة رضی الله بصفات جمالية و كمالية جعلتها الأنموذج

ص: 42


1- أسد الغابة 5: 7.
2- تاريخ الطبري 10: 161.
3- تاريخ الطبري 10: 161.
4- إكمال الكمال 1: 520.
5- تهذيب التهذيب 10 :372.
6- أسد الغابة 5: 133.
7- تهذيب الكمال 33: 35.
8- لسان الميزان 7 :57.
9- تهذيب الكمال 223:34.
10- تاريخ الطبري 10: 158.

الرائع و البارز في نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم، مما جعلها تأخذ مكاناً كبيراً في قلب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من بين نسائه صلی الله علیه و آله و سلم بعد السيدة خديجة علیها السلام، و نحن و إن كنا سنذكر بعض تلك المميزات التي اختصت بها هذه المرأة الصالحة فيما بعد، ولكن هذا لا يمنعنا أن نذكر ما يتناسب مع هذا الفصل الخاص بهويتها الشخصية، و ننقل بعض الكلمات و ما جاءت به الروايات في ذلك:

قال ابن حجر: (و كانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع، و العقل البالغ، و الرأي الصائب) (1).

و قال ابن كثير: (و كانت من حسان النساء و عابداتهن ) (2).

و قالت عائشة: (لما تزوج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكر لنا من جمالها، فتلطفت حتى رأيتها فرأيت و الله أضعاف ما وصفت..) (3).

و عن الإمام الباقر علیه السلام: (إنها أجمل نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم) (4)، و ورد في الكافي عن أبي جعفر علیه السلام قال: (مات الوليد بن المغيرة فقالت أم سلمة للنبي صلی الله علیه و آله و سلم : إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها فلبست ثيابها و تهيأت و كانت من حسنها كأنها جان، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها و عقدت بطرفيه خلخالها فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقالت:..) (5).

و لعل هذا أحد الأسباب التي دعت بعض أمهات المؤمنين إلى أن يغرن منها، فقد روى النسائي في سننه أن أم سلمة أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء و معها فهر (6) ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلی الله علیه و آله و سلم بين فلقتي الصحفة و يقول: كلوا غارت أمكم مرتين، ثم أخذ

ص: 43


1- الإصابة 4 :459.
2- البداية و النهاية 234:8.
3- الإصابة 4 :459، الطبقات لابن سعد 75:8.
4- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله 186:2و سلم.
5- الكافي 5: 117.
6- الفهر بضم الفاء و سکون الهاء هو الجر ملأ الکف، و قبل الجر مطلقاً.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة و أعطى صحفة أم سلمة عائشة (1)

و من خلال ما تقدم من وصفها، و ما ذكره المؤرخون و الرواة من وصف غيرها من نساء النبى صلی الله علیه و آله و سلم بالجمال، يمكن لنا أن نتعرف على أمر ذي بال، و هو أن تسليط الضوء الجمالي على بعض نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالخصوص أعني عائشة ما هو إلا محاولات جادة لإخفاء حقيقة مهمة، كانت مؤثرة في نفوس بعضهن إلى درجة كبيرة، تدعو إلى الغيرة غير المتعارفة في النساء، فضلاً عن نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم و بمرأى و مسمع منه، فإن المتتبع في الروايات يكتشف أن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقد غارت من السيدة خديجة (2) وهي لم تجتمع معها في بيت واحد، و غارت من أم المؤمنين أم سلمة رضی الله كما تقدم، و غارت من أم المؤمنين زينب بنت جحش (3)، و غارت من أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب (4)، وغارت من أم المؤمنين جويرية بنت الحارث (5)، و غارت من مارية القبطية (6).. إلى غيرهن من أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و يجمع ذلك قول العسقلاني و القسطلاني: (.. و إن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم، لكن كانت تغار من خديجة أكثر..) (7) و قد صرحت هي بذلك أيضاً، فقد روى البخاري وغيره قول عائشة: ما غرت على امرأة للنبي صلی الله علیه و آله و سلم ما غرت على خديجة (8).

و الروايات التي تعرضت إلى غيرتها تشير إلى أن منشأ غيرتها هو الجمال الذي اتصفن به، و لم نجد من الروايات الثابتة ما يشير إلى غيرة أمهات المؤمنين من

ص: 44


1- سنن النسائي: الحديث رقم: 3894.
2- صحيح مسلم: 134، و أسد الغابة 5: 438، و غيرهما.
3- الإصابة 314:4 و غيره.
4- الإصابة 4 :347.
5- الإصابة 4 :265.
6- الإصابة 4 :405.
7- فتح الباري 7: 136، إرشاد الساري 6: 166، تحفة الأحوذي 6 :134.
8- البخاري 1388/3، مسلم 1888/4، المستدرك 3/ 205.

جمال عائشة، فمحاولة التنصيص على كونها أجمل نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و من ذلك سميت بالحميراء محاولة فاشلة، و لا يمكنها الصمود أمام النقد الموضوعى النزيه، و التتبع في الأخبار و نصوص المؤرخين، و لا سيما إذا عرفنا أن الروايات التي أشادت بجمالها روايات منسوبة إليها نفسها، و إلى ابن أختها عروة، و فى هذا ما يغني اللبيب، و البحث في هذا الموضوع بأكثر مما أشرنا إليه خارج عن دائرة الكتاب، فمن شاء أن يعرف الحقيقة فعليه أن يقرأ سير أمهات المؤمنين و أخبارهن و أحوالهن بتدبر و إمعان، و قد استوفى بعض الموضوع العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه (الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم) فراجع (1)، ولكن الله نكتفي تأييداً للمقصود بهذه الرواية.

قال ابن اعثم الكوفي انه دعا علي علیه السلام بعبد الله ابن عباس فقال له: اذهب الى عائشة فقل لها ان ترتحل الى المدينة كما جاءت و لا تقيم بالبصرة، فدخل عليها و تكلم عندها بكلام حتى بكت بكاءً شديداً - إلى ان قال لها إني عباس:.. و بنا سميت أم المؤمنين لا بتيم و عدي، فقالت عائشة: يا بن عباس، اتمنون عليّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ فقال: و لم لا نمن عليك برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و لو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت علينا و على جميع العالمين بذلك!! و بعد فانما أنت إحدى حشايا من حشاياه! الست بأحسنهن وجهاً و لا بأكرمهن حسباً و لا بأرشحهن عرقاً، و أنت الآن تريدين أن تقولى و لا تعصين و تأمري و لا تخالفين، و نحن لحم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و دمه و فينا ميراثه و علمه... الخ (2)

ص: 45


1- 2: 183 - 189
2- كتاب الفتوح، لابن أعثم الكوفي: 337/2، طبع دار الندوة الجديدة، بيروت لبنان، و هو مطبوع على طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الركن الهند الطبعة الاولى بإعانة وزارة المعارف للحكومة الهندية. و ينبغي الإشارة هنا الى الأيدي الأمينة الساهرة أعينها على حفظ التاريخ الاسلامي، فقد تلكأت يد على شيري، ماجستير في التاريخ الاسلامي، محقق إحدى طبعات كتاب الفتوح أعني طبعة دار الأضواء سنة 1411ه، ج 2، ص 486، فصعب عليها أن تثبت كلمات ابن عباس كاملة فبترها بتراً يضحك منه القارئ على المحقق، فقال: (و لم لا نمن عليك يخرجن مع عائشة الى المدينة)، فاقرأ و تعجب.

ص: 46

الفصل الثاني: أم سلمة فى ظل الاسلام

اشارة

ص: 47

ص: 48

إسلامها

بزغ نور الإسلام في مكة المكرمة بعد أن عاشت مكة و الجزيرة العربية في ظلام الجاهلية الدامس سنين متمادية، و حينما بعث نبي الرحمة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلّم بالدين الجديد و أشرق ذلك النور السماوي على أرض الحجاز لم يُفاجئ به الناس علناً ليبشرهم به، خوفاً على رسالة السماء أن توأد و هي في المهد، فاتخذ طريق العمل السري و أخذ يدعو الناس على انفراد، و أول من آمن بدعوته المباركة الإمام علی علیه السلام لو لم يكن كافراً كما نصت عليه أم سلمة في بعض رواياتها الآتية، ثم من بعده السيدة خديجة علیها السلام، و كان ثالثهما جعفر ابن أبي طالب علیه السلام، كما يستفاد من لها جملة من الروايات، و لا ننسى شيخ البطحاء، علیه السلام لا فهو من أوائل من آمن برسالة ابن أخيه النبي صلی الله علیه و آله و سلّم، و كذلك زوجه فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علیه السلام، ثم بدأ المسلمون يزدادون واحداً و اثنين و هكذا..

و ما إن سمعت السيدة أم سلمة بنبوة النبي صلی الله علیه و آله و سلّم حتى أسرعت إليه مبادرة هي و زوجها أبو سلمة فكانت من أوائل من أسلم بالدين الجديد، فلم يسبقها إلا القليلات من النساء، و هن: السيدة خديجة و بناتها و أم الفضل زوج العباس و أم أيمن الحبشية (1)، و تقدم أن أبا سلمة أسلم بعد عشرة أنفس هو و زوجته، و قال بعض المؤرخين أن إسلام أبي سلمة كان قبل دخول النبي صلی الله علیه و آله و سلّم دار الأرقم (2)، و هو لا يتنافى مع ما نقلناه سابقاً فإن الرسول صلی الله علیه و آله و سلّم لم يدخل دار الأرقم إلا بعد أن أصبح

ص: 49


1- نساء أهل البيت لخليل جمعة 1: 223.
2- صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 201.

عدد المسلمين ثلاثين نفراً و صعب تخفيهم.

قال ابن الأثير: (أخبرنا عبيد الله بن أحمد بإسناده عن يونس عن ابن إسحاق قال: و انطلق أبو عبيدة بن الحارث، و أبو سلمة بن عبد الأسد، و الأرقم بن أبي الأرقم، و عثمان بن مظعون، حتى أتوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم فعرض عليهم الإسلام، و قرأ عليهم القرآن، فأسلموا و شهدوا أنه على هدى و نور، قال: ثم أسلم ناس من العرب، منهم سعيد بن زيد، و ذكر جماعة) (1).

حياتها في مكة

لم تكن أم سلمة في مكة المكرمة في ذلك الوقت إلا فتاة كسائر الفتيات اللاتي يعشن مع أزواجهن أو في بيوت آبائهن لا يملكن لأنفسهن نفعاً و لا ضراً، فلذا لم نجد مصدراً يتحدث عن حياتها آنذاك، و هو أمر طبيعي بالنسبة إلى فتاة لم تدخل العشرين من عمرها و في بيئة كمكة المكرمة و ظرف كالجاهلية، فلا أظن أن هذا الأمر يفاجئ مؤرخاً أو باحثاً يريد أن يعرف عن مترجمه كل شيء، فحياة أم سلمة و وضعها قبل الإسلام كسائر الفتيات اللاتي يعشن في ذلك الوضع، غير أنها ابنة زاد الركب و سليلة بني مخزوم فسوف لن تعدم الحياة الهانئة.

و أما حياتها بعد الإسلام فهي مربوطة بالحدث العام الذي أصبح حديث المجالس و المحافل، و هم قريش الأكبر، ألا و هو الدين الذي سنّه أحلام المشركين و أهان آلهتهم، فهي واحدة من أولئك الذين من الله عليهم بالإسلام فدخلوا فيه مطمئنة قلوبهم به، و أصبحوا يتخفون بإسلامهم خوفاً على أنفسهم من العذاب الذي يصبه طغاة المشركين على ضعفاء المسلمين، و حذراً من أن يفتنهم قومهم عنه فيعودوا إلى ملتهم الأولى خاسرين، خصوصاً و أن من أولئك الطغاة

ص: 50


1- أسد الغابة 5: 218.

شخصيات بني مخزوم الذين منهم أم سلمة و زوجها.

فكان هذا هو الوضع العام للمسلمين، و لا سيما لأولئك النفر الذين لم تكن عندهم قبيلة تحميهم من الأشرار، أو جوار يقيهم من الكفار، و يا لسوء الحظ عندما يكون المسلم أحد أولاد حملة الحقد المشرك على النبي صلی الله علیه و آله و سلّم و رسالته، و قد مرّ علينا في ترجمة أبي سلمة استجارته بأبي طالب علیه السلام من إيذاء عشيرته و قومه فأجاره و منعه منهم.

و استمرت هذه الحالة بالمسلمين حتى كثروا و أصبح من الصعب أن يتخفوا بإسلامهم، أو يحافظوا عليه و هم فى رفاهية من العيش، فأمرهم النبى صلی الله علیه و آله و سلّم بالهجرة إلى الحبشة فإن فيها ملكاً من أهل الكتاب لا يظلم عنده أحد.

و قد لخص اليعقوبي مجمل الأحداث بقوله: (.. و لما رأى رسول الله ما فيه أصحابه من الجهد و العذاب، و ما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمه إياه قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار، فخرج في المرة الأولى اثنا عشر رجلا، و في المرة الثانية سبعون رجلا سوى أبنائهم و نسائهم، و هم المهاجرون الأولون فكان لهم عند النجاشي منزلة و كان يرسل إلى جعفر فيسأله عما يريد..) (1).

في طريق الحبشة

هاجر المسلمون إلى الحبشة عن طريق البحر، فقد ذهبوا متخفين عن أعين الشرك، متسللين أرسالاً كما في رواية أم سلمة الآتية حتى بلغوا شاطئ البحر، و من حسن طالعهم وجدوا سفينة أو سفينتين تريد أن تبحر نحو الحبشة فركبوا فيها، و أقلّتهم إلى حيث مقصدهم، فلم تدركهم قريش التي علمت بأنهم فروا بدينهم

ص: 51


1- تاريخ اليعقوبي:2 29.

فأرسلوا عصابة من ورائهم، وهي التي لا زالت تلح على ثنيهم عن الاستضاءة بالنور الجديد و إرجاعهم إلى ظلمة الشرك مرة أخرى، تقول أم سلمة في ضمن رواية مطولة: (لما ضاقت مكة و أوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و فتنوا و رأوا ما يصيبهم من البلاء و الفتنة في دينهم، و أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، و كان رسول الله في منعة من قومه ومن عمّه، لا يصل إليه شيء مما يكره و مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار..) (1).

و كانت الهجرة إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة النبوية (2)، فقد ذكر الطبري في تأريخه: (الهذلي عن الحارث بن الفضيل قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سراً، و كانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب و الماشي، و وفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، و كان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من حين نبأ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و خرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحداً) (3).

و قد جعل عليهم الرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ابن عمه جعفر بن أبي طالب علیه السلام، كما يظهر من أسد الغابة حيث قال: (.. عن سعيد.. قال: بعث رسول صلى الله عليه و آله و سلم جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي) (4).

و يظهر أيضاً من السيرة النبوية لابن كثير فقد روى عن أبي بردة عن أبي موسى قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي (5).

ص: 52


1- السيرة النبوية 2 : 17.
2- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم 2
3- 2: 69.
4- أسد الغابة 1: 44.
5- 2: 11.

و من رسالة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى النجاشي، و نص الرسالة كما في السيرة النبوية: (عن محمد بن اسحق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب و أصحابه، و كتب معه كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، و أشهد أن عيسى الله و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه و نفخته، كما خلق آدم بيده و نفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له و الموالاة على طاعته و أن تتبعني فتؤمن بي و بالذي جاءني، فإني رسول الله و قد بعثت إليك ابن عمي جعفراً و معه نفر من المسلمين، فإذا جاء وك فأقرهم و دع التجبر، فإني أدعوك و جنودك إلى الله عزّ وجل، و قد بلغت و نصحت فاقبلوا نصيحتي، و السلام على من اتبع الهدى) (1).

في الحبشة

أبحرت السفينة تشق العباب حتى استقرت براكبيها في مملكة النجاشي، و استقرت معها نفوس المسلمين في ظل سلطان عادل لا يظلم أحداً، فعاشوا مطمئنين على أنفسهم و دينهم فأخذوا يقومون بواجبهم و عبادتهم خير قيام، لم يقف أمامهم ما يسوؤهم، و لا ما يعكر صفو حياتهم حتى سمعوا بخبر رسولي قريش للتفاهم مع النجاشي في شأن المهاجرين المسلمين، و صعب ذلك الخبر على المسلمين لما عرفوا من نية قريش و خبث من جاء للأمر، و قد استوفت السيدة أم سلمة رضی الله القضية من أولها حتى آخرها فلنصغ لما تحدث به عن مقامهم في الحبشة و ما حصل لهم، تقول السيدة أم سلمة برواية السيرة النبوية

ص: 53


1- 42:2.

لابن هشام، عن أم سلمة رضى الله عنها أنها قالت - بعد المقطع الذي نقلناه سابقاً -:

فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا و لم نخش فيها ظلماً، فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً و أمناً غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده و ليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص، و عبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا و البطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيأوا له هدية على حدة، و قالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا، فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته فكلموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم و لم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل فقالوا: نفعل، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، و كان من أحب ما يهدون إليه من مكة الأدم، و ذكر موسى بن عقبة: أنهم أهدوا إليه فرساً وجبة ديباج.

فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك! إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينك، و جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، و قد لجأوا إلى بلادك، و قد بعثنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم و أعمامهم و قومهم لتردهم عليهم فإنهم أعلى بهم عيناً، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.

فغضب ثم قال: لا، لعمر الله! لا أردهم حتى أدعوهم فأكلمهم و أنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي، و اختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، و إن كانوا على غير ذلك منعتهم و لم أدخل بينهم و بينهم و لم أنعم عيناً.

و ذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم فقال: لا و الله حتى

ص: 54

أسمع كلامهم و أعلم على أي شيء هم عليه.

فلما دخلوا عليه سلموا و لم يسجدوا له فقال: أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم! فأخبروني ماذا تقولون في عيسى و ما دينكم؟ أنصارى أنتم؟

قالوا: لا.

قال: أفيهود أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فعلی دین قومكم قالوا: لا.

قال: فما دينكم قالوا: الإسلام.

قال: و ما الإسلام قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئا.

قال: من جاءكم بهذا؟

قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر و الصدقة و الوفاء و أداء الأمانة، و نهانا أن نعبد الأوثان و أمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدقناه و عرفنا كلام الله، و علمنا أن الذي جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا و عادوا النبي الصادق و كذبوه و أرادوا قتله و أرادونا على عبادة الأوثان ففررنا إليك بديننا و دمائنا من قومنا.

قال: و الله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى.

قال جعفر: و أما التحية: فإن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام و أمرنا بذلك، فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضا.

و أما عيسى بن مريم فعبد الله و رسوله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه و ابن العذراء البتول.

فأخذ عوداً و قال: و الله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.

ص: 55

فقال عظماء الحبشة: و الله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.

فقال: و الله لا أقول في عيسى غير هذا أبداً، و ما أطاع الله الناس في حين رد علي ملكي فأطيع الناس في دين الله، معاذ الله من ذلك.

و قال يونس عن ابن اسحق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم و لم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص و عبدالله بن ربيعة من أن يسمع كلامهم.

فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون فقالوا: و ماذا نقول! نقول و الله ما نعرف و ما نحن عليه من أمر ديننا و ما جاء به نبينا صلى الله عليه و آله و سلم كائن من ذلك ما كان.

فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دین قومكم و لم تدخلوا في يهودية و لا نصرانية.

فقال له جعفر: أيها الملك كنا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان، و نأكل الميتة، و نسىء الجوار، يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء و غيرها، لا نحل شيئا و لا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف وفاءه و صدقه و أمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، و نصل الأرحام، و نحمي الجوار، و نصلي لله عز وجل، و نصوم له، و لا نعبد غيره.

و قال زياد عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده و نعبده و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الأرحام، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش، و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنة، و أمرنا أن نعبد الله و لا نشرك به شيئاً، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام.

قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه و آمنا به، و اتبعناه على ما جاء به من عند

ص: 56

الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، و لم نشرك به شيئاً، و حرمنا ما حرم علينا، و أحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا، و يردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، و أن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا و ظلمونا و ضيقوا علينا و حالوا بيننا و بين ديننا خرجنا إلى بلادك و اخترناك على من سواك و رغبنا في جوارك و رجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال النجاشي: هل معك شيء مما جاء به؟

فقرأ عليه صدراً من (كهيعص)، فبكى و الله النجاشي حتى اخضلت لحيته، و بكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.

ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين، لا و الله لا أردهم عليكم و لا أنعمكم عيناً.

فخرجنا من عنده و كان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن ربيعة، فقال عمرو بن العاص: و الله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم، و لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد!

فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل فإنهم و إن كانوا خالفونا فإن لهم رحماً و لهم حقاً.

فقال: و الله لأفعلن.

فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عنه.

فبعث و الله إليهم و لم ينزل بنا مثلها.

فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه؟ فقالوا: نقول

و الله الذي قاله الله فيه، و الذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه.

فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

ص: 57

فقال له جعفر: نقول هو عبد الله و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مما قلت هذا العويد، فتناخرت بطارقته، فقال: و إن تناخرتم و الله! اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض - الشيوم: الآمنون في الارض - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم، غرم، ثلاثا، ما أحب أن لي دبراً و أني اذيت رجلاً منكم و الدبر بلسانهم: الذهب.

و قال زياد عن ابن إسحاق: ما أحب أن لي دبراً من ذهب.

قال ابن هشام: و يقال زيراً، و هو الجبل بلغتهم.

ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، و لا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها، و أخرجا من بلادي، فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.

قالت: فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمتنا حزنا حزناً قط هو أشد منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله و نستنصره للنجاشي فخرج إليه سائراً، فقال أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقيعة حتى ينظر على من تكون؟

فقال الزبير و كان من أحدثهم سنا: أنا.

فنفخوا له قربة فجعلها في صدره فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقعة.

فهزم الله ذلك الملك وقتله و ظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير فجعل يليح لنا بردائه و يقول: ألا فأبشروا فقد أظهر الله النجاشي.

ص: 58

قالت فوالله ما علمتنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده

حتى خرج من خرج منا إلى مكة و أقام من أقام (1)

و ذكر ابن هشام في محل آخر ما يصلح تكملة لما سبق من قصة خروج الرجل الحبشي على النجاشي، قال: قال ابن إسحاق: و حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا و خرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر و أصحابه فهياً لهم سفناً و قال: اركبوا فيها و كونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، و إن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه، هو يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله، و يشهد أن عيسى بن مريم عبده و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن و خرج إلى الحبشة و صفوا فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا و زعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله. فقال النجاشي و وضع يده (على صدره) على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئاً، و إنما يعني ماكتب فرضوا و انصرفوا (عنه)، فبلغ ذلك النبي الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلما مات النجاشي صلى عليه و استغفر له (2)

و من الحوادث التي ينبغي أن يشار إليها و قد حصلت و المسلمون في الحبشة، ما أرسله أبو طالب علیه السلام إلى النجاشي من الشعر في شأن المهاجرين، و ذلك عندما علم بإرسال الرسولين من قريش من أجل إخراج المسلمين المهاجرين من جوار النجاشي، و إرجاعهم إلى مكة للعذاب و التصفية، فقد أرسل إليه يحثه على عدم السماع لقريش و أن يبقى محافظاً على جواره للمسلمين، و إن هذا الموقف منه علیه السلام

ص: 59


1- 2: 17، و أورد هذه الرواية بطولها مع اختلاف يسير أحمد بن حنبل في مسنده برقم 164.
2- 228:1.

كسائر مواقفه الجهادية التي وقفها أمام كبرياء قريش و تبخترها و تجبرها من أجل إعلاء كلمة الحق، قال ابن هشام في سيرته:

(قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد آمنوا و اطمأنوا بأرض الحبشة، و أنهم قد أصابوا بها داراً و قراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم، و يخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها و أمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص بن وائل، و جمعوا لهما هدايا للنجاشي و لبطارقته، ثم بعثوها إليه فيهم، فقال أبو طالب - حين رأى ذلك من رأيهم و ما بعثوهما فيه - أبياتا للنجاشي، يحضه على حسن جوارهم و الدفع عنهم:

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر و عمرو و أعداء العدو الأقارب

و هل نالت افعال النجاشي جعفراً و أصحابه أو عاق ذلك شاغبُ (1)

تعلم أبيت اللعن أنك ماجد كريم فلا يشقى لديك المجانب

تعلم بأن الله زادك بسطة و أسباب خير كلها بك لازبُ

و أنك فيض ذو سجال غزيرة (2) ينال الأعادي نفعها و الأقارب (3)

و مما يحسن الإشارة إليه أيضاً ما قاله بعض المهاجرين من الشعر و هم إذ ذاك

في الحبشة، و يحكي عن مدى ارتياحهم و اطمئنانهم على دينهم و قتئذ، فمنهم: عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي فقد قال ابن الأثير: روى يونس بن بكير عن ابن اسحاق قال: و كان مما قيل من الشعر في الحبشة: إن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي لما أمنوا بأرض الحبشة و حمدوا جوار النجاشي و عبدوا الله لا

ص: 60


1- الشَغْب: تهییج الشر و الفتنة و الخصام، عن لسان العرب.
2- سيرة ابن هشام 1: 221.
3- السَّجِّل: الدلو الضخمة المملؤة ماء، والجمع سجال وسجول، عن لسان العرب.

يخافون على دينهم أحدا فقال أبياتا منها:

یا راكبا بلّغن عنى مغلغلة (1) من كان يرجو بلاغ الله و الدين

كل امرئ من عباد الله مضطهد ببطن مكة مقهور و مفتون

إنا وجدنا بلاد الله واسعة (2)

فلا تقيموا على ذل الحياة و لا خزي الممات و عيب غير مأمون

إنا تبعنا رسول الله و اطرحوا قول النبي و عاثوا في الموازين (3)

و قال عبد الله بن الحارث أيضا يذكر نفي قريش إياهم من بلادهم، و يعاتب بعض قومه في ذلك:

أبت كبدي لا أكذبنك قتالهم علي و تأباه علي أناملي

و كيف قتالي معشراً أدبوكم على الحق أن لا تأشبوه بباطل

نفتهم عباد الجن من حر أرضهم فأضحوا على أمر شديد البلابل

فإن تك كانت في عدي أمانة عدي بن سعد عن تقى أو تواصل

فقد كنت أرجو أن ذلك فيكم بحمد الذي لا يطّبي (4)بالجعائل

و بدلت شبلاً شبل كل خبيثة بذي فجر مأوى الضعاف الأرامل (5)

و قال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح و هو ابن عمه و كان يؤذيه في إسلامه:

أتيم بن عمرو للذي جاء بغضة و من دونه الشرمان و البرك أكتع (6)

أ أخرجتني من بطن مكة آمناً و أسكنتني في صرح بيضاء نقدعُ

ص: 61


1- رسالة مغلغلة: أي محمولة من بلد إلى بلد. عن العين.
2- تنجى من الذل و المخزاة و الهون
3- أسد الغابة: 139:3 و سيرة ابن هشام 1: 223.
4- رجل طباة أي أحمق ذو شر، و يقال: فلان يطبى بالنشر أي يفعله بهم. عن العين.
5- سيرة ابن هشام 1: 223.
6- أكتع: أجمع.

تریش (1)نبالاً لا يواتيك ريشها و تبري نبالاً ريشها لك أجمعُ

و حاربت أقواماً كراماً أعزة و أهلكت أقواماً بهم كنت تفزع

ستعلم إن نابتك يوماً ملمة و أسلمك الأوباش (2) ما كنت تصنع (3)

في مكة المكرمة ثانياً

يروي المؤرخون أن هناك أنباء قد تسربت إلى مسامع من كان من المسلمين في الحبشة بأن قريشاً دخلت في الإسلام، و أنهم سجدوا مع سجود الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم حينما قرأ سورة النجم، و كانت فرحتهم لا تقف عند حد، فإن قريشاً هي حجر العثرة الكبير أمام الدعوة الإسلامية من جهة، و أمام هؤلاء الضعفاء المستضعفين من جهة أخرى، بحيث اضطرهم جبروتها للهجرة عن موطنهم الأصلي، و النزوح عن محل إقامتهم الأول، إلى بلاد تبعد عنهم مسافة ولغة و لوناً وديناً، فما أن بلغهم الخبر - و كان ذلك بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من هجرتهم - حتى تهيأ بعضهم للرجوع فعاد قسم منهم إلى مكة المكرمة وبقي آخرون، فلم يجد الراجعون مما سمعوا شيئاً يذكر، بل كان الأمر أشد على المسلمين مما سبق مما اضطر بعضهم للعودة ثانية إلى محل هجرتهم و مأمنهم.

هكذا قالت بعض الروايات التأريخية و سوف ننقل بعضها، و لكن العلامة السيد جعفر مرتضى ذهب إلى رأي آخر في سبب عودة من عاد من المهاجرين، و هو تسرب أخبار هدنة بين النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم و قريش، و أما ما يذكر من أمر السجود فهو مربوط بقضية الغرانيق، و هي قصة مفتعلة جاء بها أعداء الإسلام و نقلها بعض المؤرخين والمفسرين عن وعي أو غير وعي و هي ممتنعة الحصول فإنها تسىء إلى قداسة النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم و عدم عصمته حتى في التبليغ الذي أجمع المسلمون قاطبة

ص: 62


1- راش السهم رَيْشاً و ارتاشه: ركّب عليه الرّيش. لسان العرب.
2- الأوباش: الاخلاط من الناس.
3- المصدر السابق.

على القول بها حينه (1).

و هذا الرأي هو الأصح لما ذكره السيد الجليل من جهة، و لبعد أن يقتنع المسلمون بخبر مثل هذا و حصوله في مدة يسيرة من مثل قريش المتكبرة، فإن سجود قريش مع النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم يعني اقتناعهم بما أتى به من عند ربه و إيمانهم بنبوته كما صرحت بعض الأخبار بذلك، و صدور مثل هذا الأمر من قريش العاتية في هذه المدة اليسيرة أمر يكذبه الخيال فضلاً عن الحقيقة، فإن أسباب تكذيب النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم متعددة و مختلفة، فبعضها يرجع إلى الحسد و الحقد الداخلي لبني هاشم عامة و للنبي صلّی الله علیه و آله و سلّم خاصة كما هو الحال في أبي سفيان على سبيل المثال، و هذا السبب لا يمكن أن يزول إما إلى الأبد و إما في هذه المدة اليسيرة.

و من الأسباب أيضاً الخوف على المنصب و الزعامة كما هو حال أبي جهل و هذا السبب أيضاً لا يمكن أن يزول من نفس نشأت على حب العرش و الكرسي و تخشى عليه من هبوب النسيم كيف بالريح العاصف، لا سيما في مدة قصيرة مثل هذه المدة.

إلى غير ذلك من الأسباب التي يصعب زوالها في هذه المدة، لا سيما و أن الأمر قد حصل بعد فشل قريش في محاولتها استرجاع المسلمين المهاجرين، و رجوع رسولي قريش من الحبشة خائبين مما جرح كبرياء قريش جرحاً عميقاً، فالمدة جد قليلة من جهة، و الجرح لما يندمل و من الصعب التئامه من جهة أخرى، و ليس تحقيق مثل هذا الأمر من هموم هذا الكتاب.

و ما يهمنا البحث عنه في هذه المرحلة من تأريخ أم سلمة أنها كانت من بين العائدين إلى مكة المكرمة مع زوجها أبي سلمة، و لم يذكر التأريخ لنا خبراً عن رجوعهما ثانية إلى الحبشة إلا الخبر العام القائل: بهجرة بعض العائدين مرة ثانية،

ص: 63


1- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّی الله علیه و آله و سلّم 2: 64.

و ما ذكره الحاكم في التعريف بزوجها الأول: (و هاجر بها إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعاً..) (1)، و ما ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة: (.. و هاجر الحبشة الهجرتين و معه امرأته أم سلمة) (2).

و يمكن أن يستظهر من تحديد زمن هجرة أبي سلمة إلى المدينة أنه لم يعد إلى الحبشة، و بقي في مكة محتمياً بجوار خاله أبي طالب علیه السلام، و قد قدمنا الرواية التي الله نصت على ذلك الجوار، و سوف نتعرض فيما بعد إلى زمن هجرته إلى المدينة، و يؤيد هذا قول أم سلمة في الرواية المتقدمة برواية الإمام أحمد: (فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم و هو بمكة)، ولكنه يبقى مجرد احتمال، كما يحتمل في المقابل أنهما رجعا إلى الحبشة مرة أخرى ولكنهما رجعا إلى مكة قبل أن يهاجر النبى صلّی الله علیه و آله و سلّم إلى المدينة على عكس من رجع من الحبشة بعد هجرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم إلى المدينة، و لعل تنصيص أم سلمة في العبارة المتقدمة (و هو بمكة) يؤيد الاحتمال الأخير إذ من غير المحتمل أن يتوهم أحد رجوعهم من الحبشة في المرة الأولى و الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليس في مكة حتى تنص عليه، و المدة كانت في حدها الأقصى ثلاثة أشهر.

و لنذكر بعض روايات الباب ليتم توثيق ما ذكرناه:

1- و هاجر - يعني أبا سلمة - إلى أرض الحبشة معه امرأته أم سلمة ثم عاد و هاجر إلى المدينة (3)

2- و كانت هي و زوجها أول من هاجر إلى الحبشة، و يقال أيضا: إن أم سلمة أول ظعينة هاجرت إلى المدينة، و قيل: بل ليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة (4).

3- ورد في سيرة ابن هشام:(ذكر من عاد من أرض الحبشة لما بلغهم إسلام

ص: 64


1- المستدرك 4: 19.
2- صفة الصفوة المجلد 1: 201.
3- أسد الغابة 5: 218.
4- أسد الغابة 5: 0560

أهل مكة، قال ابن إسحاق: و بلغ أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً. فكان ممن قدم عليه مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد معه بدرا (و أحدا) و من حبس فاته بدر و غيره و من مات بمكة.

فعدد مجموعة من الصحابة إلى أن قال: و من بني مخزوم بن يقظة: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة).

ثم قال: (فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة و ثلاثون رجلاً، فكان من دخل منهم بجوار فيمن سمي لنا: عثمان بن مظعون بن حبيب الجمحي، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، و أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم دخل بجوار من أبي طالب بن عبدالمطلب و كان خاله) (1)

4- قال في عيون الأثر: (و كانت الهجرة إلى أرض الحبشة مرتين، فكان عدد المهاجرين في المرة الأولى اثني عشر رجلا و أربع نسوة، ثم رجعوا عندما بلغهم عن المشركين سجودهم مع رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم عند قراءة سورة (و النجم) - و سيأتى ذكر ذلك - فلقوا من المشركين أشد مما عهدوا، فهاجروا ثانية، و كانوا ثلاثة و ثمانين رجلاً إن كان فيهم عمار، ففيه خلاف بين أهل النقل، و ثماني عشرة امرأة، إحدى عشرة قرشيات و سبعاً غرباء) (2)

5- و كان سبب رجوع الأولين الإثني عشر رجلاً و من ذكر معهم من النساء فيما

ص: 65


1- سيرة ابن هشام 1 245 - 247.
2- 151:1.

روي أن رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم قرأ يوما على المشركين (و النجم إذا هوى ) (1) حتى بلغ (أفرأيتم اللات و العزى * و مناة الثالثة الأخرى) (2) ألقى الشيطان كلمتين على لسانه (تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترجى) فتكلم رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد و سجد القوم جميعاً و رفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، و كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود..

إلى أن قال: قالوا: ففشت تلك السجدة في الناس حتى بلغت أرض الحبشة، فقال القوم: عشائرنا أحب إلينا فخرجوا راجعين، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركباناً من كنانة فسألوهم عن قريش، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخیر فتابعه الملأ، ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم و عادوا له بالشر فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم في الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا مكة فندخل فننظر ما فيه قريش و يحدث عهداً من أراد بأهله ثم يرجع، فدخلوا مكة و لم يدخل أحد فيهم إلا بجوار إلا ابن مسعود فانه مكث يسيراً ثم رجع إلى أرض الحبشة.

قال الواقدي: و كانوا خرجوا في رجب سنة خمس فأقاموا شعبان و شهر رمضان، و كانت السجدة في شهر رمضان، فقدموا في شوال سنة خمس.

قال السهيلي: ذكر هذا الخبر يعني خبر هذه السجدة موسى بن عقبة، و ابن إسحاق من غير طريق البكائي، و أهل الأصول يدفعون هذا الحديث بالحجة..) (3).

ذكرنا هذه الرواية تبعاً للقوم و هي لا تزن شيئاً في ميزان الصحة، لمخالفتها العصمة الرسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم المجمع عليها بين المسلمين في حال التبليغ، و إنما هي من دسائس الدخلاء على الإسلام.

ص: 66


1- سورة النجم: 1.
2- سورة النجم: 19، 20.
3- عيون الأثر 156:1.

الهجرة إلى المدينة

بدأ نور الإسلام يشق الظلام و ينتشر في القلوب رويداً رويداً حتى وصلت أنواره إلى أفراد في يثرب، و أصرت قريش على أن تطفئه، فأخذت تعذب المسلمين الضعفاء تعذيباً و حشياً لا نظير له إلا عند الذئاب حين تهاجم فريسة لها، و اشتد الأمر بصورة مروعة عندما انتقل أبو طالب علیه السلام إلى جوار ربه ففقد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بفقده الحصن المنيع الذي كان يمنعه من سفهاء المشركين، عندها حان الوقت لأن يعلن الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم إلى أتباعه بأن يهاجروا إلى المدينة المنورة فإن لهم هناك إخواناً مؤمنين، و أول من بادر إلى الهجرة فيما يروي الراوون هو أبو سلمة و زوجه غير أن المشركين حبسوها عنه، قال ابن هشام في سيرته:

فأمر رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم أصحابه من المهاجرين من قومه، و من معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة و الهجرة إليها و اللحوق بإخوانهم من الأنصار، و قال: إن الله عزوجل قد جعل لكم إخواناً و داراً تأمنون بها، فخرجوا أرسالاً، و أقام رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة و الهجرة إلى المدينة.

ثم ذكر المهاجرين إلى المدينة فقال: فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم لهم من المهاجرين، من قريش من بني مخزوم: أبو سلمة بن من عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، و اسمه عبد الله، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، كان قدم على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مكة من أرض الحبشة فلما آذته قريش و بلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا (1).

و في عيون الأثر: قال ابن إسحاق: فلما تمت بيعة هؤلاء الرسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم في ليلة

ص: 67


1- سيرة ابن هشام 2 :321.

العقبة، و كانت سراً عن كفار قومهم و كفار قريش، أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من كان معه بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، أولهم فيما قيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و حبست عنه امرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بمكة نحو سنة، ثم أذن لها بنو المغيرة الذين حبسوها في اللحاق بزوجها.. (1).

و قال ابن كثير: فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم من المهاجرين من قريش من بني مخزوم أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، و كانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعه من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخواناً فعزم إليها (2).

و اختلف المؤرخون في تحديد وقت هجرته فقد ذكر ابن هشام فيما نقلنا عنه أنها قبل بيعة العقبة بسنة، و هو إن كان يقصد البيعة الثانية فقد وقعت في السنة الثالثة عشرة من بعثة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، و هذا يعني أنه هاجر في السنة الثانية عشرة من البعثة، و إن كان يقصد البيعة الأولى فقد وقعت في السنة الثانية عشرة و هذا يعني أن هجرته كانت في السنة الحادية عشرة.

و ذهب ابن خلدون كما نقلنا عنه في وقت سابق أن هجرته كانت بعد بيعة العقبة: (فلما تمت بيعة الأنصار - و يعني الثانية - ... أمر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه ممن هو بمكة بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالاً، و أول من خرج أبو سلمة و نزل في قبا) (3)

و الأول هو الأقرب لأن بيعة العقبة الثانية وقعت قبل هجرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بثلاثة أشهر كما يقولون و هذا لا يتناسب مع قولهم بأن أبا سلمة أول من هاجر إلى

ص: 68


1- 227:1.
2- السيرة النبوية 2: 215.
3- تاریخ ابن خلدون 14:3.

المدينة و زوجه أول ظعينة تدخلها بينما لم تذهب هي إلا بعد سنة من هجرته.

بل يمكن القول بأن هجرته كانت قبل البيعة الأولى بسنة لأن هجرته بعد البيعة الأولى لا يتناسب مع كونه أول مهاجر من المسلمين بينما الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قد أرسل مع من بايع البيعة الأولى مصعب بن عمير لتعليمهم، فأكبر الظن أنه هاجر قبل تلك البيعة لأن هناك من أهل المدينة من أسلم في السنة الحادية عشرة من البعثة و لما رجعوا إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و دعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار، إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (1)، و هذا هو المناسب للرواية السابقة: (فلما آذته قريش و بلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجراً).

في الطريق إلى المدينة

جاء في أسد الغابة و غيره بسنده إلى سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة عن جدته أم سلمة قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل بعيراً له، و حملني و حمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، و نزعوا خطام البعير من يده و أخذوني، وغضبت عند ذلك بنو عبد الأسد و أهووا إلى سلمة و قالوا: و الله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، و انطلق به عبد الأسد رهط أبي سلمة، و حبسني بنوا المغيرة عندهم.

و انطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، ففرق بيني و بين زوجي و بين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي

ص: 69


1- راجع الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم 2: 199.

سنة (1) أو قريبها، حتى مربي رجل من بني عمي من بني المغيرة، فرأى ما بي ابي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة! فرقتم بينها و بين زوجها و بين ابنها؟ فقالوا لي: ألحقي بزوجك إن شئت، ورد علي بنو عبد الأسد عند ذلك ابني، فرحلت بعيري و وضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، و ما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال: أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا و الله إلا الله و ابني هذا، فقال: و الله ما لك من منزل (2)، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني.

فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه كان أكرم منه، إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني و قال: اركبي، فإذا ركبت و استويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ننزل، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، و كان أبو سلمة نازلا بها، فدخلتها على بركة الله تعالى، ثم انصرف راجعاً إلى مكة، و كانت تقول: ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة، و ما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة، و قيل: إنها أول ظعينة هاجرت إلى المدينة و الله أعلم (3).

و قال ابن أبي الناس في عيون الأثر: قال أبو عمر: و هي أول ظعينة دخلت من المهاجرات المدينة، و قال موسى بن عقبة و أول امرأة دخلت المدينة أم سلمة، ثم

ص: 70


1- في الإصابة: (سبعاً).
2- في الإصابة (مترك).
3- سيرة ابن هشام2: 321، و أسد الغابة 5: 588، و الإصابة 4: 458.

عبد الله بن جحش بن رئاب بأهله و أخيه (1).

في المدينة المدينة المنورة

تتوزع حياة أم المؤمنين أم سلمة في المدينة المنورة على مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: مع زوجها الأول.

المرحلة الثانية: في بيت الرسول صلّى الله عليه و آله.

المرحلة الثالثة: بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه و آله إلى وفاتها.

أما المرحلة الأولى: من حياتها في المدينة فلا نجد فيها شيئاً يذكر، و هو أمر طبيعي من امرأة مسلمة تعيش مع زوجها فلا يحتاج إلى تعليل.

المرحلة الثانية: و هي مرحلة انتقالية في حياة أم سلمة حيث دخلت في هذا الوقت بيت الرسول صلّى الله عليه و آله فدخلت التأريخ من أوسع أبوابه و أصبحت خالدة في الخالدين، إذ أصبحت زوجة أعظم شخصية في تاريخ بني آدم، النبي الأعظم محمد صلّى الله عليه و آله قائد المسيرة الإنسانية نحو شاطئ الأمان، و لزوجات النبي صلّى الله عليه و آله ميزة خاصة تميزهن عن سائر النساء باستثناء من طهرها الله من الرجس أعني فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه و آله و من كان على منوالها كابنتها السيدة زينب علیها السلام، و لم تكن أيضاً تلك الميزة مطلقة بل مشروطة بشرط، فقد قال تعالى في كتابه العزيز: (يَٰا نِسَآءَ ٱلنَّبِیِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ۚ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّ) (2)، و قد اتقت أم سلمة فى الأول و الأخير، و لم تحص عليها زلة في حياتها، و لم تعثر في طريقها، لا في حياة الرسول صلّى الله عليه و آله و لا بعد مماته، فهي المرأة المخلصة المؤمنة التقية النقية.

زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله

نترك الحديث لأم سلمة و هي تقص علينا قصة زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله، بعد أن

ص: 71


1- 1: 227.
2- الأحزاب: 32.

اخترم المنون حياة زوجها الأول أبي سلمة، و قد اختلفت الروايات في ذلك، و لعل أجمع الروايات رواية الإمام أحمد في مسنده و هي:

حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت قال حدثني ابن عمر بن أبي سلمة بمنى عن أبيه، أن أم سلمة قالت: قال أبو سلمة: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: (إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰاجِعُونَ)، عندك احتسبت مصيبتي، و أجرني فيها، و أبدلني ما هو خير منها، فلما احتضر أبو سلمة قال: اللهم اخلفني في أهلي بخير، فلما قبض قلت: (إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰاجِعُونَ)، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها، قالت: و أردت أن أقول: و أبدلني خيراً منها، فقلت: و من خير من أبي سلمة؟ فما زلت حتى قلتها.

فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه و آله، فقالت: مرحباً برسول الله صلّى الله عليه و آله و برسوله، أخبر رسول الله صلى الله عليه و آله أنى امرأة غيرى، و أني مصبية، و أنه ليس أحد من أوليائي شاهداً.

فبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه و آله أما قولك: إني مصبية، فإن الله سيكفيك صبيانك، و أما قولك: إنى غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، و أما الأولياء فليس أحد منهم شاهد و لا غائب إلا سيرضاني.

قلت: يا عمر قم فزوج رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: أما إني لا أنقصك شيئاً مما أعطيت أختك فلانة، رحيين و جرتين و وسادة من أدم حشوها ليف.

قال: و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله حيياً كريماً يستحيي فرجع، ففعل ذلك مراراً ففطن عمار بن ياسر لما تصنع، فأقبل ذات يوم وجاء عمار - و كان أخاها لأمها (1) _فدخل عليها فانتشطها من حجرها، و قال دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها

ص: 72


1- بيّنا عدم صحة ذلك، ولكن يحتمل أنه أخوها من الرضاعة.

رسول الله صلّى الله عليه و آله، قال : و جاء رسول الله صلّى الله عليه و آله، فدخل، فجعل يقلب بصره في البيت و يقول: أين زناب؟ ما فعلت زناب؟ قالت: جاء عمار فذهب بها، قال فبنى بأهله، ثم قال: إن شئت أن أسبع لك سبعت للنساء (1).

و هذه الرواية تنص على أن الذي زوجها بالرسول صلّى الله عليه و آله هو ابنها (عمر)، بينما هناك من الروايات ما يدل على أن الذي زوجها هو ابنها سلمة و هو الأكبر، و قدمنا الكلام حول ذلك، و ليس في تحقيق هذا الأمر فائدة كبيرة نرجوها في الكتاب.

و في أعذارها الثلاثة عن قبول الزواج ما يدل على كمال عقلها و قوة إيمانها، فإن غيرتها قد تشط بها فيصدر منها ما يسيء إلى الرسول صلّى الله عليه و آله فيحبط عملها، و قد صرحت بهذا السبب في الرواية الآتية، و هو أمر لا تريد صدوره منها، وكونها مصبية أمر ربما يمنعها من القيام بواجبها تجاه الرسول صلى الله عليه و آله، و سوف نتعرض إلى ذلك في محل لاحق إن شاء الله.

و قد ذكرت طريقة أخرى لخطبة الرسول صلّى الله عليه و آله لها و هي ما رواها الهيثمي حيث قال: و عن أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه و آله أنه أتاها فلف رداءه، و وضعه على أسكفة (2) الباب و اتكأ عليه و قال: هل لك يا أم سلمة؟ قالت: إني امرأة شديدة الغيرة، و أخاف أن يبدو إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله مني ما يكره، فانصرف ثم عاد، فقال: هل لك يا أم سلمة؟ إن كان بك الزيادة في صداقك زدنا، فعادت لقولها، فقالت أم عبد: يا أم سلمة تدرين ما يتحدث به نساء قريش، يقلن: إن أم سلمة إنما ردت محمداً لأنها شابة من قريش أحدث منه سناً وأكثر منه مالاً، قال: فأتت رسول الله صلّى الله عليه و آله فتزوجها (3).

ثم بقي بعد البناء بها ثلاثة أيام كما تشير إليه روايات متعددة منها: ما رواه ابن ماجة في سننه عن أم سلمة: أن رسول الله صلّى الله عليه و آله لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا

ص: 73


1- مسند الإمام أحمد بن حنبل: الحديث رقم 25448، المستدرك للحاكم 4: 18.
2- أسكفة الباب بالضم: عتبته العليا و قد تستعمل في السفلى. عن مجمع البحرين.
3- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9 :245.

و قال ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك و إن سبعت لك سبعت لنسائی (1)

مهرها

هناك من الروايات ما يشير إلى أن مهر نساء النبي صلّى الله عليه و آله موحد، فلم يختلفن في ذلك، و من جملة تلك الروايات ما ورد في سنن النسائي و غيره: ثم أن رسول الله تزوجها - أم حبيبة - و هي بأرض الحبشة زوجها إياه النجاشي، و أمهرها أربعة الآف، و جهزها من عنده، و بعث بها مع شرحبيل بن حسنة، و لم يبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه و آله بشيء، و كان مهر نسائه أربعمائة درهم (2).

و هناك رواية تشير إلى أن مهر أم سلمة أربعمائة دينار و قد سلمها النجاشي ملك الحبشة، و هي ما ورد في البحار حيث قال:

و السابعة: أم سلمة وهي بنت عمته عاتكة بنت عبد المطلب، و قيل: هي عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بني فراس بن غنم، و أسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، و هي ابنة عم أبي جهل، و روي أن رسول الله صلّى الله عليه و آله أرسل إلى أم سلمة أن مري ابنك أن يزوجك، فزوجها ابنها سلمة بن أبي سلمة من رسول الله له و هو غلام لم يبلغ، و أدى عنه النجاشي صداقها أربعمائة دينار عند العقد (3).

و أما ابن هشام فقد روى ما نصه: (.. و أصدقها رسول الله صلّى الله عليه و آله فراشاً حشوه ليف، و قدحاً) (4)

و روى الطبراني في معجمه: عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه و آله تزوج أم سلمه

ص: 74


1- سنن ابن ماجة، رقم الحدیث: 1907.
2- المنتقى لابن الجارود 179/1، سنن النسائي 119/6.
3- البحار 22 :203.
4- السيرة النبوية 4: 302.

على متاع قيمته عشرة دراهم (1)

و في المنتخب من كتاب أزواج النبي صلّى الله عليه و آله: فخطبها إلى ابنها فقال ما تسوق إليها من الصداق فقال كما أصدقت عائشة صحفة كثيفة و قدحا كثيفا و فراشا (2).

و تقدمت الرواية القائلة: أما إني لا أنقصك شيئاً مما أعطيت أختك فلانة، رحيين و جرتين و وسادة من أدم حشوها ليف.

وقت الزواج

اختلف المؤرخون في وقت زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله اختلافاً كبيراً، كما اختلفوا في سنة وفاة زوجها الأول، و قد قدمنا أقرب الاحتمالات في سنة وفاته، و سوف في وقت الزواج مع ذكر الاحتمال الراجح من بين نعرض لاختلافهم الاحتمالات:

القول الأول: ما ورد في تاريخ الطبري و غيره: قال الحارث و حدثني محمد بن سهيل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال تزوج رسول الله صلى الله عليه و آله بالمدينة قبل وقعة بدر في سنة الثانية من التاريخ أم سلمة (3)

القول الثاني: قول ابن كثير وغيره: ودخل بها في شوال سنة اثنتين بعد وقعة بدر (4) ..

القول الثالث: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه و آله قبل الأحزاب سنة ثلاث (5).

القول الرابع: قول ابن حجر: تزوجها النبي صلّى الله عليه و آله سنة أربع على الصحيح، و يقال: سنة ثلاث فإن أبا سلمة شهد أحداً.. وحلّت أم سلمة في شوال سنة أربع، و قد نص

ص: 75


1- المعجم الكبير للطبراني :23 247، مسند أبي يعلى 115/6.
2- 42/2.
3- تاريخ الطبري 10 96، مستدرك الحاكم 20:4.
4- البداية والنهاية 234:8، تهذيب الكمال 35: 317.
5- تاريخ الطبري 2 :414.

على ذلك خليفة بن خياط و الواقدي.. (1).

القول الخامس: ما في الإصابة: فتزوجها النبي صلّى الله عليه و آله في جمادى الآخرة سنة أربع، و قيل سنة ثلاث (2).

و الرأي الذي نقربه هو القول الأول، و ذلك لما قدمناه في ترجمة زوجها الأول، من أن روايات زواج الإمام علي علیه السلام بالسيدة فاطمة علیها السلام تدل على أن أم سلمة كانت زوجة للنبي صلّى الله عليه و آله حينذاك، و قد تم الزواج في بيتها، و قد تزوج الإمام علي علیه السلام في شهر رمضان من السنة الثانية و بنى بالسيدة فاطمة علیها السلام في ذي الحجة من نفسها على الرأي المشهور، فلابد و أن يكون زواج النبي صلّى الله عليه و آله بأم سلمة سابقاً على ذلك (3).

و من جملة تلك الروايات ما رواه ابن ماجة في سننه: حدثنا سويد بن سعيد حدثنا المفضل بن عبد الله عن جابر، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، و أم سلمة، قالتا: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه و آله أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على على، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفقتين ليفاً فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمراً و زبيباً، و سقينا ماء عذباً، و عمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب، و يعلق عليه السقاء، فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة (4).

و منها ما ورد في تفسير فرات الكوفي قال - علي -: فأتيته مسرعاً فإذا هو في حجرة أم سلمة، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه و آله تهلل وجهه، و تبسم حتى نظرت إلى أسنانه تبرق، فقال: أبشر يا على فإن الله قد كفانى ما كان قد أهمني من أمر تزويجك (5).

ص: 76


1- تهذيب التهذيب 12 :483.
2- الإصابة 4: 458.
3- الصحيح من سيرة الرسول صلی الله علیه و آله 4: 25.
4- سنن ابن ماجة، الحديث رقم: 1901.
5- تفسیر فرات الكوفي ص 414.

و قد ورد أيضاً أن زفاف الزهراء علیها السلام كان في حجرة أم سلمة فقد روى في البحار:

.. فالتفت - النبي صلى الله عليه و آله - إلى النساء فقال: من ههنا؟ فقالت أم سلمة: أنا أم سلمة، و هذه زينب، و هذه فلانة و فلانة، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: هيئوا لابنتي و ابن عمي في حجري بيتاً، فقالت أم سلمة: في أي حجرة يا رسول الله؟ فقال رسول الله: في حجرتك، و أمر نساءه أن يزين و يصلحن من شأنها (1).

و قد ورد عن أم سلمة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه و آله و فوض أمر ابنته إلى، فكنت أؤدبها و كانت و الله أأدب منى و أعرف بالأشياء كلها (2).

و الذي يرد القولين الأخيرين بالخصوص ما ورد مما يدل على أن أم سلمة كانت زوجة للنبي صلى الله عليه و آله وقت غزوة أحد:

الأول: ما رواه ابن سعد في الطبقات: يوم خرج الرسول صلى الله عليه و آله إلى أحد (3)، و قد تقدم. و المستفاد منه أن أم سلمة كانت زوجة له صلى الله عليه و آله حينئذ، إذ لو كان أبو سلمة موجوداً لكان المناسب أن يقدمه هو لا زوجته.

الثاني: ورد في أسد الغابة في ترجمة شماس بن عثمان بن الشريد أنه جرح في أحد، فحمل إلى المدينة و به رمق، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله احملوه: إلى أم سلمة، فحمل إليها فمات عندها، فأمر رسول الله صلى الله عليه و آله أن يرد إلى أحد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها بعد أن مكث يوماً (4).

و هو يدل على أن أم سلمة كانت زوجة للنبي صلى الله عليه و آله حينئذ.

عمرها حين الزواج

أشارت بعض الروايات التي تحدثت عن زواجها بالرسول صلى الله عليه و آله مع أنها دخلت في

ص: 77


1- بحار الأنوار 39: 95.
2- بحار الأنوار 39 :10.
3- الطبقات 3: 63.
4- أسد الغابة 3: 3.

السن، و أنها لا ولد فيها، مما يشير إلى كبر سنها حينئذ، و في قبال هذه النصوص نصوص لم تتعرض إلى عمرها كما في رواية أحمد المتقدمة، أو تعرضت بما يشير إلى أنها لا زالت شابة كما في رواية الهيثمي، و هذا هو الصحيح و ذلك:

أولاً: إن وقت زواجها كانت مرضعاً كما في أكثر الروايات التي تحدثت عن الزواج إن لم يكن فيها كلها.

ثانياً: لو لم تكن شابة و في ريعان شبابها لما كان هناك داع يدعو السيدة عائشة إلى الحزن الكبير الذي استولى على مشاعرها عندما سمعت بخبر خطوبة النبي صلى الله عليه و آله لأم سلمة، كما نقلنا قولها في الفصل السابق، لا سيما و أن سبب الحزن هو ما كانت تسمعه من جمالها، و امرأة دخلت في السن لا ينتظر منها الجمال الذي يؤلم امرأة لا زالت شابة كعائشة.

ثالثاً: لو كانت - حين زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله- كبيرة العمر و دخلت في السن، و أنه لا ولد لها كما في بعض الروايات لكان عمرها - حينئذ - على أقل تقدير يتراوح الخامسة و الأربعين و الخمسين عاماً، فيكون عمرها حين وفاتها قد تجاوز المائة بخمس سنين إلى إحدى عشرة سنة، و هو مما يلفت نظر الرواة، بينما لم نجد أحداً من المحدثين ولا المؤرخين من تحدث بذلك أو أشار إليه!

رابعاً: حققنا فيما سبق تأريخ ولادتها و وفاتها و مقدار عمرها، و من ذلك نعرف أن عمرها كان حين الزواج يقترب من التاسعة و العشرين، على القول بأن عمرها امتد إلى التسعين عاماً و هو الأقرب، و أما على القول بأن عمرها حين وفاتها كان أربعاً و ثمانين سنة كما في طبقات ابن سعد فيكون عمرها - حين زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله- ثلاثاً و عشرين سنة.

و بهذا يظهر أن الروايات التي ذكرت اعتذارها بأنها دخلت في السن، و انه لا ولد فيها، روايات مدسوس فيها لأمر أراده صاحبه.

ص: 78

وليمة العرس

روى الهيثمي: عن أنس قال: أَوْلَمَ رسول الله صلّى الله عليه و آله على أم سلمة بتمر و سمن.. (1).

و روى البيهقي في سننه: عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و آله لما تزوج أم سلمة رضي الله تعالى عنها أمر بالنطع فبسط، ثم ألقى عليه تمراً و سويقاً، فدعا الناس فأكلوا.. (2).

ليلة الزفاف

و من طرائف ما يذكر عن ليلة زفافها، مما يدل على حسن تبعلها و حبها لخدمة زوجها، ما نقله أكثر من واحد: (دخلت أيّم العرب على سيد المرسلين أوّل العشاء عروساً، و قامت من آخر الليل تطحن) (3).

و قد حدثتنا أم سلمة في بعض رواياتها عن مثل ذلك: (..قالت: فوضعت ثغالي (4)، و أخرجت حبات من شعير كانت في جرتي، و أخرجت شحماً فعصدته له، ثم بات ..) (5).

موضع بيتها

كان الرسول الله صلّى الله عليه و آله كلما دخل بامرأة بنى لها بيتاً حول مسجده الشريف، فكانت دور أمهات المؤمنين محيطة بالمسجد، و من خلال النظر إلى الروايات يمكن لنا اكتشاف موقع بيت أم سلمة من بين تلك البيوت، و لنعتمد في ذلك على ثلاث طوائف من الروايات:

ص: 79


1- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 4 :50.
2- سنن البيهقي 7 / 260.
3- راجع الطبقات لابن سعد 8 :73.
4- الثفال: الإبريق، عن اللسان.
5- الطبقات 8 :74، مسند الإمام أحمد الحديث رقم: 25403.

الأولى: ما يدل على أن بيتها بجانب بيت السيدة فاطمة علیها السلام .

الثانية: ما دلّ على أن الرسول صلّى الله عليه و آله بنى لأزواجه حول مسجده الشريف، كما ذكره أكثر من واحد، منها: ما ذكره ابن كثير: و بني لرسول الله صلّى الله عليه و آله حول مسجده الشريف حجر لتكون مساكن له و لأهله، و كانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء.. (1).

الثالثة: ما رواه غير واحد عن علي بن الحسين: أن صفية زوج النبي صلّى الله عليه و آله أخبرته: أنها جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و هو معتكف في المسجد العشر الأواخر من رمضان، ثم قامت لتنقلب، فقام معها رسول الله صلّى الله عليه و آله هل يقلبها، حتى إذا بلغ قريباً من باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله مرّ رجلان.. (2).

و لا يخفى أن الباب القريب من بيت أم سلمة الذي هو بجانب بيت السيدة فاطمة علیها السلام هو الباب المسمى الآن بباب جبرئيل، و يسمى سابقاً كما يظهر من عليا بعض الروايات بباب البقيع، فيكون بيت أم سلمة في شمال بيت السيدة فاطمة علیها السلام تقريباً.

و هذا الاحتمال أقرب مما ذكره صاحب كتاب (بيوت الصحابة حول المسجد النبوي الشريف)، فإنه ذهب إلى كون بيت أم سلمة في الجهة الشرقية من بيت السيدة فاطمة علیها السلام، و عبّر بقوله: (ورد بأنه ..) نقلاً عن كتاب المناسك للجاسر (3).

و هذا يعني انه لا يطل على المسجد الشريف كما بيّنه هو أيضاً بالرسم، و هو الطائفة الثانية، و الرواية الثالثة، و لم نجد رواية تصرح بكون بيتها إلى يتنافى مع شرق بيت السيدة فاطمة علیها السلام.

و يمكن أن نؤيد كونه مطلاً على المسجد فبالتالي يتأيد ما قربناه بروايتين أخريين:

ص: 80


1- البداية والنهاية 220/3.
2- سنن البيهقى 4 / 321.
3- كذا في المصدر بيوت الصحابة ص 27، ولكن الجاسر محقق الكتاب.

الأولى: ما ورد في توبة أبي لبابة، و سوف نتعرض لها لاحقاً إن شاء الله، و محل الشاهد منها: (فقال: يا أم سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأوذنه بذلك؟ فقال: لتفعلن فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت: يا أبا لبابة ابشر لقد تاب الله عليك).

الثانية: ما ورد في الصحابة و سيأتي التعرض لها أيضاً، و محل الشاهد أنها لما سمعت قول الرسول صلّى الله عليه و آله: أيها الناس! و هي تمتشط قالت لماشطتها أن تتركها، فلفت رأسها و قامت في حجرتها لتسمعه ما يقول صلّى الله عليه و آله.

فيظهر من هاتين الروايتين أن بيتها كان مطلاً على المسجد الشريف، و الله أعلم بحقيقة الحال.

أسفارها مع الرسول صلّى الله عليه و آله

كان الرسول صلّى الله عليه و آله إذا أراد أن يذهب إلى غزوة من الغزوات يقترع لنسائه، فأيتهن خرجت عليها القرعة أخذها معه، و قد كانت القرعة في صالح أم سلمة في مرات متعددة، و الغزوات التي حضرتها حسب ما يمكن أن نستخرجه من نصوص المؤرخين هي:

الأولى: غزوة أحد، و يستفاد ذلك مما ذكرناه سابقاً، و قد صرح بذلك خليل جمعه في كتابه (نساء أهل البيت علیها السلام) (1).

الثانية: غزوة الخندق: فعن أم سلمة قالت ما نسيت قوله يوم الخندق و هو يعاطيهم اللبن قد اغبر شعر صدره و هو يقول:

اللهم إن الخير خير الآخرة * فاغفر للانصار و المهاجرة

رواه أحمد، و رجاله رجال الصحيح، و رواه أبو يعلى (2).

ص: 81


1- نساء أهل البيت علیها السلام.
2- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 6: 133.

و قال أيضاً: و عن الزبير بن العوام، أن رسول الله صلّى الله عليه و آله للخرج إلى الخندق، فجعل نساءه و عمته صفية في أطم يقال له: فارع، و جعل معهم حسان بن ثابت..

الثالثة: غزوة بني المصطلق: عن ابن عمر: .. فلما غزا بني المصطلق أقرع بينهن فأصابت القرعة عائشة أم المؤمنين، و أم سلمة (1).

الرابعة: غزوة خيبر: ورد في تأريخ الطبري: .. أبي يحيى حدثه عن ثبيتة بنت حنظلة الأسلمية عن أمها أم سنان الأسلمية قالت: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه و آله الخروج إلى خيبر، جئته فقلت: يا رسول الله أخرج معك في وجهك هذا.. إلى قولها: فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: أخرجي على بركة الله تعالى، فإن لك صواحب كلمنني فأذنت لهن من قومك، و من غيرهم، فإن شئت فمع قومك، و إن شئت معنا، قالت: معك، قال: فكوني مع أم سلمة زوجتي، قالت: فكنت معها (2).

قال الهيثمي: عن أم سلمة و كانت في غزوة خيبر قالت: سمعت وقع السيف في مرحب، رواه الطبراني و رجاله ثقات (3).

الخامسة: صلح الحديبية: ورد في تاريخ ابن خلدون و غيره (و لما تم الصلح و كتابه أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله أن ينحروا و يحلقوا فتوقفوا، فغضب حتى شكى إلى زوجته أم سلمة.. (4)، و قد نقل إشارتها أكثر أهل التأريخ و السيرة و الحديث (5).

السادسة: جاء في السيرة النبوية: و قال البخاري بسنده عن أبي موسى قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه و آله و هو نازل بالجعرانة بين مكة و المدينة، و معه بلال فأتى رسول الله صلّى الله عليه و آله أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر، فقال: قد أكثرت علي من أبشر! فأقبل على أبي موسى و بلال كهيئة الغضبان فقال: ردّ البشرى فاقبلا انتما،

ص: 82


1- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 9 :237.
2- تاريخ الطبري 114:10.
3- جمع الزوائد: 6 / 152.
4- تاریخ ابن خلدون 3 :35، تاريخ الطبري 2: 283، و غيرهما.
5- منهم تفسير ابن كثير 4 :169، 200، و المصنف لابن أبي شيبة 7: 383، المصنف لعبد الرزاق 340:5.

ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه و وجهه فيه و مج فيه، ثم فال: إشربا منه و أفرغا على وجوهكما و نحوركما و أبشرا، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر، أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة (1).

السابعة: فتح مكة: جاء في الطبري و غيره: و قد كان أبو سفيان بن الحارث، و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قد لقيا رسول الله صلّى الله عليه و آله بنيق العقاب، فيما بين مكة و المدينة، فالتمسا الدخول على رسول الله، فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك و ابن عمتك و صهرك (2).

و جاء في شرح نهج البلاغة و هو يحكي قصة الفتح: قال الواقدي: و كانت قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون، فأقبل حتى انتهى إليها و معه أم سلمة و ميمونة (3)

الثامنة: فتح الطائف: قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: .. و معه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية، فضرب لهما قبتين، ثم صلى بين القبتين (4).

و قال الطبري: فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل ارتفع فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم، فحاصرهم بضعاً و عشرين ليلة، و معه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية، و أخرى معها، قال الواقدي: الأخرى زینب بنت جحش فضرب لهما قبتين فصلى بين القبتين ما أقام (5).

التاسعة: غزوة تبوك: روى الواقدي بسنده عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول الله صلّى الله عليه و آله في الحضر و السفر، فرأينا ليلة و نحن بتبوك و ذهبنا لحاجة.. فرجعنا إلى منزل رسول الله صلّى الله عليه و آله و قد تعشى و من عنده من أضيافه، و رسول

ص: 83


1- 681:3.
2- تاريخ الطبري 2 :329 مجمع الزوائد و منبع الفوائد 6: 165.
3- شرح نهج البلاغة 277/17.
4- السيرة النبوية 4: 920.
5- تاريخ الطبري 2 :354.

الله صلّى الله عليه و آله يريد أن يدخل في قبة و معه زوجه أم سلمة.. (1).

العاشرة: حجة الوداع و قد حج الرسول صلّى الله عليه و آله بجميع نسائه في حجة الوداع.

و للتنصيص على أم سلمة قال في أسد الغابة: روى شبيب بن غرقدة، عن جمرة بنت قحافة قالت: كنت مع أم سلمة أم المؤمنين في حجة الوداع.. (2).

مواقف و فضائل

و كان من المناسب أن نستعرض حياتها في بيت الرسول صلّى الله عليه و آله و معاملتها له صلّى الله عليه و آله و لزوجاته الأخريات أو غيرهن من المسلمات، و لكننا سوف نأتي بذلك في ضمن الفصول القادمة إن شاء الله، فإنها ستأتي على حياتها بالتفصيل من خلال عناوين يحسن أن تكون مستقلة، فرجحنا عدم التكرار، غير أنا سنذكر شيئاً مما جرى لها أو قامت به في حياة الرسول صلّى الله عليه و آله:

الأول: أنها أول من قامت من نساء النبي صلّى الله عليه و آله و اختارت الله و الرسول صلى الله عليه و آله حينما خيرهن الرسول صلى الله عليه و آله بذلك، و القصة كما يرويها القمي في تفسيره هي: و أما قوله: يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَ أُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَ رَسُولَهُۥ وَ ٱلدَّارَ ٱلۡأَخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمًا (3)، فإنه كان سبب نزولها انه لما رجع رسول الله صلّى الله عليه و آله من غزاة خيبر، و أصاب كنز آل أبي الحقيق، قلن أزواجه (4): أعطنا ما أصبت، فقال لهن رسول الله صلّى الله عليه و آله: قسمته بين المسلمين على ما أمر الله، فغضبن من ذلك، و قلن: لعلك ترى أنك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا، فأنف الله لرسوله، فأمره أن يعتزلهن، فاعتزلهن رسول الله صلّى الله عليه و آله في مشربة أم إبراهيم، تسعة و عشرين يوماً،

ص: 84


1- كنز العمال 12 : 432.
2- أسد الغابة 5: 416.
3- سورة الأحزاب: 28، 29.
4- و يحتمل عدم دخول أم سلمة معهن في ذلك لما عرف من إيمانها الراسخ.

حتى حضن و طهرن، ثم أنزل الله هذه الآية و هي آية التخيير، فقال: (يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - أجراً عظيماً)، فقامت أم سلمة و هي أول من قامت و قالت: قد اخترت الله و رسوله، فقمن كلهن فعانقنه و قلن مثل ذلك، فأنزل الله (ترجي تشاء منهن و تؤوي إليك من تشاء) الآية، قال الصادق علیه السلام من أوى فقد نكح، و من أرجى فقد طلق.. (1)

الثاني: جلوس الرسول صلّى الله عليه و آله في بيتها شهراً لأمر أغضبه.

فلقد كانت هناك محاولة اغتيال للرسول صلّى الله عليه و آله أراد تنفيذها جماعة من المنافقين، و قد ذكرها المؤرخون بين مجمل و مفصل، و تمت المؤامرة حينما أراد الرسول صلّى الله عليه و آله الرجوع إلى المدينة، و رموا أمام ناقته صخوراً لتعثر به ويسقط من أعلى الجبل في هوة الوادي السحيق، ولكن الله عزّ وجل أفشل خطتهم و حفظ نبيه صلّى الله عليه و آله، وأعلم بعض صحابته - وهو حذيفة بن اليمان - بهم، ثم تكلم الرسول صلّى الله عليه و آله - حينما رجع إلى المدينة - بكلام يشير فيه إليهم و إلى معرفته بهم و بما أقدموا عليه، و سوف نذكر شيئاً من الرواية مما قبل محل الشاهد ليكون القارئ على بصيرة:

.. و يبتلي من يأتي بعدهم، تفرقة بين الخبيث و الطيب، و لو لا أنه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه، لقدمتهم فضربت أعناقهم.

قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر عند قول رسول الله صلّى الله عليه و آله هذه المقالة و قد أخذتهم الرعدة، فما يملك أحد منهم من نفسه شيئاً، و لم يخف على أحد ممن حضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه و آله ذلك اليوم، أن رسول الله صلّى الله عليه و آله إياهم عنى بقوله، و لهم ضرب تلك الأمثال بما تلا من القرآن.

قال: و لما قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله من سفره ذلك، نزل منزل أم سلمة زوجته، فأقام بها شهراً لا ينزل منزلاً سواه من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك، قال:

ص: 85


1- تفسير القمي 192:2.

فشكت عايشة و حفصة ذلك إلى أبويهما، فقالا لهما: إنا لتعلم لم صنع ذلك؟ و لأي شيء هو؟ امضيا إليه فلاطفاه في الكلام، و خادعاه عن نفسه، فإنكما تجدانه حيباً كريماً، فلعلكما تسلان ما في قلبه، و تستخرجان سخيمته.

قال: فمضت عايشة وحدها إليه، فأصابته في منزل أم سلمة و عنده علي بن أبي الطالب علیه السلام، فقال لها النبي: ما جاء بك يا حميراء؟

قالت: يا رسول الله؟ أنكرت تخلفك عن منزلك هذه المرة، و أنا أعوذ بالله من سخطك يا رسول الله.

فقال: لو كان الأمر كما تقولين لما أظهرت سراً أوصيتك بكتمانه، لقد هلكت و أهلكت أمة من الناس.

قال: ثم أمر خادمة أم سلمة فقال: اجمعي هؤلاء يعني نساءه، فجمعتهن في منزل أم سلمة فقال لهن: اسمعن ما أقول لكن و أشار بيده إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، فقال لهن: هذا أخي و وصيي و وارثي و القائم فيكن و في الأمة من بعدي، فأطعنه فيما يأمركن به و لا تعصينه فتهلكن بمعصيته، ثم قال: يا علي! أوصيك بهن، فأمسكهن ما أطعن الله و أطعنك، و أنفق عليهن من مالك، و مرهن بأمرك، و انههن عما يريبك، و خل سبيلهن إن عصينك.

فقال علي علیه السلام: يا رسول الله! إنهن نساء و فيهن الوهن و ضعف الرأي.

فقال: ارفق بهن ما كان الرفق أمثل بهن، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقا يبرأ الله و رسوله منها..) (1).

الثالث: إن التوبة نزلت في بيتها على أكثر من صحابي، و من جملة أولئك توبة أبي لبابة، و مجمل قصته كما يرويها المؤرخون و المفسرون تحت قوله تعالى: (وَ ءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلاً صَٰلِحًا وَ ءَاخَرَ سَيِّ-ًٔا عَسَی ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ

ص: 86


1- البحار 28: 107.

غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (1): نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، و كان رسول الله صلى الله عليه و آله لما حاصر بني قريظة، قالوا له: ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: يا أبا لبابة انت حلفاءك و مواليك، فأتاهم.

فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى؟ ننزل على حكم محمد؟

فقال: انزلوا و اعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح، و أشار إلى حلقه ثم ندم على ذلك، فقال: خنت الله و رسوله، و نزل من حصنهم و لم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، و مرّ إلى المسجد، و شدّ في عنقه حبلاً، ثم شده إلى الاسطوانة التي تسمى أسطوانة التوبة، و قال: لا أحله حتى أموت أو يتوب الله علي.

فبلغ رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال: أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به، و كان أبو لبابة يصوم النهار، و يأكل بالليل ما يمسك به رمقه، فكانت ابنته تأتيه بعشائه، و تحله عند قضاء الحاجة.

فلما كان بعد ذلك و رسول الله صلى الله عليه و آله في بيت أم سلمة نزلت توبته، فقال: يا أم سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأوذنه بذلك؟ فقال: لتفعلن فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت: يا أبا لبابة ابشر لقد تاب الله عليك.

فقال: الحمد لله، فوثب المسلمون ليحلوه فقال: لا و الله حتى يحلني رسول الله، فجاء رسول الله صلى الله عليه و آله:فقال يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك.

فقال: يا رسول الله أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، فأنزل الله (وَ ءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلاً صَٰلِحًا وَ ءَاخَرَ سَيِّ-ًٔا عَسَی ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمۡ وَ تُزَكِّيهِم بِهَا وَ صَلِّ عَلَيۡهِمۡ ۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمۡ ۗ وَ ٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاۡ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ

ص: 87


1- سورة التوبة: 102.

يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَ يَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) (1).

و من جملة ذلك ما ورد في تفسير القمي أيضاً:.. و كان مع رسول الله صلى الله عليه و آله بتبوك رجل يقال له المضرب، من كثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحد، فقال له رسول الله: عدّ لي أهل العسكر فعددهم، فقال هم خمسة و عشرون ألف رجل، سوى العبيد و التباع، فقال: عدّ المؤمنين فعددهم، فقال هم خمسة و عشرون رجلاً، و قد كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و آله قوم من المنافقين، و قوم من المؤمنين، مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق، منهم كعب بن مالك الشاعر، و مرادة بن الربيع، و هلال بن أمية الواقفي (الموافقي).

فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلى الله عليه و آله إلى تبوك، و ما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، و كنت أقول: أخرج غداً، أخرج بعد غد، فإني قوي، وتوانيت و بقيت بعد خروج النبي صلى الله عليه و آله أياماً، أدخل السوق فلا أقضي حاجة، فلقيت هلال بن أمية، و مرادة بن الربيع، و قد كانا تخلفا أيضاً، فتوافقنا أن نبكر إلى السوق، و لم نقض حاجة، فما زلنا نقول: نخرج غداً بعد غد، حتى بلغنا إقبال رسول الله، فندمنا.

فلما وافى رسول الله صلى الله عليه و آله استقبلناه، نهنئه بالسلامة، فسلمنا عليه، فلم يردّ علينا السلام، و أعرض عنا، و سلمنا على إخواننا، فلم يردوا علينا السلام، فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، و كنا نحضر المسجد، فلا يسلم علينا أحد و لا يكلمنا، فجئن نساؤنا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا، فنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تعتز لنهم، ولكن لا يقربوكن.

فلما رأى كعب بن مالك و صاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلمنا رسول الله صلى الله عليه و آله، و لا إخواننا، و لا أهلونا! فهلموا نخرج إلى هذا الجبل، فلا

ص: 88


1- تفسير القمي 1: 303،،الدر المنثور 3: 272، و اللفظ للأول.

نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت فخرجوا إلى ذناب - جبل بالمدينة - فكانوا يصومون، و كان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية، ثم يولون عنهم، فلا يكلمونهم.

فبقوا على هذا أيا ما كثيرة، يبكون بالليل و النهار، و يدعون الله أن يغفر لهم، فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا، و رسوله قد سخط علينا، و أهلونا و إخواننا قد سخطوا علينا، فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟

فتفرقوا في الليل، و حلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه، فبقوا على هذه ثلاثة أيام، كل واحد منهم في ناحية من الجبل، لا يرى أحد منهم صاحبه، و لا يكلمه، فلما كان في الليلة الثالثة و رسول الله صلى الله عليه و آله في بيت أم سلمة، نزلت توبتهم على رسول الله صلی الله علیه و آله (1)

الرابع: إن الرسول صلى الله عليه و آله كان يقسم لنسائه في بيتها، كما صرحت به عائشة في كلامها لأم سلمة في مكة، حينما أرادت منها أن تخرج معها إلى البصرة فنهتها أم سلمة أشد نهي، فقد روى المجلسي عن أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه: (أن عائشة أتت أم سلمة فقالت لها: أنت أقرب منزلة من رسول الله صلى الله عليه و آله في نسائه، و أول من هاجر معه، و كان رسول الله يبعث إلى بيتك ما يتحف له ثم يقسمه بيننا..) (2).

و فيه عن الاختصاص: بسنده عن أبي كبسة و يزيد بن رومان قالا: (لما اجتمعت عائشة على الخروج إلى البصرة، أتت أم سلمة رضي الله عنها و كانت بمكة فقالت: با ابنة أبي أمية! كنت كبيرة أمهات المؤمنين و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقمو في بيتك،

ص: 89


1- تفسير القمى 1: 296، الدر المنثور 3: 274، و اللفظ للأول.
2- بحار الانوار 29 :167.

و كان يقسم لنا في بيتك، و كان ينزل الوحي في بيتك) (1).

و فيه أيضاً: قال أبو مخنف: جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها: (يا بنت أبي أمية! أنت أول مهاجرة من أزواج رسول الله صلّى الله عليه و آله، و أنت كبيرة أمهات المؤمنين، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقسم لنا من بيتك، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك) (2).

و سيأتي تفصيل ذلك في فصل لاحق إن شاء الله.

الخامس: نزول القرآن في بيتها، و تقدم تصريح عائشة بذلك، و من ذلك الروايات الكثيرة التي دلّت على نزول آية التطهير في بيتها، و سيأتي البحث حول الآية الكريمة مفصلاً. و يحسن أن نذكر موقفها في آخر أيام الرسول صلى الله عليه و آله في محضره الشريف و هو على فراش المرض، و هو من مواقفها التي تشهد لها بمعرفتها لإشارات الرسول صلى الله عليه و آله و قوة صلتها به، فقد حدثنا المجلسي في بحاره و هو يقص علينا حوادث ما قبل وفاة الرسول صلّى الله عليه و آله، إلى أن قال:

.. فلما كان من الغد حجب الناس عنه، و ثقل في مرضه، و كان أمير المؤمنين علیه السلام لا يفارقه إلا لضرورة، فقام في بعض شؤنه، فأفاق رسول الله صلّى الله عليه و آله إفاقة، فافتقد عليا، فقال و أزواجه حوله: ادعوا لي أخي و صاحبي، و عاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: ادعوا له أبا بكر فدعي، و دخل عليه و قعد عند رأسه، فلما فتح عينه نظر إليه فأعرض عنه بوجهه، فقال أبو بكر: لو كان له إلى حاجة لأفضى بها إلى.

فلما خرج أعاد رسول الله صلى الله عليه و آله القول ثانية و قال: أدعوا لي أخي و صاحبي، فقالت حفصة: ادعوا له عمر فدعي، فلما حضر و رآه رسول الله صلّى الله عليه و آله أعرض عنه فانصرف، ثم قال: ادعوا لي أخي وصاحبي، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: ادعوا

ص: 90


1- بحار الأنوار 29 :162.
2- بحار الأنوار 29 :162.

له علياً علیه السلام فإنه لا يريد غيره، فدعي أمير المؤمنين علیه السلام، فلما دنا منه أو ما إليه فأكب علیه، فناجاه رسول الله الله صلّى الله عليه و آله طويلاً.. (1).

و ما ينبغي ذكره هنا أيضاً، ما حدثنا به المجلسي عن ما جرى في آخر حياة الرسول الله صلّى الله عليه و آله فقال: ..ثم قام رسول الله صلّى الله عليه و آله فدخل بيت أم سلمة و هو يقول: رب سلّم أمة محمد من النار، و يسر عليهم الحساب.

فقالت أم سلمة: يا رسول الله! مالي أراك مغموماً متغير اللون؟

فقال: نعيت إلى نفسي هذه الساعة، فسلام لك في الدنيا، فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد أبداً.

فقالت أم سلمة: و احزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمداه، ثم قال علیه السلام: ادع لي حبيبة قلبي، و قرة عيني فاطمة تجيئني، فجاءت فاطمة علیها السلام و هي تقول: نفسي لنفسك الفداء، و وجهي لوجهك الوقاء يا أبتاه.. (2).

و كان لاتصال أم سلمة الوثيق بالنبى صلّى الله عليه و آله و منزلتها عنده، أن أمرها بالوقوف على باب الدار و منع من يريد الدخول عليه، و هو في آخر ساعاته من الدنيا، و يريد أن يختلي بأهل بيته علیهم السلام و يتحدث معهم وحدهم بما يريد من الأسرار، فقد جاء في الرواية ما نصه:

و بالإسناد المتقدم عن عيسى الضرير عن الكاظم علیه السلام قال: قلت لأبي: فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله؟ قال: فقال: ثم دعا علياً و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام، و قال لمن في بيته: أخرجوا عني، و قال لام سلمة: كوني على الباب فلا يقربه أحد ففعلت، ثم قال: يا علي أدن مني، فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً، و أخذ بيد علي بيده الأخرى، فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه و آله الكلام غلبته عبرته فلم يقدر على الكلام، فبكت فاطمة بكاء شديداً و علي والحسن

ص: 91


1- بحار الأنوار 22: 469.
2- بحار الأنوار 22: 509.

و الحسين البكاء رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقالت فاطمة: يا رسول الله قد قطعت قلبي و أحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيين من الأولين و الآخرين، و يا أمين ريه سوله، و يا حبيبه و نبيه، من لولدي بعدك؟ و لذل ينزل بي بعدك؟ من لعلي أخيك و ناصر الدين؟ من لوحي الله و أمره؟ ثم بكت و أكبت على وجهه فقبلته، و أكب عليه علي و الحسن و الحسين صلوات الله عليهم.

فرفع رأسه صلّى الله عليه و آله إليهم و يدها في يده فوضعها في يد علي و قال له: يا أبا الحسن هذه و ديعة الله و وديعة رسوله محمد عندك فاحفظ الله و احفظني فيها، و إنك لفاعله يا علي، هذه و الله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين و الآخرين، هذه و الله مريم الكبرى، أما و الله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها و لكم فأعطاني ما سألته.

يا علي انفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل علیه السلام، و اعلم يا علي إني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة، و كذلك ربي و ملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، و ويل لمن ابتزها حقها، و ويل لمن هتك حرمتها، و ويل لمن أحرق بابها، و ويل لمن آذى خليلها، و ويل لمن شاقها و بارزها، اللهم إني منهم برى و هم مني برآء، ثم سماهم رسول الله صلّى الله عليه و آله و ضم فاطمة إليه و عليا و الحسن و الحسين علیهم السلام و قال: اللهم إني لهم و لمن شايعهم سلم، و زعيم بأنهم يدخلون الجنة، و عدو و حرب لمن عاداهم و ظلمهم و تقدمهم أو تأخر عنهم و عن شيعتهم، زعيم بأنهم يدخلون النار، ثم و الله يا فاطمة لا أرضى حتى ترضي، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضي، ثم لا و الله لا أرضى حتى ترضي (1).

و نقلنا الرواية بما يزيد عن محل الشاهد الشرفها، و لما تحمله من مضامين عالية.

ص: 92


1- بحار الأنوار 22: 484.

المرحلة الثالثة: من وفاة الرسول صلّى الله عليه و آله إلى وفاتها.

توفي الرسول صلّى الله عليه و آله في شهر صفر من السنة الحادية عشرة من الهجرة، فوقع الخطب الجلل الذي هز كيان الأمة الإسلامية من الجذور، فلقد مات العمد و وهن العضد و فقد المسلمون زعيمهم الروحي، و انقطع بموته الوحي، و حدثت أمور صعبة، و انقلب وجه المجن في وجه المسيرة الإسلامية.

و قبض الرسول صلّى الله عليه و آله و هو في حجر الإمام علي علیه السلام كما حدثت به أم سلمة حيث قالت:

و الذي أحلف به: أن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه و آله، عدنا رسول الله صلّى الله عليه و آله غداة و هو يقول: جاء علي؟ جاء علي؟ مراراً، فقالت فاطمة رضى الله عنها: كأنك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد، قالت: أم سلمة فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، و كنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله صلّى الله عليه و آله و جعل يساره و يناجيه، ثم قبض رسول الله صلّى الله عليه و آله من يومه ذلك فكان على أقرب الناس عهدا (1).

و قد رثته أم المؤمنين أم سلمة بأبيات سيأتي ذكرها عند الحديث عن أدبها و بلاغتها، و قد حدثت أم سلمة رضی الله ببعض ما يتصل بوفاة الرسول صلّى الله عليه و آله مما يتصل بها فقالت:

وضعت يدي على صدر رسول الله صلّى الله عليه و آله يوم مات، فمر بي جمع أكل و أتوضأ ما تذهب ريح المسك من يدي (2).

و بهذا ختمت آخر عمل لها مع الرسول صلّى الله عليه و آله.

ص: 93


1- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 138، و ورد في مسند أحمد: ج 6، ص 300، کنز العمال: ج 13 ص، ذخائر العقبي: ص 72، الخصائص للنسائي، مجمع الزوائد ج 9 ص 112 البداية والنهاية: ج 7 ص ،397، أخبار أصفهان: ج 1 ص 250.
2- البحار 22: 509. البداية والنهاية 5 : 261.

مواقف مشرفة

و كان لأم سلمة أدوار بارزة في هذه الفترة من حياتها، و سيأتي التعرض لبعض تلك الأدوار في أبحاث قادمة مما يناسب العناوين الآتية، ولكنا نشير إلى بعضها هنا:

1- دورها في قضية السقيفة.

2- طلب أبي بكر الكتاب الذي أعطاها أياه الرسول صلّى الله عليه و آله و أمرها أن تعطيه من الله يصعد منبره من بعده إذا جاءها بآية كانت بينهما، فجاءها أبو بكر فلم تعطه إياه، و هكذا صنعت مع عمر و عثمان، و الرواية كما جاءت في البصائر:

حدثنا أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمرو، عن الأعمش قال: قال الكلبي: يا أعمش! أي شيء أشد ما سمعت من مناقب علي علیه السلام؟

قال: فقال: حدثني موسى بن ظريف، عن عباية قال: سمعت علياً علیه السلام و هو يقول: أنا قسيم النار، فمن تبعني فهو مني، و من عصاني فهو من أهل النار.

فقال الكلبي: عندي أعظم مما عندك، أعطى رسول الله صلّى الله عليه و آله عليا علیه السلام كتاباً فيه أسماء أهل الجنة و أسماء أهل النار، فوضعه عند أم سلمة فلما ولي أبو بكر طلبه، فقالت: ليس لك، فلما ولي عمر طلبه، فقالت: ليس لك، فلما ولي عثمان طلبه، فقالت: ليس لك، فلما ولي علی علیه السلام دفعته إليه (1).

3- وقفت أمام عثمان في بعض القضايا التي قام بها، و أدخلت عماراً في بيتها حينما ضربه عثمان أو من كان من قبله، و جلس في بيتها للعلاج لمدة شهر، و إليك الرواية بالتفصيل كما جاء في كتاب الإمامة والسياسة:

قال: و ذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة و السلام، فكتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله و سنة صاحبيه، و ما كان من

ص: 94


1- بصائر الدرجات ص 191.

هبته خمس أفريقية لمروان، و فيه حق الله و رسوله، و منهم ذو و القربى و اليتامى و المساكين، و ما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة: داراً لنائلة، و داراً لعائشة، و غيرهما من أهله و بناته.

و بنيان مروان القصور بذي خشب، و عمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله و لرسوله، و ما كان من إفشائه العمل و الولايات في أهله و بني عمه من بني أمية، أحداث و غلمة لا صحبة لهم من الرسول، و لا تجربة لهم بالأمور.

و ما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة، إذ صلى بهم الصبح و هو أمير عليها سكران أربع ركعات، ثم قال لهم: إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، و تعطيله إقامة الحد عليه و تأخيره ذلك عنه، و تركه المهاجرين و الأنصار، لا يستعملهم على شيء و لا يستشيرهم، و استغنى برأيه عن رأيهم، و ما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة، و ما كان من إدراره القطائع و الأرزاق و الأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة و السلام، ثم لا يغزون و لا يذبون، و ما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، و أنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، و إنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة و الخيزران.

ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان و كان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر، و المقداد بن الأسود، و كانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان - و الكتاب في يد عمار- جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات، فدخل عليه و عنده مروان بن الحكم و أهله من بني أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له:

أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: و من كان معك؟ قال: كان تفرقوا فرقاً منك، قال: من هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟!

ص: 95

فقال مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود (يعني عماراً) قد جرأ عليك الناس، و إنك إن قتلته نكلت به من وراءه.

قال عثمان: اضربوه

فضربوه و ضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة و السلام فأدخل منزلها، و غضب فيه بنو المغيرة و كان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة فقال: أما و الله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلاً عظيماً من بني أمية.

قال عثمان: لست هناك.

قال: ثم خرج عثمان إلى المسجد فإذا هو بعلي و هو شاك معصوب الرأس، فقال له عثمان: و الله يا أبا الحسن ما أدري: أشتهي موتك أم أشتهي حياتك، فوالله لئن مت ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك لأنى لا أجد منك خلفاً، و لئن بقيت لا أعدم طاغياً يتخذك سلماً و عضداً، و يعدك كهفاً و ملجأ، لا يمنعني منه إلا مكانه منك و مكانك منه، فأنا منك كالابن العاق من أبيه: إن مات فجعه و إن عاش عقه، فإما سلم فنسالم، و إما حرب فنحارب فلا تجعلني بين السماء و الأرض، فإنك و الله إن قتلتني لا تجد مني خلفاً، و لئن قتلتك لا أجد منك خلفاً، و لن يلي أمر هذه الأمة بادئ فتنة.

فقال علي: إن فيما تكلمت به لجواباً ولكني عن جوابك مشغول بوجعي، فأنا أقول كما قال العبد الصالح: (فَصَبۡرٌ جَمِيلٌ وَ ٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَیٰ مَا تَصِفُونَ) (1).

قال مروان: إنا و الله إذاً لنكسرن رماحنا، و لنقطعن سيوفنا، و لا يكون في هذا الأمر خير لمن بعدنا.

ص: 96


1- سورة يوسف: 18.

فقال له عثمان: أسكت ما أنت ،و هذا فقام إليه رجل من المهاجرين.. (1)

و في رواية البلاذري في أنساب الأشراف: بالإسناد من طريق أبي مخنف قال: كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي و جوهر، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه، فخطب فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء و إن رغمت أنوف أقوام، فقال له علي: إذا تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه.

و قال عمار بن ياسر: أشهد الله إن أنفي أول راغم من ذلك.

فقال عثمان: أعلي يا ابن المتكاء (2) تجترئ؟! خذوه، فأخذ و دخل عثمان و دعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة زوج رسول الله صلّى الله عليه و آله فلم يصل الظهر و العصر و المغرب، فلما أفاق توضأ و صلى و قال: الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله.

و قام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي و كان عمار حليفاً لبني مخزوم، فقال: يا عثمان أما علي فاتقيته و بني أبيه، و أما نحن فاجترأت علينا و ضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف، أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية عظيم السرة، فقال عثمان: و انك لهاهنا يا ابن القسرية؟ قال: فإنهما قسريتان - و كانت أمه وجدته قسريتين من بجيلة - فشتمه عثمان و أمر به فأخرج، فأتى أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمار، و بلغ عائشة ما صنع بعمار فغضبت و أخرجت شعراً من شعر رسول الله صلّى الله عليه و آله و ثوباً من ثيابه و نعلاً من نعاله ثم قالت: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد! فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى ما يقول فالتج المسجد (3) و قال الناس: سبحان الله! سبحان الله! و كان عمرو بن

ص: 97


1- الإمامة و السياسة 50:1.
2- المتكاء: البظراء، المفضاة التي لا تمسك بولها، العظيمة البطن.
3- التجت الأصوات: ارتفعت فاختلطت.

العاص واجداً على عثمان لعزله إياه عن مصر و توليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح فجعل يكثر التعجب و التسبيح.

و بلغ عثمان مصير هشام بن الوليد و من مشى معه من بني مخزوم إلى أم سلمة و غضبها لعمار فأرسل إليها: ما هذا الجمع؟ فأرسلت إليه دع ذا عنك يا عثمان، و لا تحمل الناس في أمرك على ما يكرهون.

و استقبح الناس فعله بعمار و شاع فيهم فاشتد إنكارهم له (1).

4- وقوفها أمام طلحة و الزبير و عائشة، و نصحها لهما و لها بعدم الخروج على الإمام علي علیه السلام، و تذكيرها لها بما قاله النبي صلّى الله عليه و آله حينما خاطب بعض نسائه بقوله صلّى الله عليه و آله: (أيتكن تنبحها كلاب الحوأب)، و سيأتى الكلام فيه إن شاء الله.

5- ردها على معاوية عندما كان يسب الإمام علياً علیه السلام و يأمر بسبه.

6- كانت ممن يرجع إليها في المسائل الشرعية، و كانت تصحح بعض ما يروى على خلاف الواقع.

فمجمل حياتها في هذه الفترة أنها كانت ممن يشار إليها بالبنان في الوجاهة و العلم و حصافة الرأي، و لم تكن خاملة الذكر و لا مجهولة الحال، فأصبحت مرجعاً لكثير من الناس في كثير من القضايا.

ص: 98


1- الغدير 9: 28، عن أنساب الأشراف 6: 161.

الفصل الثالث: مميزات شخصيتها

اشارة

ص: 99

ص: 100

لم تكن أم المؤمنين أم سلمة رضی الله امرأة كسائر النساء، فإنها المرأة المميزة في صفاتها و مؤهلاتها، الجسدية و الروحية و النفسية، و قد أضافت إلى صفاتها التي منحها الله عزّ وجل إياها صفات اكتسبتها من هدي القرآن و إرشاد الرسول صلّى الله عليه و آله، فأثرت في مسيرتها الحياتية و الاجتماعية، فكانت المثل الأعلى للمؤمنات، و القدوة الحسنة للنساء، فلا تنطلق حينما تنطلق إلا و الحق رائدها، و لا تقف حينما تقف إلا والدين شعارها، و كانت المخلصة لزوجها الرسول صلّى الله عليه و آله و لمن وجب عليها اتباعه بعد حياته صلّى الله عليه و آله.

فدراسة مثل هذه الشخصية اللامعة تستوقف الكاتب و الباحث في كثير من نقاط حياتها، و محطات مسيرتها المتعددة، فليس عليه إلا أن يمضي قدماً للبحث في اكتشاف الأغوار البعيدة، و مدى النظرة الصائبة.

و سوف نبحث جوانب شخصيتها المتعددة في ضمن عناوين:

الأول: المميزات العقلية

جاء في الرواية أن العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان (1)، و مثل هذا الحديث ينطبق على أم سلمة رضی الله بما لهذه الكلمة من معنى، فإنها المرأة الصالحة التي جاهدت في الله لنيل مرضاته و مرضاة رسوله صلّى الله عليه و آله، و أدت الخدمات الجليلة للإسلام و المسلمين، و وقفت المواقف الشجاعة و الناصحة لترفع راية

ص: 101


1- الكافي 1 / 11.

الحق في كثير من المواقع التي شهدتها، فكانت لها فيها الكلمة المؤثرة، و النصيحة البالغة، و الحجة الواضحة.

و عندما نريد أن نكتشف أو نعرف عقل أحد على ضوء هذه المقالة لابد أن ننظر إلى مواقفه و أهدافه، و كيف كان يتعامل مع الموقف، و ما هو غرضه من الهدف، و هل أحسن التصرف لنيل ما يريد؟ أو أخطأ التوفيق لما يصبو إليه؟ و هل استطاع بكلمته أو فعله أن يؤدي الحكمة حسب ما يريدها الله و العقل؟ و هل كانت الحنكة إلى جانبه و هو يخوض غمار التجربة أو لا؟

كل هذا لابد أن نضعه في ميزان معرفة الشخصية الإسلامية العاقلة، و إلا فكثير من أعمال من يوصف بالعقل و رجاحة التفكير و حسن التدبير ما هو إلا دهاء و مكر، و حيلة و خديعة، و ما أبعد ذلك عن مسار العقل الذي يدعو إلى الخير و الرشد دائماً و أبداً، و ربما تحصل هذه الأمور ممن لا عقل له بوحي من الشيطان و جنوده.

و قبل أن ندخل مع أم سلمة رضی الله في مواقفها نذكر ما قاله المؤرخون عن هذا الجانب من شخصيتها:

قال: العسقلاني: و كانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع، و العقل البالغ، و الرأي الصائب، و إشارتها على النبي صلّى الله عليه و آله يوم الحديبية تدل على و فور عقلها، و صواب رأيها (1).

و قال في فتح الباري - بعد حديث السؤال عن الركعتين بعد صلاة العصر -: (و فيه دلالة على فطنة أم سلمة، و حسن تأتيها، بملاطفة سؤالها، و اهتمامها بأمر الدين، و كأنها لم تباشر السؤال لحال النسوة اللاتي كن عندها فيؤخذ منه إكرام الضيف و احترامه) (2).

ص: 102


1- الإصابة 4: 459.
2- فتح الباري 3 :107.

و قال أيضاً في دلالة حديث مشورتها بعد صلح الحديبية إن من جملتها: (و فضل أم سلمة، و وفور عقلها، حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة، كذا قال، و قد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسی) (1).

و قال: صاحب کتاب نساء أهل البيت: هند بنت أبي أمية اشتهرت بحصافة الرأي، تسعى لمرضاة الله و رسوله دائما (2).

و قال كحالة: هند بنت أبي أمية - أم سلمة - مهاجرة جليلة ذات رأي و عقل و كمال و جمال (3).

و قالت: الدكتورة بنت الشاطئ و هي تتحدث عن زواج أم سلمة رضی الله بالرسول صلّى الله عليه و آله: هو أحدث دخولها ضجة في دور نساء النبي صلّى الله عليه و آله، و أشاع قلقاً في الله الزوجتين الشابتين، عائشة و حفصة، ابنتي أبي بكر و عمر.

إنها ضرة جديدة عزيزة، عريقة المنبت، ذات جمال و إباء و فطنة، تزفها إلى بيت النبي صلّى الله عليه و آله أمجاد طوال عراض (4).

و أردنا نقل عبارتها بما يخص محل حاجتنا، و لا يعني هذا أننا نتفق معها في جعل حفصة ضرة لها حينئذ، فإن التحقيق التأريخي يوصلنا إلى أن حفصة - حين زواج أم سلمة - لم تكن بعد زوجة للنبي صلّى الله عليه و آله، و الذي يظهر أن حفصة كانت على وئام تام مع عائشة قبل زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله، و لهذا أخبرتها عائشة عما جاش في صدرها من الحزن حينما علمت بخطوبة النبي صلّى الله عليه و آله لأم سلمة و هي التي اشتهرت بالجمال البارع، فهونت عليها صديقتها بعض حزنها، و قد تعرضنا لذلك في فصل سابق، و لعل هذا الموقف من الضرتين هو الذي دعا الدكتورة بنت الشاطئ أن

ص: 103


1- فتح الباري 5: 347.
2- نساء أهل البيت لخليل جمعة 1: 223.
3- أعلام النساء 5 : 221.
4- نساء النبي ص 138.

تحكم بزوجية حفصة قبل أم سلمة.

و الآن إلى ما يدل على وفور عقلها:

الموقف الأول: استيعابها لقصة المسلمين في الحبشة، و ما جرى عليهم من أول أمرهم حتى رجعوا مرفوعي الرأس، فقد تقدمت القصة بحكايتها مع ذكرها الحوادث القضية بالتفصيل الدقيق، و هي لم تكن في ذلك الوقت إلا فتاة لم تدخل العشرين من عمرها، مما يدل على نباهتها و متابعتها لما يهم قضيتهم التي هاجروا من أجلها إلى بلاد الحبشة.

الموقف الثاني: ما أشارت به على الرسول صلّى الله عليه و آله يوم الحديبية، و قد استشهد بذلك المؤرخون على رجحان عقلها، و ملخص ما حصل أن الرسول صلّى الله عليه و آله لما وافق على الصلح مع قريش أنكر عليه بعض أصحابه، و لما تم إبرام عقد الصلح أمر أصحابه ليحلقوا و ينحروا و يحلوا من إحرامهم فامتنعوا، فاغتم رسول الله صلّى الله عليه و آله من ذلك، و شكا ذلك إلى أم سلمة، فقالت: يا رسول الله انحر أنت و احلق، فنحر رسول الله و حلق، و نحر القوم على حيث يقين و شك و ارتياب.. (1).

و يتجلى في هذا الموقف مدى إيمانها و تسليمها للرسول صلّى الله عليه و آله، و اتزانها في الموقف الذي نكص فيه الرجال و زلزلوا زلزالا شديدا، فيدل بالنتيجة على إدراكها العميق، و عقلها البعيد الغور.

الموقف الثالث: أسلوبها في التوسط لأخيها عندما جاء ليسلم، فامتنع

ص: 104


1- تفسير القمي 309:2، وغيره من كتب التاريخ و الحديث و أشرنا سابقاً إلى بعضها، و من جملة الكتب المصنف لابن أبي شيبة 7 / 384، 385، 388 ، 389 558. و ذكر عدة روايات في ذلك، و منها تفسير الطبري 26 / 100، فقد روى: قال عمر بن الخطاب و الله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي فقلت ألسنا على الحق و عدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟! قال: إني رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري، قلت: ألست تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، قال: فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه و متطوف به.

الرسول صلّى الله عليه و آله من قبول إسلامه لما صدر منه تجاهه صلّى الله عليه و آله في مكة المكرمة من التكذيب اللاذع، فقد روى المحدثون و المفسرون ذلك، و ها نحن نورد ما أورده القمي في تفسيره:

قوله: (وَ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّیٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا) (1) فإنها نزلت في عبد الله بن أبي أمية أخي أم سلمة رحمة الله عليها، و ذلك انه قال هذا الرسول الله بمكة قبل الهجرة.

فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله إلى فتح مكة استقبله عبد الله بن أبي أمية، فسلم على رسول الله صلّى الله عليه و آله فلم يرد علیه السلام فأعرض عنه، و لم يجبه بشيء.

و كانت أخته أم سلمة مع رسول الله صلى الله عليه و آله فدخل إليها فقال: يا أختي! إن رسول الله صلّى الله عليه و آله لقد قبل إسلام الناس كلهم و ردّ علىّ إسلامي، فليس يقبلني كما قبل غيره.

فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه و آله قالت: بأبي أنت و أمي يا رسول الله! سعد بك جميع الناس إلا أخي من بين قريش و العرب؟! رددت إسلامه و قبلت إسلام الناس كلهم إلا أخي فقال: رسول الله صلى الله عليه و صلّى الله عليه و آله: يا أم سلمة! إن أخاك كذبني تكذيباً لم يكذبني أحد من الناس، هو الذي قال: (لن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّیٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا * أَوۡ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلۡأَنۡهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفۡجِيرًا * أَوۡ تُسۡقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمۡتَ عَلَيۡنَا كِسَفًا * أَوۡ يَكُونَ لَكَ بَيۡتٌ مِّن زُخۡرُفٍ أَوۡ تَرۡقَیٰ فِی ٱلسَّمَآءِ وَ لَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّیٰ تُنَزِّلَ عَلَيۡنَا كِتَٰبًا نَّقۡرَؤُهُۥ) (2)

قالت: أم سلمة: بأبي أنت و أمي يا رسول الله صلّى الله عليه و آله ألم تقل إن الإسلام يجب ما قلبه؟

قال: نعم، فقبل رسول الله صلّى الله عليه و آله إسلامه (3)

ص: 105


1- الإسراء: 90.
2- الاسراء: 90 - 93.
3- تفسير القمي 2 :26.

الموقف الرابع: أسلوب اعتذارها عن الزواج بالنبي صلّى الله عليه و آله، فإنها اعتذرت بأنها ذات أطفال، و الأطفال من شأنهم أن يشغلوا أمهم، فتخشى أن يشغلوها عن النبي صلّى الله عليه و آله،فلا تؤدي له حقه المطلوب، و اعتذرت أيضاً بأنها امرأة غيرى و الرسول صلّى الله عليه و آله صاحب زوجات فتخشى أن يظهر عليها - بسبب الغيرة - ما يسئ إلى النبي صلّى الله عليه و آله فيحبط عملها، فمثل هذا الاعتذار من امرأة شابة، خطبها أعظم مخلوق على وجه الأرض، يدل على وفور عقلها، و حسن تفكيرها، و أنها لا تقدم العاطفة على العقل.

الموقف الخامس: مع عائشة في مكة.

و سوف نأتي بكلامها معها بالتفصيل في أحد الفصول المقبلة إن شاء الله، و ملخص ما جرى لها معها في مكة المكرمة: إن عائشة حينما أرادت الخروج إلى البصرة لإعلان الحرب ضد الإمام علي علیه السلام جاءت لتستعين بأم سلمة، و تسألها الخروج معها بحجة إصلاح أمر الأمة، و قد أغدقت عليها عائشة صفات المدح، و جمل الثناء، و أعطتها أو سمة كبيرة توجب استرخاء الأعصاب، فقالت: لها أم سلمة: لأمر ما قلت: هذه المقالة، فعرضت عليها الخروج معها فأبت عليها ذلك و منعتها هي الأخرى أيضاً، و ذكرتها بقضايا حصلت بين الرسول صلّى الله عليه و آله و بين الإمام علي علیه السلام، و بمسمع و مرأى من عائشة نفسها، تدل على فضله و تقدمه و عدم جواز الخروج عليه، و من بينها قضية نباح كلاب الحوأب، و كادت أن ترجع عائشة عما أقدمت عليه لولا ابن أختها عبد الله بن الزبير، ثم حصل من أمرها ما سيأتي.

و في هذا الموقف يتجلى عقل المرأة المؤمنة و اتزانها في موقفها.

الموقف السادس مع طلحة و الزبير.

و هو شبيه بالموقف السابق مع عائشة، فإنهما جاءا لها في مكة أيضاً، و أرادا منها الخروج معهما، فأبت عليهما، و منعتهما - هما الآخرين - عن المسير، فلم ينصاعا لها و لم تنخدع في دينها و لا في عقلها، فكانت المرأة العاقلة في الظروف الحرجة.

ص: 106

الموقف السابع: موقفها مع عثمان و هي تعظه، و سيأتي في بحث لاحق.

الموقف الثامن: مع جابر رحمة الله حينما هجم بن أرطاة على مدينة الرسول صلّى الله عليه و آله.

و قضيتها معه كما يرويها ابن كثير: في حوادث سنة أربعين من الهجرة.

قال: ابن جرير: فمما كان في هذه السنة من الأمور الجلية، توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي عن عوانة قال: أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة، و هو رجل من بني عامر بن لؤي، في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة، و عامل علي عليها يومئذ أبو أيوب، ففر منهم أبو أيوب فأتى علياً بالكوفة.

و دخل بسر المدينة و لم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى على المنبر: يا دينار و یا نجار و يا زريق! شيخي شيخي عهدي به ها هنا بالأمس، فأين هو؟ يعني عثمان بن عفان، ثم قال:

يا أهل المدينة! و الله لولا ما عهد إلى معاوية ما تركت بها محتلماً إلا قتلته، ثم بايع أهل المدينة، و أرسل إلى بني سلمة فقال: و الله ما لكم عندي من أمان، و لا مبايعة، حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، يعني حتى يبايعه.

فانطلق جابر إلى أم سلمة فقال: لها: ماذا ترين؟ إني خشيت أن أقتل، و هذه بيعة ضلالة.

فقالت: أرى أن تبايع، فإني قد أمرت ابني عمر، و ختني عبد الله بن زمعة - و هو زوج ابنتها زينب - أن يبايعا، فأتاه جابر فبايعه.

قال: و هدم بسر دورا بالمدينة ثم مضى.. (1).

و أضاف في تاريخ اليعقوبي هذه الجملة: فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي فقال: إني قد خشيت أن أقتل و هذه بيعة ضلال.

ص: 107


1- البداية و النهاية 7: 356.

قالت: إذاً فبايع فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب و يحضرون الأعياد مع قومهم. (1)

و فيها دلالة واضحة على عقلها و حسن مشورتها، و سيرها في الطريق الذي رسمه المشرع الكريم حيث أمرت جابر رحمة الله بالعمل بالتقية ليحقن بها دمه، و إن كانت البيعة بيعة ضلال كما يراها هو، و أقرته على ذلك أم سلمة رضی الله أيضاً، و هي كذلك في الواقع.

بل في فزع الصحابي الجليل إليها دلالة على مقام شامخ و فضل باذخ من جهات عدة.

و في مثل هذا الموقف و غيره من المواقف التي قام بها المسلمون من صحابة و تابعين، و علماء آخرين، من شيعة و سنة، يتبين أحقية ما عليه مذهب الشيعة الإمامية أعزّهم الله من القول بالتقية و العمل بها، فإن المتتبع لحوادث التاريخ يرى المسلمين، و كل ذي عقل و شعور يعملون بالتقية، حينما تصطلم أحدهم البلية، و يقع في مأزق الظلم و العدوان، ليحفظ بذلك نفسه و عرضه.

ون نهي بهذا الموقف هذا العنوان لندخل في عنوان آخر من عناوين شخصيتها.

الثاني: المميزات الروحية

للروح صفات تغاير صفات الجسد، فربما ترقى بالإنسان إلى أوج العظمة و تجعله أقرب إلى الله من بعض ملائكته، و قد تحط به إلى أنزل مستوى من الحيوان،، و المميزات الروحية التي تحلت بها أم المؤمنين أم سلمة رضی الله من القسم الأول، و لعل التنصيص على مثل هذا الأمر يعتبر من نافلة القول، فهي المرأة آمنت بالله سبحانه و تعالى و رسوله صلّى الله عليه و آله فأخلصت إيمانها، و استغرقت في الله

ص: 108


1- تاريخ اليعقوبي 2: 197.

في أدعيتها و عبادتها، فإن من يستقرأ مراحل حياة أم سلمة من حين إسلامها و إلى يوم وفاتها يجدها كلها عناوين ناصعة البياض، تدل على عمق إيمانها و إخلاصها مع ربها و نبيها و إمامها، فهي المرأة التي آمنت بالرسول صلّى الله عليه و آله مبكراً و أكثر الناس كافرون، مشركون، مع أنها من أسرة أغرقت في الشرك و العداوة للنبي محمد صلّى الله عليه و آله، فتحملت جراء ذلك - و هي الفتاة الشابة - جشوبة العيش، و الغربة عن الأهل و الوطن، كل ذلك لتحافظ على إيمانها و عقيدتها.

و قد بلغت من إيمانها أنها رأت جبرئيل علیه السلام، و ليس للمؤمن العادي أن يراه فضلاً عن غيره، فلا يراه إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، فهذا البيهقي يحدثنا و يقول: و ثبت أن جبرئيل علیه السلام أتى النبي صلّى الله عليه و آله و عنده أم سلمة، قال فجعل يتحدث ثم قام، فقال نبي الله صلّى الله عليه و آله لأم سلمة: من هذا؟ قالت: دحية الكلبي، ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلّى الله عليه و آله بخبر جبرئيل (1).

و قد رآها النبي صلّى الله عليه و آله أنها من أهل الجنة (2)، و رؤياه صلّى الله عليه و آله وحي منزل كما في الآية الشريفة: (وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآئِ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولاً فَيُوحِیَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُ ۚ إِنَّهُۥ عَلِیٌّ حَكِيمٌ) (3).

فلا أراني - و الحالة هذه - بحاجة إلى أن أدلل على هذا الجانب من شخصيتها، و يكفي أن نذكر هنا أمرين كمظهر من مظاهر روحها الإيمانية:

الأمر الأول: ما ورد من طريقها من الأدعية.

هناك مجموعة من الأدعية قد روتها عن الرسول صلّى الله عليه و آله و هي:

1- قال: عن عبد الله بن سيار عن أبي عبد الله علیه السلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله في بيت أم سلمة في ليلتها ففقدته من الفراش فدخلها من ذلك ما يدخل النساء

ص: 109


1- دلائل النبوة 7: 68، و إرشاد الساري للقسطلاني 7: 443، شرح صحيح مسلم للنووي 9: 338.
2- إرشاد الساري 10: 149.
3- سورة الشورى: 51.

فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت إليه و هو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي و هو يقول: (اللهم لا تنزع مني صالح ما أعطيتني أبداً، اللهم و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، اللهم لا تشمت بي عدواً و لا حاسداً أبداً، اللهم لا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً).

قال: فانصرفت أم سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله لبكائها فقال: لها: ما يبكيك يا أم سلمة؟ فقالت: بأبي أنت و أمي يا رسول الله و لم لا أبكي؟! و أنت بالمكان الذي أنت به من الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر تسأله أن لا يشمت بك عدواً أبداً، و لا حاسداً، و أن لا يردك في سوء استنقذك منه أبداً، و أن لا ينزع عنك صالح ما أعطاك أبداً، و أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً، فقال: يا أم سلمة و ما يؤمنني؟ و إنما و كل الله يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين فكان منه ما كان (1).

2- السيوطي في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا) الآية.. عن أم سلمة أن النبي صلّى الله عليه و آله كان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم قرأ: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية.

عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول الله! و إن القلوب لتتقلب؟! قال: نعم ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله أقامه و ان شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، و نسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟

قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، و اذهب غيظ قلبي

ص: 110


1- تفسير القمي 74:2.

و أجرني من مضلات الفتن ما أحييتنى (1).

و لا حاجة للقول بأن المراد من: (بين إصبعين) ليس على ظاهره للزومه التجسيم المحال على الله سبحانه و تعالى، و تحقيق ذلك في محله.

3- و أخرج البيهقي في الأسماء و الصفات عن أم سلمة، عن النبي صلّى الله عليه و آله أنه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم أنت الأول فلا شيء قبلك، و أنت الآخر فلا شيء بعدك، أعوذ بك من شر كل دابة ناصيتها بيدك، و أعوذ بك من الإثم و الكسل، و من عذاب النار، و من عذاب القبر، و من فتنة الغنى و من فتنة الفقر، و أعوذ بك من المأثم و المغرم (2).

4- و في البحار: و عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله بآخره لا يقوم و لا يقعد و لا يجي و لا يذهب إلا قال: سبحان الله و بحمده، أستغفر الله و أتوب إليه فسألناه عن ذلك؟ فقال: إني أمرت بها ثم قرأ: (إذا جاء نصر الله و الفتح) (3).

5- عن أم سلمة إن النبي صلّى الله عليه و آله كان اذا خرج من بيته قال: بسم الله، رب أعوذ بك من أن أزل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي (4).

6- عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يقول: ربنا اغفر لي و ارحمني و اهدني للطريق الأقوم (5).

7- عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول : إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فان الملائكة تؤمن على ما تقولون. قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: يا رسول الله كيف أقول؟ قال: قولي: اللهم اغفر لنا و له و اعقبني منه عقبى حسنة (6).

8- عن أبي كثير مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: علمني رسول الله صلّى الله عليه و آله أن

ص: 111


1- الدر المنثور 8:2.
2- الدر المنثور 6 :171.
3- بحار الأنوار 100:21.
4- سنن النسائي 8 :268.
5- مسند احمد 6: 303.
6- مسند أحمد 6: 306.

أقول عند أذان المغرب: اللهم إن هذا إقبال ليلك و إدبار نهارك و أصوات دعاتك فاغفر لي (1).

و أضاف في كنز العمال: و حضور صلواتك أسألك أن تغفر لى (ش ت غريب طب ك ق عن أم سلمة) (2).

9- عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه و آله على أبي سلمة و قد شق بصره فأغمضه، فصاح ناس من أهله فقال: لا تدعو على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، و ارفع درجته في المهديين، و اخلفه في عقبه في الغابرين، و اغفر لنا و له رب العالمين، اللهم افسح له في قبره، و نور له فيه (3).

10- عن أم سلمة قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه و آله: إذا أصابت أحدكم مصيبة فليقل: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فآجرني فيها، و أبدل لي بها خيرا منها (4).

11- عن شهر بن حوشب :قال قلت لأم سلمة يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله الله إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.. (5).

12- عن أم الحسن أنها سمعت أم سلمة تقول في سجودها في صلاتها: اللهم اغفر و ارحم و اهدنا السبيل الأقوم (6).

13- عن زيد بن علي علیه السلام قال: إن أم سلمة سألت رسول الله صلى الله عليه و آله عن اسم الله الأعظم فأعرض عنها فسكت، ثم دخل عليها و هي ساجدة تقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى، ما علمت منها و ما لم أعلم، و أسألك باسمك الأعظم الذي إذا

ص: 112


1- سنن أبي داود 1 :129.
2- كنز العمال 2: 156.
3- سنن أبي داود 2: 62.
4- سنن أبي داود 2 :62.
5- كنز العمال 391:1.
6- كنز العمال 8 :227.

دعيت به أجبت، و إذا سئلت به أعطيت، فإن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات و الأرض، يا ذا الجلال و الإكرام.

فقال لها: سألت يا أم سلمة باسم الله الأعظم (1).

14- و عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنه كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم أنت الأول فلا شيء قبلك، و أنت الآخر فلا شيء بعدك، أعوذ بك من شر كل دابة ناصيتها بيدك، و أعوذ بك من الإثم، و الكسل، و عذاب القبر، و فتنة الغنى، و فتنة الفقر، و أعوذ بك من المأثم و المغرم، اللهم نقني من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم باعد بيني و بين خطاياي، كما باعدت بين المشرق و المغرب، هذا ما سأل محمد ربه، اللهم إني أسألك خير الدعاء، و خير المسألة، و خير النجاح، و خير العمل، و خير الثواب، و خير الحياة، و خير الممات، و ثبتني، و ثقل موازيني، و ارفع درجتي، و تقبل صلاتي، و اغفر خطيئتي، و أسألك الدرجات العلى من الجنة آمين، اللهم إني أسألك الجنة آمين، اللهم إني أسألك خير ما فعل، و خير ما عمل، و خير ما بطن، و خير ما ظهر، و الدرجات العلى من الجنة آمين، اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، و تضع وزري، و تصلح أمري، و تطهر قلبي، و تغفر ذنبي، و تحفظ فرجي، و تنور قلبي، و تغفر ذنبي، و أسألك الدرجات العلى من الجنة آمين، اللهم نجني من النار (2).

الأمر الثاني: كونها المبادرة الأولى من نساء الرسول صلى الله عليه و آله لاختياره صلى الله عليه و آله حينما خيرهن بين اختيار الدنيا و الطلاق منه صلّى الله عليه و آله، و بين اختيار الله و رسوله صلّى الله عليه و آله و الدار الآخرة، و قد تقدمت قصة ذلك.

و مما يدلل على إيمانها العميق أيضاً تبشير الرسول صلى الله عليه و آله لها بقوله: (إنك على خير، أو إلى خير) كما ورد في سبب نزول آية التطهير، و هي كلمة عظيمة المعنى

ص: 113


1- البحار 93: 73.
2- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 10: 175.

بعيدة المغزى، و سيأتي الكلام حول سبب نزول هذه الآية و ما فيه من التعليق و نقتصر الآن في ما يخص المجال على ما جاء في تفسير القمي و إن تعدد هذا اللفظ في كتب الشيعة و السنة، قال: نزلت هذه الآية - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)، فقالت: أم سلمة: و أنا معهم يا رسول الله؟ قال: ابشري: يا أم سلمة إنك إلى خير (1)

الثالث: المميزات الأخلاقية

من الصفات التي حث عليها القرآن الكريم، و دعا لها النبي العظيم هي الأخلاق، قال: تعالى و هو يمدح نبيه صلّى الله عليه و آله: (وَ إِنَّكَ لَعَلَیٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2)، و قال: في آية أخرى: (وَ لَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَ ) (3)، و روي عن الرسول صلّى الله عليه و آله: «و إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (4)، إلى غير ذلك..

و ليس المراد من الأخلاق الإسلامية هي المجاملة المخادعة، و الابتسامة الباردة الصفراء، و إنما هي مُثل و قيم ينبغي أن يتحلى بها الإنسان المسلم، كالصدق في الحديث، و الأمانة، و العفة، و الكرم، و الشجاعة..

و السيدة أم سلمة و هي المرأة المثالية في إيمانها قد حازت على هذه الصفة بكل ما تحمل من معنى، و سوف نذكر نماذج من حياتها تدل على ذلك:

1- صدق الحديث: و هذا الخلق لا يشك في وجوده عند أم سلمة اثنان، لا من الأولين و لا الآخرين، فهي الصادقة في قولها و فعلها، حتى قالک ابن حزم في معرض كلام له في مسألة فقهية ما يدل على بلوغها المنزلة العالية في الصدق و عدم احتمال تسرب الكذب لكلامها و لو بنسبة ضئيلة جداً، قال: (.. و ليس

ص: 114


1- تفسير القمي 2 :193.
2- سورة القلم: 4.
3- سورة آل عمران: 159.
4- بحار الأنوار 16: 210، السنن الكبرى للبيهقي 10: 192

للتهمة في الإسلام مدخل، و نحن نسألهم عن أبي ذر، و أم سلمة أم المؤمنين لو ادعيا على يهودي بدرهم بحق أتقضون لهما بدعواهما؟ فإن قالوا: نعم، خالفوا الله و رسوله عليه الصلاة و السلام و إجماع الأمة المتيقن و تركوا قولهم، و إن قالوا: لا، قلنا: سبحان الله! و الله ما على أديم الأرض من يقول: إنه مسلم يتهم أبا ذر وأم سلمة رضى الله عنهما أنهما يدعيان الباطل في الدنيا بأسرها فكيف في على يهودي..) (1).

و قد حدثت أم سلمة أنها لما قدمت المدينة قالت: أنها بنت أبي أمية فكذبوها و قالوا: ما أكذب الغرائب! ثم لما ذهب أناس إلى الحج و أعطتهم رسالة إلى أهلها رجعوا يصدقونها، و ازدادت عليهم كرامة، و تقدمت القصة في فصل سابق.

2- العطف و الرأفة: و قد يتبين ذلك من عدة مواقف من حياتها، منها:

أ- موقفها مع عمار وبقاؤه عندها شهراً للاستشفاء، حينما ضربه عثمان، و قد مرت قصة ذلك.

و في هذا الموقف يتبين نصرتها للحق و المظلوم.

ب- ما تحكيه رواية السيوطي: و أخرج ابن سعد و ابن المنذر و البيهقي في سننه عن عائشة إن امرأة قالت: لها يا أمه! فقالت: أنا أم رجالكم و لست أم نسائكم.

و أخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت: أنا أم الرجال منكم و النساء (2).

و يرويها ابن سعد بصورة أجمع حيث قال: عن الشعبي عن مسروق في قوله: (النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ)، قال: قالت امرأة لعائشة: يا أمه! فقالت لها عائشة: أنا أم رجالكم و لست أم نسائكم، قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن موسى المخزومي فقال: أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية، عن أم سلمة زوج النبى صلّى الله عليه و آله أنها قالت: أنا أم الرجال منكم و النساء.

ص: 115


1- المحلى 9: 417.
2- الدر المنثور 5: 183.

و يتضح بهذه الرواية الفرق بين الأسلوبين من جهة، و عطفها على أمثال تلك المرأة من جهة أخرى.

3- تعاملها مع الرسول صلّى الله عليه و آله: و احترامها له، و عدم مقابلته بقول يسوؤه أو فعل يكرهه، و مخاطبتها له بتعبير (بأبي أنت و أمي)، و سيأتي الكلام حول هذه النقطة فيما بعد إن شاء الله.

4- أسلوبها في المعاملة: و هو من الأمور التي اعتنى بها الإسلام حتى ورد عن الرسول صلّى الله عليه و آله قوله: (الدين المعاملة)، و من شواهد حسن معاملتها للآخرين الرواية المتقدمة، و خذ فرقاً بينها و بين عائشة مثلاً، فهذا مسلم يروي في صحيحه عن أم سليم حينما سألت النبي صلّى الله عليه و آله عن غسل المرأة إذا احتلمت، فبعد أن أجاب

الرسول صلّى الله عليه و آله، قالت: أم سلمة: و تحتلم المرأة؟ و في لفظ آخر قالت: قلت: فضحت النساء (1)، و هذا الأسلوب طبيعي، بينما في المقابل نرى أسلوب عائشة مختلفاً عن هذا الأسلوب تماماً حيث قالت في نفس المصدر: (قال: قالت عائشة: فقلت لها: أفٍ لك أترى المرأة ذلك).

5- الوفاء و النصيحة: فقد نصحت عائشة في عدم خروجها على الإمام علی علیه السلام في يوم الجمل كما نصحت الزبير و طلحة و سنذكر قصة ذلك، و نصحت عثمان في ما قام به من أمور، فقد روي أنها قالت له: يا بني مالى أرى رعيتك عنك نافرين، و عن جناحك ناقرين، لا تقفو طريقاً كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يحيها، و لا تقدح بزند كان علیه السلام أكبته، إلى أن قالت: هذا حق أمومتي قضيته إليك، و إن عليك حق الطاعة (2).

6- اهتمامها برحمها: و السؤال عنهم، و العناية بالرحم و صلته من المهمات التي

ص: 116


1- صحيح مسلم الحديث 471.
2- أعلام النساء لكحالة 5 :224، مجمع الأمثال للميداني 2 : 470.

حث عليها الإسلام و وردت في ذلك أحاديث كثيرة، و ما ذكرناه في قصة أخيها المتقدمة أحد الشواهد على ذلك، و من جملة الشواهد ما رواه في مستدرك الصحيحين:

عن أم سلمة رضی الله أنها قالت: لزوجة سلمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و مع المسلمين؟!

قالت: و الله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرّار! أفررتم في سبيل الله عزّ وجل حتى قعد في بيته، فما يخرج. (1).

7- اهتمامها بشؤون الآخرين: و من شواهد ذلك اعتراضها على زوجة عثمان بن مظعون عندما رأتها لا تعتني بنفسها، فاعتذرت لها بأنه ترك النساء و اتجه نحو العبادة فشكت ذلك صلّى الله عليه و آله للنبي الله فيخطب في المسلمين و بين لهم سوء ما فهموا عن الإسلام.

8- كرمها: روى الهيثمي: و عن أم سلمة قالت: كان لي غزال من ذهب فأمرني النبي صلّى الله عليه و آله أن أتصدق به ففعلت (2).

9- أمانتها: و أصدق شاهد على ذلك استثمان الرسول صلّى الله عليه و آله لها كتباً، و كذلك فعل أهل بيته علیهم السلام مثله، و قد وردت روايات متعددة في ذلك منها:

أ- عن أبي عبد الله علیه السلام قال: إن الكتب كانت عند علي علیه السلام فلما سار إلى العراق استودع الكتب أم سلمة، فلما مضى على كانت عند الحسن، فلما مضى الحسن كانت عند الحسين، فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين ثم كانت عند ابي (3).

ب- عن عمر بن أبي سلمة عن أمه أم سلمة قالت: قلت: أقعد رسول الله

ص: 117


1- مستدرك الحاكم 3 :45.
2- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5: 174.
3- بصائر الدرجات ص 162.

عليا علیه السلام في بيتي، ثم دعا بجلد شاة فكتب فيه حتى ملأ أكارعه، ثم دفعه إلى و قال: لها من جاءك من بعدي بآية كذا و كذا فادفعيه إليه.

فأقامت أم سلمة حتى توفي رسول الله صلّى الله عليه و آله و ولي أبو بكر أمر الناس، بعثتني فقالت، اذهب و انظر ما صنع هذا الرجل، فجئت فجلست في الناس حتى خطب

أبو بكر، ثم نزل فدخل بيته، فجئت فأخبرتها فأقامت حتى إذا ولى حتى إذا ولي عمر بعثتنى فصنع مثل ما صنع صاحبه، فجئت فأخبرتها، ثم أقامت حتى ولي عثمان فبعثتني فصنع مثل ما صنع صاحباه فأخبرتها، ثم أقامت حتى ولي علي فأرسلتني فقالت: انظر ماذا يصنع هذا الرجل، فجئت فجلست في المسجد فلما خطب علي نزل فرآني في الناس فقال: اذهب فاستأذن على أمك، قال: فخرجت حتى جئتها فأخبرتها و قلت: قال لي: استأذن لي على أمك و هو خلفي يريدك، قالت: و أنا و الله أريده فاستأذن علي فدخل فقال لها: أعطيني الكتب الذي دفع إليك بآية كذا و كذا، كأني أنظر إلى أمي حتى قامت إلى تابوت لها في جوفها تابوت صغير فاستخرجت من جوفه كتابا فدفعته إلى علي، ثم قالت لي: أمي يا بني! الزمه فلا و الله ما رأيت بعد نبيك إماماً غيره (1).

ج- عن ابن عباس قال: كتب رسول الله صلّى الله عليه و آله كتاباً فدفعه إلى أم سلمة فقال: إذا أنا قبضت فقام رجل على هذه الأعواد يعني المنبر، فأتاك يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه، فقام أبو بكر و لم يأتها، و قام عمر و لم يأتها، و قام عثمان فلم يأتها، و قام علي عليه السلام فناداها في الباب، فقالت: ما حاجتك؟ فقال: الكتاب الذي دفعه إليك رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقالت: و إنك أنت صاحبه؟ فقالت: أما و الله إن الذي كنت لأحب أن يحبوك به فأخرجته إليه، ففتحه فنظر فيه ثم قال: إن في هذا لعلماً جديداً (2).

ص: 118


1- بصائر الدرجات ص 163.
2- بصائر الدرجات ص 166.

د- عن أم سلمة قالت: أعطاني رسول الله صلّى الله عليه و آله كتاباً قال: أمسكي هذا فإذا رأيت أمير المؤمنين صعد منبري فجاء يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه، قالت: فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه و آله صعد أبو بكر المنبر فانتظرته به فلم يسألها، فلما مات صعد عمر فانتظرته فلم يسألها، فلما مات عمر صعد عثمان فانتظرته فلم يسألها، فلما مات عثمان صعد أمير المؤمنين فلما صعد و نزل جاء فقال: يا أم سلمة! أريني الكتاب الذي أعطاك رسول الله صلّى الله عليه و آله فأعطيته فكان عنده، قال: قلت: أي شيء كان ذلك؟ قال: كل شيء تحتاج إليه ولد آدم (1).

و- عن أبي جعفر علیه السلام قال: سألته عما يتحدث الناس أنه دفعت إلى أم سلمة صحيفة مختومة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله لما قبض ورث علی علیه السلام سلاحه و ما هنالك، ثم صار إلى الحسن و الحسين، فلما خشيا أن يفتشا استودعا أم سلمة، ثم قبضا بعد ذلك، فصار إلى أبيك علي بن الحسين، ثم انتهى إليك أو صار إليك؟ قال: نعم (2).

ي- إعطاء الرسول صلّى الله عليه و آله لها تربة كربلاء، و هو يدل على إيمانها، و أمانتها، و ولائها لأهل البيت علیهم السلام و حبها لهم، و لعل اجتماع هذه الأمور فيها بنحو شديد هو السر في اختصاصها بهذه الميزة دون سائر نساء النبي صلّى الله عليه و آله، و الروايات في هذا المعنى كثيرة نقتصر على ذكر واحدة، و سوف نتعرض لتلك الروايات في فصل لاحق إن شاء الله:

و عن أم سلمة قالت: كان الحسن و الحسين يلعبان بين يدي رسول الله صلّى الله عليه و آله في بيتي، فنزل جبريل فقال: يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك و أومأ بيده إلى الحسين، فبكى رسول الله صلّى الله عليه و آله، و ضمه إلى صدره، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا أم سلمة! وديعة عندك هذه التربة، فشمها رسول الله صلّى الله عليه و آله و قال: ويح و كرب و بلاء،

ص: 119


1- بصائر الدرجات ص 168.
2- بصائر الدرجات ص 177.

قالت: و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا أم سلمة! إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قتل، قال: فجعلتها أم سلمة في قارورة، ثم جعلت تنظر إليها كل يوم، و تقول: إن يوما تحولين دماً ليوم عظيم (1).

الرابع: أدبها و بلاغتها

كانت أم المؤمنين أم سلمة من ربات الفصاحة و البلاغة، و من أديبات الطراز الأول، كما يكشف لنا عن ذلك ما روي عنها من نثر و شعر و لا غرو في ذلك فهي من قريش و عاشت في كنف الرسول صلّى الله عليه و آله إمام البلاغة و الفصاحة، فتسمع منه القول البليغ و اللفظ الفصيح، و تصبح و تمسي و صوت القرآن يهمس في أذنيها و عقلها و روحها، و هو الذي أخرس ألسن البلغاء و المتكلمين.

قال خليل جمعة في كتابه (نساء أهل البيت): (كانت عالمة، قارئة، فصيحة، أديبة) (2).

و يظهر من نثرها الآتى أنها كانت تعتني باختيار ألفاظها و انتقائها، فهي ممن تعتني بأدبها، فلهذا كان أدباً رفيعاً و لفظاً بديعاً.

و سوف نذكر نماذج من شعرها الذي حصلنا عليه، و نماذج من نثرها:

شعرها

* 1 *

مقطوعة رثت بها الرسول صلّى الله عليه و آله، و هي مقطوعة مشحونة بالأسى و الحكمة و الوقار:

فجعنا بالنبي و كان فينا إمام كرامة نعم الإمام

ص: 120


1- مجمع الزوائد الزوائد و منبع الفوائد 9: 189، مختصر تاریخ دمشق لابن منظور ج 4، الجزء 7، ص 134.
2- نساء أهل البيت علیهم السلام 1: 223.

و كان قواتنا و الرأس منا فنحن اليوم ليس لنا قوام

ننوح و نشتكي ما قد لقينا و يشكو فقدك البلد الحرام

فلا تبعد فكلّ فتئ كريم سيدركه و إن كره الحمام (1)

* 2 *

ما قالته في زفاف الزهراء علیها السلام:

سرن بعون الله جاراتي و اشكرنه في كل حالاتِ

و اذكرن ما أنعم رب العلى من كشف مكروه و آفاتِ

فقد هدانا بعد كفر و قد أنعشنا ربُّ السماوات

و سرن مع خير نساء الورى تُفدى بعمات و خالات

يا بنت من فضله ذو العلى بالوحي منه و الرسالات (2)

* 3 *

ما رثت به ابن عمها الوليد:

أنعى الوليد بن الوليد أبا الوليد فتى العشيرة

حامي الحقيقة ماجد يسمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثا في السنين و جعفراً (3) غدقاً و ميرة (4)

* 4 *

ما خاطبت به عائشة بعد ندمها على خروجها لحرب الجمل، و قد نصحتها أم سلمة قبل ذلك فلم تأخذ بقولها كما سيأتي، قال: الصادق علیه السلام: فلما كان من ندمها

ص: 121


1- موسوعة النبي صلّى الله عليه و آله و أهل بيته في الشعر العربي 1: 583.
2- بحار الأنوار 39: 115.
3- الجعفر: النهر الكبير الواسع.
4- بحار الأنوار 22: 226، أسد الغابة مجلد: 5: 93، باختلاف يسير.

أخذت أم سلمة تقول:

لو كان معتصماً من زلة أحدٌ كانت لعائشة الرتبي على الناس

من زوجة لرسول الله فاضلة و ذكر آي من القرآن مدراس

و حكمة لم تكن إلا لهاجسها في الصدر يذهب عنها كل وسواس

يستنزع الله من قوم عقولهم حتى يمر الذي يقضي على الراس

و یرحم الله أم المؤمنين لقد تبدلت لي إيحاشاً بإيناس

فقالت لها عائشة: شتمتيني يا أخت فقالت لها أم سلمة: لا ولكن الفتنة إذا أقبلت غطت عين البصير و إذا أدبرت أبصرها العاقل و الجاهل (1).

نثرها

* 1 *

كلامها مع أبي بكر بعد خطبة السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام، و سنذكره في مواقفها العقائدية، و فيه من حلاوة الألفاظ و طراوتها، و بلاغة المعاني و عمقها، ما يخرس الفصيح، و يعجز البليغ.

* 2 *

رسالتها إلى عثمان حينما قام بأعمال أو جبت سخط المسلمين عليه، و هي من غرر الأدب العربي، و قالت له فيها: (يا بنى! مالى أرى رعيتك عنك مُزْوَرين (2)، و عن ناحيتك نافرين، لا تعف (3) سبيلا كان رسول الله صلّى الله عليه و آله الحبها (4)، و لا تقدح زنداً كان أكباها (5)، إلى أن قالت: لست بغُفْل (6) فتُعْتَذَر، و لا بحلو فتعتزل (7)، و لا تقول،

ص: 122


1- الاحتجاج 1: 244، بحار الأنوار 29: 151.
2- معرضين.
3- لا تمح.
4- شرعها.
5- أي لا تعمل شيئاً لم يعمله الرسول صلّى الله عليه و آله أو نهى عنه.
6- من لا يرجى خيره، و لا يخشى شره.
7- إشارة إلى عصبيته لقومه بني أمية.

و لا يقال إلا لِمُظَن (1)، و لا يختلف إلا في ظنين (2)، فهذه وصيتي إياك، و حق بنوتك قضيتها إليك، و لله عليك حق الطاعة، و للرعية حق الميثاق) (3)

* 3 *

رسالة أرسلت بها إلى الإمام علي علیه السلام حينما عزمت عائشة و من معها على الخروج إلى البصرة:

قال: ابن أبي الحديد في شرح النهج: روى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل: أن أم سلمة كتبت إلى علی علیه السلام من مكة:

أما بعد: فإن طلحة و الزبير و أشياعهم أشياع الضلالة، يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة، و معهم عبد الله بن عامر بن كريز، و يذكرون أن عثمان قتل مظلوماً، و أنهم يطلبون بدمه، و الله كافيكهم بحوله و قوته، و لولا ما نهانا الله عنه من الخروج، و أمرنا به من لزوم البيت، لم أدع الخروج إليك و النصرة لك، و لكني باعثة نحوك ابني، عدل نفسي عمر بن أبي سلمة، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيراً (4).

* 4 *

رسالة و جهتها إلى عائشة حينما أزمعت على الخروج إلى البصرة، و في رواية أنها خاطبتها بذلك و هي من غرر البيان العربي بشكل عام، و تستدعي وقفة تأمل طويلة إلا أن ذلك خارج عن دائرة بحثنا، و روى هذه الرسالة أو المحادثة كثير من المؤرخين كما سننقل ذلك في الهامش، و قد اختلفت الألفاظ بعض الشيء من

ص: 123


1- موضع الظن.
2- متهم.
3- بلاغات النساء: ص 14.
4- الفتوح لابن أعثم 284:2، البحار 29 :168 ،شرح نهج البلاغة 6 :79، الدرجات الرفيعة ص 197، الكامل في التاريخ 2 :314.

مصدر لآخر، و سوف ننقل ما في كتاب الإمامة و السياسة و ما في كتاب معاني الأخبار للشيخ الصدوق، و إني أرى ذلك أفضل من بيان الفروق بينهما في الهامش، قال الأول:

و ذكروا أنه لما تحدث الناس بالمدينة بمسير عائشة مع طلحة و الزبير، و نصبهم الحرب لعلي، و تألفهم الناس، كتبت أم سلمة إلى عائشة: أما بعد: فإنك سدة بين رسول الله و بين أمته، و حجابك مضروب على حرمته، قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه، و سكن عقيرتك فلا تصحريها، الله من وراء هذه الأمة، قد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد إليك، و قد علمت أن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، و لا يرأب بهنّ إن انصدع، حماديات النساء غض الأبصار، و ضم الذيول، و ماكنت قائلة لرسول الله صلّى الله عليه و آله لو عارضك بأطراف الجبال و الفلوات على قعود من الإبل، من منهل إلى منهل، إن بعين الله مهواك، و على رسول الله صلّى الله عليه و آله تردين، و قد هتكت حجابه الذي ضرب الله عليك، و تركت عُهيداه، و لو أتيت الذي تريدين ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى الله، هاتكة حجاباً قد ضربه علي، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصنك، فابغيه منزلاً لك حتى تلقيه، فإن أطوع ما تكونين إذا ما لزمته، و أنصح ما تكونين إذا ما قعدت فيه، و لو ذكرتك كلاماً قاله رسول الله صلّى الله عليه و آله لنهشتني نهش الحية و السلام (1).

و أما رواية الشيخ الصدوق قدس سرّه فهي بسنده إلى أبي أخنس الأرحبي قال: لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة كتبت إليها أم سلمة - رضي الله عنها - زوجة النبي صلّى الله عليه و آله:

أما بعد فإنك سدّة بين رسول الله صلّى الله عليه و آله و بين أمته، و حجابه المضروب على حرمته، و قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، و سكن عقيراك فلا تصحريها، [إن]

ص: 124


1- الإمامة و السياسة 76:1.

الله من وراء هذه الأمة، قد علم رسول الله صلّى الله عليه و آله مكانك، لو أراد أن يعهد إليك لفعل، و لقد عهد فاحفظي ما عهد، فلا تخالفي فيخالف بك، و اذكري قوله علیه السلام في نباح الكلاب بحوأب، و قوله: (ما للنساء و الغزو)، و قوله صلّى الله عليه و آله: (انظري يا حميراء ألا تكوني أنت)، علت علت، بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد، و إن عمود الإسلام لن يثاب بالنساء إن مال، و لن يرأب بهن إن صدع، حماديات النساء غض الأبصار، و خفر الأعراض، و قصر الوهازة، ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلّى الله عليه و آله عارضك ببعض الفلوات، ناصة قلوصاً، من منهل إلى آخر! إن بعين الله مهواك، و على رسول الله تردین، قد وجهت سدافته، و تركت عهيداه، لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: (ادخلي الفردوس) لاستحيت أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه و آله، هاتكة حجاباً قد ضربه علي، اجعلي حصنك بيتك، و رباعة الستر قبرك، حتى تلقيه و أنت على تلك الحال، أطوع ما تكونين لله ما لزمته، و أنصر ما تكونين للدين ما جلست عنه، لو ذكرتك بقول تعرفينه لنهشتني نهش الرقشاء المطرق (1).

و تفسير ألفاظ هذه الرسالة ننقلها عن كتاب معاني الأخبار للصدوق عليه الرحمة:

قولها - رحمة الله عليها - (إنك سدة بين رسول الله صلّى الله عليه و آله) أي إنك باب بينه و بين أمته في حريمه و حوزته، فاستبيح ما حماه، فلا تكوني أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك لتحوجي الناس إلى أن يفعلوا مثل ذلك.

و قولها: (فلا تندحيه) أي لا تفتحيه فتوسعيه بالحركة والخروج، يقال: (ندحت

ص: 125


1- معاني الأخبار ص 375، و هذه الرسالة كما ذكرنا ذكرها عدة من المؤرخين و الرواة، منهم الشيخ المفيد في كتاب الجمل: ص 236، و الاختصاص: ص 116، و الطبرسي في الاحتجاج 1 :167، و المجلسي في البحار 32: 128، و ابن قتيبه في غريب الحديث :2 182 ، و ابن طيفور في بلاغات النساء ص 7، و اليعقوبي في تاريخه 2: 180، و ابن أبي الحديد في شرح النهج 6: 220، و ابن الأثير في النهاية، نساء أهل البيت الخليل جمعة 1: 262، و تجد ألفاظها الغريبة مبثوثة في كتب اللغة مع الإشارة إلى أنها وردت في كلام لأم سلمة.

الشيء إذا وسعته و منه يقال: (أنا في مندوحة عن كذا) أي في سعة.

و تريد بقولها: (قد جمع القرآن ذيلك) قول الله عز وجل: (وَ قَرۡنَ فِی بُيُوتِكُنَّ وَ لَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَیٰ) (1).

و قولها: (و سكن عقيراك (من عقر الدار و هو أصلها، و أهل الحجاز يضمون العين، و أهل نجد يفتحونها، فكانت (عقيراً) (اسم مبني من ذاك على التصغير، و مثله ما جاء مصغراً (الثريا) و (الحميا) و هي سورة الشراب، و لم يسمع بعقيرا إلا في هذا الحديث.

و قولها: (فلا تصحريها) أي لا تبرزيها و تباعديها و تجعليها بالصحراء، يقال: (أصحرنا) إذا أتينا الصحراء، كما يقال: (أنجدنا) إذا أتينا نجداً.

و قولها: (علت علت) أي ملت إلى غير الحق، و العول الميل و الجور، قال الله عز وجل: (ذَٰلِكَ أَدۡنَیٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ) (2)، يقال: (عال يعول) إذا جار.

و قولها: (بل نهاك عن الفرطة في البلاد)، أي عن التقدم و السبق في البلاد لأن الفرطة اسم في الخروج و التقدم، مثل غرفة و غرفة، يقال: (في فلان فرطة) أي تقدم و سبق يقال: (فرطته في المال)، أي سبقته.

و قولها: (إن عمود الإسلام لن يثاب بالنساء إن مال)، أي لا يرد بهن إلى استوائه، (ثبت إلى كذا) أي عدت إليه.

و قولها: (لن يرأب بهن إن صدع) أي لا يسد بهن، يقال: (رأيت الصدع و لأمته فانضم).

و قولها: (حماديات النساء) هي جمع حمادي، و يقال: (قصاراك أن تفعل ذلك، و حماداك)، كأنها تقول: حمدك و غايتك.

ص: 126


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة النساء: 3.

و قولها: (غض الأبصار) معروف.

و قولها و خفر الأعراض)، الأعراض جماعة العرض و هو الجسد، و (الخفر) الحياء، أرادات أن محمدة النساء في غض الأبصار، و في التستر للخفر الذي هو الحياء، و (قصر الوهازة) و هو الخطو تعني بها أن تفل خطوهن.

و قولها (ناصة قلوصاً من منهل إلى آخر، أي رافعة لها فى السير و (النص) سير مرفوع و منه يقال: (نصصت الحديث إلى فلان إذا رفعته إليه، و منه الحديث: (كان رسول الله له يسير العنق (1)، فإذا وجد فجوة نص تعني زاد في السير.

و قولها: (إن بعين الله مهواك)، تعنى مرادك لا يخفى عليه.

و قولها: (و على رسول الله تردين) فتخجلي من فعلك، و قد وجهت سدافته إي هتكت الستر لأن السدافة الحجاب و الستر، و هو اسم مبني من أسدف الليل إذا ستر بظلمته، و يجوز أن تكون أرادت وجهت سدافته) تعني: أزالتها من مكانها الذي أمرت أن تلزميه و جعلتها أمامك.

و قولها: (و تركت عهيداه تعني بالعهيدة التي تعاهده و يعاهدك، و يدل على ذلك قولها: (لو قيل لي: ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى رسول الله ، هاتكة حجاباً قد ضربه علي).

و قولها: (اجعلي حصنك بيتك، و رباعة الستر قبرك)، فالربع المنزل، و الرباعة الستر ما وراء الستر، تعني اجعلي ما وراء الستر من المنزل قبرك، و معنى ما يروى و وقاعة الستر قبرك هكذا رواه القتيبي، و ذكر أن معناه و وقاعة الستر موقعة من الأرض إذا أرسلت. و في رواية القتيبي لو ذكرت قولاً تعرفينه نهشتني نهش الرقشاء المطرق. فذكر أن الرقشاء سميت بذلك للرقش في ظهرها، و هي النقط، و قال: غير القتيبي: الرقشاء من الأفاعي التي في لونها سواد وكدورة. قال:

ص: 127


1- العنق: السير الواسع السريع.

و (المطرق) المسترخي جفون العين.

الخامس: الجانب العلمي

من الأبعاد التي امتازت بها شخصية أم المؤمنين أم سلمة البعد العلمي، فقد كانت من الصحابيات الفقيهات اللاتي يرجع إليهن في أخذ الفقه و آداب الشريعة، فإنها حملت من الرسول صلّى الله عليه و آله علوماً و معارف جمة (1)، و لو قارنا بينها و بين بعض أمهات المؤمنين - فضلاً عن نساء أخريات - لرأينا الفارق الكبير في هذا الجانب، فبل لو قارنا بينها وبين رجال من الصحابة لرأينا الفرق جد كبير أيضاً، ومما يدلل على هذا الجانب من حياتها المملوءة بالعطاء أمور كثيرة هي الميزان لمعرفة العالم من غيره، و سوف نأتي على ذلك فى ضمن أمور.

الأمر الأول: اهتمامها بالعلم والاستماع إلى الرسول صلّى الله عليه و آله فيما يوحى إليه و يأمر به، فإن الإصغاء للعلم و حب التعلم و المعرفة هو الحجر الأساس لنيل الدرجات العلمية العالية، و مما يشهد لهذا ما رواه مسلم:

عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله إنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، و لم أسمع ذلك من رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلما كان يوماً من ذلك و الجارية تمشطني فسمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: أيها الناس! فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء! فقلت: إني من الناس، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: إنى لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم

ص: 128


1- تشترط الشيعة الإمامية في المجتهد الذي يرجع إليه في الفتوى أن يكون رجلاً لأدلة أقاموها في الأبحاث الفقهية العالية، فالرجوع لمثل أم سلمة لم يكن كرجوع المقلد إلى المجتهد، و إنما هو رجوع إلى الراوي فيما يرويه عن المعصوم علیه السلام، ثم هو بدوره يستفيد الحكم من الخبر الواصل إليه عن طريق الثقة، و نفس حفظ هذه الروايات و استفادة الأحكام منها يكفي لإطلاق العالم على صاحبها، فحفظ أم سلمة للأخبار الكثيرة و استفادتها للحكم الشرعي منها و إمكان تطبيقها على مواردها هو بنفسه دليل على علمها و فقاهتها.

فيذب عني كما يذب البعير الضال فأقول: فيم هذا؟! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً (1).

و في رواية الإمام أحمد هكذا: .. عبد الله بن رافع قال: كانت أم سلمة تحدث: أنها سمعت النبي صلّى الله عليه و آله يقول على المنبر وهي تمتشط: أيها الناس! فقالت لماشطتها: لفي رأسي، قالت: فقالت: فديتك إنما يقول: أيها الناس! قلت: ويحك أو لسنا من الناس! فلفت رأسها و قامت في حجرتها، فسمعته يقول: أيها الناس! بينما أنا على الحوض جيء بكم زمراً، فتفرقت بكم الطرق، فناديتكم ألا هلموا إلى الطريق، فناداني مناد من بعدي، فقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فقلت: ألا سحقاً .. ألا سحقاً (2).

فيستفاد من هاتين الروايتين مدى اهتمامها بالعلم و معرفة ما يقوله الرسول صلّى الله عليه و آله.

الأمر الثاني: مقدار ما روي عنها.

ذكر العيني: روي لها عن النبي صلّى الله عليه و آله ثلاثمائة و ثمانية و سبعون حديثاً (3).

و هكذا ذكر خليل جمعة في كتابه (نساء أهل البيت) (4)، و كحالة في كتابه أعلام النساء، و أضاف: (أخرج لها منها في الصحيحين (29) حديثاً، و المتفق عليه منها، (131) حديثاً، و أفرد البخاري بثلاثة، و مسلم بثلاثة عشر ) (5).

و أما الكاتبة آمنة الحسنى فقد قالت: (كل المصادر الحديثية، و أصحاب التراجم تنقل عن بعضها أن عدد أحاديث أم سلمة رضی الله 387 حديثاً.

و قد توصلت بعد بحث متواصل و عمل دؤوب عن أحاديثها في الأصول الحديثية الآنفة الذكر، أن عدد أحاديث أم سلمة سبعمائة و ثمانية و ثمانون حديثاً، و لو استقصيت أحاديثها رضی الله في جميع مصادر الحديث لبلغت إلى ما يقارب ألفي حديث بالمكرر) (6).

ص: 129


1- صحیح مسلم 7: 67.
2- مسند أحمد 6: 297.
3- عمدة القاري للعيني ج 1 جزء 2: 172.
4- نساء أهل البيت 1: 223.
5- أعلام النساء 5: 226.
6- أم سلمة أم المؤمنين 2 : 583.

و هذا العدد لا يستهان به في نظر علماء الرجال و الحديث، مع الأخذ بعين الاعتبار الأحاديث التي لم تصل أيدينا لها مما ضاع في طيات الزمن، و الأحاديث التي روتها الشيعة عنها، و لم تسمح أنفس أهل السنة بروايتها رغباً أو رهباً، و سيأتي بعض ذلك في البحوث المقبلة إن شاء الله.

الأمر الثالث: رجوع الصحابة و التابعين لها.

هناك روايات كثيرة تفيد رجوع الصحابة و التابعين إليها فيما أشكلت عليهم من مسائل، و في بعضها تصحيح لروايات صحابة آخرين، فمن ذلك:

1- روى النسائي:.. قال: سمعت عبد الرحمان بن هرمز الأعرج يقول: حدثني ناعم مولى أم سلمة رضى الله عنها: أن أم سلمة سئلت أتغتسل المرأة مع الرجل؟ قالت: نعم إذا كانت كيسة، رأيتني و رسول الله صلّى الله عليه و آله نغتسل من مركن واحد، نفيض على أيدينا حتى ننقيهما ثم نفيض عليها الماء، قال: الأعرج لا تذكر فرجاً و لا تباله (1).

2- ابن وهب قال: أخبرني عمرو عن بكير عن كريب: أن ابن عباس، و المسور بن مخرمة، و عبد الرحمن بن أزهر رضى الله عنهم، أرسلوه إلى عائشة رضى الله عنها، فقال: و اقرأ علیها السلام منا جميعاً، و سلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، و قل لها: إنا أخبرنا أنك تصلينهما، و قد بلغنا أن النبي صلّى الله عليه و آله نهى عنهما، و قال ابن عباس: و كنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنهما فقال كريب: فدخلت على عائشة فبلغتهاما أرسلوني، فقالت: سل أم سلمة.

فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي صلّى الله عليه و آله ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل و عندي نسوة من بني حرام من الأنصار،

ص: 130


1- سنن النسائي 1: 129.

فأرسلت إلى الجارية فقلت: قومي بجنبه قولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين و أراك تصليهما؟ فإن أشار بيده فاستأخري عنه ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: يا بنت أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر، و إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان (1).

و لابد من التنبيه على أمر و هو أن هناك زيادة في الحديث لم يأت بها البخاري حفظاً لمقام عائشة، و البخاري - من هذه الناحية - دقيق كل الدقة! و لا يضره لو روى الزيادة المذكورة فإن العصمة لأهلها، و لم يدّع العصمة عائشة أحد من المسلمين فيما نعلم، و إن كانت عالمة مكثرة لرواية الحديث.

و إليك هذه الرواية برواية غيره لتعرف ما أقول:

.. حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، قال: أجمع أبي على العمرة، فلما حضر خروجه قال: أي بني! لو دخلنا على الأمير فودعناه؟ قلت: ما شئت، قال: فدخلنا على مروان و عنده نفر، فيهم عبد الله بن الزبير، فذكروا الركعتين التي يصليهما ابن الزبير بعد العصر، فقال له مروان: ممن أخذتهما يا ابن الزبير؟ قال: أخبرني بهما أبو هريرة عن عائشة، فأرسل مروان إلى عائشة: ما ركعتان يذكرهما ابن الزبير: أن أبا هريرة أخبره عنك: أن رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يصليهما بعد العصر؟ فأرسلت إليه أخبرتني أم سلمة.

فأرسل إلى أم سلمة: ما ركعتان زعمت عائشة: أنك أخبرتيها: أن رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يصليهما بعد العصر؟ فقالت: يغفر الله لعائشة! لقد وضعت أمري على غير موضعه، صلى رسول الله له الظهر، و قد أتي بمال، فقعد يقسمه حتى أتاه المؤذن بالعصر، فصلى العصر ثم انصرف إلي و كان يومي، فركع ركعتين خفيفتين، فقلت:

ص: 131


1- صحيح البخاري 2: 67.

ما هاتان الركعتان يا رسول الله أمرت بهما؟ قال: لا ولكنهما ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر، فشغلني قسم هذا المال حتى جاءني المؤذن بالعصر، فكرهت أن أدعهما.

فقال ابن الزبير الله أكبر، أليس قد صلاهما مرة واحدة؟! و الله لا أدعهما أبداً، و قالت أم سلمة: ما رأيته صلاهما قبلها و لا بعدها (1).

و في رواية أخرى رواها أحمد بن حنبل هكذا:

حدثني يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحرث قال: سألته عن الركعتين بعد العصر؟ فقال: دخلت أنا و عبد الله بن عباس على معاوية، فقال معاوية: يا ابن عباس لقد ذكرت ركعتين بعد العصر، و قد بلغني: أن أناساً يصلونهما، و لم نر رسول الله له صلاهما، و لا أمر بهما، قال: فقال ابن عباس: ذاك ما يقضي الناس به ابن الزبير، قال فجاء ابن الزبير فقال: ما ركعتان قضى بهما الناس؟ فقال ابن الزبير: حدثتني عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله، قال: فأرسل إلى عائشة رجلين: أن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام و يقول: ما ركعتان زعم ابن الزبير: أنك أمرتيه بهما بعد العصر؟ قال: فقالت عائشة: ذاك ما أخبرته أم سلمة.

قال: فدخلنا على أم سلمة فأخبرناها ما قالت عائشة، فقالت: يرحمهما الله! أولم أخبرها أن رسول الله صلّى الله عليه و آله قد نهى عنهما؟! (2).

و لا يخفى أن النافلة المبتدأة - بعد صلاة العصر - محل خلاف بين علماء المسلمين فذهب الشيعة الإمامية إلى كراهتها في هذا الوقت، و ذهب جمهور أهل السنة إلى حرمتها، و تحقيق ذلك ليس من شؤون الكتاب.

3-.. عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله قالت: إني امرأة أطيل ذيلي، فأمشى في المكان القذر. فقالت: قال رسول

ص: 132


1- مسند أحمد 6: 299.
2- مسند أحمد 6: 303.

الله صلّى الله عليه و آله: يطهره ما بعده (1).

4-.. عن كثير بن زياد قال: حدثتني الأزدية يعني مسة، قالت: حججت فدخلت على أم سلمة فقلت: يا أم المؤمنين! إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة المحيض، فقالت: لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي صلّى الله عليه و آله لم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلّى الله عليه و آله بقضاء صلاة النفاس (2).

و في هذا المتن اضطراب واضح فإن السؤال عن صلاة الحائض، لا النفساء، ثم على فرض استعمال النفاس في الحيض كما يظهر من بعض الروايات إلا إن الحيض لا يستمر أربعين يوماً، و إن كان النفاس يستمر كذلك في نظر أهل السنة.

5- حدثنا بكار بن يحيى، حدثتني جدتي قالت: دخلت على أم سلمة، فسألتها امرأة من قريش عن الصلاة في ثوب الحائض؟ فقالت: أم سلمة قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله فتلبث إحدانا أيام حيضها، ثم تطهر فتنظر الثوب الذي كانت تقلب فيه، فإن أصابه دم غسلناه و صلينا فيه، و إن لم يكن أصابه شيء تركناه، و لم يمنعنا ذلك من أن نصلي فيه.

و أما الممتشطة فكانت إحدانا تكون ممتشطة، فإذا اغتسلت لم تنقض ذلك، ولكنها تحفن على رأسها ثلاث حفنات، فإذا رأت البلل في أصول الشعر دلكته، ثم أفاضت على سائر جسدها (3).

6- عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن أمه أنها سألت أم سلمة: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الخمار و الدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها (4).

7- عن يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه و آله و صلاته؟

ص: 133


1- سنن ابن ماجة 1: 177، سنن أبي داود :1 95، سنن الترمذی 1: 96.
2- سنن أبي داود 1: 78.
3- سنن أبي داود 1: 90.
4- سنن أبي داود 1: 152.

فقالت: و ما لكم و صلاته؟! كان يصلي و ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، و نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءته حرفاً حرفاً (1).

8- رجوع ابن عباس و أبي هريرة لها كما في البخاري و غيره فراجع (2).

الأمر الرابع: عدد الراوة عنها.

يعطي علماء الرجال و الحديث أهمية كبرى لكثرة الرواة عن شخصية ما، فكثرة الرواة - و لا سيما المعتبرين منهم كالعلماء و أصحاب الحديث و المشايخ، و من عرف بالدقة و التأمل و عدم الرواية عن كل أحد - بمثابة توثيق جماعي للمروي عنه، مضافاً إلى هذا أنه يكشف عن بلوغ صاحبه مرتبة جليلة من العلم دعت الآخرين للاستفادة منه، و الانتهال من معينه، و قد بلغ عدد من روى عن أم سلمة مائة راو بين صحابي و تابعي، رجل و امرأة، بينما لم ترو إلا عن أربعة فقط و هم: الرسول صلّى الله عليه و آله، و فاطمة الزهراء علیها السلام، و جعفر بن أبي طالب علیه السلام، و زوجها الأول أبي سلمة، و أما الراوون عنها فهم كما يلي:

1- آمنة والدة محمد بن زيد المهاجر.

2- إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي.

3- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي.

4- أبو عياض المدني.

5- أبو كثير مولى أم سلمة.

6- أسلم بن يزيد أبو عمران التجيبي.

7- الأسود بن يزيد بن قيس أبو عمر النخعي.

8- أم محمد بن قيس.

9- أم مساور الحميرية.

ص: 134


1- سنن أبي داود 1: 330.
2- صحيح البخاري 6: 67.

10 - أم موسى الكوفية.

11 - أمينة بنت عبد الله أم محمد.

12 - بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث أبو سهل الأسلمي المدني.

13 - جسرة بنت دجاجة العامرية.

14 - الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري.

15 - حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر التيمية.

16 - حكيمة بنت أمية بن الأخنس أم حكيم.

17- حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري.

18- خيرة مولاة أم سلمة، أم الحسن البصري.

19- زاذان مولى طلحة.

20 - ذكوان أبو صالح السمان الزيات.

21- ربعي بن حراش بن جحش أبو مريم الغطفاني العبسي.

22- رميثة بنت الحارث بن الطفيل الأزدية.

23- زيد بن أبي عتاب.

24- زينب بنت أبي سلمة المخزومية.

25- سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري

26- سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي.

27 - سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه و آله.

28 - سلمة بن عبد الله بن عمر.

29- سلمة بن معاوية أبو ليلى الكندي.

30- سلمى البكرية.

31- سليمان بن بابيه المكي.

ص: 135

32- سليمان بن يسار أبو أيوب الهلالي.

33- سواء الخزاعي.

34- شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي.

35- شهر بن حوشب أبو سعيد الأشعري الحمصي.

36 - صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية.

37- صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أم طلحة أم حجير العبدرية.

38- ضبة بن محصن العنزي.

39- عامر بن أبي أمية.

40- عامر بن شراحيل أبو عمر الشعبي الحميري.

41- عبد بن عبد أبو عبد الله الجدلي.

42 - عبد الرحمن بن ثابت السهمي، مولى عمرو بن العاص.

43- عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي.

44- عبد الرحمن بن شيبة بن عثمان العبدري الحجبي.

45- عبد الله بن بريدة بن الحصب الأسلمي المروزي.

46- عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، (ببة).

47- عبد الله بن رافع، أبو رافع المخزومي.

48 - عبد الله بن زمعة بن الأسود.

49- عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني.

50- عبد الله بن عباس.

51- عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.

52- عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

53- عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي.

ص: 136

54- عبد الله بن فروخ.

55- عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي.

56- عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد اللیثی.

57- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي.

58- عبيد الله بن القبطية، المهاجر الكوفي.

59- عثمان بن عبد الله بن موهب التيمي.

60- عروة بن الزبير بن العوام.

61- عطاء بن أبي رباح أسلم.

62- عطاء بن يسار الهلالي

63 - عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي.

64 - الإمام علي بن الحسين السجاد علیه السلام.

65- علي بن داود الناجي الساجي.

66 - عمر بن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، ربيب النبي صلی الله علیه و آله.

67- عمر بن سفينة.

68- عوف بن الحارث بن الطفيل الأزدي.

69- فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية.

70- قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي.

71- قيس المدني.

72- كبشة بنت أبي مريم.

73- كريب بن أبي مسلم مولى بن عباس.

74- لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي.

75- مجاهد بن جبر أبو الحجاج المخزومي.

ص: 137

76- الإمام محمد بن علي الباقر علیه السلام.

77- مسة أم بسة الأزدية.

78- مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي.

79- مصعب بن عبد الله.

80- المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي.

81- معرور بن سويد الأسدي.

82- مقسم بن بجرة مولى عبد الله.

83- ناعم بن أجيل الهمداني.

84- نافع بن جبير بن مطعم بن عدي النوفلي.

85- نافع مولى بن عمر.

86- نبهان أبو يحيى.

87- هند بنت الحارث الفراسية.

88- وهب بن عبد بن زمعة الأسدي.

89- وهب مولى أبي أحمد بن جحش.

90- يحيى بن الجزار العرني.

91- يعلى بن مملك المكي.

92- حميدة أم ولد لعبد الرحمن بن عوف.

93- أم عبد الله بن بريدة.

94- جدة عبد الرحمن بن محمد بن جدعان.

95- السائب مولى أم سلمة.

96- مهاجر بن القبطية، ولعله عبيد الله المتقدم.

97- والد عطية الطفاوي.

ص: 138

98- نافع مولى أم سلمة.

99- جدة بكار بن يحيى.

100- والدة هنيدة بن خالد الخزاعية.

هذا ما ذكر في ما يخص الرجال و الحديث (1)، و يمكن إضافة عائشة، و عبد الرحمن بن عوف كما يظهر من بعض الروايات فيكون الراوون عنها مائة و اثنين، و هناك بعض الروايات عبرت بمولى لأم سلمة، فيحتمل أن يكون أحد الرواة المذكورين بأسمائهم من مواليها كما يحتمل أن يكون شخصاً آخر.

و لا يفوتنا أن نبين شيئاً و هو: أنهم ذكروا من جملة الرواة عنها الإمام علي بن الحسين السجاد علیه السلام و ابنه الإمام محمد الباقر علیه السلام و هو - إن صح - فليس بنحو يكون مستفيداً من روايتها، إذ أن الإمام المعصوم عنده من الطرق ما لا يحتاج فيه إلى مثل أم سلمة مع حفظ مقامها العلمي و الإيماني، فرواية الإمام عنها قد تكون لإبراز الحجة في أمر ما.

ثم إن رواية الإمام الباقر علیه السلام عنها مستغربة لصغر سنه حين وفاتها، فعمره في حدود الخامسة أو ما يقربها نقصاناً أو زيادة.

مسائل خلافية

فقه الخلاف أو المسائل الخلافية فقه ذو جذور تاريخية قديمة، و لم يكن مستحدثاً في العصور المتأخرة عن عصر النبي صلّى الله عليه و آله بزمان كثير، بل ما إن مات النبي صلّى الله عليه و آله و انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا و بدأت المسائل المختلفة، و كل من المختلفين يحدث عن النبي صلّى الله عليه و آله بما يعضد به مذهبه.

بل يمكن إرجاع بعض الجذور إلى زمن الرسول صلّى الله عليه و آله، أي من حين خالفه بعض

ص: 139


1- و اطلعت أخيراً على ما أحصته الكاتبة أمينة الحسني من رواة أم سلمة فبلغوا مائة و ثمانية و خمسين راوياً، راجع كتابها حول أم سلمة 2 : 465.

صحابته كما في متعة الحج و التيمم.

و هذا النحو من الاختلاف له أسباب كثيرة تعرض لها العلماء في المباحث المختصة، و من بينها اختلاف الرواة، فربما يسمع الراوي كلاماً عاماً، بينما يسمع الآخر ما يخصصه، و ربما ينسى الراوي شيئاً من الكلام يكون قرينة على المراد، و ربما لم يتنبه إلى القرينة المنصوبة لفظية كانت أو مقامية، و ربما يتعمد الكذب على الرسول صلّى الله عليه و آله! و قد أخبر الرسول صلّى الله عليه و آله بكثرة من سيكذبون عليه.. و ربما..

و في روايات أم سلمة ما يشير إلى ذلك الاختلاف أحياناً، وما يرفع الاختلاف أحياناً أخرى، و ننقل بعض تلك المسائل:

1- مسألة رضاع الكبير (1).

من المسائل التي وقعت مثار جدل بين نساء النبي صلّى الله عليه و آله، مسألة رضاع الكبير، و لعل الجدل في ذلك قد تسرب إلى الصحابة و التابعين أيضاً، فذهبت عائشة إلى جوازه و إنه يوجب التحريم - حرمة المرضعة على المرتضع و بالعكس - و كانت تأمر أختها أو بنات أخواتها لإرضاع من تحب أن يدخلوا عليها من الرجال، فير تضعوا منهن ثم يدخلوا عليها، و أبت سائر نساء النبي صلّى الله عليه و آله أن يدخل عليهن أحد بهذه الرضاعة، و قلن بعدم إيجابها للتحريم، و قد روت عائشة في ذلك ما يدعم موقفها، و أجبن أمهات المؤمنين عنه.

و الغريب في الأمر - بغض النظر عن النصوص الواردة في الباب - أنه كيف

ص: 140


1- نحن مشينا في هذا البحث على ما عند القوم من روايات، و إن كان للتوقف مجال في ذلك، أي يمكن الخدشة في أصل رواية رضاع الكبير، إذ فيه من الإساءة لزوج الرسول صلّی الله علیه و آله ما لا يوصف مما يخص الشرف، فإن عائشة عندما تأذن لأختها أن ترضع الكبير يكون الغرض هو الدخول عليها كدخول أي محرم آخر، و من هنا تدخل الإساءة على الرسول صلّی الله علیه و آله، فيمكن أن تكون هذه الأحاديث مدسوسة من قبل أعداء الإسلام للنيل من قدس النبي صلی الله علیه و آله، ولكن القوم رووها كمسلم من المسلمات و عملوا بما فيها، نعوذ بالله من ذلك.

استطاعت عائشة أن تقبل بهذه الفكرة، مع أن الرضاع يلازم المس و النظر فكيف ساغ للكبير - قبل حصول الرضاعة المحرمة - أن يمس جسد المرأة الأجنبية و ينظر إليها؟! ما بالك بالنظر إلى مكان حساس و مثير للرجل كالنهدين، و هي لا زالت حراماً عليه! اللهم إنا لا تعلم السر في ذلك!

روايات عائشة في ذلك هي:

1- عن عائشة قالت: جاءت سهلة إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فقالت: يا رسول الله! إن سالماً يدخل علينا، و قد عقل ما يعقل الرجال، و علم ما يعلم الرجال؟ قال: أرضعيه تحرمي عليه بذلك.

2- عن عائشة أن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، و عقل ما عقلوه، و إنه يدخل علينا، و إني أظن في نفس أبی حذيفة من ذلك شيئاً، فقال: النبي صلّى الله عليه و آله أرضعيه تحرمي عليه، فأرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فرجعت إليه فقلت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة (1).

و إني لأظن أن بقاء سالم على ما هو عليه خير لأبي حذيفة من ارتضاعه من ثدي امرأته و هو كبير، و مما يهون الخطب أنا لا نعقل و لا نتصور وقوع هذا العمل، و لا أمر الرسول صلّى الله عليه و آله به و هو صاحب الشرف الباذخ، و العفة العالية، و الطهارة التي ليس فوقها طهارة!

و كانت عائشة تستدل بهذه القضية على جواز دخول الرجال الذين تحب أن يدخلوا عليها فتأمر أختها أو بنات أختها بإرضاعه كما تقدم، و كن نساء النبي صلّى الله عليه و آله في صدد الرد عليها، فهذه أم سلمة تقول:

أخبرني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، أن أمه زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن

ص: 141


1- سنن النسائي 6: 105.

أمها أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله كانت تقول: أبي سائر أزواج النبي صلى الله عليه و آله أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة، و قلن لعائشة: و الله ما نرى هذه إلا رخصة رخصها رسول الله صلّى الله عليه و آله خاصة السالم، فلا يدخل علينا أحد بهذه الرضاعة، و لا يرانا (1).

و نقل الرواية بها المقدار لا يفي بالموضوع و لا يدل على المطلوب بشكله الواضح، فلابد لنا أن نستقري بعض الروايات الأخرى لتفيد في الموضوع، فهذا الإمام مسلم قد نقل الخبر هكذا:

.. سمعت حميد بن نافع يقول: سمعت زينب بنت أبي سلمة تقول: سمعت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله تقول لعائشة: و الله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة، فقالت: لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فقالت: يا رسول الله! و الله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم؟ قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله ارضعیه، فقالت: إنه ذو لحية! فقال: ارضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة، فقالت: و الله ما عرفته في وجه أبي حذيفة.

.. أخبرني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة: أن أمه زينب بنت أبي سلمة أخبرته: أن أمها أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلّى الله عليه و آله أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة، و قلن لعائشة: و الله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلّى الله عليه و آله لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا (2).

و أوضح من ذلك لبيان القصة كاملة ما رواه أبو داود في سننه: حدثني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه و آله و أم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالماً، و أنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، و هو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلّى الله عليه و آله زيداً، و كان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، و ورث ميراثه حتى أنزل الله سبحانه و تعالى في ذلك:

ص: 142


1- سنن النسائي 6: 106.
2- صحیح مسلم 4: 169.

(ادْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ) إلى قوله: (فَإِخْوٰانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوٰالِيكُمْ)، فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى و أخاً في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري، و هي امرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول الله! إنا كنا نرى سالماً ولداً و كان يأوي معي و مع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلاً، و قد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلّى الله عليه و آله: و أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة تأمر بنات أخواتها، و بنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، و يدخل عليها، و إن كان كبيراً خمس رضعات، ثم يدخل عليها، و أبت أم سلمة و سائر أزواج النبى صلّى الله عليه و آله أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد، و قلن لعائشة : و الله ما ندرى لعلها كانت رخصة من النبي صلّى الله عليه و آله لسالم دون الناس! (1).

و قد حاربت أم سلمة هذه الفكرة بأكثر من ذلك، لما ترى من خطورتها، و عدم كونها من الشريعة في شيء، و أن عائشة قد اشتبهت في فهمها لهذه المسألة الفقهية، فقد نقل السيوطي في الدر المنثور ما لفظه:

و أخرج الترمذي و صححه عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام (2).

و أيد أم سلمة كثير من الصحابة، فقد نقل السيوطي أيضاً: و أخرج ابن عدي و الدارقطني و البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين.

و أخرج الطيالسي و البيهقي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لا رضاع بعد فصال، و لا يتم بعد احتلام.

ص: 143


1- سنن أبي داود 457:1.
2- الدر المنثور 1 :288.

و أخرج عبد الرزاق في المصنف، و ابن عدي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لا يتم بعد حلم، و لا رضاع بعد فصال.. (1).

و جاء في مجمع الزوائد: و عن أبي عطية، أن أبا موسى أتاه رجل فقال: إن امرأة ورم ثديها، فجعل يمصه و يمجه، فدخل بطنه؟ فقال: لا أراها تصلح له. فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك؟ فقال: لم تحرم عليك، إنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم و شد العظم، و لا رضاع بعد فطام، فقيل لأبي موسى، فقال: لا تسألوني عن شيء ما أقام هذا بين أظهرنا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله. رواه الطبراني و فيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي و هو ثقة (2).

2- زيارة القبور للنساء.

في زيارة القبور أبحاث كثيرة خارجة عن وضع الكتاب فلا ندخل في متاهاتها المتعددة، و ما نحب أن نشير إليه في هذا العنوان هو أن غرض المؤمنين من زيارة القبور ليس عبادتها، و هو أمر لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء غير أن ذكرنا له إشارة لمن يريد أن يتلاعب بعقول العامة ليثير حفيظتهم ضد الشيعة، بل ضد سائر فرق المسلمين غير فرقة واحدة تبعت ابن تيمية في فهمها و عقائدها مع أن علماء أهل السنة فضلا عن غيرهم قد ردوا عليه، بل كفروه كما يتضح من تاريخ حياته المملوءة بالمفاجئات.

فالغرض من زيارة قبور المؤمنين و الأولياء الصالحين الثابت استحبابها بالأدلة المعتبرة من كتب الفريقين، أن يستلهم من تلك الروح القريبة من الله سبحانه و تعالى المثل و الأخلاق و القيم و.. و يضاف إلى ذلك العظة و العبرة.

و أما زيارة القبور بالنسبة إلى النساء فيكشفه لنا ما يأتي:

و عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: نهيتكم عن زيارة

ص: 144


1- الدر المنثور 1: 288.
2- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 4: ص 262.

القبور فزوروها، فإن لكم فيها عبرة (1).

و من الواضح أن الرواية مطلقة فيشمل الخطاب الرجال و النساء كما في سائر الخطابات الإسلامية، و إمعاناً في توضيح الفكرة نذكر ما رواه ابن أبي الحديد في شرحه حيث قال:

قال الواقدي: و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يزور قتلى أحد في كل حول، و إذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، و كان أبو بكر يفعل مثل ذلك، و كذلك عمر بن الخطاب، ثم عثمان، ثم معاوية حين يمر حاجاً و معتمراً.

قال: و كانت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله تأتيهم بين اليومين و الثلاثة فتبكي عندهم و تدعو، و كان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ماله بالغابة فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول: السلام عليكم ثلاثاً، و يقول: لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة، قال: و مرّ رسول الله صلّى الله عليه و آله على قبر مصعب بن عمیر فوقف عليه و دعا وقرأ: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)، ثم قال: إن هؤلاء شهداء عند الله القيامة، فأتوهم يوم فزوروهم و سلموا عليهم، و الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه، و كان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزه فيدعو ويقرأ و يقول مثل ذلك، و كانت أم سلمة رحمها الله تذهب فتسلم عليهم في كل شهر فتظل يومها، فجاءت يوماً و معها غلامها نبهان فلم يسلم فقالت: أي لكع ألا تسلم عليهم؟ و الله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة (2).

فهذه سيدة نساء العالمين السيدة الزهراء علیها السلام لتذهب لتزور قبور شهداء أحد، و هذه أم المؤمنين أم سلمة تذهب لزيارتهم أيضاً، و تكثران التردد عليها، ومن

ص: 145


1- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 3: 58.
2- شرح نهج البلاغة 15 / 40.

المتيقن به أنهما لا تفعلان ما لا يجوز في نظر الإسلام، و فعلهما هذا يدل على رجحان هذا العمل من وجهة نظر إسلامية، فليعد القائل بالحرمة حساب أوراقه، فلا نراه إلا قد خلط بين الأوراق، نسأل الله العصمة و السداد في القول و العمل.

3- التبرك بشعر الرسول صلّى الله عليه و آله.

اعتبرت طائفة قليلة من أهل السنة التبرك بآثار الأنبياء و الصالحين شركاً أو بدعة محرمة، و هذه المسألة كسابقتها، و يكفى للرد على مثل هذه الدعاوى الزائفة ما رواه البخاري عن أم سلمة رضی الله:

1- حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن عثمان بن عبدالله بن موهب قال أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله بقدح من ماء و قبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيه شعر من شعر النبي صلّى الله عليه و آله و كان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبه فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراً (1).

و لقد كانت أم سلمة رضی الله تحتفظ بشعر الرسول صلى الله عليه و آله كما تدل عليه هذه الرواية الآتية:

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سلام عن عثمان بن عبدالله بن موهب قال دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعرا من شعر النبي صلّى الله عليه و آله المخضوباً، و قال لنا أبو نعيم حدثنا نصير بن أبي الأشعث عن ابن موهب أن أم سلمة أرته شعر النبي صلّى الله عليه و آله أحمر (2).

و هنا كلام جميل للذهبي يحسن ذكره و قد ذكره تعليقاً على كلام عبيدة السلماني فنذكر كلام السلماني ثم كلام الذهبي:

قيل لعبيدة السلماني: إن عندنا من شعر رسول الله صلّى الله عليه و آله شيئاً من قبل أنس بن مالك.

ص: 146


1- صحيح البخاري الحديث رقم 5446.
2- الحديث رقم: 5447.

فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء و بيضاء على ظهر الأرض.

قال الذهبي: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، و هو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب و فضة بأيدي الناس. و مثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه و آله بخمسين سنة، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شفقة من إناء شرب فيه؟.

فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك، أكنت تعدّه مبذراً أو سفيها؟ كلا (1).

4- الطيب للمحرم.

اختلف المسلمون في مسألة الطيب للمحرم فذهب علماء الشيعة الإمامية إلى القول بحرمته على المحرم مع استثناء بعض الموارد، و أما رأي أهل السنة فننقل ما ذكره صاحب المغني:

قال: و جملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الاحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، و لا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك و الغالية، أو أثره كالعود و البخور و ماء الورد، هذا قول ابن عباس و ابن الزبير و سعد بن ابي وقاص و عائشة و أم حبيبة و معاوية، و روي عن محمد بن الحنفية و أبي سعيد الخدري و عروة و القاسم و الشعبي و ابن جريج، و كان عطاء يكره ذلك و هو قول مالك و روي ذلك عن عمر و عثمان و ابن عمر.. (2).

و نلاحظ أن أم سلمة توافق ما عليه الشيعة الإمامية فقد جاء في كتاب مجمع الزوائد:

ص: 147


1- سير أعلام النبلاء 42:4
2- المغني لابن قدامه 3: 226.

و عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لا تطيبي و أنت محرمة، و لا تمسي الحناء فإنه طيب. رواه الطبراني في الكبير و فيه ابن لهيعة و حديثه حسن و فيه کلام (1)

و بهذا نختم هذا الفصل من حياتها لنلتقي مع فصل آخر إن شاء الله تعالى.

ص: 148


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج 3 ص 218، کنز العمال 5 : 121.

الفصل الرابع: مكانتها الاجتماعية

اشارة

ص: 149

ص: 150

تتمتع أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بمنزلة كبيرة و عظيمة في نفوس المسلمين عامة، منذ أول بزوغ الإسلام و إلى يومنا هذا، فهي شخصية كبيرة و محترمة في نظر أكبر شخصية في الدولة الإسلامية و هو الرسول محمد صلّى الله عليه و آله، كما أنها شخصية عظيمة عند غيره من الصحابة و التابعين و سائر المسلمين أيضاً.

و لم يكن هذا النفوذ الروحي و القوي ناشئاً من كونها أماً للمؤمنين و زوجة لرسول رب العالمين فقط و فقط، بل لما تمتعت به من صفات، و أضافته إلى ذلك أخلاق و إيمان و تقوى و رجاحة عقل و حسن رأي و اتزان في الموقف، قال تعالى: (يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)، فنفي الشبيه عنهن مشروط بشرط التقوى، و عامل التقوى في الإنسان باستطاعته أن يخلق من الضعيف قوياً و من الذليل عزيزاً، كما أن ما يقابل هذا العامل يصنع العكس، و مراحل التأريخ الإسلامي - لا سيما في انطلاقته الأولى - أكبر شاهد على ما نقول، فلم تكن قوة قريش الطاغية، و لا جبروتها المخزي إلا زيادة في انحطاط أهلها الذين قاوموا بروز الإسلام و انتشاره، كما أن إيمان الضعفاء و تقوى العبيد جعلتهم في القمة العالية، فيذكرهم الذاكر حين يذكرهم بانحناءة ذليلة أمام تلك المواقف الجليلة، و احترام كبير، أمام ذلك العمل الخطير، فمن من الناس لا يهتز عند سماعه لموقف ياسر و سمية أول شهيدين في دنيا الإسلام؟!

فأم سلمة رضي الله عنها نالت ما نالت من بعد اجتماعي لأنها أم للمؤمنين من جهة، و لأنها اتقت ربها من جهة أخرى فحققت شرط الآية الكريمة، و لأنها وقفت

ص: 151

مواقف جليلة و شجاعة أبرزت فيها إيمانها القوي و حبها المخلص للمسلمين و المسلمات، و لأنها كانت عالمة يفد الناس عليها ليستقوا من منهلها العذب، و يضاف إلى ذلك كله كونها ابنة (زاد الراكب) و لهذا زادت عند الأنصار كرامة عندما عرفوا أنها ابنته، و في هذا الفصل سوف نبحث عن علاقاتها الاجتماعية و نفوذها في المجتمع الإسلامي.

علاقتها بالرسول صلّى الله عليه و آله

أ- علاقتها بالرسول صلّى الله عليه و آله

لا أعني بهذه العلاقة علاقة الزوجية، مع أنها على رأس العلاقات الاجتماعية، فإن هذا الأمر قد تقدم الكلام فيه و ما يرتبط به، و هو أمر واضح لكل أحد، مع مشاركة نسوة ثمان لها في ذلك، بل أريد العلاقة التي يمكن أن تميزها عن سائر زوجات الرسول صلّى الله عليه و آله عدا السيدة خديجة علیها السلام، فهناك مواقف تحكي منزلتها عنده صلّى الله عليه و آله، و منزلته عندها، و نستعرض أولاً مكانتها عند الرسول صلّى الله عليه و آله، ثم نعقب ذلك بمكانته عندها:

مكانتها عند الرسول صلّى الله عليه و آله

لأم سلمة مكانة عند الرسول صلّى الله عليه و آله اختصت بها دون سائر نسائه ما عدا السيدة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد علیها السلام، يعرف ذلك كل من اطلع على سيرة الرسول صلّى الله عليه و آله مع نسائه و هو صاحب الخلق العظيم مع الناس كافة، و إنما استثنينا السيدة خديجة علیها السلام، لأنها رابعة سيدات نساء العالم، لا يشاركهن في ذلك غيرهن من نساء الأولين و الآخرين، من زوجات الأنبياء و المرسلين و غيرهن و لما عرف من أقواله صلّى الله عليه و آله في حقها أمام نسائه حتى غارت بعضهن من كثرة ما يذكرها و يثني عليها، و قالت: إن الله أبدلك خيراً منها، فرد عليها بكل صراحة بأنه لم يبدله الله خيراً منها، فهي التي آمنت به حين كذبه الناس، و ليس الكلام حول ذلك من

ص: 152

مختصات الكتاب، و هذه إشارة لابد من التعرض لها، و نلمح لمكانة أم سلمة رضي الله عنها في ضمن نقاط:

1- المعروف عند الشيعة الإمامية أن أم سلمة رضي الله عنها أفضل نساء النبي صلّى الله عليه و آله، بعد السيدة خديجة، و لقد جاءت الرواية المصرحة بذلك كما في الخصال و غيره: (أفضلهن خديجة ثم أم سلمة ثم ميمونة) (1).

و هذه الدعوى لها ما يؤيدها من روايات أهل السنة أيضاً كما سيمر عليك من خلال ما يأتي (2)إشارة إلى قوله تعالى في سورة التحريم: (إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا).(3)تظاهرها على الوصى كان بانكارها الوصية اليه و بتحاملها عليه مدة حياته بعد النبي، أما تظاهرها على النبي و تأهب الله لنصرة نبيه عليها، فمدلول عليهما بقوله تعالى: (وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جبْرِيلُ وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلاٰئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ).(4) هذا و الذي قبله إشارة إلى قوله تعالى: ( عَسىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوٰاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمٰاتٍ مُؤْمِنٰاتٍ) الآية.(5)إشارة إلى قوله تعالى: (ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ)، إلى آخر السورة. (6)إشارة الی قوله تعالی: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ ۖ تَبۡتَغِی مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَ) .(7)اخرجه البخاري في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد و السير من صحيحه، و هو في ص 125 من جزئه الثاني بعد باب فرض الخمس و باب أداء الخمس بيسير؛ و لفظه في صحيح مسلم خرج رسول الله من بيت عائشة فقال: رأس الكفر هاهنا حيث يطلع قرن الشيطان، فراجع ص 503 من جزئه الثاني. (8)راجع من صحيح البخاري باب ما يجوز من العمل في الصلاة و هو في ص 143 من جزئه الأول..(9)ارجافها بعثمان، و انکارها كثيرا من أفعاله، و نبزها اياه، و قولها: اقتلوا نعثلا فقد كفر، مما لا يخلو منه كتاب يشتمل على تلك الحوادث و الشؤون و حسبك ما في تاريخ ابن جرير و ابن الاثير و غيرهما، و قد أنبها جماعة من معاصريه، و شافهها بالتنديد بها إذ قال لها:

فمنك البداء و منك الغير و منك الرياح و منك المطر

و انت امرت بقتل الامام و قلت لنا إنه قد كفر.

إلى آخر الابيات و هي في ص 80 من الجزء الثالث من الكامل لابن الاثير حيث ذكر ابتداء أمر وقعة الجمل.(10)حيث قال عز من قائل: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُولىٰ).(11)كان الجمل الذي ركبته عائشة يوم البصرة يدعى العسكر، جاءها به يعلى بن أمية، و كان عظيم الخلق شديدا، فلما رأته أعجبها، فلما عرفت ان اسمه عسکر ،استرجعت و قالت: ردوه لا حاجة لي فيه، و ذكرت ان رسول الله ذكر لها هذا الاسم و نهاها عن ركوبه، فغيروه لها بجلال غير جلاله، و قالوا لها أصبنا لك أعظم منه و أشد قوة فرضيت به، و قد ذكر هذه القضية جماعة من أهل الاخبار و السير فراجع ص 80 من المجلد الثاني من شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة.(12)و الحديث في ذلك مشهور و هو من أعلام النبوة و آيات الاسلام، و قد اختصره الامام أحمد بن حنبل اذ أخرجه من حديث عائشة في مسنده ص 52 و ص 97 من جزئه السادس. و كذلك فعل الحاكم اذ أخرجه في ص 120 من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك، و اعترف الذهبي بصحته اذ أورده في تلخيص المستدرك. (13)

ص: 153


1- الخصال: باب التسعة ص 419، وسائل الشيعة باب 140 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث!! البحار 22: 193، الحدائق الناضرة: 23 / 95.
2- و المناسب هنا أن ننقل ما جاء في كتاب المراجعات المراجعة 78، للسيد شرف الدين أعلى الله مقامه من المقارنة بين أم سلمة و عائشة، و ذلك لأن المعروف عند أهل السنة هو تفضيل عائشة على نساء النبي صلّى الله عليه و آله، فتعجب الشيخ سليم البشري من تقديم السيد حديث أم سلمة على حديث عائشة فأفاض السيد القول في ذلك، و إليك نص عبارته: (إن السيدة أم سلمة لم يصغ قلبها بنص الفرقان العظيم، و لم تؤمر بالتوبة في محكم الذكر الحكيم
3- و لا نزل القرآن بتظاهرها على النبي، و لا تظاهرت من بعده على الوصي
4- و لا تأهب الله لنصرة نبيه عليها و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير، و لا توعدها الله بالطلاق، و لا هددها بان يبدله خيرا منها
5- و لا ضرب امرأة نوح و امرأة لوط لها مثلا
6- و لا حاولت من رسول الله صلّى الله عليه و آله أن يحرم على نفسه ما أحل الله له
7- و لا قام النبي صلّى الله عليه و آله خطيبا على منبره فأشار نحو مسكنها قائلا: «هاهنا الفتنة، هاهنا الفتنة هاهنا الفتنة؛ حيث يطلع قرن الشيطان
8- و لا بلغت في آدابها أن تمد رجلها في قبلة النبي صلّى الله عليه و آله، و هو يصلي - احتراما له ولصلاته - ثم لا ترفعها عن محل سجوده حتى يغمزها، فإذا غمزها رفعتها، حتى يقوم فتمدها ثانية
9- و هكذا كانت و لا أرجفت بعثمان، و لا ألبت عليه، و لا نبزته نعثلا و لا قالت اقتلوا نعثلا فقد كفر
10- و لا خرجت من بيتها الذي أمرها الله عزوجل أن تقر
11- فيه، و لا ركبت العسكر
12- قعودا من الابل تهبط و اديا و تعلو جبلا، حتى نبحتها كلاب الحوأب، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله أنذرها
13- بذلك، فلم ترعو و لم تلتو عن قيادة جيشها اللهام الذي حشدته علی الامام.

2- جاء في كتابي المستدرك و الإصابة: (عن هند بنت الحارث الفراسية رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: إن لعائشة مني شعبة ما نزلها أحد، قال: فلما تزوج رسول الله صلّى الله عليه و آله أم سلمة سئل رسول الله صلّى الله عليه و آله فقيل: يا رسول الله ما فعلت الشعبة؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه و آله، فعلم أن أم سلمة قد نزلت عنده) (1).

و لا نريد أن نحاسب صدر الرواية الآن، أعني أن لعائشة شعبة ما نزلها أحد في الوقت الذي تروي عائشة روايات تفيد حب الرسول صلّى الله عليه و آله الكبير للسيدة خديجة بحيث أثار في نفسها الغيرة عليها مع أنها لم ترها!

3- جاء في كتاب الطبقات ما لفظه: (عن فاطمة الخزاعية قالت: سمعت عائشة تقول يوماً: دخل علي يوماً رسول الله صلّى الله عليه و آله فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة، فقلت: ما تشبع من أم سلمة) (2).

و جاء فيه أيضاً:

قال الزهري: فقلت لعلي بن الحسين كن عائشة وزينب ،هما، قال: إن أم سلمة قد كان لها عند رسول الله منزل و محبة (3).

ص: 154


1- مستدرك الحاكم 4 / 20، الإصابة 8 / 151، تاريخ الطبري 11 / 604.
2- الطبقات لابن سعد 8 / 80.
3- الطبقات 8 / 172.

4- تصريح عائشة بمنزلة أم سلمة.

في الاختصاص بسنده عن أبي كبسة و يزيد بن رومان قالا: لما اجتمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت أم سلمة رضى الله عنها و كانت بمكة فقالت: يا ابنة أبي أمية! كنت كبيرة أمهات المؤمنين، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقمو في بيتك، و كان يقسم لنا في بيتك، و كان ينزل الوحي في بيتك (1).

و جاء في البحار أيضاً: أقول و روى أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه: أن عائشة أتت أم سلمة فقالت لها: أنت أقرب منزلة من رسول الله صلّى الله عليه و آله في نسائه، و أول من هاجر معه، و كان رسول الله يبعث إلى بيتك ما يتحف له ثم يقسمه بيننا (2)

5- ذكر المؤرخون والمحدثون والمفسرون حادثة اعتزال الرسول الله صلّى الله عليه و آله لنسائه و اختلفوا في سبب ذلك، و ممن تعرض لهذه الحادثة صاحب البحار فهو يروي

ص: 155


1- البحار 32 / 162.
2- البحار 32 / 167 و ورد ذلك أيضاً في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 216.

رواية مطولة نذكر ما يخص محل الشاهد منها: (قال: و لما قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله من سفره ذلك نزل منزل أم سلمة زوجته، فأقام بها شهراً لا ينزل منزلاً سواء من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك، قال: فشكت عائشة وحفصة ذلك إلى أبويهما فقالا لهما: إنا لنعلم لم صنع ذلك، و لأي شيء هو، امضيا إليه فلاطفاه في الكلام و خادعاه عن نفسه، فإنكما تجدانه حيياً..) (1).

6- اختصاصها بهديته الثمينة.

عن أم سلمة قالت: لما تزوجني رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة و أواقي مسك و لا أراه إلا قد مات و سترد الهدية، فإن كان كذلك فهي لك، قالت: فكان كما قال النبي صلّى الله عليه و آله ، مات النجاشي و ردت الهدية، فدفع النبي صلّى الله عليه و آله إلى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، و دفع الحلة و سائر المسك إلى أم سلمة (2).

7- قبول شفاعتها و وساطتها عنده.

جاء في الاستيعاب: ثم أنه (عبد الله بن أبي أمية) خرج مهاجراً إلى النبي صلّى الله عليه و آله فلقيه بالطريق بين السقيا و العرج و هو يريد مكة عام الفتح فتلقاه فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه و آله مرة، فدخل على أخته و سألها أن تشفع له فشفعت له أخته أم سلمة، و هى أخته لأبيه فشفعها رسول الله صلّى الله عليه و آله فأسلم و حسن إسلامه (3).

و قد تقدم أسلوبها الحسن في خطابها مع الرسول صلّى الله عليه و آله، و هي تشفع لأخيها.

و جاء في المعجم الكبير أيضاً بعد ذكر قصة الثلاثة الذين تأخروا عن الرسول صلّى الله عليه و آله ثم تابوا: (و كانت أم سلمة نعم الشفيع إذا كانت ليلتها قالت: يا رسول الله هلال بن أمية تكلمه فينا، حتى إذا كانت ذات ليلة قال: أشعرت أن الله قد تاب على الثلاثة، قالت: ألا أرسل إلى أهليهم فأبشرهم؟ قال: إذا لا يذرنا الناس ننام هذه

ص: 156


1- البحار 28 / 107.
2- صحيح ابن حبان 11 / 516، المعتصر 2 / 259.
3- الاستيعاب 869/8.

الليلة ولكن أصبحي..) (1)

8- أمانتها عنده.

و تقدمت الروايات المستفيضة في ذلك.

9- روايات تزويج الزهراء علیها السلام، فإنها تدل على اعتماد الرسول صلّى الله عليه و آله عليها في تجهيز سيدة نساء العالمين، و ستأتي روايات الزواج في فصل لاحق إن شاء الله.

و هذه الروايات تدل بوضوح على عظيم منزلتها عند الرسول صلّى الله عليه و آله، كما يدل بعضها على أفضلية أم سلمة رضي الله عنها على سائر نساء النبي صلى الله عليه و آله ممن عشن معها في زمان واحد بما فيهم عائشة على خلاف ما اشتهر بين أهل السنة و الجماعة، فإن نزولها هذه المنزلة عند الرسول صلّى الله عليه و آله، و اختصاصها بما لم يجعله لهن لم يكن بدافع العاطفة أو لهوى في نفسه، حاشاه ذلك و هو الذي بلغنا قوله تعالى: (إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ) (2)، و الأكرم عند الرسول صلّى الله عليه و آله هو الأكرم عند الله، الله كما أن الأكرم عند الله لابد أن يكون هو الأكرم عند الرسول صلّى الله عليه و آله بلا إشكال، و هو الذي بلغنا أيضاً قوله تعالى: (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَیٰٓ * انۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ يُوحَی) (3)، و فعله يوافق قوله، فلم يكن فعل الرسول صلّى الله عليه و آله عن هوى أبداً..

هذا بعض ما يحكي عن عظيم منزلتها عنده.

*منزلته عندها

و أما منزلته صلّى الله عليه و آله عندها فهي لجهات متعددة تشترك في بعضها مع سائر المسلمين و المسلمات كما تختص هي و زوجاته الأخريات في جهات أخرى.

أما جهات الاشتراك فعلى رأس القائمة كونه النبي للناس كافة الذي أمر الله سبحانه و تعالى بحبه و الولاء المطلق له و البراءة من أعدائه، فلا يؤمن المؤمن بالله

ص: 157


1- المعجم الكبير 19 / 86.
2- سورة الحجرات: 13.
3- سورة النجم: 3 - 4.

و رسوله و هو لا يقدم الرسول الله صلّى الله عليه و آله على نفسه و أهله و ما ملكت يمينه.

و منها ما تمتع به الرسول صلّى الله عليه و آله من صفات تأسر كل من اتصل به أو سمع عنه، و يكفي في مدحه قوله تعالى: (وَ إِنَّكَ لَعَلَیٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1).

و هناك الشواهد الكثيرة التي دلت على حبها الكبير للرسول صلّى الله عليه و آله، و احترامها له و تأدبها في حضرته، فلم يسمع منها كلمة نابية تسيء إليه، بخلاف ما حدث المحدثون عن غيرها من نسائه صلّى الله عليه و آله عن عمد أو غير عمد، و سوف نشير إلى بعض ذلك في ما يأتي إن شاء الله.

جاء في المناقب في ضمن رواية: (عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله و كانت ألطف نسائه و أشدهن له حباً) (2)، و في هذه العبارة المختصرة ما يغني عن التفصيل و التطويل.

و من الشواهد على ما نقول:

1- مخاطبتها له صلّى الله عليه و آله بقولها: (بأبي أنت وأمي)، أو ما شاكل ذلك من عبارات الفداء و التضحية الدالة على عمق الاحترام و قمة الإخلاص.

جاء في المعجم الأوسط: عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي و أمي هل علينا جهاد؟ (3).

و في مجمع الزوائد: و عن أم سلمة قالت: بينا رسول الله صلّى الله عليه و آله مضطجعاً في بيتي إذ اختفز جالساً و هو يسترجع قلت: بأبي أنت و أمي ما شأنك تسترجع (4)؟

و جاء في البحار:

(فروي عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان نبي الله صلّى الله عليه و آله قائلاً في بيتي إذا نتبه فزعاً من منامه فقلت له: الله جارك، قال: صدقت، الله جاري لكن..) (5).

ص: 158


1- سورة القلم: 4.
2- المناقب للخوازمي ص 146.
3- المعجم الأوسط 197/6.
4- مجمع الزوائد 7 / 316.
5- البحار 21 / 81.

2- عن كثير بن زيد عن المطلب قال: لقد دخلت أيّم العرب على سيد المسلمين أول العشاء عروساً، و قامت آخر الليل تطحن يعنى أم سلمة (1).

3- إهداؤها العبيد له صلّى الله عليه و آله أو عتقها لهم بشرط خدمة الرسول صلّى الله عليه و آله.

سعيد بن جمهان، حدثني سفينة قال: قالت لي أم سلمة: أعتقك و أشترط عليك أن تخدم رسول الله صلّى الله عليه و آله ما عشت، قال: قلت: لو أنك لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلّى الله عليه و آله ما عشت، قال: فأعتقتني و اشترطت علي أن أخدم رسول الله صلّى الله عليه و آله ما عشت رواه أبو داود في كتاب السنن (2).

و في البحار: و أبو ضمرة كان مما أفاء الله عليه من العرب، و هو أبو ضميرة، و يقال: اشترته أم سلمة للنبي صلّى الله عليه و آله فأعتقه (3).

4- تبركها بما يرتبط بالرسول صلّى الله عليه و آله.

أ- عن عثمان بن موهب قال: كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم، فيه من شعر رسول الله، فكان إذا أصاب إنساناً الحمى بعث إليها فخضخضته فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه، قال: فبعثني أهلي إليها فأخرجته.. (4) .

ب- قال فأقبل رسول الله صلّى الله عليه و آله على أبي موسى و بلال كهيئة الغضبان فقال: إن هذا قد ردّ البشرى فاقبلا أنتما، فقالا: قبلنا يا رسول الله، قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله بقدح فيه ماء، ثم قال لهما: اشربا منه و أفرغا على وجوهكما أو نحوركما، فأخذا القدح ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلّى الله عليه و آله فنادتنا أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما في إنائكما، فأفضلا لها منه طائفة (5).

ص: 159


1- المنتخب من كتاب أزواج النبي صلّى الله عليه و آله 2 / 43، الطبقات لابن سعد 8 / 92، تاريخ الطبري 11 / 604 عن ابن عمر.
2- سنن البيهقي 10 / 291، سنن أبي داود الحديث 3430، مسند أحمد الحديث: 25486.
3- البحار 22 / 256.
4- البداية و النهاية 21/6، البخاري الحديث: 5446 باختلاف يسير.
5- صحیح ابن حبان 2/ 318.

5- جاء في المستدرك من جملة رواية: أما بلغك أن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال ذات يوم و هو عند زوجته أم سلمة: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار، فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة، فقامت فقدمته إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلما رآه أعجبه فتناول تمرة ثم أمسك فقال من أين لكم هذا؟ فقالت أم سلمة: بعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فأتانا بدل صاعين هذا الصاع الواحد و ها هو كل، فألقى التمرة بين يديه فقال: ردوه لا حاجة لي فيه التمر بالتمر (1).

و الشاهد من ذكر هذه الرواية هو أنها ما إن سمعت بأن النبي صلّى الله عليه و آله يشتهي تمر العجوة حتى أرسلت إلى من عنده ليأتي به إلى الرسول صلّى الله عليه و آله و بذلت إزاء ذلك ما يكون عوضاً عن ما تأخذه، غير أنها لم تكن عالمة بالحكم الشرعي في هذا المورد - كما يظهر من الرواية - فإن بيع المكيل من جنس واحد لا يكون إلا بالتساوي، و أما مع الزيادة في أحدهما يكون من الربا المحرم.

6- مراقبتها لقولها في حق الرسول صلّى الله عليه و آله.

عن يحيى بن الجزار قال: دخل نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله على أم سلمة فقالوا: يا أم المؤمنين حدثينا عن سرّ رسول الله صلّى الله عليه و آله، قالت: كان سره و علانيته سواء، ثم ندمت قالت: أفشيت سر رسول الله صلّى الله عليه و آله، قالت: فلما دخل أخبرته فقال: أحسنت (2).

7- تجمع عرقه و تجعله في الطيب.

8- خطابها للرسول صلّى الله عليه و آله في زواج السيدة الزهراء علیها السلام.

9- ما ورد عنها مما يرتبط بوفاته صلّى الله عليه و آله.

ص: 160


1- المستدرك 2 / 49.
2- مجمع الزوائد 8 / 284، مسند أحمد الحديث: 25419.

أ- جاء في البحار من جملة رواية مفصلة: ثم قام رسول الله صلى الله عليه و آله فدخل بيت أم سلمة و هو يقول: رب سلّم أمه محمد من النار و يسر عليهم الحساب، فقالت أم سلمة: يا رسول الله ما لي أراك مغموماً متغير اللون؟ فقال: نعيت إلى نفسي هذه الساعة، فسلام لك في الدنيا فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد أبداً، فقالت أم سلمة: و احزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمداه، ثم قال صلّى الله عليه و آله: ادع لي حبيبة قلبي و قرة عيني فاطمة تجيء، فجاءت فاطمة و هي تقول: نفسي لنفسك الفداء و وجهي لوجهك الوقاء (1).

ب- عن عبد الله بن وهب عن أم سلمة قالت: بينا نحن مجتمعون نبكي لم ننم و رسول الله صلّى الله عليه و آله في بيوتنا و نحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرارين في السحر، قالت أم سلمة: فصحنا و صاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، و أذّن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي صلّى الله عليه و آله بكى و انتحب، فزادنا حزناً، وعالج الناس الدخول إلى قبره فغلق دونهم، فيالها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت، إذ ذكرنا مصيبتنا به صلّى الله عليه و آله (2).

و يظهر من بعض الروايات أنها كانت تودع الرسول الله صلّى الله عليه و آله على الباب حينما يريد الخروج من منزلها (3)، و هذا الفعل غاية في احترام الزوجة لزوجها.

فمن هذه الروايات نعرف مدى احترام أم سلمة رضي الله عنها للرسول صلّى الله عليه و آله، فهي بذلك تمثل الخلق الإسلامي الرفيع في معاملتها لزوجها من جهة، و في معاملتها لنبيها و نبي بني آدم كافة من جهة أخرى، و إن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل - بعد إيمانها العميق - على معرفتها لتعاليم الإسلام معرفة حقيقية، و اقتناعها بها قناعة تامة لا يريبها شيء.

ص: 161


1- البحار 22 / 509.
2- البداية والنهاية لابن كثير 5 / 270.
3- سنن أبي داود الحديث 4430.

و لكي يتضح لنا أهمية هذا الموضوع علينا أن نقارن بين هذه الأساليب التي قامت بها أم سلمة رضي الله عنها، و بين الأساليب التي قامت به بعض نساء النبي صلّى الله عليه و آله تجاهه ليتضح أن الفرق جد كبير بين الموقفين، و نقتصر من ذلك على بعض ما رواه علماء أهل السنة، فمن ذلك:

1- عن أنس بن مالك، أنهم كانوا يوماً عند رسول الله صلى الله عليه و آله في بيت عائشة زوج النبي صلّى الله عليه و آله، قال: فبينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه و آله إذا أتي رسول الله صلّى الله عليه و آله بصحفة خبز و لحم من بيت أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فوضعت بين يدي النبي صلى الله عليه و آله فقال: ضعوا أيديكم فوضع النبي صلّى الله عليه و آله لو وضعنا أيدينا فأكلنا، و عائشة تصنع طعاماً عجلة معجلة، فدارت الصحفة التي أتي بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته، و رفعت صحفة أم سلمة فكسرتها، و قالت، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: كلوا باسم الله، غارت أمكم، ثم أعطى صحفتها أم سلمة و قال: طعام مكان طعام، و إناء مكان إناء (1).

2- عن عائشة قالت: كان رسول الله قل يوم إلا و هو يطوف على نسائه، فيدنو من أهله فيضع يده، و يقبل كل امرأة من نسائه، حتى يأتي على آخرهن، فإن كان يومها قعد عندها و إلا قام، فكان إذا دخل بيت أم سلمة يحتبس عندها، فقلت أنا و حفصة - و كانتا جميعاً يداً واحدة-: ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو

معها، تعنيان الجماع، قالت: و اشتد ذلك علينا حتى بعثنا من يطلع لنا ما يحبسه عندها، فإذا هو إذا صار إليها أخرجت له عكة من عسل، فتحت له فمها فيلعق منه لعقاً، و كان العسل يعجبه، فقالتا: ما من شيء نكرهه إليه حتى لا يلبث في بيت أم سلمة؟ فقالتا: ليس شيء أكره إليه من أن يقال له: نجد منك ريح شيء، فإذا جاءك

ص: 162


1- المعجم الصغير للطبراني 1 / 342، المعجم الأوسط 4 / 275، عمدة القاري للعيني / 7 ج 13 / 37، المعتصر من المختصر لابي المحاسن يوسف الحنفي 2 / 4.

فدنا منك فقولي: إني أجد منك ريح شيء، فإنه يقول: من عسل أصبته عند أم سلمة، فقولي له: أرى نحله جَرَسَ عرفطاً، فلما دخل على عائشة فدنا منها قالت: إنی لأجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: عسل من بيت أم سلمة، فقالت: يا رسول الله! أرى نحله جرس عرفطاً، ثم خرج من عندها، فدخل على حفصة، فدنا منها، فقالت مثل الذي قالت عائشة، فلما قالتاه جميعاً اشتد عليه، فدخل على أم سلمة بعد ذلك فأخرجت له العسل، فقال: أخريه عني لا حاجة لي فيه، فقالت: فكنت و الله أرى أن قد أتينا أمراً عظيماً، منعنا رسول الله شيئا كان يشتهيه (1).

3- ذكر في سبب نزول سورة التحريم أمور منها: ان رسول الله صلى الله عليه و آله قسم الأيام بین نسائه، فلما كان يوم حفصة قالت: يا رسول الله! إن لي إلى أبي حاجة فأذن لي أن أزوره، فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلّى الله عليه و آله إلى جاريته مارية القبطية، و كان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و وجهه يقطر عرقاً فقالت حفصة: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي و على فراشي، أما رأيت لي حرمة و حقاً؟ فقال صلّى الله عليه و آله: أليس هی جاريتي قد أحل الله ذلك لي؟ أسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن، و هو عندك أمانة، فلما خرج صلّى الله عليه و آله قرعت حفصة الجدار الذي بينها و بين عايشة فقالت: ألا أبشرك إن رسول الله صلّى الله عليه و آله قد حرم عليه أمته مارية، و قد أراحنا الله منها و أخبرت عايشة بما رأت، و كانتا متصادقتين متظاهرتين على سائر أزواجه، فنزلت (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ) فطلق حفصة و اعتزل سائر نسائه تسعة و عشرين يوماً، و قعد في مشربة أم إبراهيم مارية (2).

ص: 163


1- الطبقات لابن سعد 170/8، المنتخب من كتاب أزواج النبي الله 2 / 43. العرفط شجر خشن لصمغه ربح.
2- البحار 22 / 229.

و نحن و إن لم نطمئن إلى أن السر الذي أسرّه النبي صلّى الله عليه و آله البعض أزواجه هو هذا المذكور في هذه الرواية، إذ ما يظهر من عبارة (التظاهر)، و قيام الرسول صلّى الله عليه و آله تجاهه بهذا العمل الكبير يفيدان شيئاً أكبر و أخطر، إلا أن بحثه ليس من شوؤن الكتاب، و ذكرنا هذه الرواية كشاهد على معاملة بعض أزواج النبي صلّى الله عليه و آله له، بخلاف معاملة أم سلمة رضي الله عنها.

و ما جاء في سورة التحريم خير شاهد على ما نقول بغض النظر عن طبيعة السر الذي أسره النبي صلّى الله عليه و آله لزوجته، قال تعالى: (وَ إِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِیُّ إِلَیٰ بَعۡضِ أَزۡوَٰجِهِۦ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَ أَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَ أَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِیَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡخَبِيرُ * إِن تَتُوبَآ إِلَی ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَا وَ إِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَ جِبۡرِيلُ وَ صَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) (1).

4- و من الشواهد أيضاً ما رواه ابن أبي الحديد في شرحه حيث قال: (قال الواقدى و لما قدم بالأسرى - أسرى المشركين - كانت سوده بنت زمعه زوجة النبي صلّى الله عليه و آله عند آل عفراء في مناحتهم على عوف و معوذ، و ذلك قبل أن يضرب الحجاب، قالت سودة: فأتينا فقيل لنا: هؤلاء الأسرى قد أتي بهم، فخرجت إلى بيتي و رسول الله صلّى الله عليه و آله فيه و إذا أبو يزيد مجموعة يداه الى عنقه في ناحية البيت، فوالله ما ملكت نفسي حين رأيته مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً، فو الله ما راعنى إلا قول رسول الله صلى الله عليه و آله من البيت: يا سودة أعلى الله و على رسوله؟! فقلت: يا نبي الله و الذي بعثك بالحق أني ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه الى عنقه أن قلت ما قلت) (2)

و قال بعد ذلك: (قال الواقدى: و حدثني خالد بن الياس قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي جهم قال: دخل يومئذ خالد بن هشام بن المغيرة، و أمية بن أبي

ص: 164


1- التحريم: 3 - 4.
2- شرح نهج البلاغة 14 / 187.

حذيفة منزل أم سلمة، و أم سلمة في مناحة آل عفراء، فقيل لها: أتي بالأسرى، فخرجت فدخلت عليهم فلم تكلمهم حتى رجعت فتجد رسول الله صلّى الله عليه و آله في بيت عائشة فقالت: يا رسول الله إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم علي فأضيفهم و أدهن رؤوسهم و ألم من شعثهم؟ و لم أحب أن أفعل شيئاً من ذلك حتى أستامرك، فقال صلّى الله عليه و آله لست أكره شيئاً من ذلك، فافعلى من هذا ما بدا لك (1)

و لا أراني بحاجة إلى التعليق لبيان الفرق بين الموقفين!

مكانتها عند أهل البيت علیهم السلام و علاقتها بهم

ب- مكانتها عند أهل البيت علیهم السلام و علاقتها بهم

ترتبط أم سلمة رضي الله عنها بأهل البيت علیهم السلام، ارتباطاً وثيقاً، دفعها إلى ذلك علاقة القرابة من جهة، و علاقة العقيدة التي هي أقوى من الأولى من جهة أخرى، و أعني بأهل البيت هم الإمام علي علیه السلام، و السيدة فاطمة علیها السلام، و الإمام الحسن علیه السلام، و الإمام الحسين علیه السلام.

* أ- علاقتها بالإمام علي علیه السلام

ارتباطها بالإمام علي علیه السلام يظهر من كثير من الروايات التي تعرضنا لبعضها و سيأتى التعرض للأخرى، فمنها على سبيل الإجمال:

1- في قضية زواج الإمام علیه السلام، و إليك بعض رواية في ذلك:

(ثم دعا أم سلمة فقال: يا أم سلمة ابتاعي لابنتي فراشاً من حليس مصر، و احشيه ليفاً، و اتخذي لها مدرعة و عباية قطوانية، و لا تتخذي لها أكثر من ذلك فيكونا من المسرفين، و صبرت أياماً ما أذكر لرسول الله صلّى الله عليه و آله شيئاً من أمر ابنته حتى دخلت على أم سلمة فقالت لي: يا علي! لم لا تقول لرسول الله صلّى الله عليه و آله يدخلك على أهلك؟ قال: قلت: أستحي منه أن أذكر له شيئاً من هذا، فقالت أم سلمة أدخل عليه

ص: 165


1- شرح نهج البلاغة 14 / 187.

فانه سيعلم ما في نفسك.. (1).

2- ما أورده في المناقب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قلت لأم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله: إنك لتكثرين من القول الطيب في علي بن أبي طالب دون نساء النبي صلّى الله عليه و آله، فهل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و آله في علي شيئاً لم يسمعه غيرك؟

قالت: يا ابن عباس أما ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و آله فهو أكثر مما أقدر أن أخبرك به، ولكني أخبرك من ذلك بما يكفيك و يشفيك.. (2).

3- الروايات التي دلّت على أن الإمام علیه السلام أعطاها كتبه أمانة حينما أراد الخروج إلى العراق.

4- موقفها معه حينما أراد الخروج إلى العراق و قد تقدم، و فيه التبجيل من كلا الطرفين.

5- إرسال ولدها عمر ليكون مع الإمام علیه السلام في حرب الجمل.

6 - موقفها مع عائشة حينما أرادت الخروج على الإمام علیه السلام.

7- مواقفها الكثيرة التي دافعت فيها عن الإمام علي علیه السلام و بينت منزلته في الإسلام.

ب- علاقتها بالسيدة فاطمة الزهراء علیها السلام

و يظهر ذلك من الروايات التي تعرضت لخبر زواج السيدة الزهراء علیها السلام و أنه كان في بيت أم سلمة، و لم تكن حركتها في ذلك الزواج من الأول و الأخير إلا حركة امرأة محبة مخلصة قد تفانت في حب أهل بيت نبيها علیهم السلام.

و يكشف عن هذا الارتباط الوثيق بين الطرفين أمور منها:

1- ما روى مرفوعاً إلى الإمام علي علیه السلام قال: لما حضرت ولادة فاطمة علیها السلام قال

ص: 166


1- البحار 104 / 087
2- مناقب أمير المؤمنين 17 / 354.

رسول الله صلّى الله عليه و آله لأسماء بنت عميس و أم سلمة أحضراها، فإذا وقع ولدها و استهل فأذنا في أذنه اليمنى و أقيما في اليسرى (1).

2- ما جاء في البحار: ثم تزوج أم سلمة، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله صلّى الله عليه و آله و فوض أمر ابنته إلي فكنت أؤدبها و كانت و الله أدب مني، و أعرف بالأشياء كلها (2).

3- ما أوصت به السيدة الزهراء علیها السلام حين وفاتها و انتقالها إلى عالم الخلود و البقاء، فقد جاء في الرواية عن كتاب دلائل الإمامة للطبري الإمامي:

عن أبي بصير عن أبي عبد الله صلّى الله عليه و آله قال: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه و آله رأت فاطمة علیها السلام رؤيا طويلة، بشرها رسول الله صلّى الله عليه و آله باللحوق به، و أراها منزلها، فلما انتبهت قالت لأمير المؤمنين علیه السلام: إذا توفيت لا تعلم أحداً إلا أم سلمة، و أم أيمن، و فضة، و من الرجال ابنى و العباس و سلمان و عماراً و المقداد و أباذر (3).

و في هذا الخبر ما يغني عن الأخبار الكثيرة كما يتضح ذلك لمن راقب الوضع بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه و آله، و عرف حال السيدة الزهراء علیها السلام في ذلك الوقت الذي ضاعت فيه المفاهيم و المثل.

* ج- علاقتها بالإمام الحسن علیه السلام

و في مسند الموصلي: و كانت أم سلمة تربي الحسن و تقول:

بأبي ابن علي أنت بالخير ملي (4).

* د- علاقتها بالإمام الحسين علیه السلام

و يدل على ذلك أمور منها:

ص: 167


1- البحار 43 / 255.
2- البحار 43/9.
3- البحار 81 / 310.
4- البحار 43 / 287.

1- من رواية لعبد الرحمن بن المثنى الهاشمي يسأل فيها الإمام الصادق علیه السلام: و حملت بالحسین علیه السلام فحملت ستة أشهر ثم وضعته، و لم يعش مولود قط لستة أشهر غير الحسين بن علي و عيسى بن مريم علیها السلام، فكفلته أم سلمة، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يأتيه في كل يوم فيضع لسانه في فم الحسين فيمصه..(1).

2- ما في البحار: و وجدت في بعض الكتب أنه علیه السلام لما عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة رضى الله عنها فقالت: يا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق، فإني سمعت جدك يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلاء، فقال لها: يا أماه و أنا و الله أعلم ذلك، و إني مقتول لا محالة، و ليس لي من هذا بد، و إنى و الله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، و أعرف من يقتلني و أعرف البقعة التي أدفن فيها، و إني أعرف من يقتل من أهل بيتي و قرابتي و شيعتي، و إن أردت يا أماه أريك حفرتي و مضجعي ثم أشار علیه السلام إلى جهة كربلاء لها فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه و مدفنه و موضع عسكره و موقفه و مشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديداً، و سلّمت أمره إلى الله، فقال لها: يا أماه قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً و عدواناً، و قد شاء أن يرى حرمي و رهطي و نسائي مشردين، و أطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين، و هم يستغيثون فلا يجدون ناصراً و لا معيناً.

و في رواية أخرى قالت أم سلمة: و عندي تربة دفعها إلى جدك في قارورة، فقال: و الله إني مقتول كذلك، و إن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً، ثم أخذ تربة فجعلها في قارورة، و أعطاها إياها، و قال: اجعليها مع قارورة جدي، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أني قد قتلت (2) .

ص: 168


1- البحار 25/ 254، و 43 / 245 ، الإمامة و التبصرة ص 52.
2- البحار 44 / 241.

3- قال ابن عباس: بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة، و هي تقول: يا بنات عبد المطلب اسعدنني و ابكين معي، فقد قتل سيدكن، فقيل: و من أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله الساعة في المنام شعثاً مذعوراً فسألته عن ذلك فقال: قتل ابنى الحسين و أهل بيته فدفنتهم، قالت: فنظرت فإذا بتربة الحسين الذي أتى بها جبرئيل من كربلا، و قال: إذا صارت دماً فقد قتل ابنك (1).

4- عبد الحميد بن بهرام، و آخر ثقة عن شهر بن حوشب قال: كنت عند أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله حين أتاها قتل الحسين فقالت: قد فعلوها ملأ الله بيوتهم و قبورهم ناراً و وقعت مغشية عليها فقمنا (2).

5- حدثني زريق، حدثني سلمان قال: دخلت على أم سلمة و هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله في المنام يبكي و على رأسه و لحيته التراب، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: شهدت قتل الحسين آنفاً (3).

و في هذا المعنى روايات كثيرة، و نكتفي بهذا المقدار و هي بدورها تعطينا مدى العلاقة التي كانت بين الإمام الحسين علیه السلام و بين أم سلمة، بل بينها و بين سائر أهل البيت علیهم السلام.

و يمكن أن يضاف إلى علاقتها بأهل البيت علیهم السلام الا ما حدث به صاحب الخرائج فقد قال:

و منها: أن علياً علیه السلام بكى يوماً و قال: ماتت أمي. فنهض النبي صلّى الله عليه و آله فقال:

هي و الله أمي حقاً، ما رأيت من عمّي شيئاً إلا و قد رأيت منها أكثر منه. ثم صاح

ص: 169


1- البحار 45 / 227.
2- سير أعلام النبلاء 3/ 318، البداية و النهاية 6 / 231، مجمع الزوائد 9 / 194، و قال: رواه الطبراني و رجاله موثقون.
3- المستدرك 4 / 20، التاريخ الكبير للبخاري 3 / 324.

يا أم سلمة! هذه بردتي فأزريها فيها، و هذه قميصي فدرعيها فيها، و هذا ردائي فأدرجيها فيه، فإذا فرغت من غسلها فاعلميني.

فأعلمته أم سلمة فحملها على سريرها، ثم صلى عليها، ثم نزل لحدها فلبث ما شاء الله لا يسمع له إلا همهمة.

ثم صاح يا فاطمة! قالت: لبيك يا رسول الله. قال: هل رأيت ما ضمنت لك؟

قالت: نعم فجزاك الله عني في المحيا و الممات أفضل الجزاء.

فلما سوّى عليها و خرج سئل عنها فقال: قرأت عليها يوماً (وَ لَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَیٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (1).

فقالت: يا رسول الله و ما فرادی؟ قلت: عراة. قالت: و اسوأتاه. فسألت الله ألا تبدو عورتها.

ثم سألتني عن منكر و نكير فأخبرتها بحالهما بأنهما كيف يجيئان قالت: و اغوثاه بالله منهما. فسألت الله أن لا يريهما إياها، و أن يفسح لها في قبرها، و أن يحشرها في أكفانها (2).

و قد تجاوزنا محل الشاهد من الرواية إتماماً للفائدة، و تنبيهاً على فضل أم أمير المؤمنين فاطمة بنت أسد علیها السلام .

مع نساء النبي صلّى الله عليه و آله

ح- مع نساء النبي صلّى الله عليه و آله

هناك روايات تشير إلى أن نساء النبي صلّى الله عليه و آله كنّ حزبين، حزب يتكون من عائشة و حفصة و سودة و صفية، و الحزب الآخر يتكون من سائر أمهات المؤمنين و بهذا التفصيل روايات منها:

ما رواه الطبراني بقوله: عن عائشة أن نساء النبي صلّى الله عليه و آله لكن حزبين: حزب فيه

ص: 170


1- سورة الأنعام: 94.
2- الخرائج و الجرائح 1 / 90.

عائشة و حفصة و صفية و سودة، و حزب فيه أم سلمة و سائر أزواج النبي صلّى الله عليه و آله (1).

و في فتح الباري: و الحزب الآخر أم سلمة و سائر نساء رسول الله صلّى الله عليه و آله، أي بقيتهن و هي زينب بنت جحش الأسدية، و أم حبيبة الأموية، و جويرية بنت الحارث الخزاعية، و ميمونة بنت الحارث الهلالية، دون زينب بنت خزيمة أم المساكين (2).

و نحن نتوقف في هذا التقسيم كثيراً؛ لأن الملاحظ أن عائشة و حفصة كانتا يداً واحدة، و متصافيتين في ما بينهما تماماً، فالذي نظنه أن الحزب الأول متكون من اثنتين هما عائشة و حفصة، و يحتمل ان تكون معهما سودة، و إن وقفتا منها وقفة غيرة في بعض المواقف كما تشير له رواية مجمع الزوائد: و عن رزينة مولاة رسول الله صلّى الله عليه و آله أن سودة اليمانية جاءت عائشة تزورها، و عندها حفصة بنت عمر، فجاءت سودة في هيئة و في حالة حسنة، عليها برد من دروع اليمن، و خمار كذلك، و عليها نقطتان مثل الفرستين من صبر و زعفران إلى موقها، قالت عليلة: و أدركت النساء يتزين به، فقالت حفصة لعائشة، يا أم المؤمنين يجيء رسول الله صلّى الله عليه و آله و هذه بيننا تبرق، فقالت أم المؤمنين: أتقي الله يا حفصة، فقالت: لأفسدن عليها زينتها، قالت: ما تقلن؟ و كان في أذنها ثقل، قالت لها حفصة: يا سودة خرج الأعور، قالت: نعم؟ ففزعت فزعاً شديداً فجعلت تنتفض قالت: أين أختبى؟ قالت عليك بالخيمة، خيمة لهم من سعف يختبئون فيها، فذهبت فاختبأت فيها، و فيها القذر، و نسيج العنكبوت، فجاء رسول الله صلّى الله عليه و آله و هما تضحكان لا تستطيعان أن يتكلما من الضحك، فقال ماذا الضحك؟ ثلاث مرات، فأومأتا بأيديهما إلى الخيمة، فذهب فاذا سودة ترعد، فقال لها يا سودة مالك؟ قالت: يا رسول الله

ص: 171


1- المعجم الكبير 23 / 50، سير أعلام النبلاء 2 / 143.
2- فتح الباري 206/5.

خرج الأعور، قال: ما خرج و ليخرجن، ما خرج و ليخرجن، فأخرجها فجعل ينفض عنها الغبار، و نسيج العنكبوت.

رواه أبو يعلى و الطبراني إلا أنه قال: فقالت حفصة لعائشة: يدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه و آله و نحن فسقتين و هذه بيننا تبرق (1).

و يمكن أن يستدل على عدم كون السيدة صفية معهما بتفريق عمر في العطاء، فقد روى في المصنف: عن أبي الحويرث أن عمر فرض للعباس سبعة آلاف، و لعائشة و حفصة عشرة آلاف، و لأم سلمة و أم حبيبة و ميمونة و سودة ثمانية آلاف ثمانية آلاف، و فرض لجويرية و صفية ستة آلاف سنة آلاف، و فرض لصفية بنت عبد المطلب نصف ما فرض لهن، فأرسلت أم سلمة و صواحبها إلى عثمان بن عفان فقلن له: كلم عمر فينا؛ فإنه قد فضل علينا عائشة و حفصة، فجاء عثمان إلى عمر فقال: إن أمهاتك يقلن لك: سو بيننا لا تفضل بعضنا على بعض، فقال: إن عشت إلى العام القابل زدتهن ألفين ألفين، فلما كان العام القابل جعل عائشة و حفصة في اثني عشرة ألفاً اثني عشر ألفاً، و جعل أم سلمة و أم حبيبة في عشرة آلاف عشرة آلاف، و جعل صفية و جويرية في ثمانية آلاف ثمانية آلاف، فلما رأين ذلك سكتن عنه (2).

فإن السيدة صفية لو كانت مع عائشة و حفصة في حزب واحد لبعد تفريق عمر بينها و بينهما في العطاء.

و الذي يدل على أن السيدة صفية لم تكن معهما أيضاً ما رواه غير واحد من تعييرهما لها بقولهما: (ابنة اليهودية) أو كلاماً يشبه ذلك، مما أثر على نفسها فرفعت أمرهما إلى الرسول الله صلّى الله عليه و آله و اشتكتهما عنده، فقد جاء في عمدة القاري للعيني: إن صفية بنت حي أتت النبي صلّى الله عليه و آله فقالت: إن النساء يعيرنني و يقلن: یا

ص: 172


1- مجمع الزوائد 4 / 316.
2- المصنف لعبد الرزاق 6 / 454.

يهودية بنت يهوديين، فقال صلّى الله عليه و آله: هلا قلت: إن أبي هارون و عمي موسى و أن زوجي محمد (1).

و في تفسير البغوي قوله تعالى: (یٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ) ...، عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه و آله حين عيرن أم سلمة بالقصر. و عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، قال لها النساء: يهودية بنت يهوديين (2).

و الملاحظ أن كلا المصدرين لم يذكرا اسم من قام بهذا العمل مما يوحي للقارئ أن كل نساء النبي صلّى الله عليه و آله قمن به، و هو ليس كذلك كما صرحت به رواية المستدرك:

عن صفية رضي الله عنها قالت: ثم دخل علي رسول الله صلّى الله عليه و آله و أنا أبكي فقال: يا بنت حيي! ما يبكيك؟ قلت: بلغني أن حفصة و عائشة ينالان مني، و يقولان نحن خير منها نحن بنات عم رسول الله صلّى الله عليه و آله و أزواجه، قال: ألا قلت كيف تكونان خيراً مني و أبي هارون و عمي موسى و زوجي محمد صلوات الله و سلامه عليهم (3)؟!.

ثم إن هناك روايات نصت على أن عائشة و حفصة كانتا يداً واحدة على نساء النبى صلّى الله عليه و آله منها ما تقدم قريباً عن مصادر متعددة قول الراوي عندما ذكر كلام عائشة: (فقلت أنا و حفصة - و كانتا جميعاً يداً واحدة -: ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو معها،تعنيان الجماع).

و منها ما عن عائشة قالت: لما تزوج النبي صلّى الله عليه و آله أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها، فتلطّفت حتى رأيتها، فرأيتها و الله أضعاف ما وصفت لي في الحسن، فذكرت ذلك لحفصة و كانتا يداً واحدة .. (4).

ص: 173


1- عمدة القاري للعيني 11 جزء 22 / 122.
2- تفسير البغوي 4 / 214 - 215.
3- المستدرك 31/4.
4- سير أعلام النبلاء 2 / 209، و غيره.

و منها ما تقدم أيضاً عن البحار و أخبرت عائشة بما رأت، و كانتا متصادقتين متظاهرتين على سائر أزواجه.

فيمكننا أن نخلص إلى القول بأن السيدة أم سلمة كانت على وثام مع سائر نساء النبي صلّى الله عليه و آله إلا مع عائشة و حفصة، و قد يكون ذلك لسببين:

الأول: الغيرة التي تصيب بعض النساء و لا سيما الضرائر، و لقد كانت أم سلمة امرأة جميلة مؤمنة طيبة محظوظة عند الرسول صلّى الله عليه و آله مما أثر في نفسية الضرتين و بالخصوص عائشة، فأبرزت ذلك بالقول و الفعل، و قد نقلنا فيما تقدم من فصول الكتاب روايات لعائشة نفسها حسب ما جاء موثقاً في كتب أهل السنة، و من تلك الروايات أيضاً ما جاء في كتاب أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: ﴿ وَ لَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَیٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرًا مِّنۡهُنَّ ) (1) نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلّى الله عليه و آله سخرتا من أم سلمة، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجر خلفها (2).

و في البحار: قال الطبرسي طيب الله رمسه قوله: (و لا نساء من نساء) نزل في نساء النبي صلّى الله عليه و آله يسخرن من أم سلمة عن أنس، و ذلك إنها ربطت حقويها بسبنيه، و هي ثوب أبيض، و سدلت طرفيها خلفها، و كانت تجر، فقالت عايشة لحفصة: أنظري ماذا تجر خلفها؟ كأنه لسان كلب، فهذا كانت سخريتها، و قيل: إنها عيرتها بالقصر و أشارت بيدها إنها قصيرة عن الحسن (3).

الثاني: انتصار السيدة أم سلمة للإمام على علیه السلام و لا سيما في موقعة الجمل حيث كانت عائشة فيها طرفاً مناوئاً للإمام علي علیه السلام، و قد ردعتها أم سلمة عن ذلك و وقفت موقفاً شديداً منها سيأتي تفصيله في فصل لاحق إن شاء الله.

كما أن أم سلمة وقفت مواقف متعددة مما يخص الروايات التي تتصل بالإمام

ص: 174


1- سورة الحجرات: 11.
2- أسباب النزول للواحدي ص 330.
3- البحار 22 / 224.

علي علیه السلام لم تكن ترضي عائشة، و سيأتي بعض ذلك، ومن باب المثال: أن عائشة قد روت بأن الرسول صلّى الله عليه و آله مات ما بين حجرها و نحرها، بينما روت أم سلمة أن آخر الناس عهداً بالرسول صلّى الله عليه و آله هو الإمام علي علیه السلام، و روت عائشة رواية مفصلة فيها مدح للإمام علي علیه السلام و لم تذكر اسمه، و روت الرواية نفسها أم سلمة و ذكرت أن ذلك الصحابي هو الإمام علي علیه السلام و هكذا..

و أما علاقتها مع سائر النساء فلم يتسن لنا الحصول على شيء فيه تفصيل تتضح به الصورة تامة كاملة غير ما مرّ من جعلها رئيسة للحزب الثاني، و لم يرو الرواة - حسب اطلاعي - ما يدل على منافرة أو حصول مشادة بينها و بين إحداهن، ولكن جاء في الإصابة ما لفظه: (و من حديث أم سلمة بسند موصول فيه الواقدي، أنها ذكرت زينب فترحمت عليها، و ذكرت ما يكون بينها و بين عائشة، فذكرت نحو هذا، قالت أم سلمة: و كانت الرسول الله صلّى الله عليه و آله معجبة، و كان يستكثر منها، و كانت صالحة صوامة قوامة صناعاً، تصدق بذلك كله على المساكين) (1).

أم سلمة في المجتمع الإسلامي

د- أم سلمة في المجتمع الإسلامي

كل من يقرأ حياة هذه السيدة الجليلة يعرف أنها تتمتع بمنزلة خاصة في نفوس المسلمين، و قد أشرنا في مطلع هذا الفصل ما يمكن أن يكون سبباً لذلك، و ما علينا الآن إلا أن نستعرض الشواهد الدالة على منزلتها عندهم، و ارتباطها بهم و بعض ما يصلح أن يكون سبباً لتلك العلاقة و هي:

1- ما مرّ علينا من قضية جابر رضی الله عنه فإنه حينما هجم بسر بن أرطاة على المدينة و طلب جابراً ليبايع لاذ بأم المؤمنين أم سلمة.

2- ما مرّ أيضاً من قضية عمار رضی الله عنه، و عثمان فإنه حينما ضربه أو أمر بضربه

ص: 175


1- الإصابة 7 / 4.

مُرْضَ عمار في بيت أم سلمة.

3- ما تقدم من رجوع الناس إليها في أخذ معالم الدين من الحلال و الحرام.

4- إمامتها في الصلاة.

أ- عن عمار الدهني، عن امرأة من قومه اسمها حجيرة قالت: أمتنا أم سلمة قائمة وسط النساء (1).

ب- عن قتادة عن أم الحسن أنها رأت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله توم النساء تقوم معهن في صفهن (2).

5- ما جاء في الفتوح: (جاء عمر بن أبي سلمة إلى علي رضي الله عنه فصار معه، فأنشأ رجل من أصحاب علي رضي الله عنه يمدح أم سلمة و هو يقول أبياتا مطلعها:

أم يا أُمّة لقيت الظفر ثم لازلت تسقين المطز

ثم أنشأت امرأة أيضا من نساء بني عبد المطلب تمدح أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله و تذكر عائشة و فعلها فقالت أبياتا مطلعها:

بنت أبي أمية الداهشة كف الى الخير لها مائشة (3).

فهذه الأمور من مظاهر منزلتها في المجتمع الإسلامي، و قد ذكرنا بعض الأسباب التي أثرت أو ساعدتفي تكوين هذه المنزلة الكبيرة، و على رأس تلك الأسباب كونها زوجة لنبي الإسلام صلّى الله عليه و آله،و مما ساعد أيضا في تكوين ذلك أمور و هي كالتالي:

1- رأفتها و عطفها.

ص: 176


1- مصنف ابن أبي شيبة 1 / 340 ، و المصنف لعبد الرزاق 3 / 140.
2- مصنف ابن أبي شيبة 1 / 430.
3- الفتوح لابن أعثم 2 / 284 - 285.

من رواية مطولة: قال و كانت توبتنا أنزلت على النبي صلّى الله عليه و آله ثلث الليل فقالت أم سلمة: يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك؟ قال: إذن يخصمكم الناس و يمنعونكم النوم سائر الليلة، قال: و كانت أم سلمة محسنة في شأني تحزن بأمري (1).

و في فتح الباري: فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل، و رسول الله صلّى الله عليه و آله عند أم سلمة، و كانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمرى، فقال: يا أم سلمة! تيب على كعب (2).

2- كرمها.

عن بريرة أنها كانت عند أم سلمة فأتاها سائل و ليس عندها إلا رغيف واحد فقالت: يا بريرة أعطيه السائل فتثاقلت، ثم تكلم السائل فقالت: يا بريرة قومي فأعطيه فتثاقلت، ثم قالت لها: قومي فأعطيه، قالت: فلما رأيتها قد عزمت قمت فأعطيته و ليس عندنا طعام غيره، فلما أمسينا و أفطرنا دعت بماء فشربت، ثم وضعت رأسها فغفت فإذا إنسان يستأذن على الباب فقالت: يا بريرة انظري من هذا؟ قالت: فإذا إنسان يحمل جفنة فيها شاة مصلية، وفوقها خبز قد ملأ الجفنة قالت بريرة: فمن السرور ما دريت كيف، رفعت فقالت أم سلمة: كيف رأيت؟ هذا خير أم رغيفك؟ قالت: قلت: بل هذا، فقالت: الحمد لله، هذا مع ما ادّخر الله عزّ وجل لنا إن شاء الله (3).

في المستدرك بسنده: قال: حدثني نبهان مكاتب أم سلمة رضي الله تعالى عنها قال: إني لأقود بها بالبيداء أو بالأبواء، قالت: من هذا؟ قلت: أنا نبهان، فقالت: إني تركت بقية مكاتبتك لابن أخي محمد بن عبد الله بن أبي أمية أعنته به في نكاحه (4).

ص: 177


1- المعجم الكبير 19 / 45.
2- فتح الباري 8 / 121.
3- شعب الايمان للبيهقي 3 / 262.
4- المستدرك 2 / 238.

وفي مجمع الزوائد: و عن أم سلمة قالت: كان لي غزال من ذهب فأمرني النبي صلّى الله عليه و آله أن أتصدق به ففعلت رواه الطبراني (1).

و في المصنف: عن أم الحسن إنها كانت عند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله فجاء نساء مساكين، فقلت: أخرجوهن، فقالت: ما بهذا أمرنا الله، انبذ بهن بتمرة تمرة (2)

3- تفقدها لأقاربها.

فی المستدرك: عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة، ما لى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و مع المسلمين؟!.. و قد تقدمت (3).

4- تدخلها في القضايا الاجتماعية.

و في سنن الدارقطني: عن أبي رافع قال: قالت مولاتي: لأفرقن بينك و بين امرأتك، و كل مال لها في رتاج الكعبة، و هي يوماً يهودية، و يوماً نصرانية، و يوما مجوسية، إن لم تفرق بينك و بين امرأتك، قال: فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت: إن مولاتي تريد أن تفرق بيني و بين أمراتي، فقالت: أنطلق إلى مولاتك فقل لها: إن هذا لا يحل لك، قال فرجعت إليها (4).

5- مراعاتها للناس.

عن الشعبي عن مسروق في قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ) قال: قالت امرأة: لعائشة يا أمه! فقالت لها عائشة: أنا أم رجالكم و لست أم نسائكم، قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن موسى المخزومي فقال: أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية، عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله اللهم أنها قالت: أنا أم الرجال منكم و النساء (5)

ص: 178


1- مجمع الزوائد 5 / 174.
2- المصنف لابن أبي شيبة 2 / 352.
3- المستدرك 3 / 45.
4- سنن الدار قطني 4 / 164.
5- الطبقات 8 / 200.

6- شفاعتها لمن أسلم.

و من أبرز ذلك ما ورد من شفاعتها لأخيها و ابن عمها و قد تقدمت القصة مفصلة، و لاحظنا حسن أسلوبها و لطف كلامها.

و من ذلك ما في البحار من جملة رواية: و كانت هذه سبيل من جاءه، و كانت امرأة يقال لها: كلثم بنت عقبة بمكة و هى بنت عقبه بن أبي معيط مؤمنة تكتم إيمانها، و كان أخواها كافرين، أهلها يعذبونها و يأمرونها بالرجوع عن الاسلام فهربت إلى المدينة، و حملها رجل من خزاعة حتى وافى بها إلى المدينة، فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله فقالت: يا أم سلمة إن رسول الله صلّى الله عليه و آله قد شرط لقريش أن يرد إليهم الرجال، و لم يشرط لهم في النساء شيئاً، و النساء إلى ضعف، و إن ردني رسول الله صلّى الله عليه و آله إليهم فتنوني و عذبوني، و أخاف على نفسي، فاسألي رسول الله صلّى الله عليه و آله أن لا يردني إليهم، فدخل رسول الله صلّى الله عليه و آله على أم سلمة و هي عندها فأخبرته أم سلمة خبرها، فقالت: يا رسول الله هذه كلثم بنت عقبة، و قد فرّت بدينها، فلم يجبها رسول الله صلّى الله عليه و آله بشيء، و نزل عليه الوحى (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ..) (1).

7- اهتمامها بأمور الآخرين

جاء في البحار: فجاءت امرأه عثمان بن مظعون إلى بيت أم سلمة فقالت لها: لم عطّلت نفسك من الطيب و الصبغ و الخضاب و غيره، فقالت: لأن عثمان بن مظعون زوجي ما قربني مذ كذا و كذا، قالت أم سلمة: و لماذا؟ قالت: لأنه قد حرم على نفسه النساء و ترهب، فأخبرت أم سلمة رسول الله صلّى الله عليه و آله بذلك، و خرج إلى أصحابه و قال: أترغبون عن النساء؟ إنى أتى النساء، و أفطر بالنهار، و أنام الليل، فمن رغب عن سنتي فليس مني، و أنزل الله تعالى: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ

ص: 179


1- البحار 92 / 68.

اللّٰهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلاً طَيِّبًا ۚ وَ ٱتَّقُواْ ٱللَّه) (1).

8- وقوفها مع المظلوم.

و قد تعرضنا في الفصل السابق لقضية عمار و هي مما يصلح لوضعه تحت هذا العنوان، و الآن نذكر قضية أخرى حصلت لعمار أيضاً مع الخليفة الثالث عثمان و هي كما في رواية الأمالي للشيخ المفيد بسنده عن أبي يحيى مولى معاذ بن عفراء الأنصاري قال: إن عثمان بن عفان بعث إلى الأرقم بن عبد الله - و كان خازن بيت مال المسلمين - فقال له: أسلفني مائة ألف درهم، فقال له الأرقم: أكتب عليك بها صكاً للمسلمين، قال: و ما أنت و ذاك لا أم لك، إنما أنت خازن لنا، قال: فلما سمع الأرقم ذلك خرج مبادراً إلى الناس فقال: أيها الناس عليكم بمالكم، فإني ظننت أني - و لم أعلم أني خازن عثمان بن عفان حتى اليوم، و مضى فدخل بيته.

فبلغ ذلك عثمان فخرج إلى الناس حتى دخل المسجد، ثم رقي المنبر و قال: أيها الناس إن أبا بكر كان يؤثر بني تيم على الناس، و إن عمر كان يؤثر بني عدي على كل الناس، و إني أوثر و الله بني أمية على من سواهم، و لو كنت جالساً بباب الجنة ثم استطعت أن أدخل بني أمية جميعاً الجنة لفعلت، و إن هذا المال لنا، فإن احتجنا إليه أخذناه و إن رغم أنف أقوام.

فقال عمار بن ياسر رحمه الله: معاشر المسلمين اشهدوا أن ذلك مرغم لي، فقال عثمان: و أنت ههنا؟! ثم نزل من المنبر فجعل يتوطاه برجله حتى غشي على عمار و احتمل و هو لا يعقل إلى بيت أم سلمة، فأعظم الناس ذلك، و بقي عمار مغمى عليه لم يصل يومئذ الظهر و العصر و المغرب، فلما أفاق قال: الحمد لله فقديماً أوذيت في الله، و أنا أحتسب ما أصابني في جنب الله بيني و بين عثمان العدل الكريم يوم القيامة.

ص: 180


1- البحار 93 / 73.

قال: و بلغ عثمان أن عماراً عند أم سلمة فأرسل إليها فقال: ما هذه الجماعة في بيتك مع هذا الفاجر؟ من عندك؟

فقالت: و الله ما عندنا مع عمار إلا بنتاه، فاجتنبنا يا عثمان، و اجعل سطوتك حيث شئت، و هذا صاحب رسول الله صلّى الله عليه و آله يجود بنفسه من فعالك به.

قال: فندم عثمان على ما صنع فبعث إلى طلحة و الزبير فسألهما أن يأتيا عماراً أن يستغفر له، فأتياه فأبى عليهما، فرجعا إليه فأخبراه.

فقال عثمان: من حكم الله يا بني أمية يا فراش النار و ذباب الطمع شنعتم علي على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله (1).

و في رواية شرح النهج وردت هذه العبارة: (.. فشتمه عثمان و أمر به فأخرج، فأتي به أم سلمة رضى الله تعالى عنها فإذا هي قد غضبت لعمار) (2).

و مما يلحق بهذا البحث الهدية لها أو للرسول صلّى الله عليه و آله في بيتها، فإن الهدية من أوضح علامات الارتباط، و قد ذكر المحدثون في ذلك عدة روايات منها:

1- ما في مجمع الزوائد: عن أم سلمة إن امرأة أهدت لها رجل شاة، و تُصدِّق عليها بها، فأمرها النبي صلّى الله عليه و آله أن تقبلها رواه أحمد و رجال أحمد رجال الصحيح (3).

و الذي يظهر أن رجل الشاة كانت صدقة على تلك المرأة و قد أهدتها إلى أم سلمة، لا أنها تتصدق بها على أم سلمة.

2- ما ورد في الطبقات لابن سعد: حدثنا سعيد بن محمد بن أبي زيد قال: سألت عمارة بن غزية، و عمرو بن يحيى عن جفنة بن عبادة، فقالا: كانت مرة بلحم، و مرة بسمن، و مرة بلبن، يبعث بها إلى النبي صلّى الله عليه و آله، كلما دار دارت معه الجفنة.

حدثني موسى بن يعقوب عن عمته عن أم سلمة قالت: كانت الأنصار الذين

ص: 181


1- أمالي الشيخ المفيد ص 70.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 49.
3- مجمع الزوائد 3 /91.

يكثرون ألطاف رسول الله سعد بن عبادة، و سعد بن معاذ، و عمارة بن حزم، و أبو أيوب، و ذلك لقرب جوارهم من رسول الله، و كان لا يمر يوم إلا و لبعضهم هدية تدور مع النبي صلّى الله عليه و آله حيث دار، و جفنة سعد بن عبادة تدور حيث دار لا يغبها كل ليلة (1).

و في الإصابة: روى أبو الربيع بن سالم في المعجزات من طريق كريمة بنت المقداد، عن أمها ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، أنها أرسلت مولاتها سدرة إلى النبي صلّى الله عليه و آله بقعبة صغيرة فيها طعام، فوجدته سدرة في بيت أم سلمة (2).

و الذي نود أن نشير إليه هنا ما رواه الرواة في شأن الهدية للرسول صلّى الله عليه و آله، حيث قالوا كما في صحيح ابن حبان و غيره و اللفظ له:

عن رميئة أم عبد الله بن محمد أبي عتيق، عن أم سلمة قالت: كلمنني صواحبي أن أكلم رسول الله صلّى الله عليه و آله أن يأمر الناس فيهدوا له حيث كان، فإن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، و إنا نحب الخير كما تحب عائشة، فسكت رسول الله صلّى الله عليه و آله و لم يراجعني، فجاءني صواحبي فأخبرتهن أنه لم يكلمني، فقلن: و الله لا ندعه، قالت: فكلمته مثل المقالة الأولى مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يسكت رسول الله صلّى الله عليه و آله، ثم قال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإني و الله ما نزل الوحي علي و أنا في بيت امرأة من نسائي غير عائشة، قالت: فقلت: أعوذ بالله أن أسوءك في عائشة (3).

و الملاحظ على هذه الرواية و أمثالها أمور منها:

1- أنها تخالف ما ذكرناه من الروايات السابقة فإن بعض الهدايا كانت تدور مع الرسول صلّى الله عليه و آله حيثما دار، فكيف كان يتحرى المسلمون يوم عائشة؟!

2- إن الهدية من المسلمين لم تكن من أجل عين أزواج الرسول صلّى الله عليه و آله، بل كانت

ص: 182


1- الطبقات لابن سعد 8 / 163.
2- الإصابة 7 / 694.
3- صحيح ابن حبان 16 / 43.

من أجل الرسول صلّى الله عليه و آله لحبهم له و مودتهم إياه فالمناسب لذلك أن يهدوا له حيث ما كان، و يبعد أن يتحروا يوماً دون يوم.

3- إن كلام السيدة أم سلمة في تبليغها الرسالة صواحبها لم يكن فيها شيء من الشدة أو الأذية له و لا لعائشة حتى يثير كلامها أذية الرسول صلّى الله عليه و آله، و لم تكن مثل هذه الردود من أخلاق الرسول صلّى الله عليه و آله و هو صاحب الخلق العظيم، حيث لم تأت أم سلمة بأمر حرام تستحق عليه هذا الرد، فظني أن من وضع هذه الرواية أراد أن يمدح عائشة من حيث يذم الرسول صلّى الله عليه و آله، أعاذنا الله من ذلك.

4- ذكرت الرواية بأن الوحى لم ينزل على الرسول صلى الله عليه و آله و هو في بيت امرأة غير عائشة، بينما الملاحظ من كثير من الروايات أن الوحي نزل عليه و هو في بيت أم سلمة، كما وردت الروايات الكثيرة في سبب نزول آية التطهير، و ستمر عليك الروايات في فصل مقبل إن شاء الله، و نذكر هنا روايات أخرى في غير سبب نزول آية التطهير منها:

ما في التهذيب و غيره: عن أبي عثمان قال: قالت أم سلمة: كان النبي صلّى الله عليه و آله يحدث رجلاً فلما قام قال: يا أم سلمة من هذا؟ قلت: دحية الكلبي، فلم أعلم أنه جبريل علیه السلام حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يحدث أصحابه ما كان بيننا (1)

ص: 183


1- تهذيب التهذيب 2 / 258، مسند أبي يعلى 12 / 346، المعجم الكبير للطبراني 1 / 170.

ص: 184

الفصل الخامس: مواقفها العقائدية

اشارة

ص: 185

ص: 186

عاشت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بعد الرسول صلّى الله عليه و آله سنين متطاولة تزيد على الخمسين عاماً، و كانت هذه السنين الخمسون سنين صراع مذهبي عقائدي حاد، أظهرت هذه الحقيقة للناس أو أخفيت، فإن في هذه السنين استولى على الخلافة أولاً أبو بكر بن أبي قحافة، و ثانياً عمر بن الخطاب، و ثالثاً عثمان بن عفان، ثم ألقت بأتعابها إلى الإمام على علیه السلام، و من بعده استولى على أمور الناس معاوية بن أبي سفيان، ثم ولّى من بعده ابنه يزيد فكانت الخلافة ملكاً عضوضاً.

و لم يكن أحد من أهل البيت علیهم السلام و لا من أتباعهم راضياً عن تولى هؤلاء الا للخلافة، لما يعرفون من النص الجلى على إمامة الإمام علي علیه السلام، و هم بين سكوت إن اضطرتهم المصلحة العامة للسكوت، و بين كلام بحسب ما تدعو المصلحة و الوظيفة الشرعية إليه، فلهذا وقف الإمام علي علیه السلام و معه أهل بيته منددين بما حصل، طالبين من الأمة الرجوع إلى ما أراده الله سبحانه و تعالى لها.

و وقف من خلفهم كثير من الصحابة و التابعين مواقف مشرفة للدفاع عن عقيدتهم المستلهمة من القرآن الكريم و مما سمعوه أو وصلهم عن النبي صلّى الله عليه و آله.

و من بين أولئك أم المؤمنين أم سلمة رضی الله، فهي ترى أن الحق مع الإمام علي علیه السلام و هو مع الحق، و روت روايات في ذلك، فلم تكن لتصبر و هي لا ترى الحق يوضع في محله، و قد سجل لنا التاريخ شيئاً من مواقفها، و استطعنا أن نصل لبعضها، و لا أقول لكلها، لما عرف عن الإعلام المضاد الذي صادر حرية الكلمة الحقة فمحى كثيراً من التراث غير المرغوب فيه لدى السلطات القائمة آنذاك،

ص: 187

و تبعهم ناشر و التراث الإسلامي و العربي في العصر الحديث فحذفوا و حرفوا الشيء الكثير مما يرتبط بالإمام علي علیه السلام و فضائله، و مناقب أهل بيته علیهم السلام.

و نحن في هذا الفصل ليس لنا من عمل إلا تسجيل و توثيق تلك المواقف لتتخذ دليلاً و حجة على الخصم، فهذه أم المؤمنين الطاهرة الطيبة التي أجمع المسلمون على صدقها و نزاهتها وقفت هذه المواقف الصعبة لتحمل ضوءاً سماوياً ينشر أشعته على الناس ليهتدي من يهتدي، و يضل من يضل، و لا يضل إلا الأشقى، و عندها تنطبق الآية الكريمة: (فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُ) (1)، كما انطبقت في مواقف أخرى مع أشخاص آخرين:

الموقف الأول

عندما توفي الرسول صلّى الله عليه و آله وتولى الخلافة أبو بكر، و أريد من الإمام على علیه السلام أن يبايع، حاجهم في ذلك بما هو مذكور في كتب التواريخ و السير، و من جملة ما حدث به المحدثون هذا المقطع من مسلسل أحداث ما بعد السقيفة نذكر منه محل الشاهد:

ثم قام أبو ذر و المقداد و عمار فقالوا لعلي علیه السلام ما تأمر؟ و الله إن أمرتنا لنضر بن بالسيف حتى نقتل.

فقال علي علیه السلام: كفوا رحمكم الله و اذكروا عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله و ما أوصاكم به فكفوا.

فقال عمر لأبي بكر - و هو جالس فوق المنبر-: ما يجلسك فوق المنبر؟ و هذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك أو تأمر به فنضرب عنقه، و الحسن و الحسين علیهما السلام قائمان على رأس علي علیه السلام، فلما سمعا مقالة عمر بكيا و رفعا أصواتهما: يا جداه يا

ص: 188


1- سورة الأنعام: 149.

رسول الله! فضمهما علی علیه السلام إلى صدره و قال: لا تبكيا فو الله لا يقدران على قتل أبيكما، هما أذل و ادخر من ذلك، و أقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله صلّى الله عليه و آله، و أم سلمة فقالتا: يا عتيق! ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد، فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد و قال: ما لنا و للنساء.. (1)

الموقف الثاني

روى غير واحد من الأعلام خطبة السيدة الزهراء علیها السلام في مسجد النبي صلّى الله عليه و آله، و احتجاجه على أبي بكر بما لا حاجة إلى نقله الآن، ولكن موضع الحاجة ما ذكره محقق کتاب الاحتجاج، فقد قال:

و في الدر النظيم للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي قال - بعد خطبة الفاطمة علیها السلام، و كلام أبي بكر (2) -: فقالت أم سلمة رضي الله عنها - حيث سمعت ما

ص: 189


1- البحار 28 / 301.
2- و لعل المراد من قوله ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، و هو كلام يندى الجبين من فضلا عن قوله، و نذكره بطوله و تعليق ابن أبي الحديد عليه، ليتضح شيء من خيوط قضية السقيفة لكل من يقرأه: (قال أبو بكر: و حدثني محمد بن زكريا قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها - الزهراء علیها السلام - شقّ عليه مقالتها فصعد المنبر و قال: أيها الناس! ما هذه الرعة إلى كل قالة، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله ألا من سمع فليقل، و من شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة، و يستنصرون بالنساء، كأم طحال، أحب أهلها إليها البغي، ألا أني لو أشاء أن أقول لقلت، و لو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، و أحق من لزم عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله أنتم، فقد جاءكم فأويتم و نصرتم، ألا أني لست باسطاً يداً و لا لساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل فانصرفت فاطمة علیها السلام إلى منزلها. قلت قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري، و قلت له: بمن يعرض؟ فقال: بل يصرّح. قلت: لو صرح لم أسالك! فضحك و قال بعلي بن أبي طالب علیه السلام، قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله؟! قال: نعم إنه الملك يا بني! قلت : فما مقالة الأنصار؟ قال : هتفوا بذكر على، فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم. فسألته عن غريبه فقال: أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع و الاصغاء، و القالة القول، و ثعالة اسم الثعلب علم غیر مصروف، و مثل ذوالة للذئب، و شهيده ذنبه أي لا شاهد له على ما يدعى إلا بعضه و جزء منه، و أصله مثل قالوا: إن الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب فقال: إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك، و كنت حاضراً، قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه و عليه دم، و كان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته و قتل الذئب. و مرب ملازم أرب بالمكان، و كروها جذعة أعيدوها إلى الحال الأول، يعني الفتنة و الهرج، و أم طحال امرأة بغي في الجاهلية، و يضرب بها المثل فيقال: أزنى من أم طحال). و ذكرت هذا الكلام مع ما فيه من الألفاظ البديئة و إني أستميح سيدي و مولاي أمير المؤمنين علیه السلام من و سيدتي و مولاتي فاطمة الزهراء علیها السلام له العذر، و أستغفر الله من نقلى لهذه الكلمات، و إنما نقلتها لينتبه الغافلون و يستيقظ النائمون.

جرى الفاطمة علیها السلام: المثل فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقال هذا القول! هي و الله الحوراء بين الإنس، و النفس للنفس، ربّيت في حجور الأتقياء، و تناولتها أيدي الملائكة، و نمت في حجور الطاهرات، و نشأت خير نشأ، و ربيت خير مربي، أ تزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه و آله حرم عليها ميراثه، و لم يُعْلِمْها؟! و قد قال الله تعالى: (وَ أَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ) (1) أ فأنذرها و خالفت متطلبه؟ و هي خيرة النسوان، و أم سادة الشبان، عديلة ابنة عمران، تمّت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر و القر، و يوسّدها يمينه و يلحفها بشماله، رويداً و رسول الله صلّى الله عليه و آله بمرأى منكم! و على الله تردون، واها لكم فسوف تعلمون!

قال: فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة (2).

الموقف الثالث

في كلام لراهب مع خالد بن الوليد، و فيه اعتراف من خالد بأنه قد نصحته أم سلمة في موقفه مع الإمام علي علیه السلام، قال في البحار من جملة كلام طويل:

(و هو ذا أنتم قد خالفتم نبيكم، و فعلتم مثل ما فعل ذلك الرجل، قال: فالتفت خالد إلى من يليه و قال: هو و الله ذاك اتبعنا هوانا و الله، و جعلنا رجلاً مكان رجل، و لولا ما كان بيني و بين علي من الخشونة على عهد النبي صلّى الله عليه و آله ما مالات عليه أحداً،

ص: 190


1- سورة الشعراء: 214.
2- الاحتجاج 1 / 241.

فقال له الأشتر النخعي مالك بن الحارث: و لم كان ذلك بينك و بين علي و ما كان؟ قال خالد: نافسته في الشجاعة و نافسني فيها، و كان له من السوابق و القرابة ما لم يكن لي فداخلني حمية قريش فكان ذلك، و لقد عاتبتني في ذلك أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه و آله و هي لي ناصحة، فلم أقبل منها.. (1).

الموقف الرابع

عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله علیه السلام قال: كانت امرأة من الأنصار تدعى جسرة تغشى آل محمد و تحن، و إن زفر و حبتر لقياها ذات يوم فقالا: أين تذهبين يا جسرة؟ فقالت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم، و أحدث بهم عهداً، فقالا: و يلك إنه ليس لهم حق، إنما كان هذا على عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله، فانصرفت جسرة و لبثت أياماً، ثم جاءت فقالت لها أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه و آله: ما بطابك عنا يا جسرة؟ فقالت: استقبلني زفر و حبتر فقالا: أين تذهبين يا جسرة؟ فقلت: أذهب إلى آل محمد فأقضي من حقهم الواجب فقالا: إنه ليس لهم حق، إنما كان هذا على عهد النبي صلّى الله عليه و آله، فقالت أم سلمة: كذبا لعنهما الله، لا يزال حقهم واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة (2).

و ورد في الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: كانت امرأه من الأنصار تودنا أهل البيت و تكثر التعاهد لنا، و إن فلاناً لقيها ذات يوم و هي تريدنا فقال لها: أين تذهبين يا عجوز الأنصار؟ فقالت: أذهب إلى آل محمد أسلم عليهم و أجدد بهم عهداً و أقضي حقهم، فقال لها عمر: ويلك! ليس لهم اليوم حق عليك و لا علينا، إنما كان لهم حق على عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله فأما اليوم فليس لهم حق فانصرفي، فانصرفت حتى أتت أم سلمة فقالت لها أم سلمة: ماذا

ص: 191


1- البحار 10 / 64.
2- قرب الإسناد ص 60 ، البحار 223/22.

أبطاك عنا؟ فقالت: إني لقيت عمر بن الخطاب و أخبرتها بما قالت لعمر وما قال لها ،عمر، فقالت لها أمسلمة: كذب! لا يزال حق آل محمد صلّى الله عليه و آله واجباً على المسلمين إلى يوم القيامة (1).

الموقف الخامس

قضية عمار مع عثمان و قد مرّت فلا نعيدها.

الموقف السادس

قضية جابر حينما هجم بسر بن أرطاة على المدينة و قد مرّت.

الموقف السابع

ما ورد معنعناً عن عمرة الهمدانية عن أم سلمة قالت: قلت: ما تقولين في هذا الذي قد أكثر الناس في شأنه من بين حامد و ذام؟ قالت: و أنت ممن يحمده أو يذمه؟ قلت: ممن يحمده قالت يكون كذلك، فو الله لقد كان على الحق، ما غيّر و ما بدّل حتى قتل.

و سألتها عن هذه الآية قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا) (2)؟ قالت: نزلت في بيتي، و في البيت سبعة: جبرئيل و ميكائيل و محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام (3).

و في رواية أخرى عن عمرة الهمدانية قالت: قالت أم سلمة: أنت عمرة؟ قالت: نعم، قالت عمرة: ألا تخبريني عن هذا الرجل الذي أصيب بين ظهرانيكم، فمحب و مبغض؟ قالت أم سلمة فتحبينه؟ قالت: لا أحبه و لا أبغضه تريد علياً، قالت أم

ص: 192


1- الكافي 8 / 156.
2- سورة الأحزاب: 33.
3- البحار 35 / 216 .

سلمة: أنزل الله تعالى (ِإنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا) و ما في البيت إلا جبرئيل و ميكائيل و محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام و أنا، فقلت: يا رسول الله أنا من أهل البيت؟ فقال: من صالح نسائي، يا عمرة فلو كان قال: نعم كان أحب إلي مما تطلع عليه الشمس (1).

الموقف الثامن

*موقفها مع مولاها

عن علي بن محمد بن المنكدر، عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله و كانت ألطف نسائه و أشدهن له حباً و قال: و كان لها مولى يحضنها و ربّاها و كان لا يصلي صلاة إلا سب علياً و شتمه.

فقالت له: يا أبه! ما حملك على سب علي؟

قال: لأنه قتل عثمان و شرك في دمه.

فقالت له: أما أنه لولا أنك مولاي و ربيتني و أنك عندي بمنزلة والدي، ما حدثتك بسر رسول الله صلّى الله عليه و آله، ولكن اجلس حتى أحدثك عن علي و ما رأيته.

قد أقبل رسول الله صلّى الله عليه و آله و كان يومي، و إنما كان نصيبي في تسعة أيام يوم واحد، فدخل النبي صلّى الله عليه و آله و هو مخلل أصابعه في أصابع علي، واضعاً يده عليه، فقال: يا أم سلمة أخرجي من البيت و أخليه لنا، فخرجت و أقبلا يتناجيان و أسمع الكلام و لا أدري ما يقولان، حتى إذا أنا قلت قد انتصف النهار، أقبلت فقلت: السلام عليكم، الج؟

فقال النبي صلّى الله عليه و آله: لا تلجي و ارجعي مكانك، ثم تناجيا طويلا حتى قام عمود الظهر، فقلت ذهب يومي و شغله علي، فأقبلت أمشي حتى وقفت على الباب

ص: 193


1- شرح الاحبار 494/2، البحار 216/35.

فقلت السلام عليكم، ألج؟

فقال النبي صلّى الله عليه و آله: لا تلجي و ارجعي مكانك فرجعت فجلست مكاني، حتى إذا الله: لا أنا قلت: قد زالت الشمس الآن، يخرج إلى الصلاة فيذهب يومي و لم أرَ قط أطول منه، أقبلت أمشى حتى وقفت على الباب فقلت: السلام عليكم، ألج؟

فقال النبي صلّى الله عليه و آله: نعم، فلجي.

فدخلت و علي واضع يده على ركبتي رسول الله صلّى الله عليه و آله قد أدنى فاه من أذن النبي صلّى الله عليه و آله، و فم النبي صلّى الله عليه و آله على أذن علي يتساران، و علي يقول: أفأمضي و أفعل؟ و النبي صلّى الله عليه و آله يقول: نعم.

فدخلت و علي معرض وجهه حتى دخلت و خرج، فأخذني النبي صلّى الله عليه و آله في حجره فالتزمني، فأصاب مني ما يصيب الرجل من أهله من اللطف و الاعتذار، ثم قال لي: يا أم سلمة لا تلوميني، فان جبرئيل أتاني من الله تعالى يأمر أن أوصي به علياً من بعدي، و كنت بين جبرئيل و علي، و جبرئيل عن يميني و علي عن شمالي، فأمرني جبرئيل أن آمر علياً بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، فاعذريني و لا تلوميني، إن الله عز وجل اختار من كل أمة نبياً و اختار لكل نبي وصياً، فأنا نبي هذه الأمة و علي وصيي في عترتي و أهل بيتي و أمتي من بعدي، فهذا ما شهدت من علي الآن، يا أبتاه فسبه أودعه.

فأقبل أبوها يناجي الليل و النهار و يقول: اللهم اغفر لي ما جهلت من أمر علي فإن وليي ولي علي، و عدوي عدو علي، فتاب المولى توبة نصوحاً، و أقبل فيما بقي من دهره يدعو الله تعالى أن يغفر له (1).

ص: 194


1- المناقب للخوارزمي: ص 146.

الموقف التاسع

*مع من سب علیاً

عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أ يسب رسول صلّى الله عليه و آله فيكم؟ قلت: معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: من سب علياً فقد سبني (1).

و في رواية عن بكير بن عثمان البجلي قال: سمعت أبا اسحق التميمي يقول: سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: حججت و أنا غلام، فمررت بالمدينة و إذا الناس عنق واحد فاتبعتهم، فدخلوا على أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي! فأجابها رجل جلف جاف: لبيك يا أمتاه، قالت: يسب رسول الله صلى الله عليه و آله في ناديكم؟ قال: و أنى ذلك؟ قالت: فعلي بن أبي طالب؟ قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: من سب علياً فقد سبنی، و من سبني فقد سب الله تعالى (2).

و في رواية أخرى: عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله الجدلي قال قالت لي أم سلمة: يا أبا عبد الله! أ يسب رسول الله صلّى الله عليه و آله فيكم ثم لا تغيرون؟ قال: قلت: و من یسب رسول الله صلّى الله عليه و آله؟! قالت: يسب علي و من يحبه و قد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يحبه (3).

و في تاريخ بغداد: عن أبي عبد الله الجدلي عن أم سلمة قالت: يا أبا عبد الله أ يسب رسول الله صلّى الله عليه و آله فيكم على المنابر؟ قال: سبحان الله و أنى يكون هذا؟! قالت: أ ليس يسب علي و من يحبه؟ فأنا أشهد على رسول الله صلّى الله عليه و آله أنه كان يحبه (4).

و في رواية المعجم الصغير: عن السدي عن أبي عبد الله الجدلي قال: قالت لي

ص: 195


1- مسند أحمد ج 6 ص 323.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 121.
3- مسند أبي يعلى 12 / 444، تاريخ الطبري 6 / 371.
4- تاریخ بغداد 7 / 401.

أم سلمة: أ يسب رسول الله صلّى الله عليه و آله فيكم على رؤوس الناس؟ فقلت: سبحان الله! و أنّى يسب رسول الله صلّى الله عليه و آله؟! فقالت: أليس يسب علي بن أبي طالب و من يحبه؟ فأشهد أن رسول الله صلّى الله عليه و آله كان يحبه (1).

الموقف العاشر

عن ابن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي: أنها دخلت على أم سلمة، قالت: فذكروا علياً و عثمان قالت: فكأني أنظر إلى يديها و هي تعليهما قالت: ما تذكرون من شيعة علي؟ شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة (2).

الموقف الحادي عشر

*مع عائشة

و هو من المواقف المشهورة في كتب التاريخ و السيرة، و قد ارتأينا أن ننقل ما جاء في كتاب (مناظرات في العقائد و الأحكام) للمؤلف الجليل عبد الله الحسن، فقد استوعب أطراف المناظرة، فارتأيت أن أذكرها كما رتبها، و أذكر قبل ذلك ما لم ما لم يذكره من مقدمات المناظرة، فقد جاء في الاحتجاج و غيره:

أن الزبير و طلحة قد أرسلا إلى عائشة عبد الله بن الزبير و قالا له قل لها: أن عثمان قتل مظلوماً، و إنا نخاف أمر أمة محمد صلّى الله عليه و آله أن يختل، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا لعل الله أن يرتق بها فتقاً، و يشعب بها صدعاً.

فخرجنا نمشى حتى انتهينا إليها، فدخل عبد الله بن الزبير في سترها، و جلست على الباب فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله ما أمرت بالخروج، و ما تحضرني من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة، فإن خرجت خرجت معها.

فرجع إليهما فبلغهما ذلك فقالا: ارجع إليها فلتأتها، فهي أثقل عليها منا، فرجع

ص: 196


1- المعجم الصغير 2 / 83.
2- مناقب أمير المؤمنين 27 / 287، 293.

اليها فبلغها فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت: أم سلمة مرحباً بعائشة، و الله ما كنت لي بزوارة، فما بدا لك؟

قالت: قدم طلحة و الزبير فخبّرا أن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً.

فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار، فقالت: يا عائشة بالأمس أنت تشهدين عليه بالكفر، و هو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوماً! فما تريدين؟

قالت: تخرجين معنا فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة محمد صلّى الله عليه و آله (1).

قال في المناظرات:

قال أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح - عند ذكره أخبار و حوادث حرب الجمل -: و أقبلت عائشة حتى دخلت على أم سلمة زوجة النبی صلّى الله عليه و آله و هي يومئذ بمكة، فقالت لها: يا بنت أبي أمية! إنك أول ظعينة هاجرت مع رسول الله صلّى الله عليه و آله، و أنت كبيرة أمهات المؤمنين، و قد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقسم لنا بین بيتك، و قد خُبّرت أن القوم استتابوا عثمان بن عفان حتى إذا تاب وثبوا عليه فقتلوه، و قد أخبرني عبد الله بن عامر أن بالبصرة مائة ألف سيف يقتل فيها بعضهم بعضاً، فهل لك، أن تسيري بنا إلى البصرة، لعل الله تبارك و تعالى أن يصلح هذا الأمر على أيدينا؟

قال: فقالت لها أم سلمة رحمة الله عليها: يا بنت أبي بكر! بدم عثمان تطلبين! و الله لقد كنتِ من أشدّ الناس عليه، و ما كنتِ تسميه إلا نعثلاً، فما لك و دم عثمان؟ و عثمان رجل من عبد مناف و أنت امرأة من بني تيم بن مرّة، ويحكِ يا عائشة! أعلى على و ابن عم رسول الله صلّى الله عليه و آله تخرجين، و قد بايعه المهاجرون و الأنصار؟

(إِنَّكِ سُدَّةُ..) إلى آخر ما ذكرناه في بلاغتها.

فقالت لها عائشة: ما أعرفني بوعظك، و أقبلني لنصحكِ، و لنعم المسير مسير

ص: 197


1- الاحتجاج 1 / 243، تاريخ اليعقوبي 2 / 180.

فزعتُ إليه، و أنا بين سائرة أو متأخرة، فإن أقعد فعن غير حرج، و إن أسر فإلى ما لا بُدَّ من الأزدياد منه) (1).

ثم جعلت أم سلمة رضوان الله عليها تذكر عائشة فضائل على علیه السلام فقالت لها: (و إنكِ لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب علیه السلام عند رسول الله صلّى الله عليه و آله أ فأذكرك؟

قالت: نعم.

قالت: أتذكرين يوم أقبل صلّى الله عليه و آله و نحن معه، حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال، خلا بعلى يناجيه، فأطال، فأردت أن تهجمي عليهما، فنهيتك، فعصيتيني، فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية.

فقلتُ: ما شأنك ؟

فقلت: إنّي هجمت عليهما و هما يتناجيان، فقلتُ لعلي علیه السلام: ليس لي من رسول الله صلّى الله عليه و آله إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا بن أبي طالب و يومي! فأقبل رسول الله صلّى الله عليه و آله على، و هو غضبان محمر الوجه، فقال صلّى الله عليه و آله: ارجعي وراءك، و الله لا يبغضه أحد من أهل بيتى و لا من غيرهم من الناس إلا و هو خارج من الإيمان، فرجعت نادمة ساخطة!

قالت عائشة: نعم أذكر ذلك.

قالت و أذكركِ أيضاً، كنتُ أنا و أنتِ مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و أنت تغسلين رأسه، و أنا أحيس له حيساً، و كان الحيس (2)، يعجبه، فرفع رأسه، و قال صلّى الله عليه و آله: يا ليت شعري

ص: 198


1- يوجد هذا المقطع من مناظرتهما في: الجمل و النصرة لسيد العترة للمفيد: ص 236 - 237، الاختصاص للمفيد: ص 116 - 118، الاحتجاج للطبري: ج 1 ص 167، و قد رواه عن الإمام الصادق علیه السلام، بحار الانوار للمجلسي: ج 32 ص 128، غریب الحدیث لابن قتيبة: ج 2 ص 182، الامامة و السياسة: ج 1 ص 56 - 57، بلاغات النساء لابن طيفور: ص 7 - 8، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 180 - 181، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 220 - 221، أقول: لا يخفى أن بعض المؤرخين اعتبر ذلك كتاباً من أم سلمة إلى عائشة، و آخرون اعتبروه خطاباً.
2- الحيس: تمر يخلط بسمن و أقط، فيعجن و يدلك حتى تمتزج ثم يندر نواه.

أيتكنّ صاحبة الجمل الاذنب (1)، تنبحها كلاب الحوأب (2)، فتكون ناكبة على الصراط! فرفعت يدي من الحيس، فقلت: أعوذ بالله و برسوله من ذلك، ثم ضرب على ظهرك، و قال صلّى الله عليه و آله: إياك أن تكونيها، ثم قال: يا بنت أبي أمية إيّاك أن تكونيها يا حميراء، أما أنا فقد أنذرتك، قالت عائشة: نعم، أذكر هذا.

قالت: و أذكرك أيضاً، كنتُ أنا و أنتِ مع رسول الله صلّى الله عليه و آله في سفر له، و كان علي علیه السلام يتعاهد نعلي رسول الله صلّى الله عليه و آله فيخصفها، و يتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، و قعد في ظل سَمُرة، و جاء أبوك و معه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، و دخلا يحادثانه فيما أراد، ثم قالا: يا رسول الله، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا مَنْ يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما : أما إنّي قد أرى مكانه، و لو فعلت لتفرّقتم عنه، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا، فلما خرجنا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله قلت له،

ص: 199


1- أو الادبب، و هو كثير الشعر.
2- الحوأب: موضع في طريق البصرة محاذي البقرة، و هو من مياه أبي بكر بن كلاب، و قال نصر: الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة، و قيل: سمي الحوأب بالحوأب بنت كلب بن وبرة، و قال أبو منصور: الحوأب موضع بئر نبحت كلابه عائشة عند مقبلها إلى البصرة. و روى أبو مخنف بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صلّی الله علیه و آله قال يوماً لنسائه، و هنّ عنده جميعاً: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب، يُقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثيرة، كلهم في النار، و تنجو بعدما كادت! و روى محمد بن إسحاق، عن حبيب بن عمير قالوا جميعاً: لما خرجت عائشة و طلحة و الزبير من مكة إلى البصرة، طرقت ماء الحوأب، و هو ماء لبني عامر بن صعصعة، فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها! فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب قالت: أهذا ماء الحواب؟ قالوا: نعم، فقالت: ردّوني ردّوني! فسألوها ما شأنها؟ ما بدا لها؟ فقالت: إني سمعت رسول الله صلّی الله علیه و آله يقول: كأني بكلاب ماءٍ يُدعى الحوأب، قد نبحت بعض نسائي، ثم قال لي: إياكِ يا حميراء أن تكونيها! فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله، فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك مَنْ يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟ فلفق لها الزبير و طلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً، فحلفوا لها، و شهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت هذه أوّل شهادة زور في الإسلام. راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9 ص 310 - 311، وج 6 ص 225، سير أعلام النبلاء: ج 2 ص 177 تاريخ الطبري: ج 4 ص 457 الكامل في التاريخ: ج 3 ص 210، معجم البلدان للحموي : ج 2 ص 314.

و كنتِ أجرأ عليه منّا! مَنْ كنت يا رسول الله صلّى الله عليه و آله مستخلفاً عليهم؟ فقال صلّى الله عليه و آله: خاصف النعل، فنظرنا فلم تر أحداً إلا علياً علیه السلام.

فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؟

فقالت: إنما أخرج للإصلاح بين الناس، و أرجو فيه الأجر إن شاء الله.

فقالت: أنت و رأيك!) (1).

و عبد الله بن الزبير على الباب الزبير على الباب يسمع ذلك كلّه، فضاح بأم سلمة و قال: يا بنت أبي أمية! إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير.

فقالت أم سلمة: و الله لتوردنّها ثم لا تصدرنّها أنت و لا أبوك! أ تطمع أن يرضى المهاجرون و الانصار بأبيك الزبير و صاحبه طلحة، و علي بن أبي طالب علیه السلام حي، و هو ولي كل مؤمن و مؤمنة؟

فقال عبد الله بن الزبير: ما سمعنا هذا من رسول الله صلّى الله عليه و آله ساعة قط!

فقالت أم سلمة رضوان الله عليها: إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة، و ها هي فاسألها! فقد سمعته صلّى الله عليه و آله يقول: علي خليفتي عليكم في حياتي و مماتي فمن عصاه فقد عصاني، أ تشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟

فقالت عائشة: اللهم نعم!

قالت أم سلمة رضوان الله عليها: فاتقي الله يا عائشة في نفسك، و احذري ما حذرك الله و رسوله صلّى الله عليه و آله، و لا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، و لا يغرنك الزبير و طلحة فإنهما لا يغنيان عنكِ من الله شيئاً.

قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة و هي حنقة عليها، ثم إنها بعثت إلى حفصة فسألتها أن تخرج معها إلى البصرة، فأجابتها حفصة (2) إلى ذلك (3).

ص: 200


1- ما بين القوسين هو ما ذكره ابن أبي الحديد عن أبي مخنف في شرح نهج البلاغة : ج 6 ص 217 - 218.
2- و في تاريخ الطبري: ج 4 ص 451، و أرادت حفصة الخروج فأتاها عبدالله بن عمر فطلب إليها أن تقعد فقعدت، و بعثت إلى عائشة أن عبدالله حال بيني و بين الخروج، فقالت: يغفر الله لعبدالله.
3- کتاب الفتوح لابن الاعثم: ج 2 ص 281 - 283 ، بحار الأنوار للمجلسي: ج 32 ص 162 - 164، الاختصاص للمفيد ص 116 - 120، الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 165 - 167.

و في بعض الاخبار: و خرجت، فخرج رسولها فنادى في الناس: مَنْ أراد أن يخرج فليخرج فإن أمّ المؤمنين غير خارجة!

فدخل عليها عبد الله بن الزبير فنفث في أذنها و قلبها في الذروة، فخرج رسولها فنادى: مَنْ أراد أن يسير فليسر فإنّ أمّ المؤمنين خارجة، فلما كان من ندمها أنشأت أم سلمة تقول:

لو أن معتصماً من زلّة أحد... إلى آخر الأبيات التي مرت سابقاً.

فقالت لها عائشة: شتمتيني يا أخت!!

فقالت لها أمّ سلمة: ولكن الفتنة إذا أقبلت غضت عيني البصير، و إذا أدبرت أبصرها العاقل و الجاهل (1).انتهى ما في المناظرات (2).

و إن تعجب فاعجب من ابن أبي الحديد فإنه حينما يمرّ على هذه القضية، و ينقل ما دار بين زوجتي رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول:

كتب طلحة و الزبير إلى عائشة و هي بمكة كتاباً: أن خذّلي الناس عن بيعة علي، و أظهري الطلب بدم عثمان، و حملا الكتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبير، فلمّا قرأت الكتاب كاشفت و أظهرت الطلب بدم عثمان، و كانت أم سلمة رضى الله عنها بمكة في ذلك العام، فلمّا رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك، و أظهرت موالاة علي علیه السلام و نصرته على مقتضى العداوة المركوزة في طباع الضرتين (3).

فجعل قول أم سلمة و فعلها نابعاً من مقتضى العداوة المركوزة بين الضرتين، و لم ينبع من الإيمان، و هو عجيب منه مع ما يرى من الحجج الدامغة التي أقامتها أم سلمة، و أنها لم تنطلق في كلامها إلا من أحاديث الرسول صلّى الله عليه و آله، و ما تراه من فضل علي علیه السلام، في الوقت الذي رأت تناقض عائشة في موقفيها من عثمان قبل قتله

ص: 201


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 168.
2- مناظرات في العقائد و الأحكام، المناظرة الرابعة 2 /49.
3- شرح نهج البلاغة 6 / 217.

و بعده.

و لقد نسي ابن أبي الحديد قوله في السيدة أم سلمة في محل آخر من المدح و بيان الفضل ما يرد على قوله هذا فقد قال: و إن أم سلمة التي يطبق على فضلها.. (1).

فهل يطبق على فضل امرأة تقف موقفاً مصيرياً بدافع الهوى و البغض و الحسد وو..؟!! ولكن الحجة إذا أقبلت سدّت عيني اللبيب فلم يع ما يقول و لا ما يكتب.

الموقف الثاني عشر

*مع الإمام علي علیه السلام

جاء في شرح نهج البلاغة ما لفظه: و روى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل: أن أم سلمة كتبت إلى علي علیه السلام من مكة: أما بعد: فإن طلحة و الزبير و أشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة، و معهم عبد الله بن عامر بن كريز و يذكرون: أن عثمان قتل مظلوماً، و أنهم يطلبون بدمه، و الله كافيهم بحوله و قوته، و لولا ما نهانا الله عنه من الخروج، و أمرنا به من لزوم البيت لم أدع الخروج إليك، و النصرة لك، و لكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيراً.

قال: فلما قدم عمر على على علیه السلام أكرمه، و لم يزل مقيماً معه حتى شهد مشاهده (2)

و في رواية الطبري: و قامت أم سلمة فقالت: يا أمير المؤمنين! لولا أن أعصي الله عزّ وجل، و أنك لا تقبله مني لخرجت معك، و هذا ابني عمر و الله لهو أعزّ علي من نفسي يخرج معك، فيشهد مشاهدك فخرج فلم يزل معه (3).

ص: 202


1- نهج البلاغة 16 / 269.
2- شرح نهج البلاغة 6 / 219.
3- تاريخ الطبري 3 / 8.

الموقف الثالث عشر

*مع أبي ثابت مولى أبي ذر

في حديث عن عبد الله بن حنظلة، حدثني شهر بن حوشب قال: كنت عند أم سلمة رضی الله فسلم رجل، فقيل من أنت؟ قال: أنا أبو ثابت مولى أبي ذر، قالت: مرحباً بأبي ثابت، أدخل فدخل فرحبت به فقالت: أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها؟

قال: مع علي بن أبي طالب علیه السلام.

قالت: وفّقت و الذي نفس أم سلمة بيده لسمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: علي مع القرآن و القرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، و لقد بعثت ابني عمر، و ابن أخي عبد الله أبي أمية،و أمرتهما أن يقاتلا مع علي من قاتله، و لولا أن رسول الله صلّى الله عليه و آله أمرنا أن نقر في حجالنا أوفي بيوتنا، لخرجت حتى أثقف في صف علي (1).

الموقف الرابع عشر

*مع شداد بن أوس

عن شداد بن أوس قال: لما كان يوم الجمل قلت: لا أكون مع على و لا أكون عليه و توقفت عن القتال إلى انتصاف النهار، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة، قالت: من أين أقبلت؟

قلت: من البصرة.

قالت: مع أي الفريقين كنت؟

ص: 203


1- المناقب للخوارزمي ص 176، و رواه في مجمع الزوائد ج 9، ص 134، و أسد الغابة ج 4، ص 33.

قلت: يا أم المؤمنين! إني توقفت عن القتال إلى انتصاف النهار، فألقى الله عزّ و جل في قلبي أن أقاتل مع علي.

قالت: نعم ما عملت لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: من حارب علياً فقد حاربني، و من حاربني حارب الله.

قلت: أ فترين أن الحق مع علي؟

قالت: إي و الله! علي مع الحق و الحق معه، و الله ما أنصفت أمة محمد نبيهم إذ قدموا من أخّره الله عزّ و جل و رسوله، و أخّروا من قدّمه الله تعالى و رسوله، و أنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم و أبرزوا حليلة رسول الله صلّى الله عليه و آله إلى القتال، و الله لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: إن لأمتي فرقة و خلعة فجامعوها إذا اجتمعت، فإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيتي، فإن حاربوا فحاربوا، و إن سالموا فسالموا، و إن زالوا فزولوا معهم حيث زالوا، فإن الحق معهم حيث كانوا.

قلت: فمن أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم؟

قالت: هم الأئمة بعده كما قال عدد نقباء بني إسرائيل علي و سبطاي و تسعة من صلب الحسين، و أهل بيته هم المطهرون و الأئمة المعصومون.

قلت: إنا لله! هلك الناس اذا!

قالت: كل حزب بما لديهم فرحون (1).

الموقف الخامس عشر

جاء في تاريخ الطبري: عن الشعبي قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما نهض في ذلك الأمر إلا ستة بدريون ما لهم سابع، فقلت: اختلفتما؟ قال: لم نختلف، إن الشعبي شكّ في أبي أيوب أخرج حيث أرسلته أم سلمة إلى علي بعد صفين أم لم

ص: 204


1- كفاية الأثر ص 180، البحار 36 / 346.

يخرج؟ إلا أنه قدم عليه فمضى إليه و علي يومئذ بالنهروان (1).

الموقف السادس عشر

قال أبو مخنف و لما نزل علي علیه السلام ذا قار كتبت عائشة إلى حفصة: أما بعد فإني أخبرك: أن علياً قد نزل ذا قار و أقام بها مرعوباً خائفاً لما بلغه من عدتنا و جماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر، إن تقدم عقر، و إن تأخر نحر.

فدعت حفصة جواري لها يتغنين و يضربن بالدفوف، فأمرتهن أن يقلن في غنائهن: ما الخبر؟ ما الخبر ؟ علي في السفر، كالفرس الأشقر، إن تقدم عقر، و إن تأخر نحر، و جعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة و يجتمعن لسماع ذلك الغناء، فبلغ أم كلثوم بنت على علیه السلام ذلك، فلبست جلابيبها و دخلت عليهن في نسوة متنكرات، ثم أسفرت عن وجهها، فلما عرفتها حفصة خجلت و استرجعت، فقالت أم كلثوم: لئن تظاهرتما عليه اليوم لقد تظاهرتما على أخيه من قبل، فأنزل الله فيكما ما أنزل!

فقالت حفصة: كفى رحمك الله و أمرت بالكتاب فمزق، و استغفرت الله (2).

و في رواية الشيخ المفيد: فلما بلغ أم سلمة رضي الله عنها اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سب أمير المؤمنين، و المسرّة بالكتاب الوارد عليهنَّ من عائشة بكت و قالت: أعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن و أوقع بهن، فقالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علیه السلام: أنا أنوب عنك فإني أعرف منك، فلبست ثيابها و تنكرت..(3).

ص: 205


1- تاريخ الطبري 3 / 6 ، فتنة و وقعة الجمل للضبي 2 / 110.
2- البحار 32 / 90، شرح النهج لابن أبي الحديد 14 / 13.
3- الجمل ص 149.

الموقف السابع عشر

إن معاوية حينما تولى أمر الأمة أرسلت إليه بشأن لعن الإمام علي علیه السلام من فوق المنابر قائلة: إنكم تلعنون الله و رسوله من فوق منابركم، ذلك أنكم تلعنون علياً و من أحبّه، و أنا أشهد أن الله أحبه و رسوله (1)

فالملاحظ من هذه المواقف أن أم سلمة رضي الله عنها كانت لا تألوا جهداً في الوقوف مع الحق، و الإرشاد إليه، و الدفاع عن أمير المؤمنين علیه السلام و النصرة له، و تبذل وسعها من أجل ذلك ما وجدت له سبيلاً، فمتى ما سنحت الفرصة للكلام تكلمت، فعارضت و أيّدت و استحسنت ما قام به غيرها، فجزاها الله عن الإسلام و نبيه صلّى الله عليه و آله و إمامها علیه السلام خير جزاء من أحسن عملاً، و بهذا نختم كلامنا في القسم الأول من الكتاب.

ص: 206


1- أعلام النساء ص 77.

الباب الثاني

اشارة

يحتوي على ثلاثة فصول:

الفصل الأول: أحاديثها فی أهل البيت علیهم السلام دراسة و تحليل

الفصل الثاني: ما حدفته الرقابة من أحاديث أم سلمة

الفصل الثالث: الاحاديث الموضوعة

ص: 207

ص: 208

الفصل الأول: أحاديثها في أهل البيت علیهم السلام دراسة و تحليل

اشارة

ص: 209

ص: 210

المدخل

تعتبر أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها من الرواة المكثرين، و لعل ما وصل إلينا من طريقها لا يشكل إلا نسبة قليلة من أصل رواياتها، و قد تعرضنا لذلك في نقطة سابقة، و من بين تلك الروايات الكثيرة رواياتها في أهل البيت علیهم السلام، و لعلها كانت أكثر مما هي عليه الآن إلا أن أيدي العابثين حاولت أن لا تصل لنا هذه الروايات، إرضاء لبني أمية و بني العباس و من تابعهم في نهجهم المخزي ضد أهل البيت علیهم السلام.

و مما يؤيد ما قلناه ما جاء في المناقب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قلت لأم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله: إنك لتكثرين من القول الطيب في علي بن أبي طالب دون نساء النبي صلّى الله عليه و آله، فهل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و آله في علي شيئاً لم يسمعه غيرك؟

قالت: يا ابن عباس أما ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و آله فهو أكثر مما أقدر أن أخبرك به، ولكني أخبرك من ذلك بما يكفيك و يشفيك.. (1).

فهذه الرواية صريحة في أنها كانت تكثر من الروايات في فضل الإمام علي علیه السلام، و مع ذلك فهو أقل بكثير مما سمعته من الرسول صلّى الله عليه و آله، و يظهر من تعبيرها (فهو أكثر مما أقدر..) إن نسبة ما حدثت به أم المؤمنين أم سلمة إلى ما سمعته نسبة قليلة

ص: 211


1- مناقب أمير المؤمنين علیه السلام: 1 / 354.

جداً.

و مهما يكن من أمر فإنني في هذا القسم حاولت أن أستوفي ما جاء في كتب الحديث و السيرة و التاريخ و التفسير من روايات أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها في أهل البيت علیهم السلام، فتتبعت الكثير من كتب المسلمين مما أحتمل وجود حديث لها فيهم، و درست ما ورد فى كتب أهل السنة سنداً و متناً و دلالة لأمور لا تخفى على القراء، و قدمت البحث فيها على ما ورد عنها في كتب الشيعة، و رأيت من المناسب أن أبحث عن ثلاث نقاط تكون كالتمهيد لهذا القسم لما لها من الارتباط الوثيق به و هي:

النقطة الأولى: أهمية حديثها في أهل البيت علیهم السلام.

تكمن أهمية حديثها فيهم علیهم السلام في كونها أماً للمؤمنين و زوجة للرسول الكريم صلّى الله عليه و آله مع إجماع الأمة على وثاقتها و نزاهتها و إيمانها، يضاف إلى ذلك ارتباطها الوثيق بأهل البيت علیهم السلام، فهي عندما تحدث تحدث عن ما يجري داخل البيت النبوي الشريف بكل جزئياته و خصائصه و تفاصيله، و تنقله بكل أمانة و صدق و إخلاص حتى و لو لم يكن الأمر من مصلحتها بحكم كونها زوجة للرسول صلّى الله عليه و آله ، فلهذا نراها عندما حدثت بحديث الكساء و سبب نزول آية التطهير سألت الرسول أن تكون معهم فأبى ذلك ولكن قال لها: «إنك على خير»، فلم يمنعها عدم قبولها معهم أن تروي الرواية بكامل تفاصيلها بما فيه عدم قبول

الرسول صلّى الله عليه و آله لها لأن تكون مع أهل بيته علیهم السلام تحت الكساء. هذا من جهة.

و من جهة أخرى نرى أن المحدثين عنها لم يكونوا من المجاهيل و غير المعروفين في كتب الحديث، بل هم من الثقاة في نظر علماء الرجال، فأكثر الروايات التي وصلت لنا صحيحة السند في نظر علماء الرجال من أهل السنة، فهي معتبرة و صالحة للاحتجاج بها على الخصم.

ص: 212

و هي من جهة ثالثة واضحة الدلالة غير مضطربة المتن، و هذا الأمر يرفع من مستواها في نظر علماء الحديث.

النقطة الثانية: عدم تفردها بروايات الفضائل.

بعد أن عرفنا مدى وثاقة أم المؤمنين أم سلمة بحيث لا يطرأ الشك إلى ما ترويه عن الرسول صلّى الله عليه و آله، لا نحتاج فيما ترويه إلى ضم أحد معها ليحصل لنا اطمئنان بحديثها، بل لو تفردت بحديث - و نحن نعلم بصدقها كما هو كذلك - كان علينا التسليم و القبول، ولكن مع ذلك كله فإن ما ترويه من فضل في أهل البيت علیهم السلام له ما يماثله في روايات سائر الأصحاب، فلو تتبعت رواياتها و تتبعت روايات سائر الأصحاب لوجدت المضمون موجوداً عندهم أيضاً، فهي لم تنفرد بتلك الروايات، و هذا الأمر يضيف إلى قيمة رواياتها قيمة أخرى، و يرفع عن النفوس التي تشبعت بأفكار الأمويين ما ربما يحصل لها من شك، و فيما سنذكره لاحقاً ما يعني القارئ لإثبات ما ادعيناه، ولكن نستطرد بعض الأمثلة إنعاماً في التدليل على الأمر، فقد روت حديث الكساء مثلاً، و رواه غيرها بطرق مختلفة، سيأتي بيان بعضها، و روت حديث المنزلة و رواه غيرها، و سيأتي أيضاً بيان ذلك، و روت حديث «علي مع الحق»، و رواه غيرها من الصحابة و هكذا..

النقطة الثالثة: أقسام الحديث.

ينقسم الحديث بجهات مختلفة إلى عدة أقسام كما يذكرها علماء الحديث، و لكن ما يهم موضوعنا انقسامه إلى قسمين:

الأول: خبر الواحد.

الثاني: الخبر المتواتر.

و المقصود من خبر الواحد هو الخبر الذي لا يفيد العلم، أي درجة اليقين بنفسه، و لا توجد معه قرينة يفيد اليقين بمعونتها، فيشمل حتى الخبر الذي رواه

ص: 213

أكثر من شخص ولكن لم يفد خبرهم إلا الظن، و هذا القسم من الحديث قد قامت الأدلة المعتمدة على حجيته و قبوله، و إلغاء احتمال الخلاف فيه إن كان راويه ثقة صدوقاً في نقله، فهو - حينئذ - معتبر في نظر العلماء و يستدلون به في كتبهم، و يحتجون به على ما يريدون في كل مسألة تقرّرت حجية خبر الواحد فيها.

و المقصود من الخبر المتواتر هو الخبر الذي يحدث به جماعة يمتنع تواطؤهم و اجتماعهم على الكذب، فيفيد هذا اللون من الخبر العلم و درجة اليقين، فلا يحتمل في حقه أن يصدر كذباً، و قد اختلف العلماء في تحديد عدد المخبرين، و لا يهمنا الدخول في تفاصيل ذلك لخروجه عن شؤون الكتاب.

و قد قسم العلماء التواتر إلى ثلاثة أنواع:

الأول: التواتر اللفظي و هو: ما يتحد فيه لفظ الخبر و معناه عند جميع الرواة، كأن يخبر الراوي الأول عن الرسول صلّى الله عليه و آله أنه قال: «علي مع الحق و الحق مع علي»، و يأتي الراوي الثاني بهذا الحديث بلفظه، و هكذا الثالث و الرابع إلى أن يجتمع مجموعة يمتنع اتفاقهم على الكذب و يحصل اليقين بنقلهم.

الثاني: التواتر المعنوي و هو: أن يتعدد اللفظ و يتحد المعنى، و يمكن أن نمثل له بالروايات التي تحدثت عن ما يصنعه الإمام علي علیه السلام في الحروب من فتكه بالأبطال و قتله الشجعان و مبارزته من يخاف الآخرون من مبارزته و عدم هروبه في المعارك أو تقهقره و تراجعه عن مجالدة الأقران، فإن تلك الأحاديث مختلفة الألفاظ و المضامين إلا أنه يمكن لنا أن نستفيد من مجموعها معنى واحداً و هو الشجاعة النادرة للإمام علي علیه السلام ، و نقول عن هذا المعنى أنه وصل لنا بالتواتر المعنوي، و لا يعني هذا عدم وصول خبر شجاعة الإمام علي علیه السلام لنا عن طريق التواتر اللفظي، و لكن ضربنا ذلك كمثال على التواتر المعنوي.

الثالث: التواتر الإجمالي و المراد منه: أن توجد مجموعة كبيرة من الأحاديث

ص: 214

بحيث يحصل لنا علم إجمالي بصدور بعضها و إن لم نعرفه بخصوصه، فلو ألقينا نظرة على كتاب جامع للأحاديث يحصل لنا علم بعدم كذبها كلها، بل نعلم بصدور بعضها عن الرسول صلّى الله عليه و آله، و بدون أن نعرف هذا البعض بخصوصه، و هذا ما يسمى بالعلم الإجمالي بصدور البعض، و هو المعبر عنه بالتواتر الإجمالي، فإذا كانت الأحاديث ذات مضمون واحد أو متقارب يكون ذلك المعلوم حجة و لو لم نمیزه بشخصه فنعتمد عليه.

و لتقريب الفكرة نقول: وردت عند الطرفين - الشيعة و السنة - روايات كثيرة تدل على أفضلية الإمام علي عليه السلام على سائر الصحابة، و لكثرة هذه الروايات حصل لنا العلم بصدور بعضها - لا أقل - عن صاحب الرسالة الخاتمة صلّى الله عليه و آله، فيمكن أن نعتمد عليه و نحتج به و إن لم نعلم أن الخبر الصادر هو خبر أبي ذر أو أم سلمة أو عمار أو فلان، لأنا نعلم أن خبراً من هذه الأخبار يحمل هذا المعنى صدر عن الرسول صلّى الله عليه و آله، قطعاً، و ذلك كاف في مقام الأخذ و الاحتجاج.

و الخبر المتواتر بأنواعه الثلاثة حجة عند العلماء بلا ريب لأنه يفيد العلم، و ما بعد العلم إلا الجهل و الضلال.

و مما تجدر الإشارة إليه أن الروايات التي وردت في فضل الإمام علي عليه السلام و أهل بيته عليه السلام بلغ الكثير منها درجة التواتر بأحد أنواعه الثلاثة أو قامت عليها القرائن القطعية، فهي حجة على من يسمعها أو يقرأها، و سوف نشير إلى ذلك أثناء البحث عن الروايات إن شاء الله.

ص: 215

(1)

حديث الكساء

1 (1) - عن أبي المعدل عطية الطفاوي عن أبيه أن أم سلمة حدثته قالت: بينما رسول الله صلّى الله عليه و آله في بيتي يوما إذ قالت الخادم: إن علياً و فاطمة بالسدة قالت: فقال لي: «قومي فتنحي لي عن أهل بيتي»، قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً فدخل على و فاطمة و معهما الحسن و الحسين و هما صبيان صغيران فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما، قالت و اعتنق علياً بإحدى يديه و فاطمة باليد الأخرى فقبل فاطمة و قبل علياً فأغدف عليهم خميصة (2) سوداء، فقال: «اللهم إليك لا إلى النار أنا و أهل بيتي» قالت: فقلت: و أنا يا رسول الله فقال: «و أنت» (3).

2- حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال: حدثني شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله حين جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق فقالت: قتلوه قتلهم الله غروه و ذلوه لعنهم الله، فاني رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله جاءته فاطمة غدية ببرمة (4) قد صنعت له فيها عصيدة، تحملها في طبق لها حتى وضعتها بين يده، فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: هو في البيت، قال: فاذهبي فادعيه و ائتيني بابنيه، قالت: فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما بيد و علي يمشي في أثرهما حتى دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم فأجلسهما في حجره، و جلس علي عن يمينه، و جلست فاطمة عن يساره، قالت أم سلمة: فاجتبذ من تحتي كساءاً خيبرياً كان بساطاً لنا على المدامة

ص: 216


1- سند الحديث: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا عوف.
2- كساء أسود مربع له علمان. السان.
3- مسند أحمد: ج 6، ص 296، تهذيب التهذيب 2: 258، فضائل الصحابة 2 / 602، الذرية الطاهرة للدولابي 1 / 107، تهذيب الكمال للمزي، 6 / 229، مسند أبي يعلى 12 / 344، مسند أبي يعلى 12 / 383 .
4- البرمة: القدر الصغير المتخذ من الجبال - العين -.

في المدينة فلفه النبي صلّى الله عليه و آله عليهم جميعا فأخذ بشماله طرفي الكساء و ألوى بيده اليمنى إلى ربه عز وجل قال: «اللهم أهلي أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، اللهم أهل بيتي أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، اللهم أهل بيتي أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، قلت: يا رسول الله! أ لست من أهلك؟ قال: «بلى فادخلي في الكساء»، قالت: فدخلت في الكساء بعدما قضى دعاءه لابن عمه علي و ابنيه و ابنته فاطمة رضى الله عنهم (1).

3- حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو أحمد الزبيرى ثنا سفيان عن زبيد عن شهر بن حوشب عن أم سلمة: ان النبي صلّى الله عليه و آله جلل على علي و حسن و حسين و فاطمة كساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أنا منهم؟ قال: إنك إلى خير (2).

4- حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا علي بن زيد عن شهر بن حوشب عن أم سلمة: ان رسول الله صلّى الله عليه و آله قال الفاطمة: ائتيني بزوجك و ابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكياً قال: ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم ان هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك و بركاتك على محمد و على آل محمد انك حميد مجيد قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي و قال: إنك على خير (3).

5- و عنها - أم سلمة - قالت: كان النبي صلّى الله عليه و آله عندنا منكساً رأسه، فعملت له فاطمة حريرة فجاءت و معها حسن و حسين فقال لها النبي صلّى الله عليه و آله: أين زوجك؟ اذهبي فادعيه، فجاءت به فأكلوا، فأخذ كساء فأداره عليهم، و أمسك طرفه بيده اليسرى، ثم رفع اليمني إلى السماء و قال: اللهم هؤلاء أهل بيتى و حامتى (4) و خاصتي، اللهم

ص: 217


1- مسند أحمد: ج 6، ص 298.
2- مسند أحمد: ج 6، ص 304، و رواه الترمذي: ج 5، ص 361.
3- مسند أحمد: ج 1، ص 323.
4- الحامة الخاصة و كرر لاختلاف اللفظ - منه - .

اذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، أنا حرب لمن حاربهم، سلم لمن سالمهم، عدو لمن عاداهم.

أخرجه ابن القبا في معجمه (1).

6- و عن أم سلمة قالت: جاءت فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه و آله إلى رسول الله صلى الله عليه و آله متوركة الحسن و الحسين، في يدها برمة للحسن، فيها سخين حتى أتت بها النبي صلّى الله عليه و آله، فلما وضعتها قدامه قال: أين أبو حسن؟ قالت: في البيت، فدعاه فجلس النبي صلّى الله عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين يأكلون، قالت أم سلمة: و ما سامني النبي صلّى الله عليه و آله، و ما أكل طعاما و أنا عنده إلا سامنيه قبل ذلك اليوم - تعني سامني دعاني إليه -، فلما فرغ التف عليهم بثوبه، ثم قال: اللهم عاد من عاداهم، و وال من والاهم (2).

*السند:

ورد هذا الحديث بأسناد مختلفة و متون متعددة في كتب كثيرة كما تلاحظه في الهامش مما يوحي لنا بتعدد حدوث الواقعة، بل يحصل لنا القطع بذلك خصوصاً إذا ما نظرنا إلى سائر متون الأحاديث و كيفية وقوعها من الطرق التي وردت عن غير طريق أم سلمة. و هو من الأحاديث المشهورة التي رويت عن أمي المؤمنين أم سلمة و عائشة و غيرهما..

ص: 218


1- ذخائر العقبى: ص 22.
2- مجمع الزوائد: ج ص 166. و قد ورد هذا الحديث بصوره المتعددة في مصادر كثيرة غير ما ذكرناه، منها: الدر المنثور للسيوطي ، ج 5، ص 198، کنز العمال: ج 12، ص 105 ، 101 ، و ج 13، ص 644، البداية و النهاية ج 8، ص 39، أخبار اصفهان: ج 1، ص 108. و قد ورد أيضاً من غير طريق أم سلمة كما ذكرنا في المتن، و من تلك الروايات ما جاء في المستدرك للحاكم بسنده عن واثلة بن الأسقع رضی الله عنه قال: جئت أريد عليا رضی الله عنه فلم أجده فقالت فاطمة رضى الله عنها: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله يدعوه فاجلس فجاء مع رسول الله صلّى الله عليه و آله فدخل و دخلت معهما قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله حسنا و حسينا فاجلس كل واحد منهما على فخذه و أدنى فاطمة من حجره و زوجها ثم لف عليهم ثوبه و أنا شاهد فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) اللهم هؤلاء أهل بيتي). هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه. ج 2 ص 416 أو ص 451.

حتى اشتهر القول (أصحاب الكساء) و يراد بهم الخمسة الذين ضمهم الكساء، و أصبح علماً عليهم لا يشاركهم أحد فيما اختصوا به، و هم النبي محمد صلّى الله عليه و آله و الإمام علي علیه السلام و السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام، و الإمام الحسن علیه السلام و الإمام الحسين علیه السلام.

و من خلال ما قدمناه في نقطة (الحديث المتواتر) يحصل لمن لم يخطئ فؤاده الحق الإطمئنان بصدوره و إن لم يصل عدد الراوين إلى درجة التواتر، و بعد الإطمئنان بصدوره لا حاجة في البحث عن صحة السند و سقمه، ولكن مع ذلک فقد ورد هذا الحديث الشريف بأسناد صحيحة عند أهل السنة فضلاً عن وروده عند شيعة أهل البيت علیهم السلام، و لكي نخرج من حد الدعوى إلى دائرة الاثبات نقول:

قال الترمذي بعد ذكره الحديث (رقم 3) بصورته المتقدمة: (هذا حديث حسن صحيح، و هو أحسن شيء روي في هذا الباب، و في الباب عن أنس و عمر بن أبي سلمة، و أبي الحمراء) (1).

و قال الهيثمي في التعليق على الحديث رقم (6) (رواه أبو يعلى و إسناده جيد) (2).

و قال في تعليق له على متن آخر: (رواه الطبراني في الأوسط و فيه ابن لهيعة و هو ضعيف) (3). بينما ابن لهيعة من رواة صحيح مسلم فراجع ج 2 ص 110.

و لتزداد ثقة القارئ نذكر رجال بعض الأسانيد مع وصفهم:

إسناد الحديث رقم (2) المنقول عن مسند أحمد، و نذكر من بعد الإمام أحمد:

1- أبو النضر هاشم بن القاسم: من رجال صحيح مسلم 1 / ص 14.

2- عبد الحميد بن بهرام: وثقه أحمد و ابن معين و ابن المديني و أبو داود و غيرهم فراجع سنن ابن ماجة 2 / 815 و قال أبو حاتم: (أحاديثه عن شهر

ص: 219


1- 5 / 361.
2- 9 / 71، مجمع الزوئد.
3- 9 / 168.

صحاح) (1).

3- شهر بن حوشب: حديثه حسن كما في مجمع الزوائد 10 / 108، وثقه أحمد و ابن معين، و قال أبو عيسى الترمذي: قال محمد هو البخاري: شهر حسن الحديث، و قوّى أمره، و قال أحمد بن عبد الله العجلي: ثقة شامي (2).

و يتحد سند الإمام أحمد مع الترمذي فيما عدا الراوي الأول، فإن الإمام أحمد يرويه مباشرة عن أبي أحمد الزبيري، و أما الترمذي فيرويه عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري، و رجال السند هم:

1- محمود بن غيلان: من رجال البخاري و مسلم فراجع الأول 1 / 150، 2 / 4، 155 / 93، و راجع الثاني: 1 / 18، 19، 84.

2- أبو أحمد الزبيري: اسمه محمد بن عبد الله، من رجال البخاري أيضاً كما في: 243/6 ، و هو ثقة حافظ، قال - أبو عيسى - سمعت بنداراً يقول: ما رأيت أحداً أحسن حفظاً من أبي أحمد الزبيري، كما جاء في سنن الترمذي: 1 / 261.

3- سفيان: من رجال البخاري: 1 / 2، 43، 4 / 160.

4- زبيد: و هو ابن الحارث من رجال الصحيحين البخاري: 1 / 17، 4 / 160، و مسلم 57/1.

*مقارنة بين متون الحديث:

اتفقت متون الأحاديث على بيان كيفية الدعاء الصادر من الرسول صلّى الله عليه و آله لأهل بيته علیهم السلام، و إنه كان بعد أن أغدف عليهم الكساء و جللّهم به أو بالخميصة و ميّزهم عن سائر الناس، و اختلفت في بعض تفاصيل الدعاء زيادة و نقيصة اقتضاها تكرر الفعل كما يبدو، كما اختلفت في دخول أم سلمة رضی الله معهم و عدم دخولها،

ص: 220


1- میزان الاعتدال: 2 / 538.
2- ن.م. 2 / 284.

فنبين الاختلاف في الجانب الأول ثم الاختلاف في الجانب الثاني.

*الاختلاف في صياغة الدعاء:

الحديث رقم (1) اقتصر على قوله صلّى الله عليه و آله: «اللهم إليك لا إلى النار، أنا و أهل بيتي».

الحديث رقم (2) ورد فيه ما يختلف عن ذلك حين قال رسول صلّى الله عليه و آله: «اللهم أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس، و طهرهم تطهيراً» كررها ثلاثاً.

الحديث رقم (3): «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي (1) اللهم أذهب عنهم الرجس..».

الحديث رقم (4): «اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك و بركاتك على محمد و على آل محمد إنك حميد مجيد..».

الحديث رقم (5): أضاف على ما في الحديث رقم (3): «أنا حرب لمن حاربهم سلم لمن سالمهم عدو لمن عاداهم».

الحديث رقم (6) و يختلف عنهم في التصريح من أم سلمة رضی الله بأنه لم يشركها الرسول صلّى الله عليه و آله معهم في الأكل مع أنه صلّى الله عليه و آله لم يأكل طعاماً و هي معه إلا و أشركها فيه، كما يختلف في صيغة الدعاء و هو: «اللهم عاد من عاداهم و وال من والاهم».

*دخول أم سلمة معهم:

في الحديث رقم (1): (قالت: فقلت: و أنا يا رسول الله فقال: «و أنت»).

في الحديث رقم (2): (قلت: يا رسول الله، الست من أهلك؟ قال: «بلى، فادخلي في الكساء»، قالت: فدخلت في الكساء بعد ما قضى دعاءه لابن عمه علي و ابنيه و ابنته فاطمة..).

ص: 221


1- و في لفظ الترمذي (حامتي) و الحامة الخاصة، و منه صديق حميم أو أخ حميم.

في الحديث رقم (3): (فقالت أم سلمة: يا رسول الله، أنا منهم؟ قال: «إنك إلى خیر»).

في الحديث رقم (4): (قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي، و قال: «إنك على خير»).

و الحديث رقم ( 5 و 6) لم يتعرضا لهذه الجهة.

*التعليق على ذلك:

الحديثان الثالث و الرابع ينفيان بوضوح أن تكون أم سلمة رضی الله من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس..، خصوصاً الحديث الرابع الذي تقول فيه أم سلمة رضی الله: (فجذبه من يدي) مما يدل على وجود محذور في دخولها معهم و إلا لما كان ينبغي من صاحب الأخلاق الكريمة أن يتعامل مع زوجه المؤمنة هذا التعامل!

أما الحديث رقم (1) فأكثر ما يدل عليه أنها داخلة في مضمون قول الرسول صلّى الله عليه و آله: «اللهم إليك لا إلى النار»، و ليست مشمولة للدعاء باللفظ الأول فضلاً عن دخولها في أهل البيت علیهم السلام، فإن ظاهر فعل الرسول صلّى الله عليه و آله من تخصيص غيرها بالإغداف بالخميصة و هي معهم في البيت يدل على أن الدعاء كان لأولئك فقط، ولكنها لما سألت الرسول صلّى الله عليه و آله: (و أنا يا رسول الله؟) قال: «و أنت»، أي أنت أيضاً (إلى الله لا إلى النار) لأنها تستحق ذلك لا حياء منها، فهو من قبيل أن تقول الشخص: ادعُ فلانا و فلانا من أهلي على الغذاء عندي، فقال لك: و أنا؟ فقلت له: و أنت، فليس المقصود أنه من أهلك بل المراد و أنت مدعو أيضاً (1).

ص: 222


1- و يمكن أن يقرر بما يلي: إن الرسول صلّى الله عليه و آله خلص بحصره آله الكرام صلّى الله عليه و آله دون سواهم، و لم تشاركهم السيدة الجليلة في شرفه و شأنه، نعم نالها شرف الدعاء، فهنا أمران: 1- أصحاب الكساء و هم أله و ليست هي منهم. 2- تعمييم الدعاء و ذلك بعد طلبها و حرصها على نيل بركته.

فالحديث لا يدل بهذه الجملة على دخول أم سلمة في جملة أهل البيت علیهم السلام، بل يدل أول الحديث على خروجها عنهم حيث خاطبها الرسول صلّى الله عليه و آله بقوله: «قومي فتنحي لي عن أهل بيتي» و في ذلك من التصريح بخروجها مما يعرفه أولو الحجي.

يبقى عندنا الحديث رقم (2) فربما يتوهم منه أنه اعتبر أم سلمة رضی الله من جملة أهل بيته علیهم السلام فيحصل التعارض بين الأخبار.

ولكن التأمل الدقيق في متون الروايات يبين لنا خلاف ذلك، فإن تعبير الحديث الثالث (أهل البيت)، و تعبير الحديث الرابع (آل محمد)، بينما التعبير في الحديث الثاني هو (أ لست من أهلك)، فهو مثل قوله تعالى: (و سار بأهله) أي زوجته، أو هي مع ولده، و أين هذا التعبير من ذلك التعبير؟

فمصطلح القرآن الكريم في عنوان (أهل البيت) هو الذي مشت عليه السنة الشريفة، كما في حديث الثقلين، و حديث السفينة، و أمثالهما، و هو يختلف عما جاء في الحديث الثاني، فلا تعارض بين الأخبار.

و على فرض حصول التعارض فالذي نذهب إليه هو ترجيح الحديثين الثالث و الرابع على الحديث الثاني، و لعل اليد العابثة تدخلت هنا فأضافت هذا الذيل لتحرف الكلم عن مواضعه كما تدخلت في موارد كثيرة مما يرتبط بفضائل أهل البيت علیهم السلام، و نسند دعوانا هذه بقرينة من داخل الحديث، و أخرى من خارجه و هما الحكم الفصل بين ما يصدر من الرسول الله صلّى الله عليه و آله و بين غيره.

*القرينة الداخلية:

إن الرسول صلّى الله عليه و آله قد أخذ الكساء من تحت أم سلمة رضی الله و لفّه على نفسه صلّى الله عليه و آله و ابنته و علي و لحسنين علیهم السلام، و لم يدخلها معهم تحت الكساء في بادئ الأمر و هي بين يديه يسمع صوتها و يرى شخصها و يعرف مكانها، فكأنه عزلهم في مكان

ص: 223

عن سائر الناس حيث عزلهم عن أم سلمة القريبة منه روحاً و عملاً، و إمعانا في الأمر أمسك بطرفي الكساء، و هذا الفعل مقدمة للدعاء الذي ابتدأه بقوله صلّى الله عليه و آله: «اللهم أهل بيتي»، أي هؤلاء أهل بيتي، الجملة الاسمية المستفاد منها الحصر، كما هو المعروف من تركيب الجمل العربية. فبفعل الرسول صلّى الله عليه و آله و قوله نستفيد أن أم سلمة رضی الله مع صلاحها و إيمانها لم تكن من أهل بيته صلّى الله عليه و آله.

و لا يفوتنا و نحن نبيّن القرينة الداخلية أن نقول: إن الغرض - كما هو الظاهر - من لفّهم بالكساء هو الدعاء لهم بذلك الدعاء الخاص، لا لأن يجلسوا تحته و يبقوا فيه طول مكثهم في بيت الرسول صلّى الله عليه و آله فما هو الداعي في إذن الرسول صلّى الله عليه و آله الأم سلمة رضی الله بالدخول بعد أن قضى دعاءه لابن عمه و ابنيه و ابنته علیهم السلام؟!

*القرينة الخارجية:

أكثر الروايات الواردة عن أم سلمة رضی الله في نزول آية التطهير الآتية عن قريب إن شاء الله تتفق مع الحديثين الثالث و الرابع في اللفظ أو في المعنى، «إنك على خير، أنت على مكانك، إنك على خير، إنك من أزواج رسول الله صلّى الله عليه و آله».

و هكذا الأحاديث الواردة عن غير أم سلمة من أزواج الرسول صلّى الله عليه و آله، اللائي نقلن حديث الكساء بما شاهدوه:

فقد روى الثعلبي في تفسيره بسنده إلى العوام بن حوشب، حدثني ابن عم لي من بني الحارث بن تيم الله يقال له مجمع قال: دخلت مع أمي على عائشة فسألتها عن على علیه السلام فقالت:

سألتني عن أحب الناس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله، لقد رأيت علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً، و قد جمع رسول الله لفوعاً (1) عليهم ثم قال: اللهم هؤلاء أهل

ص: 224


1- اللفوع: و في بعض النسخ اللفاع: و هو ثوب يجلل به الجسد كله كساءاً كان أو غيره.

بيتي و خاصتي، فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالت: قلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحي، إنك إلى خير (1).

و في المصدر بسنده عن عبد الله بن جعفر، قال: لما نظر رسول الله صلّى الله عليه و آله إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ ،مرتين، قالت زينب: أنا يا رسول الله، فقال: ادعي لي علياً، و فاطمة، و الحسن و الحسين.

قال: فجعل حسناً عن يمينه و حسيناً عن شماله و علياً و فاطمة تجاهه، ثم غشاهم كساءاً خيبرياً، ثم قال: اللهم إن لكل نبي أهلاً، و هؤلاء أهل بيتي، و أنزل الله عزّ وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا)، فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم؟ فقال رسول الله: مكانك، فإنك إلى خير إن شاء الله (2).

فبهاتين القرينتين و بما سيأتي في سبب نزول آية التطهير من بيان المراد من (أهل البيت) في الآية، ترتفع الغشاوة عن الناظرين، و يندفع ما يتوهم من التعارض، و يعود الحق إلى نصابه.

و يتجلى الحق بصورة أوضح عندما نرجع إلى الروايات الواردة عن طريق أهل البيت علیهم السلام أعنى الأئمة من أولاد على و فاطمة خزنة علم الرسول صلّى الله عليه و آله و أمنائه على وحيه فلا نجد لإدخال أم سلمة فى جملة أهل البيت عيناً و لا أثراً.

و على فرض التنزل و القول بصدور الذيل من أم سلمة رضی الله و إذن الرسول صلّى الله عليه و آله لها بالدخول في ذلك الحرم المقدّس الذي لا ينال شرف الدخول فيه إلا ذو حظ عظيم، إلا أن في الرواية حرماً آخر لم تذق حلاوة رؤيته أم سلمة و لا غيرها من بني الإنسان إلا أولئك الأربعة الذين لفهم الرسول صلّى الله عليه و آله بنفسه، ذلك

ص: 225


1- العمدة لابن البطريق / ص 23 ، 40، نقلاً عن تفسير الثعلبي.
2- ن. م.

الحرم هو حرم الدعاء بإذهاب الرجس عنهم و تطهيرهم بالطهارة الإلهية، و تلك دعوة من أحب مخلوق إلى خالقه فلم تردّ و لم تؤخر.

فأم سلمة و إن تنزلنا و قلنا: إنها اعتبرت في هذا الحديث من أهل البيت و المعنى المجازي لأهل البيت يتسع لأكثر من ذلك و هي على إيمانها أيضاً إلا أنها لم تحظ بهذا الشرف العظيم، و يبقى الحديث دالاً على اختصاص أولئك بالطهارة من الرجس و تلك فضيلة و أي فضيلة.

*ما يستفاد من الحديث:

1- إن أهل بيت الرسول صلّى الله عليه و آله في ذلك الوقت هم علي و فاطمة و الحسنان علیهم السلام .

2- إنهم خاصة الرسول صلّى الله عليه و آله و حامته، أي هم الأقرب إليه من كل أحد.

3- إنهم المطهرون من الرجس و معنى ذلك إنهم المعصومون الذين لا تزيغ قلوبهم و لا أفعالهم و لا أقوالهم عن الحق طرفة عين أو خفقة فؤاد، و سيأتي بيان ذلك في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى.

4- إنهم محل لصلوات الله و نزول بركاته.

5- إن الرسول صلّى الله عليه و آله حرب لمن حاربهم بصيغة الإخبار الدالة على ثبوت الأمر و تحققه، و هذا كلام فيه من الإطلاق ما يشمل كل حرب، بالفعل كانت أو بالقول أو بالكتابة.. و يستفاد من هذه الجملة أن من حاربهم كان محارباً للرسول صلّى الله عليه و آله و حكم من حارب الرسول صلّى الله عليه و آله يعرف من قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاۡ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَ رَسُولَهُۥ وَ يَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاۡ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاۡ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَ أَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاۡ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیٌ فِی ٱلدُّنۡيَا وَ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1).

ص: 226


1- المائدة / 33.

و لا يخفى على من له قلب يعقل و إيمان صادق أن تصريح الرسول صلّى الله عليه و آله لم يصدر عن هوى في نفسه و محض حب لأهل بيته علیهم السلام و إن كانوا أهلاً لذلك الحب، فإنه صلّى الله عليه و آله (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَیٰٓ * إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ يُوحَی) (1)

و في هذه الجملة ما لا يعرفه إلا الله و رسوله و الراسخون في العلم، من مزايا اختص بها أصحاب الكساء علیهم السلام و وهت عزائم بني آدم عن الوصول إليها.

6- إن الرسول صلّى الله عليه و آله سلم لمن سالمهم.

7- إنه صلّى الله عليه و آله عدل و لمن عاداهم.

و من سالمه الرسول صلّى الله عليه و آله سالمه الله عز وجل، و من عاداه الرسول صلّى الله عليه و آله عاداه الله عز وجل لما تقدم من الآية في سورة النجم، فإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة من طريق التعاسة و الشقاء. فاقرأ عليه قوله تعالى: (وَ يَوۡمَ يُحۡشَرُ أَعۡدَآءُ ٱللَّهِ إِلَی ٱلنَّارِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ) (2) واتلو عليه: (ذَٰلِكَ جَزَآءُ أَعۡدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمۡ فِيهَا دَارُ ٱلۡخُلۡدِ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ بِ-َٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ) (3).

و أما غير المعادي لأهل البيت علیهم السلام، الموالي لأعدائهم فذكره بقوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّی وَ عَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَ قَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ..) (4).

8- إن الرسول صلّى الله عليه و آله قد طلب من الله سبحانه و تعالى أن يكون عدواً لمن عاداهم، و ولياً لمن والاهم، و لا ريب في استجابة دعائه.

ص: 227


1- النجم /3، 4.
2- فصلت: 19.
3- فصلت: 28.
4- الممتحنة: 1.

(2)

آية التطهير

1- حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبدالملك يعني ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: حدثني من سمع أم سلمة تذكر: أن النبي صلّى الله عليه و آله كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة (1) فدخلت بها عليه، فقال لها: «ادعي زوجك و ابنيك»، قالت فجاء علي و الحسن و الحسين فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، و هو على منامة (2) له على دكان (3) تحته كساء له خيبري، قالت: و أنا أصلي في الحجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا) (4)، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: و أنا معكم يا رسول الله؟ قال: «إنك إلى خير، إنك إلى خير».

قال عبد الملك: و حدثني أبو ليلى عن أم سلمة مثل حديث عطاء سواء، قال عبد الملك: و حدثني داود بن أبي عوف الحجاف عن حوشب عن أم سلمة بمثله سواء (5).

2- حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني، عن يحيى بن عبيد عن عطاء، عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبى صلّى الله عليه و آله قال: نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه و آله: (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا)، في

ص: 228


1- الخزيرة: نوع من الطبيخ، دقيق مع شحم، عن معجم مقاييس اللغة، مادة خزر.
2- المنامة: ما ينام عليه فهي بمعنى: الدكان، ولكن تطلق و يراد بها القطيفة، و المراد هنا الثاني كما يظهر من وضعها على الدكان. راجع النهاية لابن الأثير، مادة (نوم).
3- الدكان: ما ينام عليه.
4- سورة الأحزاب: 33.
5- مسند أحمد ح 6 ص 292، و جاء في كل من: المعجم الكبير 23 / 327، التاريخ الكبير 2 / 109، الإصابة 56/8.

بيت أم سلمة، فدعا النبي صلّى الله عليه و آله فاطمة و حسناً و حسيناً فجلّلهم بكساء و علي خلف ظهره فجلّله بكساء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً».

قالت أم سلمة: و أنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنت على مكانك و أنت إلى خير» (1).

3- حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا عثمان بن عمر، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، ثنا شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة رضى الله عنها إنها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت...) قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه و آله إلى علي و فاطمة و الحسن و الحسين رضوان الله عليهم أجمعين فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»، قالت أم سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال: «إنك على خير، و هؤلاء أهل بيتي اللهم أهلى أحق» (2).

4- و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة رضى الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه و آله: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله كان بينهما على منامة له عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضى الله عنها ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «ادعي زوجك و ابنيك حسناً و حسيناً»، فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلّى الله عليه و آله: (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا) فأخذ النبي صلّى الله عليه و آله بفضلة إزاره فغطاهم إياها، ثم أخرج يده من الكساء و أومأ بها إلى السماء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، قالها ثلاث مرات، قالت أم سلمة رضى الله عنها: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله و أنا معكم؟ فقال: «إنك إلى خير مرتين» (3).

ص: 229


1- الترمذي: ج 5 ص ،328، و رواه في ج 5، ص 30 باختلاف یسیر.
2- مستدرك الحاكم: ج 2، ص 416، و رواه أيضاً بسند آخر و اختلاف يسير في ج 3، ص 146.
3- الدر المنثور: ج 5، ص 198.

5- و أخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا)، و في البيت سبعة جبرئيل و ميكائيل و علیهما السلام علي و فاطمة و الحسن و الحسين رضى الله عنهم و أنا على باب البيت قلت: يا رسول الله أ لست من أهل البيت؟ قال: «إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي صلّى الله عليه و آله» (1).

6- و أخرج الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: في بيتي نزلت (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ) و في البيت فاطمة و علي و الحسن و الحسين فجللهم رسول الله صلّى الله عليه و آله بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا) (2).

*السند:

لعل من نافلة القول البحث في سند الأحاديث المصرحة بنزول هذه الآية الكريمة فى الإمام على و فاطمة و الحسن و الحسين علیهم السلام لم يشاركهم أحد غيرهم إلا النبي محمد صلّى الله عليه و آله، فقد تواترت الروايات من الفريقين على بيان ذلك، و يكفي التواتر لسد المجرى في وجوه الذين أبت أقلامهم إلا الحياد عن الحق.

قال صاحب تفسير الميزان: (و بهذا الذي تقدم يتأيد ما ورد في أسباب النزول إن الآية نزلت في النبي صلّى الله عليه و آله و على و فاطمة و الحسنين علیهم السلام خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم).

و هي روايات جمة تزيد على سبعين حديثاً، يربو ما ورد منها من طرق أهل

ص: 230


1- ن. م.
2- ن. م، كما وردت هذه الروايات في كتب كثيرة منها: ذخائر العقبى، ص 21، و المناقب للخوارزمي، ص 61، و أخبار اصفهان: ج 2، 253، و السنن الكبرى: ج 2، ص 150 و غيرها...

السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة (1).

و جاء في إحقاق الحق: (فقد رواها أهل السنة بطرق كثيرة قاربت الأربعين طريقاً.. و روتها الشيعة في بضع و ثلاثين طريقاً) (2).

و نقل السيوطي في الدر المنثور عشرين رواية بطرق مختلفة تبين نزولها فيهم علیهم السلام و ذكر ابن البطريق أربعة و عشرين حديثاً من صحاح أخبار القوم تفيد ذلك (3).

و قال ابن حجر: (أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين..) (4).

و عند تواتر الروايات لا حاجة لأن يتعب الباحث نفسه في البحث عن رجال السند و أحوال الرواة، فإن التواتر بنفسه يلغي احتمال الكذب و الخطأ عن الرواة و يفيد القطع بالصدور عند من لم يرن على قلبه حجاب العناد و العصبية.

و مع ذلك كله فقد قال الحاكم في مستدركه: (هذا صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه) (5)، و لا يذهب عليك ما مرّ من كلام السيوطي في دره المنثور:

(و أخرج الترمذي و صححه..) و قال البيهقي في ذلك الحديث: (قال أبو عبد الله هذا حديث صحيح ،سنده، ثقات رواته) (6).

ثم ضع في معلوماتك إن رجال سند الطريق الأول لأحمد بن حنبل هم من رجال صحيح البخاري و مسلم! و إرساله لا يضر بعد إمكان معرفة من يروي عنه (عطاء) و هو عمر بن أبي سلمة كما يعرف من رواية (الترمذي) إن لم يرو (عطاء) مباشرةً عن أم سلمة كما يعرف من رواية (الحاكم).

أضف إلى ذلك أن رجال طريقه الثاني من رجال الصحيحين ما عدا داود بن

ص: 231


1- الميزان في تفسير القرآن: 16 / 311.
2- إحقاق الحق : 9 / 08
3- العمدة / ص 31.
4- الصواعق المحرقة: ص 141
5- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 146.
6- السنن الكبرى: 2 / 150.

أبي عوف و قال عنه في سنن ابن ماجة: (و كان مرضياً) (1) و كذلك في سنن الترمذي، و ورد ذكره في حديث في المستدرك عبّر عنه صحيح الإسناد (2). و جاء في ميزان الاعتدال (3): (وثقه أحمد و يحيى، و قال النسائي: ليس به بأس، و قال أبو حاتم: صالح الحديث، و أما ابن عدي فقال: ليس هو عندي ممن يحتج به، شيعي عامة ما يرويه في فضائل أهل البيت). فسرّ عدم احتجاج ابن عدي به هو كونه شيعياً و عامة ما يرويه في فضائل أهل البيت علیهم السلام فلا يُعتمد على تضعيفه للعلم ببطلان سببه.

*مقارنة المتون:

اتفقت متون الروايات الحاكية لكيفية نزول هذه الآية على قول الرسول صلّى الله عليه و آله الأم سلمة: «إنك على خيره» أو ما يقاربها، و ذلك حينما سألت أم سلمة أن تكون معهم تحت الكساء، فتأمل في حديث أحمد بن حنبل بطرقه الثلاثة، و الترمذي بطريقيه و الحاكم بطريقيه و الدر المنثور، و هكذا الروايات التي وردت من غير طريق أم سلمة.

ولكن ورد خلاف هذا التعبير في رواية ذخائر العقبى و مناقب الخوارزمي و أخبار اصفهان و السنن الكبرى للبيهقي فإنهم اتفقوا على عبارة (فقلت: يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟ قال: «بلى إن شاء الله تعالى»).

و لعل اليد الأموية العابثة في مضامين الروايات و ألفاظها تدخلت هنا أيضاً لبيان عدم اختصاص الخمسة بهذه الفضيلة، و يتضح ذلك بعد معرفة أن سند الخوارزمي في المناقب و البيهقي في السنن و المستدرك في طريقه الثاني واحد (من أبو العباس محمد بن يعقوب) و لم يذكر الحاكم هذا الذيل الزائد، بل فيه ما

ص: 232


1- ج 1، ص 51.
2- ج 3، ص 123.
3- ج 2، ص 18.

ينفي ذلك و بشدّة، فلاحظ قوله صلّى الله عليه و آله: «اللهم أهلي أحق» بعد قوله «إنك على خير و هؤلاء أهل بيتي» و يؤيد ذلك ثلاثة أمور:

الأول: ما تقدم في حديث الكساء من قول الرسول صلّى الله عليه و آله: «قومي فتنحي لي عن أهل بيتي».

الثاني: جذبه صلّى الله عليه و آله الكساء من يدي أم سلمة حينما أرادت أن تدخل معهم.

الثالث: تطبيق الرسول صلّى الله عليه و آله لهذه الآية على خصوص الأربعة في موارد متعددة و بصور كثيرة، حتى إنه رددها على باب دارهم صباح كل يوم لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى تسعة على اختلاف الروايات بل وردت في بعض الروايات، إنه كررها إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، و ما ذلك إلا ليتضح الأمر للحاضر و البادي، و الزائغ و الهادي، و لترتبط آية التطهير بهم ارتباطاً وثيقاً كارتباط الشمس بضوئها فترتكز في أذهان الناس ارتكاز الواحد نصف الاثنين، (لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍ وَ يَحۡيَیٰ مَنۡ حَیَّ عَنۢ بَيِّنَةٍ) (1).

ثم ان لصاحب الذخائر حديثاً و فيه «إنك على خير»، و حديثا لأخبار أصفهان و ليس فيه أثر مما ذكره هنا.

و يحسن بنا أن نذكر كلام الإمام شرف الدين في هذا المقام: (.. ثم غشاهم و نفسه بذلك الكساء، تمييزاً لهم عن سائر الأبناء، و الأنفس و النساء، فلما انفردوا تحته عن كافة أسرته، و احتجبوا به عن بقية أمته، بلّغهم الآية و هم على تلك الحال حرصاً على أن لا يطمع بمشاركتهم فيها أحد من الصحابة و الآل..) (2) و إنها لكلمة تنطق بالحق لوكانوا يعقلون.

ص: 233


1- سورة الأنفال : 42.
2- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء 3: ص 15.

*مَنْ هم أهل البيت؟

لعل أهم ما نبحثه في هذا الحديث هو بيان المراد من أهل البيت في الآية، و هل هم الإمام علي علیه السلام و فاطمة علیها السلام و الحسن و الحسين علیهما السلام أو أزواج النبي صلّى الله عليه و آله أو کلاهما معاً أو هم مع غيرهم.

و الأحاديث السابقة واضحة الدلالة في تعيين المراد من أهل البيت، و هم علي و فاطمة و الحسن و الحسين، و ما يقال خلاف ذلك فهو اجتهاد في مقابل النص لا يمكن أن يعول عليه ذو حفيظة في الدين، لكي لا يندرج في من يحارب الرسول صلّى الله عليه و آله وجهاً لوجه فيقول: قال الله و رسوله، و أقول بخلاف ما قالاه، و العياذ بالله. و هذا ما حدث فعلاً من قبل أعداء آل الرسول صلّى الله عليه و آله فأثاروا الغبار حول هذا المضمون الواضح، مما فتح المجال أمام مَنْ صدّه الهوى عن الحق ليظهر خلاف ما يعتقد، و تلك شنشنة نعرفها من أخزم.

قال أبو الجارود: قال زيد بن علي بن الحسين علیه السلام: «ان جهالاً من الناس يزعمون إنما أراد بهذه الآية أزواج النبى و قد كذبوا و أثموا، لو عني بها أزواج النبي لقال: ليذهب عنكن الرجس و يطهركن تطهيراً، و لكان الكلام مؤنثاً كما قال: (و اذكرن ما يتلى في بيوتكن، و لا تبرجن، و لستن كأحد من النساء) (1).

و يكفي في إثبات ذلك و الرد على ما يتفوه به من لم يشرب كأس الولاء لآل الرسول صلّى الله عليه و آله قول الإمام شرف الدين في ذلك:

(لكن حثالة من أعداء أهل البيت، و صنائع بني أمية، و دعاة الخوارج، ذهبوا في صرف الآية عن أهلها كل مذهب، فقال بعضهم: إنها خاصة بنساء النبي صلّى الله عليه و آله و تشبثّوا في ذلك بسياق الآية. و بالغ عكرمة و مقاتل بن سليمان في الانتصار لهذا الرأي و الاستدلال بالسياق عليه. و كان عكرمة ينادي به في الأسواق تحاملاً على

ص: 234


1- البحار 35 / 206.

أصحاب الكساء.

و لا عجب فإن عكرمة من الدعاة إلى عداوة علي علیه السلام، و السعاة في تضليل الناس عنه بكل طريق. فعن يحيى بن بكير قال: قدم عكرمة مصر و هو يريد المغرب، قال: فالخوارج الذين هم في المغرب عنه أخذوا.

و عن خالد بن عمران قال: كنا في المغرب و عندنا عكرمة في وقت الموسم، فقال: وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً و شمالاً - لبنائه على كفر من عدا الخوارج من أهل القبلة - .

و عن يعقوب الحضرمي، عن جده، قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر، قال: و كان يرى رأي الأباضية - و هم غلاة من الخوارج - .

و عن ابن المديني: كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروري - و كان نجدة من أشد الخوارج عداوة لأمير المؤمنين - .

و عن مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج. و عن عطاء: كان عكرمة أباضياً. و عن أحمد بن حنبل: ان عكرمة كان يرى رأي الصفرية - و هم من غلاة الخوارج أيضاً - . و حدّث أيوب عن عكرمة أنه قال: إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به - فانظر إلى آرائه ما أخبثها - .

و عن ابن أبي شعيب قال: سألت محمد بن سيرين عن عكرمة، فقال: ما يستوي أن يكون من أهل الجنة ولكنه كذاب. و عن وهيب قال: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري و أيوب فذكرا عكرمة، فقال يحيى: هو كذاب. و عن المسيب انه كذب عكرمة.

و عن عبد الله بن الحارث قال: دخلت على علي بن عبد الله بن العباس فإذا عكرمة في وثاق، فقلت: ألا تتقي الله، فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي.

و عن ابن المسيب أنه قال لمولى له اسمه برد: لا تكذب على كما كذب عكرمة

ص: 235

على ابن عباس. و عن ابن عمر أنه قال ذلك أيضاً لمولاه نافع.

و عن طاووس: لو أن عند عكرمة مولى ابن عباس تقوى من الله و كف من حديثه لشدت إليه المطايا.

و عن ذؤيب : رأيت عكرمة و كان غير ثقة. و عن يحيى بن سعيد قال: حدثوني و الله عن أيوب انه ذكر له أن عكرمة لا يحسن الصلاة فقال: أيوب: أو كان يصلي؟!

و عن محمد بن سعيد: كان عكرمة كثير العلم و ليس يحتج بحديثه و يتكلم الناس فيه. و عن مطرق بن عبد الله: سمعت أن مالكاً يكره أن يذكر عكرمة و لا يرى أن يروي عنه. و عن أحمد بن حنبل: ما علمت أن مالكاً حدّث بشيء لعكرمة إلا في مسألة واحدة.

و عن سليمان بن معبد السنجي قال: مات عكرمة و كثير عزة في يوم واحد فشهد الناس جنازة كثير و تركوا جنازة عكرمة. و عن الفضل الشيباني، عن رجل، قال: رأيت عكرمة قائماً في لعب النرد. و عن يزيد بن هارون: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيوب و يونس و سليمان فسمع عكرمة صوت غناء، فقال: اسكتوا، ثم قال: قاتله الله لقد أجاد. فأما يونس و سليمان فما عادا اليه.

إلى آخر ما هو مأثور عن هذا الرجل مما يدل على سقوطه، فراجع ترجمته في (ميزان الاعتدال) للذهبي فإن فيها جميع ما نقلناه الآن عنه. على أن كل من ترجمه كالعسقلاني في مقدمة (فتح الباري)، و ابن خلكان في وفياته، و ياقوت الرومي في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) معجم الأدباء و غيرهم طعنوا فيه بنحوما سمعت. و لما ذكر الشهرستاني في كتاب (الملل و النحل) رجال الخوارج كان عكرمة أول رجل عدّه منهم.

و أما مقاتل فقد كان عدواً لأمير المؤمنين علیه السلام أيضاً، و كان دأبه صرف الفضائل

ص: 236

عنه حتى افتضح بذلك. قال ابراهيم الحربي كما في ترجمة مقاتل من وفيات ابن خلكان - : قعد مقاتل بن سليمان فقال: - إطفاء لنور أمير المؤمنين - : «سلوني عما دون العرش»، فقال له رجل: أخبرني من حلق رأس آدم حين حج؟ فبهت.

و قال الجوزجاني - كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهبي - : كان مقاتل كذابا جسوراً، سمعت أبا اليمان يقول: قدم ها هنا فأسند ظهره إلى القبلة و قال: سلوني عما دون العرش؟ قال: و حُدِّث أنه قال بمثلها بمكة، فقام إليه رجل فقال: أخبرني عن النملة أين أمعاؤها، فسكت.

و نقل ابن خلكان هذه الحكاية في ترجمة مقاتل من وفياته من طريق سفيان بن عينية. و كان مقاتل مع ذلك كله من رجال المرجئة و غلاة المشبهة بنص جماعة منهم ابن حزم في صفحة 205 من الجزء الرابع من كتابه (الفصل).

و عدّه الشهرستاني في (الملل و النحل) من رجال المرجئة، و قال أبو حنيفة - كما في ترجمة مقاتل من ميزان الاعتدال - : أفرط جهم في نفي التشبيه حتى قال إنه تعالى ليس بشيء، و أفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه.

و قال أبو حاتم بن حيان البستي - كما في ترجمة مقاتل من وفيات ابن خلكان - : كان مقاتل يأخذ عن اليهود و النصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، و كان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين، قال: و كان يكذب مع ذلك في الحديث.

إلى آخر ما قاله أئمة الجرح و التعديل فيه، و لهم فيه و في عكرمة كلام أوضح من ذلك الجرح، و أصرح منه في التضليل و القدح، لكن المقام لا يسع الاستقصاء، و هذا القدر كاف لما أردناه من سقوط الرجلين و فساد آرائهما، و بطلان أقوالهما، و لا سيما في هذا المقام فإنه لا ينتظر منهما فيه إلا ما يقتضيه الوغر و الحقد و يستوجبه الخروج و النصب، و لا عجب منهما و إنما العتب و العجب ممن اعتمد عليهما و هو يعرف كنههما.

ص: 237

أما ما تشبّئا به من وقوع الآية في سياق الخطاب مع النساء فتضليل محض، و تمويه مجرد، و إن أطنب في تلفيقه و تزويقه صاحب (نوادر الأصول) و غيره من أعداء آل الرسول، فإنهم لم يألوا جهداً في تصويره و تزويره، و لم يدخروا وسعاً في تقريره و تحريره، لكن مثلهم في ذلك (كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتًا ۖ وَ إِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِ ۖ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ) و لنا في رده وجوه:

الأول: انه اجتهاد في مقابل النصوص الصريحة (1) و الأحاديث المتواترة و قد سمعت بعضها.

الثاني: انها لوكانت خاصة في النساء - كما يزعم هؤلاء - لكان الخطاب في الآية يصلح للإناث، و لقال - عز من قائل -: (عنكن و يطهركن) كما في غيرها من آياتهن، فتذكير ضمير الخطاب فيها دون غيرها من آيات النساء كاف في رد تضليلهم (2)

الثالث: أن الكلام البليغ يدخله الاستطراد و الاعتراض؛ و هو تخلل الجملة الأجنبية بين الكلام المتناسق، كقوله تعالى في حكاية خطاب العزيز لزوجته إذ يقول لها (انَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَا وَ ٱسۡتَغۡفِرِی لِذَنۢبِكِ) (3) فقوله: (يوسف أعرض عن هذا) مستطرد بین خطابيه معها كما ترى، و مثله قوله تعالى: (إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَ جَعَلُوٓاۡ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةً وَ كَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ * وَ إِنِّی

ص: 238


1- لنا وقفة مع هذا التعبير (الاجتهاد في مقابل النص) الذي انتشر في الأزمنة الأخيرة، ففي رأيي المتواضع انه يشتمل على كثير من المجاملة مع أصحاب هذه الآراء و هم لا يستحقون شيئاً من ذلك، فإن مثل هذه الآراء التي يصدرها أصحابها في قبال الآيات القرآنية، أو في قبال الأحاديث الشريفة ليست لها بالاجتهاد صلة أصلاً، لا قريبة و لا بعيدة، و إنما هى افتراء في قبال النص الشريف، صدر من صاحبه عناداً للحق، و إن دلّ على شيء فإنما يدل على عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلّی الله علیه و آله، و قد وصف كثير ممن لا شأن لهم، و لا عندهم بالمجتهدين ليطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره.
2- و لقد أجاد الشيخ الأميني رحمة الله في حوار له مع أحد علماء سوريا بقوله: بأن الآية لو نزلت في نساء النبي صلّی الله علیه و آله لعلقتها عائشة يوم الجمل.
3- سورة یوسف: 28، 29.

مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ) (1) فقوله: (و کذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ) مستطرد من جهة الله تعالى بين كلام بلقيس، ونحوه قوله - عز من قائل - : (فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَ إِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٌ كَرِيمٌ) (2) تقديره فلا أقسم بمواقع النجوم، إنه لقرآن كريم، و ما بينهما استطراد على استطراد و هذا كثير في الكتاب و السنة و كلام العرب العاربة و غيرهم من البلغاء.

و آية التطهير من هذا القبيل جاءت مستطردة بين آيات النساء، فتبيّن بسبب استطرادها أن خطاب الله لهن بتلك الأوامر و النواهي و النصائح و الآداب لم يكن إلا لعناية الله تعالى بأهل البيت (أعني الخمسة) لئلا ينالهم - و لو من جهتهن - لوم، أو ينسب إليهم - و لو بواسطتهن - هناة، أو يكون عليهم للمنافقين - و لو بسببهن - سبيل. و لولا هذا الاستطراد ما حصلت هذه النكتة الشريفة التي عظمت بها بلاغة الذكر الحكيم، و كمل إعجازه الباهر كما لا يخفي.

الرابع: إن القرآن لم يترتب في الجمع على حسب ترتيبه في النزول بإجماع المسلمين كافة، و على هذا فالسياق لا يكافئ الأدلة الصحيحة عند تعارضهما؛ لعدم الوثوق حينئذ بنزول الآية في ذلك السياق، و لذا كان الواجب في مقامنا هذا ترك فحوى السياق لوسلم ظهوره بما زعموا، و الاستسلام لحكم ما سمعت بعضه من الأدلة القاطعة، و الحجج الساطعة. و لا غرو فإن حمل الآية على ما يخالف سياقها غير مناف للبلاغة، و لا مخل بالإعجاز، و قد أجمعوا على أنه لا جناح بالمصير إليه إذا قامت قواطع الأدلة عليه) (3).

و في كلام غصن الشجرة المباركة، و ثمرة الدوحة المحمدية، السيد شرف الدين، ما يدفع وساوس المبطلين، و ينقض غزل المشككين، من الغابرين

ص: 239


1- سورة النمل: 34، 35.
2- سورة الواقعة: 75- 76- 77.
3- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء: (ص 20).

و الحاضرين، فما أحرى به أن يردد قول الله عزّ وجل: (وَ قَدِمۡنَآ إِلَیٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٍ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءً مَّنثُورًا) (1)، و إنما نقلناه بطوله لما اشتمل عليه من الفوائد الجليلة الجمة.

*مفاد الآية:

إن في الآية الكريمة مباحث جليلة كثيرة قد استوعبها المفسرون و من كتب حول هذه الآية على وجه خاص، و الدخول في مثل تلك المواضيع يشت بنا بعيداً فنخرج عن خطة الكتاب، و ما يلزم علينا ذكره الآن أمران:

1- إن الآية الكريمة تدل على عصمة من كان تحت الكساء، لأن الله سبحانه و تعالى أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، و الرجس كل صفة خبيثة في النفس تقف حاجزاً أمام الحق فيخطئه صاحبها في علمه أو في عمله، و تطهيرهم من ذلك هو معنى العصمة، فهم معصومون من كل ما يشين.. معصومون في جميع أفعالهم و أقوالهم.

2- قال السيد شرف الدين: (إنها دلّت بالالتزام على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام لأنه ادعى الخلافة لنفسه، و ادعاها له الحسنان و فاطمة، و لا يكونون كاذبين؛ لأن الكذب من الرجس الذي أذهبه الله عنهم و طهرهم منه تطهيرا) (2).

ص: 240


1- الفرقان: 23.
2- الكلمة الغراء ص 31.

(3)

لا يحل هذا المسجد لجنب إلا للرسول صلّى الله عليه و آله وأهل بيته علیهم السلام

1- عن جسرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله فوجه (1) هذا المسجد فقال: ألا لا يحل هذا المسجد لجنب و لا لحائض إلا لرسول الله صلّى الله عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ألا قد بينت لكم الأسماء أن لا تضلوا (2).

2- عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: ألا إن مسجدي حرام على كل حائض من النساء و كل جنب من الرجال إلا على محمد و أهل بيته علي و فاطمة و الحسن و الحسين رضي الله عنهم (3).

3- لا ينبغي لأحد أن يجنب فى هذا المسجد إلا أنا أو على (4).

4- يا علي! لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك (5).

*سند الحديث

يوجد في طريقي البيهقي مجاهيل، أو من رمي بالضعف عند القوم فلا يمكن الاحتجاج بهما عليهم، ولكن الهيثمي في مجمع الزوائد قال عن الرواية التي نقلناها عن كنز العمال: (رواه البزار، و خارجة لم أعرفه و بقية رجاله ثقاة) (6).

أقول: يمكن أن يقال: بأن خارجة إما انه ابن عبد الله بن سليمان بن زید بن ثابت الأنصاري، و فيه كلام و قد قال عنه ابن عدي و ابن معين: لا بأس به، ولكن فيه كلام سنشير إليه فيما يأتي إن شاء الله.

ص: 241


1- کذا.
2- السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 65، و جاء في: المعجم الكبير 23 / 372، 373، أخبار اصفهان: ج 1، ص291.
3- السنن الكبرى: ج 7، ص 65.
4- كنز العمال: ج 11، ص 626.
5- كنز العمال: ج 11 ، ص 675 ، ج 12، ص 100، 101.
6- مجمع الزوائد: ج 9، ص 115.

و أما أنه ابن مصعب أبو الحجاج السرخسي الفقيه فقد قال عنه ابن عدي أيضاً: هو ممن يكتب حديثه (1).

و على فرض أننا لم نستطع تصحيح سند هذا الحديث بطرقه عن أم سلمة، إلاّ أنه يمكن تصحيحه من غير طريق أم سلمة، فقد أورده الترمذي عن أبي سعيد و حسنه، و هذا لفظه: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لعلي: يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك (2).

و رواه البيهقي في سننه، و لم يقدح فيه بل قال: و روي ذلك أيضاً من وجه آخر عن عطية و عطية هو بن سعد محتج به (3).

و على فرض عدم صحة ذلك فبإمكاننا أن نصحح مضمونه بشكل لا يعتريه ريب و لا يشوبه شك، فإن لمضمون هذا الحديث بهذا الفظ صلة وثيقة بحديث (سد الأبواب) الذي يتضمن أمر النبي صلّى الله عليه و آله الصحابته أن يسدوا أبوابهم المشرعة على مسجده ما عدا عليا علیه السلام، و قد أحدث هذا الأمر ضجة في أوساط الصحابة حينذاك حتى خرج الرسول صلّى الله عليه و آله و خطب فيهم ليفصح لهم عن مكنون الأمر و كنهه، و إنه من قبل السماء، و لم يسد الرسول صلّى الله عليه و آله باب أحد من تلقاء نفسه، و إنه - لعمري - لأمر واضح عند من يعرف الرسول صلّى الله عليه و آله و مسيرته في دعوته المباركة، قال تعالى: (وَ ٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَیٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَ مَا غَوَیٰ * وَ مَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَیٰٓ * إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ يُوحَیٰ) (4). ولكن فى القوم - آنذاك - نفوساً ران على قلوبها فأغلقت بوابتها في وجه الحق فلا تسمع منه حسيساً و لا نجوى.

و هذا الحديث بلغ حد التواتر في رأي علماء السنة فهو مما يقطع بصدوره عن خيرة الله في أرضه و أمينه على وحيه صلّى الله عليه و آله فقد روي عن نحو ثلاثين صحابياً (5) و قد

ص: 242


1- میزان الاعتدال: ج 2، ص 402.
2- سنن الترمذي 5 / 639.
3- 7 / 65.
4- النجم: 4 - 1.
5- البحار 39/ 27.

استعرض علامة الغدير أعلى الله مقامه الشريف ثلاثاً و عشرين طريقاً من طرقهم فيها الصحاح و الحسان (1).

ننقل حديثاً واحداً مع تعليق صاحب الغدير عليه:

زيد بن أرقم، قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله أبواب شارعة في المسجد، قال: فقال يوماً: (سدّوا هذه الأبواب إلا باب علي). قال: فتكلم في ذلك الناس! قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه و آله فحمد الله و أثنى عليه، ثم قال:

(أما بعد: فإني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم! و إني ما سددت شيئاً و لا فتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته).

سند الحديث في مسند الإمام أحمد (2).

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم. رجاله رجال الصحيح، غير أبي عبد الله ميمون و هو ثقة، فالحديث بنص الحفاظ صحیح، رجاله ثقات (3) ... إلى آخر ما ذكره حول هذه الطريق و سائر الطرق الأخرى مما لا يدع لمنتقد مجالاً، و لا لمتكلم مقالاً. ولكن لك أن تمتلاً غضباً و غيظاً عندما تقرأ مقالة ابن تيمية في منهاج سنته حول الحديث، و ما أدلى به تلميذه ابن كثير في تفسيره، و ما أحراه بقول الشاعر:

يا له من ببغاء عقله في أذنيه

فقد قال الأول: (فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة..) (4).

و قال الثاني - بعد ذكر سدّوا كل خوخة في المسجد الّا خوخة أبي بكر - : و من روى إلا باب علي - كما في بعض السنن - فهو خطأ، و الصواب ما ثبت في

ص: 243


1- الغدير: 3/ 285.
2- مسند أحمد: 5 / 496 ج 1، 188.
3- الغدير: 3 / 285.
4- منهاج السنة 5 / 35.

الصحيح) (1).

فلابن تيمية سقطتان في هذا الموضع:

الأولى: إن الحديث من وضع الشيعة!

و لا ندري أكان في حالة الهذيان حينما كتب هذه المقالة؟! أم عامل الوراثة الأموية أخذ بسمعه و بصره فلم ير ما رواه حفاظهم و علماء الحديث عندهم؟! أو هو الكذب الذي كان يتمتع به ابن تيمية بكل هدوء و بأسلوب له لمعان البرق يأخذ بالسامع الغافل؟!.

هكذا.. فليقل ما يقول من لم يجعل الله تعالى نصب عينيه، و السلام على الإمام الحسين علیه السلام حينما قال: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً».

و في ما تقدم من كلام الأميني رحمة الله ما يغني عن الردّ، و مع ذلك فنضيف قول الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فإنه بعد - أن ذكر ستة من طرق الحديث - قال: (و هذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، و كلّ طريق صالح للاحتجاج فضلاً عن مجموعها، و قد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص، و زيد بن أرقم ، و ابن عمر، مقتصراً على بعض طرقه عنهم، و أعلّه ببعض من تكلم فيه من رواته، و ليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، و أعلّه أيضاً بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، و زعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر.. انتهى. و أخطأ في ذلك خطاً شنيعاً، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة بينها وبين ما ورد في أبي بكر..) (2).

و يقصد مما ورد في أبي بكر (سدّوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر).

ص: 244


1- تفسير ابن كثير: 1 / 501.
2- فتح الباري 15/7.

الثانية: إن سبب وضع الشيعة لهذا الحديث هي المقابلة لحديث أبي بكر المتقدم.

و لعله غاب عن ذهن ابن تيمية و أمثاله من سلالة الفكر الأموي أمر معاوية لأصحاب الخيال من الرواة و المحدثين الماشين في ظلاله الوارف عليهم، بأن ينظروا إلى كل فضيلة لعلي و يأتوا بمثلها في الشيخين، و أمر أن يقال في ابن عمه عثمان ثم فيه نفسه فضائل لم تخلق إلا في أذهان سماسرة الكلمة من الرواة و المحدثين فإنه أقرّ لعينيه و أدحض لحجة أبي تراب! - حسب قوله - حتى أكثروا في ذلك و بلغت أحاديث الفضائل حد التخمة، و سوف نتعرض لذلك فيما سيأتي بشيء من التفصيل.

أترى الشيعة بحاجة لأن يقولوا في على علیه السلام ما ليس فيه و هو الذي قال فيه إمام الحنابلة كما في المستدرك: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (1).

و قد سمعت سماعاً هذه الكلمة تنقل عن بعض أعلام أهل السنة: (ماذا أقول في رجل أخفى أولياؤه فضائله خوفاً و أعداؤه حسداً، و خرج ما بين هذين ما ملأ الخافقين).

إنها يا ابن تيمية! اكتب ما شئت فقد قيل قديماً: (إذا لم تستح فافعل ما شئت) فوالله لن تمحو ذكر آل محمد صلّى الله عليه و آله، و سيظل نورهم المبين يعشي أبصارالحاقدين.

وليكن السهم الموجه إليك - هذه المرة و غيرها - من كنانتكم، فهذا ابن أبي الحديد يقول في شرحه على نهج البلاغة: (إنّ سدّ الأبواب كان لعلي علیه السلام فقلبته البكرية إلى أبي بكر، و آثار الوضع فيه لائحة لا تخفى على المنقِّب) (2).

و هذا الرأي هو الموافق للموازين الطبيعية و الشواهد التاريخية.

ص: 245


1- 3 / 116.
2- شرح نهج البلاغة: 11 / 49، خطبة 203.

*متن الحديث:

و لا تنسى اليد العابثة فى متون الأحاديث أن تضع إصبعها في هذا الحديث أيضاً، فنرى الحديث بالروايات المتقدمة بطرقها المختلفة خالية عن ذكر زوجات الرسول صلّى الله عليه و آله، و كذلك أحاديث سد الأبواب فراجع طرقها، ولكن في حديث مناقب الخوارزمي و تاريخ المدينة أضيفت هذه الجملة: (إن هذا المسجد لا يحل الجنب و لا لحائض إلا للنبي و أزواجه و فاطمة..).

و لا مناقشة في حلية جنابة أزواج النبي صلّى الله عليه و آله فإنها ملازمة لما يحل للرسول صلّى الله عليه و آله من ذلك الأمر إن أريد من الروايات وقوع الجنابة كما يستفاد من روايتي كنز العمال، ولكن من أضاف هذه الزيادة أضاف كلمة (و لا لحائض) فيدخل زوجات الرسول صلّى الله عليه و آله في هذه المكرمة، و الذي يسهل الأمر و يهون الرد إن الروايات الصحيحة لم تذكر الأزواج من قريب و لا بعيد، و تعبير الرواية بعد ذكر أسماء أهل البيت علیهم السلام: (ألا قد بينت لكم الأسماء أن لا تضلوا) فيه من التلويح الأبلغ من التصريح ما يخرج أزواج النبي صلّى الله عليه و آله عن دائرة هذه الكرامة مع ما هن عليه من فضل الزوجية.

*ما يستفاد من الحديث:

لسنا بحاجة لأن نفصل الكلام في ذلك لنثبت مدى ما يدل عليه الحديث من فضل لعلی علیه السلام، وليكن الرأي في هذا الموضوع رأي الخليفة الثاني فهو من الذين عاصروا هذا الحدث التأريخي فيكون قوله انطباعاً صادقاً عنه و عن الصحابة الآخرين.

قال أبو هريرة: قال عمر: لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال، لئن تكن لى خصلة منها أحب إلىّ من أن أعطى حمر النعم.

قيل: و ما هن يا أمير المؤمنين؟

ص: 246

قال: تزوجه فاطمة بنت رسول الله، و سكناه المسجد مع رسول الله يحلّ له فيه ما يحل له، و الراية يوم خيبر (1).

و لكي نقترب من الفضيلة أكثر نقرأ الحديث برواية أبي حازم الأشجعي، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: (إن الله أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا هو و هارون، و إن الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا و علي و ابنا على علیه السلام) (2).

إذن إنها الطهارة التي اختص الله بها نبيه صلّى الله عليه و آله و أهل بيته علیهم السلام من دون سائر المسلمين، و أي طهارة تلك! أهي الطهارة الظاهرية التي يمكن أن يحصل عليها كل أحد من المسلمين بقطرة ماء، و يتمناها الخيلفة عمر و تكون أحب إليه من أن يُعطى حمر النعم؟!

لا.. إنها طهارة من نوع آخر، نعم هي طهارة و أي طهارة!

ص: 247


1- المستدرك على الصحيحين و صححه: 3 / 135.
2- الخصائص الكبرى للسيوطي: 2 / 242.

(4)

حديث المنزلة

1- الترمذي في سننه بسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه و آله قال لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (1).

2- الذهبي بسنده عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه و آله إنه قال: «يا أم سلمة، إن علياً لحمه من لحمي و هو بمنزلة هارون من موسى مني غير أنه لا نبي بعدي» (2).

3- و في المناقب للخوارزمي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي، و دمه من دمي، و هو مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، و قال: يا أم سلمة اشهدي و اسمعي هذا علي أمير المؤمنين، و سيد المسلمين، و عيبة علمي، و بابي الذي أوتى منه، أخي في الدنيا، و خدني في الآخرة، و معي في السنام الأعلى» (3).

4- الهيثمي: و عن أم سلمة ان النبي صلّى الله عليه و آله قال لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي» (4).

5- البداية و النهاية: و قال كثير النوري: عن عبد الله بن بديل قال: دخل سعد على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل معنا فقال: إني مرت بي ريح مظلمة فقلت: أخ أخ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عني، ثم عرفت الطريق فسرت، فقال معاوية: ليس في كتاب الله، أخ أخ ولكن قال الله تعالى: (وَ إِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ

ص: 248


1- سنن الترمذي: ج 5 ص 304، و رواه ابن عساكر في أماكن متعددة ج 1، ص 78، 308 ، 39، 353 صحیح ابن حبان جزء 15 / 15، سند أبي يعلى ،12 / 310، معجم أبي يعلى ص 70، مسند الشاشي 2 / 161، المعجم 23 377.
2- میزان الاعتدال: 2 / 3، كنز العمال ج 13 ص، الخصائص للنسائي ص.
3- المناقب للخوارزمي: ص 130.
4- مجمع الزوائد: ج 9، ص 109.

فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَی ٱلۡأُخۡرَیٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّیٰ تَفِیٓءَ إِلَیٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِ) (1) فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة و لا مع العادلة على الباغية.

فقال سعد: ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي».

فقال معاوية: من سم هذا معك؟

فقال: فلان و فلان و أم سلمة.

فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه صلّى الله عليه و آله لما قاتلت علياً.

و في رواية من وجه آخر أن هذا الكلام كان بينهما و هما بالمدينة في حجة حجها معاوية، و أنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت (2).

6- شرح نهج البلاغة: و ذكر أبو أحمد العسكري في كتاب الأمالي: أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية عام الجماعة فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، فقال له معاوية: لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت.

فقال سعد: نحن المؤمنون و لم نؤمرك، كأنك قد بهجت بما أنت فيه يا معاوية! و الله ما يسرني ما أنت فيه و إني هرقت محجمة دم.

قال: ولكني و ابن عمك علياً - يا أبا اسحق - قد هرقنا أكثر من محجمة و محجمتين، هلمً فاجلس معي على السرير، فجلس معه فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه، فقال سعد: إنما كان مثلي و مثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة فقال واحد منهم لبعيره: أخ فأناخ حتى أضاء له الطريق.

فقال معاوية: و الله يا أبا اسحق ما في كتاب الله أخ و إنما فيه (وَ إِن طَآئِفَتَانِ مِنَ

ص: 249


1- الحجرات: الآیة 9.
2- البداية و النهاية لابن كثير: ج 7، ص 178، وج 8، ص 84.

ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَی ٱلۡأُخۡرَیٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّیٰ تَفِیٓءَ إِلَیٰٓ أَمۡرِ ٱللَّه)، فوالله ما قاتلت الباغية و لا المبغي عليها فأفحمه.

و زاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة ذكرها في كتاب صفين: قال: فقال سعد: أ تأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: «أنت مني بمنزله هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»؟

فقال معاوية: من سمع هذا معک؟

قال: فلان و فلان و أم سلمة.

فقال معاوية: لو كنت سمعت هذا لما قاتلته (1).

*سند الحديث:

قال الترمذي في ذيل الحديث المذكور: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، و في الباب عن سعد و زيد بن أرقم و أبي هريرة و أم سلمة).

و قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه أبو يعلى و الطبراني و في إسناد أبي يعلى محمد بن سلمة بن كهيل وثقه ابن حيان و ضعفه غیره، رجاله رجال الصحيح.

و قال عن عامر بن سعد عن أبيه و عن أم سلمة، و قال الطبراني عن عمر بن سعد عن أبيه عن أم سلمة فالله أعلم) (2).

و حديث المنزلة بطرقه المتعددة عن الصحابة من الأحاديث المتواترة التي لا يرتاب في صدورها عن صاحب النبوة الخاتمة أحد ممن يحترم عقله و علمه، و قد بلغ حداً يسمج معه التكلم في سنده.

قال صاحب المراجعات: (لم يختلج في صحة سنده ريب، و لا سنح في

ص: 250


1- شرح نهج البلاغة: ج 2، ص 263.
2- ج 9 ص 109.

خواطر أحد أن يناقش في ثبوته ببنت شفة، حتى إن الذهبي - على تعنّته - صرح في تلخيص المستدرك بصحته، و ابن حجر الهيثمي - على محاربته بصواعقه - ذكر الحديث في الشبهة 12 من الصواعق، فنقل القول بصحته عن أئمة الحديث الذين لا معوّل فيه إلا عليهم، فراجع ، و لولا إن الحديث بمثابة من الثبوت، ما أخرجه البخاري في كتابه، فإن الرجل يغتصب نفسه عن خصائص علي و فضائل أهل البيت اغتصابا) (1).

و لكي يزداد القارئ هدى و بصيرة ننقل له كلام الحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل: (و هذا هو حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول: خرجته بخمسة آلاف إسناد) (2).

*ما يستفاد من الحديث:

إن حديث المنزلة من الأحاديث التي استدل بها الشيعة الإمامية على خلافة الإمام علي علیه السلام بعد الرسول صلّى الله عليه و آله بلا فاصلة، و طريق الاستدلال: إن الحديث جعل الإمام عليا علیه السلام من الرسول صلّى الله عليه و آله بمنزلة هارون علیه السلام من موسى علیه السلام، و قد بين القرآن الكريم هذه المنزلة في قوله تعالى: (وَ ٱجۡعَل لِّی وَزِيرًا مِّنۡ أَهۡلِی * هَٰرُونَ أَخِی * ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِی * وَ أَشۡرِكۡهُ فِیٓ أَمۡرِی) (3). و فى قوله أيضاً: (و ٱخۡلُفۡنِی فِی قَوۡمِی وَ أَصۡلِحۡ وَ لَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ).

فهارون علیه السلام الوزير و خليفة للنبي موسى علیه السلام، فالإمام علي علیه السلام وزير و خليفة للنبي محمد صلّى الله عليه و آله، و بما أن هارون كان نبياً وأ ن علياً ليس بنبي، قال الرسول صلّى الله عليه و آله: «إلا أنه لا نبي بعدي» ليستثني هذه المنزلة عن علي علیه السلام و تبقى المنازل الأخرى داخلة في أوصاف الإمام علیه السلام.

ص: 251


1- المراجعات: ص 216، المراجعة 28.
2- 1 / 152.
3- طه: 29-30-31-32.

فيكون المراد «من أشركه في أمري» على سبيل الخلافة لا النبوة.

فالفهم العربي لنص الحديث يجبرنا على القول: بأن علياً علیه السلام هو خليفة الرسول صلّى الله عليه و آله و وصيه، و أنه أولى به من كل أحد، و أنه أفضل الصحابة.. إلى غير ذلك من المنازل التي كانت لهارون من موسى علیه السلام دون غيره من بني إسرائيل.

و التعميم لسائر المنازل يستفاد من إطلاق تنزيله منه منزلة هارون من موسى، و لو كان يريد منزلة بخصوصها لا يفارقها و لا يتعداها لغيرها لبينها النبي صلّى الله عليه و آله و هو رب الفصاحة و البلاغة العارف بأساليب الكلام و لغة الحوار.

و ربّ قادم من جفاف الصحراء يتمتم بلسانه المنعقد ليقول بأن كلام الرسول صلّى الله عليه و آله وارد في حالة خاصة و هي حالة استخلاف الإمام علي علیه السلام على المدينة المنورة يوم أراد النبي صلّى الله عليه و آله المسير لغزوة تبوك، فلا يدل كلام الرسول صلّى الله عليه و آله على كون الإمام علی علیه السلام بمنزلة هارون من موسى في كل شيء ما عدا النبوة.

و ما أوضح الجواب عنه، فهل يستفاد من المتكلم العربي عندما يرى المجنب في المسجد و يقول له: إن المحدث بالأكبر لا يدخل المسجد، هل يستفاد من كلامه خصوص المحدث بالجنابة أو يتعدى إلى كل حدث كبير؟ لا شك في التعدية، و لا يسمح الذوق السليم - للسامع العربي - أن يستفيد من هذا الخطاب إرادة خصوص المجنب.

و إذا رأى الطبيب مريضه يأكل الرمان الحامض و قال له: لا تأكل الحامض؛ فإنه يضر بصحتك، فهل يفهم منه إنه أراد خصوص الرمان، لأن الطبيب نهاه و هو يأكل الرمان؟

و قول الرسول صلّى الله عليه و آله كذلك، فإنه مطلق لا يختص بمورد صدوره، و هذا ما يعبر عنه علماء الأصول بأن المورد لا يخصص الوارد.

أضف إلى ذلك أن هذا القول قد تكرر من الرسول صلّى الله عليه و آله في موارد أخرى غير

ص: 252

غزوة تبوك فراجع متون الحديث و مصادره، ما ذكرناه و ما لم نذكره، لترى ما ندعيه، و هو المناسب أيضاً لكلام سعد.

و هنا شيء آخر ينبغي التعرض لبيانه و هو: إن مقام خلافة النبي صلّى الله عليه و آله و وزارته أمره بيد السماء حيث طلبه النبي موسى علیه السلام لأخيه هارون علیه السلام من الله سبحانه و تعالى، فهو بالنص لا بالشورى كما يذهب إليه الفكر السني، فيكون هذا الحديث دليلاً واضحاً على خلافة الإمام علي علیه السلام من جهة، و على بطلان نظرية الشورى من جهة أخرى. و الحمد لله على التسليم بما جاء به الرسول الأمين صلّى الله عليه و آله.

ص: 253

(5)

علي مع الحق

1- في المستدرك بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: لما سار علي إلى البصرة دخل على أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله يودعها فقالت: سر في حفظ الله و في كنفه، فوالله إنك لعلى الحق و الحق معك، و لولا أني أكره أن أعصي الله و رسوله؛ فإنه أمرنا صلّى الله عليه و آله أن نقر في بيوتنا لسرت معك، ولكن و الله لأرسلن معك من هو أفضل عندي و أعزّ علي من نفسي ابني عمر (1).

2- و عن أم سلمة إنها كانت تقول: كان علي على الحق، من اتبعه اتبع الحق، و من تركه ترك الحق، عهد معهود قبل يومه هذا (2).

3- ابن عساكر بإسناده إلى سلمة بن كهيل عن مالك بن جعونة، عن أم سلمة، قالت: و الله إن علياً على الحق قبل اليوم و بعد اليوم، عهداً معهوداً و قضاءاً مقضياً.

قلت: أنت سمعت - سمعته من أم المؤمنين؟

فقال: إي و الله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات.

(قال سلمة بن كهيل) فسألت عنه فإذا هم يحسنون عليه الثناء (3).

4- و عن محمد بن إبراهيم التيمي، أن فلاناً (معاوية) دخل المدينة حاجاً فأتاه الناس يسلمون عليه، فدخل سعد فسلم، فقال: و هذا لم يُعنا على حقنا على باطل غيرنا! قال: فسكت عنه، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: هاجت فتنة و ظلمة فقلت البعيري: إخ إخ فأنخت حتى انجلت.

فقال الرجل: إني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أر فيه إخ إخ.

فقال أما إذ قلت ذاك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: علي مع الحق أو الحق

ص: 254


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 119.
2- مجمع الزوائد: ج 9، ص 134.
3- تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي 7: ج 3، ص 120.

مع علي حيث كان.

قال: من سمع ذلك؟

قال: قاله في بيت أم سلمة.

قال: فأرسل إلى أم سلمة فسألها فقالت: قد قاله رسول الله صلّى الله عليه و آله في بيتي.

فقال الرجل لسعد: ما كنت عندي قط ألوم منك الآن.

فقال: و لم؟

قال: لو سمعت هذا من النبي صلّى الله عليه و آله لم أزل خادما لعلي حتى أموت (1).

*سند الحديث:

الحديث الأول: قال الحاكم عنه و عن حديثين قبله: (هذه الأحاديث الثلاثة كلها صحيحة على شرط الشيخين و لم يخرجاه).

و الحديث - كما جاء في المستدرك - و إن لم تنقله أم المؤمنين أم سلمة رضی الله عن الرسول صلّى الله عليه و آله كرواية ترويها عنه إلا أنها استقت هذا المعنى بهذا اللفظ من الرسول صلّى الله عليه و آله، إذ كيف لها أن تقسم بالله بأن علياً مع الحق و الحق معه بدون مستند شرعي تستند إليه و هي المرأة الصالحة المؤمنة الصادقة بإجماع المسلمين قاطبة؟!

و يشهد لهذا المعنى الطرق الأخرى التي روت الحديث بعينه عنها رضی الله.

الحديث الثاني: قال عنه الهيثمي: (رواه الطبراني و فيه مالك بن جعونة و لم أعرفه، و بقية أحد الإسنادين ثقات) (2).

أقول: ما ورد في رواية ابن عساكر يرفع الاشكال عن مالك بن جعونة، لأن الراوي عنه سلمة بن كهيل قال: فسألت عنه فإذا هم يحسنون عليه الثناء، و نقل

ص: 255


1- مجمع الزوائد: ج 7، ص 235 ، و ج 9، ص 135. و راجع البداية و النهاية ج 7، ص 398، و تاریخ بغداد ج 14، 320.
2- مجمع الزوائد: 134/9.

محقق الكتاب في الهامش الرواية و في آخرها: (فأتيت قومه فسألتهم فقلت: أ تعرفون مالك بن جعونة؟ قالوا: نعم. فأثنوا عليه معروفاً و قالوا خيراً) (1).

الحديث الثالث: قال ابن عساكر: قال الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث شعیب بن خالد، عن سلمة بن كهيل، تفرد به عمرو بن أبي قيس عنه (2) فالملاحظ أنه لم يرمه بالضعف.

الحديث الرابع: قال الهيثمي: (و رواه البزار و فيه سعد بن شعيب و لم أعرفه و بقية رجاله رجال الصحيح) (3)

قال الأميني: (الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي هو سعد بن شعيب الحضرمي، و قد خفي عليه لمكان التصحيف، ترجمه غير واحد بما قال شمس الدين إبراهيم الجوزجاني: إنه كان شيخاً صالحاً صدوقاً. كما في خلاصة الكمال: 1 / 382، و تهذيب التهذيب: 4 / 42) (4).

*من علم ابن تيمية

كانت حجج العلامة الحلي في كتابه ( منهاج الكرامة) دامغة و قوية، تسلب الطرف الآخر لبّه، و تسرق منه عقله، فيظل تائهاً لا يستطيع الإلتفات و لو لأكبر جرم أمامه، و هذا ما حصل بالفعل مع ابن تيمية حينما حدثته نفسه، أو أوحى إليه صاحبه بأن يرد على العلامة الحلي بكتاب سماه (منهاج السنة)، و أحرى به أن يسميه (منهاج البدعة)، فتسلق ابن تيمية جبلاً أملس مطلاً على هوة سحيقة تكفي رؤيتها لأن تأخذ بروحه و عقله و فكره، فكلما رأى الشمس ساطعة تعشي بصره حثا عليها تراباً في يديه ليسترها عن الناظرين فما يبرح إلّا و التراب ينزل في عينيه فيزداد ضلالة و عمي حتى سقط في تلك الهوّة دامي الجراح غير مأسوف عليه،

ص: 256


1- ج 3، ص 121.
2- تاریخ ابن عساکر: ج 3، ص 120.
3- مجمع الزوائد: 7 / 236.
4- الغدير : ج 3، ص 252

هذا أخصر وصف و أحسنه لبيان ما أقدم عليه ابن تيمية من الرد على العلامة الحلي.

اقرأ معي كلامه حول هذا الحديث لتعرف الوصف المتقدم لمن سماه بعضهم ب(شيخ الإسلام) و إن كفره علماء نحلته في عصره.

قال ابن تيمية: (حديث أن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: «علي مع الحق و الحق مع علي..» من أعظم الكلام كذباً و جهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلّى الله عليه و آله لا بإسناد صحيح و لا ضعيف، و هل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة و العلماء أنهم رووا حديثاً، و الحديث لا يعرف عن أحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب، و لو قيل: رواه بعضهم و كان يمكن صحته لكان ممكناً، و هو كذب قطعاً على النبي صلّى الله عليه و آله فإنه كلام ينزّه عنه رسول الله) (1).

و مما استعرضناه من الروايات المروية عن أم سلمة تعرف من هو الكاذب! بدون أن تجهد نفسك بعناء تفكير و لا طول سهر في قراءة كتب الحديث و تتبعه في مظان وجوده، و مع ذلك فقد روته علماؤهم - و قد أنكر رواية العلماء له - عن صحابة آخرين غير أم سلمة رضی الله، فقد تقدمت رواية سعد بن أبي وقاص له، و رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة (2) عن محمد بن أبي بكر حينما دخل على أخته عائشة و قال لها: (أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «علي مع الحق و الحق مع علي» ثم خرجت تقاتلينه؟).

و أخرجه الحافظ ابن مردويه في المناقب و السمعاني في فضائل الصحابة بالإسناد عن محمد بن أبي بكر عن عائشة (3).

و أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر أيضاً (4). و الخوارزمي في المناقب (5) عن

ص: 257


1- منهاج السنة: 3 / 177.
2- 1 / 73.
3- راجع الغدير 252/3.
4- ن. م 3 / 253.
5- ص 177.

حذيفة بن اليمان.

و من حقنا و حق كل مسلم يريد أن يتحرى الحقيقة أن يسأل ابن تيمية عن السبب الذي حمله على الحكم بكذب هذا الحديث، و أنه مما يتنزه عنه الرسول صلّى الله عليه و آله؟! فمما لا ريب فيه أن هناك أموراً تقودنا كمسلمين نؤمن بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه و آله للقول بكذب بعض ما ينسب إليه صلّى الله عليه و آله، فهل يوجد بعضها في هذا الحديث أو مجرد لعبة بهلونية من ابن تيمية قفز بها ليتخطى رقاب الضعفاء من أهل السنة؟!

و لكي ندخل حلبة الصراع مع ابن تيمية بشكل واضح، و جو صحو لا غيم فيه نقول له: حتى نسمح لأنفسنا أن نرفع اليد عن شيء مما يروى عن الرسول صلّى الله عليه و آله و نقول عنه انه كذب و مما يتنزه عنه صلّى الله عليه و آله - مع أنه صحيح السند - لابد و أن تكون هناك مبررات واضحة المعالم، و هذه المبررات هي:

1- أن يكون القول المنسوب إلى الرسول صلّى الله عليه و آله مخالفاً لضرورة العقل كأن يستلزم منه الجمع بين السلب و الإيجاب المحال عقلاً، أو يلزم منه اجتماع الضدين أو المثلين.

2- أن يكون مخالفاً لنص القرآن الكريم غير القابل للتأويل كقوله تعالى: (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ)، فيأتي مغفل و يروي عن الرسول صلّى الله عليه و آله أنه قال: (إن للسماء إلها و للأرض إلهاً آخر).

3- أن يكون مخالفاً لخُلُق الرسول صلّى الله عليه و آله كأن يكون الكلام فحشاً - و العياذ بالله - فالرسول صلّى الله عليه و آله لا ينطق بالفحش.

4- أن يكون مخالفاً لطبيعة الرسالة الإسلامية و معالمها الواضحة.

فنسأل ابن تيمية: هل قول الرسول صلّى الله عليه و آله: «علي مع الحق..» فيه شيء من هذه الأمور حتى حكم بضرس قاطع أنه كذب و يتنزه عنه الرسول صلّى الله عليه و آله؟!

ص: 258

كل الأدلة تشير إلى عكس قول ابن تيمية، و أن قول الرسول صلّى الله عليه و آله هذا موافق المضامين آيات القرآن و طبيعة الرسالة الإسلامية، فإن مَنْ طهره الله تعالى من الرجس و كان أجر رسالة السماء مودته (قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ) و نزلت فيه (إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ)، و من كان بابا لمدينة العلم و كان من الرسول صلّى الله عليه و آله بمنزلة هارون من موسى.. و... يكون مع الحق و الحق معه بدون أن يداخلنا في ذلك أي ارتياب. فهل في هذا الكلام ضير يا أولي الألباب؟ أو أن العرق الأموي عاود نبضه من جديد؟!

*ما يستفاد من الحديث:

إن أقرب ما يخطر في ذهن المتلقي العربي الواعي لما يسمعه من كلام فصيح هي دلالة الحديث على عصمة الإمام على علیه السلام، لأنه مع الحق دائماً و أبداً فى قوله و فعله، في قيامه و قعوده بمقتضى الإطلاق في الرواية، و لا يكون الحق مخطأ أبداً و إلّا لم يكن حقاً، بل كان باطلاً، و بهذا يكون الإمام علي علیه السلام هو الميزان بين الحق و الباطل، و لهذا حكمت أم سلمة بما تقدم عنها من رواية الحاكم، و حكمت بذلك أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث كما جاء في مجمع الزوائد (1) عن جري بن سمرة قال: لما كان من أهل البصرة الذي كان بينهم و بين علي بن أبي طالب انطلقت حتى أتيت المدينة، فأتيت ميمونة بنت الحارث و هي من بني هلال فسلمت عليها، فقالت: ممن الرجل؟

قلت: من أهل العراق.

قالت: من أي أهل العراق؟

ص: 259


1- ج 9، ص 134.

قلت: من أهل الكوفة.

قالت: من أي أهل الكوفة؟

قلت: من بني عامر.

قالت: مرحباً، قربا على قرب، و رحبا على رحب، فمجيء ما جاء بك؟

قلت: كان بين على و طلحة الذي كان فأقبلت فبايعت علياً.

قالت: فألحق به؛ فوالله ما ضَلَّ و لا ضُلّ به، حتى قالتها ثلاثاً.

و يؤيده رواية أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لعلي: «يا علي من فارقني فارق الله و من فارقك يا علي فارقني». رواه البزار و رجاله ثقات (1).

ص: 260


1- مجمع الزوائد: ج 9، ص 135.

(6)

علي مع القرآن

(1)

1- في المستدرك بسنده عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال: كنت مع علي رضي الله عنه يوم الجمل، فلما رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل الناس فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر فقاتلت مع أمير المؤمنين، فلما فرغ ذهبت إلى المدينة فأتيت أم سلمة فقلت: إني و الله ما جئت أسأل طعاماً و لا شرابا، ولكني مولى لأبي ذر فقالت: مرحباً فقصصت عليها قصتي، فقالت: أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟

قلت: إلى حيث كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس.

قالت: أحسنت سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «علي مع القرآن و القرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا على الحوض» (2).

2- و في المناقب بسنده عن شهر بن حوشب قال: كنت عند أم سلمة رضی الله فسلم رجل، فقيل من أنت؟ قال: أنا أبو ثابت مولى أبي ذر، قالت: مرحباً بأبي ،ثابت أدخل فدخل فرحبت به فقالت: أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها؟

قال: مع علي بن أبي طالب علیه السلام.

قالت: وفّقت و الذي نفس أم سلمة بيده لسمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «علي مع القرآن و القرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»، و لقد بعثت ابني عمر، و ابن أخي عبد الله أبي أمية، و أمرتهما أن يقاتلا مع على من قاتله، و لولا أن رسول

ص: 261


1- المعجم الأوسط للطبراني 5 / 455، ج 4877 و حسن سنده، المعجم الأوسط 5 / 135، المعجم الصغير للطبراني 2 / 28، الصواعق المحرقة ص 74، 75أو 124، 126، الجامع الصغير: 2 / 140 أو 5594، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 116، أو 162 ، فيض القدير: 4 / 356.
2- مستدرك الحاكم : ج 3، ص 124.

الله صلّى الله عليه و آله أمرنا أن نقر فى حجالنا أو في بيوتنا، لخرجت حتى أثقّف في صف علی (1).

3- عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: في مرضه الذي قبض فيه - و قد امتلأت الغرفة من أصحابه - «أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي و قد قدمت إليكم القول، معذرة إليكم: ألا إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب ربي عزّ و جلّ و عترتي أهل بيتي»، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: «هذا علي مع القرآن و القرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا على الحوض فاسألوهما ما خلفت فيهما (كذا) (2).

*سند الحديث:

قال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد و أبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون و لم يخرجاه.

*مفاد الحديث:

و هذا الحديث كسابقه في دلالته على عصمة الإمام على علیه السلام، فإنه مع القرآن لا يفترق عنه أبداً، و من كان كذلك فهو معصوم، فإن الآية الكريمة تصف القرآن بأنه (لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَ لَا مِنۡ خَلۡفِهِۦ تَنزِيلٌ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (3).

و من كان مع القرآن لا يفترق عنه في جميع شؤونه فهو لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، لا عمداً و لا سهواً، و من كان كذلك لا يكون إلا معصوماً، (وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَی ٱلۡخَٰشِعِينَ) (4).

و الذي يظهر من مثل الحديث الثالث أن الرسول صلّى الله عليه و آله - لا سيما في أيامه الأخيرة من الحياة الدنيا - كان يؤكد على أمر إمامة الإمام علي علیه السلام، بألفاظ مختلفة، و أساليب

ص: 262


1- المناقب للخوارزمي: ص 176، و رواه في مجمع الزوائد ج 9، ص 134، و أسد الغابة ج 4، ص 33.
2- هامش تاریخ ابن عساکر ج 3، ص 125، عن أرجح المطالب ص 340 و 598.
3- فصلت / 42.
4- البقرة / 45.

متنوعة، إلا أن ذلك التأكيد لم يجد له صدى في نفوس الكثيرين من المسلمين - آنذاك - و يا للأسف!

ص: 263

(7)

علی وصیی

في المناقب للخوارزمي من رواية مطولة نختار منها هنا ما يخص العنوان، و سوف نذكر الباقي تحت عنوان آخر إن شاء الله تعالى: بإسناده عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله و كانت ألطف نسائه و أشدهن له حباً و قال: إلى قول أم سلمة:

ثم قال لي - تعني الرسول صلّى الله عليه و آله - : «يا أم سلمة لا تلوميني، فان جبرئيل أتاني من الله تعالى بأمر أن أوصي به علياً من بعدي، و كنت بين جبرئيل و علي، و جبرئيل عن يميني و علي عن شمالي، فأمرني جبرئيل أن آمر علياً بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، فاعذريني و لا تلوميني، إن الله عزوجل اختار من كل أمة نبياً و اختار لكل نبي وصياً، فأنا نبي هذه الأمة و علي وصيي في عترتي و أهل بيتي و أمتي من بعدي...» (1).

*سند نصوص الوصية:

إن نصوص الوصية من النصوص المتواترة التي لا يرقى إليها الشك و إن استعان بأجنحة الجن، و حسبك للتعرف على ذلك ما قاله الإمام شرف الدين في مراجعته العشرين حول حديث الدار يوم الإنذار المتضمن لقول الرسول صلّى الله عليه و آله: «إن هذا أخي و وصيي وخليفتي فيكم».

قال رحمة الله: (من أحاط علماً بسيرة النبي صلّى الله عليه و آله، في تأسيس دولة الإسلام، و تشريع أحكامها، و تمهيد قواعدها، و سن قوانينها و تنظيم شؤونها عن الله عزّ وجل، يجد علياً وزير رسول الله في أمره، و ظهيره على عدوه، و عيبة علمه، و وارث حكمه، و ولي عهده، و صاحب الأمر من بعده، و من وقف على أقوال النبي صلّى الله عليه و آله و أفعاله، في حله و ترحاله صلّى الله عليه و آله، يجد نصوصه في ذلك متواترة، من مبدأ أمره إلى منتهى عمره..)

ص: 264


1- المناقب للخوارزمي: ص 146.

إلى أن قال:

(أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية، كابن اسحق، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و أبي نعيم، و البيهقي في سننه و في دلائله، و الثعلبي، و الطبري في تفسير سورة الشعراء من تفسيرهما الكبيرين، و أخرجه الطبري أيضاً في الجزء الثاني من كتابه: تاريخ الأمم و الملوك، و أرسله ابن الأثير إرسال المسلمات في الجزء الثاني من كامله عند ذكره أمر الله نبيه بإظهار دعوته..) (1).

*مدلول الحديث:

إن ألفاظ هذا الحديث تغلق الباب في وجه أصحاب التأويل و تقطع عليهم كل طريق، و تسد جميع منافذ العبور، أو التسلق من فوق الجدران، فلا تدع مجالاً لمكابر أو معاند، و يكفي القارئ له أن يكون صاحب عقل و لغة يستطيع بهما أن يدرك معاني المفردات و مداليل الكلمات. نعم من لا حياء له يمكنه التخبط في تيه لا يعرف مداه، و ليس كلامنا مع أمثاله.

*ما يستفاد من الحديث:

1- إن الإمام علياً علیه السلام وصى الرسول صلّى الله عليه و آله، و الوصي في مصطلح الفقه هو الشخص المعين لتنجيز وصايا الميت و تنفيذها، فلا يكون - إذن - إلا بعد موته و قد صرحت الرواية بذلك في كلمة (من بعدي) في مقطعين منها.

2- إن المراد من الوصية في الحديث هي الحديث هي الوصاية العامة لا الخاصة، أي أنه الخليفة من بعده صلّى الله عليه و آله، و ذلك لقوله صلّى الله عليه و آله: «وصيي في عترتي و أهل بيتي و أمتي»، و هو المناسب لأمره بما هو كائن إلى يوم القيامة، و أن الاختيار وقع من قبل الله سبحانه و تعالى.

ص: 265


1- المراجعات: ص 201، و قد ذكر محقق الكتاب مصادر الحديث بأرقام الصفحات و الطبعات فراجع.

3- إن الوصية و الخلافة بالنص لا بالشورى و اختيار الناس، فهي كالنبوة من هذه الجهة، (و إن الله عز وجل اختار من كل أمة نبياً و اختار لكل نبي وصياً).

4- إن الإمام علياً علیه السلام يعلم الغيب بتعليم من السماء بواسطة الرسول صلّى الله عليه و آله (فأمرني جبرئيل أن أمر علياً بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة).

ص: 266

(8)

مَن سبّ عليا فقد سبني

1- الإمام أحمد بسنده عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول الله صلّى الله عليه و آله فيكم؟ قلت: معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «من سب علياً فقد سبني» (1).

2- الحاكم بسنده عن أبي عبد الله الجدلي يقول: حججت و أنا غلام، فمررت بالمدينة و إذا الناس عنق واحد فاتبعتهم، فدخلوا على أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي! فأجابها رجل جلف جاف: لبيك يا أمتاه، قالت: يسب رسول الله صلّى الله عليه و آله في ناديكم؟ قال: و أنى ذلك؟ قالت: فعلي بن أبي طالب؟ قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «من سب علياً فقد سبني، و من سبني فقد سب الله تعالى» (2).

و ورد بعده ما يصلح لتأييد هذا المعنى:

3- بسنده إلى أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن أبيه قال: جاء رجل من أهل الشام فسب علياً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس، فقال: يا عدو الله أذيت رسول صلّى الله عليه و آله، (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَ رَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِی ٱلدُّنۡيَا وَ ٱلۡأَخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابًا مُّهِينًا) (3) لو كان رسول الله صلّى الله عليه و آله حيا لآذيته.

هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.

4- ما ردّت به على من سب علياً علیه السلام و فيه فضائل كثيرة، و سيأتي في مواقفها العقائدية (4).

ص: 267


1- مسند أحمد ج 6 ص 323.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 121، كنز العمال 11 / 601.
3- سورة الأحزاب: 57.
4- المناقب للخوارزمي: ص 146.

5- و عن أبي عبد الله الجدلي قال قالت لي أم سلمة: يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلّى الله عليه و آله فيكم؟ قلت: أنى يسب رسول الله صلّى الله عليه و آله؟ قالت: أليس يسب علي و من يحبه؟ و قد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يحبه.

*سند الحديث:

قال الهيثمي بعد روايته للحديث رقم (1): (رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي و هو ثقة).

و قال بعد الحديث رقم (4): (رواه الطبراني في الثلاثة و أبو يعلى، و رجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد الله و هو ثقة.

و روى الطبراني بعده بإسناد رجاله ثقات إلى أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه و آله قال مثله) (1).

و قال الحاكم بعد ذكره للحديث رقم (1): (هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، و قد رواه بكير بن عثمان البجلي عن أبي اسحق بزيادة ألفاظ) (2). و سنده للحديث نفس سند الإمام أحمد ما عدا من أخبره و هو أحمد بن كامل القاضي حدثنا محمد بن سعد العوفي حدثنا يحيى بن أبي بكير..الخ.

*وقفة مع ابن كثير:

و بعد قرائتك لما تقدم تعرف أن الحديث لا غبش في سنده أصلاً عند القوم، ولكن هنا وقفة مع ابن كثير المتربي على بقايا سفرة ابن تيمية و وارث حقده على أهل البيت الطاهر علیهم السلام، و كلاهما شاميان فلا غرابة في ذلك..

قال - بعد حديث أحمد، و أبو يعلى أيضاً - : (و قد روي من غير هذا الوجه عن أم سلمة، و قد ورد حديثها و حديث جابر وأ بي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال لعلي:

ص: 268


1- مجمع الزوائد: 9 / 130.
2- مستدرك الحاكم: 13 / 21.

(كذب من زعم انه يحبني و يبغضك)، ولكن أسانيدها كلها ضعيفة لا يحتج بها) (1).

ولكي ننصف الرجل نحتمل في عبارته احتمالين:

الأول: أنه أرجع الضمير في قوله (أسانيدها كلها) إلى جميع الروايات التي تقدمت على هذا الكلام أي روايات (من سبني) و روايات (كذب من..) و هذا الاحتمال هو الظاهر من كلامه، و عليه يظهر نتن ابن كثير حيث مرّ علينا عن قريب أن رواية الإمام أحمد صحيحة السند بشهادة الهيثمي و الحاكم.

الثاني: إنه أرجع الضمير إلى خصوص روايات (كذب من..) و سيأتي الكلام حولها أو ما يقرب من مضمونها و أنها صحيحة، و على فرض عدم صحتها فذكر هذه العبارة هنا واضحة القصد لما فيها من الإيهام و هو المترقب من أمثال ابن كثير.

*ما يستفاد من الحديث:

السبُّ هو الشتم و يقال عنه السباب و هي صفة يتنزه عنها كل من كانت له أخلاق الأشراف، و قد ورد في الحديث «سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر» (2) و أما هذا الحديث فقد نزل سب الإمام علي علیه السلام بمنزلة سب الرسول صلّى الله عليه و آله و سب الرسول صلّى الله عليه و آله يعني سبّ الله سبحانه و تعالى، فتكون النتيجة أن مَنْ يسب علياً فهو كافر إذ لا شك في كفر من سب الله و الرسول صلّى الله عليه و آله، فحسبك بهذا الحديث دلالة واضحة على منزلة الإمام علي علیه السلام عند الله و رسوله صلّى الله عليه و آله.

*حكم مَنْ سبَّ النبي صلّى الله عليه و آله:

و حتى تكون عند القارئ رؤية واضحة حول هذه المسألة ننقل أقوال الفقهاء

ص: 269


1- البداية و النهاية: 7 / 391.
2- البخاري: ج 4 كتاب الفتن.

في من يسبب النبي صلّى الله عليه و آله و ما هو حكم الإسلام فيه:

*رأي الإمامية:

قال السيد الخوئي رحمة الله في متن تكملة المنهاج: (يجب قتل من سب النبي صلّى الله عليه و آله على سامعه ما لم يخف الضرر على نفسه أو عرضه أو ماله الخطير..).

و علّق على ذلك في مباني التكملة بقوله: (أما وجوب قتله - مضافاً إلى أنه لا خلاف فيه، بل ادّعي الإجماع عليه بقسميه - فلعدة روايات: (منها) صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السلام: (أنه سئل عمن شتم رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال علیه السلام: يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام) (1).

فالمسألة موضع إجماع عند الشيعة، مضافاً إلى وجود الروايات من قبل أهل البيت علیهم السلام.

*رأي السنة:

قال في المغني: (و قذف النبي صلّى الله عليه و آله و قذف أمه: ردّة عن الإسلام و خروج عن الملة، و كذلك سبّه بغير القذف، إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام، لأن سبّ الله تعالى يسقط بالإسلام فسبّ النبي صلّى الله عليه و آله أولى) (2).

و جاء في الفقه على المذاهب الأربعة: (و يكفر بقوله: بجواز اكتساب النبوة و تحصيلها بسبب الرياضة، لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي، أو سب نبي أجمعت الأمة على نبوته، أو سب ملكاً من الملائكة يجمع على ملكيته) (3).

حكم من سب الإمام علیه السلام

هذه بعض أقوالهم في مَنْ سب النبي صلّى الله عليه و آله و قد نزلت الرواية التي نحن في صدد

ص: 270


1- مباني تكملة المنهاج: 1 / 264.
2- المغني لابن قدامة: 233/8.
3- 5 / 423.

الحديث عنها سب الإمام على علیه السلام منزلة سبّ النبي صلّى الله عليه و آله فالحكم بعد ضمِّ هاتين المقدمتين واضح لا غبار عليه، و قد قال شيخ الطائفة المحقة الشيخ الطوسي في مَنْ سبّ الإمام علیه السلام: (مَنْ سب الإمام العادل وجب قتله)، و قال الشافعي (يجب تعزيره)، و به قال جميع الفقهاء، ثم استدل بإجماع الفرقة و أخبارهم، و قول النبي صلّى الله عليه و آله: «مَنْ سبّ علياً فقد سبني، و من سبني فقد سبَّ الله، و مَنْ سب الله و سب نبيه فقد كفر و يجب قتله» (1).

و قال السيد الخوئي رحمة الله بعد أن ألحق بسب النبي صلّى الله عليه و آله سب الأئمة علیهم السلام و سب فاطمة الزهراء علیها السلام: (من دون خلاف بين الأصحاب، بل ادعي عليه الإجماع بقسميه - المحصل و المنقول - و ذلك لما علم من الخارج بالضرورة أن الأئمة علیهم السلام و الصديقة الطاهرة علیها السلام بمنزلة نفس النبي صلّى الله عليه و آله و أن حكمهم علیهم السلام حكمه صلّى الله عليه و آله و كلهم يجرون مجرى واحداً..) (2).

ثم إن الإمام علياً علیه السلام أحد الصحابة، بل أفضلهم و قد حكم بعضهم بفسق من سب أحدهم عالماً متعمداً، بل زاد ابن حزم فكفره و إن لم يلتفت إلى ملازمات كلامه، فقد قال: في كتابه الفصل (257/3) و أما من سبّ أحداً من الصحابة رضی الله فإن كان جاهلاً فمعذور، و إن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق،

كمن زنى و سرق، وإن عاند الله تعالى في ذلك و رسوله صلّى الله عليه و آله فهو كافر..) (3).

و لنزداد بصيرة في المسألة يجب علينا أن نعرف: أن من سب الإمام علياً علیه السلام أو أحداً من أئمة أهل البيت علیهم السلام فهو ناصبي، لأن السبّ أظهر عناوين العداء و البغض و الحقد، و قد عرّف النصب بالمعاداة، يقال نصبت لفلان نصباً: إذا عاديته، و منه (الناصب) و هو الذي يتظاهر بعداوة أهل البيت، أو لمواليهم لأجل متابعتهم لهم،

ص: 271


1- الخلاف: 2 كتاب الباغي مسألة 5.
2- مباني تكلمة المنهاج: 1 / 265.
3- راجع :الغدير / 1 من ص 585 الى ص 608.

و في القاموس النواصب و النصبة و أهل النصب المتدينون ببغض على علیه السلام لأنهم نصبوا له، أي عادوه (1).

و قد رمق النبي صلّى الله عليه و آله المستقبل بطرفه الغيبي فرأى ما سيقوم به أعداء على علیه السلام، من سبّه فوق منابر المسلمين و الأمر بسبه و شتمه، فأعطى للمسلمين هذا الوسام الواضح ليعقل من يعقل و يجهل من يجهل، و قد طوّق هذا الوسام أعناق قوم من الجاهلين فكان سبّة لهم مدى الدهر، لا يغسل عاره ماء البحر.

و الأدهى من ذلك ما حاوله المتأخرون عنهم، من تبرير الموقف السياسي الباغي بأنه اجتهاد يؤجر عليه صاحبه!! فلم يكتفوا بغسل سيئاتهم بماء آسن حتى حبوهم بالأجر و الثواب و كأنهم القيمون على ثواب الله عز و جل و ميزانه في أعمال البشر، يعطي الله من أعطوا و يمنع من منعوه.

يقول الحجوي - في ترجمة معاوية - : (و من أقبح ما يذكر في تاريخه سبه لعلي - كرم الله وجهه - و لولا أنه في (صحيح مسلم) ما صدقت بوقوعه منه، ما أدري ما وجه اجتهاده فيه حتى كانت سنة من بعده، و الله يغفر له، و ليست العصمة إلاّ للأنبياء)!! (2).

قال ابن حزم: (إن معاوية رضی الله و من معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً)!! (3).

و قال ابن حجر الهيثمي: (و أعداؤه - يعني علياً - الخوارج و نحوهم من أهل الشام، لا معاوية و نحوه من الصحابة، لأنهم متأولون فلهم أجر)!! (4).

و قال أيضاً: إن معاوية و أتباعه مثابون غير مأثومين بما فعلوه من قتال علي)!! (5).

ص: 272


1- راجع مجمع البحرين: 2 / 173.
2- دروس في فقه الإمامية 79/1 عن الفكر السامي 1 / 276.
3- دليل المتحيرين ص 366 عن الفصل في الملل و الأهواء و النحل 4 / 161.
4- دليل المتحيرين ص 366 عن الصواعق المحرقة ص 184.
5- ن. معن تطهير الجنان و اللسان ص 302.

فيا لله و لهذا الاجتهاد الذي يقول صاحبه: قال الله وزرسوله صلّى الله عليه و آله و أقول بخلافهما! و هنيئاً لصاحبه ما ينتظره يوم العرض الأكبر، فهلا كان إبليس مجتهداً مخطئاً له أجر واحد حين أمره الله سبحانه و تعالى بالسجود لآدم فلم يمتثل! (كَبُرَتۡ كَلِمَةً تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ) (1).

و كيف استطاعت أن تمرَّ هذه السخافة على عقول الكثيرين، عبر أجيال من المسلمين، و هم يدّعون أنهم أصحاب فكر و قلم و دين؟! أ لم يكن هذا الدفاع المستميت عن رجل لم يكن بذي فضل في الدين معروف، و لا أثر في الإسلام محمود - حسب وصف الإمام الحسن علیه السلام له - أ لم يكن ذلك حرباً لله و رسوله وجهاً لوجه و اجتهاداً نحو اجتهاد صاحبهم؟ أ لم يصدر عن ما خبّأته النفس الأمارة بالسوء تجاه الإمام علي علیه السلام الذي ضحى بنفسه و ما لديه من أجل رفع راية الإسلام لتخفق فوق رؤوس أولئك الذين سبّوه باسم الإسلام و دافع عنهم هؤلاء باسم الدين؟

أعيدوا حساب أوراقكم أيها المرابون بعملة التاريخ، و ارجعوا إلى رواياتكم لتعرفوا الحق، فإن من يعرف الحق يعرف أهله، و ليس لكم أن تعرفوا الحق بالرجال.

جاء في الغدير: قال الزمخشري في ربيع الأبرار - على ما يعلق بالخاطر - و الحافظ السيوطي: إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر، يلعن عليها علي بن أبي طالب، بما سنّه لهم معاوية من ذلك. و في ذلك يقول العلامة الشيخ أحمد الحفظي الشافعي في أرجوزته:

و قد حكى الشيخ السيوطي أنّه قد كان فيما جعلوه سُنّة

سبعون ألف منبر و عشرة من فوقهن يلعنون حيدرة

ص: 273


1- سورة الكهف: 5.

و هذه في جنبها العظائمُ تَعصغُرُ بل توُجَهُ اللوائمُ

فهل ترى من سنّها يعادى أم لا و هل يُستَرُ أو يهادى

أو عالمٌ يقول عنه نسكتُ أجب فإني للجواب مُنصتُ

و لیت شعري هل يقال اجتهدا كقولهم في بغيه أم ألحدا

أليس ذا يؤذيه أم لا فاسمعن إنّ الذي يؤذيه من و من و من

بل جاء في حديث أم سلمة هل فيكمُ الله يُسبُّ مَهُ لِمَهْ

عاون أخا العرفان بالجوابِ و عادِ من عادى أبا ترابِ (1)

و يحسن بنا أن نختم الكلام بما كتبه ابن أبى الحديد في شرحه لقول الإمام علیه السلام: (إيه أبا وذحة) و يقصد به الحجاج و فسرت الوذحة بالخنفساء، قال في قصة ذلك وجوهاً: (و منها أن الحجاج كان مثفاراً، و كان يمسك الخنفساء حية ليشفى بحركتها في الموضع حكاكة، قالوا: و لا يكون صاحب هذا الداء إلا شانئاً مبغضاً لأهل البيت قالوا و لسنا نقول: كل مبغض فيه هذا الداء، و إنما قلنا كل من فيه هذا الداء فهو مبغض.

قالوا: و قد روى أبو عمر الزاهد - و لم يكن من رجال الشيعة (2) في أماليه و أحاديثه عن السياري عن أبي خزيمة الكاتب، و قال: ما فتشنا أحداً فيه هذا الداء إلا وجدناه ناصبياً) (3).

و جاء في مجمع البحرين ما هذا لفظه: (في حديث علي علیه السلام «إيه أبا وَذَحَة» فإيه معناه زدنا و هات، و الوذحة الخنفساء، و هذا القول يومى به إلى الحجاج بن يوسف لعنه الله.. إلى قوله: و نقل البعض: ان الحجاج كان مخنثاً و كان يأخذ الخنفساء و يجعلها على مقعده لتعض ذلك الموضع فتسكن بعض علته) (4).

ص: 274


1- الغدير 2 / 160.
2- هذه الجملة من المتن.
3- شرح نهج البلاغة: 7 / 280
4- 2 / مادة وذح.

(9)

لا يحب علياً منافق و لا يبغضه مؤمن

1- أحمد بسنده عن مساور الحميري، عن أمه قالت: سمعت أم سلمة تقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول لعلي: «لا يبغضك مؤمن و لا يحبك منافق» (1).

2- الترمذي بسنده عن المساور الحميري، عن أمه قالت: دخلت على أم سلمة فسمعتها تقول: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «لا يحب علياً منافق، و لا يبغضه مؤمن»،

و في الباب عن علي، هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (2).

3- و في المصنف لابن أبي شيبة بسنده عن مساور الحميري، عن أمه، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله يقول: «لا يبغض علياً مؤمن، و لا يحبه منافق» (3)

*سند الحديث:

رواة الحديث في سند الإمام أحمد هم:

1۔ عثمان بن محمد بن أبي شيبة: من رجال البخاري و مسلم.

2- محمد بن فضيل: من رجال البخاري و مسلم.

3- عبد الله بن عبد الرحمن أبي نصر وثقه أحمد و قال أبو حاتم: صالح (4).

4- مساور الحميري و أمه: قد عبّر الحاكم عن حديث فيه مساور و أمه بأنه صحيح الإسناد (5).

و قد عبّر الترمذي في سننه عن الحديث ب (هذا حديث حسن غريب من هذا

ص: 275


1- مسند أحمد ج 1 ص 292، و جاء في المصنف لابن أبي شيبة 6 / 372، مسند أبي يعلى 12 / 362، المعجم الكبير 23 / 274 ،375، 380، تاریخ الخلفاء للسيوطي ،2 / 173، فضائل الصحابة 2 / 619، 648.
2- سنن الترمذي: ج 5 ص 299، 48 / باب 1083
3- المصنف 372/6، و ورد في مسند أبي يعلى 12 / 362، و المعجم الكبير للطبراني 23 / 375، و السنة لا بن أبي عاصم 597/2.
4- میزان الاعتدال: 2 / 454.
5- المستدرك 4 / 191.

الوجه) (1).

و رجال الحديث بطريقه هم رجال الإمام أحمد ما عدا الراوي عن محمد بن فضيل، فانه بطريق الترمذي واصل بن عبد الأعلى، و بطريق الإمام أحمد هو عثمان بن محمد، و هو من رجال البخاري و مسلم كما تقدم، فالحديث صحيح بهذا الإسناد.

و قد جاء في العمدة لابن البطريق عن الجمع بين الصحاح الستة عن صحيح البخاري عن أم سلمة.. فإذا ورد الحديث عن البخاري فهو غاية الغايات عند القوم.

*وقفة قصيرة:

إن مضمون الحديث ورد عند العامة بطرق كثيرة و صور مختلفة و أسانيد صحيحة، و من يدّعي تواتره لا يركب متن الجزاف، حتى قال علامة المعتزلة: (و قد اتفقت الأخبار الصحيحة التي لا ريب فيها عند المحدثين على أن النبي صلّى الله عليه و آله قال: «لا يبغضك إلا منافق و لا يحبك إلا مؤمن»).

و قال: قال الشيخ أبو القاسم البلخي: (و قد روى كثير من أرباب الحديث عن جماعة من الصحابة قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله إلّا ببغض علي بن أبي طالب) (2).

و ننقل - على سبيل المثال لا الحصر - صورتين لمضمونين:

الأولى : أبو سعيد الخدري قال: كنا نعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار - يبغضهم علياً.

و لم يصدر ذلك منهم عن فراغ، أو لرؤيا رأوها في المنام و عندهم حامل أسرار

ص: 276


1- سنن الترمذي: 5 / 299.
2- شرح نهج البلاغة: 83/4.

السماء النبي محمد صلّى الله عليه و آله، فهم وضعوا هذا الميزان الدقيق بإرشاد منه صلّى الله عليه و آله، و قد تكرر مثل هذا القول من صحابة آخرين كما تقدم عن البلخي و قد خرجه في الغدير عن كل من: سنن الترمذي (5 / 593)، و حلية الأولياء (6 / 295)، و الفصول المهمة (ص 123)، و أسنى المطالب (ص 56)، و مطالب السؤول (ص 17)، و نظم الدرر (ص 102)، و الصواعق المحرقة (ص 122).

الثانية: عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال: (و الذي فلق الحبة و برأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إليّ: انه لا يحبني إلا مؤمن، لا يبغضني إلّا منافق).

*مصادره كما في الغدير:

صحیح مسلم (1 /120) كتاب الإيمان، كفاية الطالب (ص 68 باب 3)، سنن الترمذي ( 5 / 601)، مسند أحمد (1 / 135)، سنن ابن ماجة (1 / 42)، السنن الكبرى (5 / 47)، خصائص أمير المؤمنين (ص 118)، مصابيح السنة (4 / 171)، إلى آخر ما ذكرهم و نقل التصحيح عن بعضهم فراجع (1).

و بعد هذه الإلمامة القصيرة والخلاصة المفيدة فلتذهب محاولات ابن تيمية أدراج الرياح فإنه - لكي ينطبق عليه الحديث المذكور - قال في منهاج سنته: (فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث انهما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي صلّى الله عليه و آله، ولم يُرو واحد منهما في كتب العلم المعتمدة، ولا لواحد منهما إسناد معروف) (2).

و نترك التعليق للقارئ الكريم، و ما أراه فاعلاً إلّا أن يردد الحديث على مسامع ابن تيمية و من مشى في ركابه، فلينظر الإنسان في نفسه و دينه.

ص: 277


1- الغدير: 3 / 260. و اعتمدنا ترقيم صفحات المصادر على ما في الهامش.
2- منهاج السنة : 3 / 182 أو 2 / 169.

*مدلول الحديث:

لنذهب سوية إلى عمق التاريخ و نسمع ممن سمع من أحمد بن حنبل رأيه و استفادته من هذا الحديث، ليتضح الأمر عند من يعتقد بالإمام أحمد و يصدر عنه في فعله و قوله، و لتبلغ الحجة أقصى مداها.

قال ابن عساكر - بعد سند طويل - أنبأنا محمد بن منصور الطوسي، قال: سمعت أحمد بن حنبل و قد سأله رجل عن قول النبي صلّى الله عليه و آله: «علي قسيم النار».

فقال: هذا حديث يضطرب طريقه عن الأعمش، ولكن الحديث الذي ليس عليه لبس هو قول النبي صلّى الله عليه و آله: «يا على لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق».

و قال الله عز وجل: (إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِی ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ) (1)، فمن أبغض علياً فهو في الدرك الأسفل من النار (2).

و نقله محقق الكتاب في الهامش، عن كفاية الطالب ص 72 بصورة أخرى و هي:

كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يروى أن علياً قال: أنا قسيم النار؟ فقال أحمد و ما تنكرون من هذا الحديث؟ أليس روينا أن النبي صلّى الله عليه و آله قال لعلي: «لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق؟

قلنا: بلی.

قال: فأين المؤمن؟

قلنا: في الجنة.

قال: فأين المنافق؟

قلنا: في النار.

ص: 278


1- النساء: 145.
2- تاریخ دمشق لابن عساكر: 2 / 253.

قال: فعلي قسيم النار (1).

فعندنا من هذا الحديث معادلة صحيحة لا تقبل الغلط و هي: إن حبّ الإمام علي علیه السلام = الإيمان، و إن بغضه علیه السلام = النفاق.

فالمؤمن هو من يحب علياً، و من يحب علياً علیه السلام هو المؤمن، و من يبغض علياً علیه السلام هو المنافق، و المنافق من يبغض علياً علیه السلام.

و النتيجة الواضحة من هذه المعادلة هذه المعادلة هي قول الله تعالى: (وَ بَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٍ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزۡقًا ۙ قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِی رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُ وَ أُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهًا وَ لَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ) (2)

و أما المنافق فيتوجه له الخطاب القرآني المحكم: (إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِی ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَ لَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا) (3).

فلنا أن نعرف - و نحن في الحياة الدنيا - من سيدخل الجنة في غدٍ و من سيلقى في الدرك الأسفل من النار، و لكل قارئ للحديث أن يضعه ميزانا يميّز به حتى من تقدمه بسنين متطاولة ليعرف صاحبه في أي الكفتين ليتمسك به و يتبعه أو يتركه و يدعه.

فهل لك - بعد هذا - أن تقول للصاحب بن عباد: انك مغال في قولك:

علي حبُّه جُنّة قيم النار و الجَنّة

وصي المصطفى حقاً إمام الإنس و الجِنّه

و لو قام القارئ المنصف بهذا الاقتراح لانقلبت المفاهيم في عينيه، و تأرجح بين طريقين لابد من المسار في إحداهما: فإما أن يأخذ بقول الرسول صلّى الله عليه و آله و هو الصادق الأمين في قوله و فعله فيعمل على ضوء و صفته الناجعة، فلا يخرج من

ص: 279


1- ن. م. الهامش.
2- البقرة: 25.
3- النساء: 145.

هدى و لا يدخل في ضلال، و يكون المسلم الحق الذي آمن بالرسول صلّى الله عليه و آله و ما جاء به من عند الله، و إما أن يشتّ به هواه فيبعد و يبعد عن هدى الرسول صلّى الله عليه و آله فينطبق عليه قول الله عزّ وجل: (أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَ تَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیٌ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَیٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِ وَ مَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ) (1)، و قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَ رُسُلِهِۦ وَ يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَ رُسُلِهِۦ وَ يَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٍ وَ نَكۡفُرُ بِبَعۡضٍ وَ يُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً * أُوۡلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقًّا وَ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (2).

فانظر - عزيزي القارئ - لدينك، و كن خير ناصح لنفسك، و تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، و الله يعصمك من الناس.

ص: 280


1- البقرة: 85.
2- النساء: 150 - 151.

(10)

من أحبّ عليا أحبّني

1- عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: من أحب علياً فقد أحبني، و من أحبني فقد أحب الله، و من أبغض علياً فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض الله عز وجل.

أخرجه المخلص الذهبي، و أخرجه غيره من حديث عمار بن ياسر رضی الله عنه و زاد فيه: و من تولاه فقد تولاني، و من تولاني فقد تولّى الله (1).

2- رواه ابن عساكر بهذا اللفظ: دخل علي على النبي صلّى الله عليه و آله فقال النبي صلّى الله عليه و آله: كذب من زعم انه يحبني و يبغض هذا (2).

3- و بسند آخر: بهذا اللفظ: قالت: أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: من أحب علياً فقد أحبني و من أحبني فقد أحب الله، و من أبغض علياً فقد أبغضني و من أبغضني فقد أبغض الله (3)

4- من أحب علياً فقد أحبني، و من أحبني فقد أحب الله، و من أبغضه فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض الله. (طب عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده، طب عن أم سلمة) (4).

*سند الحديث:

قال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني و إسناده صحيح).

و الأحاديث الحاملة للحث على حبّ الإمام علي علیه السلام و الزاجرة عن بغضه كثيرة و متعددة،و نتحمل مسؤولية الكلمة الصادقة عندما نقول: انها بلغت حدّ التواتر

ص: 281


1- ذخائر العقبى 65، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 130، کنز العمال 11 / 622، مجمع الزوائد: ج 9 ص 132.
2- ابن عساكر: 2 / 186 رقم (667).
3- ص 190 رقم (673).
4- كنز العمال، مجمع الزوائد: ج 9 ص 132.

المفيد للعلم بصدورها عن صاحب النبوة الخاتمة.

*سرّ العلاقة بين حب علي علیه السلام و النبي صلّى الله عليه و آله:

عندما نقرأ التأريخ الإسلامي الصحيح و نلاحظ انتقالات الدعوة الإسلامية من مرحلة إلى أخرى، هناك نعرف هذا السر العجيب، فالرسول صلّى الله عليه و آله يبعث اليوم و يصلي معه علي علیه السلام في غدٍ، و يدعو الرسول صلّى الله عليه و آله عشريته الأقربين لينذرهم برسالة السماء و على علیه السلام هو الذي يهيئ و جبة الطعام له و لضيوفه، ثم يقوم فيهم و يبيّن لهم ما أراده الله له و يسألهم - و كانوا أربعين رجلاً يزيدون شخصاً أو ينقصون - : من منكم يؤازرني على أن يكون هو الخليفة و الوصي من بعدي؟ فسكت الجمع الحاضر إلّا علياً علیه السلام فإنه يقول: أنا يا رسول الله، و يبلّغ الرسول صلّى الله عليه و آله كلمته الصاعقة في داخل الحرم: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) و علي إلى جانبه (1).

و يهاجر الرسول صلّى الله عليه و آله إلى المدينة المنورة و يخلّف علياً علیه السلام ليؤدي أمانته صلّى الله عليه و آله، و تقوم القبائل ضد الرسول صلّى الله عليه و آله من أجل أن يخفى الضوء الإلهي، و على علیه السلام هو الفدائي الذي يردّ الهجمات و الصدمات و يعالج و حوش الحجاز بقطع رقابهم و قدّ أجسادهم، فيقتل نصف قتلى المشركين في (بدر) و يقتل المسلمون النصف الباقي، و يفرّ المسلمون في (أحد) و يبقى علي علیه السلام يدافع عن الرسول صلّى الله عليه و آله مع قلة من المسلمين، و يسكت الجميع في غزوة (الخندق) عندما صرخ عمرو بن عبدود: (هل من مبارز) و يقوم له علي علیه السلام، و هكذا....

إذن للإمام علي علیه السلام دور بارز في حفظ رسالة السماء فسيف علي علیه السلام كان مع عزيمة النبي محمد صلّى الله عليه و آله جنباً إلى جنب في المواقف الحرجة التي مرّت على

ص: 282


1- تاريخ الطبري: 1 / 542 فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي قال فأحجم القوم عنها جميعا رجاء و إني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي و وصي فاسمعو له و أطيعوا. و اما في تفسيره 19 / 121، فرفع كلمة وصيي و قال: أخي و كذا و كذا، و تبعه في ذلك ابن كثير.

المسلمين، بعد هذا كله - و هو قليل من كثير - ألا يستحق الإمام علیه السلام هذا الوسام الخالد من الوفيّ القائد الرسول محمد صلّى الله عليه و آله: (من أحبّ علياً فقد أحبني) ؟!

و رحم لله الشاعر السيد مصطفى جمال الدين حيث يقول:

نحن نهواك، لا لشيء، سوى إنك من أحمد أخٌ و وزيرٌ

و حسام يحمي، و روح تفدّي و لسان يدعو، و عقل يُشيرُ

و مفاتيح من علوم، حباها لك إذ أنت كنزها المذخورُ

ضرب الله بين و هجيكما حَذ أ: فأنت المنار و هو المنيرُ

و إذا الشمس آذنت بمغيبٍ غطّت الكونَ من سناها البدورُ

و لكي نكشف السر بصورته الواقعية نقرأ هذه الرواية المباركة:

(قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إن الله تعالى عهد إلي في علي عهداً»، قلت: «ربِّ بينه لي». قال: اسمع يا محمد.

قال: قلت: سمعت».

(قال): «إن علياً راية الهدى بعدي، و إمام أوليائي، و نور من أطاعني، و هو الكلمة التي ألزمتها المتقين، فمن أحبه أحبني، و من أبغضه أبغضني، فبشره بذلك» (1).

ص: 283


1- تاریخ دمشق لابن عساکر: 2 / 189.

(11)

يحبه الله و رسوله

المناقب للخوارزمي من حديث طويل عن أم سلمة:

و أقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فكان رسول الله في منزل زوجته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فدق علي بن أبي طالب الباب فقالت أم سلمة: من بالباب؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله - قبل أن يقول علي: أنا علي - : «قومي يا أم سلمة فافتحي له الباب و مريه بالدخول، فهذا رجل يحبه الله و رسوله و يحبهما»، قالت أم سلمة: فقلت: فداك أبي و أمي! و من هذا الذي تذكر فيه هذا و أنت لم تره؟ فقال: «مه يا أم سلمة، هذا رجل ليس بالخرق و لا بالنزق، هذا أخي، و ابن عمي، و أحب الخلق إلي»، قالت أم سلمة: فقمت مبادرة أكاد أن أعثر بمرطي، ففتحت الباب فإذا أنا بعلي بن أبي طالب علیه السلام، و الله ما دخل حين فتحت له حتى علم أني قد رجعت إلى خدري، قالت: ثم إنه دخل على رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال: «السلام عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته»، فقال النبي: «و عليك السلام يا أبا الحسن، أجلس» (1).

*وفي موضع آخر:

في المناقب بسنده عن علقمة، عن عبد الله: قال خرج النبي صلّى الله عليه و آله من عند زينب بنت جحش، فأتى بيت أم سلمة و كان يومها من رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلم يلبث أن جاء على، فدقّ الباب دقاً خفياً، فاستثبت رسول الله صلّى الله عليه و آله الدق و أنكرته أم سلمة، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: «قومي فافتحي له الباب»، فقالت: يا رسول الله! من هذا الذي بلغ من خطره ما أفتح له الباب فأتلقاه بمعاصمي و قد نزلت في آية في كتاب الله بالأمس؟ فقال لها كالمغضب: «إن طاعة الرسول طاعة الله و من عصى الرسول فقد

ص: 284


1- المناقب للخوارزمي: ص 344.

عصى الله، إن بالباب رجلا ليس بالنزق و لا بالخرق، يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله»، ففتحت له الباب، فأخذ بعضادتي الباب، حتى إذا لم يسمع حساً و لا حركة و صرت إلى خدري استأذن فدخل، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «أ تعرفينه؟» قلت: نعم هذا علي بن أبي طالب، قال «صدقت، سحنته من سحنتي، و لحمه من لحمي، و دمه من دمي، و هو عيبة علمي، اسمعي و اشهدي، هو قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين من بعدي، اسمعي و اشهدي هو و الله محيي سنتي، اسمعي و اشهدي لو أن عبداً عبد الله ألف عام من بعد ألف عام بين الركن و المقام، ثم لقى الله مبغضا لعلي لأكبه الله يوم القيامة على منخريه في النار» (1).

و لا أراني بحاجة في التعليق عليه أكثر مما ذكرنا في الأحاديث السابقة.

ص: 285


1- المناقب للخوارزمي : ص 86، أخبار مكة 1 / 472.

(12)

فضائل متعددة

الخوارزمي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «هذا علي بن أبي طالب، لحمه من لحمي، و دمه من دمي، و هو مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي»، و قال: «يا أم سلمة اشهدي و اسمعي هذا علي أمير المؤمنين و سيد المسلمين و عيبة علمي، و بابي الذي أوتي منه أخي في الدنيا، و خدني في الآخرة، و معي في السنام الأعلى» (1).

*سند الحديث

سند الحديث و إن كان فيه من رمي بالضعف؛ لكونه شيعياً كما يستفاد من ميزان الاعتدال إلا أن المضامين التي وردت في الحديث قد وردت في غيره عن غير أم سلمة من الطرق المعتبرة بموازين القوم، فالحديث - على هذا التقدير - معتبر المضمون فلا يضره ضعف رجاله، على فرض ثبوت الضعف.

و الحديث و إن كان مروياً عن ابن عباس إلا أن فيه (يا أم سلمة..) فيظهر أن الخطاب موجّه لها بالخصوص و قد روته إلى ابن عباس، أو أنه كان موجوداً في مجلس الحديث، و يشهد لذلك كلامها مع ميثم التمار الوارد في شرح نهج البلاغة:

(قال: و حج - ميثم التمار - في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقالت له: من أنت؟ قال عراقي، فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب، فقالت: أنت هيثم؟ قال: بل أنا ميثم، فقالت: سبحان الله! و الله لربما سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يوصي بك علياً في جوف الليل، فسألها عن الحسين بن علي، فقالت: هو في حائط له، قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه و نحن ملتقون

(1)

ص: 286


1- المناقب للخوارزمي: ص 130.

عند رب العالمين إن شاء الله، و لا أقدر اليوم على لقائه و أريد الرجوع، فدعت بطيب فطيبت لحيته، فقال لها: أما إنها ستخضب بدم، فقالت: من أنباك هذا؟ قال: أ نبأني سيدي، فبكت أم سلمة، و قالت له: إنه ليس بسيدك وحدك هو سيدي و سيد المسلمين) (1).

فالملاحظ أنها عبّرت عن الإمام علیه السلام الا بكلمة (سيد المسلمين) و هو نفس تعبير الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها.

*مدلول الحديث:

لقب (أمير المؤمنين و سيد المسلمين) يؤكد - و بصورة واضحة خارجة عن دائرة الريب - أن الإمام علياً علیه السلام هو أفضل صحابة الرسول صلّى الله عليه و آله على الإطلاق، لا يدانيه في منزلته أحد كائناً من كان، و أنه هو الخليفة الذي بيده الأمر و النهي، و الحل و العقد، و السلم و الحرب، و العزل و التنصيب.

(عَيْبة علمي) العيبة بالفتح في اللغة هي مستودع الثياب أو مستودع أفضل الثياب. و عيبة العلم على الاستعارة (2).

فالإمام علي علیه السلام مستودع علم النبي صلّى الله عليه و آله و خزانته، ذلك العلم المتصل بالسماء فما أدراك ما هو! فعلي أعلم الصحابة بلا استثناء؛ لأنه لم يكن فيهم من كان مستودعاً لعلم النبي صلّى الله عليه و آله غيره، و ثبت في الصحاح أن الإمام علياً علیه السلام هو المراد بمن عنده علم الكتاب في قوله تعالى: ﴿ وَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلاً ۚ قُلۡ كَفَیٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَاۢ بَيۡنِی وَ بَيۡنَكُمۡ وَ مَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ) (3)

و قد حاول أعداء علي علیه السلام أن يميلوا بالآية إلى عبد الله بن سلام و لكنهم لم يلتفتوا إلى أن الآية مكية و قد أسلم الرجل المذكور فى المدينة، و تنبّه لذلك ابن

ص: 287


1- شرح نهج البلاغة: 2 / 292
2- سورة الرعد: 43.
3- سورة الرعد: 43.

تيمية فادعى بأن السورة مدنية و خالف بذلك الإجماع و أحداث الواقعة، و لكنه من الذين لا يبالون بما يقولون، و قد نزع الحياء منه؛ لبغضه لأمير المؤمنين علیه السلام، فتجرّد عن معاني الأمانة العلمية و الكلمة المسؤولة و كل ما ينبغي أن يتصف به العلماء، فالموعد القيامة و الحكم الله و الخصيم محمد.

(و بابي الذي أوتى منه) ورد عن الرسول الله صلّى الله عليه و آله أنه قال: «أنا مدينة العلم و علي بابها» (1)، و أما هذه الرواية فقد أطلقت و لم تحدد أنه باب لأي صفة، بل هو باب لتلك الذات المقدسة و هى ذات الرسول صلّى الله عليه و آله أفضل الأنبياء و المرسلين و مجمع الفضائل و المناقب، فلك أن تستفيد من هذه الجملة ما وسعك، و ما أحاط به علمك، و بلغه ،إدراكك، فإن الإطلاق محكّم و هو حجة في الكلام بلا ريب، يمنعك من ذلك مانع و لا يقف دونك حاجز و لن تستطيع أن تبلغ ما يريده الرسول صلّى الله عليه و آله، فإنه ربّ جوامع الكلم، و حسب القارئ أن يدرك قصوره عن التحليق في تلك الأجواء حتى لا يكون جاهلاً بالجهل المركب.

(أخي في الدنيا) ورد حديث مؤاخاة النبي صلّى الله عليه و آله للإمام على علیه السلام دون سائر أصحابه على ألسنة كثيرة من الصحابة وفي كتب القوم بصور مختلفة، و قد ذكر علامة الغدير رحمه الله له خمسين حديثاً في ذلك (2) رداً منه على صاحب (الفصل في الملل والنحل) الذي ادعى أخوة النبي صلّى الله عليه و آله لأبي بكر دون أخوته صلّى الله عليه و آله للإمام علي علیه السلام، و هو خلاف ما عرف من الأحاديث و سيرة الرسول صلّى الله عليه و آله و أنه صلّى الله عليه و آله آخى بين أبي بكر وعمر و بين أصحابه كل مع من يماثله و اختص صلّى الله عليه و آله بالإمام علیه السلام.

و قد قال ابن أبي الحديد في حديث أخوة النبي صلّى الله عليه و آله لأبي بكر: (و وضعته البكرية في مقابلة حديث الإخاء) (3).

ص: 288


1- المستدرك 3 / 137، 138.
2- الغدير: 3 / 161 - 181.
3- شرح نهج البلاغة: ج 11، ص 49.

(و خِدْنى فى الآخرة) الخِدن الصديق.

(و معي في السنام الأعلى) فدرجة الإمام علي علیه السلام هي درجة الرسول صلّى الله عليه و آله، و لا شك أن درجته صلّى الله عليه و آله لا يصل إليها ملك مقرب و لا نبي مرسل لكونه أفضل الكل و قد بلغها الإمام علي علیه السلام بتصريح الرسول صلّى الله عليه و آله، فقف على السفح و صعّد بنظرك إلى قمة الجبل الشامخ و اعترف بالقصور.

ص: 289

(13)

إذا غضب الرسول صلّى الله عليه و آله لم يجترئ أحد أن يكلمه إلّا على علیه السلام

1- الحاكم و غيره بسندهم عن أم سلمة رضي الله عنها، إن النبي صلّى الله عليه و آله كان إذا غضب لم يجترئ أحد منا يكلمه غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1).

*سند الحديث:

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه) (2).

*مدلول الحديث:

يحكي هذا الحديث عن مدى العلاقة و الارتباط القلبي و الروحي بين النبي صلّى الله عليه و آله و الإمام علي علیه السلام، فإن اقتراب الإنسان من الآخر في حالة الغضب لا يحصل إلّا ممن كان له قرب نفسي تذوب معه جميع الحواجز الأخرى، لا سيما إذا كان الغاضب صاحب منصب رئاسي، كيف و الغاضب - في الرواية - هو الرسول صلّى الله عليه و آله الذي لا يغضب إلا لله و للحق.

ص: 290


1- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 130، كنز العمال: ج 7 ص، المعجم الأوسط 318/4، مجمع الزوائد: ج 9 ص 116، و قال: رواه الطبراني في الأوسط و سقط منه التابعي و فيه حسين بن الأشقر و ثقه ابن حيان و ضعفه الجمهور و بقية رجاله و ثقوا.
2- المستدرك: 3 / 130.

(14)

في خيبر

عن أم سلمة و كانت في غزوة خيبر قالت: سمعت وقع السيف في أسنان مرحب (1).

*سنده:

قال الهيثمي: رواه الطبراني و رجاله ثقات (2).

*شجاعة علي علیه السلام و قوته:

مرحب هو بطل اليهود و قائدهم المعتمد في الحروب، و حينما نزل المعركة كان مدججاً بالسلاح، محتمياً بترسه و لامة حربه و خوذة فوق رأسه، لتحميه من الأذى أن يصل إلى رأسه، ولكن سيف ابن أبي طالب علیه السلام وصل إلى أسنانه و سمعت أم سلمة وقع السيف فيها، و لا ندري طول المسافة بين حصن اليهود و موقع معسكر الرسول صلّى الله عليه و آله و لا أظنها تقل عن ألف متر أو ألفين، فانظر إلى هذه القوة التي يحتضنها سيف الإسلام الخالد و بطله الذي لا ندّ له.

قال ابن أبي الحديد: و أما الشجاعة فإنه أنسي الناس فيها ذكر من كان قبله و محا اسم من يأتي بعده، و مقاماته في الحرب مشهورة، يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، و هو الشجاع الذي ما فرّ قط، و لا ارتاع من كتيبة، و لا بارز أحداً إلّا قتله، و لا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، و في الحديث كانت ضرباته وتراً، و لما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال عمرو: لقد أنصفك. فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلّا اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي

ص: 291


1- مجمع الزوائد: 6 / 152، الاستيعاب لابن عبد البر 4 / 1939، المعجم الكبير 23 / 251.
2- نفس المصدر.

الحسن و أنت تعلم انه الشجاع المطرق، أراك طمعت في أمارة الشام بعدي، و كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته.

و قال: (و أما القوة و الأيد فيه يضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في المعارف: ما صارع أحداً قط إلّا صرعه، و هو الذي قلع باب خيبر و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه، و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة و كان عظيماً جداً و ألقاه إلى الأرض) (1).

و قد أشاد ببطولة ابن أبي طالب علیه السلام لكل من قرأ التاريخ الإسلامي في بدء الدعوة إلّا تلك الوجوه التي تقرأ ما في نفسها و عينها مسمرة في أوراق التاريخ البيضاء أمثال محب الدين الخطيب، فهذا المسيحي بولص سلامة يقول:

(و يقرأ الجبان سيرة على فتهدر في صدره النخوة و تستهويه البطولة، إذ لم تشهد الغبراء، و لم تظل السماء، أشجع من ابن أبي طالب، فعلى ذلك الساعد الأجدل اعتمد الإسلام يوم كان وليداً، فعلي هو بطل بدر و خيبر و الخندق..)

و زبدة القول: لم تلد رحم التاريخ - غير النبي محمد صلّى الله عليه و آله - كفاً كتلك الكف التي يستريح في راحتها ذو الفقار، و لم تُشِد السماء بفتوة غير تلك الفتوة التي أشادت بها حين حامي عن النبي صلّى الله عليه و آله في غزوة أحد و قد هرب عامة المسلمين إلّا هو، ثم رجع نفر ممن أدركتهم رحمة الله «لا فتى إلا علي، و لا سيف إلا ذوالفقار»، و أداة الحصر في كلتا الجملتين دليل على كل ما ندعيه.

و غزوة خيبر من أكبر الشواهد على ذلك حين قتل بطل اليهود مرحباً و هو شاكي السلاح كما يدل على ذلك رجزه الذي ارتجز به:

قد علمت خيبر أني مرحبُ شاكي السلاح بطل مجربُ

و قلع باب الحصن الذي قال فيه ابن أبي الحديد:

ص: 292


1- شرح نهج البلاغة : ج / 1 ص 20.

یا قالع الباب الذي عن هزّه عجزت أكف أربعون وأربعُ

و قد تكرر ذلك في الأشعار فإليك هذه المقطوعة من القصيدة الأزرية:

و له يوم خیبر فتكات كبرت منظراً على من رآها

يوم قال النبي اني لأعطي رايتي ليثها و حامي حماها

فاستطالت أعناق كل فريق ليروا أي ماجد يعطاها

فدعا أين وارث الحلم والب أس مجير الأيام من بأساها

أين ذو النجدة الذي لو دعته في الثريا مروعة لبّاها

فأتاه الوصي أرمد عين فسقاها من ريقه فشفاها

و مضى يطلب الصفوف فولّت عنه علماً بأنه أمضاها

و بری مرحباً بكف اقتدار أقوياء الأقدار من ضعفاها

و دحى بابها بقوة بأس لو حمته الأفلاك منه دحاها

ص: 293

(15)

حديث الغدير

جاء في كتاب الغدير عند تعداد رواة حديث الغدير من الصحابة:

15- أم سلمة زوجة النبي الطاهر صلّى الله عليه و آله: أخرج ابن عقدة من طريق عمرو بن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة، عن أبيه عن جده عن أم سلمة قالت: أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله بيد علي بغدير خم، فرفعها حتى رأينا بياض إبطيه فقال: من كنت مولاه فعلی مولاه.

ثم قال: أيها الناس! إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله، و عترتي و لن يتفرّقا حتى يردا علي الحوض.

و رواه عنها السمهودي الشافعي في جواهر العقدين كما في ينابيع المودة ص 40، و الشيخ أحمد بن الفضل بن محمد باكثير المكي الشافعي في وسيلة المآل من طريق ابن عقدة باللفظ المذكور (1).

و حديث الغدير من أقوى الأدلة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، و قد اختار الرسول صلّى الله عليه و آله لإبلاغه زماناً و مكاناً موقتين ليثير بذلك الانتباه، و يبقى الموقف في الأذهان راسخاً، فقد اختار وقت رجوع المسلمين من حجة الوداع، و قد كانوا في ذلك العام مائة و عشرين ألف مسلم أو يزيدون، و كان المكان مفترق الطرق المؤدية إلى بلاد الإسلام آنذاك، في منطقة صحراء، و في جو مشمس شديد الحرارة.

*سند الحديث:

لا يخفى على أحد من أهل العلم أن حديث الغدير من الأحاديث المتواترة

ص: 294


1- الغدير 1 / 17.

التي لا يرقى الشك إلى سندها، و لا أراني بحاجة إلى الإطناب لإثبات ذلك، و ما عليك - إن داخلك الشك - إلا أن تقرأ كتاب (الغدير في الكتاب و السنة و الأدب) لتعرف صدق ما نقول، فقد نهض علامة الغدير الشيخ الأميني رحمه الله رحمة الأبرار، بأعباء هذا الأمر فقام به خیر قیام فأثبت أسانيده في جميع الطبقات من الصحابة إلى عصره، أي من القرن الأول الهجري إلى القرن الرابع عشر، و نكتفي الآن بنقل شيء مما جاء في كتابه، حيث قال:

(و لا أحسب أن أهل السنة يتأخرون بكثير من الإمامية في إثبات هذا الحديث، و البخوع لصحته، و الركون إليه، و التصحيح له، و الإذعان بتواتره، اللهم إلا شذّاذ تنكّبت عن الطريقة، وحدت بهم العصبية العمياء إلى رمي القول على عواهنه، و هؤلاء لا يمثلون من جامعة العلماء إلا أنفسهم، فإن المثبتين المحققين للشأن، المتولعين في الفن، لا تخالجهم أيّة شبهة في اعتبار أسانيدهم التي أنهوها متعاضدة متظافرة بل متواترة إلى جماهير من الصحابة و التابعين..) (1).

و جاء في الهامش من نفس الصفحة:

(رواه أحمد بن حنبل من أربعين طريقاً، و ابن جرير الطبري من نيف و سبعين طريقاً، و الجزري المقري من ثمانين طريقاً، و ابن عقدة من مائة و خمس طرق، و أبو سعيد السجستاني من مائة و عشرين طريقاً، و أبو بكر الجعابي من مائة و خمس و عشرين طريقاً، و في تعليق هداية العقول ص 30 عن الأمير محمد اليمني (أحد شعراء الغدير في القرن الثاني عشر): أن له مائة و خمسين طريقاً).

*دلالة الحديث:

نستفيد من هذا الحديث مثل ما استفاد الصحابة حينما سمعوا هذا القول من

ص: 295


1- الغدير 1 / 14.

الرسول صلّى الله عليه و آله، فإنهم استفادوا من ذلك الولاية الإمام علي علیه السلام على الناس من بعد رسول صلّى الله عليه و آله، و هم الأعرف أولاً بلغة العرب ممن جاؤا بعدهم بقرون طالت أو قصرت، و هم الأعرف ثانياً بمقاصد الرسول صلّى الله عليه و آله حيث كان معهم، يعيش بين ظهرانيهم، و هم يسمعون لما يتلو عليهم، فيعرفون عباراته و إشاراته و مقاصده.

فلا نحتاج - إذن - للأبحاث المطولة في المقصود من كلمة (أولى)، و هل تدل على ولاية الإمام علي علیه السلام أو لا، فإن من أنكر دلالتها على ذلك - بعد ما جاءه من الذكر المبين - ما هو إلا من المتعصبين أو الجاهلين.

فليس علينا الآن إلا أن نثبت أن الصحابة استفادوا من كلمة (أولى) الولاية عليهم بعد الرسول صلّى الله عليه و آله، و مما يدل على ذلك حديث التهنئة، فقد ذكر علامة الغدير ستين مصدراً من مصادر أهل السنة تروي تهنئة الشيخين لعلي بن أبي طالب علیه السلام، و لا أظن أن تهنئتهم له لأن الرسول قال لهم: إنه ناصركم أو محبكم، أو شيء من هذا القبيل!

قال الأميني أعلى الله مقامه: (و خصوص حديث تهنئة الشيخين رواه من أئمة الحديث و التفسير و التأريخ من رجال السنة كثير لا يستهان بعدّتهم بين راو مرسلاً له إرسال المسلّم، و بين راو إياه بمسانيد صحاح برجال ثقات تنتهي إلى غير واحد من الصحابة كابن عباس و أبي هريرة و البراء بن عازب و زيد بن أرقم، فممن رواه:

الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المتوفى 235، أخرج بأسناده عن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله في سفر فنزلنا بغدير خم، إلى أن قال: فأخذ بيد علي فقال: اللهم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، فلقيه عمر بعد ذلك فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة) (1).

ص: 296


1- الغدير 1 / 272.

و نكتفي بهذا المقدار و من أراد المزيد حول هذا الحديث فعليه بالجزء الأول من الغدير ففيه الكفاية، بل ما فوقها، سنداً و متناً و دلالة، و أقام القرائن الكثيرة، الداخلية و الخارجية، على أن المراد من كلمة (مولى) هي (الأولى) و أنها تعني الأولى بالأمر، و من قرأه بعين الإنصاف، و تجنب طريق الاعتساف، آمن بأن المراد منه تنصيب علي علیه السلام على المسلمين إماماً و ولياً و خليفة للرسول صلّى الله عليه و آله كما يذهب إليه الشيعة الإمامية.

ص: 297

(16)

ان الإمام عليا علیه السلام أقرب الناس عهدأ بالرسول صلّى الله عليه و آله

1- الحاكم و غيره بسندهم إلى أم سلمة رضي الله عنها قالت: و الذى أحلف به: أن كان على لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه و آله، عدنا رسول الله صلّى الله عليه و آله غداة و هو يقول: جاء علي؟ جاء علي؟ مراراً، فقالت فاطمة رضي الله عنها: كأنك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد، قالت: أم سلمة فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، و كنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله صلّى الله عليه و آله و جعل يسارّه و يناجيه، ثم قبض رسول الله صلّى الله عليه و آله من يومه ذلك فكان علي أقرب الناس عهدا (1).

*سند الحديث:

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه) (2). و هو يرويه عن أحمد بن حنبل.

و قال الهيثمي: رواه أحمد و أبو يعلى.. و الطبراني باختصار، و رجالهم رجال الصحيح غير أم موسى و هي ثقة) (3).

*آخر مَنْ ودّع الرسول:

و قفت عائشة وحدها في صف مواز لمجموعة من الرواة رووا أن النبي صلّى الله عليه و آله قد انتقل إلى الرفيق الأعلى و هو في حجر ابن عمه الإمام علي علیه السلام، و من جملة هؤلاء

ص: 298


1- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 138، و ورد في مسند أحمد: ج 6، ص 300، کنز العمال: ج 13 ص، ذخائر العقبى: ص 72 مجمع الزوائد ج 9 ص 112، البداية و النهاية: ج 112 البداية و النهاية: ج 7 ص 397، و ص 360، أخبار أصفهان: ج 1 ص 250، المصنف لابن أبي شيبة 365/6 ، فضائل الصحابة 2 / 687، الوفاة للنسائي 2 / 52، الخصائص للنسائي 2 / 165، مسند أبي يعلى 12 / 364، المعجم الكبير 23 / 375.
2- المستدرك: 3 / 138.
3- مجمع الزوائد: 9 / 112.

الرواة هي أم المؤمنين أم سلمة، و قد رأينا لهجتها في هذا الحديث مختلفة عن أحاديثها الأخرى تماماً، فإنها افتتحت مقالتها بقولها: (و الذي أحلف به..) مما يومي إلى أهمية الموقف، و إلى أن هناك شيئاً يختفي وراء الألفاظ، و الذي يظهر من ذلك و من ملاحظة روايات عائشة المختلفة الألفاظ و المضامين، أن عائشة كانت تشيع عكس ما رأته أم سلمة و آخرون من الصحابة لأمر كان في نفسها، فكان الموقف يقتضي هذا الأسلوب الصارم، فإنه أسلوب مواجهة و إثبات حق و ليس مجرد رواية ترويها.

و هذا ما يدعونا لاستعراض بعض روايات عائشة و روايات غيرها لتبدو خيوط من الضوء فتكشف لنا عن ملامح الموقف الصحيح:

أمثلة من روايات عائشة:

1- في صحيح البخاري أن عائشة كانت تقول: (من نعم الله علي أن رسول الله صلّى الله عليه و آله توفي في بيتي و في يومي، و بين سحري و نحري، و أن الله جمع بين ريقي و ريقه عند موته..) (1).

2- و قالت في حديث آخر: مات رسول الله صلّى الله عليه و آله و إنه لبين حاقنتي و ذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد ما رأيت من رسول الله صلّى الله عليه و آله (2).

3- و أخرج البخاري و مسلم و ابن سعد و النسائي و أحمد عن الأسود قال: ذكر عند عائشة أن النبي صلّى الله عليه و آله أوصى إلى علي، فقالت: من قاله؟ و في رواية: متى أوصى إليه؟ لقد رأيت النبي صلّى الله عليه و آله و أنا مسندته إلى صدري، أو قالت: حجري، فدعا بالطست ليبول فيها فانخنثت فمات فما شعرت به، فكيف أوصى إلى علي؟ أو فمتى أوصى إلى علي؟ و ما مات إلّا بين سحري و نحري، توفي و ليس أحد عنده

ص: 299


1- کتاب المغازي، باب مرض النبي: 3 / 64.
2- ن. م.

غيري (1).

و الرواية الثالثة هي التي تبيّن لنا السبب في إصرار عائشة على دعواها أن الرسول صلّى الله عليه و آله مات بين سحرها و نحرها.. إنها الوصية لعلي علیه السلام، و كأنها تظن أن الوصية لا تكون إلا في آخر ساعة من ساعات الدنيا، فإذا لم يكن علي حاضراً ساعتئذ فكيف يوصي اليه الرسول صلّى الله عليه و آله؟!

لا يا أم المؤمنين! فان الوصية قد تسبق الوفاة بأيام و سنين، و أما الوصية لعلي علیه السلام فهي من أول يوم أنذر فيه الرسول صلّى الله عليه و آله عشيرته الأقربين كما مرَّ عن قليل، يوم لم تكن عائشة شيئاً يُذكر في تاريخ الإسلام، ثم توالت الكلمات في ذلك، كلمة تتبع أخرى.

و العجب كل العجب كيف تخطّت هذه الفكرة عقول من رووا عنها أن النبي صلّى الله عليه و آله أوصى لعلي! هل هو الجهل بأحكام الإسلام أو شيء آخر؟!

أمثلة من روايات الصحابة:

1- قيل لابن عباس: (أ رأيت الرسول صلّى الله عليه و آله توفي و رأسه في حجر أحد؟ قال: نعم و إنه لمستند إلى صدر العلي علیه السلام، فقيل له: إن عروة يحدّث عن عائشة أنها قالت: توفي بين سحري و نحري، فأنكر ابن عباس ذلك قائلاً للسائل: أتعقل؟ و الله لتوفي رسول الله و إنه لمستند إلى صدر علي، و هو الذي غسله (2).

2- عن جابر بن عبد الله الانصاري، ان كعب الأحبار سأل فقال: ما كان آخر ما تكلم به رسول الله صلّى الله عليه و آله؟ فقال عمر: سل علياً، فسأله كعب، فقال علي: أسندت رأسه على منكبي، فقال: الصلاة الصلاة، قال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، و به أمروا و عليه يبعثون..) (3).

ص: 300


1- ن. م: 84 / 2،و سنن النسائي: 6 / 241، و راجع كتاب أحاديث أم المؤمنين عائشة القسم الثاني ص 188 و ما بعدها.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 2 / 263.
3- ن. م: 2 / 262.

و في إرجاع عمر لكعب الأحبار إشارة واضحة إلى معرفته بأن الإمام علياً هو آخر من تعاهد الرسول، و في تصريح الإمام علیه السلام ما يغني عن المقال.

3- قال الإمام علي علیه السلام في إحدى خطبه: «و لقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله أني لم أرد على الله و لا على رسوله ساعة قط، و لقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، و تتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها، و لقد قبض صلّى الله عليه و آله، و ان رأسه لعلى صدري، و لقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي...» (1).

فهذه الروايات و غيرها تقف في صف أم سلمة و تؤيد مقالتها حتى أنّ ابن عباس قد استفهم استفهاماً إنكارياً: (أتعقل؟) ثم قال: (و الله لتوفي..)، و هذا الأسلوب فيه من الوضوح ما يجعلنا نقطع بكون الأمر عندهم من المسلمات التي لا تقبل الشك، ولكن عائشة حدا بها سائق فمال بها عن الطريق، ولكنها ما برحت حتى عاودت المسير على الجادة فقالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لما حضرته الوفاة: ادعوا لي حبيبي، فدعوا له أبا بكر فنظر اليه ثم وضع رأسه فقال: ادعوا لي حبیبی، فدعوا له عمر فلما نظر اليه وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي، فدعوا له علياً، فلما رآه أدخله معه في الثوب الذي كان عليه فلم يزل يحتضنه حتى قبض صلّى الله عليه و آله (2).

و يؤيد هذا الحديث ما رواه ابن كثير - و إن أنكره على عادته في أحاديث فضائل الإمام علي علیه السلام ولكن لم يرمه بالضعف - : عن جميع بن عمير أن أمه و خالته دخلتا على عائشة فقالتا: يا أم المؤمنين أخبرينا عن علي، قالت: أي شيء تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله صلّى الله عليه و آله موضعاً فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه..) (3).

ص: 301


1- نهج البلاغة: الخطبة (197).
2- ذخائر العقبي: ص 72.
3- البداية و النهاية: 7 / 397.

(17)

زواج الإمام علي علیه السلام بالزهراء علیها السلام

حديث زواج الإمام علیه السلام بفاطمة علیها السلام و فضائل كثيرة:

الخوارزمي بسنده عن أم سلمة و سلمان الفارسي و علي بن أبي طالب علیه السلام قال: لما أدركت فاطمة بنت رسول الله مدرك النساء، خطبها أكابر قريش من أهل السابقة و الفضل في الإسلام و الشرف و المال، و كان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله أعرض رسول الله عنه بوجهه، حتى كان الرجل منهم يظن في نفسه أن رسول الله ساخط عليه، أو قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه و آله فيه وحي من السماء.

و لقد خطبها من رسول الله صلّى الله عليه و آله أبو بكر الصديق، فقال له رسول الله: يا أبا بكر أمرها إلى ربها، و خطبها بعد أبي بكر عمر بن الخطاب، فقال له كمقالته لأبي بكر، و إن أبا بكر و عمر كانا ذات يوم جالسين في مسجد رسول الله و معهما سعد بن معاذ الانصاري، ثم الأوسي فتذاكروا أمر فاطمة بنت رسول الله، فقال أبو بكر: لقد خطبها من رسول الله الأشراف فردهم رسول الله، و قال: أمرها إلى ربها إن شاء أن يزوجها زوجها، و إن علي بن أبي طالب لم يخطبها من رسول الله و لم يذكرها له، و لا أراه يمنعه من ذلك إلا قلة ذات اليد، و إنه ليقع في نفسي ان الله و رسوله إنما يحبسانها عليه.

قال: ثم أقبل أبو بكر على عمر بن الخطاب و على سعد بن معاذ فقال: هل لكما في القيام إلى علي بن أبي طالب حتى تذكرا له هذا، فإن منعه منه قلة ذات اليد، و اسيناه و أسعفناه، فقال له سعد بن معاذ: وفقك الله يا أبا بكر فما زلت موفقا، قوموا بنا على بركة الله و يمنه.

قال: سلمان الفارسي: فخرجوا من المسجد فالتمسوا علياً في منزله فلم يجدوه، و كان ينضح ببعير كان له الماء على نخل رجل من الأنصار بأجرة، فانطلقوا نحوه

ص: 302

فلما رآهم نظر إليهم علي علیه السلام، قال: ما وراءكم و ما الذي جئتم له؟ فقاله أبو بكر: يا أبا الحسن إنه لم يبق خصلة من خصال الخير إلا و لك فيها سابقة و فضل، و أنت من رسول الله صلّى الله عليه و آله بالمكان الذي قد عرفت من القرابة و الصحبة و السابقة، و قد خطب الأشراف من قريش إلى رسول الله ابنته فاطمة فردهم و قال: أمرها إلى ربها إن شاء أن يزوجها، زوجها، فما يمنعك أن تذكرها لرسول الله و تخطبها منه؟ فإني أرجو أن يكون الله سبحانه و تعالى و رسوله إنما يحبسانها عليك، قال فتغرغرت عينا علي بالدموع و قال: يا أبا بكر لقد هيجت مني ما كان ساكنا، و أيقظتني لأمر كنت عنه غافلا، و بالله إن فاطمة لرغبتي، و ما مثلي يقعد عن مثلها، غير أني يمنعني من ذلك قلة ذات اليد، فقال له أبو بكر: لا تقل هذا يا أبا الحسن، فإن الدنيا و ما فيها عند الله تعالى و رسوله كهباء منثور، قال ثم إن علي بن أبي طالب علیه السلام حل عن ناضحه و أقبل يقوده إلى منزله، فشده فيه و أخذ نعله، و أقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فكان رسول الله في منزل زوجته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فدقَّ علي بن أبي طالب الباب، فقالت أم سلمة: من بالباب؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله - قبل أن يقول علي: أنا علي - قومى يا أم سلمة فافتحي له الباب و مريه بالدخول، فهذا رجل يحبه الله و رسوله و يحبهما، قالت أم سلمة: فقلت: فداك أبي و أمي و من هذا الذي تذكر فيه هذا و انت لم تره؟ فقال: مه يا أم سلمة، هذا رجل ليس بالخرق و لا بالنزق، هذا أخى و ابن عمي و أحب الخلق إلي، قالت أم سلمة: فقمت مبادرة أكاد أن أعثر بمرطي (1)، ففتحت الباب فإذا أنا بعلي بن أبي طالب علیه السلام، و الله ما دخل حين فتحت له حتى علم أني قد رجعت إلى خدرى، قالت: ثم إنه دخل على رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال: السلام عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته، فقال النبي و عليك السلام يا أبا الحسن، اجلس، قالت أم سلمة: فجلس علي بن أبي طالب علیه السلام

ص: 303


1- المرط: كساء من خز او صوف او کتان يؤتزر به و تتلفع بها المرأة المعجم الوسيط.

بين يدى رسول الله صلّى الله عليه و آله، و جعل يطرق إلى الأرض كأنه قصد لحاجة و هو يستحيي ان يبديها الرسول الله، فهو مطرق إلى الأرض حياء من رسول الله، فقالت أم سلمة: فكأن النبي صلّى الله عليه و آله علم ما في نفس علي فقال له: يا أبا الحسن، إني أرى انك أتيت لحاجة فقل حاجتك وابد ما في نفسك، فكل حاجة لك عندي مقضية.

قال علي بن أبي طالب: «فقلت فداك أبي و أمي إنك تعلم أنك أخذتني من عمك أبي طالب و من فاطمة بنت أسد و أنا صبي، لا عقل لي (1) فغذيتنى بغذائك و أدبتني بأدبك فكنت لي أفضل من أبي طالب و من فاطمة بنت أسد في البر و الشفقة، و ان الله عزّ و جلَّ هداني بك و على يديك، و استنقذتني مما كان عليه آبائي (2) و أعمامي من الحيرة و الشرك، و إنك و الله يا رسول الله صلّى الله عليه و آله ذخري و ذخيرتي في الدنيا و الآخرة، يا رسول الله فقد أحببت مع ما قد شد الله من عضدي بك أن يكون لي بيت و أن تكون لي زوجة أسكن إليها، و قد أتيتك خاطباً راغباً أخطب إليك ابنتك فاطمة فهل أنت مزوجني يا رسول الله صلّى الله عليه و آله»؟ قالت أم سلمة: فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه و آله يتهلل فرحا و سرورا، ثم تبسم في وجه علي علیه السلام و قال له: «يا أبا الحسن فهل معك شيء أزوجك به»؟ فقال له على: «فداك أبي و أمى، و الله ما يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي و درعي و ناضحي، ما أملك شيئاً غير هذا»، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: «يا علي أما سيفك فلا غناء بك عنه، تجاهد به في سبيل الله و تقاتل به أعداء الله، و ناضحك فتنضحه على نخلك و أهلك و تحمل عليه رحلك في سفرك، ولكني قد زوجتك بالدرع و رضيت بها منك، يا أبا الحسن! أ أبشرك؟» قال علي علیه السلام فقلت: «نعم فداك أبي و أمي يا رسول الله، بشرنی فانك لم تزل ميمون النقيبة مبارك الطائر رشيد الأمر صلى الله عليك» فقال لي رسول الله: «أ بشر يا أبا الحسن فان الله عز وجل قد زوجكها في السماء من قبل أن

ص: 304


1- التعبير لا يخلو من شوب الإشكال.
2- كلمة «آبائي» زيادة سهوية أو مقحمة، و سيأتي التعرض لذلك.

أزوجكها في الأرض و لقد هبط عليّ في موضعي من قبل أن تأتيني، ملك من السماء له وجوه شتى، و أجنحة شتى، لم أر قبله من الملائكة مثله فقال لي: السلام عليك و رحمة الله و بركاته، أبشر يا محمد باجتماع الشمل و طهارة النسل».

فقلت: «و ما ذاك أيها الملك؟».

فقال: «يا محمد أنا سيطائيل الملك الموكل بإحدى قوائم العرش، سألت ربي عز و جل أن يأذن لي في بشارتك، و هذا جبرئيل في أثرى يبشرك عن ربك عز و جل بكرامة الله عز وجل»، قال النبي: «فما استتم الملك كلامه حتى هبط علي جبرئيل فقال لي: السلام عليك و رحمة الله و بركاته يا نبي الله، ثم انه وضع في يدي حريرة بيضاء من حرير الجنة و فيها سطران مكتوبان بالنور، فقلت: حبيبي جبرئيل ما هذه الحريرة و ما هذه الخطوط؟.

فقال جبرئیل: يا محمد إن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارك من خلقه و ابتعثك برسالاته، ثم اطلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخاً و وزيراً و صاحباً و ختناً، فزوجه ابنتك فاطمة».

فقلت: «حبيبي جبرئيل و من هذا الرجل؟ فقال لي: «يا محمد أخوك في الدين و ابن عمك في النسب علي بن أبي طالب، و ان الله أوحى إلى الجنان أن تزخر في فتزخرفت، و إلى شجرة طوبى أن احملي الحلي و الحلل، فحملت شجرة طوبى الحلي و الحلل، و تزخرفت الجنان و تزينت الحور العين، و أمر الله الملائكة أن تجتمع في السماء الرابعة عند البيت المعمور، قال: فهبطت الملائكة: ملائكة الصفيح الأعلى، و ملائكة السماء الخامسة، إلى السماء الرابعة، و زفت ملائكة السماء الدنيا و ملائكة السماء الثانية و ملائكة السماء الثالثة إلى الرابعة، و أمر الله عز وجل رضوان فنصب منبر الكرامة على باب البيت المعمور، و هو المنبر الذي خطب فوقه آدم يوم علمه الله الأسماء و عرضهم على الملائكة، و هو منبر من نور، فأوحى الله عز وجل إلى ملك من

ص: 305

ملائكة حجبه يقال له راحيل: أن يعلو ذلك المنبر و أن يحمده بتحميده، و أن يمجده بتمجيده، و أن يثني عليه بما هو أهله، و ليس في الملائكة كلها أحسن منطقا، و لا أحلى لغة من راحيل الملك، فعلا الملك راحيل المنبر و حمد ربه و مجده و قدسه و أثنى عليه بما هو أهله فارتجت السماوات فرحاً و سروراً.

قال جبرئيل: ثم أوحى إلي: أن أعقد عقدة النكاح، فإني قد زوجت أمتي فاطمة ابنة حبیبی محمد من عبدي علي بن أبي طالب، فعقدت عقدة النكاح، و أشهدت على ذلك الملائكة أجمعين، و كتبت شهادة الملائكة في هذه الحريرة، و قد أمرني ربي أن أعرضها عليك، و أن أختمها بخاتم مسك أبيض، و أن أدفعها إلى رضوان خازن الجنان، و إن الله عز و جل لما أن أشهد على تزويج فاطمة من علي بن أبي طالب علیه السلام ملائكته، أمر شجرة طوبى أن تنثر حملها و ما فيها من الحلي و الحلل، فنثرت الشجرة ما فيها و التقطته الملائكة و الحور العين، و إن الحور يتهادينه و يفخرن به إلى يوم القيامة، يا محمد و إن الله أمرني أن أمرك أن تزوج علياً في الأرض فاطمة، و أن تبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طيبين طاهرين فاضلين خيرين في الدنيا و الآخرة.

يا أبا الحسن فوالله ما خرج الملك من عندي حتى دققت الباب ألا و إني منفذ فيك أمر ربي، أمض يا أبا الحسن أمامي، فإني خارج إلى المسجد و مزوجك على رؤوس الناس، و ذاكر من فضلك ما تقر به عينك، و أعين محبيك في الدنيا و الآخرة»، قال علي بن أبي طالب: «فخرجت من عند رسول الله مسرعاً، و أنا لا أعقل فرحاً و سروراً فاستقبلني أبو بكر و عمر و قالا لي: ما وراك يا أبا الحسن؟ فقلت زوجني رسول الله صلّى الله عليه و آله ابنته فاطمة، و أخبرني إن الله عز وجل زوجنيها في السماء، و هذا رسول الله صلّى الله عليه و آله خارج في أثرى ليظهر ذلك بحضرة الناس، ففرحا بذلك فرحاً شديداً و رجعا معي إلى المسجد، فوالله ما توسطناه حيناً، حتى لحق بنا رسول الله و إن وجهه ليتهلل سروراً و فرحاً و قال: أين بلال بن حمامة؟ فأجابه مسرعاً بلال و هو يقول: لبيك، لبيك يا رسول

ص: 306

الله فقال له رسول الله: اجمع لي المهاجرين و الانصار.

فانطلق بلال لأمر رسول الله، و جلس رسول الله صلّى الله عليه و آله قريبا من منبره حتى اجتمع الناس، ثم رقى على درجة من المنبر، فحمد الله و أثنى عليه و قال: معاشر المسلمين، إن جبرئيل علیه السلام أتاني آنفاً فأخبرني عن ربي عز و جل بأنه جمع الملائكة عند البيت المعمور، و أنه أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة بنت رسوله محمد، من عبده علي بن أبي طالب علیه السلام، و أمرني أن أزوجه في الأرض و أشهدكم على ذلك»، ثم جلس و قال لعلي علیه السلام: «قم يا أبا الحسن فاخطب أنت لنفسك».

قال: فقام فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي و قال: الحمد لله شكراً لأنعمه و أياديه و لا إله إلا الله، شهادة تبلغه و ترضيه و صلى الله على محمد، صلاة تزلفه و تحظيه، و النكاح مما أمر الله عز وجل به و رضيه، و مجلسنا هذا مما قضاه الله و رضيه و أذن فيه، و قد زوجني رسول الله صلّى الله عليه و آله ابنته فاطمة، و جعل صداقها درعي هذا و قد رضيت بذلك، فسلوه و اشهدوا»، فقال المسلمون لرسول الله: زوجته يا رسول الله؟ فقال رسول الله: «نعم»، فقال المسلمون: بارك الله لهما و عليهما و جمع شملهما.

و انصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله إلى أزواجه فأمرهن أن يدففن لفاطمة، فضربن أزواج النبي صلّى الله عليه و آله على رأس فاطمة علیها السلام بالدفوف (1).

قال علي بن أبي طالب: «و أقبل رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال: يا أبا الحسن انطلق الآن فبع درعك و أتني بثمنه حتى أهيئ لك و لابنتي فاطمة ما يصلحكما»، قال علي علیه السلام: «فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه و قبض الدرع مني قال لي: يا أبا الحسن أ لست أولى بالدرع منك و أنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت: نعم، قال: فإن الدرع هدية مني إليك، قال: فأخذت الدرع و الدراهم و أقبلت إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فطرحت الدرع و الدراهم بين

ص: 307


1- سيأتي التعليق على هذه العبارة.

يديه و أخبرته بما كان من أمر عثمان، فدعا له النبي صلّى الله عليه و آله بخير، و قبض رسول الله قبضة و دعا بأبي بكر فدفعها إليه و قال: يا أبا بكر اشتر بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها، و بعث معه سلمان الفارسي و بلال بن حمامة ليعيناه على حمل ما يشتري به، قال أبو بكر: و كانت الدراهم التي دفعها إلي رسول الله ثلاثة و ستين درهما، قال: فانطلقت إلى السوق فاشتريت فراشاً من خيش مصر محشواً بالصوف، و نطعاً من أدم، و وسادة من أدم محشوة ليف النخل، و عباءة خيبرية، و قربة للماء، و قلت: هي خادم البيت، و كيزاناً و جراراً و مطهرة للماء و ستر صوف رقيق، و حملت أنا بعضه و سلمان بعضه و بلال بعضه و أقبلنا به فوضعناه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلما نظر إليه بكى و جرت دموعه على لحيته، ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف».

قال علي بن أبي طالب علیه السلام: «و دفع رسول الله صلّى الله عليه و آله باقي ثمن الدرع إلى أم سلمة

و قال: ارفعي هذه الدارهم عندك، و مكثت بعد ذلك شهراً، لا أعاود رسول الله صلّى الله عليه و آله في أمر فاطمة بشيء استحياء من رسول الله صلّى الله عليه و آله غير أني إذا خلوت برسول الله صلّى الله عليه و آله، قال لي: يا أبا الحسن ما أحسن زوجتك و أجملها، أبشر يا أبا الحسن فقد زوجتك سيدة نساء العالمين»، قال علي: «فلما كان بعد شهر، دخل علي أخي عقيل فقال: و الله يا أخي، ما فرحت بشيء قط كفرحي بتزويجك فاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه و آله، يا أخي فما بالك لا تسأل رسول الله صلّى الله عليه و آله أن يدخلها عليك فتقر أعيننا باجتماع شملكما؟ فقلت: و الله يا أخي إني لأحب ذلك و ما يمنعني أن أسأل رسول الله صلّى الله عليه و آله ذلك إلا حياء منه فقال: أ قسمت عليك، إلا قمت معي تريد رسول الله صلّى الله عليه و آله فلقيتنا في الطريق أم أيمن مولاة رسول الله صلّى الله عليه و آله فذكرنا ذلك فقالت: لا تفعل يا أبا الحسن، و دعنا نحن نكلم في هذا، فإن كلام النساء في هذا الأمر أحسن و أوقع في قلوب الرجال، قال ثم انثنت راجعة فدخلت على أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلّى الله عليه و آله، فأعلمتها بذلك و أعلمت نساء رسول الله صلّى الله عليه و آله جميعاً، فاجتمعت أمهات المؤمنين إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و كان في

ص: 308

بيت عائشة بنت أبي بكر فأحدقن به و قلن: فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول الله قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء، لقرت بذلك عينها، قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله صلّى الله عليه و آله ثم قال: خديجة و أين مثل خديجة؟ صدقتني حين كذبني الناس و آزرتني على دين الله و أعانتني عليه بمالها، إن الله عز و جل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه و لا نصب.

قالت أم سلمة: فقلنا فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول الله صلّى الله عليه و آله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا و قد كانت كذلك، غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك و جمع بيننا و بينها في درجات جنته و رحمته و رضوانه، یا رسول الله صلّى الله عليه و آله هذا أخوك في الدين و ابن عمك في النسب علي بن أبي طالب علیه السلام يحب أن تدخل زوجته فاطمة و تجمع بها شمله، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا أم سلمة فما بال علي لا يسألني ذلك؟ قلت: يمنعه من ذلك الحياء منك يا رسول الله صلّى الله عليه و آله، قالت أم أيمن: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه و آله يا أم أيمن: انطلقي إلى علي فأتيني به، فخرجت من عند رسول الله صلّى الله عليه و آله فإذا أنا بعلي ينتظرني ليسألني عن جواب رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلما رآني، قال: ما وراك يا أم أيمن؟ قلت: أجب رسول الله صلّى الله عليه و آله، قال علي: فدخلت عليه و هو في حجرة عائشة و قمن أزواجه فدخلن البيت، و أقبلت فجلست بين يدي رسول الله مطرقاً نحو الأرض، حياء منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: أ تحب أن تدخل عليك زوجتك؟ فقلت و أنا مطرق نعم فداك أبي و أمي، فقال: نعم و كرامة يا أبا الحسن أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة غد إن شاء الله، فقمت من عنده فرحاً مسروراً، و أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله أزواجه ليزين فاطمة و ليطيبنها و يفرشن لها بيتاً حتى يدخلها على بعلها علي، ففعلن ذلك و أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله من الدراهم التي دفعها إلى أم سلمة من ثمن الدرع عشرة دراهم فدفعها إلى علي ثم قال: اشتر تمراً و سمناً و إقطاً، قال علي: فاشتريت بأربعة دراهم تمراً، و بخمسة دراهم سمناً و بدرهم إقطاً، و أقبلت به إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فحسر النبي عن ذراعيه و دعا بسفرة من أدم

ص: 309

و جعل يشدخ (1) التمر بالسمن و جعل يخلطه بالإقط حتى اتخذه حيسا (2) ثم قال لي: يا علي ادع من أحببت.

فخرجت إلى المسجد، و أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله متوافرون فقلت: أجيبوا رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقام القوم بأجمعهم و أقبلوا نحو النبي صلّى الله عليه و آله فدخلت على رسول الله فأخبرته: إن القوم كثير، فجلل رسول الله صلّى الله عليه و آله السفرة بمنديل ثم قال: أدخل علي عشرة بعد عشرة، ففعلت ذلك فجعلوا يأكلون و يخرجون و السفرة لا ينقص ما عليها، حتى لقد أكل من الحيس تسعمائة رجل و امرأة، كل ذلك ببركة كف رسول الله صلّى الله عليه و آله».

قالت أم سلمة: ثم دعا النبي بابنته فاطمة و دعا بعلي فأخذ علياً بيمينه و أخذ فاطمة بشماله فجمعهما إلى صدره فقبل بين أعينهما، و دفع فاطمة إلى على علیه السلام و قال: يا علي نعم الزوجة زوجتك، ثم أقبل على فاطمة فقال لها: يا فاطمة نعم البعل بعلك، ثم قام معهما يمشي بينهما حتى أدخلهما بيتهما الذي هيأ لهما، ثم خرج من عندهما فأخذ بعضادتي الباب و قال: طهركما الله و طهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما و حرب لمن حاربكما، أستودعكما الله و أستخلفه عليكما.

قال علي علیه السلام: و مكث رسول الله صلّى الله عليه و آله بعد ذلك ثلاثا لا يدخل علينا، فلما كان في صبيحة اليوم الرابع جاءنا صلّى الله عليه و آله ليدخل علينا فصادف في حجرتنا أسماء بنت عميس الخثعمية فقال لها: ما يوقفك هاهنا و في الحجرة رجل؟ فقالت له: فداك أبي و أمي إن الفتاة إذا زفت إلى زوجها تحتاج إلى امرأة تتعهدها و تقوم بحوائجها، فأقمت هاهنا لأقضى حوائج فاطمة و أقوم بأمرها فتغرغرت عينا رسول الله بالدموع و قال: يا أسماء، قضى الله لك حوائج الدنيا و الآخرة.

قال علي علیه السلام: و كانت غداة قرة و كنت أنا و فاطمة تحت العباء، فلما سمعنا كلام

ص: 310


1- الشدخ: كسر الشيء الاجوف، عن النهاية.
2- الحيس: تمر و إقط و سمن، تخلط و تعجن و تسوى كالثريد، عن المعجم الوسيط.

رسول الله صلّى الله عليه و آله الأسماء، ذهبنا لنقوم فنظر إلينا رسول الله فقال: سألتكما بحقي عليكما لا تفترقا حتى أدخل عليكما، فرجع كل واحد منا إلى صاحبه و دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه و آله فقعد عند رؤوسنا و أدخل رجليه فيما بيننا (1)، فأخذت رجله اليمنى و ضممتها إلى صدري و أخذت فاطمة رجله اليسرى فضمتها إلى صدرها، و جعلنا ندفئ رجلي رسول الله صلّى الله عليه و آله من القر حتى إذا دفئت رجله قال لي: يا علي آتني بكوز من ماء فأتيته بكوز من ماء فتفل فيه ثلاثا و قرأ عليه آيات من كتاب الله عز و جل و قال: يا علي اشربه و اترك منه قليلا ففعلت ذلك، فرش رسول الله صلّى الله عليه و آله باقي الماء على رأسي و صدري و قال: أذهب الله عنك الرجس يا أبا الحسن و طهرك تطهيراً.

ثم قال أتني بماء جديد فتفل فيه ثلاثا و قرأ عليه آيات من كتاب الله عز و جل و دفعه إلى ابنته فاطمة و قال: اشربي هذا الماء و اتركى منه قليلاً، ففعلت ذلك فاطمة و رش النبي صلّى الله عليه و آله باقي الماء على رأسها و صدرها و قال: أذهب الله عنك الرجس و طهرك تطهيراً، و أمرني بالخروج عن البيت و خلا بابنته و قال: كيف أنت يا بنية و كيف رأيت زوجك؟ قالت: يا أبة، خير زوج إلا أنه دخل علي نساء قريش و قلن لي: زوجك رسول الله صلّى الله عليه و آله من رجل فقير، لا مال له، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: ما أبوك بفقير و لا بعلك بفقير، و لقد عرضت على خزائن الأرض من الذهب و الفضة فاخترت ما عند ربي عز و جل، لو تعلمين ما يعلم أبوك لسمجت الدنيا في عينك، و الله يا بنية ما آلوتك نصحاً أن زوجتك أقدمهم سلماً و أكثرهم علماً و أعظمهم حلماً، يا بنية إن الله عز و جل اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار من أهلها رجلين فجعل أحدهما أباك و الآخر بعلك، يا بنية نعم الزوج زوجك لا تعصين له أمراً.

ثم صاح بي رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا علي فقلت لبيك يا رسول الله صلّى الله عليه و آله، قال: ادخل بيتك و الطف بزوجتك و ارفق بها فإن فاطمة بضعة مني، يؤلمني مايؤلمها و يسرني

ص: 311


1- سيأتي التعليق على هذا.

ما يسرّها، أستودعكما الله و أستخلفه عليكما.

قال على علیه السلام: فو الله ما أغضبتها و لا أكرهتها من بعد ذلك على أمر حتى قبضها الله عز وجل إليه، و لا أغضبتني و لا عصت لي أمراً، و لقد كنت أنظر إليها فتكشف عني الغموم و الأحزان بنظري إليها، قال علي علیه السلام: ثم قام رسول الله صلّى الله عليه و آله لينصرف فقالت له فاطمة: يا أبة لا طاقة لي بخدمة البيت، فأخد مني خادماً يخدمني و يعينني على أمر البيت، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا فاطمة أيما أحب إليك، خادم أو خير من الخادم؟ فقال علي: فقلت: قولي: خير من الخادم، فقالت: يا أبة خير من الخادم، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: تكبرين الله في كل يوم أربعاً و ثلاثين تكبيرة، و تحمدينه ثلاثاً و ثلاثين مرة، و تسبحينه ثلاثاً و ثلاثين مرة فذلك مائة باللسان و ألف حسنة في الميزان، يا فاطمة إنك إن قلتها في صبيحة كل يوم، كفاك الله ما أهمك من أمر الدنيا و الآخرة (1).

*سند الحديث:

روي حديث زواجهما علیهما السلام بصور مختلفة، مفصلة و مجملة، و أوسع ما اطلعت عليه منها هذه الرواية المروية عن الإمام علي علیه السلام و سلمان رضی الله عنه و أم سلمة رضی الله و لا أدري أنها وردت عنهم كذلك أم أن الراوي سمع من كل واحد منهم ما يخص روايته، حيث إن كل واحد منهم - حسبما تضمنته أحداث الرواية و طريقة سردها - قد روى فصلاً من قصة الزواج، و لا شك أن كل مقطع منها متمم للآخر.

و قد اشتملت هذه الرواية على فضائل متعددة لعلي و الزهراء علیهما السلام، و نشير إلى شيء منه و ندع القارئ الكريم أن يمضي في قراءتها وقتاً ممتعاً للروح و العقل فيدرك منها ما يدرك من الفضل.

ص: 312


1- المناقب للخوارزمي: ص 343، و راجع أحاديث الزواج في الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص19 - 25.

الأول: إن أمر زواج الزهراء علیها السلام موكول إلى ربها فهو الذي يختار لها الكفؤ الكريم فهذه خصوصية للزهراء علیها السلام، و فضل للامام علي علیه السلام الذي وقع عليه اختيار السماء، و يؤيد هذا ما جاء في حلية الأولياء عن أم سلمة أيضاً: قالت أم سلمة: لقد كانت فاطمة تفتخر على النساء لأن أول من خطب عليها جبريل علیه السلام (1).

الثاني: إن الإمام علياً علیه السلام قد زوجه الرسول صلّى الله عليه و آله بأمر من الله تعالى بعد أن ردّ من

خطبها من أكابر قريش و أهل السابقة، فيكشف عن أفضلية الإمام علي علیه السلام على جميع الصحابة، و أنه لم يكن منهم من له أهلية الاقتران بالزهراء علیها السلام سواه علیه السلام.

الثالث: إن الإمام علياً علیه السلام يحبه الله و رسوله و يحبهما، و تكرر هذا المعنى من الرسول صلّى الله عليه و آله في مواقف أخرى.

الرابع: إن الإمام علياً علیه السلام أحب الخلق إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله، و تدل عليه روايات أخرى من غير طريق أم سلمة.

الخامس: إن الله سبحانه و تعالى قد اختار علياً علیه السلام أخاً و صاحباً و ختناً لرسوله صلّى الله عليه و آله، كما اختاره صلّى الله عليه و آله رسولاً، فالوزارة كالنبوة من حيث الاختيار، أي أنه باختيار الله سبحانه و لا شأن للبشر فيها فتسقط نظرية الشورى، و إجماع أهل الحل و العقد المدعى من قبل أهل السنة.

السادس: إن الإمام علياً علیه السلام أكثر صحابة الرسول صلّى الله عليه و آله علماً و أعظمهم حلماً و أقدمهم سلماً.

السابع: إن السيدة الزهراء علیها السلام بلغت من المنزلة العالية بحيث يؤلم الرسول صلّى الله عليه و آله ما يؤلمها و يسره ما يسرها، و لم يكن الرسول صلّى الله عليه و آله يتألم من أمر إلا إذا أسخط الله عز و جل، و لا يسره إلا ما فيه رضا الله سبحانه، فهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الزهراء علیها السلام لم تكن تتألم من شيء أو تسر لشيء لم يكن موافقاً لما يريده الله عز و جل، فهذا أحد الدلائل الكثيرة على عصمتها و طهارتها.

ص: 313


1- حلية الأولياء 59/5.

الثامن: إن الإمام علياً علیه السلام لم يغضب الزهراء علیها السلام مدة بقائها معه كما أنها لم تغضبه، فلتذهب افتراءات مبغضي علي أدراج الرياح.

التاسع: اعتراف أبي بكر بعدم وجود خصلة من خصال الخير إلا و للإمام علي علیه السلام سابقة و فضل، فهو إقرار ضمني بأفضلية الإمام علي علیه السلام منه و أسبقيته عليه في فعال الخير.

*إضاءة:

لابد أن نقف هنا وقفة قصيرة لنتأمل بعض الجمل التي وردت في الرواية فإن يد التحريف آلت على نفسها إلا أن تضع بصماتها في ما يروى من فضائل لأهل البيت علیهم السلام فتغير ما امتدت استطاعتها إلى تغييره، و تدخل في غيره ما تشاء من التشويه، و لما لم يكن بالإمكان أن يدّعوا في الزواج غير الذي حصل كان نصيب هذه الرواية ما يلي - حسب اعتقادنا و طبقاً للموازين العامة لروح الرسالة و تأريخها المضيء - :

1- قول أبي بكر للإمام علي علیه السلام: (لا تقل هذا يا أبا الحسن فإن الدنيا و ما فيها عند الله تعالى و رسوله كهباء منثور).

و وجه استبعاد هذه الجملة أمران:

الأول: عدم وجودها في الروايات الأخرى.

الثاني: إن الإمام علياً علیه السلام أعلم بالله تعالى و رسوله صلّى الله عليه و آله من أبي بكر و يعرف أن الدنيا لا تساوي عندهما مقدار حبة من خردل أو ذرة من تراب، فلا يصدر من الإمام علیه السلام ما يحتاج فيه إلى إرشاد أبي بكر، أو غيره من الصحابة الآخرين.

2- جملة: (و استنقذني مما كان عليه آبائي و أعمامي من الحيرة و الشرك).

فإن كلمة (آبائي) مقحمة بلا ريب، فإن آباء الإمام علي علیه السلام هم آباء النبي صلّى الله عليه و آله، و قد ثبت بالدليل و قام إجماع الإمامية على طهارتهم من الشرك، كما ذهب إلى

ص: 314

ذلك أيضاً كثير من علماء الإسلام من غير الإمامية فراجع - إن شئت - تفسير قوله تعالى: (وَ تَقَلُّبَكَ فِی ٱلسَّٰجِدِينَ) (1).

3- (فأمرهن أن يدففن لفاطمة، فضرب أزواج النبي صلّى الله عليه و آله على رأس فاطمة بالدفوف).

لم يوجد هذا المضمون في روايات أهل البيت علیهم السلام، و الدفوف من آلات اللهو المنزّه عن استعمالها من طهره الله من الرجس تطهيراً، إلا أن يكون المراد من الدفوف أمراً آخر يضرب عليه ليس من صنف آلات اللهو.

4- اشتراء عثمان درع الإمام علیه السلام و إهداؤه إياه ثم دعاء النبي صلّى الله عليه و آله له بخير، كل هذا لم يرد في الرواية المروية عن أهل البيت علیهم السلام، بل ورد فيها: (فقمت فبعته و أخذت الثمن، و دخلت على رسول الله صلّى الله عليه و آله فسكبت الدراهم في حجره..) (2).

و لعل اليد المعروفة قد أضافت مثل هذا لتثبت يداً و جميلاً لشخصية من بني أمية على الإمام علیه السلام، و من ثمّ على بني هاشم.

5- «فقعد عند رؤسنا...»، و نحن لا نستوعب صدور مثل هذه الأفعال من الرسول صلّى الله عليه و آله و الله أعلم بالحال.

*لفت نظر:

ورد في الرواية ذكر (أسماء بنت عميس) و هي زوجة جعفر بن أبي طالب علیه السلام و كانت في الحبشة مع زوجها حين زواج الإمام علي علیه السلام بفاطمة علیها السلام إذ لم يرجع جعفر إلّا في فتح خيبر فلعل ذلك اشتباه من الراوي أو من أقلام النساخ، و قد قال محمد بن يوسف الكنجي الشافعي: أنها أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري، للسبب المذكور كما نقله عنه صاحب البحار (3).

ص: 315


1- الشعراء: 219.
2- البحار: 94/43.
3- البحار: 43 / 134.

(18)

أصحاب علي علیه السلام في الجنة

1- و عن أم سلمة قالت: كانت ليلتي، و كان النبي صلّى الله عليه و آله عندي، فأتته فاطمة فسبقها علي فقال له النبي صلّى الله عليه و آله: يا علي أنت و أصحابك في الجنة (1).

2- عن أم سلمة رضی الله قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «علي و شيعته هم فائزون يوم القيامة» (2).

3- عن جابر بن يزيد، عن محمد بن علي، قال: سئلت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله عن علي علیه السلام؟ فقالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «إن علياً و شيعته هم الفائزون يوم القيامة» (3).

نتيجة حتمية و منتهى مبارك لمن مشى على ضوء الخطوات التي رسمها الرسول صلّى الله عليه و آله «يا علي أنت و أصحابك في الجنة»، لماذا؟ لأن أصحاب علي علیه السلام و شيعته هم الذين اقتفوا آثار رسول الله صلّى الله عليه و آله في رسالته الخاتمة فقدموا علياً على غيره حين قدّمه الإسلام و لم يختاروا عليه بدلاً و إن كلفهم ذلك بذل أرواحهم و أنفسهم، و تلقّوا أقواله صلّى الله عليه و آله، و أقوال أهل بيته علیهم السلام بالقبول و التسليم إذ هي الإسلام الواقعي و الدين الصحيح، فعنهم يأخذون و بأقوالهم يعملون، و هذه الرواية حلقة من سلسلة روايات جاءت على لسان الذي لا ينطق عن الهوى، و إليك نماذج من ذلك:

1- أخرج ابن مردويه عن علي علیه السلام قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه و آله: «أ لم تسمع قول

ص: 316


1- مجمع الزوائد ج 6 ص 152.
2- ينابيع المودة 2 / 4 باب 56، فضائل الصحابة 2 / 654.
3- ابن عساكر: 348/2. و أيضاً رواه أبو الجحاف عن محمد بن علي، عن فاطمة بنت علي، عن أم سلمة، و في ص 352 من ج 2 عن البلاذري في الحديث (115) من ترجمة الإمام علي علیه السلام من أنساب الأشراف ج 2 ص 182 ط 1.

الله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوۡلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ) (1)، هم أنت و شيعتك، و موعدي و موعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرّاً محجلين» (2).

2- روى ابن حجر في الصواعق المحرقة: عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوۡلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ)، قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لعلي علیه السلام: «هم أنت و شيعتك، تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين و يأتي عدوك غضابا مقمحين» (3).

3- ابن عساکر بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه و آله فأقبل علي بن أبي طالب، فقال النبي صلّى الله عليه و آله: «قد أتاكم أخي»، ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده ثم قال: «و الذي نفسي بيده أن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ثم قال: «إنه أولكم إيماناً معي، و أوفاكم بعهد الله، و أقومكم بأمر الله، و أعدلكم في الرعية، و أقسمكم بالسوية، و أعظمكم عند الله مزية». قال: و نزلت (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوۡلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ) قال: فكان أصحاب محمد صلّى الله عليه و آله إذا أقبل علي قالوا: قد جاء خير البرية (4).

*على قارعة الدس:

مشكلة الدس و الوضع و التدليس في أحاديث الرسول صلّى الله عليه و آله من أصعب المشاكل التي ابتليت بها السنة النبوية الشريفة حيث كانت حاجزاً كبيراً يمنع ضوء الرسالة عن أن يصل إلى مداه، و نشر الوضاعون خطرهم في الأحاديث بصور مختلفة فتلوّثت الكتب بذلك، و لم ينج من هذا المارد الجبار إلا ثلة من الأولين و قليل من

ص: 317


1- البينة:7.
2- الدر المنثور: 6 / 379.
3- الصواعق المحرقة: ص 161، ط 2 سنة 1385 ه مكتبة القاهرة.
4- تاریخ دمشق لابن عساکر ترجمة الإمام علي علیه السلام تحقيق المحمودي: 2 / 442.

الآخرين كانت عندهم موازين يزنون بها الفكر المستقيم.

و نحن عندما نقرأ التاريخ و نعرف توجيهات معاوية في ذلك و الحركة الكبيرة التي قام بها أتباعه يتبيّن لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود فلا تخدع و لا نغر في ديننا، و إليك ما ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج من جملة رواية رواها عن الإمام محمد الباقر علیه السلام في حديث له مع بعض أصحابه علیه السلام:

«.. ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصي و نمتهن و نحرم و نقتل و نخاف و لا تأمن على دمائنا و دماء أوليائنا، و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله ليبغّضونا إلى الناس، و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن علیه السلام، فقتلت شيعتنا بكل بلدة و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة، و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد إلى زمان عبيد الله بن زیاد قاتل الحسين علیه السلام، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، و أخذهم بكل ظنة و تهمة، حتى أن الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال: شيعة علي، و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير و لعله يكون ورعاً صدوقاً يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة و لم يخلق الله تعالى شيئاً منها، و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حقُّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع» (1).

و قال ابن أبي الحديد:

(و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب الأحداث قال:

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن

ص: 318


1- شرح نهج البلاغة: 11 / 43.

روى شيئاً من فضل أبي تراب و أهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر يلعنون علياً و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته، و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي علیه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن سمية و ضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي علیه السلام، فقتلهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل، و سمل العيون و صلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

و كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة.

و كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته، و الذين يروون فضائله و مناقبه، فأدنوا مجالسهم و قرّبوهم و أكرموهم، و اكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم و اسمه و اسم أبيه و عشيرته.

ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع، و يفيضه في العرب منهم و الموالي، فكثر ذلك في كل مصر، و تنافسوا في المنازل و الدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه و قربه و شفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.

ثم كتب إلى عماله: إن الحديث في عثمان قد كثر و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء الأولين و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي، و أقر لعيني، و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله.

ص: 319

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، و جدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر.

و ألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه و تعلّموه كما يتعلمون القرآن، و حتى علّموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً و أهل بيته فامحوه من الديوان، و أسقطوا عطاءه و رزقه.

و شفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، و اهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق و لا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي علیه السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، و يخاف من خادمه و مملوكه و لا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه.

فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر، و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة.

و كان أعظم الناس في ذلك بلية القرّاء المراءون، و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم و يقربوا مجالسهم، و يصيبوا به الأموال و الضياع و المنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان، فقبلوها و رووها و هم يظنون أنها حق، و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها.

فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي علیه السلام فازداد البلاء و الفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.

ص: 320

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين علیه السلام، و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة، و ولي عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي، و موالاة أعدائه، و موالاة من يدعى من الناس أنهم أيضا أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم، و أكثروا من الغض من علي علیه السلام و عيبه و الطعن فيه و الشنآن له، حتى أن إنساناً وقف للحجاج - و يقال: إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به: أيها الأمير إن أهلي عقوني فسمّوني علياً، و أني فقير بائس، و أنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجّاج و قال: للطف ما توسلت به قد ولّيتك موضع كذا.

و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه - و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم - في تأريخه ما يناسب هذا الخبر، و قال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرّباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم) (1).

و لك بعد قراءة هاتين الوثيقتين التاريخيتين المهمتين أن تميّز الحديث الموضوع من غيره في سائر أحاديث الفضائل، و قد ذكرناهما لتعرف ما سنقوله في هذا الحديث الذي نحن في عنوانه فقد روي بالصور التي قرأتها ما عدا الحديث الأول فقد أضافت له أصابع اليد الأموية هذه الزيادة:

(إلّا انه ممن يزعم أنه يحبك أقوام يرفضون الإسلام ثم يلفظونه، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، لهم نبز، يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فجاهدهم، فإنهم مشركون.

قلت: یا رسول الله، ما العلامة فيهم؟

قال: لا يشهدون جمعة و لا جماعة و يطعنون على السلف الأول).

ص: 321


1- شرح نهج البلاغة: 11 / 44.

قال الهيثمي في ذيل هذه الرواية: رواه الطبراني في الأوسط و فيه الفضل بن غانم و هو ضعيف (1).

و بهذا المقدار يمكننا إسقاط هذه الرواية بلا عناء، ولكن المقطع الأول منها - و هو يا علي أنت و أصحابك في الجنة - صحيح و مؤيد بالروايات الأخرى، و لنا أن نحاسب الراوي في المقطع الثاني من ناحية اللفظ و المضمون.

أما اللفظ فمن له خبرة بأساليب الروايات و معرفة بفصاحة النبي صلّى الله عليه و آله يعرف أن خيوط هذه الشباك غير متشابكة فما وجه الربط بين يرفضون الإسلام ثم يلفظونه؟ فان اللفظ عملية تتم بعد الأخذ و ليست بعد الرفض.

ثم إن الراوي قد أخذ جملاً من روايات أخرى و لم يحسن حبكها و لا صنعها فوضعها في غير موضعها كجملة (يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) الواردة في ضمن رواية أو روايات وردت في ذم أصحاب ذي الخويصرة و هم الخوارج و ذلك عندما طلب عمر من رسول الله صلّى الله عليه و آله أن يأذن له بضرب عنق ذي الخويصرة حينما قال للنبي صلّى الله عليه و آله: اعدل! ولكن النبي صلّى الله عليه و آله قال لعمر: «دعه فإن له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) (2).

و يسمى أيضاً ذو الثدية رأس الخوارج.

و أما المضمون فلنا فيه كلام طويل فأولاً: تعال معي إلى الشيعة الإمامية فهل ترى فى أقوالهم و أفعالهم ما يؤدّي بهم إلى رفض الإسلام؟!

إذن لماذا يتشهدون الشهادتين و يصلّون الخمس و يصومون شهر رمضان و يحجون إلى البيت العتيق في مكة المكرمة و يخرجون زكاة أموالهم و و..؟!

و لماذا لم يظهروا على حقيقتهم من رفضهم للإسلام و يحقنوا بذلك دماءهم

ص: 322


1- مجمع الزوائد: 10 / 21.
2- صحيح البخاري: 179/4.

التي ضجت الأرضون السبع من كثرتها يوم كان الملك بيد بني أمية؟! يوم كان القول للرجل أنه يهودي خير من القول له إنك شيعي! فإن الكافر اليهودي و غيره محترم في بلاد الإسلام محقون الدم محفوظ العرض و المال، و أما الشيعة فتقتل على التهمة و الظنة! «فَقَتَلَهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل..»

كل هذا و غيره مما غاب عن ذاكرة الراوي يشهد بأن الشيعة لم يرفضوا الإسلام بل عضّوا عليه بالنواجذ و بذلوا في ذلك كل غال و نفيس، و إنما رفضوا الباطل و السير في خطى الطلقاء و أبناء الطلقاء فاستحقوا العقوبة الكبيرة من قبلهم و امتدت في أعقابهم، و لا يزال السيف هو السيف، و الأوداج هي الأوداج إلى أن يخرج المنتظر الموعود عجل الله فرجه الشريف.

وثانياً: تعال معي لنصنف المسلمين بالقسمة الحاصرة الدائرة بين النفي و الإثبات إلى صنفين: الصنف الأول شيعة علي علیه السلام، و الصنف الثاني غير الشيعة، ثم قل لعامة الناس أن يضعوا (أهل السنة) في أحد الصنفين و انظر ماذا يصنعون، أتراهم يضعونهم في الصنف المكتوب عليه (شيعة على)؟ كلاً و ألف كلاً، بل هم شيعة أبي بكر و عمر و عثمان و معاوية و سائر حكام بني أمية، إذ يصدرون عن أوامرهم و يقتفون آثارهم و ينتسبون إليهم، و لو قلت لأحدهم: إنك من شيعة علي لصفعك على وجهك و تبرأ منك و من مقولتك.

و لو قلنا لهم: ضعوا من سميتموهم ب(الرافضة) في أحد الصنفين، فإنهم يضعونهم تحت عنوان (شيعة علي) بدون أي تردد و توقف.

فيثبت أن من اتفق الناس على تسميتهم ب(شيعة علي) هم المبشرون بالفوز، و هم المعنيون بصدر الحديث الأول، و إلا لما كان لهذه الأحاديث مصداق تنطبق عليه.

ص: 323

ثالثاً: من علامات الحب و آثاره السماع للمحبوب و الأخذ بأقواله و الاقتداء بأفعاله و المشي على خطاه و الوفاء له و التضحية دونه و في سبيله، و كل ذلك متجسد في من أطلقوا عليهم (الرافضة) و هم شيعة اليوم كما أنهم شيعة الأمس، و التاريخ على امتداد حقبه شاهد على ذلك، فعنوان (الرافضي) = عنوان محب أهل البيت علیهم السلام، و لهذا قال الشافعي:

إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

رابعاً: رمى الشيعة بالشرك مما يتنزّه عنه الرسول صلّى الله عليه و آله و لا يجري على لسانه بحال من الأحوال، كيف؟ و هم يأخذون دينهم في أصولهم و فروعهم عنه صلّى الله عليه و آله بطريق أهل بيته علیهم السلام، الطريق الخالية عن شوائب الأوهام و الهوى، و قد أمر صلّى الله عليه و آله الأمة المسلمة بأن تتمسك بهم لكيلا يضلوا، و الشيعة يقولون: (لا إله إلا الله) صباحاً و مساء، ليلاً و نهاراً، سراً و جهاراً، و يعملون على طبقها، و تلك كلمة لا تجتمع مع الشرك أبداً.

خامساً: افتح أي كتاب فقهي أردت لترى أحكام صلاة الجمعة و الجماعة، و ادخل مساجدهم لتراهم يقيمون الجماعة، و لكنهم لا يصلون إلّا خلف من ثبتت عدالته و نزاهته و لم تزل قدمه عن الصراط المستقيم، فإن لم ترهم يصلون خلف أمراء بني أمية و بني العباس و ولاتهم و قضاتهم فلما حدّث التاريخ عنهم و عن أعمالهم البعيدة عن هدى الإسلام بأميال و أميال و أميال.. إلى أن ينقطع النفس.

سادساً: لم يكن الطعن على السلف الأول (الصحابة) صفة من صفات الشيعة ولكنهم لا يدينون لكل الصحابة بالاحترام و التقدير، إذ فيهم الصالح و غيره، فمن الصحابة الإمام علي علیه السلام و الحسنان علیها السلام و سلمان رضی الله عنه و أبو ذر رضی الله عنه و عمار رضی الله عنه و المقداد رضی الله عنه و جابر بن عبد الله رضی الله عنه.. و غيرهم الكثير من أكابر الصحابة و أعيانهم ممن يدين الشيعة لهم بالتقدير و الحب و الولاء و الاحترام، و منهم غير أولئك ممن

ص: 324

قام ضد علي علیه السلام و حاربه و حثّ على قتله و سبّه من على ذروات المنابر و أمر بسبّه، و لا يمكن الجمع بين الولائين. و سيأتي في الحديث القادم إن شاء الله ما يبيّن منزلة الصحابة في القرآن و عند الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله.

و كلمتنا الأخيرة: إن ذيل الحديث الأول - لو صح - لا نطبق على غير الشيعة ممن يدعي الحب و الولاء للإمام علي علیه السلام و هو بعيد في قوله و عمله و ولائه عنه بعد المشرقين!

ص: 325

(19)

الصحابة

1- روی مسلم بسنده عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، و لم أسمع ذلك من رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلمّا كان يوماً من ذلك و الجارية تمشطني، فسمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: أيها الناس! فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال و لم يدع النساء، فقلت: إني من الناس، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إني لكم فرط عليّ الحوض، فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً» (1).

2- و في مسند أحمد بسنده عن عبد الله بن رافع قال: كانت أم سلمة تحدث: إنها سمعت النبي صلّى الله عليه و آله يقول على المنبر و هي تمتشط: أيها الناس! فقالت لماشطتها لفي رأسي، قالت: فقالت: فديتك إنما يقول: أيها الناس! قلت: ويحك أو لسنا من الناس؟! فلفّت رأسها و قامت في حجرتها، فسمعته يقول: «أيها الناس بينما أنا على الحوض جيء بكم زمراً فتفرقت بكم الطرق، فناديتكم ألا هلموا إلى الطريق، فناداني مناد من بعدي فقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فقلت: ألا سحقاً ألا سحقاً» (2).

*سند الحديث:

الأحاديث التي تعرضت للصحابة و شأنهم يوم القيامة - برواية أم سلمة - من الأحاديث التي لا يتطرق الشك إليها لكونها واردة في المصدر الثاني في الأهمية عند أهل السنة وهو صحيح مسلم، مضافاً إلى ورودها في غيره بأسناد صحيحة، و أما برواية غيرها فقد ورد حتى في صحيح البخاري.

ص: 326


1- صحيح مسلم: ج 7 ص 67، مسند ابن المبارك ص 153.
2- مسند أحمد ج 6 ص 297، کنز العمال ج 14.

*حول الصحابة:

امتد الكلام حول الصحابة ليشغل حيزاً كبيراً من الكتب و المؤلفات المختصة بمسائل الخلاف، و مكاناً واسعاً من طاولة البحث، و كان الحديث حولهم معركة دامية، و الجدال فيهم جلاداً، و أهم نقطة تثار في هذا الموضوع هي نظرية عدالة الصحابة، فهل أنهم أجمعين عدول؟ أو أنهم كسائر الناس فيهم العادل الذي بلغ المكان الأقصى و المحل الأعلى من الطهارة و النزاهة، و فيهم من استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر ربه؟

ذهب علماء أهل السنة إلا قليلاً منهم (1) إلى الأول كما اتخذ علماء الشيعة الطريق الثانية.

و نحن بدورنا هنا نذكر رأي الفريقين على لسان علمائهم ثم نعرض ذلك على الحديث المروي عن الرسول صلّى الله عليه و آله ليتضح الحق من خلال عرض الرأي على قول الرسول صلّى الله عليه و آله فإنه و القرآن الكريم هما الميزان الفاصل لمعرفة الحق من الباطل.

*رأي الشيعة في الصحابة:

يقول الإمام شرف الدين العاملي: (إن من وقف على رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء، إذ لم نفرّط فيه تفريط الغلاة الذين كفرّوهم جميعاً، و لا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم جميعاً، فإن الكاملية و من كان في الغلو على شاكلتهم قالوا بكفر الصحابة كافة، و قال أهل السنة بعدالة كل فرد ممن سمع النبي أو رآه من

المسلمين مطلقاً، و احتجوا بحديث كل من دبّ أو درج منهم أجمعين أكتعين.

ص: 327


1- استثنينا القليل لما وجدناه من قول التفتازاني: (ما وقع بين الصحابة من المحاربات و المشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ و المذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق! و بلغ حد الظلم و الفسق و كان الباعث له الحقد و العناد، و الحسد و اللداد، و طلب الملك و الرئاسة، و الميل إلي اللذات و الشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوماً، و لا كل من لقي النبي صلّى الله عليه و آله مرسوماً..) شرح المقاصد: 2 / 306.

أما نحن و إن كانت الصحبة بمجردها عندنا فضيلة جليلة لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العادل و هم عظماؤهم و علماؤهم، و فيهم البغاة و فيهم أهل الجرائم من المنافقين، و فيهم مجهول الحال فنحن نحتج بعدولهم و نتولاهم في الدنيا و الآخرة.

أما البغاة على الوصى و أخى النبى صلّى الله عليه و آله و سائر أهل الجرائم كابن هند و ابن النابغة و ابن الزرقاء و ابن عقبة و ابن أرطاة و أمثالهم، فلا كرامة لهم و لا وزن الحديثهم، و مجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبين أمره.

هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة، و الكتاب و السنة هما بينتنا على هذا الرأي كما هو مفصّل في مظانّه من أصول الفقه، لكن الجمهور بالغوا في تقديس كل من يسمونه صحابياً حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم و السمين، و اقتدوا بكل مسلم سمع النبي صلّى الله عليه و آله أو رآه اقتداء أعمى، و أنكروا على من يخالفهم في هذا الغلو، و خرجوا في الإنكار على كل الحدود.

و ما أشد إنكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة مصرّحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال، عملاً بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية و البحث عن الصحيح من الآثار النبوية.

و بهذا ظنوا بنا الظنون فاتهمونا بما اتهمونا رجماً بالغيب و تهافتاً على الجهل، و لو ثابت إليهم أحلامهم و رجعوا إلى قواعد العلم لعلموا أن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليها، و لو تدبروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم و حسبك منه سورة التوبة و الأحزاب....) (1).

*رأي السنة: في الصحابة:

يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: إن الصحابة رضی الله كلهم هم

ص: 328


1- الفصول المهمة.

صفوة الناس و سادات الأمة، و أفضل ممن بعدهم، و كلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، و إنما جاء التخليط ممن بعدهم..) (1).

و قد استطاع الإمام النووي أن يختصر المسافة في البحث فيهم بهذه الجمل القصيرة حيث كان الصحابة في رأيه - و هو رأي السنة أيضاً - صفوة الناس و سادات الأمة و كلهم عدول!

و الأسئلة التي تدور في ذهن كل من قرأ الأحاديث السابقة محيرة له بدون أدنى شك، إذ كيف يمكنه أن يجمع بين قول الرسول صلّى الله عليه و آله: (فيذب عني كما يذب البعير الضال)، و قوله صلّى الله عليه و آله: (فأقول سحقاً)، و بين قول الإمام النووي و غيره من أنهم (صفوة الناس)؟!

إذن عندما نعرض رأي أهل السنة على أحاديث الرسول صلّى الله عليه و آله نجده مجانباً لها و مبتعداً عنها، فلو خيّر الإنسان المسلم بين الأخذ بالحديث النبوي، و بين الأخذ بغيره مما جرت عليه سيرته و سيرة آبائه من قبل، ماذا تراه صانعاً؟

لاشك في كون الجواب - لأول وهلة - هو الأخذ بحديث الرسول صلّى الله عليه و آله و هذا ما يختاره كل مسلم آمن بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه و آله عن اعتقاد و معرفة، ولكن.. و للأسف المرير نجد كثيراً من أبناء السنة يتغاضون عن الحديث، و يمشون وراء الكلمات الأخرى، و في ظني أنها مشكلة نفسية، تحتاج إلى علاج و إن كان الدواء مرّاً.

و لنؤكد الأمر بصورة واضحة نقول: أ ليس صحيح البخاري هو المعتمد عندكم و الحجة بينكم و بين الله سبحانه و تعالى بعد القرآن الكريم؟

ها هو البخاري يروي في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه و آله انه قال: «بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار و الله، قلت: و ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص

ص: 329


1- 22/8.

منهم إلّا مثل همل النعم (1).

إسأل معى أصحاب هذا الرأي و لن تجد لك جواباً: كيف يمكن الجمع بين كون الصحابة كلهم (صفوة الناس) و بين سوقهم إلى النار لأنهم ارتدوا بعد الرسول صلّى الله عليه و آله على أدبارهم و لم ينج منهم إلّا القليل؟ حيث شبهتهم الرواية ب(همل النعم) أي الإبل الضائعة، فإن ما ينجو منها قليل و الباقي يسير في تيهه حتى يموت أو يقع فريسة للسباع.

و عندما ندخل معهم في العمق و نعرض رأيهم على القرآن الكريم نراهم قد شت بهم الدار، فلا نجد لهم آية تؤيدهم و لا سورة تقف إلى جانبهم، و حسبك أن تقرأ سورة (براءة) و سورة (المنافقون) لتعرف التصنيف الإلهي لمن سموهم بالصحابة، وليكن في علمك أن المنافقين اندسوا في صفوف الصحابة فلم يتميز منهم إلى عامة الناس إلا القليل، فمما لا إشكال فيه أن كثيراً من المنافقين قد صنفوا في كتب الرجال و الحديث على أنهم من الصحابة المقربين، و قد أعطانا الحبيب المصطفى صلّى الله عليه و آله ميزاناً لنعرفهم به، و قد تقدم الكلام فيه، أعني: «لا يبغضك يا علي..».

و إن تجاوزت عن حديث المنافقين فاتخذ طريقك لآيات أخرى، فهذا القرآن ينطق بالحق و يرمي أحد الصحابة بالفسق و هي صفة تقابل العدالة، على أقل تقدير في تفسيرها، قال تعالى: (إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوٓاۡ..) (2)، و المراد بالفاسق هنا هو الوليد بن عقبة الذي أخبر بارتداد بني المصطلق كذباً كما نص على ذلك المفسرون.

و قال تعالى: (و إِنَّ فَرِيقًا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰارِهُونَ يُجَٰدِلُونَكَ فِی ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَی ٱلۡمَوۡتِ وَ هُمۡ يَنظُرُونَ) (3).

ص: 330


1- صحيح البخاري: 94/4.
2- الجرات: 6.
3- الأنفال: 6.

و قال تعالى:(وَ مِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُ إِلَيۡكَ حَتَّیٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنۡ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أُوۡلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَیٰ قُلُوبِهِمۡ وَ ٱتَّبَعُوٓاۡ أَهۡوَآءَهُمۡ) (1).

و قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ) (2).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فأين يرى الحق أصحاب الحجي؟ أ مع الشيعة الذين قرأوا القرآن فأحسنوا قراءته فعرفوا مضامينه و أخذوا بها، أم مع غيرهم ممن قرأوا القرآن فما اهتدوا لمرمى إشاراته؟!

*لماذا رأي السنة؟

سؤال يطرح نفسه فيحتاج إلى إجابة صريحة و واضحة: إذا كانت الآيات و الروايات بمرأى و مسمع من القوم، علمائهم و عوامهم، و هم يقرؤونها صباحاً و مساء، و لا شك أنهم يمرّون بهذه الآيات و بتلك الروايات، فلماذا يتعصبون لكل الصحابة و يدعون القرآن الكريم و السنة النبوية جانباً؟ بل يريدون منا - نحن الشيعة - أن نسير خلفهم و نضلّ الطريق الذي رسمه لنا القرآن، و خطه النبي صلّى الله عليه و آله، و إلّا فقد أسأنا الأدب مع صحابة النبي صلّى الله عليه و آله - إن لم نكن قد كفرنا في نظرهم - و الكفر و الشرك و الفسق و و.... ألفاظ توزع مجانا في سوق المتعصبين، و من أصر على موقفه و إن كان عناداً لله سبحانه و تعالى.

الجواب المنطقي لهذا الموقف الغريب المتعثر أحد أمرين:

الأمر الأول: أن أهل السنة و الجماعة قد ساروا في طريق أخرى غير التي كان عليها أهل البيت علیهم السلام و أتباعهم فاضطروا لأن يأخذوا الإسلام و أحكام الدين من الصحابة الآخرين، إذ لا طريق عندهم يوصلهم إلى سنة الرسول صلّى الله عليه و آله غير هؤلاء، فهم بين خيارين:

ص: 331


1- محمد:16.
2- الجرات:4.

الخيار الأول: أن يأتوا بنظرية عدالة جميع الصحابة فتسلم لهم الروايات الكثيرة التي صدرت عنهم فتحصل لهم مجموعة أحكام شبه متكاملة في رأيهم و يعملون بها و إن كان بعضها يناقض البعض الآخر كما يظهر لمن نظر في أحاديث الصحيحين و غيرهما.

الخيار الثاني: أن يتعاملوا مع الصحابة كما يتعاملون مع بعضهم البعض و هذا ما يوجب طرح كثير من روايات الصحابة فلا يسلم لهم إلّا القليل مما لا يؤدي الدور المطلوب، فلم يقدّموا على الخيار الأول شيئاً.

الأمر الثاني: إن هناك مجموعة من الصحابة قاموا بأعمال لا تتناسب مع المبادئ الإسلامية - كما يظهر لمن راجع روايات القوم و تاريخهم - بل حاولوا أن يحدثوا أشياء لم تكن من الإسلام في شيء لا سيما وقت المدّ الإعلامي الأموي الذي اكتسح الساحة الإسلامية بجميع الأدوات المقدورة آنذاك، و لا يمكن المحافظة على هذا التيار الغريب إلا بترسيخ فكرة عدالة الصحابة، لتسلم أعمال هؤلاء من الرمي في مزبلة التأريخ لكونهم من الصحابة! و يتمّ لهم بهذه الفكرة أيضاً أن يحدثوا بما شاؤا متى شاؤا و ينسبونها إلى الصحابة إن طوعاً و إن كرهاً و إن كذباً، و باعة الحديث على أهبة الاستعداد لأن يدخلوا في هذه السوق الرابحة بالمنظار الدنيوي، و أما من جاء من بعدهم فقد أخذ قدسية الصحابة أمراً من مسلمات الشريعة الإسلامية و إن كان على حساب قدسية الإسلام و نبي المسلمين نفسه، و الله المستعان.

و يشهد للأمر الثاني القراءة المتأنية في الأحاديث المروية عندهم و أحداث التاريخ المكتوب بأيديهم.

كما يشهد للأمر الأول ما صدر عن علمائهم فهذا الجويني يقول: (و السبب في عدم الفحص عن عدالتهم، أنهم حملة الشريعة، فلو ثبت توقف في رواياتهم

ص: 332

لانحصرت الشريعة على عصره صلى الله عليه و آله و سلم و لما استرسلت إلى سائر العصور) (1).

و قال القرشي: (إن حفظ الدين يقتضي عدالة الصحابة، إذ كيف يَعِدُ الله سبحانه بحفظ دينه (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَ إِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ) بينما حملته و نقلته عن نبيه مطعون في عدالتهم و نزاهتهم) (2).

و أما شيعة أهل البيت علیهم السلام فلا يضرهم موقفهم من الصحابة فإن طريقهم إلى شرائع الإسلام هم أهل البيت علیهم السلام الذين لا يختلف في نزاهتهم و طهارتهم اثنان، و هم الامتداد الواقعي للرسول صلّى الله عليه و آله، و الذين بشّرنا الرسول صلّى الله عليه و آله بأنهم مع القرآن لا يفترقون عنه قيد أنملة إلى أن يردوا عليه الحوض فما إن تمسكنا بهما لن نضل أبداً، و قد حفظ الدين بهم و سيبقى إلى أن يرث الله الأرض و من عليها إن شاء الله، و قد نقلوا لنا من أحاديث جدهم النبي صلّى الله عليه و آله و سنته ما يجعلنا في غنى عن كل من لم يمشِ على طريق الحق و الهدى، و الحمد لله على التوفيق لدينه و لما ارتضى من سبيله.

و على هذا فكلام الجويني والقرشي لا محل له من الاعتبار، و لا قيمة له في سوق الأخبار فإن الطريق غير منحصرة في روايات الصحابة حتى تنحصر الشريعة بزمن النبي صلّى الله عليه و آله. بل باتخاذهم هذه الطريق غابت عنهم كثير من الأحكام الواقعية حيث عملوا بقول من لا يوثق بقوله و اتخذوا القياس و الاستحسان طريقاً إلى حكم الله الذي لا يصاب بالعقول.

و لقد أطلنا في هذا الحديث لأهمية الموضوع، و اختلاط الأوراق فيه.

ص: 333


1- فتح المغيث: 3/ 103، نقلناه عن و ركبت السفينة ص 239.
2- ن. م، عن تنبيه ذوي النجابة إلى عدالة الصحابة: ص 25.

(20)

على علیه السلام القاتل القاسطين و الناكثين و المارقين

عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه و آله أتى منزل أم سلمة فجاء علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: يا أم سلمة هذا قاتل القاسطين و الناكثين و المارقين من بعدي.

أخرجهما الحاكمي، و القاسطون الجائرون من القسط بالفتح، و القسوط الجور و العدول عن الحق و أما القسط بالكسر فهو العدل (1).

*الحروب الثلاث في عهد الإمام علي علیه السلام

من الحوادث المهمة في تاريخ الإسلام حروب الإمام علی علیه السلام الثلاث في أيام خلافته الظاهرية:

الأولى حرب الجمل: و هي التي كانت مع الناكثين أي الذين نكثوا بيعته.

الثانية حرب صفين: و هي التي كانت مع القاسطين، معاوية و أصحابه.

الثالثة حرب النهروان: و هي التي كانت مع المارقين الذين مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية و هم الخوارج.

و قد حاول بعض المؤرخين و بعض حملة العلم الموصوفون في سورة (المنافقون) أن يُدينوا الإمام علياً فاعتبروا تلك الحروب حروباً شخصية أريد منها الدفاع عن ملك لا غير، فهي ليست حروباً دينية، و في ذلك ما لا يخفى من الطعن على خلافته علیه السلام و صحتها، و إلا فكان عليهم أن يدرجوا الأمر في مسألة حكم الخروج على الإمام، و هي مسألة مبحوثة.

و على كل حال فما تقدم من أحاديث، كحديث (علي مع الحق و الحق مع علي) و غيره، هي - في الحقيقة - ردّ كاسح لهذه المقولات النابعة من قلب غاص

ص: 334


1- ذخائر العقبى ص 110، البداية و النهاية 7 / 306، أخبار مكة 1 / 472.

في أوحال البئر الأموية، و لا يمت لروح الإسلام بصلة و إن ادّعى أصحابها أنهم عليه القوم و شيوخ الإسلام، أو ادّعى أصحابهم لهم ذلك، و قديماً قالوا (لأمر ما جدع قصير أنفه).

و نحن إذا ما نظرنا إلى الأحاديث التي افتتحنا بها العنوان و غيرها مما ورد على ألسنة الصحابة عرفنا أن الرسول صلّى الله عليه و آله - و هو يرى بعينه الغيبية ما سيؤول اليه أمر الأمة - كان حريصاً على بيان الحق، فأعطانا و أعطى صحابته المشعل الذي يخترقون به ظلمة الفتن، فأمر علياً علیه السلام أن يقاتل من يقوم ضده في أيام خلافته، كما أمر صحابة آخرين أن يكونوا معه، فأي دليل أدل على شرعية حروب الإمام علیه السلام من هذا؟!

فعلي علیه السلام لم يقاتلهم إلّا بأمر من الرسول صلّى الله عليه و آله، و دفاعاً عن الحق الشرعي الذي كان يتمتع به في كل خطوة من خطواته، و قد دلّ على ذلك بالخصوص روايات تبلغ حدّ التواتر المعنوي فلاحاجة للبحث في أسنادها من أجل بيان صحتها، و إن أبيت ذلك فنقول: إننا نعلم بصدور بعض هذه الروايات على سبيل الجزم و يعلم به كل من قرأها في كتب القوم، و هذا ما يسمى عند الأصوليين بالتواتر الإجمالي، كما أوضحناه في بعض فصول الكتاب، و هو حجة كالتواتر اللفظي و المعنوي، و ها نحن نذكر نماذج من تلك الروايات و سيأتي كلام آخر في الحديثين المقبلين إن شاء الله:

1- قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «سيكون بعدي قوم يقاتلون علياً، على الله جهادهم فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه، ليس وراء ذلك شيء» (1).

2 - صح عن الرسول صلّى الله عليه و آله قوله للزبير: «إنك تقاتل علياً و أنت ظالم له» (2)، و قد

ص: 335


1- الغدير: 269/3 عن الطبراني في المعجم الكبير: 1 / 321 ج 955، و مجمع الزوائد 9 / 134 و كنز العمال: 111 / 613 ج 32971، و 15 / 40266.
2- أخرجه الحاكم و صححه في المستدرك: 3 / 413، و راجع مصادره في كتاب الغدير: 3 / 271.

احتجّ به أمير المؤمنين علیه السلام على الزبير في يوم الجمل.

3- عن مخنف بن سليمان (كذا) قال: أتينا أبا أيوب (الأنصاري)، فقلنا: قاتلت بسيفك المشركين مع رسول الله صلّى الله عليه و آله ثم جئت تقاتل المسلمين، فقال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه و آله بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين) (1).

4- عن علقمة ،و الأسود، قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا له: يا أبا أيوب! إن الله أكرمك بنزول محمد صلّى الله عليه و آله (عليك)، و بمجيء ناقته تفضلاً من الله و إكراماً لك أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله؟ فقال: يا هذا (إنّ) الرائد لا يكذب أهله، و إن رسول الله صلّى الله عليه و آله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي: بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين، فأما الناكثون فقد قاتلناهم (و هم) أهل الجمل طلحة و الزبير، و أما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم يعني معاوية و عمرواً، و أما المارقون (فهم) أهل الطرفاوات و أهل السعيفات، و أهل النخيلات، و أهل النهروانات، و الله ما أدري أين هم ولكن لابد من قتالهم إن شاء الله (2).

فهو يعلم بصفتهم و صفة محل قتلهم و إن لم يعلم بهم أنفسهم و لا موضع قتلهم بنفسه، و هذه الأمور من علامات النبوة و الإخبارات الغيبية.

5- عن أبي سعيد الخدري، قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه و آله بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين، فقلنا: يا رسول الله أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟ قال: مع علي بن أبي طالب، معه يقتل عمار بن ياسر (3).

6- عن مارق العابدي، قال: قال علي بن أبي طالب: ما وجدت من قتال القوم بدّاً أو الكفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه و آله (4).

ص: 336


1- تاریخ ابن عساکر: 3 / 169.
2- ابن عساکر 3 / 170.
3- م. ن: 3 / 169.
4- م. ن: 3 / 175.

(21)

خروج عائشة لحرب الجمل

1- الحاكم و غيره بسندهم عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: ذكر النبي صلّى الله عليه و آله خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة فقال: «انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت»، ثم التفت إلى علي فقال: «إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها» (1).

*سند الحديث:

الحديث صحيح على شرط الشيخين كما قاله الحاكم في ذيل الرواية، و جاء في سنن ابن ماجة: (قال بعضهم: كل حديث فيه الحميراء ضعيف، و استثنى من ذلك ما أخرجه الحاكم من طريق عبد الجبار بن الورد، عن عمار الذهبي، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم سلمة..)، ثم ذكر الحديث إلى أن قال: قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري و مسلم) (2).

*عائشة و نهي الرسول صلّى الله عليه و آله:

نهي الرسول صلّى الله عليه و آله لعائشة عن الخروج على إمام زمانها مما سارت به الركبان و حدّث به المحدثون و اشتهر النقل به، فإليك جملة من النماذج:

1- قول الرسول صلّى الله عليه و آله لزوجاته: «أ يتكن صاحبة الجمل الأدبب - كثير الشعر - تخرج فينبحها كلاب الحوأب، يقتل حولها قتلى كثير، و تنجو بعد ما كادت تُقتل» (3).

2- و قوله صلّى الله عليه و آله لهن: «كيف بإحداكن إذا نبح عليها كلاب الحوأب؟» (4).

3- و قوله صلّى الله عليه و آله لعائشة: «يا حميراء كأني بک تنبحک کلاب الحوأب، تقاتلین علیاً

ص: 337


1- مستدرك الحاكم ج 3 ص 119، سنن ابن ماجة: ج 2 ص 827، المناقب للخوارزمي ص 176.
2- سنن ابن ماجة 2 / 827.
3- مجمع الزوائد: 1 / 234: رواه البزّار و رجاله ثقات.
4- أخرجه أحمد في مسنده: 6 / 52، و غيره أيضاً.

و أنت له ظالمة» (1).

إلى روايات أخرى كثيرة، و قد سارت أم المؤمنين، و نبحتها كلاب الحوأب، و كادت ترجع عندما سمعت نباحها، و تذكّرت قول الرسول صلّى الله عليه و آله و تحذيره إياها، ولكن الزبير أو ابنه عبد الله حال بينها و بين الرجوع، و قد وافق ذلك هوى في النفس علي ابن أبي طالب، فقدمت البصرة و تسبّبت في قتل خلق كثير من المسلمين، و صدقت نبوءة النبي محمد صلّى الله عليه و آله و هو الصادق في قوله و فعله، و قد ذكرنا طرفاً مما يتصل بواقعة الجمل و حوار أم سلمة معها في القسم الأول من الكتاب فراجعه.

و لا أريد أن أعلق على هذا الموضوع بأكثر مما ورد في الأحاديث و حوار أم سلمة رضی الله لها ولكنني أنقل شعراً لأمير الشعراء (أحمد شوقي) في ذلك، حيث قال:

أما الإمام فالأغرُّ الهادي حامي عرين الحق و الجهاد

یا جبلاً تأبى الجبال ما حمل ماذا جنت عليك ربّة الجمل

أثار عثمان الذي شجاها أم غصّة لم تنتزع شجاها؟

قضية من دمه تبنيها هبت لها و استنفرت بنيها

ذلك فتق لم يكن بالبال كيد النساء موهن الجبال

و منها:

صاحبة الهادي و صاحباه فكيف يمضون لما يأباه (2).

و نختم الحديث بكلام الأمير المؤمنين علیه السلام في أصحاب الجمل، قال:

ص: 338


1- الغدير: 3 / 268 عن العقد الفريد: 2 / 283.
2- الموسوعة الشوقية جمع و ترتيب إبراهيم الايباري ، ج 9 ص 62، دول العرب و عظماء الإسلام.

«فخرجوا يجرّون حرمة رسول الله صلّى الله عليه و آله كما تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، و أبرزا (1) حبيس رسول الله صلّى الله عليه و آله لهما و لغيرهما - في جيش ما منهم رجل إلا و قد أعطاني الطاعة، و سمح لي بالبيعة، طائعاً غير مكره، فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين و غيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبراً، و طائفة غدراً. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً معتمدين (متعمدين) لقتله، بلا جرم جره، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه، إذ حضروه فلم ينكروا، لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد. دَعْ ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم» (2).

ص: 339


1- طلحة و الزبير.
2- نهج البلاغة: رقم 172.

(22)

الفئة الباغية

1- مسلم في صحيحه: عن أم سلمة : إن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال العمار: «تقتلك الفئة الباغية» (1).

2- و روى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «تقتل عماراً الفئة الباغية» (2).

3- و روى غيرها عنها: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» (3).

*سند الحديث:

يكفي في صحة الحديث - عند أبناء السنة - وروده في صحيح مسلم، فما بالك و قد ورد في كتب متعددة و معتمدة عندهم و صرح بعضهم بصحته، هذا مع أن الحديث بمضمونه من الأحاديث المتواترة كما صرح بذلك ابن حجر في الإصابة (4) فلا مجال لتصور الخدشة في صدوره عن الرسول صلّى الله عليه و آله حتى صار (عمار) عند الأصحاب و التابعين علامة فارقة بين الفئة الباغية و الفئة الثابتة على طريق الحق، و لنا تعليق على هذه النقطة فيما بعد.

*معنى البغي:

قال الراغب الأصفهاني: (البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يُتَحرّى تجاوزه أو لم يتجاوزه.. و البغي على حزبين: أحدهما محمود و هو تجاوز العدل إلى الإحسان و الفرض إلى التطوع. و الثاني مذموم و هو تجاوز الحق إلى الباطل أو تجاوزه إلى

ص: 340


1- صحيح مسلم ج 8 ص 186.
2- ن. م.
3- مسند أحمد ج 6 ص 300، 311، سنن الترمذي ج 5 ص 300، 311، سنن الترمذي ج 5 ص 333، البيهقي في السنن الكبرى ج 8 189، كنز العمال، خصائص أمير المؤمنين للنسائي، المناقب لخوارزمي، سيرة ابن هشام ج 2 ص 80، المحلى ج 11 ص 97 مسألة (2154)، مجمع الزوائد ج 10 ص 108.
4- الإصابة: 2 / 512.

الشُبَه..) (1).

قال الطريحي: (.. و البُغاة أيضاً جمع (باغ) و هم الخارجون على إمام معصوم - كما في الجمل و صفين - سموا بذلك لقوله تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء..) و الفئة الباغية الخارجة عن طاعة الإمام من البغي الذي هو مجاوزة الحد) (2).

*مَنْ هي الفئة الباغية؟

المراد من الفئة الباغية في الحديث هم معاوية و أصحابه الذين بغوا على الإمام علي علیه السلام فقاموا ضده و حاربوه في صفين، و قد سمّاهم الرسول صلّى الله عليه و آله بالقاسطين كما مرّ في حديث سابق، و معنى القسط أخذ قسط الغير و ذلك جور، و لهذا قيل: قسط الرجل إذا جار، في مقابل أقسط إذا عدل، قال تعالى: (وَ أَمَّا ٱلۡقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) (3) أي الجائرون.

فهاتان - الفئة الباغية و القاسطون - صفتان وَسَم بهما الرسول صلّى الله عليه و آله معاوية و أصحابه لتكونا شاهدي عدل و صدق لمن تحرّى الحقيقة و سعى في طلبها.

*مَنْ قَتل عماراً؟

قتل عماره رضی الله في معركة صفين و كان في جيش الإمام علي علیه السلام، و كان قاتله يسار بن سبع السلمي المعروف بأبي الغادية أحد جنود معاوية، و حينما قتل عمار ارتفعت الأصوات بقتله فتوقف أهل الشام عن القتال حيناً من الوقت لمعرفتهم بأن من يقتل عماراً هم الفئة الباغية كما أنبأ بذلك الرسول صلّى الله عليه و آله، و كاد الوضع أن ينقلب على معاوية، ولكن الشيطان قد أوحى إليه، أو إلى ابن العاص، فتدارك

ص: 341


1- مفردات الراغب مادة بغي.
2- مجمع البحرين مادة بغا: 1 / 55.
3- الجن:15.

الموقف في لحظاته الأخيرة حينما قال: إنما قتله الذي جاء به و ألقاه تحت سيوفنا! فسرت هذه الخدعة في أوساطهم فعادوا إلى مراكزهم، و هكذا مشت هذه الخدعة و غيرها من الخدع البهلوانية على عقول أهل الشام الذين ما كانوا يفرّقون بين الناقة و الجمل و لم يكن التأمل الفكري في قائمة حساب أهل الشام آنذاك، و إلا لانتبهوا لما هم فيه من الضلال، لا سيما بعد ردّ الإمام علی علیه السلام على تلك الخدعة بجواب لا يحتاج في فهمه إلّا إلى شيء من العقل و إن كان غاية في القلة، قال علیه السلام: «إذن النبي صلّى الله عليه و آله هو الذي قتل حمزة علیه السلام لأنه هو الذي جاء به إلى المعركة فقتل بسيوف كفار قریش»؟!

بئس نظرية تلك التي جاء بها معاوية و خدع بها أمة من الناس، و بئست عقول صدقتها و عقول تابعت عليها و على أمثالها.

*ابن حزم و الفئة الباغية

و كما مشت تلك الخدعة على عقول أهل الشام فقد حاول مجموعة من علماء أهل السنة و كبرائهم اختراع خدعة لا تقل حجماً و خطراً عنها لتمريرها على عقول العامة من الناس، أقصد الاجتهاد الخاطئ الذي يؤجر عليه صاحبه و إن كان في مقابل النص الصريح، و حتى لوكان المتأوّل أعرابياً يبول على عقبيه، ولكن بشرط واحد فقط، أن يكون الاجتهاد ضد الإمام علي علیه السلام و أتباعه.

و إن كبر الأمر في نفسك فاقرأ كلام ابن حزم في حق الفئة الباغية، قال: (و إنما قتل عماراً رضی الله أصحاب معاوية و كانوا متأوّلين تأويلهم فيه، و إن أخطأوا الحق مأجورون أجراً واحداً لقصدهم الخير) (1).

و لا نعرف و لا ابن حزم يعرف الخير الذي قصدوه، حأهو قتل الإمام علي علیه السلام

ص: 342


1- المحلى: 11/ 97، مسألة .2154.

خير أهل الأرض في ذلك الوقت؟ أم قتل أصحابه من المهاجرين الأولين، و الأنصار السابقين إلى اعتناق الإسلام و الذابين عن حريمه؟ أو أن الخير هو استيلاء الطلقاء و أبنائهم على عرش الخلافة فيبدلون سنة النبي صلّى الله عليه و آله بما تمليه عليهم أهواؤهم و مرتكزاتهم الجاهلية ؟!!

*ابن حزم و أبو الغادية

و لقد طاش سهم ابن حزم و ابتعد في عداوته لعلي علیه السلام عن روح الإسلام كثيراً، و قال في حق أبي الغادية: (و عمار رضی الله قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي، شهد عمار بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه، و أنزل السكينة عليه، و رضي عنه، فأبو الغادية متأوّل مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً! و ليس هذا كقتلة عثمان رضی الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله، لأنه لم يقتل أحداً! و لا حارب و لا قاتل و لا دافع و لا زنى بعد إحصان و لا ارتدّ فيسوّغ المحاربة تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم و العدوان، فهم فساق ملعونون) (1).

فاقرأ هذا الاجتهاد و تلك المقارنة ثم اقرأ سورة الفاتحة على الإسلام إن كان ابن حزم من حملته، و اعلم بأن الحجاج أفقه من ابن حزم و أعرف منه و من أمثاله الذين نكبوا عن الصراط، و حادوا عن الحق، و تقلّبوا في شحنائهم و غلوائهم ليندرجوا تحت قول الرسول صلّى الله عليه و آله: «لا يبغضك يا علي إلا منافق».

نعم الحجاج أفقه منهم في هذه المسألة و هو ممن عرف ببغضه للإمام علی علیه السلام و سفكه الدماء الطاهرة، و إنه لمن قوم طبع الله على قلوبهم فأنساهم ذكره، فتعال معي لتقرأ هذه القصة لتدرك ما أرمي إليه:

ص: 343


1- الغدير: 1 / 593 عن الفصل: 4 / 161.

قال ابن الأثير في الكامل: (إن أبا الغادية قتل عماراً، و عاش إلى زمن الحجاج، و دخل عليه فأكرمه الحجاج، و قال له: أنت قتلت ابن سمية؟ يعني عماراً.

قال: نعم.

فقال: مَنْ سرّه أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة، فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية.

ثم سأله ابن الغادية حاجته، فلم يجبه إليها، فقال: نُوطّئ لهم الدنيا، و لا يُعطونا منها - و يزعم أني عظيم الباع يوم القيامة.

فقال الحجاج: أجل و الله من كان ضرسه مثل أحد، و فخذه مثل جبل و رقان، و مجلسه مثل المدينة و الربذة، إنه عظيم الباع يوم القيامة، و الله لو أن عماراً قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا النار) (1).

هذا كلام الحجاج و ذاك كلام ابن حزم، و قد صدق من قال: كان لسان ابن حزم و سيف الحجاج شقيقين.

و سوف نذكر بعض ملاحظات (علامة الغدير) أعلى الله مقامه على ابن حزم و بيان ضلاله بشيء من الاختصار و التصرف:

المؤاخذة الأولى: إن ابن حزم شخصية أجمع فقهاء عصره على تضليله و التشنيع عليه و نهي العوام عن الاقتراب منه، و حكموا بإحراق تأليفه و مدوّناته مهما و جودوا الضلال في طيّاتها كما في لسان الميزان (2).

المؤاخذة الثانية: حكم ابن حزم باجتهاد عبد الرحمن بن ملجم في قتله الإمام عليا علیه السلام حيث قال: (لا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل علياً علیه السلام إلّا متأولاً مجتهداً مقدّراً أنه على صواب..).

و هذه مواجهة صريحة للحديث الصحيح من قول الرسول صلّى الله عليه و آله لعلی علیه السلام:

ص: 344


1- الغدير 1 / 598، عن الكامل: 3 / 134.
2- لسان الميزان: 4 / 229 رقم 5737.

«قاتلك أشقى الآخرين»، و في لفظ «أشقى الناس»، و في ثالث «أشقى هذه الأمة».

أخرجه الحفاظ الأثبات و يكاد أن يكون متواتراً على ما حدّد ابن حزم التواتر به.

منهم:

1- إمام الحنابلة أحمد في المسند (1).

2- النسائي في الخصائص (2).

3- الحاكم في المستدرك و صححه (3).

4- الذهبي في تلخيصه و صححه. و غيرهم لم نذكرهم اختصاراً.

المؤاخذة الثالثة: لم يدع أحد من العلماء الاجتهاد لأبي الغادية الرجل المجهول عند علماء الحديث إلى أن جاء ابن حزم فاخترع هذه النظرية الدالة على شيطنة لا مثيل لها في دنيا الإسلام إلّا عند زعمائه المتقدمين معاوية و ابن العاص.

المؤاخذة الرابعة: إن الاجتهاد المزعوم لأبي الغادية مقابل للنصوص النبوية في عمار و التي منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك (4) و صححه كما صححه الذهبي في تلخيصه بالإسناد عن عمرو بن العاص: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «اللهم أولعت قريش بعمار، إن قاتل عمار و سالبه في النار».

أقول: و إعطاء ابن حزم الأجر الواحد لأبي الغادية الملقى على وجهه في النار دليل على عدم إيمان ابن حزم بأقوال الرسول صلّى الله عليه و آله فليتبوّأ مقعده مع أبي الغادية.

المؤاخذة الخامسة: رمى قتلة عثمان و فيهم بعض الأصحاب بالفسق و أنه لا مجال لاجتهادهم في ذلك بينما فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لقاتل الإمام علي علیه السلام و قاتل عمار مع وجود النص الخاص لبيان حال من قتلهما و أنهما من أهل النار.

ص: 345


1- 326/5.
2- ص 162.
3- 140/3.
4- المستدرك على الصحيحين: 3 / 437.

المؤاخذة السادسة: إن ابن حزم سبّ الصحابة بقوله في قتلة عثمان: (فهم فساق ملعونون)، و ذهب جمهور أصحابه إلى تضليل من سبّهم بين مكفّر و مفسّق، و قال هو في الفصل (257/3): (و أما من سبّ أحداً من الصحابة رضی الله فإن كان جاهلاً فمعذور، و إن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمن زنی و سرق، و إن عاند الله تعالى في ذلك و رسوله صلّى الله عليه و آله فهو كافر..) (1).

و القارئ المنصف يعرف الخانة التي ينزلها ابن حزم من بين الخانات الثلاث المذكورة، أعاذنا الله من زلل القول و خطل الرأي.

*مجرّد تعليق

اعتزل بعض الصحابة الحروب الثلاث للإمام علي علیه السلام و كانت الحجة في ذلک هی ظلمة الفتنة و عدم معرفة الحق من الباطل، و قد ندم بعضهم على تركه المشاركة في حرب صفين حينما سمع بقتل عمار لمعرفته بأن الفئة التي تقتله هي الفئة الباغية، فاتضح له فيما بعد واقع الأمر و حقيقته، و أفضل ما يجاب به عن هذا المنطق الضعيف ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج:

(قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال: فبينا علي علیه السلام واقفاً بين جماعة من همدان و حمير و غيرهم من أفناء قحطان، إذ نادى رجل من أهل الشام: من دلّ على أبي نوح الحميري؟

فقيل له: قد وجدته، فما ذا تريد؟ قال: فحسر عن لثامه، فإذا هو ذو الكلاع الحميري و معه جماعة من أهله و رهطه فقال لأبي نوح: سر معي، قال: إلى أين؟ قال: إلى أن نخرج عن الصف، قال: و ما شأنك؟ قال: إن لي إليك لحاجة، فقال أبو نوح معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة، قال ذو الكلاع: بلى فسر فلك ذمة الله

ص: 346


1- راجع الغدير: 1 / من ص 585 إلى ص 608.

و ذمة رسوله و ذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك، فإنما أريد أن أسالك عن أمر فيكم تمارينا فيه، فسار أبو نوح و سار ذو الكلاع فقال له: إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب، ثم أذكرناه الآن به فأعاده، إنه يزعم أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: يلتقي أهل الشام و أهل العراق و في إحدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى، و معه عمار بن ياسر، فقال أبو نوح: نعم و الله إنه لفينا، قال: نشدتك الله، أجاد هو على قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم و رب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني، و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته، و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي، قال ذو الكلاع: و يلك علام تمنّى ذلك منا؟ فوالله ما قطعتك فيما بيني و بينك قط، و إن رحمك لقريبة، و ما يسرني أن أقتلك، قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة و وصل به أرحاماً متباعدة، و إني قاتلك و أصحابك لأنا على الحق و أنتم على الباطل، قال ذو الكلاع: فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام؟ فأنا لك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمار و جدّه في قتالنا، لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين؟

قلت: و اعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار و لا يعتريهم الشك لمكان على علیه السلام! و يستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم و لا يعبئون بمكان على علیه السلام، و يحذرون من قول النبى صلّى الله عليه و آله: (تقتلك الفئة الباغية) و يرتاعون لذلك، و لا يرتاعون لقوله صلّى الله عليه و آله في علي علیه السلام: (اللهم وال من والاه و عاد من عاداه)، و لا لقوله: (لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق).

و هذا يدلك على أن علياً علیه السلام اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره، و ستر فضائله، و تغطية خصائصه، حتى محى فضله و مرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلاً منهم) (1).

ص: 347


1- شرح نهج البلاغة: 8 / 16 و ما بعدها.

ويقرب من هذا الجواب ما روي عن أبان بن تغلب أحد أصحاب الإمامين الباقر و الصادق علیهما السلام، و هو عالم معروف دانت الأمة - شيعة و سنة - بفضله و وثاقته: عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: كنا في مجلس أبان بن تغلب، فجاءه شاب فقال: يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب علیه السلام من أصحاب رسول صلّى الله عليه و آله؟

قال: فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي علیه السلام بمن تبعه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله؟!

قال: فقال الرجل: هو ذاك.

فقال: و الله ما عرفنا فضلهم إلا باتباعهم إياه.. (1).

ص: 348


1- رجال النجاشي ترجمة أبان.

(22)

فاطمة سيدة النساء

1- ما ورد في كتاب (الذرية الطاهرة): بسنده عن عبد الله بن وهب: أن أم سلمة أخبرته: أن رسول الله دعا فاطمة فحدثها فبكت، ثم حدثها فضحكت، قالت أم سلمة: فلما توفي رسول الله سألتها عن بكائها و عن ضحكها؟ فقالت: «أخبرني رسول الله بموته فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت» (1).

2- الترمذي بسنده عن أم سلمة أخبرته: أن رسول الله صلّى الله عليه و آله دعا فاطمة عام الفتح، فناجاها فبكت، ثم حدثها فضحكت، قالت: فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه و آله سألتها عن بكائها و ضحكها، قالت: «أخبرني رسول الله صلّى الله عليه و آله أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت»

هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (2).

*متن الرواية:

نقرأ رواية الترمذي فنجد فيها هذا الاستثناء (إلا مريم بنت عمران) فيكون معنى الرواية: إن فاطمة الزهراء علیها السلام سيدة النساء ما عدا مريم بنت عمران، فتكون مريم بنت عمران هي سيدة نساء العالمين لأن من كانت سيدة نساء أهل الجنة فهي سيدة نساء العالمين على الإطلاق.

و مريم بنت عمران لاشك في فضلها و طهارتها كما نص القرآن الكريم على ذلك بقوله تعالى: (إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَ طَهَّرَكِ وَ ٱصۡطَفَىٰكِ عَلَیٰ نِسَآءِ

ص: 349


1- الذرية الطاهرة 1 / 103.
2- سنن الترمذي: ج 5 ص 368، و جاءت الرواية أيضاً في: الذرية الطاهرة للدولابي (ت: 310)، 1 / 103، الخصائص للنسائي 2 / 142، السنن الكبرى 5 / 145، مسند أبي يعلى 12 / 110، المعجم الكبير 22 / 421، جزء في فضائل فاطمة لابن شاهين ت 385، ص 20.

ٱلۡعَٰلَمِينَ) (1). ولكنها مع ذلك ليست بأفضل من فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه و آله.

إذن ماذا نعمل بالرواية و كيف نواجه الآية؟!

أما الرواية فلنا أن نعرضها على الروايات الأخرى الواردة في الموضوع نفسه لنكتشف وجه الحقيقة، و عندها سنعرف مقدار ما تدخلت فيه أصابع الوضع و التهميش التي أشرنا اليها مرة بعد أخرى، و كيف حاولت أن تطال كلّ شيء من فضائل أهل البيت علیهم السلام التحقق كلمة معاوية: (ألا دفناً دفناً).

الرواية لم يكن فيها هذا الاستثناء أبداً و يشهد لذلك:

1- ما رواه البخاري في باب مناقب فاطمة علیها السلام، قال النبي صلّى الله عليه و آله فاطمة سيدة نساء

أهل الجنة (2).

2- ما رواه مسلم عن عائشة في رواية مطولة نقتطع منها محل الشاهد و هو: فلما رأى جزعي سارّني الثانية فقال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين أو سيدة نساء أهل هذه الأمة؟ فقال: فضحكت ضحكي الذي رأيت (3).

3- و ما رواه في السنن الكبرى من جملة رواية: (.. قال هو ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلّم علي و بشرني: أن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة) (4).

4- و في معتصر المختصر: فقال لها: أي بنية! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ قالت: يا ليتها كانت، و أين مريم بنت عمران؟ فقال لها: أي بنية إنها سيدة نساء عالمها، و أنت سيدة نساء عالمك، و الذي نفسي بيده لقد زوجتك سيداً في الدنيا و سيداً في الآخرة، و لا يبغضه إلا منافق (5).

ص: 350


1- آل عمران: 42.
2- صحيح البخاري: 5 / 29.
3- صحیح مسلم: باب فضائل فاطمة 7 / 142، مسند الطيالسي 1 / 196.
4- السنن الكبرى، 5 / 80، 95، و قريب منها مسند البزار 3 / 102، و مسند احمد 5 / 391.
5- معتصر المختصر 2 / 247.

5- في الجمع بين الصحاح الستة في باب مناقب فاطمة علیها السلام من صحيح أبي داود السجستاني قال: إن النبي صلّى الله عليه و آله سارّ فاطمة علیها السلام و قال لها: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين أو سيدة لنساء هذه الأمة؟ فقلت: أين مريم بنت عمران و آسية امرأة فرعون؟ فقال: مريم سيدة نساء عالمها، و آسية سيدة نساء عالمها (1).

فرواية البخاري و السنن مطلقة فتشمل جميع النساء بما فيهن مريم بنت عمران، و أما رواية مسلم و الجمع بين الصحيحين فهي مرددة بين كونها سيدة نساء العالمين أو سيدة نساء هذه الأمة، و ليس الترديد من قبل الرسول صلّى الله عليه و آله قطعاً لعلمه بالواقع على حقيقته، و ليس من السيدة فاطمة علیها السلام لكونها معصومة عن النسيان، و لو تنزلنا و قلنا بمقالة أهل السنة من عدم عصمتها فلا يمكن أن تنسى هذا الفضل الكبير في مثل هذا الموقف الخطير، بل إن النسيان في مثل هذا لا يتطرق لعادي الناس فضلاً عن السيدة الزهراء علیها السلام.

فيتعين أن يكون الترديد من الراوي و قد صدر منه لأمر ما في نفسه ولكنه أخطأ المقصود لأن ذيل الرواية الثالثة يرفع الستار المسدول، إذ لا معنى للسؤال: (فأين مريم بنت عمران) إلّا إذا كان قول الرسول صلّى الله عليه و آله: (أن تكوني سيدة نساء العالمين)، و يدل على ذلك جواب النبي صلّى الله عليه و آله: (مریم سيدة نساء عالمها)، و رواية المعتصر تؤيد ذلك.

و من هذا يتضح أن الاستثناء في الرواية التي نحن بصددها إنما وضعته أيدي الرواة، و لم تأت على لسان الرسول صلّى الله عليه و آله.

و أما المراد من الآية فقد جاء في تفسير القمي: قال: قال علیه السلام اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها

ص: 351


1- عنه العمدة لابن البطريق ص 387، 388، الحديث 767.

بذلك على نساء العالمين (1).

و ليتضح الأمر أكثر ننقل ما ذكره صاحب تفسير الميزان: (و على هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.

و هل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: (إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَی ٱبۡنُ مَرۡيَمَ..)، و قوله تعالى: (وَ ٱلَّتِیٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَ جَعَلۡنَٰهَا وَ ٱبۡنَهَآ ءَايَةً لِّلۡعَٰلَمِينَ) (2)، و قوله تعالى: (وَ مَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِیٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَ صَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَ كُتُبِهِۦ وَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ) (3)، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلّا على شأنها العجيب في ولادة المسيح علیه السلام إن هذا هو وجه اصطفائها و تقديمها على النساء من العالمين) (4).

و نلفت النظر هنا إلى شيء و هو أن الموجود في الآية كلمة (الاصطفاء)، و أما الكلمة في الروايات فهي (السيادة) و بينهما اختلاف فلا تعارض بينهما.

ثم هب أن المراد من الاصطفاء هو التقديم في الفضل، لا في كونها حملت بروح الله المسيح علیه السلام من دون فحل فلا مانع من أن يكون المراد من سيادتها هي سيادتها لنساء عالمها المعاصرة له كما أوضحته الرواية السابقة، و لا ينافي هذا التفسير إطلاق (على العالمين)، فإن القرآن قد استعمل هذه العبارة في موارد أخرى و لا يريد بها الإطلاق، بل خصوص أهل الزمن المعاصر لمن فضّلهم الله كما في قوله تعالى: (قَالَ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِيكُمۡ إِلَٰهًا وَ هُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَی ٱلۡعَٰلَمِينَ) (5)، و لا شك أن المؤمنين من بني إسرائيل ليسوا بأفضل من مؤمني العالم من الأولين و الآخرين، ولكنهم أفضل أهل عالمهم.

ص: 352


1- تفسير القمي: في تفسير هذه الآية.
2- لأنبياء: 91.
3- التحریم:12.
4- تفسير الميزان: 3 / 189.
5- الأعراف: 140.

ويؤيده ما جاء في كتاب الدر المنثور للسيوطي.

و أخرج ابن أبي حاتم عن السدي (و طهرك) قال: من الحيض (وَ ٱصۡطَفَىٰكِ عَلَیٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ) قال: على نساء ذلك الزمان الذي هم فيه (1)

ص: 353


1- الدر المنثور 2 / 42، تفسير سورة آل عمران: الآية 42.

(24)

تسبيح الزهراء علیها السلام

1- في مسند أحمد و غيره عن شهر قال: سمعت أم سلمة تحدث زعمت أن فاطمة جاءت إلى نبي الله صلّى الله عليه و آله تشتكي إليه الخدمة فقالت: «يا رسول الله! و الله لقد مجلت يدي من الرحى، أطحن مرة، و أعجن مرة»، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إن يرزقك الله شيئاً يأتك، و سأدلك على خير من ذلك: إذا لزمت مضجعك فسبحي الله ثلاثا و ثلاثين، و كبّري ثلاثا و ثلاثين، واحمدي الله أربعاً و ثلاثين، فذلك مائة فهو خير لك من الخادم، و إذا صليت صلاة الصبح فقولي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي و يميت، بيده الخير و هو على كل شيء قدير، عشر مرات بعد صلاة الصبح، و عشر مرات بعد صلاة المغرب، فإن كل واحدة منهن تكتب عشر حسنات، و تحط عشر سيئات، كل واحدة منهن كعتق رقبة من ولد إسمعيل، و لا يحل لذنب كسب ذلك اليوم أن يدركه إلا أن يكون الشرك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و هو حرسك ما بين أن تقوليه غدوة إلى أن تقوليه عشية من كل شيطان و من كل سوء» (1).

*سند الحديث:

تقدم الكلام في رجال هذا السند عند الكلام حول سند حديث الكساء و أنهم محل للاعتبار و قبول أصحاب الرجال فراجع.

*إيماءة:

أطلق على الذكر الأول المشتمل على التكبير و التسبيح و التحميد تسبيح الزهراء علیها السلام، و قد ورد بصيغ أخرى غير هذه لا يهمنا الآن التعرض لها، و الوجه في

ص: 354


1- مسند أحمد ج 6 ص 298، الذرية الطاهرة 1 / 103، كنز العمال: ج 15 ص، مجمع الزوائد ج 10 ص 108، الذرية الطاهرة 1 / 103.

التسمية واضح لمن قرأ هذه الرواية و أمثالها، فإن أباها الرسول صلّى الله عليه و آله قد علمها إياه قسمي باسمها.

ص: 355

(25)

مقتل الحسين علیه السلام

1- جاء في فضائل الصحابة بسنده عن أم سلمة قالت: كان جبريل علیه السلام عند النبي صلّى الله عليه و آله و الحسين معي، فبكى فتركته، فدنا من النبي صلّى الله عليه و آله فقال جبريل: «أتحبه يا محمد؟» فقال: «نعم»، فقال: «إن أمتك ستقتله، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، فأراه إياها، فإذا الأرض يقال لها: كربلاء» (1).

2- و قال حماد بن سلمة: عن عمار بن أبي عمار، عن أم سلمة سمعت الجن تنوح على الحسين.

و قال سويد بن سعيد، عن عمرو بن ثابت، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أم سلمة: ما سمعت نوح الجن منذ قبض النبي صلّى الله عليه و آله إلا الليلة، و ما أرى ابني إلا قد قتل، تعني الحسين، فقالت لجاريتها: أخرجي فسلي فأخبرت أنه قد قتل، و إذا جنية تنوح:

ألا يا عين فانهملي بجهدي فمن يبكي على الشهداء بعدي

علی رهط تقودهم المنايا إلى متجبر في ملك عبد (2).

و قال الهيثمي: و عن أم سلمة قالت: سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي، رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح (3).

3- عن شقيق عن أم سلمة قالت: كان الحسن و الحسين يلعبان بين يدي رسول الله صلّى الله عليه و آله في بتي، فنزل جبريل فقال: «يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك» و أو مى بيده إلى الحسين، فبكى رسول االله صلّى الله عليه و آله و ضمه إلى صدره، ثم قال رسول

ص: 356


1- فضائل الصحابة 2 / 782.
2- تهذيب الكمال للمزی 409/6، 439، 441، و عن نوح الجن راجع المعجم الكبير أيضاً 3 / 122.
3- مجمع الزوائد 199/9.

الله صلّى الله عليه و آله: «وضعت عندك هذه التربة» فشمها رسول الله صلّى الله عليه و آله و قال: «ريح كرب و بلاء»، و قال: «يا أم سلمة! إذا تحولت هذه التربة دماً فاعلمي أن ابني قد قتل»، فجعلتها أم سلمة في قارورة، ثم جعلت تنظر إليها كل يوم و تقول: إن يوماً تحولين دماً ليوم عظيم، و في الباب عن عائشة و زينب بنت جحش و أم الفضل بنت الحارث و أبي أمامة و أنس بن الحارث و غيرهم (1).

4- عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال: أخبرتني أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه و آله اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ و هو حائر، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ و هو حائر (خاثر) دون ما رأيت به المرة الأولى، ثم اضطجع فاستيقظ و في يده تربة حمراء يقبلها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟

قال: «أخبرني جبريل صلّى الله عليه و آله: أن هذا يقتل بأرض العراق، للحسين»، فقلت لجبريل: «أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها».

هذا حديث صحیح على شرط الشيخين و لم يخرجاه (2).

5- و في صحيح ابن حبان و غيره بالسند عن أنس بن مالك قال: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي صلّى الله عليه و آله فأذن له، فكان في يوم أم سلمة فقال النبي صلّى الله عليه و آله: «احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد»، فبينا هي على الباب إذ جاء الحسين بن علي فطفر فاقتحم ففتح الباب فدخل، فجعل يتوثب على ظهر النبي صلّى الله عليه و آله، و جعل النبي يتلثمه و يقبله، فقال له الملك: «أ تحبه؟» قال: «نعم»، قال: «أما إن أمتك ستقتله، إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه؟ قال: «نعم»، فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه فأراه إياه، فجاءه بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها، قال ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء (3).

ص: 357


1- تهذيب التهذيب 2/ 300، المعجم الكبير 23 / 108.
2- المستدرك 4 / 440، و المعجم الكبير 23 / 308.
3- صحیح ابن حبان 15 / 143، مسند أبي يعلى 6/ 129، المعجم الكبير 3 / 106، و 23 / 328.

6- الطبراني بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: « يقتل حسين بن علي علیه السلام عنه على رأس ستين من مهاجرتي» (1).

7- و بسنده أيضاً: عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم سلمة، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله جالساً ذات يوم في بيتي فقال: «لا يدخل علي أحد»، فانتظرت فدخل الحسين رضي الله تعالى عنه، فسمعت نشيج رسول الله صلّى الله عليه و آله یبکی، فاطلعت فإذا حسين في حجره و النبي صلّى الله عليه و آله يمسح جبينه و هو يبكي، فقلت: و الله ما علمت حين دخل، فقال: «إن جبريل علیه السلام كان معنا في البيت فقال: تحبه؟» قلت: «أما من الدنيا فنعم»، قال: «إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء»، فتناول جبريل علیه السلام من تربتها فأراها النبي صلّى الله عليه و آله، فلما أحيط بحسين حين قتل قال: «ما اسم هذه الأرض؟» :قالوا: كربلاء، قال: «صدق الله و رسوله، أرض كرب و بلاء» (2).

قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد و رجال أحدها ثقات.

و عندنا تأمل في كلمة (أما من الدنيا فنعم)، فإنه ربما يتوهم منها: أما من الآخرة فلا، و لعلها من إضافات المؤتمنين على أحاديث الرسول صلّى الله عليه و آله!! فإن الحسن و الحسين علیهما السلام سيدا شباب أهل الجنة بنص الرسول صلّى الله عليه و آله فهل يعقل أنه صلّى الله عليه و آله لا يحبهما في الآخرة؟!

و طالما رأينا هذه اليد عبثت و تصرفت بأسلوب أو بآخر لتحرف كثيراً من فضائل أهل البيت علیهم السلام عن واقعها، أو لتفرغ الأحاديث عن محتواها، ولكن للحق نوراً يكشف كل ما يصنعون.

8- و بإسناده عن رزين حدثتني سلمى قالت: دخلت على أم سلمة و هي تبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله - يعني في المنام - و على رأسه

ص: 358


1- المعجم الكبير 3 / 105، تاریخ بغداد 1 / 142.
2- المعجم الكبير 3 / 108 ، 109، مجمع الزوائد 9 / 188.

و لحيته التراب فقلت: ما لك يا رسول الله؟ فقال: شهدت قتل الحسين آنفاً (1).

*سند الأحاديث

هذه الأحاديث حلقة من سلسلة كبيرة في هذا المعنى، فلا أراني جانبت الإنصاف إن ادعيت التواتر بأحد معانيه المتقدمة، مضافاً إلى أن قسماً من هذه الأحاديث صحيح الاسناد كما نقلناه عن الهيثمي.

*دلالة الأحاديث

لهذه الأحاديث دلالات كثيرة، و معاني كبيرة، فهي حينما تدل على الجانب الغيبي، أعني إخبار الرسول صلّى الله عليه و آله بما سيجري على ولده و قرة عينه الإمام الحسين علیه السلام تدل أيضاً على مدى العلاقة الكبيرة و الحب المفعم بين الرسول صلّى الله عليه و آله و بين سبطه، الأمر الذي لا يحتاج إلى ذكر شواهد من أجل إثباته، فإن كل حركة من حركات الرسول صلّى الله عليه و آله فيما تخص الحسنين علیهما السلام تثبت ذلك.

و الأمر الذي لا تنبغي الغفلة عنه، و تجدر الإشارة إليه هو منزلة الإمام الحسين علیه السلام عند المولى سبحانه و تعالى، فمن هو هذا الذي تتحول التربة التي يقتل عليها إلى دم عبيط؟!

أ ليس هذا رجلاً عظيماً بلغ من المنزلة الكبيرة عند الله مقاماً لا يرقى إليه؟

نعم هو الإمام الحسين علیه السلام الذي عجزت العلماء عن كنه معرفته، و البلغاء عن تصوير عظمته، و حسبه عظمة أن يكون هو و أخوه الإمام الحسن علیهما السلام سيدي شباب أهل الجنة، و حسبه شرفاً أن يكون والد الأئمة من آل البيت علیهم السلام.

و بما أن الأحاديث تحوم حول كربلاء، و ما جرى فيها على الإمام الحسين علیه السلام، رأيت من المناسب أن أكتب شيئاً عن هذا الجانب، و أحببت أن يكون نقلاً مما

ص: 359


1- المعجم الكبير 23 / 373.

كتبته في كتاب آخر لأنقل ما في إحدى يدي إلى اليد الأخرى:

(تقف اللغة خاشعة أمام عظمة الإمام الحسين، و يقف البليغ مبهوراً و مبهوتاً أمام ذلك العملاق، و تخرس ألسن الفصحاء في محراب تضحياته..

ماذا عسى القائل أن يقول؟ و من أي المواقف سوف يبدأ؟ و نهضة الإمام الحسين علیه السلام تمثّلت فيها خلاصة المُثُل الإنسانية، و اختصرت كل المسافات ليبقى الحسين علیه السلام وحده قرآناً ناطقاً، و إسلاماً متجسداً، و إنساناً كاملاً، و روحاً مجردة عن كل ما يحطّ بالإنسان إلى الحضيض، كما كان من قبله جدّه المصطفى و أبوه المرتضى و أخوه المجتبى علیهم السلام.

اجتمعت في نهضة الإمام الحسين علیه السلام کل الإثارات المنبّهة للشعور الحي، ففيها الشجاعة التي لو سمع بها الجبان لهدرت في صدره النخوة و البطولة، و فيها المشاهد الحزينة التي تهزُّ حتى الحجر الصلد، و المواقف الإنسانية التي ينشرح لها صدر كل ذي ضمير طاهر) (1).

و يقول الكاتب المصري المعروف عباس محمود العقاد: (يخيل إلى الناظر في أعماله - الإمام الحسين - بكربلاء أن خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها، أيها يظفر بفخار اليوم، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، أم في صبره أصبر، أم في كرمه أكرم، أم في إيمانه و أنفته و غيرته على الحق بالغاً من تلك المناقب المثلى أقصى مداه.. إلّا انه كان يوم الشجاعة لا مراء، و كانت الشجاعة فضيلة الفضائل التي تمدها سائرها بروافد من خلق نبيل يعينها على شأنها.

فكان الحسين - شبل عليّ - في شجاعته الروحية و البدنية معاً غاية الغايات، و كان مضرب المثل بين الرعيل الأول من أشجع الشجعان في أبناء آدم و حواء.

ملك جأشه، وك ل شيء من حوله يوهن الجأش، و يحل عقدة العزم، و يغري

ص: 360


1- من كتاب (أهل البيت علیهم السلام في الشعر القطيفي المعاصر).

بالدعة و المجاراة..

ملك جأشه و من حوله نساؤه و أبناؤه في نضارة العمر، يجوعون و يظمئون، و يتشبثون به و يبكون، و ملك جأشه روية و أناة و لم يملكه و ثبة و اثب إلى الغضب أو هيجة مهتاج إلى الوغى، فكان قبل القتال و في حومة القتال قوياً بصيراً ينفض الضعف عن عزائمه، كما ينفض الأسد غبرات الحصباء عن لبده، و لم يخامره الأسف قط في ذلك الموقف المرهوب إلّا من أجل أحبائه و أعزائه الذين يراهم و يرونه و يسمع صيحتهم و يسمعونه) (1).

ص: 361


1- أبو الشهداء: ص 133.

(26)

المهدي علیه السلام من ولد فاطمة علیها السلام

1- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» (1).

2- عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله، عن النبي صلّى الله عليه و آله: «المهدي حق و هو من ولد

فاطمة (2).

3- سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت أم سلمة تقول: سمعت النبي صلّى الله عليه و آله يذكر المهدي فقال: «نعم هو حق و هو من بني فاطمة (3).

4- عن عبد الله بن الحارث، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «يبايع لرجل بين الركن و المقام عدة أهل بدر، فيأتيه عصائب أهل العراق، و أبدال أهل الشام، فيغزوهم جيش من أهل الشام، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم»... (4).

5- عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من بني هاشم من المدينة إلى مكة، فيجيئه ناس فيبايعونه بين الركن و المقام و هو كاره، فيجهز إليهم جيش من الشام حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم»... (5).

6- عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت: دخل على النبي صلّى الله عليه و آله و هو مسرور فقال: «ألا أبشركم، المهدي من ولد فاطمة (6).

و أحاديث الإمام المهدي علیه السلام، و عجل الله فرجه الشريف من الأحاديث التي

ص: 362


1- سنن أبي داود الحديث رقم: 3735، سنن ابن ماجة الحديث رقم: 4076.
2- التاريخ الكبير للبخاري 3 / 346.
3- المستدرك 4 / 600 ، المعجم الكبير 23 / 267.
4- المعجم الكبير 23 / 295.
5- سنن أبي داود الحديث رقم: 3737، المعجم الكبير 23 / 390.
6- تهذيب الكمال للمزي 9 / 437.

فاقت حد التواتر، فلا حاجة للبحث في أسنادها.

و قضية الإمام المهدي علیه السلام، و خروجه في آخر الزمان، و أنه من ولد سيدة نساء العالمين فاطمة، من القضايا التي أجمع المسلمون قاطبة عليها بدون مخالف في ذلك.

نعم اختلف المسلمون في تعيين ذلك الذي سيخرج و يملأ الأرض قسطاً و عدلاً، و هل أنه ولد أو سيولد؟ و هل أنه من أبناء الإمام الحسن علیه السلام أو من أبناء الإمام الحسين علیه السلام؟

ذهبت الشيعة الإمامية أعزهم الله بعزه، و أيدهم بنصره إلى أنه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت علیهم السلام، و أنه محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري بن الإمام علی الهادی علیهم السلام، و من ولد الإمام الحسين علیه السلام، و قد ولد في ليلة النصف من شعبان سنة 255 هجرية، و قد غيبه الله لمصلحة في علمه، و سيخرج في آخر الزمان ليطهر الأرض من الشرك و الإلحاد، و يملأها عدلاً بعد ما ملئت ظلما و جوراً. و تبعهم في هذا الرأي كثير من علماء أهل السنة و الجماعة، أحصاهم المحدث النوري في كتابه كشف الأستار فبلغوا الأربعين عالماً أو يزيدون، و ذكر جملة منهم السيد الأمين في كتابه أعيان الشيعة، و نقل كلماتهم.

منهم على سبيل المثال لا الحصر:

1- كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد القرشي الشافعي في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول).

2- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتابيه: (البيان في أخبار صاحب الزمان)، و (كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب).

3- نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المالكي في كتابه: (الفصول المهمة في معرفة الأئمة).

ص: 363

4- الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بسبط بن الجوزي في كتاب تذكرة الخواص).

و ذهب أكثر علماء أهل السنة إلى القول بأنه سيولد في ما بعد.

و ساق علماء الشيعة أدلتهم على موقفهم، و أشبعوا الموضوع في ذلك، و ردوا الشبهات التي أثارها أهل السنة، و البحث في جميع ذلك يخرجنا عن موضوع الكتاب، فلهذا نحيل القارئ إلى الكتب المعدة لذلك و هي كثيرة قديمة و حديثة، بحيث لا يبقى لطالب حق من عذر.

و بهذا الحديث نختم هذا الفصل من كتابنا، و لله الحمد و المنة في المبدأ و الختام، فهو الذي وفقنا لذلك و إلى غيره.

ص: 364

الفصل الثاني: ما حذفته الرقابة من أحاديث أم سلمة

ص: 365

ص: 366

هناك أحاديث متعددة في فضائل أهل البيت علیهم السلام روتها السيدة الجليلة أم سلمة لم تصلنا عن طريق كتب أهل السنة و الجماعة، و كادت تختفي في أعماق الزمن المظلم لولا أن قدّر الله فحفظها لنا علماء الطائفة المحقة رحمهم الله.

و من الطبيعي أن تحذف مثل هذه الروايات، بل من غير الطبيعي أن تبقى هي أو تلك الروايات التي مرَّ استعراضها، لأنها لم تكن تلقى قبولاً من قبل بني أمية و بني العباس الذين أخذوا على عاتقهم أن يمحوا ذكر الإمام علي علیه السلام مهما كلف الأمر و بلغ الثمن، و التأريخ شاهد صدق على ما نقول، و في مطاوي ما ذكرنا في البحث السابق ما يثبت للقراء ذلك، ولكن شاء الله سبحانه - و ما شاء كان - أن تحفظ هذه الأحاديث مثل غيرها من أحاديث الفضائل لتبقى على طول التأريخ حجة على من يقرأها أو يسمع بها، و لله الحجة البالغة.

و لم أتعب نفسي في تحقيق أسناد هذه الأحاديث كما صنعت في الأحاديث المتقدمة لأنها لم ترو عن طريق العامة فبإمكانهم أن يخدشوا في سندها بأن رواتها شيعة، أو الكتاب الذي وجدت فيه لكاتب شيعي و هو مرفوض عندهم و لا سيما المتأخرين من أبناء العامة، مع أن رواة الشيعة دخلوا في كتبهم المعتمدة بما لم يمكنهم تركهم و إلا لذهبت كثير من آثارهم، و لقد كانوا شيوخاً لعلمائهم و أئمة الحديث عندهم، و أخذ عنهم علماء الحديث الشيء الكثير، و حسبك أن يكون في كتاب البخاري ما يزيد على مائة راو شيعي، كما أحصاه العلامة شرف الدين في كتابه المراجعات، و أحصاه العلامة الأميني في كتابه المفخرة (الغدير)، هذا مع ما

ص: 367

طبع عليه البخاري من البغض لأهل البيت علیهم السلام و شيعتهم، حتى أنه روى عن الخوارج و النواصب و من عرف ببغضه و عدائه الشديد لأهل البيت علیهم السلام و لم يرو عن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام صادق القول و العمل، أستاذ أبي حنيفة و مالك و الكثير من علماء أهل السنة و أئمتهم، و لم يرو عن أولاد الإمام الصادق علیه السلام من أئمة أهل البيت علیهم السلام و حملة رسالة جدهم صلّى الله عليه و آله، و هم من عرفوا بالصدق و الأمانة و العلم و الإيمان و التقوى و الزهد...

و إن أردت معرفة المزيد عن رواة الشيعة الذين دخلوا في كتب السنة فراجع الميزان للذهبي في ترجمة أبان بن تغلب لتعرف صدق ما نقول.

و مهما يكن من شيء فإني أحببت أن أقتصر في هذا الفصل على ذكر الروايات سرداً، و أجمعها جمعاً كما وجدتها في كتب الحديث، و الله الموفق و المسدد.

1- جاء في البحار: و قال البرسي في مشارق الأنوار: روى المفيد باسناده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لعلي علیه السلام: يا علي! إن محبيك يفرحون في ثلاثة مواطن: عند خروج أنفسهم و أنت هناك تشهدهم، و عند المساءلة في القبور و أنت هناك تلقنهم، و عند العرض على الله و أنت هناك تعرفهم (1).

2- و في البحار أيضاً: عن كتاب المحتضر للحسن بن سليمان، ناقلاً من كتاب جمعه السيد حسن بن كبش الحسيني بإسناده عن المفيد، رفع الحديث إلى أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لعلي علیه السلام: يا علي إخوانك يفرحون في أربعة مواطن: عند خروج أنفسهم و أنا و أنت شاهدهم، و عند المسائلة في قبورهم، و عند العرض، و عند الصراط (2).

3- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان نبي الله صلّى الله عليه و آله قائلاً في بيتي إذ انتبه

ص: 368


1- البحار 6 / 200.
2- البحار 27 / 164.

فزعاً من منامه فقلت له: الله جارك! قال: «صدقت، الله جاري، لكن هذا جبرئيل علیه السلام يخبرني أن علياً علیه السلام قادم»، ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليا علیه السلام، فقام المسلمون له صفين مع رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلمّا بصر بالنبي صلّى الله عليه و آله ترجّل عن فرسه و أهوى إلى قدميه يقبّلهما، فقال له صلّى الله عليه و آله: «اركب فإن الله تعالى و رسوله عنك راضيان»، فبكى أمير المؤمنين علیه السلام فرحاً و انصرف إلى منزله، و تسلم المسلمون الغنائم، فقال النبي صلّى الله عليه و آله لبعض من كان معه في الجيش: «كيف رأيتم أميركم؟» قالوا: لم ننكر منه شيئاً إلا انه لم يؤم بنا في صلاة إلا قرأ فيها بقل هو الله، فقال النبي صلّى الله عليه و آله أ سأله عن ذلك، فلمّا جاءه قال له: لِمَ لم تقرأ بهم في فرائضك إلا بسورة الإخلاص؟ فقال: يا رسول الله أحببتها، قال له النبي صلّى الله عليه و آله: «فإن الله قد أحبك كما أحببتها»، ثم قال له: «يا علي لولا أني أشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملأ منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك».

و قد ذكر كثير من أصحاب السير أن في هذه الغزاة نزل على النبي صلّى الله عليه و آله (وَ ٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحًا) إلى آخرها، فتضمنت ذكر الحال فيما فعله أمير المؤمنين علیه السلام فيها (1).

و من الجدير بالذكر أن عائشة قد نقلت هذه الرواية ولكنها لم تنقل التفاصيل كاملة، كما أنها لم تفصح عن اسم أمير الجيش، و أترك التعليق على ذلك للقارئ الكريم، و الرواية التي روتها عائشة هي كما في صحيح ابن حبان:

عن عائشة: ثم أن رسول الله صلّى الله عليه و آله بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم: قل هو الله أحد، و لما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه و آله فقال: «سلوه: لأي شيء صنع هذا؟» فسألوه، فقال: «أنا أحب أن أقرأها»، فقال رسول الله: أخبروه أن الله يحبه» (2).

ص: 369


1- الإرشاد 1 / 103، البحار 21 / 81.
2- 73:3.

و ليست هذه الحركة بدعاً من حركات عائشة تجاه أمير المؤمنين علیه السلام، فقد روى عائشة البخاري عن عائشة و هي تحدث عن آخر أيام النبي صلّى الله عليه و آله: فخرج النبي صلّى الله عليه و آله بين رجلين، تخط رجلاه في الأرض، بين عباس و رجل آخر، قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس، فقال: «أتدري من الرجل الآخر؟» قلت: لا، قال: «هو علي» (1).

فهل تراها نسيت من هو الرجل الآخر؟! لا أظن ذلك، ولكن لأمر ما يدور في ذهن المرأة.

4- البحار: عن عبد العزيز بن سعيد الأنصاري، عن أبيه، عن جده، و كانت له صحبة، عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله قالت: حج رسول الله صلّى الله عليه و آله عام حجة الوداع بأزواجه، فكان يأوي فى كل يوم و ليلة إلى امرأة منهن - و هو حرام - يبتغي بذلك العدل بينهنّ قالت: فلمّا أن كانت ليلة عائشة و يومها خلا رسول الله صلّى الله عليه و آله بعلي بن أبي طالب علیه السلام يناجيه و هما يسيران فأطال مناجاته، فشق ذلك على عائشة فقالت: إني أريد أن أذهب إلى علي فأناله، أو قالت: أ تناوله بلساني في حبسه رسول الله صلّى الله عليه و آله عني، فنهيتها فنصّت ناقتها في السير، ثم إنها رجعت إلى و هي تبكي، فقلت: ما لك؟

فقالت: إني أتيت النبي صلّى الله عليه و آله فقلت: يا ابن أبي طالب! ما تزال تحبس عني رسول الله صلّى الله عليه و آله؟

فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «لا تحولي بيني و بين علي، إنه لا يخافه في أحد، و إنه لا يبغضه - و الذي نفسي بيده - مؤمن، و لا يحبه كافر، ألا إن الحق بعدي مع علي، يميل معه حيث ما مال، لا يفترقان جميعاً حتى يردا على الحوض».

قالت أم سلمة: فقلت لها: قد كنت نهيتك فأبيت إلا ما صنعت (2).

5- عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله في مرضه الذي توفي

ص: 370


1- البخاري 1 / 83.
2- البحار 22 / 243.

فيه: «ادعوا لي خليلي»، فأرسلت عائشة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله صلّى الله عليه و آله وجهه و قال: «ادعوا لي خليلي»، فرجع أبو بكر و بعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله صلّى الله عليه و آله وجهه و قال: «ادعوا لي خليلي»، فرجع عمر و أرسلت فاطمة إلى علي علیه السلام، فلما جاء قام رسول الله صلّى الله عليه و آله فدخل، ثم جلل عليا علیه السلام بثوبه.

قال علي علیه السلام: «فحدثني بألف حديث، يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت و عرق رسول الله صلّى الله عليه و آله فسال علي عرقه، و سال عليه عرقي» (1).

6- أبو ثابت مولى أبي ذر سمعت أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله في مرضه الذي قبض فيه يقول - و قد امتلأت الحجرة من أصحابه - : «أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي و قد قدمت إليكم القول - معذرة إليكم - : ألا إني مخلف فيكم كتاب الله ربي عزّ و جل و عترتي أهل بيتي»، ثم أخذ بيد علی علیه السلام فرفعها فقال: «هذا علي مع القرآن و القرآن مع علي خليفتان نصيران لا يفترقان حتى يردا على الحوض فأسألهما ما ذا خلفت فيهما» (2).

7- عن عمر بن أبي سلمة عن أمه أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «علي بن أبي طالب و الأئمة من ولده بعدي سادة أهل الأرض، و قادة الغر المحجلين يوم القيامة» (3).

8- عن قيس بن أبي حازم عن أم سلمة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه و آله عن قول الله سبحانه و تعالى: (فَأُوۡلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ-ۧنَ وَ ٱلصِّدِّيقِينَ وَ ٱلشُّهَدَآءِ وَ ٱلصَّٰلِحِينَ وَ حَسُنَ أُوۡلَٰٓئِكَ رَفِيقًا)

(4).

قال: «الذين أنعم الله عليهم من النبيين أنا، و الصديقين علي بن أبي طالب، و الشهداء الحسن و الحسين، و الصالحين حمزة، و حسن أولئك رفيقاً الأئمة الاثنا عشر

ص: 371


1- البحار 22 / 461.
2- البحار 22 / 476.
3- البحار 23 / 127.
4- سورة النساء: 69.

بعدی» (1).

9- عن جابر بن يزيد عن محمد بن علي الباقر علیه السلام قال: سئلت أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه و آله عن علي بن أبي طالب علیه السلام فقالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «إن شيعته هم الفائزون» (2).

10- عن إبراهيم القرشي قال: كنا عند أم سلمة رضي الله عنها فقالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول لعلي علیه السلام: «يا علي لا يبغضكم إلا ثلاثة: ولد زنا، و منافق، و من حملت به أمه و هي حائض» (3).

11- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله في حديث طويل يقول في آخره: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال الأم سلمة رضي الله عنها: «يا أم سلمة اسمعي و اشهدي! هذا علي بن أبي طالب أخي في الدنيا، و أخي في الآخرة، يا أم سلمة اسمعي و اشهدي، هذا علي بن أبي طالب وزيري في الدنيا، و وزيري في الآخرة، يا أم سلمة اسمعي و اشهدي هذا علي بن أبي طالب حامل لوائي في الدنيا، و حامل لواء الحمد غداً في القيامة، يا أم سلمة اسمعي و اشهدي هذا علي بن أبي طالب وصيي و خليفتي من بعدى و قاضي عداتي و الذائد عن حوضي، يا أم سلمة اسمعي و اشهدي هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين، و إمام المتقين، و قائد الغر المحجلين، و قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين».

قلت: يا رسول الله من الناكثون؟

قال «الذين يبايعونه بالمدينة و ينكثونه بالبصرة».

قلت: من القاسطون؟

قال: «معاوية و أصحابه من أهل الشام».

ص: 372


1- البحار 36 / 347، البحار 23 / 336، كفاية الأثر ص 183.
2- الإرشاد (361 ، البحار 143/27.
3- علل الشرائع 142/1، البحار 27/ 150.

ثم قلت: من المارقون؟

قال: «أصحاب النهروان» (1).

12- عن أبي الأسود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «الأئمة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، أعطاهم الله علمي و فهمي، فالويل لمبغضيهم» (2). 3

13 - عن أبي ثابت مولى أبي ذر، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله: «لما أسري بي إلى السماء نظرت فإذا مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله أيدته بعلي و نصرته بعلي، و رأيت أنوار علي و فاطمة و الحسن و الحسين، و أنوار علي بن الحسين، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد، و موسى بن جعفر، و علي بن موسى، و محمد بن علي، و علي بن محمد، و الحسن بن علي، و رأيت نور الحجة يتلألاً من بينهم كأنه كوكب درّي، فقلت: يا رب من هذا؟ و من هؤلاء؟ فنودیت: يا محمد! هذا نور علي و فاطمة، و هذا نور سبطيك الحسن و الحسين، و هذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين، مطهرون معصومون، و هذا الحجة الذي يملأ الدنيا قسطاً و عدلاً» (3).

14 - عن ميمونة و أم سلمة زوجي النبي صلّى الله عليه و آله قالتا: استسقى الحسن فقام رسول الله صلّى الله عليه و آله فجرح له في غمر كان لهم، يعني قدحاً يشرب فيه، ثم أتاه به فقام الحسين علیه السلام فقال: «اسقنيه يا أبه فأعطاه الحسن»، ثم جدح إليه علیه السلام فسقاه، فقالت: فاطمة علیها السلام: «كأن الحسن أحبهما إليك»؟

قال: «إنه استسقى قبله و إني و إياك و هما و هذا الراقد في مكان واحد في الجنة» (4).

15- روي عن أم سلمة أن فاطمة علیها السلام جاءت إلى النبي حاملة حسناً و حسيناً و قد حملت فخاراً فيه حريرة، فقال: «ادعي ابن عمك» فأجلس أحدهما على فخذه

ص: 373


1- البحار 298/32.
2- البحار 36/ 347، كفاية الأثر ص 184.
3- البحار 348/36.
4- البحار 37/ 77.

اليمنى و الآخر على فخذه اليسرى و جعل علياً و فاطمة أحدهما بين يديه و الآخر خلفه فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»، ثلاث مرات و أنا عند عتبة الباب فقلت: و أنا منهم؟

قال: «أنت إلى خير». و ما في البيت أحد غير هؤلاء و جبرئيل.

ثم أغدف خميصة كساء خيبري فجلّلهم به و هو معهم، ثم أتاهم جبرئيل بطبق فيه رمان و عنب فأكل النبي صلّى الله عليه و آله، فسبّح ، ثم أكل الحسن و الحسين علیهما السلام فتناولا منه فسبّح العنب و الرمان في أيديهما، فدخل علي علیه السلام فتناول منه فسبّح أيضاً، ثم دخل رجل من أصحابه و أراد أن يتناول فلم يسبّح، فقال جبرئيل: «إنما يأكل من هذا نبي و وصى و ولد نبي» (1).

16- عن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لأم سلمة: يا أم سلمة «علي مني و أنا من علي لحمه من لحمي، و دمه من دمي، و هو مني بمنزلة هارون من موسى، يا أم سلمة! اسمعي و اشهدي هذا علي سيد المسلمين» (2).

17- عن أم سلمة زوجة النبى الله صلّى الله عليه و آله قالت : قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إن الله اختار من كل أمة نبياً و اختار لكل نبي وصياً، فأنا نبي هذه الأمة، و علي وصيي في عترتي و أهل بيتي و أمتي من بعدي».

فهذا ما شهدت من علي، الآن يا أبه فسبّه أو دعه فأقبل أبوها يناجي الليل و النهار: اللهمّ اغفر لي ما جهلت من أمر علي، فأنا ولي ولي علي، و عدو عدو علي، و تاب المولى توبة نصوحاً، و أقبل فيما بقي من دهره يدعو الله أن يغفر له (3).

و قد مرّت عن كتب العامة، و إنما أعدناها لما في جوابها من الزيادة.

18 - عن أبي رافع أنه دخل رجل على أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه و آله فأخبرها بیوم

ص: 374


1- البحار 100/37.
2- البحار 254/37.
3- البحار 254/37.

الجمل فقالت: إلى أين طار قلبك إذ طارت القلوب مطائرها؟

قال: كنت يا أم المؤمنين مع علي بن أبي طالب علیه السلام.

قالت: أحسنت و أصبت أما إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «يرد على الحوض و أشياعه و الحق معهم لا يفارقونه» (1).

19- عن ابن مسلم قال: خرجت مع الحسن البصري و أنس بن مالك حتى أتينا باب أم سلمة، فقعد أنس على الباب و دخلت مع الحسن البصري فسمعت الحسن و هو يقول: السلام عليك يا أماه و رحمة الله و بركاته، فقالت له: و عليك السلام، من أنت يا بني؟

قال: أنا الحسن البصري.

فقالت: فيما جئت يا حسن؟

فقال لها: جئت لتحدثيني بحديث سمعتيه من رسول الله صلّى الله عليه و آله في علي بن أبي طالب.

فقالت أم سلمة: و الله لأحدّثَنكَ بحديث سمعته أذناي من رسول الله و إلا فصمّتا، و رأته عيناي و إلا فعميتا، و وعاه قلبي و إلا فطبع الله عليه، و أخرس لساني إن لم أكن سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول لعلي بن أبي طالب علیه السلام: «يا علي ما من عبد لقي الله يوم يلقاه جاحداً لولايتك إلا لقي الله بعبادة صنم أو وثن».

قال: فسمعت الحسن البصري و هو يقول: الله أكبر أشهد أن علياً مولاي و مولى المؤمنين، فلمّا خرج قال له أنس بن مالك: ما لي أراك تكبّر؟ قال: سألت أمّنا أم سلمة: أن تحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه و آله في علي فقالت: لي كذا و كذا، فقلت: الله أكبر، أشهد أن علياً مولاي و مولى كل مؤمن.

قال: فسمعت عند ذلك أنس بن مالك و هو يقول: أشهد على رسول الله صلّى الله عليه و آله أنه

ص: 375


1- البحار 29/38.

قال: هذه المقالة ثلاث مرات أو أربع مرات (1).

ولكن لم يجد هذا السماع إلى قلبهما طريقاً، فلم يؤثر على سلوكهما العملي تجاه أمير المؤمنين علیه السلام.

20- عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: إنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «ما قوم اجتمعوا يذكرون فضل علي بن أبي طالب إلا هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحف بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء فيقول لهم الملائكة: إنا نشم من رائحتكم ما لا نشمه من الملائكة فلم نر رائحة أطيب منها! فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً و أهل بيته فعلق فينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا و مضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: اهبطوا بنا حتى نتعطر بذلك المكان» (2).

21- بلغ عمر بن عبد العزيز أن قوماً تنقصوا علياً بن أبي طالب فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي صلّى الله عليه و آله و ذكر علياً و فضله و سابقته، ثم قال: حدثني عراك بن مالك الغفاري عن أم سلمة قالت: بينا رسول الله صلّى الله عليه و آله عندي إذ أتاه جبرئيل فناداه فتبسم رسول الله صلّى الله عليه و آله ضاحكاً، فلما سرى عنه قلت: بأبي أنت و أمي یا رسول الله ما أضحكك؟

فقال: أخبرني جبرئيل أنه مرّ بعلي علیه السلام و هو يرعى ذوداً له و هو نائم قد أبدى بعض جسده، قال: فرددت عليه ثوبه فوجدت برد إيمانه قد وصل إلى قلبي (3).

22 - و من ذلك ما روته أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله من طريق مساور الحميري عن أمه قالت: قالت أم سلمة: و الله لقد أسلم على بن أبي طالب علیه السلام أول الناس و ما كان كافراً (4).

ص: 376


1- البحار 100/38.
2- البحار 199/38.
3- البحار /38/ 248، 100/39.
4- البحار 271/38.

23- عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن سلمة و عن أبيه عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول لعلي: «أنت أخي و حبيبي فمن أرادك أرادني» (1).

24- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قلت لأم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله: إنك لتكثرين من القول الطيب في علي بن أبي طالب دون نساء النبي صلّى الله عليه و آله فهل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و آله في علي شيئاً لم يسمعه غيرك؟

قالت: يا ابن عباس! أما ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و آله فهو أكثر مما أقدر أن أخبرك به، ولكني أخبرك من ذلك بما يكفيك و يشفيك: سمعته يقول في علي قبل موته بجمعة، فإن زاد على جمعة فلن يزيد على عشرة أيام، و هو يقول في بيتي قبل أن يتحرك إلى بيت عائشة، و قبل أن يقطع الطواف على نسائه، فدخل علي بن طالب فسلم حفياً توقيراً لرسول الله صلّى الله عليه و آله، و ردّ عليه معلناً كالمسرور بأخيه المحب له، ثم قبض على يده فقال: «أعلي»؟

قال: «نعم يا رسول الله».

قال: «يا علي أنت أخي في الدنيا و الآخرة، و بكى علي و لا يرفع بصره تعظيماً لرسول الله صلّى الله عليه و آله».

قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله إلى من تكلنا؟ و إلى من توصي بأمرنا؟.

قال: «أكلكم إلى العزيز الغفار كما دعوتكم إليه، و أوصي بكم إلى هذا و أشار إلى علي، يا أم سلمة! هذا هو الوصي على الأموات من أهل بيتي، و الخليفة على الأحياء في الدنيا، و هو قريني في الجنة كما هو أخي في الدنيا، و هو معي في الدرجة العليا، اسمعي يا أم سلمة قولي و احفظي وصيتي و اشهدي و أبلغي: أن علياً هذا أخي في الدنيا و الآخرة، نيط لحمه بلحمي، و دمه بدمي، منّي ابنتي فاطمة، و منه و منها ولداي الحسن و الحسن، و علي أخي و ابن عمي و رفيقي في الجنة، و هو مني بمنزلة هارون من موسى

ص: 377


1- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام 310/1.

غير أنه لا نبي بعدي.

يا أم سلمة! علي سيد كل مسلم، إذ كان أولهم إسلاماً، و ولي كل مسلم، إذ كان أسبقهم إلى الإيمان.

يا أم سلمة! علي معدن كل علم، إذ لم يتلوث بالشرك منذ كان، يا أم سلمة! علي يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين بعدي.

يا أم سلمة! قال لي جبرئيل يوم عرفة بعرفات: يا محمد إن الله باهى بكم في هذا اليوم فغفر لكم عامة، و باهي بعلي خاصة و عامة.

يا أم سلمة! علي إمامكم فاقتدوا به و أحبوه بعدي كحبي، و أكرموه لكرامتي، ما قلت هذا لكم من قبلي ولكن أمرت أن أقوله».

ثم قالت أم سلمة: يكفيك هذا يا ابن عباس؟

فقلت: بلى يكفيني.

ثم قال ابن عباس: أما الناكثون فقوم بايعوا علياً بالمدينة و نكثوا بيعته بالبصرة، و القاسطون عندنا هم معاوية و أصحابه، و المارقون أهل النخلة و النهروان (1).

25- في كتاب الغيبة: ثم قال علي صلوات الله عليه لأبي الدرداء و أبي هريرة و من حوله: يا أيها الناس أ تعلمون أن الله تبارك و تعالى أنزل في كتابه (إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَ يُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرًا) (2)، فجمعني رسول الله و فاطمة و الحسن و الحسين في كساء، ثم قال: «اللهم هؤلاء أحبتي و عترتي و ثقلي و خاصتي و أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً»

فقالت: أم سلمة: و أنا؟

فقال صلّى الله عليه و آله لها: «و أنت إلى خير، إنما أنزلت في و في أخي علي و في ابنتي فاطمة و في ابني الحسن و الحسين و في تسعة من ولد الحسين خاصة ليس فيها معنا أحد غيرنا».

ص: 378


1- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام 354/1.
2- سورة الأحزاب: 33.

فقام جل الناس فقالوا: نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك، فسألنا رسول الله صلّى الله عليه و آله فحدثنا كما حدثتنا أم سلمة (1).

26- عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله لعلي: «يا علي إن الله تبارك و تعالى وهب لك حبّ المساكين و المستضعفين في الأرض فرضيت بهم إخواناً و رضوا بك إماماً، فطوبى لك و لمن أحبّك و صدّق فيك، و ويل لمن أبغضك و كذب عليك.

يا علي أنا مدينة العلم و أنت بابها، و ما تؤتى المدينة إلا من الباب.

يا علي أهل مودتك كل أواب حفيظ، و أهل ولايتك كل أشعث ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبر قسمه.

يا علي إخوانك في أربعة أماكن فرحون: عند خروج أنفسهم و أنا و أنت شاهدهم، و عند المسائلة في قبورهم، و عند العرض، و عند الصراط.

يا علي حربك حربي و حربي حرب الله، من سالمك فقد سالمني و من سالمني فقد سالم الله.

يا علي بشّر شيعتك أن الله قد رضي عنهم، و رضيك لهم قائداً و رضوا بك ولياً.

يا علي أنت مولى المؤمنين و قائد الغر المحجّلين و أنت أبو سبطي و أبو الأئمة التسعة من صلب الحسين، و منّا مهدي هذه الأمة.

يا علي شيعتك المنتجبون و لولا أنت و شيعتك ما قام دين الله» (2).

27- عن الأعمش عن عباية الأسدي قال: كان عبد الله بن العباس جالساً على شفير زمزم يحدث الناس، فلما فرغ من حديثه أتاه رجل فسلم عليه، ثم قال: يا عبد الله إني رجل من أهل الشام فقال: أعوان كل ظالم إلا من عصم الله منكم، سل عمّا بدا لك فقال: يا عبد الله بن عباس إني جئتك أسألك بن عباس إني جئتك أسألك عمن قتله علي بن أبي طالب من أهل لا إله إلا الله لم يكفروا بصلاة و لا بحج و لا بصوم شهر رمضان و لا

ص: 379


1- كتاب الغيبة ص 72.
2- كفاية الأثر ص 184.

بزكاة؟!

فقال له عبد الله: ثكلتك أمك سل عما يعنيك و دع مالا يعنيك.

فقال: ما جئتك أضرب إليك من حمص للحج و لا للعمرة، ولكني أتيتك لتشرح لي أمر على بن أبي طالب و فعاله.

فقال له: و يلك إن علم العالم صعب لا تحتمله و لا تقربه القلوب الصدئة، أخبرك أن علي بن أبي طالب كان مثله في هذه الأمة كمثل موسى و العالم علیهما السلام، و ذلك إن الله تبارك و تعالى قال في كتابه: (يَٰا مُوسَیٰٓ إِنِّی ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَی ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِی وَ بِكَلَٰمِی فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَ كُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ * وَ كَتَبۡنَا لَهُۥ فِی ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَیۡءٍ مَّوۡعِظَةً وَ تَفۡصِيلاً لِّكُلِّ شَیۡءٍ) (1) فكان موسى يرى أن الأشياء قد أثبتت له كما ترون أنتم أن علماءكم قد أثبتوا جميع الأشياء، فلما انتهى موسى علیه السلام إلى ساحل البحر فلقي العالم فاستنطق بموسى ليصل علمه، و لم يحسده كما حسدتم أنتم علي بن أبي طالب و أنكرتم فضله، فقال له موسى علیه السلام: (هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَیٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدًا) (2).

فعلم العالم أن موسى لا يطيق بصحبته، و لا يصير على علمه فقال له: (إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِیَ صَبۡرًا) (3)، و كيف يصبر على ما لم يحط به خبرا.

فقال له موسى: (سَتَجِدُنِیٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرًا وَ لَآ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرًا).

فعلم العالم أن موسى لا يصبر على علمه.

فقال: (فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِی فَلَا تَسۡ-َٔلۡنِی عَن شَیۡءٍ حَتَّیٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرًا).

قال: فركبا في السفينة فخرقها العالم و كان خرقها لله عزّ و جل رضى. و سخطا لموسى، و لقي الغلام فقتله فكان قتله لله عزّ و جل رضى و سخط لموسى، و أقام

ص: 380


1- سورة الأعراف: 144-145.
2- سورة الكهف: 66.
3- سورة الكهف: 67.

الجدار فكان إقامته لله عزّ و جل رضى و سخط لموسى، كذلك كان علي بن أبي طالب علیه السلام لم يقتل إلا من كان قتله لله رضا و لأهل الجهالة من الناس سخطاً، أجلس حتى أخبرك: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله تزوج زينب بنت جحش فأولم، و كانت وليمته الحيس و كان يدعو عشرة عشرة، فكانوا إذا أصابوا إطعام رسول الله صلّى الله عليه و آله استأنسوا إلى حديثه و استغنموا النظر إلى وجهه، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يشتهي أن يخففوا عنه فيخلو له المنزل لأنه حديث عهد بعرس، و كان يكره أذى المؤمنين له فأنزل الله عزّوجل فيه قرآنا أدبا للمؤمنين، و ذلك قوله عزّوجل: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِیِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَیٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَ لَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَ لَا مُسۡتَ-ٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِی ٱلنَّبِیَّ فَيَسۡتَحۡیِۦ مِنكُمۡ وَ ٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡیِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّ) (1)، فلما نزلت هذه الآية كان الناس إذا أصابوا طعام نبيهم صلّى الله عليه و آله لم يلبثوا أن يخرجوا.

قال: فلبث رسول صلّى الله عليه و آله سبعة أيام و ليالهن عند زينب بنت جحش ثم تحول إلى بيت أم سلمة ابنة أبي أمية و كان ليلتها و صبيحة يومها من رسول الله صلّى الله عليه و آله، قال: فلما تعالى النهار انتهى على علیه السلام إلى الباب فدقه دقاً خفيفاً له عرف رسول الله صلّى الله عليه و آله دقّه و أنكرته أم سلمة، فقال يا أم سلمة: قومي فافتحي له الباب، فقالت: يا رسول الله! من هذا الذي يبلغ من خطره أن أقوم له فأفتح له الباب، و قد نزل فينا بالأمس ما قد نزل من قول الله عز ّو جل: (وَ إِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعًا فَسۡ-َٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ) (2)، فمن هذا الذي بلغ من خطره أن أستقبله بمحاسني و معاصمي؟!

قال: فقال لها رسول الله صلّى الله عليه و آله كهيئة المغضب: «من يطع الرسول فقد أطاع الله، قومي فافتحي له الباب، فإن بالباب رجلاً ليس بالخرق و لا بالنزق و لا بالعجول في أمره، يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله، و ليس بفاتح الباب حتى يتوارى عنه

ص: 381


1- سورة الأحزاب: 53.
2- سورة الاحزاب: 53.

الوطئ»، فقامت أم سلمة و هي لا تدري من بالباب غير أنها قد حفظت النعت و المدح، فمشت نحو الباب و هي تقول: بخ بخ الرجل يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله، ففتحت له الباب.

قال: فأمسك بعضادتي الباب و لم يزل قائماً حتى خفي عنه الوطئ و دخلت أم سلمة خدرها، ففتح الباب و دخل فسلم على رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال رسول الله: «يا أم سلمة تعرفينه؟».

قالت: نعم و هنيئاً له هذا علي بن أبي طالب.

فقال: «صدقت يا أم سلمة هذا علي بن أبي طالب، لحمه من لحمي و دمه من دمي و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سلمة اسمعي و اشهدي هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، و سيد المسلمين، و هو عيبة علمي، و بابي الذي أوتى منه، و هو الوصي بعدي على الأموات من أهل بيتي، و الخليفة على الأحياء من أمتي، و أخي في الدنيا و الآخرة، و هو معي في السنام الأعلى، اشهدي يا أم سلمة و احفظي إنه يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين».

فقال الشامي: فرجّت عني يا عبد الله، أشهد أن علي بن أبي طالب مولاي و مولى كل مسلم (1).

و أورد الرواية صاحب كتاب مناقب أمير المؤمنين علیه السلام و فيه بعض الاختلاف فقد جاء في الأخير هكذا: اشهدي يا أم سلمة: «إنه سيد المسلمين من بعدي و أمير المؤمنين و قائد الغر المحجلين و إمام المتقين».

اشهدي يا أم سلمة: «أن لحمه من لحمي و دمه من دمي».

اشهدي يا أم سلمة: «أنه أخي في الدنيا و رفيقي في الجنة».

اشهدي يا أم سلمة: «أنه يبعث يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة يقال لها:

ص: 382


1- البحار 13 / 293، 245/32.

محبوبة تصك ركبته مع ركبتي و فخذه مع فخذي».

اشهدي يا أم سلمة: «أنه معي على الصراط يقول لأعدائنا أهل البيت: تعستم تعستم».

اشهدي يا أم سلمة: «أنه يقاتل من بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين».

اشهدي يا أم سلمة: «أنه مع الحق يزول حيث ما زال، لا أخاف عليه فتنة و لا بلاء حتى يلقاني و قد وعدني ربي - و لن يخلف الميعاد - أنه يحفظني فيه و يسلم دينه حتى يلقاني».

فقال الشامي: فرجت عني يا عبد الله أشهد أن علي بن أبي طالب مولاي و مولى كل مسلم (1).

28- في البحار عن (ما) بسنده عن يحيى بن العلاء الرازي قال: دخل علي علیه السلام علی رسول الله صلّى الله عليه و آله و هو في بيت أم سلمة فلما رآه قال: كيف أنت يا علي إذا جمعت الأمم و وضعت الموازين و برز لعرض خلقه و دعى الناس إلى ما لابدّ منه؟

قال: فدمعت عين أمير المؤمنين علیه السلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «ما يبكيك يا علي! تدعى و الله أنت و شيعتك غراً محجلين رواء مرويين مبيضة وجوههم، و يدعى بعدوك مسودة وجوههم أشقياء معذبين، أما سمعت إلى قول الله: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوۡلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ) (2)، أنت و شيعتك، و الذين كفروا بآياتنا أولئك هم شر البرية عدوك يا علي» (3).

29- عن محمد بن ثابت الأنصاري عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «لا يزال الدين مع علي و علي معه حتى يردا علي الحوض» (4).

30- إسماعيل بن أبان بإسناده عن أم سلمة قالت: دعا رسول الله صلّى الله عليه و آله فاطمة

ص: 383


1- مناقب أمير المؤمنين علیه السلام: 1 / 366.
2- البينة: 7.
3- البحار 182/7.
4- مناقب أمير المؤمنين علیه السلام: 2 / 616.

و الحسن و الحسين علیهم السلام فأخذ الحسن فوضعه على صدره و احتضن الحسين على ذراعه.

قالت أم سلمة: و كنت أنا جالسة خلفه و فاطمة بين يديه فلبث هوياً من الليل لا نرى إلا أنه قد رقد فزجل الحسين عن ذراعه فذهبت لأخذه فسبقني إليه لأخذه فقلت: يا رسول الله ما كنت أراك إلا نائماً؟

قال: ما نمت مذ أتوني، ثم قال لفاطمة بعد ما مضى من الليل صدر: أتي أهلك لا أرى إلا و قد أعجبهم أن تأتيهم، فحملت الحسين و مشى الحسن بين يديها و جلس رسول الله صلّى الله عليه و آله ينظر إليهم، ثم قال: «اللهم هؤلاء عترتي و أهل بيتي اللهم إني أحبهم فأحبهم» - ثلاث مرات - (1).

31- عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه و آله عليلاً و كان علي بن أبي طالب يحب أن لا يسبقه إليه أحد فغدا إليه ذات يوم و هو في صحن داره فإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي فسلم عليه فرد علیه السلام، ثم قال: «يا حبيبي أدن مني، لک عندي مدحة نزفها إليك: أنت أمير المؤمنين و قائد الغر المحجلين و سيد ولد آدم يوم القيامة ما خلا النبيين و المرسلين، لواء الحمد بيدك، تزف أنت و شيعتك معي زفاً قد أفلح من تولّاك و خاب و خسر من تخلاك، محبو محمد محبوك و مبغضو محمد مبغضوك لن تنالهم شفاعتي، أدن مني» قالت: فأخذ رأس النبي صلّى الله عليه و آله فوضعه في حجره (2).

32- و عن أم سلمة عنه صلّى الله عليه و آله قال: لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفو (3).

33- في البحار عن المناقب: ابن عباس و ابن مسعود و جابر و البراء و أنس و أم سلمة و السدي و ابن سيرين و الباقر علیه السلام في قوله تعالى: (وَ هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرًا

ص: 384


1- شرح الأخبار 3/ 85.
2- البحار 40 / 16.
3- البحار 77/40.

فَجَعَلَهُۥ نَسَبًا وَ صِهۡرًا) (1) قالوا: هو محمد و علي و الحسن و الحسين علیهم السلام، (وَ كَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) القائم في آخر الزمان لأنه لم يجتمع نسب و سبب في الصحابة و القرابة إلا له فلاجل ذلك استحق الميراث بالنسب و السبب (2).

34- أقول روى بعض مؤلفي أصحابنا عن هشام بن عروة عن أم سلمة أنها قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله يلبس ولده الحسين علیه السلام حلة ليست من ثياب الدنيا، فقلت له: يا رسول الله ما هذه الحلة؟ فقال: «هذه هدية أهداها إلي ربي له علیه السلام، و إن لحمتها من زغب جناح جبرئيل، و ها أنا ألبسه إياها و أزينه بها، فإن اليوم يوم الزينة و إني أحبه» (3).

35- و روي في مؤلفات بعض الأصحاب عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه و آله ذات يوم و دخل في إثره الحسن و الحسين علیهما السلام و جلسا إلى جانبيه، فأخذ الحسن على ركبته اليمنى و الحسين على ركبته اليسرى، و جعل يقبل هذا تارة و هذا أخرى، و إذا بجبرئيل قد نزل و قال: «يا رسول الله إنك لتحب الحسن و الحسين!» فقال: «و كيف لا أحبهما و هما ريحانتاي من الدنيا و قرتا عینی».

فقال جبرئيل: «يا نبي الله إن الله قد حكم عليهما بأمر فاصبر له».

فقال: «و ما هو يا أخي؟»

فقال: «قد حكم على هذا الحسن أن يموت مسموماً، و على هذا الحسين أن يموت مذبوحاً، و إن لكل نبي دعوة مستجابة، فإن شئت كانت دعوتك لولديك الحسن و الحسين، فادع الله أن يسلمهما من السم و القتل، و إن شئت كانت مصيبتهما ذخيرة في شفاعتك للعصاة من أمتك يوم القيامة».

فقال النبي صلّى الله عليه و آله: «يا جبرئيل أنا راض بحكم ربي، لا أريد إلا ما يريده، و قد أحببت

ص: 385


1- سورة الفرقان: 54.
2- البحار 43 / 106.
3- البحار 43 / 271.

أن تكون دعوتي ذخيرة لشفاعتي في العصاة من أمتي، و يقضي الله في ولدي ما يشاء» (1).

36- جاء في البحار: و وجدت في بعض الكتب أنه علیه السلام لما عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة رضى الله عنها فقالت: يا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدك يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلاء.

فقال لها: «يا أماه و أنا و الله أعلم ذلك و إني مقتول لا محالة، و ليس لي من هذا بد، و إني و الله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، و أعرف من يقتلني، و أعرف البقعة التي أدفن فيها، و إني أعرف من يقتل من أهل بيتي و قرابتي و شيعتي، و إن أردت يا أماه أريك حفرتي و مضجعي»، ثم أشار علیه السلام إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه و مدفنه و موضع عسكره و موقفه و مشهده.

فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديداً و سلّمت أمره إلى الله، فقال لها: «يا أماه قد شاء الله عزّ و جلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً و عدواناً، و قد شاء أن يرى حرمي و رهطي و نسائي مشردين، و أطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين، و هم يستغيثون فلا يجدون ناصراً و لا معيناً» (2).

37- في المناقب عن الحسن البصري و أم سلمة أن الحسن و الحسين دخلا على رسول الله صلّى الله عليه و آله و بین يديه جبرئیل، فجعلا يدوران حوله يشبهانه بدحية الكلبي، فجعل جبرئيل يومئذ بيده كالمتناول شيئاً فإذا في يده تفاحة و سفرجلة و رمانة فناولهما، و تهلّلت وجوههما وسعيا إلى جدّهما، فأخذ منهما فشمها، ثم قال: «صيرا إلى أمكما بما معكما، و بدوكما بأبيكما أعجب»، فصارا كما أمرهما فلم يأكلوا حتى صار النبي إليهم، فأكلوا جميعاً، فلم يزل كلما أكل منه عاد إلى ما كان

ص: 386


1- البحار 241/40.
2- البحار 241/40.

حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه و آله، قال الحسين علیه السلام: «فلم يلحقه التغيير و النقصان أيام فاطمة بنت رسول الله حتى توفيت، فلما توفيت فقدنا الرمان و بقي التفاح و السفرجل أيام أبي، فلما استشهد أمير المؤمنين فقد السفرجل، و بقي التفاح على هيئته عند الحسن حتى مات في سمه، و بقيت التفاحة إلى الوقت الذي حوصرت عن الماء فكنت أشمها إذا عطشت فيسكن لهب عطشي، فلما اشتد علي العطش عضضتها و أيقنت بالفناء».

قال علي بن الحسين علیه السلام: «سمعته يقول ذلك قبل مقتله بساعة، فلما قضى نحبه وجد ريحها في مصرعه، فالتمست فلم ير لها أثر فبقي ريحها بعد الحسين علیه السلام، و لقد زرت قبره فوجدت ريحها يفوح من قبره، فمن أراد ذلك من شيعتنا الزائرين للقبر فليلتمس ذلك في أوقات السحر فإنه يجده إذا كان مخلصاً» (1)

و قال في هذا المعنى أحد شعراء الولاء الشيخ فرج المادح:

هلا شممت روائح التفاحِ سحراً بقبة خامس الأشباحِ

38- عن حمران عن أبي جعفر علیه السلام قال: سألته عما يتحدث الناس أنه دفعت إلى أم سلمة صحيفة مختومة؟

فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه و آله لما قبض ورث على علیه السلام علمه و سلاحه و ما هناك، ثم صار إلى الحسن علیه السلام، ثم صار إلى الحسين علیه السلام، فلما خشينا أن نغشى استودعها أم سلمة، ثم قبضها بعد ذلك علي بن الحسين علیه السلام.

قال: فقلت: نعم ثم صار إلى أبيك ثم انتهى إليك و صار بعد ذلك إليك؟

قال: نعم (2).

39- عن أم سلمة زوجة النبي صلّى الله عليه و آله قالت: ما سمعت نوح الجن منذ قبض النبي إلا الليلة، و لا أراني إلا و قد أصبت بابني.

ص: 387


1- البحار 41 /91.
2- الكافي 1 / 235.

قال: و جاءت الجنية منهم تقول:

ألا يا عين فانهملي بجهدي فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا إلى متجبر في ملك عبد (1)

ص: 388


1- البحار 41 / 238.

الفصل الثالث: الأحاديث الموضوعة

ص: 389

ص: 390

حينما نصل إلى هذا الموضع من الكتاب نعرف بأن السيدة الجليلة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها من النساء المواليات لأهل البيت علیهم السلام، بل من المخلصات في ولائهن لهم علیهم السلام، و المتفانيات في عقيدتهن، كما يظهر ذلك من مجموع الروايات التي روتها عن الرسول صلّى الله عليه و آله في حقهم علیهم السلام، و من المواقف الكثيرة التي وقفتها للدفاع عنهم علیهم السلام، و لسنا بحاجة إلى أن ندلل على ذلك بعد ما قرأنا تأريخها المجيد من بداية مسيرتها في ظل الإسلام إلى يوم وفاتها رضي الله تعالى عنها. فلهذا اتخذ بعض أعداء أهل البيت علیهم السلام اسمها ورقة لألاعيبهم و أكاذيبهم (1)، لكي يمرروا لعبتهم من خلال ذلك على من ليس له معرفة بالتأريخ الإسلامي، فرووا عن الرسول صلّى الله عليه و آله روايات باسمها، و جعلوها الواسطة في النقل و هي بريئة مما نسب إليها براءة الذئب من دم يوسف، كما أن الرسول صلّى الله عليه و آله يبرأ مما نسب إليه أيضاً فيما يخص ذلك.

فنحن لا نشك في وضعها على لسانها رضي الله عنها، و ذلك بعد أن نعرضها على كتاب الله سبحانه و تعالى، أو سنة نبيه صلّى الله عليه و آله الصحيحة، أو بعد أن نعرضها على ميزان النقد الداخلي للنص.

و هذه الروايات هي كالتالي:

ص: 391


1- أفاد سيدنا الأستاذ آية الله العظمى السيد محمد على الموحد الأبطحي دام ظله في مجالس متفرقة و بمناسبات مختلفة: أن رواة أهل السنة يروون كثيراً من الروايات التي تخالف ما عليه الشيعة و مذهب أهل البيت علیهم السلام و يسندونها إلى الرسول صلّى الله عليه و آله برواية أحد أئمة أهل البيت علیهم السلام، فهم لا يروون عن الإمام الصادق أو الباقر علیهما السلام فى الأمور المتفق عليها، ولكن يروون عنهما ما يخالف مذهب الشيعة، و بالأحرى ما يخالف مذهبهما مما رواه شيعتهم، و ربما يروون الرواية غير المقبول معناها عندنا عن الإمام علي علیه السلام، و ما ذاك منهم إلا عناداً للحق و ما عليه الشيعة، و في ظنهم انهم يدحضون بذلك حجتهم.

(1)

عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله أن الحارث بن هشام أتى النبي صلّى الله عليه و آله يوم حجة الوداع فقال: يا رسول الله إنك تحث على صلة الرحم، و الإحسان إلى الجار، و إيواء اليتيم، و إطعام الضيف، و إطعام المسكين و كل هذا كان يفعله هشام بن المغيرة، فما ظنك به يا رسول الله؟

فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار، و قد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منی و إحسانه إلى فجعله في ضحضاح من النار (1).

في البدء لابدّ أن نلاحظ أولاً سند الحديث لنرى مقدار ما عليه من الصدق، ثم نتكلم حول متنه، أما السند فقد علّق الهيثمي عليه بقوله:

رواه الطبراني في الأوسط و الكبير، و فيه عبد الله بن محمد بن عقيل و هو منكر الحديث لا يحتجون بحديثه و قد وثق.

و في سند الطبراني غير من ذكره الهيثمي ممن رمي بالضعف من قبل علماء أهل السنة، كعمرو بن ثابت، فالملاحظ أن في ضمن سلسلة السند من لا يحتج بحديثه عندهم، و هذا المقدار يكفي لسقوط الرواية عن الاعتبار.

و لا يهمنا الآن البحث في السند بمقدار ما يهمنا البحث في المتن و الدلالة، لأن حديث الضحضاح رووه في صحاحهم، كالبخاري و مسلم، و نسبوا الرواية إلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، تأييداً لما نقلناه عن السيد الأبطحي حفظه الله في الهامش.

و هذه الرواية التي نحن بصددها رووها عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب و هو من سادات المسلمين و علماء أهل البيت علیهم السلام كما جاء في كتاب

ص: 392


1- المعجم الكبير 23 / 405، مجمع الزوائد و منبع الفوائد 1: 118.

المجروحين (1)، و إنما يفعلون ذلك إمعاناً في الحقد على أمير المؤمنين علیه السلام، كما أن عمرو بن ثابت إنما ضعف عندهم لطعنه على السلف كما جاء في صحيح مسلم: (و قال محمد سمعت علي بن شقيق يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف) (2).

و لا يخفى أن التعبير ب(سب السلف) فيه كثير من الإيهام و الإبهام و الأوهام، فربما أطلقوه على من روى حديثاً أو موقفاً يحكي عن مطعن في أحد رجالات السلف و إن كان ذلك الحديث أو الموقف ثابتاً و صحيحاً، لأنهم لا يريدون ذكر ما فيه شائبة الطعن على من أخذوا عنه معالم دينهم، لكيلا ينقض أساس بنيانهم من تحت.

فلنتجاوز البحث السندي و نأتي إلى المتن لنعرف أن ذيل الحديث - على فرض ثبوت أصل هذا الحديث - قد أقحم إقحاماً، فالراوي أراد أن يدس السم في العسل فأتى بقوله: (و قد وجدت عمي..)، و يمكن أن يشير إلى هذا الدس حديث آخر لأم سلمة فقد قالت:

قلت: يا رسول الله إن عمي هشام بن المغيرة كان يطعم الطعام، و يصل الرحم، و يفعل و يفعل، فلو أدركك أسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: كان يعطي للدنيا و حمدها و ذكرها، و ما قال يوماً قط اللهم اغفر لي يوم الدين (3).

فإن أم سلمة عندما سألت عن عمها هشام لم يكن في جواب الرسول صلّى الله عليه و آله تعريض لعمه أبي طالب علیه السلام، بل بيّن الوجه في عدم استفادة هشام مما صنعه في الجاهلية: بأنه إنما فعل ذلك للدنيا و حمدها.

ص: 393


1- جاء في كتاب المجروحين 3/2: عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، أمه زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب، يروي عن بن عمر و جابر، روى عنه بن عجلان و الثوري و زهير بن معاوية، و كان عبد الله من سادات المسلمين، من فقهاء أهل البيت و قرائهم، إلا أنه كان رديء الحفظ..
2- صحیح مسلم 1/ 16.
3- مجمع الزوائد و منبع الفوائد 1: 118.

و مع غض النظر عن ذلك فيدلنا على إقحام هذه الزائدة الدودية ما يدلنا على إيمان أبي طالب علیه السلام من الأدلة الكثيرة، فصاحب قبره يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلا تنطبق عليه القاعدة المذكورة في كلام الرسول صلّى الله عليه و آله أعني: (كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار).

و رمي أبي طالب علیه السلام بالكفر إنما نشأ في زمان الأمويين الذين أرادوا الإساءة إلى الإمام علی علیه السلام بأي وسيلة حصلت، و أعانهم على ذلك رواة لا دين لهم إلا الدرهم ،و الدينار، فرووا ما شاء الله من الأحاديث، و قد تعرضنا إلى بعض ذلك فيما مضى من أبحاث.

و قد بحث علماؤنا مسألة إيمان أبي طالب علیه السلام بجميع أبعادها فأثبتوا كذب دعوى موته على الكفر جملة و تفصيلاً، و قد ألفت في ذلك مؤلفات كثيرة، و تابعهم في هذا الرأي جملة من علماء أهل السنة أيضاً، و بما أن الكتاب لم يوضع لذلك فسوف نومي إلى بعض الأدلة الدالة على إيمان شيخ البطحاء إيماء، بل أنه لم يكن مشركاً فأسلم، و إنما كان على ملة أبيه إبراهيم علیه السلام حنيفاً مسلماً و ما كان من المشركين.

و الأدلة على ذلك كثيرة منها:

الدليل الأول: أشعاره التي يصرح فيها بإيمانه بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه و آله، و أنه كالنبي موسى و النبي عيسى علیهما السلام، مرسل من قبل الله سبحانه و تعالى، و سوف نقتطع من كل قصيدة أو مقطوعة محل الشاهد روماً للاختصار.

فمنها ما أرسله إلى النجاشي في شأن المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين:

ليعلم خيار الناس أن محمداً وزير لموسى و المسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به فكل بأمر الله يهدي ويعصم

ص: 394

و إنكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث مبرجم (1)

و منها:

أمين حبيب في العباد مسوّم بخاتم ربّ قاهر في الخواتمِ

يرى الناس برهاناً عليه و هيبة و ما جاهل في قومه مثل عالم

نبى أتاه الوحي من عند ربه و من قال: لا، يقرع بها سنّ نادم (2)

و منها ما قاله فی أمر الصحیفة:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمداً رسولاً كموسى خُطَّ في أول الكتب

و انّ عليه في العباد محبة و لا حيف في من خصّه الله بالحبّ (3)

و منها:

على ما مضى من بغيكم و عقوقكم و غشيانكم في أمرنا كلّ مأثمِ

و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى و أمر أتى من عند ذي العرش قيّمِ (4)

و منها و هو يخاطب النبي صلّى الله عليه و آله:

و الله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة و ابشر بذاك و قرَّ منك عيونا

و دعوتني و علمت أنك ناصحي و لقد دعوت و كنت ثم أمينا

ص: 395


1- المستدرك 2 / 623، راجع الغدير 7 / 331، و سوف ننقل الأشعار عن الغدير فمن شاء فليراجع، و سوف نكتب المصدر الذي اعتمده في ذيل الابيات فالتفت إلى ذلك.
2- ديوان أبي طالب ص 32، و شرح ابن أبي الحديد 3 / 313.
3- سيرة ابن هشام 373/1، شرح ابن أبي الحديد 3 / 313، بلوغ الارب 1 / 325، خزانة الأدب للبغدادي 1 / 261، الروض الانف 1 / 220، تاريخ ابن كثير 3 / 87، أسنى المطالب ص 13،6، طلبة الطالب ص 10.
4- ديوان أبي طالب ص 29، شرح ابن أبي الحديد 3 / 312.

و لقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا (1)

قال صاحب الغدير: رواها الثعلبي في تفسيره و قال: قد اتفق على صحة نقل هذه الأبيات عن أبي طالب مقاتل، و عبد الله بن عباس، و القسم بن محضرة، و عطاء بن دينار، ثم ساق مصادر الشعر (2).

و منها:

نصرت الرسول رسول المليك ببيض تلالا كلمع البروق

أذبُ و أحمي رسول الإله حماية حام عليه شفيقِ (3)

و منها:

إنَّ علياً و جعفراً ثقتي عند ملمّ الزمان و النوبِ

لا تخذلا و انصرا ابن عمّكما أخي لأمي من بينهم و أبي

و الله لا أخذل النبيَّ و لا خذله من بنيّ ذو حسبِ (4)

و منها و هو يخاطب سيد الشهداء الحمزة:

فصبراً أبا يعلى على دين أحمد و كن مظهراً للدين وفّقت صابرا

و حط من أتى بالحق من عند ربه بصدق و عزم لا تكن حمز كافرا

فقد سرّني إذ قلت: إنّك مؤمن فكن لرسول الله في الله ناصرا

و باد قريشاً بالذي قد أتيته جهاراً و قل: ما كان أحمد ساحرا (5)

و منها قصيدته العصماء المطولة اللامية التي مطلعها:

ص: 396


1- خزانة الأدب 1/ 261، تاريخ ابن كثير 3 / 42، شرح ابن أبي الحديد 3 / 306، تاريخ أبي الفداء 1 / 120، فتح الباري 7 / 153، 155، الاصابة 4 / 116، السيرة الحلبية 1 / 305، إلى غير ذلك كثير.
2- الغدير 7 / 334.
3- ديوان أبي طالب ص 24.
4- ديوان أبي طالب ص 36، و شرح ابن أبي الحديد 3 / 314.
5- أسد الغابة 1 / 287، شرح النهج 3 / 315، الإصابة 4 / 116، السيرة الحلبية 1 / 286.

خليلى ما أذني لأول عادل بصغواء في حق و لا عند باطلِ

قال صاحب الغدير: و ذكر ابن كثير منها اثنين و تسعين بيتاً في تاريخه 53/3 - 57، وقال ص :57 قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جداً لا يستطيع يقولها إلّا من نسبت إليه، و هي أ فحل من المعلقات السبع، و أبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها، و قد أوردها الأموي فى مغازيه مطولة بزيادات أخر و الله أعلم (1).

إلى غير ذلك من الأشعار المذكورة في الديوان و غيره من كتب التأريخ و السيرة و الأدب، مما يصرح فيها بإيمانه بالنبي صلّى الله عليه و آله و رسالته الإسلامية، و يدافع عنهما حد الموت، و يرد على دعاوى المشركين و اتهاماتهم الموجّهة للرسول صلّى الله عليه و آله.

و تصريح الإنسان بنفسه عن ما يكنه داخل قلبه خير طريق إلى إثبات دعواه، لا سيما إذا كانت الظروف عكسية، يعني ربما يصرح الإنسان بخلاف ما يعتقد إذا كان تصريحه بما يعتقد مضراً له، أو لم يكن يأتي له بخير، أو كان تصريحه بخلاف ما يعتقد مما يجلب له المصلحة، و هو أمر متسالم على فعله عند العقلاء، و ربما الزموا صاحب الموقف على القيام به، و لاموه عند امتناعه، و من المستبعد من العاقل أن يصرح بما يدخله في الضرر و هو يؤمن به، فكيف يصرح به و هو لا يؤمن به؟!

و أن تصريح شيخ البطحاء بإيمانه أمام الملأ من كفار قريش و هو سيد البطحاء ربما يدخله في الضرر، و لا أقل من سلب مصلحته الشخصية من بين يديه، فالسكوت عن ذلك أولى له فأولى، و كان عليه أن لا يصرح بإيمانه و هو مؤمن و الحال هذه، فما باله يصرح بإيمانه و هو غير مؤمن؟! أ يعقل صدور ذلك من رجل عاقل و حكيم؟! أ يعقل أن يصرح بما فيه خطر عليه و هو لا يعتقد به؟! كلاً .. و ألف كلاً و هو ربّ الحكمة و الحجى.

ص: 397


1- الغدير 340/7.

فتصريحات شيخ البطحاء بإيمانه و وقوفه مع النبي صلّى الله عليه و آله في مسيرته الإسلامية بكل قوة دليل واضح على إيمانه العميق بما جاء به الرسول محمد صلّى الله عليه و آله، و لا ينكر ذلك إلا من أبت نفسه إلا العناد و الوقوف أمام الحق وجهاً لوجه.

الدليل الثاني: مواقفه المشرفة.

و هي كثيرة و نستعرض بعضاً منها:

1- ما أخرجه فقيه الحنابلة إبراهيم بن علي بن محمد الدينوري في كتابه (نهاية الطلب و غاية السؤول في مناقب آل الرسول - بإسناده عن طاووس عن ابن عباس في حديث طويل، و فيه: إن الله لما أمر الرسول صلّى الله عليه و آله بإظهار دعوته ذهب إلى عمه العباس و أخبره فأشار عليه أن يأتي إلى عمه أبي طالب، و لما أتياه و أخبراه قال أبو طالب: أخرج ابن أبي فإنك الرفيع كعباً، و المنيع حزباً، و الأعلى أباً، و الله لا يسلقك لسان إلا سلقته ألسن حداد، و اجتذبته سيوف حداد، و الله لتذلّنّ لك العرب ذلّ البهم لحاضنها، و لقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً و لقد قال: إن من صلبي لنبياً لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به (1).

أتراه يقف هذا الموقف في أول الدعوة، و يروي هذه الرواية في مبدأ البعثة مؤيداً للرسول صلّى الله عليه و آله بها و هو لا يمشي عليها؟! إن هذا إلا شيء عجاب!

ثم إن هذا القول من أبي طالب علیه السلام قد شفعه بالعمل ما وجد لذلك سبيلاً، فلم يهن و لم ينكل في جميع المواقف التي تعرض لها الرسول صلّى الله عليه و آله، و تعرضت لها دعوته المباركة.

2- قوله لابنه الإمام علي علیه السلام: يا بني الزم ابن عمك فإنّك تسلم به من كلّ بأس عاجل و أجل (2).

ص: 398


1- الغدير 348/7.
2- شرح ابن أبي الحديد 3 / 314، و بلفظ آخر رواه كل من سيرة ابن هشام 1 / 265، تاريخ الطبري 2 / 214، عيون الأثر 1 / 94، الإصابة 4 / 116 ، أسنى المطالب ص 10، راجع الغدير 7 / 355.

3- قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك، و ذلك عندما رأى النبي صلّى الله عليه و آله يصلي و علي علیه السلام يصلي عن يمينه (1).

الدليل الثالث: وصيته الخالدة حين موته.

عن الكلبي قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش! أنتم صفوة الله من خلقه، و قلب العرب، فيكم السيد المطاع، و فيكم المقدام الشجاع، الواسع الباع، و اعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلا أحرزتموه، و لا شرفاً إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، و لهم به إليكم الوسيلة، و الناس لكم حرب و على حربكم إلب، و إني أوصيكم بتعظيم هذه البنية (يعني الكعبة)، فإن فيها مرضاة للرب، و قواماً للمعاش، و ثباتاً للوطأة، صلوا أرحامكم و لا تقطعوها، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل، و زيادة في العدد، و اتركوا البغي و العقوق ففيها هلكة القرون قبلكم، أجيبوا الداعي، و أعطوا السائل فإنّ فيهما شرف الحياة و الممات، و عليكم بصدق الحديث، و أداء الأمانة، فإنّ فيهما محبّة في الخاص، و مكرمة في العام.

و إنّي أوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين في قريش، و الصّدّيق في العرب، و هو الجامع لكل ما أوصيتكم بهن و قد جاءنا بأمر قَبِله الجنان، و أنكره اللسان مخافة الشنآن، و أيم الله كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب و أهل الأطراف و المستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، و صدّقوا كلمته، و عظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، و صارت رؤساء قريش و صناديدها أذناباً، و دورها خراباً، و ضعفاؤها أرباباً، و إذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، و أبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب و دادها، و أصفت له فؤادها، و أعطته قيادها، دونکم یا معشر قریش! ابن أبيكم، كونوا له ولاة و لحزبه حماة، و الله لا يسلك أحد بهديه إلا سعد، و لو كان

ص: 399


1- الغدیر 357/7.

لنفسي مدة، و في أجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز ، و لدافعت عنه الدواهي (1).

و في هذه الوصية من معاني الخير، و مُثُل الإسلام ما لا يدركه إلا ذو حظ عظيم في العلم و المعرفة الإلهية، و لا يدين به إلا من محض الإيمان محضاً، و أعطى عقلاً مباركاً نيّراً، و من غير المعقول صدور مثل هذه الحِكَم و الوصايا من رجل عاش عقله و وهن عظمه في الكفر و الضلال، و الشرك و الإلحاد، فهي لا تصدر إلا من قلب سليم، و عقل مستقيم، لم تدنسه الجاهلية الجهلاء، و لم تشرك فيه فتن الأهواء، و إن هذه الوصية الخالدة تحتاج إلى دراسة مستقلة، و بحث مختص، حتى يبين مقاصدها، و ما احتوت عليه من ودائع الحكمة، و جواهر المعاني.

دع عنك ما صرح به في الأخير من إيمانه بنبوة ابن أخيه محمد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله، و علّل إخفاء إيمانه في ما مضى من عمره الشريف بأخصر القول و أبلغه: (مخافة الشنآن)، فهي من قبيل (وَ قَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ).

و علق صاحب الغدير بقوله: في هذه الوصية الطافحة بالإيمان و الرشاد دلالة واضحة على أنه علیه السلام إنما أرجأ تصديقه باللسان إلى هذه الآونة التي يأس فيها عن الحياة حذار شنآن قومه المستتبع لانثيالهم عنه المؤدي إلى ضعف المنة و تفكك القوى، فلا يتسنى له حينئذ الذب عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و إن كان الإيمان به مستقراً في الجنان من أول يومه، لكنه لما شعر بأزوف الأجل و فوات الغاية المذكورة أبدى ما أجنته أضالعه فأوصى بالنبي صلّى الله عليه و آله بوصيته الخالدة.

و لعل مراد الشيخ الأميني من التصديق باللسان هو التصريح الواضح بانتمائه الدعواته صلّى الله عليه و آله، و إلا فأبو طالب صرح في شعره و مواقفه بإيمانه بالرسول صلّى الله عليه و آله، بل هو داعية للإسلام أيضاً كما في شعره للنجاشي، مضافاً إلى أنه راوية لحديثه صلّى الله عليه و آله.

ص: 400


1- الغدير 7 / 366، نقلها عن: الروض الأنف 10 / 259، المواهب 1 / 72، تاریخ الخميس 1 / 339، ثمرات الأوراق هامش المستطرف 9/2، بلوغ الارب 1 / 327، السيرة الحلبية 1 / 275، السيرة لزيني دحلان هامش الحلبية 1 / 93، أسنى المطالب ص 5.

الدليل الرابع: كلمة الإمام السجاد علیه السلام.

قال ابن أبي الحديد في شرحه: روي عن علي بن الحسين علیه السلام سئل عن إيمان أبي طالب علیه السلام فقال: و اعجباً إنّ الله تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام و لم تزل تحت أبي طالب حتى الممات (1).

الدليل الخامس: كلمة الإمام الباقر علیه السلام.

سئل علیه السلام عن ما يقوله الناس أن أبا طالب فى ضحضاح من نار فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه، ثمّ قال: أ لم تعلموا أنّ أمير المؤمنين علياً علیه السلام كان يأمر أن يحجّ عن عبد الله و ابنه و أبي طالب في حياته ثمّ أوصى في وصيته بالحج عنهم (2).

و نكتفي بهذا المقدار ففيه الكفاية و فوق الكفاية لمن أراد الحق و اتباعه، و ليعلم أننا في هذا البحث قد اعتمدنا على ما سطرته يراعة العلامة الأميني في غديره، و من أراد زيادة في الاطلاع فعليه بذلك المورد العذب ففيه ما يروي الغليل و يشفي العليل، فرحمه الله رحمة الأبرار.

ص: 401


1- الغدير 380/7.
2- الغدير 7 / 380.

(2)

عن أم سلمة قالت: قال النبي صلّى الله عليه و آله: «من أصحابي من لا أراه و لا يراني بعد أن أموت أبداً»، قال: فبلغ ذلك عمر فأتاها يشتد أو يسرع فقال: أ نشدك الله أنا منهم؟ قالت: لا و لا أبرأ بعدك أحداً أبداً (1).

قال الهيثمي: (و فيه عاصم بن بهدلة و هو ثقة يخطىء).

و رواها الشيخ المفيد بسنده إلى شقيق عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه و آله بهذا النحو: قال: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمه قد خفت أن تهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش مالاً، قالت: يا بني فأنفق فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: «من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه».

قال: فخرج عبد الرحمن فلقي عمر بن الخطاب فأخبره بالذي قالت أم سلمة، فجاء يشتد حتى دخل عليها فقال: يا أمه أنا منهم؟ فقالت : لا أعلم و لن أبرأ بعدك أحداً (2).

و لنا وقفة إشارة على مثل هذا الحديث: فإن القوم رووا حديث العشرة المبشرة بالجنة و فيهم (عمر) فما باله جاء مسرعاً ليطمئن على نفسه؟!

ثم إن أم سلمة لم تذكر أنها تعرفهم، بل قالت: من أصحابي.. فهي تحكي قول الرسول صلّى الله عليه و آله، فما باله جاء مسرعاً ليسألها عن نفسه؟!

ص: 402


1- مجمع الزوائد 1 / 112.
2- أمالي المفيد ص 38.

(3)

و عن عائشة قالت: كانت عندنا أم سلمة فجاء النبي صلّى الله عليه و آله عند جنح الليل، قالت: فذكرت شيئاً صنعه بيده، و جعل لا يفطن لأم سلمة، قالت: و جعلت تومىء إليه حتى فطن، قالت أم سلمة: أ هكذا الآن، أما كان واحدة منا عندك إلا في خلاثه (خلابة) كما أرى، و سبت عائشة، فجعل النبي صلّى الله عليه و آله ينهاها فتأبي، فقال النبي صلّى الله عليه و آله: «سبيها، فسبتها حتى غلبتها».

فانطلقت أم سلمة إلى علي و فاطمة فقالت: إن عائشة سبتها، و قالت لكم، و قالت لكم، فقال علي لفاطمة: اذهبي إليه فقولي له: إن عائشة قالت لنا، و قالت لنا.

فأتته فذكرت ذلك له فقال لها النبي صلّى الله عليه و آله: «إنها حبة أبيك و ربّ الكعبة»، فرجعت إلى علي فذكرت له الذي قال لها.

فقال: أما كفاك إلا أن قالت لنا عائشة و قالت لنا حتى أتتك فاطمة فقلت لها: إنها حبة أبيك و رب الكعبة (1).

قال الهيثمي: رواه أبو داود غير أنه جعل مكان أم سلمة زينب بنت جحش و هو أيضا أخصر من هذا و الله أعلم بالصواب، رواه أحمد و فيه علي بن زيد و فيه ضعف و حديثه حسن (2).

و مع غض النظر عن سند هذا الحديث فالحديث غير قابل للقبول أصلاً، و ذلك بملاحظة النقد الداخلي للنص، و ما هو إلا من مخترعات الناصبة الذين آلوا على أنفسهم إلا أن يسيئوا لأهل البيت علیهم السلام بما فيهم النبي صلّى الله عليه و آله، و عدم قبوله لأمور لا تخفى على العاقل فضلاً عن العالم و هي:

الأول: ورد في الحديث: (فذكرت شيئاً صنعه بيده، و جعل لا يفطن لأم سلمة).

و لا ندري أين كانت أم سلمة مختبئة بحيث غابت عن نظر الرسول صلّى الله عليه و آله فلم

ص: 403


1- مسند احمد 6 / 130، الحديث رقم 25030.
2- مجمع الزوائد 4 / 321.

يفطن لها و هي تراه و تفطن إليه، و هل يخفى وجودها على الرسول صلّى الله عليه و آله و هو المسدد بالوحي الإلهي، و في بيت لم يتسع إلا بضعة أذرع؟!

الثاني: اعتراض أم سلمة - على فرض حصول مثل هذا الأمر منه صلّى الله عليه و آله - غير متوقع منها، فقد مرّ علينا أدبها مع الرسول صلّى الله عليه و آله و احترامها له، و مرّ أيضاً أن الرسول صلّى الله عليه و آله قد دعا بذهاب الغيرة منها، و هذا الاعتراض لا يحصل إلا ممن ركبتها الغيرة إلى قمة الرأس و هو غيرها، فكيف حصل منها و قد أذهب الله عنها الغيرة؟!

الثالث: إن صدور السباب من أم سلمة في حضرة الرسول صلّى الله عليه و آله غير معقول منها أيضاً، فقد عرف عنها الاحترام البالغ للرسول صلّى الله عليه و آله كما قدمنا، و الإيمان العميق الذي يمنعها من الإقدام على مثل هذا العمل حيث كانت، فضلا عن كونها في محضر الرسول صلّى الله عليه و آله.

الرابع: لو فرضنا صدور السب من أم سلمة فهل يعقل أن يأمر الرسول صلّى الله عليه و آله عائشة بسب أم سلمة؟! و هو القائل: «سباب المسلم فسوق» (1)، و هو صاحب الخلق العظيم، و القائل: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2)، و «أدبني ربي فأحسن

تأديبي» (3)؟!

فهل ترى الرسول صلّى الله عليه و آله يعالج الأمر القبيح بقبيح مثله؟! أ فهل أعجزه الأسلوب الحسن في هذا الموقف بالذات؟! أما أنا فأقول: حاشاه من كل ما فيه شائبة الباطل.

الخامس: إن الرواية اتهمت أم سلمة بالكذب و البهتان، و النميمة، حيث ذهبت إلى الإمام علی علیه السلام و السيدة الزهراء علیها السلام و قالت لهما: إن عائشة قالت لكم و قالت لكم، و لم تتعرض الرواية إلى أن عائشة قالت في علي و فاطمة علیهما السلام في هذا الموقف كلاماً غير محمود، بل لا مناسبة للتعرض لهما علیهما السلام!

ص: 404


1- البحار 77 /91، سنن ابن ماجة 2 / 1299.
2- البحار 382/71.
3- البحار 382/71.

و لا يخطر في ذهن أحد من المسلمين أن ترتكب أم سلمة هذه الذنوب الكبيرة و هي المرأة التي لا يشك في فضلها و إيمانها.

و لا يخطر في ذهن أحد من المسلمين أن تتكلم عائشة في علي و فاطمة علیهما السلام في محضر الرسول صلّى الله عليه و آله ثم لا يردعها صلّى الله عليه و آله ، و قد ردعها في أقل من ذلك كما أسلفنا في حديث أم سلمة معها.

السادس: ردّ الرسول صلّى الله عليه و آله على ابنته بهذا الأسلوب الجاف، و قد عرف حبه العميق لها، و أنها أحب خلق الله إليه باعتراف عائشة نفسها كما سيأتي، و أنها سيدة نساء العالمين، و أنها من الذين أذهب الله عنهم الرجس، و كان يكفي في الجواب لها أن يقول صلّى الله عليه و آله: إن عائشة لم تقل ذلك.

السابع: مواجهة الإمام علي علیه السلام الله للنبي صلّى الله عليه و آله بهذه المواجهة خلاف ما يتمتع به

الإمام علي علیه السلام من أخلاق إسلامية، و احترام للرسول صلّى الله عليه و آله لا يفوقه احترام، و خلاف سيرته منذ تربى في حضن الرسول صلّى الله عليه و آله و إلى أن اختار الله لرسوله دار كرامته، مضافاً إلى إيمانه العميق بكل ما جاء به الرسول صلّى الله عليه و آله، و معرفته بأنه (وَ مَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَیٰٓ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ يُوحَیٰ).

فلهذه الأمور نجزم جزماً لا يشوبه أدنى شك أو ارتياب بأن هذه الرواية من الموضوعات التي اخترعتها ذهنية النواصب، و من لم يدخل الإيمان في قلبه، فإنها تسىء إلى الرسول صلّى الله عليه و آله قبل كل أحد، أعاذنا الله من زلل الفكر و بغي القلم، و شرّ كل حاسد إذا حسد.

ص: 405

(4)

بعثني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة سلها: أ كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يقبل و هو صائم؟ فإن قالت: لا، فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبل و هو صائم، فقالت: لعله أنه لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا (1).

و هذا الحديث يتنافى مع ما رواه البخاري عن زينب بنت أم سلمة: و حدثتني (تعنى أمها): أن النبي صلّى الله عليه و آله: «كان يقبلها و هو صائم»... (2).

و رواه ابن القيم عن عمر بن أبي سلمة في اعلام الموقعين (3).

و رواه الطبراني أيضاً في المعجم الأوسط 81/5.

و نحن و إن كان عندنا تأمل في تقبيل الرسول صلّى الله عليه و آله و هو صائم، فإن ذلك من المكروهات إلا أن يقوم به الرسول صلّى الله عليه و آله لبيان الحكم الشرعي بالجواز لكيلا يتوهم الناس حرمته، ولكن الهدف من ذكر هذه الروايات نفي ما نسب إلى أم سلمة من قولها بأن الرسول صلّى الله عليه و آله لا يتمالك حباً لعائشة.

ثم إن التعبير ب(لا يتمالك) فيه شيء من الحساسية النكراء، إذ يشعر بأن الأمر الذي قام به الرسول صلّى الله عليه و آله لم يكن له ما يبرره إلا عدم التمالك، و هذا عذر قبيح لا يمكن أن ننسبه إلى الرسول صلّى الله عليه و آله، لأنه يعني أن الرسول صلّى الله عليه و آله لم يستطع أن يخالف هواه في أمر لا يريده الله، و نعوذ بالله من أن ننسب مثل هذا إلى الرسول صلّى الله عليه و آله.

ص: 406


1- سير أعلام النبلاء 2 / 172، المعجم الكبير للطبراني ج 23 ص 340 ح 789.
2- البخاري الحديث: 311.
3- إعلام الموقعين ابن قيم ج 2 جزء 4 ص 294.

(5)

عن بن أبي مليكة أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها سمعت الصرخة على عائشة فقالت لجارية: اذهبي فانظري، فجاءت فقالت: وجبت، فقالت أم سلمة: و الذي نفسي بيده لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله إلا أباها (1).

و عن أم سلمة أنها قالت يوم ماتت عائشة: اليوم مات أحب شخص كان في الدنيا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله، ثم قالت: أستغفر الله ما خلا أباها (2).

قال الهيثمي: رواه الطبراني و فيه من لم أعرفهم.

و نحن عندما نريد أن نبحث عن صحة هذا الحديث أو سقمه علينا أن نعرضه على الروايات الأخرى التي بينت فضل الإمام علي علیه السلام و سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام و منزلتهما عند الرسول صلّى الله عليه و آله، لنلاحظ أنهما الأحب إليه من كل أحد، و يكفي أن نقرأ المحاورة التي دارت بين أم سلمة و بين عائشة لنعرف أي العلاقتين أقوى، علاقة الرسول صلّى الله عليه و آله بالإمام على علیه السلام أم علاقته صلّى الله عليه و آله بأبي عائشة، و قد تقدمت في موضع سابق فراجعها، و علينا أن نقرأ حديث المؤاخاة المشهور بين الفريقين لنعرف صاحب الصلة الحميمة بالرسول صلّى الله عليه و آله.

و من ذلك ما روته أم سلمة في ما تقدم عنها: هذا أخي، و ابن عمي، و أحب الخلق إلي..

و ما روته هي و غيرها أن السيدة الزهراء علیها السلام هي سيدة نساء العالمين، أو سيدة نساء أهل الجنة، و من غير المعقول أن تكون الأحب إلى قلب الرسول صلّى الله عليه و آله امرأة لم تكن سيدة للنساء و ابنته سيدة النساء موجودة أمام عينيه.

و إن شئت فاقرأ هذه الرواية التي روتها عائشة نفسها، فقد روى الثعلبي في

ص: 407


1- المستدرك 4 / 15.
2- مجمع الزوائد 9 / 242، المنتخب من كتاب أزواج النبي صلّى الله عليه و آله الزبير بن بكار 2 / 38.

تفسيره بسنده إلى العوام بن حوشب، حدثني ابن عم لي من بني الحارث بن تيم الله يقال له مجمع قال: دخلت مع أمي على عائشة فسألتها عن علي علیه السلام فقالت: سألتني عن أحب الناس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله.. (1).

و اقرأ ما رواه الحاكم في مستدركه، و قال عنه صحيح الإسناد و لم يخرجاه، و إليك محل الشاهد من الحديث:

قال حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: ثم كنت في المسجد فأتاني العباس و علي فقالا لي: يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلّى الله عليه و آله، فدخلت على النبي صلّى الله عليه و آله، فاستأذنته فقلت له: إن العباس و علي يستأذنان، قال: هل تدري ما حاجتهما؟ قلت: لا و الله ما أدري، قال: لكني أدري، ائذن لهما، فدخلا عليه فقالا: يا رسول الله! جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال: أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد.. (2).

و أخيراً نختم بهذه الرواية الصحيحة: عن جميع بن عمير قال: ثم دخلت مع أمي على عائشة فسمعتها من وراء الحجاب و هي تسألها عن علي فقالت: تسألني عن رجل و الله ما أعلم رجلاً كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله من علي، و لا في الأرض امرأة كانت أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله من امرأته.

هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه (3).

و بهذا يتضح سبب وضع مثل هذه الرواية.

ص: 408


1- العمدة لابن البطريق / ص 23، 40، نقلاً عن تفسير الثعلبي.
2- المستدرك 2 / 452.
3- المستدرك 3 / 167.

(6)

عن خارجة بن عبد الله عن عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه عن أم سلمة أن النبي صلّى الله عليه و آله قال: «إن في السماء ملكين أحدهما يأمر بالشدة و الآخر يأمر باللين و كل مصيب جبريل و ميكائيل، و نبيان أحدهما يأمر باللين و الآخر يأمر بالشدة و كل مصيب، و ذكر إبراهيم و نوحاً، و لي صاحبان أحدهما يأمر باللين و الآخر بالشدة و كل مصيب، و ذكر أبا بكر و عمر» (1).

و الملاحظ على هذا الحديث:

أولاً: أن الواقعة الواحدة لا تحتاج إلا إلى حلّ واحد فقط، فإما أن تكون الحكمة في اللين فالأمر بالشدة خلاف الحكمة، و إما أن تكون الحكمة في الشدة فيكون اللين على خلافها، فجعل الإصابة في الأمرين غير معقول، فلا يصدر من الرسول صلّى الله عليه و آله.

نعم إذا تعدد الزمان أو المكان فالحكمة تختلف باختلافهما، ففي الزمان الأول تكون الحكمة في اللين، و الأمر بالشدة على خلافها، و في الزمان الثاني تكون في الشدة، و اللين على خلافها، فلا يمكن أن تكون الشدة و اللين مصيبين في زمان واحد و مكان واحد كما هو ظاهر الرواية، فاللين و الشدّة الدائميان ليسا مع الحكمة في طريق، و لا مع الإصابة في مكان.

ثانياً: إن ملائكة الله و أنبيائه لا يقومون بعمل من الأعمال إلا بإذن من سبحانه و تعالى و وحي منه، فهم مأمورون حتى في شدتهم و لينهم، و لهذا خاطب الله سبحانه نبيه موسى علیه السلام بقوله تعالى: (فَقُولاَ لَهُۥ قَوۡلاً لَّيِّنًا) (2)، و قال تعالى: (ٱدۡعُ إِلَیٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَ ٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِ) (3)، و قال تعالى: (وَ ٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡ) (4)، فقياس

ص: 409


1- المعجم الكبير 23 / 315، مجمع الزوائد 9 / 51.
2- سورة طه: 44.
3- سورة النحل: 25.
4- سورة التوبة : 73، وسورة التحريم 9.

أحد من البشر عليهم غير صحيح، و لا يصدر من الرسول صلّى الله عليه و آله، فإن البشر غير الأنبياء و الرسل قد تأخذهم العواطف و أحاسيس النفس البشرية، و ربما يحاولون تحكيم عقولهم فيضلون السبيل، فكيف يقاسون بمن يؤيد بروح القدس، و من يأخذ أوامره من الله سبحانه و تعالى؟!

فبهذا نعرف أن الحديث من موضوعات باب الفضائل التي كثرت في عهد الأمويين حتى بلغت حدّ التخمة.

ثم إذا يممنا شطر السند عرفنا الوضع بصورة أوضح، فقد جاء في كتاب الضعفاء و المتروكين لابن الجوزي: خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت أبو زيد الأنصاري مديني، قال أحمد و الدارقطني ضعيف (1).

و في ميزان الاعتدال: خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زید بن ثابت الأنصاري المدنى... ضعفه أحمد و الدارقطني (2).

و في ميزان الاعتدال: عبد الله بن أبي سفيان عن عدي بن زيد قال: حمى رسول الله صلّى الله عليه و آله كل ناحية من المدينة بريداً، فلا يعرف عدي إلا بهذا الحديث، و لا يدرى من هو عبد الله في خلق الله (3).

فخارجة ضعف، و عبد الله بن أبي سفيان مجهول، فكيف يركن العقل لمثل هذه الرواية؟!

ص: 410


1- 243/1.
2- 403/2.
3- 110/4.

(7)

عن ضبة بن محصن عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إنه سيكون أمراء تعرفون و تنكرون، فمن أنكر فقد برىء، و من كره فقد سلم، ولكن من رضي و تابع»، قالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال: «لا ما صلوا لكم الخمس» (1).

و بعد أن شرحه صاحب فيض القدير قال: و فيه حرمة الخروج على الخلفاء بمجرد ظلم أو فسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الدين (2).

و نقول: لهذه الاستفادة وضعت هذه الرواية، أي أن الرواية اصطنعت لتكون غطاء يتستر به أمراء الأمويين و عمالهم الذين عاثوا في الأرض فساداً و هم آمنون من الخروج عليهم.

فعندما يمر القارئ على مثل هذه الرواية يستوقفه مضمونها كثيراً، فإن الرواية تتحدث عن أمراء لم يسيروا على هدي الإسلام، و لهذا قال أصحابه صلّى الله عليه و آله: أفلا نقاتلهم؟

و مع ذلك فقد نهى الرسول صلّى الله عليه و آله أصحابه من الخروج عليهم و قتالهم، وإذا كان الأمر كذلك، فللقارئ أن يسأل: لماذا نهى الرسول صلّى الله عليه و آله عن قتالهم، و لا أقل لماذا لم يأمر بمطالبة عزلهم لتتخلص الأمة من وبائهم، فإن الناس على دين ملوكهم، فربما يجرون الأمة إلى جادة الكفر و الطغيان - و العياذ بالله - و الأمة لا تقدر على تحريك ساکن!

لا نجد لهذا الأمر جواباً إلا كون الرواية من الموضوعات.

يضاف إلى ذلك: إنه يمكن المناقشة في السند أيضاً، فإن الراوي عن أم سلمة و هو ضبة بن محصن مجهول الحال، فلم يذكر في كتب الرجال بمدح.

ص: 411


1- مسند أبي يعلى 12 / 415، مسند أبي عوانة 417:4، المصنف لابن أبي شيبة 7/ 469، مسند أحمد 295/6.
2- فيض القدير 99/4.

(8)

عن أم سلمة قالت: كلمنني صواحبي أن أكلم رسول الله صلّى الله عليه و آله: أن يأمر الناس فيهدوا له حيث كان، فإن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، و إنا نحب الخير كما تحب عائشة، فسكت رسول الله صلّى الله عليه و آله و لم يراجعني، فجاءني صواحبي فأخبرتهن إنه لم يكلمني، فقلن: و الله لا ندعه، قالت: فكلمته مثل المقالة الأولى مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يسكت رسول الله صلّى الله عليه و آله، ثم قال: «يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، في فإني و الله ما نزل الوحي علي و أنا في بيت امرأة من نسائي غير عائشة»، قالت: فقلت: أعوذ بالله أن أسوءك في عائشة (1).

و قد بينا عدم صحة هذه الرواية في الفصل الرابع مفصلاً فراجع.

ص: 412


1- صحيح ابن حبان 16 / 43.

(9)

عن الحسن عن أمة، عن أم سلمة، عن النبي صلّى الله عليه و آله قال: «لكل أمة أمين، و أبو عبيدة أمين هذه الأمة».

يقال: تفرد برواية هذا الحديث دعلج عن عبد الله فإنه لم يوجد عند غيره (1).

و لا نريد أن ندخل في بحث من ناحية السند، فإن القوم رووها بأسانيد أخرى عن غير أم سلمة و هي صحيحة عندهم، ولكن لنفتح الباب من ناحية مضمون الرواية، و ما هو المراد من هذه الأمانة؟!

ما تكشفه كلمات علماء السنة - حسب ما استفادوه من الروايات - : هي الوثاقة، ففي فيض القدير: إن أمين هذه الأمة، أي الثقة الرضي، أبو عبيدة عامر بن الجراح، قد شاركه غيره من الصحب في الأمانة، ولكن صلّى الله عليه و آله خص بعضهم بصفات غلبت عليه و كان أخص بها (2).

و في 2 / 507: إن لكل أمة أميناً، أي ثقة رضياً تعول النفس عليه، و تسكن القلوب إليه، و إن أمين هذه الأمة الذي له الزيادة من الأمانة هو أبو عبيدة.

وفي 5 / 470: ما من أحد من أصحابي، و في رواية ما منكم من أحد إلا و لو شئت لأخذت عليه في بعض خلقه بالضم، غير أبي عبيدة عامر بن الجراح، قد کشف بهذا الحديث عن سرّ كونه أمين هذه الأمة، بيّن أن أبا عبيدة إنما ظفر بهذه الخصلة حتى صار واحد هذه الأمة في الأمانة بما أخبر به هنا من طهارة خلقه.

و في شرح سنن ابن ماجة: هذا أمين هذه الأمة قال الطيبي: أي هو الثقة المرضي، و الأمانة مشتركة بينه و بين غيره من الصحابة، لكن النبي صلّى الله عليه و آله خص بعضهم بصفات غلبت عليه و كان بها أخص (3).

ص: 413


1- تاريخ بغداد 14 / 165.
2- فيض القدير 2 / 431.
3- شرح سنن ابن ماجة 1 / 13.

و في نوادر الأصول في شرح أحاديث الرسول صلّى الله عليه و آله: فالأمانة ترك الأشياء في مواضعها كما وضعت و إنزالها حيث أنزلت (1).

و هذا النحو من الأمانة لا يستحق صاحبه أن يعطى و ساماً كبيراً مثل هذا الوسام: (أمين هذه الأمة)، إذ يشاركه غيره من الصحابة في ذلك، بل إن هناك منهم من لم يصل أبو عبيده إلى أخمص قدميه في الأمانة و الوثاقة و الصدق، كالإمام علي علیه السلام، بل حتى غيره كما ورد في أبي ذر: (ما أقلّت الغبراء و لا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر) (2).

ثم إنا لو رجعنا إلى سيرة الرجل و حياته بما تعرض لها من ترجم للصحابة لما وجدنا له أثراً يذكر من هذه الناحية، فلم نقرأ في سيرته العملية ما يكون شاهد صدق على هذا الوسام، نعم ذكر أنه أحد العشرة المبشرة، و حديث العشرة فيه ما فيه مما بينه أصحاب الفن، و مع ذلك فهو أجنبي عن موضوع الأمانة و الوثاقة.

فمن هذا نعرف إنما أعطي هذا الوسام الخالد لأنه كان أحد المهاجرين الثلاثة في يوم السقيفة، فيستحق هذا الوسام و ما هو أكبر منه، لأنه وقف موقفاً أبعد فيه علي بن أبي طالب علیه السلام عن موقعه المعد له من قبل السماء، فرضي عنه الأمويون و من كان على سيرتهم و نهجهم.

و نكتفي بهذا المقدار من الأحاديث التي جاءت على لسان أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، و صلّى الله على سيدنا و نبينا محمد بن عبد الله و آله الطيبين الطاهرين، و رضي الله عمن تابعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.

و قد تم الفراغ من ذلك یوم ميلاد الإمام الحسين علیه السلام ذكره الشرف و المجد،

ص: 414


1- نوادر الأصول في شرح أحاديث الرسول 29 / 117.
2- المستدرك على الصحيحين 3 / 232، 385، 387، و 4 / 526، صحيح بن حبان 16 / 76، سنن الترمذي 5 / 669، سنن ابن ماجة 1 / 55، و غيرهم الكثير.

الثالث من شهر شعبان سنة ألف و أربعمائة و إحدى و عشرين من الهجرة النبوية، في بلدة الجش من منطقة القطيف المحروسة.

ص: 415

ص: 416

المصادر

فهرس مصادر الکتاب

1- القرآن الكريم

2- أبو الشهداء ... عباس العقاد

3- أحاديث أم المؤمنين عائشة ... السيد مرتضى العسكري

4- الاحتجاج ... الطبرسي

5- إحقاق الحق ... القاضي التستري

6- أخبار أصفهان ... أبو نعيم الأصفهاني

7- أخبار مكة ... الفاكهي

8- الاختصاص ... الشيخ المفيد

9- الإرشاد ... الشيخ المفيد

10- إرشاد الساري ... القسطلاني

11- أسباب النزول ... الواحدي

12- الاستيعاب ... ابن عبد البر

13- أسد الغابة ... الجزري

14- الإصابة في تمييز الصحابة ... ابن حجر

15- إعلام الموقعين ... ابن القيم

ص: 417

16- أعلام النساء ... كحالة

17- إعلام الورى ... الطبرسي

18- إكمال الكمال ... ابن ماکولا

19- الأمالى ... الشيخ المفيد

20- الإمامة و التبصرة ... الشيخ الصدوق

21- الإمامة و السياسة ... ابن قتيبة

22- أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين ... أمنية الحسيني

23- الأنساب ... السمعاني

24- أهل البيت علیهم السلام في الشعر القطيفي المعاصر ... نزار آل سنبل

25- بحار الأنوار ... العلّامة المجلسي

26- البداية و النهاية ... ابن كثیر

27- بصائر الدرجات ... محمد بن الحسن الصفار

28- تاریخ ابن خلدون ... ابن خلدون

29- تاریخ ابن عساکر ... ابن عساکر

30- تاريخ الإسلام ... شمس الدين الذهبي

31- تاریخ بغداد ... الخطيب البغدادي

32- تاريخ الخلفاء ... السيوطي

33- تاريخ الطبري ... الطبري

34- التاريخ الكبير ... البخاري

35- تاريخ المدينة ... ابن شبة

36- تاريخ اليعقوبي ... اليعقوبي

37- تحفة الأحوذي ... المباركفوري

ص: 418

38- تعجيل المنفعة ... ابن حجر العسقلاني

39- تفسير ابن كثير ... ابن كثیر

40- تفسير البغوي ... البغوي

41- تفسير الطبري ... الطبري

42- تفسير فرات الكوفي ... فرات الكوفي

43- تفسير القمي ... علي بن إبراهيم

44- تهذيب الأسماء ... محيي الدين النووي

45- تهذيب التهذيب ... ابن حجر العسقلاني

46- تهذيب الكمال ... المزي

47- جامع الرواة ... الأردبيلي

48۔ الجامع الصغير ... السيوطي

49- الجرح والتعديل ... أبو حاتم الرازي

50- جزء في فضائل فاطمة علیها السلام ... ابن شاهين

51- الجمل ... الشيخ المفيد

52- حلية الأولياء ... أبو نعيم الأصفهاني

53- حياة الحيوان الكبرى ... الدميري

54- الخرائج و الجرائح ... ابن الراوندي

55- الخصائص ... النسائي

56- الخصائص الكبرى ... السيوطي

57- الخلاف ... الشيخ الطوسي

58- الدرجات الرفيعة ... ابن معصوم المدني

59- الدرّ المنثور ... السيوطي

ص: 419

60- دروس في فقه الإمامية ... د. عبد الهادي الفضلي

61- دلائل النبوة ... الفريابي

62- دليل المتحيرين ... الشيخ علي المحسن القطيفي

63- الديوان ... السيد مصطفى جمال الدين

64- ذخائر العقبى ... الطبري

65- الذرية الطاهرة ... الدولابي

66- الرجال ... الشيخ الطوسي

67- الرجال ... النجاشي

68- سنن ابن ماجة ... ابن ماجة

69- سنن أبي داود ... أبو داود السجستاني

70- سنن البيهقي ... البيهقي

71- سنن الترمذي ... أبو عيسى الترمذي

72- سنن الدارقطني ... الدار قطني

73- سنن النسائي ... النسائي

74- السنة ... ابن أبي عاصم

75- سير أعلام النبلاء ... شمس الدين الذهبي

76- السيرة النبوية ... ابن كثير

77- السيرة النبوية ... ابن هشام

78- شرح الأخبار ... القاضي نعمان المصري

79- شرح صحیح مسلم ... النووي

80- شرح المقاصد ... التفتازاني

81- شرح نهج البلاغة ... ابن أبي الحديد

ص: 420

82- شعب الإيمان ... البيهقي

83- صحیح ابن حبان ... ابن حبان

84- صحيح البخاري ... البخاري

85- صحیح مسلم ... مسلم بن الحجاج

86- الصحيح من سيرة الرسول الأعظم صلّی الله علیه و آله ... السيد جعفر مرتضى العاملي

87- صفة الصفوة ... ابن الجوزي

88- الصواعق المحرقة ... ابن حجر

89- الطبقات الكبرى ... ابن سعد

90- علل الشرائع ... الشيخ الصدوق

91- العمدة ... ابن البطريق

92 - عمدة القارئ ... الإمام العيني

93- عيون الأثر ... ابن سيد الناس الأندلسي

94- الغدير ... العلامة الأميني

95- فتح الباري ... ابن حجر العسقلاني

96- الفتنة و وقعة الجمل ... الضبّي

97- الفتوح ... ابن أعثم

98- الفصول المهمة ... السيد عبد الحسین شرف الدین

99- فضائل الصحابة ... أحمد بن حنبل

100- فيض القدير ... المناوي

101- قرب الإسناد ... الحميري

102- الكافي ... الكليني

103- الكامل في التاريخ ... ابن الأثير

ص: 421

104- كتاب الغيبة ... محمد بن ابراهيم النعماني

105- كتاب المجروحين ... ابن حبان

106-كفاية الأثر ... الخزاز القمي

107- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء علیها السلام ... السيد عبد الحسین شرف الدین

108- كنز العمال ... المتقي الهندي

109- لسان الميزان ... ابن حجر العسقلاني

110- مباني تكملة المنهاج ... السيد أبو القاسم الخوئي

111- مجمع الأمثال ... الميداني

112- مجمع البحرين ... الشيخ فخر الدين الطريحي

113- مجمع الزوائد و منبع الفوائد ... الهيثمي

114- المجموعة الشوقية ... شعر أحمد شوقي، جمع و ترتيب إبراهيم الأبياري

115- المحلّى ... ابن حزم

116- مختصر تاریخ دمشق ... ابن منظور

117- المراجعات ... السيد عبد الحسین شرف الدین

118- المستدرك على الصحيحين ... الحاكم النيسابوري

119- مسند ابن المبارك ... ابن المبارك

120- مسند أبي يعلى ... أبو يعلى الموصلي

121- مسند أحمد ... أحمد بن حنبل

122- مسند البزار ... أبو بكر البزار

123- مسند الشاشي ... أبو سعيد الشاشي

124- مسند الطيالسي ... أبو داود الطيالسي

125- المصنف ... ابن أبي شيبة

ص: 422

126- المصنف ... عبد الرزاق

127- المعارف ... ابن قتيبة

128- معاني الأخبار ... الشيخ الصدوق

129- المعتصر من المختصر ... أبو المحاسن يوسف الحنفي

130- المعجم الأوسط ... الطبراني

131- معجم رجال الحديث ...

132- المعجم الصغير ... الطبراني

133- المعجم الكبير ... الطبراني

134- المغني ... ابن قدامة

135- فردات غريب القرآن ... الراغب الأصفهاني

136- ملحمة عيد الغدير ... بولس سلامة

137- مناظرات في العقائد و الأحكام ... عبد الله الحسن

138- المناقب ... الخوارزمي

139- مناقب أمير المؤمنين علیه السلام ... ابن المغازلي

140- المنتخب من أزواج النبي صلّی الله علیه و آله ... الزبير بن بكار

141- المنتقى ... ابن الجارود

142- منهاج السنة ... ابن تيمية

143- موسوعة النبي صلّی الله علیه و آله و أهل بيته في الشعر العربي ... لجنة تابع دار الأدب الاسلامي

144- ميزان الاعتدال ... شمس الدين الذهبي

145- الميزان في تفسير القرآن ... السيد محمد حسين الطباطبائي

146- النجوم الزاهرة ... ابو المحاسن الأتابكي

147- نساء أهل البيت علیهم السلام ... خليل جمعة

ص: 423

148- نوادر الأصول في شرح أحاديث الرسول صلّی الله علیه و آله ... الترمذي

149- نهج البلاغة ... الإمام علی علیه السلام

150- و ركبت السفينة ... مروان خلیفات

151- الوفاة ... النسائي

152- الوفاء ... ابن الجوزي

153- وفاء الوفاء ... السمهودي

154- ينابيع المودة ... القندوزي

ص: 424

الفهرس

مقدمة ... 7

الباب الأول

الفصل الأول

الهوية الشخصية

نسبها ... 15

مولدها و وفاتها ... 20

عمرها ... 23

مدفنها ... 24

زوجها الأول ... 25

اولادها ... 28

اخوتها و أخواتها ... 35

مواليها ... 38

شمائل و صفات ... 42

الفصل الثاني

أم سلمة في ظل الإسلام

إسلامها ... 49

حياتها في مكة ... 50

ص: 425

في طريق الحبشة ... 51

في الحبشة ... 53

في مكة المكرمة ثانياً 62

الهجرة إلى المدينة ... 67

في الطريق إلى المدينة ... 69

في المدينة المنورة ... 71

زواجها بالرسول صلّى الله عليه و آله ... 71

مهرها ... 74

وقت الزواج ... 75

عمرها حين الزواج ... 77

وليمة العرس ... 79

ليلة الزفاف ... 79

موضع بيتها ... 79

اسفارها مع الرسول صلّى الله عليه و آله ... 81

مواقف و فضائل ... 84

مواقف مشرفة ... 94

الفصل الثالث

مميزات شخصيتها

الاول: المميزات العقلية ... 101

الثاني: المميزات الروحية ... 108

الثالث: المميزات الاخلاقية ... 114

الرابع: ادبها و بلاغتها ... 120

ص: 426

شعرها ... 120

نثرها ... 122

الخامس: الجانب العلمي ... 128

مسائل خلافية ... 139

الفصل الرابع

مكانتها الاجتماعية

علاقتها بالرسول صلّی الله علیه و آله ... 152

مكانتها عند اهل البيت علیهم السلام و علاقتها بهم ... 165

مع نساء النبي صلّی الله علیه و آله ... 170

ام سلمة في المجتمع الاسلامي ... 175

الفصل الخامس

مواقفها العقائدية

الموقف الأول ... 188

الموقف الثاني ... 189

الموقف الثالث ... 190

الموقف الرابع ... 191

الموقف الخامس ... 192

الموقف السادس ... 192

الموقف السابع ... 192

الموقف الثامن ... 193

الموقف التاسع ... 195

ص: 427

الموقف العاشر ... 196

الموقف الحادي عشر ... 196

الموقف الثاني عشر ... 202

الموقف الثالث عشر ... 203

الموقف الرابع عشر ... 203

الموقف الخامس عشر ... 204

الموقف السادس عشر ... 205

الموقف السابع عشر ... 206

الباب الثاني

الفصل الاول

أحاديثها في أهل البيت علیهم السلام دراسة و تحليل

المدخل ... 211

حديث الكساء ... 216

آية التطهير ... 228

لا يحل هذا المسجد لجنب إلا للرسول صلّی الله علیه و آله و أهل بيته علیهم السلام ... 241

حديث المنزلة ... 248

علي مع الحق ... 254

علي مع القرآن ... 261

علي وصيي ... 264

من سب علياً فقد سبني ... 267

لا يحب علياً منافق و لا يبغضه مؤمن ... 275

من أحبَّ علياً أحبّني ... 281

ص: 428

يحبه الله و رسوله ... 284

فضائل متعددة ... 286

إذا غضب الرسول صلّی الله علیه و آله لم يجترئ أحد أن يكلمه إلا علی علیه السلام ... 290

في خيبر ... 291

حديث الغدير ... 294

ان الإمام العلياً علیه السلام أقرب الناس عهداً بالرسول صلّی الله علیه و آله ... 298

زواج الإمام علي علیه السلام بالزهراء علیها السلام ... 302

الصحاب علی علیه السلام في الجنة ... 316

الصحابة ... 326

علي علیه السلام قاتل القاسطين و الناكثين و المارقين ... 334

خروج عائشة لحرب الجمل ... 337

الفئة الباغية ... 340

فاطمة سيدة النساء ... 349

تسبيح الزهراء علیها السلام ... 354

مقتل الحسين علیه السلام ... 356

المهدي علیه السلام من ولد فاطمة علیها السلام ... 362

الفصل الثاني

ما حذفته الرقابة من أحاديث أم سلمة ... 365

الفصل الثالث

الأحاديث الموضوعة ... 389

المصادر ... 417

الفهرس ... 425

ص: 429

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.