المؤلف: محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]
المحقق: السيّد عبد الهادي الحكيم
الطبعة: 0
الموضوع : الفقه
تاريخ النشر : 0 ه.ق
الصفحات: 447
المكتبة الإسلامية
منشورات مكتبة المفيد
قم - إيران
القواعد والفوائد
«في الفقه والاصول والعربية»
تأليف: الإمام أبي عبداللّه محمد بن مكي العاملي
المعروف
ب الشهيد الأول
المتوفي عام 786 ه
القسم الاول
تحقيق الدكتور
السيد عبد الهادي الحكيم
ص: 1
ص: 2
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.
إن من ضروريات المتبحر في الفقه الاسلامي الذي يروم البلوغ إلى رتبة الاجتهاد الشرعي الإحاطة بنوعين من القواعد :
الأولى : أصولية ، ويرتكز عليها قياس استنباط الفقهاء للأحكام الشرعية الفرعية الكلية (1).
الثانية : قواعد فقهية ، وهي : أحكام كلية يندرج تحت كل منها مجموعة من المسائل الشرعية المتشابهة من أبواب شتى.
وبالإحاطة بهذه القواعد - إضافة إلى بعض المعدات الأخرى للاجتهاد - (2) تحصل للفقيه ملكة الاجتهاد الشرعي.
وبقدر الإحاطة بتلكم القواعد يعظم قدر الفقيه ، وتتضح مناهج الاستنباط لديه.
ص: 3
والقواعد الفقهية بوشر بصياغتها - على ما يبدو - بعد أن دون الفقه ، وأخذت تدرس مطولاته وفروعه ، وتظافر على التأليف والتنقيح فيه رجال التخريج والترجيح (1).
وبلغ من عناية قسم كبير من الفقهاء بالقواعد صياغتها على وجه التركيز حتى أن أبا طاهر الدباس - من فقهاء الحنفية في القرن الثالث الهجري - در جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة. كما رد القاضي حسين - الفقيه الشافعي - جميع المذهب إلى أربع قواعد ، هي :
الأولى : اليقين لا يزال بالشك.
الثانية : المشقة تجلب التيسير.
الثالثة : الضرر يزال.
الرابعة : العادة محكمة.
وقد ضم بعضهم إلى هذه الأربع قاعدة خامسة ، وهي : الأمور بمقاصدها (2).
وأرجع الشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمي الشافعي المتوفى سنة 660 ه- الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد (3). وأرجع تاج الدين السبكي الفقه كله على نحو الاجمال إلى اعتبار المصالح ، فان درء المفاسد من جملتها (4).
ص: 4
وقال بعضهم - وهو يعقب على من أرجع الفقه كله إلى القواعد الأربع السابقة - : quot; في كون هذه الأربع دعائم الفقه كله نظر ، فان غالبه لا يرجع إليها إلا بواسطة وتكلف quot; (1). وإضافة القاعدة الخامسة إليها لا يعطيها استيعاب تمام الفقه. كما أن ارجاع الفقه كله إلى قاعدة واحدة أوضح في التمحل والتكلف ، كما هو لا يخفى.
وقد اشتهر جمع من الفقهاء بتدوين القواعد (2) ، منهم :
1 - عبد اللّه بن حسين بن دلال الكرخي الحنفي ، المتوفى سنة 340 ه- صاحب كتاب (الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية). مطبوع.
2 - أبو زيد عبيد بن عمر الدبوسي القاضي الحنفي ، المتوفى سنة 430 ه- له كتاب (تأسيس النظر). مطبوع.
3 - محمد بن مكي بن الحسن العاملي المعروف بابن دوست المتوفى سنة 507 ه.
4 - معين الدين أبو حامد محمد بن إبراهيم الجاجرمي الشافعي ، المتوفى سنة 613 ه- ، له كتاب (القواعد في فروع الشافعية).
5 - أبو محمد عز الدين بن عبد السلام الشافعي المتوفى سنة 660 ه- صاحب كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام). مطبوع.
6 - شهاب الدين أبو العباس أحمد بن العلاء الصنهاجي المشهور
ص: 5
ب- (القرافي) ، المتوفى سنة 684 ه- ، صاحب كتاب (الفروق) ، مطبوع.
7 - نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي ، المتوفى سنة 710 ه- ، صنف كتابا في (القواعد الكبرى في فروع الحنابلة).
8 - صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي الدمشقي الشافعي الشهير بابن العلاء ، المتوفى سنة 761 ه- ، له كتاب (المجموع المذهب في قواعد المذهب) و (الأشباه والنظائر في فروع فقه الشافعي).
9 - تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي الشافعي ، المتوفى سنة 771 ه.
10 - أبو عبد اللّه محمد بن مكي العاملي الشهير بالشهيد الأول ، المتوفى سنة 786 ه- مؤلف هذا الكتاب (القواعد والفوائد).
11 - بدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي ، المتوفى سنة 794 ه.
12 - أبو الفرج عبد الرحمان بن رجب الحنبلي ، المتوفى سنة 795 ه- صاحب كتاب (القواعد في الفقه الاسلامي) ، مطبوع.
13 - شرف الدين علي بن عثمان الغزي ، المتوفى سنة 799 ه.
14 - المقداد بن عبد اللّه السيوري الحلي الشهير بالفاضل السيوري ، المتوفى سنة 826 ه- ، له كتاب (نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية).
15 - جلال الدين عبد الرحمان السيوطي الشافعي ، المتوفى سنة 911 ه- صاحب كتاب (الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية). مطبوع.
16 - زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي الشهير بالشهيد الثاني المتوفى سنة 965 ه- ، صاحب كتاب (تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع فوائد الأحكام الشرعية) ، مطبوع.
ص: 6
17 - عمر بن إبراهيم بن محمد المصري المعروف بابن نجيم الحنفي ، المتوفى سنة 1005 ه- ، صنف كتاب (الأشباه والنظائر) ، مطبوع.
18 - أبو سعيد محمد بن مصطفى الخادمي المتوفى سنة 1176 ه- ، صاحب كتاب (مجامع الحقائق).
19 - أحمد بن محمد أبي ذر النراقي الامامي ، المتوفى سنة 1244 ه- صاحب كتاب (عوائد الأيام في مهمات أدلة الأحكام) ، مطبوع.
20 - السيد عبد الفتاح بن علي الحسيني المراغي الامامي ، المتوفى سنة 1250 ه- صنف كتاب (عناوين الأصول) ، مطبوع.
21 - الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، المتوفى سنة 1373 ه- ، صاحب كتاب (تحرير المجلة) ، مطبوع.
22 - السيد ميرزا حسن الموسوي البجنوردي ، المتوفى سنة 1395 ه- صاحب كتاب (القواعد الفقهية) ، مطبوع.
ومن خلال هذا العدد الكثير ممن شاركوا في الكتابة عن القواعد الفقهية لم نجد لدى فقهاء الإمامية قبل الشهيد الأول كتابا في هذا المضمار. ومن هنا فان كتاب (القواعد والفوائد) يعتبر أول مصنف يصل الينا في قواعد وفروع الامامية ، وقد قال عنه مصنفه في اجازته لابن الخازن : انه (لم يعمل الأصحاب مثله) (1). وهذا من أبرز الأسباب التي دفعتني لتحقيق هذا السفر الجليل.
وقد احتوى الكتاب على ما يقرب من ثلاثمائة وثلاثين قاعدة. إضافة إلى فوائد تقرب من مائة فائدة ، عدا التنبيهات والفروع ، وهي جميعا
ص: 7
قد استوعبت أكثر المسائل الشرعية.
وهذه القواعد والفوائد التي احتواها الكتاب ليست فقهية خالصة وإنما فيها بعض القواعد والفوائد الأصولية والعربية ، ولكن الطابع الفقهي هو الغالب عليها.
ومنهج المصنف في هذا الكتاب هو : أنه يورد القاعدة أو الفائدة ثم يبين ما يندرج تحتها من فروع فقهية ، وما قد يرد عليها من استثناءات إن كان هناك استثناء منها.
وهو لم يقتصر على بيان رأي الامامية فيما يذكره من المسائل ، وإنما اتخذ المقارنة في أغلب الفروع الفقهية ، فيعرض ما قيل من الوجوه سواء كان القائل إماميا أم غيره. كما أنه قد يذكر قولا نادرا تفرد به بعض الامامية أو غيرهم ، مما يدل على سعة اطلاعه واحاطته بآراء الفقهاء على اختلاف مذاهبهم. ولا غرو في ذلك وهو القائل في اجازته لابن الخازن الحائري : (وأما مصنفات العامة ومروياتهم فاني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة ، والمدينة ، ودار السلام بغداد ، ومصر ودمشق ، وبيت المقدس ، ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام) (1).
كما أنه لا يكتفي بنقل تلكم الأقوال والوجوه في المسألة الفقهية بل هو غالبا ما يذكر أدلتها وحججها ، ويناقش ما لا يرتضيه منها مناقشات جليلة.
ويلاحظ أن المصنف لم يتبع في الغالب منهجا معينا في ترتيب ما أورده من قواعد وفوائد ، فهو لم يفصل القواعد الفقهية عن الأصولية
ص: 8
أو العربية كما أنه لم يرتب القواعد الفقهية منها على أبواب الفقه المشهورة ، فهو وإن كان قد جمع بعض قواعد الاجتهاد ، والمناكحات ، والجنايات ، ثم قسما من قواعد العبادات والعقود والإرث ، إلا أن الطابع العام له عدم الترتيب ، إذ هو في الوقت الذي يجمع قواعد المناكحات نراه يذكر في مكان آخر بعض القواعد التي تتعلق بالنكاح. وهكذا القول في قواعد الجنايات ، وباقي أبواب الفقه التي جمع قواعدها.
بالإضافة إلى كل ذلك فإنه أحيانا يكرر القاعدة في أكثر من موضع كالكثير من قواعد السبب ، وبعض قواعد المناكحات ، وقواعد الوسائل إلى المصالح.
ومن ثم قام تلميذه المقداد بن عبد اللّه السيوري الحلي بترتيب تلكم القواعد وتهذيبها ، ووضع في ذلك كتابا سماه (نضد القواعد الفقهية) الذي تقدمت الإشارة إليه. كما أن الشهيد الثاني زين الدين العاملي قام هو الآخر بفصل القواعد الأصولية عن العربية مع فهرس كامل للمطالب والمسائل الفرعية التي تندرج تحت تلكم القواعد ، فصنف كتاب (تمهيد القواعد الأصولية والعربية) الذي تقدمت الإشارة إليه أيضا.
ونظرا لان المصنف أخذ بمنهج المقارنة بين مختلف المذاهب الاسلامية فيما يعرضه من مسائل فرعية فقد اعتمد على العديد من المراجع المختلفة وان لم يسم الغالب منها بالاسم صريحا.
ومن أهم مصادره في الفقه الإمامي :
1 - المقنعة للشيخ المفيد
2 - الانتصار للسيد المرتضى
ص: 9
3 - المقنع للشيخ الصدوق
4 - الخلاف للشيخ الطوسي
5 - المبسوط للشيخ الطوسي
6 - النهاية للشيخ الطوسي
7 - السرائر لابن إدريس
8 - الكافي لأبي الصلاح الحلبي
9 - الجامع للشرائع لابن سعيد الحلي الهذلي
10 - شرائع الاسلام للمحقق الحلي
11 - المعتبر للمحقق الحلي
12 - تحرير الأحكام للعلامة الحلي
13 - قواعد الأحكام للعلامة الحلي
14 - مختلف الشيعة للعلامة الحلي
15 - منتهى المطلب للعلامة الحلي
16 - إيضاح الفوائد لفخر المحققين
أما مصادره في الفقه السني فأهمها :
1 - المهذب للشيرازي
2 - المجموع شرح المهذب للنووي
3 - الوجيز للغزالي
4 - فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي
5 - قواعد الأحكام لابن عبد السلام
6 - الفروق للقرافي
ويبدو أن المصدرين الأخيرين - القواعد ، والفروق - اعتمد عليهما المصنف كثيرا في تدوين آراء أهل السنة.
ص: 10
كما أني وجدت من خلال مراجعتي للكتاب أنه يذكر قواعد وفروعا موجودة في الأشباه والنظائر للسيوطي المتوفى سنة 911 ه- ، وغالبا ما يكون السيوطي قد نقلها عن آخرين ممن سبقوه من فقهاء الشافعية كالعلائي والسبكي وهذا مما يؤيد أن المصنف كان قد اطلع على بعض مصادر الشافعية - غير ما ذكرناه - التي عنيت بهذا النوع من البحث.
وقد ذكر الخوانساري في روضات الجنات (1) : أن الشهيد الأول كان معاصرا لشمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الخليلي الملقب ب (العلاء) صاحب كتاب القواعد المشهور (وقد عاشره قليلا أو كان قد طالع مصنفاته كثيرا لما يوجد في مصنفاتهما من المشابهة وضعا والمشاركة سبكا ، بحيث قيل : إن غالب مطالب قواعد الشهيد مأخوذة من قواعد ذلك العلم الفريد).
والذي يبدو أن وجود التشابه بينه وبين العلاء لا يدل على أخذه من العلاء ، لجواز أخذ العلاء منه ، أو أن يكون العلاء نفسه قد اعتمد على المصادر المتقدمة التي اعتمد عليها المصنف. فهذا القول ليس عليه دليل قوي يستند إليه.
لم أعثر - في حدود تتبعي - على من يحدد تأريخ ابتداء تأليف كتاب (القواعد والفوائد) أو الفراغ منه ، ولكن الشئ الثابت أنه كان قبل (12 رمضان سنة 784 ه) بدليل أن المصنف ذكره من جملة الكتب التي صنفها في إجازته لابن الخازن بهذا التأريخ ، وأجاز له روايته ، فقد جاء فيها : (... وأجاز له جميع ما يجوز عنه وله روايته من مصنف ومؤلف ومنثور ومنظوم ... فمما صنفته : كتاب القواعد
ص: 11
والفوائد ، في الفقه ، مختصر مشتمل على ضوابط كلية أصولية وفرعية تستنبط منها أحكام شرعية لم يعمل الأصحاب مثله ..) (1). ويبدو من بعض فقرات الإجازة أنه كان تاما في ذلك الوقت ، فقد جاء فيها : (.. وغير ذلك من الرسائل وكتب شرع فيها يرجى إتمامها في الفقه والكلام والعربية إن شاء اللّه) (2). فما ذكره ناسخ النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة السيد الحكيم العامة بالنجف تحت رقم : 2136 ، من أن القضاء قد عاجل المصنف قبل إتمامه (3) ، لا دليل عليه.
لقد تناول العلماء والمحققون هذا الكتاب بالشرح والتعليق ويبدو أنه كان من الكتب الدراسية (4) فممن شرحه :
1 - الميرزا أبو تراب ، المعروف بميرزا أقا القزويني الحائري ، المتوفى بعد سنة 1292 ه.
2 - الشيخ علي بن علي رضا الخوئي ، المتوفى سنة 1350 ه- (5). وأما حواشيه فكثيرة ، منها :
1 - حاشية الشيخ أبي القاسم علي بن طي العاملي المتوفى سنة 855 ه.
2 - حاشية الشيخ البهائي محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي ، المتوفى سنة 1031 ه. طبعت بهامش النسخة المطبوعة بإيران سنة 1308 ه.
ص: 12
3 - حاشية الشيخ محمد بن علي الحرفوشي ، المتوفى سنة 1059 ه- طبعت أيضا بهامش النسخة المطبوعة سنة 1308 ه.
4 - حاشية السيد محمد بن محمود الحسيني اللواساني الطهراني المعروف ب (عصار) المتوفى سنة 1356 ه- ، وهي طبعت أيضا بهامش النسخة المطبوعة.
5 - حاشية المولى حسن علي بن عبد اللّه التستري المتوفى سنة 1075 ه.
6 - حاشية ميرزا قاضي بن كاشف الدين محمد اليزدي المتوفى سنة 1056 ه- ، وهي حاشية على قاعدة واحدة من قواعد الشهيد.
7 - حاشية السيد إسماعيل بن نجف المرندي ، المتوفى سنة 1318 هفرغ منها سنة 1286 ه.
8 - حاشية الشيخ محمد بن محمد باقر الشهير بالفاضل الإيرواني ، المتوفى سنة 1306 ه- ، وهي بهامش النسخة الخطية الخاصة بالأستاذ الشيخ محمد تقي الإيرواني التي اعتمدتها في التحقيق.
9 - حاشية ميرزا محمد بن سليمان التنكابني (1).
ولد في جزين سنة 734 ه- ، ونشأ وترعرع في بيت من بيوت العلم والدين ، فقد كان والده الشيخ جمال الدين عالما جليلا ، وعلى يده تلقى مبادئ العلوم العربية والفقه. وكان يجد من والده الشيخ دافعا قويا على الدراسة والتفكير فيما يعرض من مسائل وما يطرح من أفكار. كما كان يجد في المجالس والندوات العلمية التي كانت تعقد هناك بكثرة مجالاخصبا للمناقشة وابداء الرأي. فأصبح وهو لم يتجاوز بعد المراحل الأولى من دراسته يشار إليه بالفضل والعلم (1).
لقد أراد الشهيد الأول التزود بالمعرفة من مختلف مصادرها ، ولم يقتصر على ما يتلقاه من الثقافة في جزين أو جبل عامل ، فشد الرحال إلى مراكز العلم والفكر الاسلامي الرئيسة في ذلك العهد. وكانت الهجرة الأولى له سنة 750 ه- قاصدا الحلة - التي كانت مركزا من مراكز الفقه الشيعي في العراق - وعمره ست عشرة سنة ، وبقي فيها خمس سنين يتزود بالمعرفة ويتلقى العلم على يد شيوخ كبار من تلامذة العلامة الحلي في الفقه والحديث والأصول وغيرها من مجالات المعرفة. ثم رجع إلى بلاده وهو ابن احدى وعشرين سنة (2).
ثم تتابعت رحلاته إلى الحلة ، وكربلاء ، وبغداد ، ومكة المكرمة والمدينة المنورة ، وبيت المقدس ، ومدينة الخليل ، ودمشق ، ومصر.
وقد أتيح له عن طريق هذه الرحلات مخالطة الكثير من علماء المذاهب الاسلامية المختلفة ، والتعرف على آرائهم وأفكارهم. كما كان على صلة وثيقة بمشيخة الرواية من علمائهم ، وفي إجازته لابن الخازن
ص: 14
المتقدمة خير دليل على ذلك.
تلقى الشهيد الأول العلوم المختلفة ، النقلية منها والعقلية ، على العديد من اعلام الفكر ، وكان لهم الأثر في تكوين شخصيته العلمية ، وقد عدد الكثير منهم في إجازتيه لابن الخازن (1) وابن نجدة (2) ، وفيما يلي ذكر لقسم منهم فيما عثرنا عليه ، سواء من إجازته لتلامذته ، أم من إجازات شيوخه له :
1 - فخر الدين أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، المعروف ب (فخر المحققين) ، والمتوفى سنة 771 ه. اتصل به بعد أن هاجر الهجرة الأولى إلى الحلة ولازمه. وقيل (3) : إن معظم اشتغاله العلمي كان عليه.
وقد أجازه أكثر من مرة ، الأولى كانت سنة 751 ه- بداره في الحلة يستفاد ذلك من كتابه (الأربعون) حيث يقول : (الحديث الثاني : ما أخبرني به ذلك الشيخ الامام شيخ الشيعة ورئيسهم فخر الدين أبو طالب محمد بن الحسن بن المطهر في آخر نهار عشرين شعبان بداره سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بالحلة عن والده الامام الأعظم ..) ولفظ (أخبرني) وإن كان قد يستعمل في تحمل الحديث بالسماع أو بالقراءة ، إلا أنه مما يكثر استعماله في التحمل بالإجازة (4). ومن هنا فان النوري (5) يراه
ص: 15
من الألفاظ الصريحة في ذلك. وأجازه ثانية في 6 شوال سنة 756 ه- بالحلة وهي إجازة عامة كتبها على ظهر الجزء الأول من مصنفه (إيضاح الفوائد في شرح اشكالات القواعد) عند قراءته عليه (1). وإجازة ثالثة - على ما قيل (2) - سنة 757 ه.
2 - عميد الدين أبو عبد اللّه عبد المطلب بن مجد الدين أبي الفوارس محمد بن علي بن الأعرج الحلي الحسيني ، الشهير ب (العميدي) المتوفى سنة 754 ه- ، قرأ عليه كتاب (تذكرة الفقهاء) للعلامة الحلي ، وإجازة سنة 752 ه- (3). وله إجارة منه في الرواية في 19 رمضان سنة 751 ه
في الحضرة الحائرية ، كما يستفاد من مقدمة كتابه (الأربعون).
3 - الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن طراد المطار آبادي المتوفى سنة 762 ه. أجازه بالحلة في 6 ربيع الثاني سنة 754 ه- (4).
4 - جلال الدين أبو محمد الحسن بن الشيخ نظام الدين أحمد بن نماء الحلي ، كان من أكابر علماء الحلة وفقهائها. أجازه بالحلة في ربيع الثاني سنة 752 ه- (5).
5 - السيد تاج الدين أبو عبد اللّه محمد بن السيد جلال الدين بن القاسم الحسيني الديباجي ، المعروف بابن معية ، المتوفى سنة 776 ه. وكان جليل القدر واسع الرواية. إجارة بالحلة في منتصف شوال
ص: 16
سنة 753 ه- (1). وله إجازة أخرى في 11 شوال سنة 754 ه- ، أجازه فيها برواية جميع مروياته ومصنفاته (2).
6 - الشيخ قطب الدين أبو جعفر محمد بن محمد الرازي البويهي الحكيم المتأله الفقيه ، من تلامذة العلامة الحلي ، المتوفى في 12 ذي القعدة سنة 776 ه. يقول عنه الشهيد الأول في إجازته لابن الخازن : (فاني حضرت في خدمته قدس اللّه لطيفه بدمشق عام ثمانية وستين وسبعمائة واستفدت من أنفاسه ، وأجاز لي جميع مصنفاته ومؤلفاته في المعقول والمنقول أن أرويها عنه ، وجميع مروياته) (3). واجتمع به مرة أخرى بدمشق في أواخر شعبان سنة 776 ه- ، وأجازه ثانية (4).
7 - قاضي قضاة مصر برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد ابن سعد بن جماعة. قرأ عليه الشاطبية.
8 - شمس الدين محمد بن عبد اللّه البغدادي الحنبلي ، قرأ عليه الشاطبية أيضا ، وروى عنه كتاب (الجامع الصحيح) للبخاري (5).
9 - شمس الأئمة محمد بن يوسف القرشي الكرماني الشافعي ، وقد أجازه بإجازة عامة في أوائل جمادى الأولى سنة 758 ه- ببغداد ، وجاء فيها : (وبعد فقد استجاز المولى الأعظم إمام الأئمة صاحب الفضلين مجمع المناقب والكمالات الفاخرة جامع علوم الدنيا والآخرة شمس الملة والدين محمد بن الشيخ العالم جمال الدين بن مكي بن شمس الدين محمد الدمشقي رزقه اللّه من
ص: 17
أولاه وأخراه ما هو أولاه وأحراه رواية مالي فيه حق الرواية لا سيما كتب الثلاثة التي صنفها أستاذ الكل في الكل عضد الملة والدين عبد الرحمن المولى السعيد زين الدين أحمد بن عماد الدين عبد الغفار اللائجي ...) (1).
10 - الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الحسن الحنفي ، فقيه بيت المقدس ، قرأ عليه الخلاصة المالكية ، وأجازه.
11 - الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري الفقيه بمقام الخليل إبراهيم عليه السلام. قرأ عليه الخلاصة المالكية أيضا (2).
12 - السيد جمال الدين عبد اللّه محمد الحسني العريضي الخراساني. قرأ عليه في المعاني والبيان كتاب (الفوائد الغياثية وشرحها) و (المفتاح) للسكاكي (3).
تتلمذ على يده جماعة من الاعلام أثناء تدريسه في الحلة ، وفي مدرسته الخاصة التي أنشأها بجزين ، وفي رحلاته التي كان يقوم بها في الأقطار الاسلامية.
وقد عرف في الحلة بتدريس كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي ، و (علل الشرائع) للصدوق ، و (قواعد الأحكام) للعلامة الحلي. وكتب أخرى في الفقه والحديث والأصول (4).
1 - الشيخ شمس الدين أبو جعفر محمد بن تاج الدين أبي محمد عبد علي
ص: 18
الشهير ب (ابن نجدة) المتوفى سنة 808 ه. جاء في إجازته له ، المؤرخة في 10 رمضان سنة 770 ه- ، أنه قرأ عليه كتاب (قواعد الأحكام) للعلامة الحلي ، وكتاب (اللمع في النحو) لابن جني ، و (خلاصة المنظوم) لابن مالك. وسمع كتبا كثيرة بقراءة غيره في فنون مختلفة ، مثل كتاب
(تحرير الأحكام) و (إرشاد الأذهان) في الفقه ، و (المناهج) و (شرح النظم) و (شرح الياقوت) في علم الكلام ، وكتاب (نهج المسترشدين) ، وكلها من مصنفات العلامة الحلي ، و (عيون أخبار الرضا) للشيخ الصدوق ، وغيرها (1).
2 - الشيخ أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري الحلي الشهير ب (الفاضل السيوري) ، المتوفى سنة 826 ه- ، وهو الذي هذب كتاب أستاذه (القواعد والفوائد) كما تقدمت الإشارة إليه. وله كتاب (شرح نهج المسترشدين في أصول الدين) ، و (كنز العرفان في فقه القرآن) وغيرهما.
3 - شمس الدين محمد بن علي بن موسى الضحاك الشامي المتوفى سنة 791 ه. كان رفيق شيخه الشهيد في أول اشتغاله بالحلة على يد فخر المحققين ثم تتلمذ على يده ولازمه إلى حين مقتله (2).
4 - الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن عز الدين بن الخازن بالحضرة الحائرية ، كان من كبار تلامذته ، وكتب له الإجازة المعروفة والمؤرخة في 12 رمضان سنة 784 ه- (3).
5 - السيد بدر الدين الحسن بن أيوب الشهير ب (ابن نجم الدين
ص: 19
الأعرج) الحسيني الاطراوي العاملي (1).
6 - الشيخ حسن بن سليمان بن خالد الحلي. كان فقيها فاضلا له كتاب منتخب بصائر الدرجات (2).
7 - الشيخ شمس الدين محمد بن عبد العالي الكركي العاملي شيخ رواية الحسن بن العشرة (3).
8 ، 9 ، 10 - أولاده الثلاثة : رضي الدين أبو طالب محمد ، وضياء الدين أبو القاسم علي ، وجمال الدين أبو منصور الحسن ، وقد أجازهم برواية جميع ما صنفه وألفه ورواه (4).
آثاره
خلف لنا الشهيد الأول مؤلفات قيمة أحصاها بعض الباحثين باثنين وثلاثين كتابا (5). نذكر منها :
1 - اللمعة الدمشقية ، وهي رسالة فقهية مختصرة جمع فيها أبواب الفقه ، صنفها إجابة لالتماس شمس الدين محمد الآوي من أصحاب السلطان علي بن مؤيد ملك خراسان وتوابعها. وقد استغرق في تأليفها سبعة أيام فقط بداره بدمشق سنة 782 ه- على ما نقله عنه ولده أبو طالب محمد (6) (7).
ص: 20
وقد طبعت عدة طبعات مع شرحها الروضة البهية للشهيد الثاني.
2 - الدروس الشرعية في فقه الامامية ، وهو يشتمل على الكثير من أبواب الفقه ، خرج منه إلى كتاب الرهن فأدركته الشهادة قبل إتمامه ، شرع فيه سنة 780 ه- وفرغ من جزئه الأول في 12 ربيع الأول سنة 784 ه- (1).
وقد نهض لاتمامه العالم السيد جعفر الملحوس وفرغ منه في 26 رجب سنة 836 ه- (2).
وطبع كتاب الدروس بإيران سنة 1269 ه- ، وله شروح عدة ذكرها صاحب الذريعة (3).
3 - الألفية ، وهي رسالة فقهية تشتمل على ألف واجب من واجبات الصلاة مرتبة على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ، فرغ منها قبل
ص: 21
رمضان سنة 784 ه- ، وعليها حواش وشروح كثيرة ، وطبعت مكررا (1) :
4 - النفلية ، وهي رسالة ألفها بعد الألفية تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة حصر فيها نوافل الصلاة. ذكرها في إجازته لابن الخازن.
5 - غاية المراد في شرح نكت الارشاد : في الفقه ، والمتن للعلامة الحلي ، فرغ منه سنة 757 ه- وقد أشار إليه في إجازته لابن الخازن الحائري ، وطبع بإيران مكررا منها في سنة 1302 ه- (2).
6 - شرح التهذيب الجمالي في أصول الفقه ، والتهذيب من مصنفات العلامة الحلي ، وقد أشار إليه أيضا في إجازته لابن الخازن.
7 - رسالة في التكليف وفروعه.
8 - خلاصة الاعتبار في الحج والاعتمار : وهي رسالة مختصرة جدا في مناسك الحج والعمرة وجمعت فروعا وفذلكات كثيرة (3). ذكرها أيضا في إجازته لابن الخازن.
9 - البيان ، كتاب في الفقه لم يتمه ، خرج منه الطهارة والصلاة والزكاة والخمس وقسم من الصوم ، طبع بإيران سنة 1319 ه- (4).
10 - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة : في الفقه ، خرج منه الطهارة والصلاة بعد مقدمة فيها سبع إشارات في المباحث الأصولية ، وفرغ منه في 21 صفر سنة 784 ه- (5) ، وعليه عدة حواش ، طبع
ص: 22
على الحجر بإيران سنة 1271 ه- (1).
11 - الأربعون حديثا : أكثرها في العبادات فرغ منه في 18 ذي الحجة سنة 782 ه- ، طبع بإيران مع غيبة النعماني سنة 1318 ه- (2).
12 - المقالة التكليفية : رسالة في العقيدة فرغ الشهيد من تأليفها سنة 769 ه- ، وشرحها الشيخ زين الدين يونس البياضي (3).
13 - القواعد والفوائد : وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
14 - مزار الشهيد : ويسمى ب (منتخب الزيارات) ويضم جملة
من الزيارات. وترجم إلى الفارسية (4).
15 - شرح قصيدة الشهفيني : والقصيدة في مدح الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد اطلع الناظم على الشرح فأعجب به (5).
وفاته
استشهد رحمه اللّه يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى سنة 786 ه بعد أن لفق بعض حساده ضده أقاويل شنيعة نسبها إليه ، فقتل بالسيف ثم صلب ثم رجم ثم أحرق بدمشق في دولة بيد مرو ، وسلطنة برقوق ، بعد أن حبس سنة كاملة في قلعة الشام (6).
ص: 23
لقد اعتمدت في تحقيق (القواعد والفوائد) على أربع نسخ خطية إضافة إلى النسخة المطبوعة بالحجر في إيران سنة 1308 ه.
والنسخ الخطية هي : الأولى : نسخة مكتبة الامام كاشف الغطاء العامة في النجف الأشرف
المحفوظة تحت رقم (254).
وتقع في (208) أوراق ، بمقياس (5 / 21 × 12) سم. ناقصة الصفحة الأخيرة وقد أكملت بخط حديث ، وهي مصححة على عدة نسخ وعليها بعض التعليقات ، وفي أولها فهرس كامل للقواعد مع ترقيم لها ، وقد ختمت بعض أوراقها بختم مربع كتب فيه : (لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه) وبتأريخ 1133 ه- ، وعليها تملك مؤرخ سنة 1143 ه- باسم (ناصر بن الحسن المنامي البحراني) مجهولة الناسخ وتأريخ النسخ. وقد رمزت إليها بالحرف (ك).
الثانية : نسخة مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف الأشرف ، المحفوظة تحت رقم (2136).
تقع في (176) ورقة ، بمقاس (8 / × 23 5 /12) سم. وقد ثم نسخها على يد (حسين بن حمدان الحوارزي) في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة الحادية والستين بعد الألف (1061) من الهجرة ، وهي مقروءة ومصححة ، وإن كانت لا تخلو من أخطاء وسقط. وقد رمزت إليها بالحرف (ح).
ص: 24
الثالثة : النسخة المحفوظة بمكتبة الحجة الشيخ نوري مشكور الخاصة في النجف الأشرف.
وتقع في (281) ورقة ، بمقاس (17 × 5 / 11). ناقصة الأول والوسط وقد أكمل بعض النقص بخط حديث ، والبعض الآخر لم يكمل.
تم نسخها على يد (خليل الدين إبراهيم الجيلاني سنة خمس وثلاثون ... (1) وألف). وقد أتلفت الرطوبة أطراف بعض الأوراق الأخيرة منها ، ويكثر فيها الخطأ والسقط ، وعليها تملكان ، أحدهما : باسم الشيخ (مشكور محمد جواد) والثاني باسم الشيخ (عبد النبي بن الحاج علي الكاظمي). وقد رمزت إليها بالحرف (م).
الرابعة : النسخة المحفوظة بمكتبة الحجة الأستاذ الشيخ محمد تقي الإيرواني الخاصة في النجف الأشرف.
وتقع في (279) ورقة ، بمقاس (5 / 19 × 11) سم. وقد كتبت بخطوط مختلفة إلا أنها مصححة على عدة نسخ وعليها تعليقات للشيخ محمد الإيرواني الشهير بالفاضل الإيرواني ، المتوفى سنة 1306 ه. مجهولة الناسخ وتأريخ النسخ. وقد رمزت إليها بالحرف (أ).
نظرا لان نسخة مكتبة الامام كاشف الغطاء تمتاز على بقية النسخ بقلة الأخطاء والسقط ، ووضوح الخط ، فقد اتخذت منها أصلا أعتمد عليه في عملي ، وأن أضع القراءات المختلفة في الهوامش ، إلا إذا كان الموجود في الأصل أقل ملاءمة في تقويم النص والقراءة الأخرى أقرب - فيما اعتقده - إلى الصحة ، ففي هذه الحالة أدخل القراءة الصحيحة في
ص: 25
الأصل مع الإشارة في الهامش إلى ما كان موجودا فيه. متوخيا من ذلك أن أقدم للقارئ نصا هو أقرب فيما اعتقده إلى الصحة.
وقد شمل عملي في التحقيق - إضافة إلى ضبط النص - ما يلي :
1 - تخريج الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المروية عن النبي صلى اللّه عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.
2 - إرجاع أكثر ما ذكره المصنف من الأقوال وما أورده من الأدلة والاعتراضات إلى أصحابها في حدود ما توفر لدي من مصادر. أما القسم الباقي فلم أوفق للعثور عليه. وقد أخذ مني الفحص عن كل ذلك في كتب المذاهب المختلفة الشئ الكثير من الجهد والوقت.
3 - أن المصنف عندما أورد القواعد أوردها خالية من الترقيم إلا القليل منها ، كالقواعد الخمس التي يمكن رد الأحكام إليها ، وقواعد المناكحات والجنايات. وتسهيلا على القارئ عند الارجاع إلى بعضها فقد وضعت لكل من القواعد غير المرقمة رقما خاصا مبتدئا من الرقم (1) واضعا له بين قوسين معقوفتين [ ].
4 - تخريج الأبيات الشعرية - وهي قليلة - وإرجاعها إلى قائلها ، في حدود ما استطعت العثور عليه.
5 - شرح بعض المفردات اللغوية ، وبعض العبارات الغامضة التي في الكتاب.
6 - تصحيح الأخطاء اللغوية أو الاملائية التي وقع فيها النساخ.
7 - تغيير رسم بعض الكلمات التي جرت عادة القدامى على كتابتها على خلاف لغة العصر ، كتحويل الهمزة إلى ياء في مثل (وطي) و (فوايد) و (مشية) و (بايع) ، وما شاكل ذلك.
8 - الإشارة إلى الزيادات التي تنفرد بها نسخة أو نسختان من النسخ
ص: 26
المعتمدة. أما ما حدث فيها من سقط - وهو كثير وخاصة في النسخة المرموز إليها بحرف (م) - فلم أشر إليه إلا نادرا حتى لا أثقل الهوامش بما لا ضرورة إليه.
ولا يفوتني هنا أن أقدم خالص شكري وتقديري لسماحة الشيخ نوري مشكور ولسماحة الأستاذ الشيخ محمد تقي الإيرواني ، والأخ الفاضل الشيخ شريف كاشف الغطاء لإعارتي النسخ الخطية التي تحت أيديهم. كما وأقدم جزيل شكري إلى إدارة مكتبة الإمام الحكيم العامة وأخص بالذكر مديرها الفاضل الشيخ محمد مهدي نجف الذي وفر لي بكل جهده ما احتاجه من مراجع.
وأخيرا لا أنسى أن أتقدم بالشكر إلى جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف لتفضلها بنشر هذا الكتاب على نفقتها فأسدت بذلك خدمة للمكتبة الاسلامية.
واللّه أسأل أن يأخذ بأيدينا جميعا إلى ما فيه خيرنا وصلاحنا في ديننا ودنيانا إنه ولي التوفيق والسداد.
النجف الأشرف في 3 / 4 / 1399 ه
2 / 3 / 1979 م
المحقق
د. عبد الهادي السيد محسن الحكيم
ص: 27
ص: 28
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه أستعين
اللّهم إني أحمدك والحمد من نعمائك ، وأشكرك والشكر من عطائك وأصلي على خير أنبيائك ، وسيد أصفيائك ، وخاتم رسلك ، أبي القاسم محمد بن عبد اللّه وعترته الطاهرين.
وأسألك أن تصلي عليهم وعلى جميع أنبيائك ، وأن تيسر لنا طاعتك لننتظم في سلك أوليائك ، ونعدّ في زمرة أحبائك وأن ترزقنا عونك على جميع مقاصدنا التي لا تخرج عن مرضاتك (1) في أرضك وسمائك ، وتجعل ما عزمنا عليه من تأليف هذه « القواعد والفوائد » عدة وذخرا ليوم لقائك. فإليك توجهنا ، وعليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، فجازنا بأحسن جزائك وأفض علينا سوابغ نعمائك.
ص: 29
الفقه لغة (1) : الفهم. وشرعا : العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.
فخرج : العلم بالذوات ، والعلم بالأحكام العقلية ، وعلم أصول الفقه ، وعلم المقلّد إذا استند إلى دليل إجمالي ، فإنه يقول في كل مسألة : هذا ما أفتاني به المفتي ، وكل ما يفتي (2) به المفتي فهو حكم اللّه تعالى في حقي. فإنه ينتج : هذا حكم اللّه تعالى في حقي.
قاعدة (3) - [2]
الحكم الشرعي ينقسم إلى الخمسة المشهورة (4) ، وربما جعل السبب والمانع ، والشرط ، مغايرا لها ، كالدلوك الموجب للصلاة ، والنجاسة المانعة منها ، والطهارة المصححة لها.
وكل ذلك ينحصر في أربعة أقسام : العبادات ، والعقود ، والإيقاعات والأحكام.
ووجه الحصر : أن الحكم الشرعي إما أن تكون غايته الآخرة ، أو الغرض الأهم منه الدنيا ، والأول : العبادات. والثاني : إما أن يحتاج إلى عبارة ، أو لا ، والثاني : الأحكام. والأول : إما أن تكون العبارة
ص: 30
من اثنين - تحقيقا أو تقديرا - أو لا ، والأول : العقود ، والثاني : الإيقاعات.
تنتظم ما عدا المباح ، فتوصف العبادة بالوجوب ، والاستحباب ، والتحريم ، والكراهة.
كالصلاة المنقسمة إلى الواجبة والمستحبة ، وإلى صلاة الحائض ، وإلى الصلاة في الأماكن المكروهة ، والأوقات المكروهة.
والصوم المنقسم إلى الأربعة ، كصوم رمضان ، وشعبان ، والعيد (3) والسفر.
وأما العقود فهي أسباب تترتب عليها الأحكام الشرعية من الوجوب والندب ، والكراهة ، والتحريم ، والإباحة.
فإن عقد البيع - مثلا - يوصف بالإباحة. ويترتب على البيع الصحيح وجوب التسليم إلى المشتري والبائع في العوضين ، وتحريم المنع منه ، وإباحة الانتفاع ، وكراهة الاستحطاط بعد الصفقة ، واستحباب إقالة النادم.
وتلحق أيضا (4) الأحكام الخمسة نفس العقد وإن كان سببا ، فيجب البيع عند توقف الواجب عليه ، كإيفاء الدين ، ونفقة الواجبي النفقة ، والحج به ، وصرفه في الجهاد.
ص: 31
ويستحب البيع عند الربح إذا كانت السلعة مقصودا بها الاسترباح وقصد بذلك التوسعة على عياله ، ونفع المحتاج.
ويحرم البيع إذا اشتمل على ربا ، أو جهالة ، أو منع حق واجب كبيع راحلة الحاج إذا علم عدم إمكان الاستبدال ، وبيع المكلّف ماء الطهارة إذا علم فقده بعده.
ويكره البيع إذا استلزم تأخير الصلاة عن وقت الفضيلة.
ويباح حيث لا رجحان ولا مرجوحية.
وتلحق أيضا الأحكام الخمسة بمقدمات العقد ، فالوجوب : كوجوب العلم (في العوضين) (1).
والتحريم : كالاحتكار ، والتلقي ، والنجش عند من حرمهما (2) (3).
والكراهة : كالزيادة وقت النداء (4) والدخول في سوم المؤمن.
والمستحب : التساهل (5) في البيع ، وإحضاره إلى (6) موضع يطلب فيه.
والمباح : ما خلا عن هذه الوجوه.
ص: 32
والإيقاعات يترتب عليها ما قلناه في العقود.
وأما المسماة بالأحكام فالغرض منها إما بيان الإباحة ، كالصيد ، والأطعمة ، والإرث ، والأخذ بالشفعة.
وأما بيان التحريم ، كموجبات الحدود والجنايات ، وغصب الأموال.
واما بيان الوجوب ، كنصب القاضي ، ونفوذ حكمه ، ووجوب إقامة الشهادة عند التعيّن ، ووجوب الحكم على القاضي عند الوضوح.
وأما بيان الاستحباب ، كالطعمة في الميراث ، وآداب الأطعمة والأشربة والذبائح. والعفو في حدود الآدميين وقصاصهم ودياتهم.
وأما بيان الكراهة ، كما في كثير من الأطعمة والأشربة ، وآداب القاضي.
لما ثبت في علم الكلام (1) أن أفعال اللّه تعالى معللة بالأغراض ، وأن الغرض يستحيل كونه قبيحا ، وأنه يستحيل عوده إليه تعالى ، ثبت كونه لغرض يعود إلى المكلّف ، وذلك الغرض إما جلب نفع إلى المكلف أو دفع ضرر عنه ، وكلاهما قد ينسبان إلى الدنيا ، وقد ينسبان إلى الآخرة.
فالأحكام الشرعية لا تخلو (عن أحد) (2) هذه الأربعة. وربما اجتمع في الحكم أكثر من غرض واحد ، فان المتكسب لقوته وقوت عياله الواجبي النفقة (3) أو المستحبي النفقة إذا انحصر وجهه في التكسب ،
ص: 33
وقصد به التقرب ، فإن الأغراض الأربعة تحصل من (1) تكسبه. أما النّفع الدنيوي (فلحفظ النّفس عن) (2) التلف. وأما الأخروي فلأداء الفريضة المقصود بها القربة. وأما دفع الضرر الأخروي فهو اللاحق بسبب ترك الواجب. وأما دفع الضرر الدنيوي فهو الحاصل للنفس بترك القوت.
كل حكم شرعي يكون الغرض الأهم منه الآخرة ، إما لجلب النّفع فيها ، أو لدفع الضرر فيها ، يسمى عبادة أو كفارة.
وبين العبادة والكفارة عموم وخصوص مطلق ، فكل كفارة عبادة وليس كل عبادة كفارة. وما جاء في الحديث : (الصلوات الخمس كفارة لما بينهن) (3) ، و (ان غسل الجمعة كفارة من الجمعة إلى الجمعة) (4) ، و (أن الحج والعمرة ينفيان الذنوب) (5) ، و (أن العمرة كفارة كل ذنب) (6) ، لا ينافي ذلك ، فإن الصلاة والحج
ص: 34
يتصور فيهما الوقوع ممن لا ذنب له ، كالمعصوم.
وكل حكم شرعي يكون الغرض الأهم منه الدنيا ، سواء كان لجلب النّفع ، أو دفع الضرر ، يسمى معاملة ، سواء كان جلب النّفع ودفع الضرر مقصودين بالأصالة أو بالتبعية.
فالأوّل : هو ما يدرك بالحواس الخمس ، فلكل حاسة حظ من الأحكام الشرعية.
فللسمع : الوجوب ، كما في القراءة الجهرية. والتحريم ، كما في سماع الغناء وآلات اللّهو.
وللبصر : الوجوب ، كما في الاطلاع على العيوب ، وإرادة التقويم.
والتحريم ، كما في تحريم النّظر إلى المحرمات.
وللّمس : أحكام الوطء ومقدماته ، والمناكحات ، ثبوتا وزوالا إذ الغرض الأهم منها اللمس. ومما يتعلق باللمس : اللباس ، والأواني ، وإزالة النجاسات ، وتحصيل الطهارات.
ويتعلق بالذوق : أحكام الأطعمة والأشربة ، والصيد ، والذبائح.
وهذا في جلب النّفع ، وأما دفع الضرر المقصود بالأصالة فهو حفظ المقاصد الخمس ، كما سيأتي إن شاء اللّه.
والثاني (1) : هو ما تكون المصلحة مقصودة بالتبع (2) ، فهو : كل وسيلة إلى المدرك بالحواس أو إلى حفظ المقاصد.
ص: 35
الوسائل خمس :
أحدها : أسباب تفيد الملك ، وهي ستة :
الأول : ما يفيد الملك للعين بعقد معارضة ، كالبيع ، والصلح ، والمزارعة ، والمساقاة ، والمضاربة.
الثاني : ما يفيد ملك العين بعقد لا معارضة فيه ، كالهبة ، والصدقة ، والوقف ، والوصية بالعين ، وقبض الزكاة والخمس ، والنذر.
الثالث : ما يفيد ملك العين لا بعقد ، كالحيازة ، والإرث ، وإحياء الموات ، والاغتنام ، والالتقاط.
الرابع : ما يفيد ملك المنفعة بعقد معاوضة ، كالإجارة.
الخامس : ما يفيد ملك المنفعة بعقد غير معاوضة ، كالوصية بالمنفعة ، والعمرى عند الشيخ (1) (2) ، وابن إدريس (3) (4).
ص: 36
السادس : ما يفيد ملك المنفعة لا بعقد ، كإرث المنافع.
الوسيلة الثانية : أسباب تسلط (1) على ملك الغير ، وهي أقسام خمسة :
الأول : ما يسلط عليه بالتملك قهرا ، كالشفعة ، والمقاصة للمماطل وبيع مال الممتنع عن الحق الواجب ، ورجوع البائع في عين ماله للتفليس مطلقا ، وللموت إن كان في المال وفاء ، وفسخ البائع بخياره ، إن قلنا بانتقال المبيع بالعقد ، وهو الأصح.
الثاني : ما يسلط على ملك الغير بالتصرف لمصلحة المتصرف خاصة كالعارية.
الثالث : ما يسلط على ملك الغير بالتصرف لمصلحة المالك خاصة ، كالوديعة المأذون في نقلها وإخراجها ، والوكالة المتبرع بها.
الرابع : ما يسلط لمصلحتهما ، كالشركة ، والقراض ، والوكالة يجعل.
الخامس : ما يسلط على ملك الغير بمجرد وضع اليد ، كالوديعة غير المأذون له (2) فيها إذا لم يحتج إلى النقل.
الوسيلة الثالثة : أسباب تقتضي منع المالك من التصرف في ماله ، وهي :
أسباب الحجر الستة (3) وما يضاهيها ، كحجر الزوج على المرأة فيما يتعلق بالاستمتاع ، وحجر البائع والمشتري لتسليم الثمن والمثمن ، والحجر على سيد أم الولد فيما يتعلق بإخراجها عن ملكه ، إلا في
ص: 37
مواضع معدودة (1).
الوسيلة الرابعة : ما هو وصلة إلى حفظ المقاصد الخمسة ، وهي : النّفس ، والدين ، والعقل ، والنسب ، والمال ، التي لم يأت تشريع إلا بحفظها ، وهي (الضروريات الخمس).
فحفظ النّفس بالقصاص ، أو الدية ، أو الدفاع.
وحفظ الدين بالجهاد ، وقتل المرتد.
وحفظ العقل بتحريم المسكرات والحدّ عليها.
وحفظ النسب بتحريم الزنا ، وإتيان الذكران والبهائم ، وتحريم القذف والحد على ذلك.
وحفظ المال بتحريم الغصب ، والسرقة ، والخيانة ، وقطع الطريق والحدّ والتعزير عليها.
الوسيلة الخامسة : ما كان مقويا لجلب المصلحة ودفع (2) المفسدة وهو القضاء والدعاوي ، والبيّنات ، وذلك لأن الاجتماع من ضروريات المكلفين ، وهو مظنة النزاع ، فلا بد من حاسم لذلك وهو الشريعة.
ولا بد لها من سائس وهو الإمام ونوابه ، والسياسة بالقضاء وما يتعلق به.
ص: 38
وبهذه المقاصد والوسائل تنتظم كتب الفقه.
السبب إما معنوي أو وقتي :
فالأوّل : أن يكون الوصف مستلزما لحكمة باعثة على شرعية الحكم المسبب ، كالملك ، فإنه سبب الانتفاع والإتلاف والمباشرة. واليد ، فإنها سبب الضمان. والزنا ، فإنه سبب الحدّ.
والثاني : أن يكون الوقت مقتضيا لثبوت حكم شرعي ، كمواقيت الصلاة.
من الأسباب ما لا تظهر فيه المناسبة وإن كان مناسبا في نفس الأمر كالدلوك وباقي أوقات الصلاة الموجبة للصلاة ، والحدث الموجب للوضوء والغسل ، والاعتداد مع عدم الدخول ، واستئناف العدة في المسترابة بعد التربص. وعدّ منه : الهرولة في السعي ، ورمي الجمرات ، وتقديم الأضعف على الأقوى في ميراث الغرقى ، على القول الأصح من عدم التوريث مما ورث منه.
والحكمة الظاهرة في ذلك مجرد الإذعان والانقياد ، ومن ثمَّ قيل : بأن الثواب فيه أعظم ، لما فيه من الانقياد المحض.
ومنها ما تظهر فيه المناسبة ، ويختص باسم (العلة) ، كالنجاسة الموجبة للغسل ، والزنا الموجب للحدّ ، والقتل الموجب للقصاص ، والقذف الموجب للحدّ ، والكبيرة الموجبة للفسق.
ص: 40
السبب قد يكون قولا ، كالعقد والإيقاع.
ومنه تكبيرة الإحرام ، والتلبية. وقد يكون فعلا ، كالالتقاط ، والاحتياز (1) ، وإحياء الموات والكفر ، والزنا ، وقتل النّفس المعصومة ، والوطء المقرر لكمال المهر.
وربما كان السبب الفعلي أقوى من القولي ، فان السفيه لو وطئ أمته فأحبلها صارت أم ولد وتنعتق بموته. ولو باشر عتقها لم يصح.
والعبد لو التقط تملك السيد إن شاء ، ولو وهب لم يملك السيد ولا يتملك.
أقسام السبب والمسبب باعتبار الزمان ثلاثة :
الأول : ما يقارن المسبب ، كالشرب ، والزنا ، والسرقة ، والمحاربة المقارنة لاستحقاق الحدّ.
وقتل الكافر يقارنه استحقاق السلب مع الشرط ، لا بدونه في الأصح. ومثله تقارن الملك وأسبابه الفعلية ، كالحيازة ، والاصطياد ، والأخذ من المعدن ، وإحياء الموات.
القسم الثاني : ما يتقدم فيه المسبب (2) ، كتقديم غسل الجمعة في الخميس ، وغسل الإحرام على الميقات ، وأذان الفجر ليلا ، وزكاة الفطر في شهر رمضان على قول مشهور (3) ، إلا أن يجعل السبب دخول
ص: 41
الشهر فيكون من قسم المقارن. وتقديم الزكاة قبل الحول على قول (1) وعدّ منه (2) : توريث الوارث الدية ، مع أنها لا تجب إلا بعد موت القتيل ، ويمتنع عليه الملك حينئذ ، وإنما (قدر تقدم ملكه) (3) قبل موته لينتقل إلى وارثه. وربما التزم بجواز ملك الميت في هذه الصورة ، ولهذا تقضى منها (4) ديونه ، وتنفذ وصاياه.
ولا يجوز - على ما تقدم - جزاء الصيد قبل موته ، وجزاء اللبس (5) والحلق ، والطيب ، قبل فعلها (6) ، ولا كفارة الظهار قبل العود ، ولا كفارة القتل قبل الزهوق ، ولا كفارة اليمين قبل (7) الحنث.
القسم الثالث : ما فيه شك ، وهو صيغ العقود والإيقاعات ، فإنه يمكن أن يقال : بمقارنة الحكم للجزء الأخير من الصيغة (8) ، أو يقع
ص: 42
عقيبه بغير فصل (1).
وتظهر الفائدة في مواضع :
منها : لو أسلم أبو الزوج الصغير وزوجته البالغة معا ، فعلى المقارنة للجزء الأخير فالنكاح باق ، وعلى الوقوع عقيبه ينفسخ ، لأن إسلام الطفل مسبب عن إسلام أبيه ، فيكون واقعا عقيبه ، وإسلام المرأة معه.
ومنها : لو باع المفلس ماله من غرمائه بالدين ، فان قلنا ارتفاع الحجر يقارن الجزء الأخير من البيع صحّ ، وإن قلنا بتعقبه بطل ، لأن صحة البيع موقوفة على رفع الحجر ، الموقوف على سقوط الدين ، الموقوف على صحة البيع ، فيدور.
وربما جزم بصحة البيع هنا ، لأن هذا الحجر لحق الغريم ، والغرض منه عدم نزول الضرر به ، وهو منفي هنا. فجرى مجرى بيع (الراهن من المرتهن) (2) الرهن. أو نقول : مجرد إيقاع القبول معه رضاء برفع الحجر.
قد تتداخل الأسباب مع الاجتماع ، كالأحداث الموجبة للطهارة ،
فإذا نوى رفع واحد منها ارتفع الجميع ، إلا أن ينوي عدم رفع غيره ، فتبطل الطهارة.
وإنما حكم بالتداخل لأن الأحداث لا يمكن الحكم عليها بالارتفاع ، بل المرتفع القدر المشترك بينها ، وهو المنع من العبادة ، وخصوصيات الأحداث ملغاة.
ص: 43
ويجري للأصحاب (1) خلاف في تداخل الأغسال المسنونة عند انضمام الواجب إليها (2) ، والمروي التداخل (3).
وأما الأغسال الواجبة فالأقرب تداخل أسبابها على الإطلاق ، لكن إن نوى خصوصية توجب الوضوء والغسل وجبا ، وإلا اكتفى بالغسل وحده ، كما لو نوى الجنابة.
وأما الاجتزاء بغسل الميت لمن (4) مات جنبا ، أو حائضا بعد طهرها ، فليس من هذا الباب ، لأن (الموت يرفع) (5) التكليف ، فلا يبقى للأسباب المتقدمة أثر. وما روي : من أنه يغسل غسل الجنابة بعد موته (6) ، يوجب عدم التداخل في الغسلين المنسوبين إلى الولي المباشر لغسله أو نائبه. وأما الميت فلم يبق له هنا مدخل إلا في قبول التغسيل إذا كان مسلما.
ومن التداخل : موجبات الإفطار في يوم واحد على قول (7).
ص: 44
ويتداخل ما عدا الوطء في قول (1). ويتداخل مع عدم تخلل التكفير في آخر (2). وعدم التداخل مع اختلاف الجنس لا مع اتحاده (3).
ومنه تداخل مرات الزنا في وجوب حدّ واحد ، وكذا السرقات المتكررة ولم يظفر به ، والوطء المتعدد في شبهة واحدة (4).
ولا تتداخل مرات الوطء بالاستكراه على الأقوى.
قد يتعدد السبب ويختلف الحكم المترتب عليه ، وهو أقسام :
الأول : ما لا يمكن فيه الجمع ، كقتل الواحد جماعة ، إما دفعة - كأن يسقيهم سمّا ، أو يهدم عليهم جدارا ، أو يغرقهم ، أو يحرقهم ، أو يجرحهم فيسري إلى الجميع - أو على التعاقب. ففي الأول يقتل بالجميع ،
ص: 45
وفي وجه لبعض الأصحاب (1) يقتل بواحد - إما بالقرعة ، أو بتعيين الإمام - وبأخذ الباقون الدية.
وفي الثاني يقتل بالأول ، فان عفى عنه أو صولح بمال قتل بالثاني.
وعلى هذا ، ويكون (2) لمن بعده الدية. وقيل (3) : يقتل بالجميع كالدفعي ، ويكون لهم ديات مكملة لحقوقهم ، على احتمال مخرج مما (4) إذا هرب القاتل أو مات وقلنا تؤخذ الدية من تركته.
الثاني : ما يتصور فيه الجمع ، كالفريضة يصليها داخل المسجد ، فإنه تتأدى بها التحية على احتمال (5) ، وتكبيرة المأموم (6) يدرك بها الإمام راكعا ، يتأدى بها التحريم والتكبير عند الشيخ (7) رحمه اللّه.
الثالث : ما يمكن فيه إعمال السببين ، كما في توريث عمّ هو خال ، وجدة هي أخت ، على نكاح المجوس ، أو في الشبهة للمسلمين.
الرابع : ما يتنافيان (8) فيه فيقدم الأقوى منهما ، كتوريث الأخ الذين هو ابن عم.
الخامس : ما يتساقطان فيه ، كتعارض البينتين على القول بالتساقط.
وتعارض الدعاوي لا تساقط فيه ، لوجوب اليمين على كل من
ص: 46
المتداعيين فيه.
قد يكون السبب الواحد موجبا لأمور ، وهو أقسام (1) :
الأول : ما يندرج فيه بعضها في بعض ، كالزناء ، فإنه سبب واحد ومن ضرورته الملامسة ، وهي توجب التعزير ، والزنا يوجب الحد ، فيدخل الأضعف تحت الأقوى.
وكقطع الأطراف ، فإنه بالسراية إلى النّفس تدخل دية الطرف في دية النّفس.
وأما القصاص فثالث الأقوال (2) تداخله إن كان بضربة واحدة ، وإلا فلا.
وزنا المحصن سبب واحد له عقوبتان : الجلد ، والرجم ، فيجتمعان على الشيخ والشيخة ، وفي الشاب والشابة قولان : أصحهما الاجتماع (3) وقيل (4) : لا ، لأن ما يوجب أعظم الأمرين بخصوصه لا يوجب
ص: 47
أخفهما بعمومه.
الثاني : ما لا اندراج فيه ، كالحيض ، والنفاس ، وكثير الاستحاضة سبب في الوضوء والغسل ، ولا يدخل أحدهما تحت الآخر.
وكالقتل يوجب الفسق والقود والكفارة جمعا إن كان عمدا ، ويوجب الدية والكفارة إن كان خطا أو شبيها.
واستهلاك مال الغير عمدا يوجب الضمان والتعزير (1).
وقذف المحصنة أو المحصن يوجب الجلد والفسق.
وزنا البكر يوجب الجلد والجز والتغريب (2).
والحدث الأصغر سبب لتحريم الصلاة ، والطواف ، وسجود السهو وسجود العزيمة على قول (3) ، ومسّ خط القرآن.
والحدث الأكبر يزيد على ذلك : قراءة العزائم ، ودخول المساجد ، والاجتياز في المسجدين الشريفين ، وتحريم الصوم ، والوطء في الحيض والنفاس ، والطلاق فيه غالبا. إلى أحكام كثيرة.
وأكثر الأسباب مسببات النكاح ، عقدا ووطءا ، فإنه تترتب عليه أحكام كثيرة تأتي في الفوائد إن شاء اللّه تعالى (4).
ص: 48
يكون السبب فعليا منصوبا (1) ابتداء ، كما ذكرنا من القتل والزنا ، واللواط (2).
وقد يكون فعليا غير منصوب (3) من الشارع بالأصالة ولكن دلّ عليه القرائن الحالية والمقالية ، كتقديم الطعام إلى الضيف ، فإنه مبيح للأكل وإن لم يأذن بالقول ، على الأصح. وتسليم الهدية إلى المهدي إليه وإن لم يحصل الإيجاب القولي ، لظاهر فعل الخلف والسلف. وكذلك صدقة التطوع ، وكسوة (4) القريب والصاحب (5) ، وجوائز الملوك من كسوة ومركوب وغيرهما. وعلامة الهدي ، كغمس النعل في دمه وجعله عليه ، أو كتابة رقعة عنده. وشدّ المال على اللقيط وإركابه الدّابّة ووضعه في الخيمة أو الفسطاط. والوطء في مدة الخيار من البائع أو
ص: 49
المشتري. والوطء في الرجعية قطعا ، وفي الاختيار إذا أسلم أكثر من الأربع مع الزوج. وكذا التقبيل في الرجعية قطعا ، وفي الاختيار على قول (1). والمعاطاة في السلعة (2) تفيد إباحة التصرف ، لا الملك ، وإن كان في الحقير ، عندنا.
لا يكفي تسليم العوض في الخلع عن بذلها لفظا ، أو قبولها بعد إيجابه ، ولا تسليم الدية في سقوط القصاص ، بل لا بد من التلفظ بالصلح وشبهه (3).
ولو خصّ الإمام بعض الغانمين بأمة ، وقلنا بتوقف الملك على اختيار التملك ، فوطئ ، أمكن كونه اختيارا ، لأن الوطء لا يقع إلا في الملك.
ومن الأسباب الفعلية ما يفعل بالقلب ، كنيات الزكاة والخمس في التملك ، ونيات العبادات في ترتب أحكامها عليها.
ومنها : الإرادة ، والكراهة ، والمحبة ، والبغضاء ، فلو علّق إظهارها بإرادتها أو كراهتها أو محبتها أو بغضها ، فالظاهر وقوعه ويقبل قولها لو ادعته ، كدعوى الحيض. فلو اتهمها ، فالأقرب أنه يحلّفها.
ص: 50
ولو علّقه بما يشهد الحس (1) بعدم محبته ، كمحبة دخول النار وأكل السم ، أو الشرع ، كمحبة الكفر وعبدة الأوثان لكونهم كذلك ، فادعته ، احتمل القبول لأنه (نصبه سببا) (2) ولا يعلم إلا منها ، وعدمه ، للقطع بكذبه. ويحتمل الفرق بين الأمرين ، لأن الطبع معين على الأول دون الثاني ، فيقبل منها في الثاني ، ولا يقبل منها (3) في الأول ، وخصوصا مع عدم التقوي.
وكذا لو علّقه ببغضة ما يخالف الحسّ ، أو العقل ، أو الشرع.
التعليق بالمشيئة يقتضي التلفظ ، فلا تكفي الإرادة المجردة ، لأن الخطاب بذلك يستدعي جوابا استدعاء عرفيا ، فلو أرادت بالقلب ولمّا تتلفظ لم يقع الظهار. ولو تلفظت مع كراهتها بالقلب ، وقع الظهار ظاهرا ، وفي وقوعه باطنا بالنسبة إليها إشكال ، من حيث أن التعليق بلفظ المشيئة ، وقد وقع ، ومن أن اللفظ دال على ما في الباطن ، فهو كما لو علّق بحيضها فادعته كاذبة ، فإنه لا يقع باطنا.
كل تعليق على لفظ مجرد أو فعل مجرد فإنه تتصور صحته من الصبي فلو علّق الظهار على تكلم الصبي ، أو على دخوله الدار ، صح. ولو
ص: 51
علقه على إرادته أو على مشيئته ، صح إن كان مميزا ، ويقبل قوله وتلفظه بالمشيئة. فلو اتهمها وكانت مميزة فليس له إحلافها ، لعدم بلوغها.
ويحتمل عدم اعتبار نية الصبي ، لأنها كما لا تؤثر في العبادات صحته ولا مشيئته كذا لا (1) تؤثر في العقود صحته.
ولو علق على فعل غير المرأة ، أو قوله ، صح ، فلو كان مما يتوقف على الإرادة ، أو نفس الإرادة وشبهها من أفعال القلوب ، قبل قوله على الأقرب في حق الزوج. ويحتمل عدمه ، لأصالة الحل ، وقول الأجنبي لا يكون حجة على غيره. وهو ضعيف ، وإلا لم يكن للتعليق فائدة.
ولو اتهمه فليس له إحلافه ، لأن اليمين لا تكون من إنسان لإثبات حق لغيره ، ولا لنفيه عن غيره.
وكذا أجزاء (1) أيام الأضاحي سبب للأمر بالأضحية ، وظرف لا لإيقاعها فيها (2) ، ومن ثمَّ استحب على من تجدد بلوغه أو إسلامه أو يساره في أثنائها.
وأما شهر رمضان فكل يوم منه سبب للوجوب على جامع الشرائط وليست أجزاؤه أسبابا ، ومن ثمَّ لم يجب على المسلم في أثنائه ، أو البالغ أو الطاهر من الحيض والنفاس (3) (4).
إذا كان المانع مختصا بالحكم. كما في المريض والمسافر بالنسبة إلى الصوم فأجزاء النصف الأول من النهار سبب في الوجوب ، كما أن مجموع النهار سبب في الوجوب. بخلاف مانع السبب ، لأن السببية باقية فيهما ، وإنما حصل فيهما (5) منع الحكم بالوجوب ، فإذا زال ، ظهر أثر السبب.
فان قلت : فهلا ساوى آخر النهار أوله في السببية ، كما في ثبوت كونه من الشهر فإنه يجب الصوم ولو بقي من النهار لحظة؟
ص: 53
قلت : معظم الشي ء يقوم مقام ذلك الشي ء في مواضع ، منها : الصوم ، ولهذا أجزأ تجديد النية في النصف الأول لبقاء المعظم. بخلاف ما إذا زالت الشمس ، لزوال المعظم. فأما في اليوم الّذي يظهر وجوب الصوم فيه فالسببية حاصلة في نفس الأمر ، وإنما جهل وجودها ، فإذا علم ذلك ، تبعه الحكم. بخلاف المريض والمسافر ، فان الوجوب ليس حاصلا فيهما في نفس الأمر ، وإنما تجدد بزوال العذر.
قد يعرى الوقت عن السببية ، وإن كان لا يعرى عن الظرفية ، كالمنذورات المعلقة على أسباب مغايرة للأوقات ، فوقتها جميع العمر.
وكالسنة بكمالها في قضاء شهر رمضان ، فإنها ظرف للإيقاع ، وليست سببا بل السبب هو فوات الصوم ، لتأثير السبب الموجب للأداء.
وكذلك شهور العدة أو الأقراء ظروف للعدة ، وليست أسبابا فيها وإنما السبب الطلاق أو الفسخ أو الوفاة.
وسبب الفطرة دخول شوال على الأصح ، ومجموع الليلة ونصف النهار المستقبل ظرف للأداء ، فلو بلغ في أثنائه أو أسلم لم يجب ، وكذا لو استغنى أو عقل ، أو ملك عبدا ، أو تزوج امرأة ممكّنة.
كل حكم تعلق على سبب لا اختلاف فيه فإنه يحصل حين حصول السبب. وإن اختلف بحسب وقت التعليق ووقت الوقوع ، ففي اعتبار أيهما؟ وجهان. وله صور :
منها : أن يوصي إلى فاسق ، فيصير عدلا عند الوفاة ، أو إلى
ص: 54
صبي (1) ، فيبلغ ، أو كافر ، فيسلم.
ومنها : لو نذر المريض الصدقة (بثلث ماله) (2) عند برء مرضه ، فهل يعتبر ثلثه حالة البرء ، أو حالة النذر؟. أما لو كان النذر منجزا فإنه يعتبر حالة النذر قطعا.
ولو أوصى بثلث ماله فالمشهور عندنا (3) اعتبار حالة الوفاة.
ومنها : لو أرضى العبد بمال ثمَّ أعتق ومات. أو نذر العتق أو الصدقة ، فتحرر.
ومنها : أن يعلق الظهار على مشيئة زيد وكان ناطقا ، فخرس ، فهل تعتبر الإشارة ، اعتبارا بحال مسيئته ، أو النطق ، اعتبارا بحال تعليقه؟
فيه الوجهان.
ومنها : لو نذر الصحيح عتق عبد عند شرط ، فوقع في المرض فان اعتبرنا حالة النذر ، فهو من الأصل ، وإلا فمن الثلث.
كلما شك في سبب الحكم بني على الأصل ، فهنا صورتان :
إحداهما : أصالة الحل ، والشك في السبب المحرم ، فان كان هناك إمارة عول عليها ، كالطائر المقصوص والظبي المقرط (4) ، فإنه يحرم وإن كان الأصل الحل ، لقوة الأمارة. وكذا لو بال الكلب في الكر
ص: 55
ثمَّ وجده متغيرا.
وإن فقدت الأمارة بني على الحل ، كما لو مر طائر فقال رجل : إن كان هذا غرابا فزوجتي عليّ كظهر أمي. وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فزوجتي عليّ كظهر أمي. ثمَّ غاب ، وتحقق اليأس من معرفته ، (فإن الأقرب) (1) الحل في المرأتين.
أما لو جعله في إحدى (2) زوجتيه اجتنبهما ، لوجوب اجتناب إحداهما ، ولا يتم إلا باجتناب الجميع.
ومن ذلك : طين الطريق ، وثياب (مدمن الخمر) (3) والنجاسة والميتة مع المذكى غير المحصور ، والمرأة المحرمة مع نساء لا ينحصرن ، فإنه يحكم بالطهارة والحل ، وإن كان الاجتناب أحوط إذا وجد ما لا شبهة فيه.
ومن ذلك : وقوع التمرة المحلوف عليها في تمر كثير ، فإنه يأكل ما عدا واحدة.
ومن ذلك : وجدان المال في أيدي الظلمة والسراق ، وإن كان الورع تركه ، بل من الورع ترك ما لا يتيقن حله (4) ، كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : أنه قال : (إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي فلو لا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) (5).
ص: 56
ومنه : لو غلب في بلد الحرام على الحلال بحيث يكون الحلال نادرا ، فالورع أيضا تركه ، وهو آكد من الأول إلا مع الضرورة ، فيأكل (1) من غير تبسط.
الصورة الثانية : أن يكون الأصل الحرمة ، ويشك في الإباحة ، فيبني على الحرمة ، كالصيد المرمي ، فيغيب ، فيوجد ميتا ، حرام إلا أن يقضي أن الضربة قاتلة ، إما لكونها في محل قاتل ، وإما لغلبة الظن بعدم عروض سبب آخر. وكذا اللحم المطروح ، والجلد الموضوع ، إلا مع الظن الغالب بتذكيته.
كل عبادة علم سببها وشك في فعلها وجب فعلها إن كانت واجبة ، واستحب إن كانت مستحبة ، كمن شك في الطهارة بعد تيقن الحدث ، وفي فعل الصلاة ووقتها باق ، وفي أداء الزكاة ، و (2) باقي العبادات.
ويجزم الناوي بالوجوب ، لاستصحاب الوجوب المعلوم.
وكذا لو توقف الخروج عن العهدة على فعل زيادة على الواجب نوى الوجوب في الجميع ، كالصلاة المنسية غير المعلوم عينها ، وتكون النية جازمة.
ومنه : الصلاة في الثياب الكثيرة المشتبهة بالنجس. وطعن فيه بعض الأفاضل (3) : بأن الناوي غير جازم ، وصار إلى الصلاة عاريا.
وعلى ما قلناه فالصلاة في الجميع بنية الوجوب الجازم. وظن
ص: 57
بعض العامة (1) : أن الشك في هذه الصورة سبب في الوجوب. وليس الأمر كما ظن ، بل السبب هو ما قبل الشك من المقتضيات للحكم ، لكن لما توقف الخروج عن العهدة بالزائد على الواجب وجب ، ولو كان الشك سببا في الوجوب لا طرد (2) ، فيلزم تحريم الزوجة لو شك في طلاقها ووجوب اجتنابها ، ويلزم وجوب مقتضي السهو لو شك هل عرض له في صلاته سهو؟ وليس كذلك قطعا.
قد يكون الشك سببا في حكم شرعي ، كوجوب سجدتي السهو عند الشك بين الأربع والخمس ، ووجوب صلاة الاحتياط عند الشك في الأعداد ، كما هو مشهور (3).
فان قلت : صلاة الاحتياط خارجة من (4) ذلك ، لأنها بدل من جزء الأصل عدم فعله.
قلت : الجزئية (5) وإن كانت ملحوظة إلا أن هناك أشياء مضافة إليها وجبت بالشك ، كتعين الحمد ، ووجوب التشهد والتسليم ، وانتقالها إلى التخيير بين الجلوس والقيام.
ص: 58
لو صلى ما عدا العشاء (1) بطهارة ، ثمَّ أحدث ، وصلى العشاء بطهارة ، ثمَّ ذكر فساد إحدى الطهارتين ، احتمل وجوب الخمس بعد الطهارة ، ليحصل اليقين. واحتمل وجوب صبح ورباعية يطلق فيها بين الظهر والعصر ، ثمَّ مغرب ، ثمَّ رباعية يطلق فيها بين العصر والعشاء ، ويردد بين الأداء والقضاء في هذه الرباعية مع بقاء وقت العشاء ، ومع خروجه ينوي القضاء.
فلو سها عن الوضوء الّذي كلف به الآن ثمَّ صلى الصلوات الخمس أو الأربع ، ثمَّ ذكر أنه لم يتوضأ الوضوء المخاطب به ، فعلى الاحتمال الأول ليس عليه إلا إعادة العشاء لا غير ، لأن الإخلال إن كان من طهارته (2) الأولى فهو الآن متطهر ، وقد صلى بطهارة صحيحة ما فاته وزائدا عليه ، وإن كان من طهارته الثانية فلم يضره هذا التكرار ، ووجب عليه صلاة العشاء إن كان لم يصل الخمس بل اقتصر على الأربع. وعلى الاحتمال الثاني يحتمل هذا أيضا. ويحتمل أن يعيد ما عدا الصبح (3) ، لأنه إذا كانت طهارته الأولى فاسدة وجب عليه الصلاة بنية جازمة ، وهنا قد وقع الترديد (4).
ص: 59
متعلقات الأحكام (1) قسمان :
أحدهما : ما هو مقصود بالذات ، وهو المتضمن للمصالح والمفاسد في نفسه.
والثاني : ما هو وسيلة وطريق إلى المصلحة والمفسدة.
وحكم الوسائل في الأحكام الخمسة حكم المقاصد ، وتتفاوت في الفضائل بحسب المقاصد ، فكلما كان أفضل كانت الوسيلة إليه أفضل.
وقد مدح اللّه تعالى على الوسائل كما مدح على المقاصد بالذات ، قال اللّه تعالى ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ، وَلا نَصَبٌ ، وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ، إِلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ) (2). فمدح على الظمأ والمخمصة كما مدح على النيل من العدو ، وإن لم يكن الظمأ والمخمصة بقصد المكلف ، لأنه إنما حصل بحسب وسيلته إلى الجهاد الّذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين ، وإعلاء كلمة اللّه تعالى ، اللذين هما وسيلتان إلى رضوان الرب تبارك وتعالى (3).
ص: 60
الوسائل أقسام (1) :
الأول : ما اجتمعت الأمة على تحريمه ، كحفر الآبار في طرق (2) المسلمين ، وطرح المعاثر ، لأنه وسيلة إلى ضررهم ، وهو حرام بالإجماع.
ومنه : إلقاء السم في مياههم. ومنه : سب الأصنام ، وما يدعى من دون اللّه عند من يعلم منه أنه يسب اللّه تعالى أو أحدا من أوليائه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (3).
الثاني : ما اجتمعت الأمة على عدم منعه ، وهو ما كان المتوسل إليه بعيدا عن قصد فاعله ، كغرس العنب وإن أمكن اعتصاره خمرا ، وعمل السيف وإن أمكن أن يكون آلة في قتل محقون الدم ، ووضع الشبهة وحلها ، وإن كان قد يظفر بالشبهة من تتمكن في قلبه ويعجز عن الحل. ومع ذلك لو قصد هذه الغايات لكان الفعل حراما.
الثالث : ما اختلف فيه ، كالبيع بشرط الإقراض والنظرة ، وبيع العنب على الخمار ، والخشب على نجار الأصنام من غير شرط ، وبيع السلعة على ولده أو خادمه ليخبر بالزائد ، وشراء ما باعه بأقل من ثمنه ، سواء كان قد باعه نسيئة أو حالا ، وسواء اشتراه قبل حلول الأجل أو بعده ، لأنه يؤول إلى بيع الأكثر بالأقل ، فإنه إذا باعه السلعة بمائة ثمَّ اشتراها بخمسين ، فكأنه عاوض عن مائة بخمسين.
ص: 61
ومنه عند بعض الأصحاب (1) : تضمين الصناع وشبههم العين المستأجر على عملها ، إلا أن يقيم البينة بتلفها ، محافظة على حفظ أموال المستضعفين ، لئلا يدعي التلف.
ومنه : منع القضاء بالعلم في حقوق اللّه تعالى عند بعض الأصحاب (2) لئلا يتسلط بعض قضاة السوء (3) على قضاء باطل.
الرابع : ما كانت الوسيلة فيه مباحة بالنسبة إلى أحد المتعاطيين حراما بالنسبة إلى الآخر ، كدفع المال إلى المحارب ليكف ، (أو الحربي للعجز عن) (4) المقاومة ، أو إلى صادّ الحاج ليرجع ، أو إلى الكفار في فك أسرى المسلمين ، فإنها مباحة بالنسبة إلى الدافع حرام بالنسبة إلى القابض.
ومنه : الرشوة إذا توسل (5) بها إلى الحاكم بالحق ، فإنها حرام بالنسبة إلى القاضي.
الخامس : الوسيلة إلى المعصية حرام (6) كالمتوسل إليه ، كرشوة
ص: 62
القاضي ليحكم (1) بالباطل ، وترخص العاصي بسفره ، لأن ترتب الرخصة على المعصية سعي في تكثير تلك المعصية.
ولا اعتبار بمقارنة المعصية للرخصة ، كالعاصي في سفره المباح ، فإنه يقصر الصلاة والصيام ، لأن السبب في القصر هو السفر المباح ، وهو ليس بمعصية ، وإنما المعصية مقارنة السبب.
ومنه : جواز التيمم للفاسق العاصي إذا عدم الماء ، والإفطار له إذا مرض أو سافر ، أو كان شيخنا كبيرا أو ذا عطاش ، والقعود في الصلاة إذا عجز عن القيام ، لأن السبب ، وهو العجز عن الماء وعن العبادة ، ليس بمعصية ، ولكنها مقارنة للمعصية.
فإن قلت : مساق (2) هذا الكلام يقتضي (3) أن العاصي بسفره يباح له الميتة ، لأن سبب أكله خوفه على نفسه ، فالمعصية مقارنة لسبب الرخصة ، لا أنها هي السبب (4).
قلت : هذا متجه ، ولا يجعل (5) هذا من باب الباغي والعادي (6) اللذين تحرم عليهما الميتة.
ص: 63
الشرط لغة (1) : العلامة.
وعرفا : ما يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره لا في وجوده.
ومن خاصيته : أنه يلزم من عدمه العدم ، لا من وجوده الوجود ، كالطهارة للصلاة ، والحول للزكاة.
شرط السبب : ما يخل عدمه بحكمة السبب ، كالقدرة على التسليم بالنظر إلى صحة البيع ، الّذي هو سبب ثبوت الملك ، المشتمل على مصلحة وهي الانتفاع بالمبيع ، وهي متوقفة على التسليم ، الموقوف على القدرة عليه ، فعدم القدرة يخل بحكمة المصلحة.
شرط الحكم : كل ما اشتمل على حكمه تقتضي عدمه نقيض حكمة السبب ، مع بقاء حكم السبب ، كالطهارة للصلاة ، فإن عدم الطهارة مع الإتيان بالصلاة يقتضي نقيض حكمة شرعية الصلاة ، لأن شرعيتها للثواب وفعلها بغير طهارة سبب في استحقاق العقاب.
الأول : ما لا يقبل شرطا ولا تعليقا ، كالإيمان باللّه ورسوله والأئمة (1) عليهم السلام ، واعتقاد وجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ونيات العبادات غالبا. واحترزنا (بالغالب) عن مثل قول المزكي : إن كان مالي الغائب باقيا فهذه زكاة (2) ، وإن كان تألفا (فهي نافلة) (3).
والطلاق ، والرجعة ، على الأصح.
الثاني : ما يقبل الشرط والتعليق على الشرط ، كالعتق فإنه يقبل الشرط مثل : أنت حر وعليك كذا. ويقبل التعليق على الشرط في صورة التدبير ، والنذر وشبهه. والاعتكاف ، كقوله : اعتكفت ثلاثة ولي الرجوع متى شئت. فهذا شرط. وأما تعليقه على الشرط فبالنذر أو العهد أو اليمين.
الثالث : ما يقبل الشرط دون التعليق على الشرط ، كالبيع ، والصلح والإجارة ، والرهن ، لأن الانتقال بحكم الرضا ، ولا رضا مع التعليق ، إذ الرضا يعتمد الجزم ، والجزم ينافي التعليق ، لأنه يعرضه عدم الحصول ولو قدر علم حصوله كالمعلق على الوصف ، لأن الاعتبار لجنس الشرط دون أنواعه وأفراده ، فاعتبر المعنى العام دون خصوصيات الأفراد.
فإن قلت : فعلى هذا يبطل قوله في صورة إنكار التوكيل (4) : إن كان لي فقد بعته منه (5) بكذا.
قلت : هذا تعليق على واقع لا على متوقع الحصول ، فهو علة للوقوع
ص: 65
أو مصاحب له ، لا معلق عليه الوقوع.
وكذا القول لو قال في صورة إنكار وكالة التزويج ، أو إنكار التزويج وتدعيه الزوجة ، فإنه يصح أن يقول : إن كانت زوجتي فهي طالق.
الرابع : ما يقبل التعليق. على الشرط ولا يقبل الشرط ، كالعبادات المنذورة عند حصول الشرط ، كبرء المريض ، وقدوم المسافر. وليست قابلة للشرط ، لامتناع صحة : أصلي على أن لي ترك سجدة ، أو على أن لا يلزمني احتياط عند الشك. وكذا : أصلي إلا أن يدخل فلان ، أو : أصلي إن بقيت على الطهارة ، وهو شاك في البقاء.
فان قلت : مساق هذا يقتضي أن لا تصح نية من نوى : أصلي إن بقيت على صفة التكليف ، أو (1) بقيت متطهر ، وهو يبقى عادة.
قلت : هذا من ضروريات التكليف ، فهو مقدر وإن لم ينوه المكلف ، ولا تضر نيته. ويحتمل أن يقال : لا يلزم من تقديره جعله مقصودا ، فإذا جعل مقصودا فقد أخل بالجزم الّذي هو شرط في النية.
ومن هذا الباب تعليق النيات بالمشيئة (2) ، إلا أن يقصد التبرك فلا بحث في جوازه.
مانع السبب : كل وصف وجودي ظاهر منضبط يخل وجوده بحكمة السبب. كالأبوة المانعة من القصاص في موضعه ، لأن الحكمة التي اشتملت الأبوة عليها هي كون الوالد سببا لوجود الولد ، وذلك يقتضي عدم القصاص ، لئلا يصير الولد سببا لعدمه.
ص: 66
مانع الحكم : هو (1) كل وصف ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب.
كالدين المانع من وجوب الخمس في المكاسب ، فإن الحكمة في الخمس نفع أهل البيت عليهم السلام وتعويضهم عن الزكاة التي هي أوساخ الناس ، لكن الوجوب في المكاسب إنما هو فيما فضل عن قوت المكلف وقوت عياله.
وظاهر أن وفاء دينه أهم منه ، ولهذا قدم الدين على ما زاد عن قوت يوم وليلة ودست من الثياب (2) ، فكان ذلك مانعا من وجوب الخمس لهذه الحكمة ، وإن كانت الحكمة باقية في الخمس.
لو وطئت الحليلة بشبهة ، فإنها لا تقطع النكاح وإن حرم وطؤها ، لمكان العدة.
الثالث : ما اختلف فيه (1) ، كالإحرام بالنسبة إلى ملك الصيد النائي عنه لو عرض سببه في حال الإحرام. بل قيل (2) : يملك وإن لم يكن نائيا عنه عند عروض السبب ، كالإرث ، ثمَّ يجب عليه (3) إرساله. مع أنه لو أحرم ومعه صيد زال ملكه عنه.
فهذه مباحث السبب ، والشرط ، والمانع ، المفسر بها الوضع.
مثال التقدير : الماء في الطهارة بالنسبة إلى مريض يتضرر باستعماله ، فيقدر الموجود كالمعدوم وإن كان موجودا. وكذا لو كان في بئر ولا آلة معه ، أو بثمن ليس عنده.
وقد يقدر المعدوم موجودا في صور :
منها : دخول الدية في ملك المقتول قبل موته بآن لتورث عنه ، وتقضى منها ديونه ، وتنفذ وصاياه ، فانا نقطع بعدم ملكه الدية في حياته لاستحالة تقدم المسبب على سببه ، ولكن يقدر الملك المعدوم موجودا.
ومنها : إذا قال لغيره : أعتق عبدك عني ، أو : أدّ من مالك ديني. فإنه يقدر الملك قبل العتق بآن ليتحقق العتق في الملك.
وكذا يقدر ملك المديون قبل تملك الدين بآن حتى يكون الدين قد قضي من مال المديون. مع أن القطع واقع بعدم ملكه إلى زمان العتق ، وقضاء الدين. ويسمى هذا (الملك الضمني).
وحمل عليه بعضهم (1) : ملك الضيف عند تقديم الطعام إليه بالأكل أو بالمضغ أو بالتناول.
وهو ضعيف ، لأنه لا ضرورة إلى التقدير هنا.
ومنها عند بعضهم (2) : ما لو وطئ الأمة ثمَّ ظهرت حاملا ، وقلنا : بأن الفسخ للعيب يرفع العقد من أصله ، فإنه يكون الحكم بارتفاع الملك تقديرا لا تحقيقا ، لأن الوطء وقع مباحا فلا ينقلب حراما.
ويشكل هذا : بأن المشتري يردّ عوض البضع فلا يكون الوطء مباحا إلا ظاهرا (فلا ينقلب حراما) (3).
ص: 69
والتحقيق في هذه المسألة : أن الحمل من الأمة إنما يرد معه الواطئ إذا كان ولدا للبائع ، فإنها تكون أم ولد ، فيمنع بيعها. فليس الردّ هنا اختياريا بل قهريا. وإنما يجي ء المثال على قول أكثر الأصحاب (1) بأن مجرد الحمل عيب ، وأن الرد على سبيل الاختيار ، ويستثنون هذا من التصرف الّذي لا (2) يمنع الردّ.
ومنها : أن الناسي لنية الصوم إذا جددها قبل الزوال ، فإنه يقدر كون النية واقعة من الليل فينعطف في التقدير إلى قبل الفجر ، مع أن الواقع عدم النية.
فإن قلت : لم لا يكون هذا من باب الكشف ، بمعنى إنا نتبين بموت المقتول تقدم ملكه ، وبوقوع العتق تقدم ملك المعتق عنه.
إلى آخرها؟
قلت : لا سبب متقدم هنا تستند إليه هذه الأمور حتى تكون هذه الأشياء (3) كاشفة عنه ، إذ التقدير عدم السبب بالكلية.
الأحكام بالنسبة إلى خطاب التكليف والوضع تنقسم إلى (4) أربعة أقسام :
أحدها : ما اجتمع فيه الأمران ، وهو كثير :
ص: 70
فمنه : أسباب الحدث التي هي فعل العبد ، كالبول والغائط والجماع ، فإنها توصف بالإباحة في بعض الأحيان ، وهي سبب في وجوب الطهارة ، وتوصف بالتحريم كما في حالة الصلاة ، والسببية قائمة.
ومنها : غسل الميت فإنه (1) واجب ، وشرط في صحة الصلاة عليه. وكذا باقي أحكام الميت واجب ، وسبب في سقوط التكليف عن الباقين. وكذا جميع فروض الكفايات.
ومنها : الصلاة والصوم والزكاة والحج ، فإنها واجبة ، وسبب (في عدم عصمة دم الممتنع عنها) (2).
ومنها : الاعتكاف ندب ، وسبب في تحريم محرماته.
والصوم المستحب ندب ، وسبب في كراهية المفطرات. والصوم الواجب واجب ، وسبب في تحريم المفطرات.
ومنها : النكاح ، فإنه مستحب تارة ، وواجب أخرى ، ومباح أولة ، ومكروه طورا ، وهو سبب لحل الاستمتاع ، وتحريم الأم عينا مطلقا ، والبنت كذلك مع الدخول وإلا حرمت جمعا ، والأخت جمعا ، وابنة الأخ مع عمتها ، وابنة الأخت على خالتها إلا بإذنهما. وسبب في وجوب الإنفاق ، والقسمة ووجوب الرجم بسبب الإحصان ، وسبب في استحباب التسوية بين الزوجات في الإنفاق وإطلاق الوجه ، وقسمة النهار.
وفي كراهية الإتيان في غير المأتي (3) ، على القول المشهور (4) (5) ،
ص: 71
وفي إباحة الاستمتاع بما شاء.
ومنها : الرضاع ، فإنه مستحب أو واجب أو مباح ، كما في الرضاع بعد الحولين إلى شهرين ، وسبب في التحريم.
ومنها : الطلاق ، فإنه واجب ومستحب ومكروه ، وهو سبب في التحريم.
ومنها : أسباب الحدود والجنايات ، فإنها محرمة ، وموجبة لتلك العقوبات من الحدّ والتعزير والقود والكفارة.
ومنها : العتق ، فإنه مستحب ، وهو سبب في الحرية وفي الأحكام اللاحقة بها.
ومنها : الظهار ، فإنه محرم ، وسبب في تحريم المظاهرة ، ووجوب الكفارة بشرط نية العود.
ومنها : الإيلاء ، فإنه مباح ، وسبب في التحريم ، والإلزام بالفئة بشرط التماس الزوجة.
ومنها : النذر والعهد ، فإنه مستحب ، وسبب في الوجوب والتحريم بحسب الفعل والترك.
ومنها : الصيد والالتقاط والاحتطاب ، فإنه مباح ، وسبب في التملك ، ووجوب التعريف.
القسم الثاني : ما كان خطاب التكليف ولا وضع فيه. وسئل بجميع التطوعات (1) ، فإنها تكليف محض ، ولا سببية فيها ولا شرطية ولا مانعية. وعلى ما قلناه يتصور كونها أسبابا ، كما ذكرناه (2) في الصيام والاعتكاف.
ص: 72
وعدّ منها : الالتقاط بنية الحفظ على المالك ، فإنه لا يجب عليه التعريف ، ولا يفيد سبب التمليك.
وللنفقة والحضانة والجهاد اعتباران : فمن حيث أنها تكليف محض ، من هذا القسم. وإن اعتبرنا كون النفقة سببا لملك الزوجة ، والحضانة سببا لحفظ الطفل ، والجهاد سببا في إعلاء كلمة اللّه.
وكذا يحصل الاعتباران في استيفاء الحدود ، وفي القضاء ، فان استيفاء الحدود سبب للزجر عن المعصية ، والقضاء سبب في تسلط المقتضى له.
ويمكن سقوط هذا القسم من البين ، لأن جميع التكليفات أسباب في براءة الذّمّة وسقوط العقاب (1) ، واستحقاق الثواب.
القسم الثالث : ما كان خطاب وضع ولا تكليف فيه ، كالأحداث التي ليست من فعل العبد ، مثل : الحيض ، والنوم ، والاحتلام.
وكأوقات الصلوات (2) ، ورؤية الهلال في الصوم والفطر ، فإنها أسباب محضة.
وكحؤول (3) الحول في الزكاة ، فإنه شرط محض لوجوب الزكاة.
وكالحيض ، فإنه مانع محض من الصوم والصلاة واللبث في المساجد.
وكالإرث ، فإنه تملك محض (4) بعد وقوع السبب.
وربما جعل ضابط خطاب الوضع : ما لا فعل فيه للمكلف. فيخرج القسم الأول عن خطاب الوضع. وليس كذلك.
ص: 73
القسم الرابع : ما كان من (1) خطاب الوضع بعد وقوعه ، ومن خطاب التكليف قبله ، كسائر العقود الشرعية مثل : البيع والصلح والقرض والضمان والمزارعة والمساقاة والوكالة والجعالة والوصية والهبة والسبق ، فإنها توصف بالإباحة تارة ، وبالاستحباب والوجوب أخرى ، بل ربما وصفت بالتحريم ، كالبيع وقت النداء ، ويترتب عليها أحكامها بعد وقوعها.
فائدة (2)
مدارك الأحكام عندنا أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ودليل العقل.
وهنا قواعد خمس مستنبطة منها يمكن ردّ الأحكام إليها ، وتعليلها بها ، فلنشر إليها في قواعد خمس :
النية. ويعلم منه أن من لم ينو ، لم يصح عمله ، ولم يكن معتبرا في نظر الشرع. ويدل عليه - مع دلالة الحصر - الجملة الثانية فإنها صريحة في ذلك أيضا.
وفي هذه القاعدة فوائد :
في النية التقرب إلى اللّه تعالى ، ودلّ عليه الكتاب والسنة.
أما الكتاب : فقوله تعالى ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1). أي : وما أمر أهل الكتابين بما فيهما إلا لأجل أن يعبدوا اللّه على هذه الصفة ، فيجب علينا ذلك ، لقوله تعالى ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (2).
وقال تعالى ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (3). أي : لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، إذ هو منصوب على الاستثناء المنفصل. وكلاهما يعطيان أن ذلك معتبر في العبادة ، لأنه تعالى مدح فاعله عليه.
وأما السنة : ففيما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله في الحديث القدسي : (من عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكي) (4).
ص: 75
الفائدة الثانية (1)
معنى الإخلاص : فعل الطاعة خالصة لله وحده.
وهنا غايات ثمان :
الأولى : الرياء ، ولا ريب في (2) أنه يخل بالإخلاص. ويتحقق الرياء بقصد مدح الرائي ، أو الانتفاع به ، أو دفع ضرره.
فان قلت : فما تقول في العبادات المشوبة بالتقية؟
قلت : أصل العبادة واقع على وجه الإخلاص ، وما فعل منها تقية فإن له اعتبارين : بالنظر إلى أصله ، وهو قربة ، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر ، وهو لازم لذلك ، فلا يقدح في اعتباره. أما لو فرض إحداثه صلاة - مثلا - تقية فإنها من باب الرياء.
الثانية : قصد الثواب ، أو الخلاص من العقاب ، أو قصدهما معا.
الثالثة : فعلها شكرا لنعم اللّه واستجلابا لمزيده.
الرابعة : فعلها حياء من اللّه تعالى.
الخامسة : فعلها حبا لله تعالى.
السادسة : فعلها تعظيما لله تعالى ومهابة وانقيادا وإجابة.
السابعة : فعلها موافقة لإرادته ، وطاعة لأمره.
الثامنة : فعلها لكونه أهلا للعبادة. وهذه الغاية مجمع على كون
ص: 76
العبادة تقع بها معتبرة ، وهي أكمل مراتب الإخلاص ، وإليه أشار الإمام الحق أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بقوله : (ما عبدتك طمعا في جنتك ، ولا خوفا من نارك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) (1).
وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب (2) يكون العبادة فاسدة بقصدها. وكذا ينبغي أن تكون غاية الحياء والشكر وباقي الغايات.
والظاهر أن قصدها مجز ، لأن الغرض بها في الجملة ، ولا يقدح كون تلك الغايات باعثا على العبادة ، أعني : الطمع ، والرجاء ، والشكر والحياء ، لأن الكتاب والسنة مشتملتان على المرهبات : من الحدود ، والتعزيرات ، والذم ، والإيعاد بالعقوبات ، وعلى المرغبات : من المدح والثناء في العاجل والجنة ونعيمها في الآجل.
وأما الحياء فغرض مقصود ، وقد جاء في الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وآله : (استحيوا من اللّه حق الحياء) (3) و (أعبد اللّه كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فإنه يراك) (4). فإنه إذا تخيل الرؤية انبعث على الحياء والتعظيم والمهابة.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام - وقد قال له ذعلب اليماني - بالدال
ص: 77
المعجمة المكسورة ، والعين المهملة الساكنة ، واللام المكسورة - : (هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى؟؟
فقال : وكيف تراه؟ فقال : لا تدركه العيون بمشاهدة الأعيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس (1) بعيد منها غير مباين ، متكلم بلا روية (2) ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتوجل القلوب من مخافته) (3).
وقد اشتمل هذا الكلام الشريف على أصول صفات الجلال والإكرام التي عليها مدار علم الكلام ، وأفاد أن العبادة تابعة للرؤية ، وتفسير معنى الرؤية ، وأفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة حسن وإن لم يكن تمام الغاية. وكذلك الخوف منه تعالى.
الأول : (ما يكون منافيا) (1) له ، كضم الرياء ، وتوصف بسببه العبادة بالبطلان ، بمعنى عدم استحقاق الثواب.
وهل يقع مجزئا بمعنى سقوط التعبد به ، والخلاص من العقاب؟
الأصح أنه لا يقع مجزئا ، ولم أعلم فيه خلافا إلا من السيد الإمام المرتضى (2) قدس اللّه تعالى سره ، فان ظاهره الحكم بالاجزاء في العبادة المنوي بها الرياء (3).
الثاني : ما يكون من الضمائم لازما للفعل ، كضم التبرد أو (التسخن أو التنظف) (4) إلى نية القربة. وفيه وجهان ينظران : إلى عدم تحقق معنى الإخلاص ، فلا يكون الفعل مجزئا ، وإلى أنه حاصل لا محالة ، فنيته كتحصيل الحاصل الّذي لا فائدة فيه. وهذا الوجه ظاهر (5) أكثر الأصحاب (6). والأول أشبه ، ولا يلزم من (حصوله نية) (7) حصوله.
ص: 79
ويحتمل أن يقال : إن كان الباعث الأصلي هو القربة ثمَّ طرأ التبرد عند الابتداء في الفعل ، لم يضر ، وإن كان الباعث الأصلي هو التبرد فلما أراده ضم القربة ، لم يجز. وكذا إذا كان الباعث مجموع الأمرين ، لأنه لا أولوية حينئذ فتدافعا ، فتساقطا ، فكأنه غير ناو.
ومن هذا الباب ضم نية الحمية إلى نية (1) القربة في الصوم ، وضم ملازمة الغريم إلى القربة في الطواف والسعي والوقوف بالمشعرين.
الثالث : ضم ما ليس بمناف ولا لازم ، كما لو ضم إرادة دخول السوق مع نية التقرب في الطهارة ، أو إرادة الأكل ، ولم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه الأشياء ، فإنه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكدا غير مناف ، وهذه الأشياء إن لم يستحب لها الطهارة بخصوصها إلا أنها داخلة فيما يستحب بعمومه. وفي هذه الضميمة وجهان مرتبان على القسم الثاني ، وأولى بالبطلان ، لأن ذلك تشاغل عما يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه (2).
يجب في النية التعرض لمشخصات الفعل من غيره ، فيجب نية جنس الفعل ، ثمَّ فصوله وخواصه المميزة التي لا يشاركه فيها غيره ، كالوجوب والندب ، والرفع ، والاستباحة في الطهارة حيث يمكن ، أو الاستباحة وحدها حيث لا يمكن ، فلو ضم نية الوجوب (3) والندب في فعل واحد ، كما لو نوى بالغسل الجنابة والجمعة ، بطل ، لتنافي الوجهين. ويحتمل
ص: 80
الاجزاء ، لأن نية الوجوب هي المقصودة ، فتلغو نية الندب. أو نقول : يقعان له ، فإن غاية غسل الجنابة رفع الحدث ، وغاية غسل الجمعة النظافة ، فهو كضم التبرد إلى التقرب.
ومن هذا الباب : لو جمع في الصلاة على الجنازة الوجوب والندب إذا اجتمع من تجب عليه الصلاة ومن لا تجب. ولو اقتصر على نية الوجوب أجزأ في الموضعين.
ويجوز اجتماع نية الندب مع الواجب في مواضع :
منها : نية الصلاة ، فإنها تشتمل على الواجب منها والمستحب ، ولا يجب التعرض لنية المستحب بخصوصه ، ولا إلى نية أفعال (1) الواجب لوجوبه ، والمندوب (2) لندبه ، وإن كان ذلك هو المقصود ، لأن المندوب في حكم التابع للواجب ، ونية المتبوع تغني عن نية التابع.
ومنها : إذا صلى الفريضة جماعة ، فإنه ينوي الوجوب في الصلاة من حيث هي صلاة ، وينوي الندب في الصلاة من حيث هي جماعة ، سواء كان إماما أو مؤتما ، وإن كان قد اختلف في استحباب نية الإمام للإمامة (3).
ومنها : إذا أدرك المأموم تكبيرة الركوع مع الإمام فكبر ناويا
ص: 81
للركوع ، فقد حكم الشيخ (1) بالاجزاء ، وهو مروي (2).
إذا اجتمع أسباب الوجوب في مادة واحدة ، كما لو نذر الصلاة اليومية وقلنا بالانعقاد ، كما هو مذهب المتأخرين (3). وكذا لو نذر الصوم الواجب ، أو الحج الواجب ، أو استؤجر عن الصلاة الواجبة عن الغير ، أو صلى عن أبيه بالتحمل ، ففي كل هذه الصور تكفي نية الوجوب ولا يجب التعرض للخصوصيات ، لأن الغرض إبراز الفعل على وجهه ، وقد حصل ، فلا حاجة إلى أن ينوي النائب : لوجوبه عليّ وعليه ، يعني المنوب عنه ، فان الوجوب عليه إنما هو الوجوب على المنوب ، وقد صار متحملا له.
ولو اشتمل النذر على هيئة زائدة ، فإن كانت زمانا ، كما لو نذر الصلاة في أول وقتها ، أو أداء الزكاة عند رأس الحول ، أو قضاء شهر رمضان في رجب ، أمكن أن يجب التعرض لنية تعينه في ذلك الزمان ، لأنه أمر لم يجب بالسبب الأول. والأقرب عدم الوجوب ، لأن الوجوب الأصلي صار متشخصا بذلك المشخص الزماني فنيته منصبة عليه.
وإن كانت هيئة زائدة ، كما لو نذر قراءة سورة معينة في الصلاة
ص: 82
ففي التعرض لها : الوجهان ، والأقرب عدم الوجوب.
ولو نذر قراءة القرآن في صومه فهما أمران متغايران يجب أن يفرد لكل منهما نية.
الفائدة السادسة الأصل أن كلا من الواجب والندب لا يجزي عن صاحبه ، لتغاير الجهتين ، وقد يتخلف (1) هذا الأصل في مواضع :
منها : إجزاء الواجب عن الندب في صلاة الاحتياط الّذي يظهر الغناء عنه. وكذا لو صام يوما بنية القضاء عن رمضان فتبين أنه كان قد صامه ، فإنه يستحق على ذلك ثواب الندب.
وأما إجزاء الندب عن الواجب ففي مواضع :
منها : صوم يوم الشك.
ومنها : صدقة الحاج بالتمر ما دام الاشتباه باقيا ، فلو ظهر أن عليه واجبا فالظاهر الاجزاء عنه ، إذا كان من جنس المؤدى ، كما يجزي الصوم عن رمضان لو ظهر أنه منه.
ومنها : الوضوء المجدد لو بان أنه محدث ، ففيه الوجهان ، والاجزاء قوي (2).
ومنها : لو جلس للاستراحة فلما قام تبين أنه نسي سجدة ، فالأقرب قيامها مقام جلسة الفصل ، فيجب السجود ، ولا يجب الجلوس قبله.
ومنها : هذه الجلسة لو قام عقيبها إلى الخامسة سهوا وأتى بها ،
ص: 83
وكانت الجلسة (1) بقدر التشهد ، فان الظاهر إجزاؤه عن جلسة التشهد وصحة الصلاة ، لسبق نية الصلاة المشتملة عليها. بخلاف من توضأ احتياطا ندبا ، فظهر الحدث ، فإن النية هنا لم تشتمل على الواجب في نفس الأمر ولو جلس بنية التشهد ، ثمَّ ذكر ترك سجدة أجزأت هذه الجلسة عن جلسة الفصل قطعا ، لأن التغاير هنا في القصد إلى تعيين الواجب ، لا بالوجوب والندب.
ومنها : لو أغفل لمعة (2) في الغسلة الأولى فغسلها في الثانية بنية الاستحباب. وفيها الوجهان : من حيث مخالفة الوجه ، ومن اشتمال نية الاستباحة (3) عليها.
ومنها : لو نوى الفريضة فظن أنه في نافلة ، فأتى بالأفعال ناويا للندب أو ببعضها ، فإن الأصح الاجزاء ، للرواية (4) ، وقد أوضحناه في الذكرى (5).
أما لو ظن أنه سلم فنوى فريضة أخرى ، ثمَّ ذكر نقص الأولى فالمروي عن صاحب الأمر عليه السلام الاجزاء عن الفريضة الأولى (6).
ص: 84
والسر فيه : أن صحة التحريم بالثانية موقوف على التسليم من الأولى في موضعه أو الخروج منها ، ولم يحصلا ، فجرت التحريمة مجرى الأذكار المطلقة التي لا تخل بصحة الصلاة ، ونية الوجوب في الثانية لغو ، لعدم مصادفته محلا. وحينئذ هل تجب نية العدول إلى الأولى؟
الأقرب عدمه ، لعدم انعقاد الثانية ، فهو بعد (1) في الأولى. نعم يجب القصد إلى أنه في الأولى من حين الذّكر.
يجب الجزم في مشخصات النية من : التعيين ، والأداء ، والقضاء والوجوب ، والندب ، مع إمكانه ، ولا يجزي الترديد حيث يمكن الجزم لأن القصد إلى الفعل إنما يتحقق مع الجزم.
وقد جاء الترديد في مواضع :
منها : الصلاة المنسية المشتبهة بين الثلاث الرباعيات ، أو المشتبهة بين (2) الأداء والقضاء.
ومنها : الزكاة المرددة بين الوجوب والندب ، على تقديري بقاء المال وعدم بقائه.
ومنها : نية صوم آخر شعبان المرددة بين الوجوب والندب ، فإنه غير واجب هنا ، وإن وجب في الأولين. ولو فعل ففي إجزائه نظر ، أقربه الإجزاء ، لمصادفته الواقع.
ولو ردد ليلة الشك في العيد بين الصوم وعدمه ، ففيه وجهان ،
ص: 85
وأولى بالمنع ، لأنه تردد لا في محل الحاجة ، إذ يجب عليه الصوم من غير تردد.
ومنها : لو شك في تعيين الطواف المنسي فإنه يردد.
ولو شك في تعيين النسك المنذور من. التمتع ، أو القرآن ، أو الافراد ، أو العمرة المفردة ، أو عمرة التمتع ، فان الترديد يجزي في الأول ، وفي إجزائه في العمرتين تردد ، من حيث اختلافهما في الأفعال ، وترتب الحج على إحداهما دون الأخرى.
وليس الصلاة في الثياب المتعددة عند الاشتباه بالنجاسة ، والطهارة بالماء المطلق والمضاف عند اشتباههما من هذا القبيل ، لأن الجمع هنا واجب ، لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به.
ومنها : لو نسي تعيين الكفارة مع علمه بوجوبها ، فإنه يردد بين الأقسام المحتملة لها.
ومنها : لو شهد عدل ، أو جماعة من الصبيان (1) أو الفساق ، أو النساء ، برؤية الهلال ، فنوى الوجوب ، فصادف رمضان ، ففي الإجزاء وجهان ، وظاهر الأكثر عدمه.
ومنها : لو توهمت الحائض انقطاع الحيض فنوت ، فصادف انقطاعه أو كان سائلا فنوت (2) ، ثمَّ انقطع قبل الفجر ففي الإجزاء الوجهان.
ويقوى الاجزاء عند قوة الأمارة ككونه على رأس عادتها ، أو قريبا منها.
ومنها : لو ظن المسافر القدوم عادة قبل الزوال ، فنوى ليلا ، ففي إجزائه لو وافق ، الوجهان. وكذا الجنب لو نوى الصوم (3) بعد
ص: 86
الجنابة ثمَّ اغتسل.
ومنها : لو نذر يوم قدوم زيد ، فظنه في الغد ، فنوى ليلا ، ففي وجوب الصوم هنا وجهان. وكذا في إجزاء هذه النية إن قلنا بالوجوب.
ومنها : لو ظن دخول الوقت ، فتطهر بنية الوجوب ، فظهر مطابقته ، فان كان لا يمكنه العلم أجزأ ، قولا واحدا ، وإن كان متمكنا من العلم ففيه الوجهان.
ومنها : لو ظن ضيق الوقت ، فتيمم فرضا ، فان صادف الضيق أجزأ ، وإن صادف السعة أجزأ مع عدم التمكن من العلم ، ومع التمكن الوجهان. وكذا لو ظن ضيق الوقت إلا عن العصر فصلاها ، ثمَّ تبين السعة ، فالأقرب الاجزاء إذا وقعت في المشترك بينها وبين الظهر ، أو دخل (1) المشترك وهو فيها. ولو دخل المختص بالعصر وهو فيها ، ففيه الوجهان. ولو وقعت العصر في الأربع المختصة بالظهر بحيث يكون قد بقي بعد العصر مقدار أربع ركعات لا أزيد ، فالأقرب أنها لا تجزي ، ويعيد العصر الآن ، ويقضي الظهر. ويحتمل الإجزاء ، إما بناء على اشتراك الوقتين دائما ، وإما لتعاوضهما ، فكأن العصر قد اقترضت من الظهر وقتها وعوضتها بوقت نفسها. وهو ضعيف ، وإلا لكان ينوي في الظهر الأداء في هذه الأربع ، وظاهرهم عدمه ، وإنما ينوي القضاء لو قلنا باجزاء العصر.
ومنها : لو ترك الطلب فتيمم ، ثمَّ ظهر عدم الماء.
ومنها : لو صلى إلى جهة يشك أنها القبلة ، فصادفت ، أو شك في دخول الوقت ، فصلى ، فصادف ، والأقرب عدم الاجزاء إلا مع الظن ، حيث لا طريق إلى العلم.
ص: 87
ومنها : لو صلى خلف الخنثى ، فظهر أنه رجل وفيه التفصيل المذكور.
ومنها : لو صلى على ميت يشك أنه من أهل الصلاة ، فصادف.
أو تيمم للصلاة على الميت شاكا في تغسيله ، وقلنا لا يشرع (1) التيمم قبل الغسل ، فصادف كونه قد غسل.
ومنها : إذا كان في مطمورة فتحرى (شهرا للصيام) (2) ، فصادف. وهذا (3) قد نصّ الأصحاب على إجزائه ما لم يتقدم على شهر رمضان (4). ولو أوجبنا الاجتهاد هنا ، فصام من غير اجتهاد ، فصادف ، ففيه الوجهان.
ومنها : لو صام من عليه كفارة مرتبة قبل علمه بعجزه عن العتق فصادف عجزه.
ومنها : إذا شك في دخول شوال ، فأحرم بالحج أو بعمرة التمتع ، فصادف دخول شوال.
ومنها : أحرم بالعمرة المفردة ناسيا للتحلل من الإحرام بالحج ، أو أحرم بحج التمتع ناسيا للإحلال من العمرة ، فصادف التحلل (5).
ص: 88
تعتبر النية في جميع العبادات إذا أمكن فعلها على وجهين ، إلا النّظر المعرف ، لوجوب معرفة اللّه تعالى ، فإنه عبادة ولا تعتبر فيه النية ، لعدم تحصيل المعرفة قبله.
وإلا إرادة الطاعة ، أعني : النية ، فإنها عبادة ولا تحتاج إلى نية وإلا لتسلسل.
وما لا يمكن فيه اختلاف الوجه ، كرد الوديعة وقضاء الدين ، لا يحتاج إلى نية مميزة ، وإن احتاج في استحقاق الثواب إلى قصد التقرب إلى اللّه تعالى (1).
للنية غايتان :
إحداهما : التمييز.
والثانية : استحقاق الثواب.
وإن كان الفعل واجبا ، فإنه يستفيد المكلف بالفعل الخلاص من الذم والعقاب ، وبالترك يتعرض لاستحقاقهما. وهذه غاية ثالثة.
ثمَّ ينقسم الواجب إلى قسمين :
أحدهما : ما الغرض الأهم منه بروزه إلى الوجود ، كالجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقضاء الدين ، وشكر النعمة ، ورد الوديعة. وهذا القسم يكفي مجرد فعله عن الخلاص من تبعة الذم والعقاب ، ولا يستتبع الثواب إلا إذا أريد به (2) التقرب إلى اللّه تعالى.
ص: 89
الثاني : ما الغرض الأهم منه تكميل النّفس ، وارتفاع الدرجة في المعرفة ، والإقبال على اللّه تعالى ، واستحقاق الرضا من اللّه تعالى وتوابعه (1) من المنافع الدنيوية والأخروية كالتعظيم في الدنيا ، والثواب في الآخرة.
وهذا القسم لا يقع مجزيا في نظر الشرع إلا بنية القربة (2).
يجب ترك المحرمات ، ويستحب ترك المكروهات ، ومع ذلك لا تجب فيه النية ، بمعنى أن الامتثال حاصل بدونها ، وإن كان استحقاق الثواب بالترك يتوقف على نية القربة.
وهذه التروك يمكن استناد عدم وجوب النية فيها إلى كونها لا تقع إلا على وجه واحد ، فان الترك لا تعدد فيه. ويمكن استناد عدم الوجوب إلى كون الغرض الأهم منها هجران هذه الأشياء ليستعد بواسطتها للعمل الصالح.
ومن هذا الباب : الأفعال الجارية مجرى التروك ، كغسل النجاسة عن الثوب والبدن ، فإنه لما كان الغرض منها (3) هجران النجاسة وإماطتها جرت مجرى الترك.
التميز الحاصل بالنية (تارة) يكون لتميز العبادة عن العادة ، كالوضوء والغسل ، فإنه كما يقع كل منهما عبادة يقع عادة ، كالتنظيف ،
ص: 90
والتبرد ، والتداوي.
و (تارة) لتميز أفراد العبادة ، كالفرض عن النفل ، والأداء عن القضاء ، والقربة عن الرياء.
وربما جعل التميز الحاصل بالقربة من قبيل امتياز العبادة عن العادة لأن الرياء المقصود في العبادة يخرجها عن حقيقة العبادة ، فهو كالفعل المعتاد.
ولا بد من استيعاب المميزات في النية - وإن كثرت - تحصيلا للغرض منها.
كل ما يعتبر في صحة العبادة لا يخرج عن الشرطية ، والجزئية.
وإزالة الموانع من قبيل الشروط.
وقد اختلف في النية هل هي من قبيل الشروط ، باعتبار تقدمها على العبادة ، ومصاحبتها مجموع الصلاة - مثلا - وهذا هو حقيقة الشرط ويقابله الجزء ، وهو ما يقارن العبادة أو لا يصاحب المجموع (1)؟
ويحتمل الفروق بين نية الصوم ، وباقي العبادات ، فيجعل شرطا في نية الصوم ، وركنا في باقي العبادات (2) ، لأن تقدم نية الصوم على وجه لا يشتبه بالمقارنة. نعم لو قارن بها الصوم فإنه جائز ، على الأصح
ص: 91
وانسحب فيها الخلاف.
وربما قيل : إن جعلنا اسم العبادة يطلق عليها من حين النية فهي جزء على الإطلاق ، وإلا فهي شرط.
وقيل أيضا (1) : كل ما اعتبرت النية في صحته فهي ركن فيه ، كالصلاة ، وكل ما اعتبرت في استحقاق الثواب به فهي شرط فيه ، كالجهاد والكف عن المعاصي ، وفعل المباح ، أو تركه إذا قصد به وجه راجح شرعا.
ولا ثمرة مهمة في تحقيق هذا ، فإن الإجماع واقع على أن النية معتبرة في العبادة (2) ، ومقارنة لها غالبا ، وأن فواتها يخل بصحتها. فيبقي النزاع في مجرد النية ، وإن كان قد يترتب على ذلك أحكام نادرة ذكرناها في (الذكرى) (3) ، كصحة صلاة من تقدمت نيته على الوقت ونية الوضوء المنوي به الوجوب.
فان قلت : ما تقول في التيمم فإنه غير معتاد فلم افتقر إلى النية المميزة؟
قلت : ليس التميز بين العبادة والعادة مما يمحض شرعية النية لأجلها ، بل الركن الأعظم فيها التقرب ، فلا بد من قصده في التيمم ، كغيره. ولأن التميز حاصل منه بالنسبة إلى الفرض والنفل ، والبدل عن الأصغر والأكبر.
ص: 92
قضية الأصل : وجوب استحضار النية فعلا في كل جزء من أجزاء العبادة ، لقيام دليل الكل في الأجزاء ، فإنها عبادة أيضا ، ولكن لما تعذر ذلك في العبادة البعيدة المسافة ، أو تعسر في القريبة المسافة ، اكتفي بالاستمرار الحكمي. وفسر : بتجديد العزم كلما ذكر. ومنهم من فسره : بعدم الإتيان بالمنافي (1). وقد بيناه (2) في رسالة الحج.
فلو نوى القطع ، فان كان المنوي إحراما ، لم يفسد إجماعا ، لأن محللاته معلومة. ولأنه لا يبطل بفعل المفسد فلأن لا يبطل بنية القطع أحرى.
وإن كان صوما ، ففيه وجهان : من تغليب شبه (3) الفعل ، أو شبه (4) الترك عليه (5).
وإن كان صلاة ، فوجهان مرتبان ، وأولى بالبطلان ، لأنها أفعال محضة كان من حقها استصحاب النية فعلا في كل منها ، فلا أقل من الاستصحاب الحكمي ، وظاهر أن نية القطع تنافي الاستصحاب الحكمي.
ووجه عدم التأثير ، النّظر إلى قوله صلى اللّه عليه وآله : (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (6) ومقتضاهما الحصر. ولأن الصلاة عبادة واحدة
ص: 93
وكل جزء منها العبادة فيه إنما هو بالنظر إلى المجموع ، فإذا تحقق انعقادها بالتكبير بعد النية لم تؤثر القصود اللاحقة لذلك ، لأنها لم تصادف ما يجب فيه النية فعلا.
أما الوضوء والغسل ، فإن نية القطع تبطل بالنسبة إلى ما بقي لا إلى ما مضى ، لأنه أفعال منفصلة ، وخصوصا الغسل. نعم لو خرج الوضوء عن الموالاة أثر ذلك ، باعتبار فوات الشرط ، لا باعتبار تأثير النية في الماضي.
التردد في قطع العبادة فيه وجهان مبنيان : على تأثير نية الخروج ، أو نية فعل المنافي.
وأولى بالصحّة ، لأن المنافاة غير متحققة ، بالنظر إلى كون التردد ليس على طرف النقيض بالنسبة إلى النية المصححة للعبادة.
والوجه : أنهما سواء ، لأن أقل أحوال الاستصحاب الحكمي الجزم بالبقاء على ما مضى ، والشك ينافي الجزم.
وأما نية فعل المنافي فهي كنية الخروج من العبادة تؤثر حيث تؤثر ، وينتفي حيث ينتفي التأثير. فلو نوى الصائم الإفطار فهو كنية القطع.
ويقوى عدم تأثير النية في الصوم ، لأن الصوم لا تبطل حقيقته بنفس فعل المنافي ، ولهذا ووجبت الكفارة لو أفطر ثانيا ، فلأن لا يبطل بنيته أولى.
فإن منع وجوب الكفارة الثانية فلنا أن نستدل : بأن نية المنافي لو أبطلت لما وجبت كفارة أصلا ، لأن الأكل والجماع مسبوقان بنية فعلهما ،
ص: 94
فإذا أفسدت (1) النية صادفا صوما فاسدا ، فلا يتحقق به كفارة.
والإجماع على خلافه ، إلا أن يقال بقول الشيخ أبي الصلاح الحلبي (2) رحمة اللّه (3) ، وقول شيخنا الإمام فخر الدين (4) بن المطهر (5) رحمه اللّه : من أن ترك النية في الصوم موجب للكفارة ، إما بمجردهما ، أو بشرط انضمام المنافي إليهما. إلا أنه يلزم من الأول ارتكاب وجوب كفارتين بالجماع : إحداهما على نيته ، والأخرى على فعله. ولم يقل به أحد من العلماء.
ص: 95
يمكن اجتماع نية عبادة في أثناء أخرى ، كنية الزكاة والصيام في أثناء الصلاة ، وقد تضمن القرآن العزيز إيتاء (1) الزكاة في حال الركوع (2) على ما دل عليه النقل من تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه ، فأنزلت فيه الآية (3).
أما لو كانت العبادة الثانية منافية للأولى ، كما لو نوى في أثناء الصلاة طوافا ، فهو كنية القطع.
ولو نوى المسافر في أثناء الصلاة المقام وجب الإتمام ، ولا يكون ذلك تغيرا مفسدا.
والسر فيه : أن النية السابقة اشتملت على أبعاض الصلاة ، (والباقي كالمكرر فلا يقدح عدم تقدم نيته) (4).
على أن للملتزم (5) أن يلتزم بوجوب النية لما زاد على المقدار المنوي أولا. ولا استبعاد فيه ، وإن لم تصاحبه تكبيرة الإحرام ، للانعقاد أصل الصلاة بها.
ولو نوى المقيم في أثناء الصلاة السفر قبل أن يصلي على التمام ، ففي جواز رجوعه إلى القصر ثلاثة أوجه ، ثالثها : الفرق بين من تجاوز
ص: 96
التقصير وبين من لم يتجاوز. وهنا لا قادح ، لعدم زيادة شي ء على العبادة ، وإنما هو حذف شي ء منها. نعم وجه الإتمام قوي (لقولهم عليهم السلام) (1) : (الصلاة على ما افتتحت عليه) (2). ولوجوب.
إتمام العبادة الواجبة بالشروع فيها.
العدول من الصلاة المعينة إلى صلاة أخرى ، أو من الصوم فريضة إلى الصوم نافلة أو بالعكس ، ليس من باب نية فعل المنافي ، إذ لا تغير فاحشا فيه. وكذا في العدول من نسك إلى آخر ، ومن نسك التمتع إلى قسيميه ، وبالعكس.
ويجب في هذه المواضع إحداث نية العدول إليه ، ويحرم التلفظ بها في أثناء الصلاة ، فلو فعله بطلت. بخلاف باقي العبادات أو التلفظ بها في أول الصلاة ، فإنه جائز ، ولكن الأولى تركه ، لأن مسمى النية هو : الإرادة القلبية ، وهو حاصل ، فلا معنى للتلفظ. ولأن السلف لم يؤثر عنهم ذلك.
ومن زعم استحباب التلفظ (3) ، ليجمع بين التعبد بالقلب واللسان ، فقد أبعد ، لأنا نمنع كون التلفظ (4) باللسان عبادة ، وليس النزاع إلا فيه.
ص: 97
اقتران عبادتين في نية واحدة جائز إذا لم يتنافيا ، (فتارة) تكون إحداهما منفكة عن الأخرى ، كنية دفع الزكاة والخمس ، و (تارة) مصاحبة لها ، كنية الصوم والاعتكاف ، أو (تابعة لها). وتتحقق التبعية في أمور :
منها : لو نوى النظافة في الأغسال المسنونة ، فان النظافة تابعة للغسل على وجه التقرب ، بل (1) هي المقصودة من شرعية الغسل.
ومنها : نية تحسين القراءة في الصلاة ، ونية (2) تحسين الركوع والسجود ، ليقتدى به ، لا لاستجلاب نفع ، ولا لدفع ضرر.
ومنها : أن يزيد الإمام في ركوعه انتظارا للمسبوق ، ليفيده ثواب الجماعة ، ويستفيد الإمام بزيادة عدد الجماعة المقتضي لزيادة الثواب ، فإنه إعانة للمأموم على الطاعة ، والإعانة على الطاعة طاعة ، لأن وسيلة الشي ء يلحق بها حكمه.
وتوهم بعض العامة (3) منعه ، لأنه شرك في العبادة.
وهو مدفوع بما قررناه. ولأنه لو كان ذلك شركا في العبادة لكان لاحقا بالأذان والإقامة ، والأمر بالمعروف ، بل بتعليم العلوم. وليس كذلك بالإجماع.
ومنها : رفع الإمام صوته بالقراءة في الجهرية ، ليسمعه المأمون ، ورفع الخطيب صوته في الخطبة ، ورفع القارئ صوته بالقراءة وتحسينه
ص: 98
لاستجلاب الاستماع المستتبع للطف ، لا لاستجلاب التعظيم ، ودفع الضرر.
ومنها : أنه إذا وجد منفردا يصلي استحب له أن يؤمه ، أو يأتم به ، لقوله صلى اللّه عليه وآله وقد رأى رجلا يصلي منفردا - : (من يتصدق على هذا؟) فقام رجل فصلى خلفه (1).
لا يجب عندنا النفل (2) بالشروع فيه ، إلا الحج والاعتمار.
وفي الاعتكاف للأصحاب ثلاثة أوجه : الوجوب بالشروع ، والوجوب بمضي يومين ، وعدم الوجوب. وأوسطها وسطها.
نعم يكره قطع العبادة المندوبة بالشروع فيها ، وتتأكد الكراهية في الصلاة ، وفي الصوم بعد الزوال.
جوّز بعض الأصحاب (3) الإبهام في نية الزكاة بالنسبة إلى خصوصيات الأموال.
فلو وجب عليه شاة في الغنم وشاة في الإبل ، ونوى إخراج شاة ، برئت الذّمّة وإن لم يعين إحداهما. نعم يشترط قصد الزكاة المالية.
ولا يخلو من إشكال ، لأن البراءة إن نسبت إلى أحد المالين بعينه فهو تحكم بغير دليل ، وإن نسبت إليهما ، بمعنى التوزيع ، فهو غير منوي
ص: 99
(وإنما لكل امرئ ما نوى) (1).
وتظهر الفائدة : فيما لو تلف أحد النصابين قبل التمكن من الدفع بعد أن دفع عن الأول.
فإن قلت : كيف يتصور عدم التمكن وقد كان يمكنه دفع الشاتين إلى من دفع إليه إحداهما؟
قلت : يتصور ذلك في ابن السبيل لا يعوزه إلا شاة ، وشبهه.
وأما الإبهام في العتق عن الكفارة ، ففيه خلاف مشهور (2).
والأقرب المنع ، سواء اتحدت الكفارة جنسا أو اختلفت.
وأما الإبهام في النسك ، فقد صرح الأصحاب بمنعه (3) حيث يكون المكلف مخاطبا بأحدهما ، كالحج أو العمرة. ولو لم يجب عليه أحدهما ، والزمان غير صالح للحج ، وجبت العمرة ، وإن صلح لهما ، كأشهر الحج ، ففيه وجهان : التخيير ، والبطلان ، لعدم التميز الّذي هو ركن في النية.
تجري النية في غير العبادات ، ولها موارد :
منها : قصد زكاة التجارة أو القنية. ويتفرع عليها : لو لم يستمر على قصد التجارة ، إما بأن نوى القنية ، أو نوى رفض التجارة ، فإنه
ص: 100
تنقطع نية التجارة. فلو عاد إلى نية التجارة بنى على صيرورة المال تجارة بالنية ، وإن لم تقارن التكسب ، وعدمه ، فان قلنا به ، عادت التجارة وإلا فلا.
ومنها : قصد المسافر المسافة ، وهو معتبر في القصر ، فلو رفض القصد ، انقطع الترخص. فلو عاد اشترطت المسافة من حيث ضرب في الأرض بعد عود النية.
ومنها : لو نوى الأمين الخيانة ، فإن كان سبب أمانته الشارع ، كالملتقط ، صار ضامنا بنية الخيانة ، وإن كان سبب أمانته المالك ، كالوديعة والعارية والإجارة ، لا يضمن بمجرد النية.
ومنها : نية الحائز للمباح ، وهي مملكة مع الحيازة. ولو نوى ولم يجز لم يملك ، قولا واحدا. ولو حاز ولم (1) ينو ففيه وجهان ، الأقرب انتفاء الملك.
ومنها : لو أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا ، أو رباطا أو مقبرة ، فيحتمل صيرورتها بالنية إلى تلك الغايات ، لأنه نوى شيئا فيحصل له.
والأقرب افتقاره إلى التلفظ.
وحينئذ هل يملك بتلك النية؟ فيه وجهان مبنيان على أن الملك الضمني هل هو كالحقيقي أم لا؟ فعلى الأول يملك ، وعلى الثاني لا يملك.
والأول قريب.
ومنها : أن سائر صيغ العقود والإيقاعات يعتبر القصد إلى الإنشاء فيها ، سواء كانت بالصريح ، أو بالكناية عندنا في موضع جواز الكناية ، كما في العقود الجائزة كالوديعة والعارية.
والنية هنا هي : القصد إلى التلفظ بالصيغة مريدا غايتها. فلو قصد
ص: 101
اللفظ لا لإرادة غايته ، كما في المكره ، لم يقع العقد ولا الإيقاع ، سواء قصد ضد غايته ، كما لو قال : بعتك ، وقصد الاخبار ، أو قال : يا طالق وقصد ضد غايته ، كما لو قال : بعتك ، وقصد الاخبار ، أو قال : يا طالق وقصد النداء ، أو لم يقصد شيئا.
ولو انتفى قصد اللفظ ، كما في الساهي والنائم والغافل ، بطل بطريق الأولى.
ولا يكفي القصد (1) في أركان العقد إذا لم يتلفظ به ، كما لو قال : بعتك بمائة ، ونوى الدراهم ، أو : خالعتك بمائة درهم ، وأراد نقدا مخصوصا. وظاهر الشيخ أبي جعفر (2) [ الطوسي ] ومن تبعه الصحة ويتبع الإرادة. ويمكن القول به هنا وفي البيع إذا كانا قد تواطئا على ذلك ، لأنه كالملفوظ. والبطلان قوي ، للإخلال بركن العقد.
ومنها : تأثير النية في تعيين الزوجة والمعتق فيما لو قال : زوجتي طالق ، ونوى زينب ، أو عبدي حر ، ونوى تغلب. ولو تجردا عن النية ففي وقوعهما وجهان ، فان قلنا به أنشأ التعيين من بعد.
ومنها : جريان النية في الأيمان والنذور والعهود ، بالنسبة إلى مخصصات نوع ، من جنس وشبهه ، كما لو حلف : أن لا يأكل ، ونوى اللحم ، أو : لا يأكل اللحم ، ونوى لحم الإبل ، فيؤثر ذلك في القصر (3) على ما نواه.
وكما يجوز تقييد المطلق بالنية ، كما ذكرنا ، يجوز تخصيص العام بها ، فلو قال : لا دخلت الدار ، ونوى دخولا خاصا أو موقتا ، صح.
ولو قال : لا سلمت على زيد ، وسلم على جماعة هو فيهم ، ونوى
ص: 102
خروجه ، أو التسليم على من عداه ، لم يحنث.
أما الفعل ، فالأقرب عدم جواز الاستثناء فيه ، كما لو قال : لا دخلت على زيد ، فدخل على جماعة هو فيهم ونوى الدخول على غيره.
والشيخ جوزه (1) ، كالاستثناء في القول ، إذ النية مؤثرة في الأفعال ، لاعتبارها في العبادات ، ومعظمها أفعال ، فتكون مؤثرة هنا. وليس ذلك ببعيد.
فان (2) قيل : لا ينتظم : دخل على العلماء إلا على قوم منهم ، وينتظم : سلم عليهم إلا على قوم منهم.
قلت لم لا يكون الباعث على الدخول مشخصا له ، فان الباعث على الدخول يتصور تخصيصه بقوم دون قوم ، ويكون ذلك صالحا لتخصيص الدخول. ويمنع عدم انتظامه على هذا التقدير.
ولو أخبر عن إرادة خلاف الظاهر في اليمين المتعلقة بحق الآدمي (فإنه لا يقبل) (3) ظاهرا ، ولكنه يدين به باطنا ، كما لو قال : لا وطئتها ، ثمَّ قال : قصدت في غير المأتي ، أو شهرا ، أو في السوق.
ويحتمل القبول ، لأنه أخبر عما يحتمل لفظه ، وهو أعرف بقصده. ولو كان هناك قرينة تدل على التخصيص قبل قطعا.
وإذ قد علم جواز إطلاق العام وإرادة الخاصّ ، فلو قال : لا كلمت أحدا ، ونوى زيدا ، فان قصد مع ذلك إخراج من عدا زيدا من نسبة عدم التكلم ، قصد اللفظ على زيد ، وجاز تكليم غيره. وإن لم ينو
ص: 103
إخراج من عداه ، فالظاهر أنه خارج : إما على القول بمفهوم اللقب فظاهر ، وإما على القول بعدمه ، فلأن من عدا زيدا على أصل حكمه قبل اليمين ، فلا يخرج عنه إلا بمخرج. واللفظ المنوي به الخصوص كالناص على الخصوص ، فهو في قوة : لا كلمت زيدا ، وبالإجماع أنه لا يحرم تكليم غيره في هذه الصورة ، فكذا ما هو في معناها.
وقال بعض المعجبين برأيه من أهل الرّأي : إن هذا اللفظ صالح لمن عدا زيدا بالقصد الثاني ، كما أنه يتناول زيدا بالقصد الأول ، وذكر زيد كذكر فرد من أفراد العام الّذي ثبت في الأصول (1) : أنه غير مخصص ، كخبر شاة ميمونة (2) ، مع خبر العموم في الإهاب (3).
ولأن انضمام غير المستقل بنفسه إلى المستقل يصير الأول في حكم غير المستقل كما في الاستثناء والشرط ، والصفة والغاية ، مثل : لا لبست ثوبا إلا القطن ، أو إن كان غير القطن ، أو قطنا ، أو إلى شهر ، ولم يثبت
ص: 104
مثله في النية حتى يصير اللفظ بها غير مستقل في الإفادة ، بل النية جارية مجرى انضمام المستقل إلى المستقل ، وظاهر أنه لا يغير حكمه ، كما لو قال : له عليّ عشرة تنقص تسعة ، أو قال : له عليّ عشرة خمسة منها لي.
ولو قال : لا كلمت أحدا ، ولا كلمت زيدا ، كان مقتضيا لتحريم كلام زيد بالعموم تارة ، وبالخصوص أخرى ، ومقتضيا لتحريم كلام غير زيد بالعموم.
فان عورض بأن قوله : لا لبست ثوبا قطنا ، يتخصص به ، مع عدم المنافاة بين الثوب المطلق وبين القطن.
أجيب : بما ذكرناه من الاستقلال وعدمه ، فان قطنا غير مستقل ، فلما انضم إلى المستقل صيره غير مستقل بدونه ، ومخصص بالقطن ، بخلاف النية فإنه لم يثبت لها حكم اللفظ في الانضمام.
قلت : وهذا لا تحقيق له ، لأن صلاحية اللفظ لمن عدا زيدا مع نية زيد به ممنوع. ولا يلزم من صلاحيته مع الإطلاق صلاحيته مع التقييد ، لأن التقييد ينافي الإطلاق من حيث أنه (1) إطلاق.
وأما خبر الشاة ، وخبر العموم ، فهما خبران مستقلان ، فلذلك جمع بينهما ، لعدم التنافي.
وأما صورة النزاع فإنه كلام واجد يتبع مدلوله ، ولا يعلم ذلك إلا من قصد اللافظ ، وإن كان يحكم عليه من حيث الظاهر بإجراء اللفظ على ظاهره ، والتقدير أن اللافظ إنما قصد بالعامّ جزئيا من جزئياته ، فكيف تكون جميع الجزئيات مقصودة؟؟
وأما كون النية لم يثبت لها حكم اللفظ في الانضمام ، فهي جارية مجرى المستقل في أنه لا يغير الحكم في الأول.
ص: 105
فجوابه : انضمام الاستثناء والشرط والصفة والغاية إلى اللفظ إنما اقتضى قصره باعتبار اقتران ذلك بنية الخصوص ، إذ لو صدرت هذه المخصصات من الغافل والساهي لم يكن لها أثر. نعم لا يثبت حكم ذلك ظاهرا إلا باللفظ ، ولما كان حكم الإيمان إنما يستفاد من المكلف ، لأن غالبها تدين له ، استغني فيه عن اللفظ ، ولهذا لو استثنى في يمينه ، أو اشترط ، أو قيدها بغاية ، كان ذلك مقبولا بالنسبة إلى الحالف. وإذا قبلت هذه النسبة بالنسبة إليه فالمؤثر في الحقيقة إنما هو النية ، فكما يحمل اللفظ على مقتضاه مع تلك الألفاظ ، فكذا مع النية التي هي أصل اعتبار تلك الألفاظ ، وجعلها مخصصة.
على أنا نقول : لا نسلم دلالة العام على أفراده حال نية الخصوص ، فليست النية هنا منضمة إلى اللفظ الدال على العموم ، بل النية جاعلة اللفظ العام في معنى اللفظ الخاصّ ، فلا ينتظم قوله : إن انضمام النية كانضمام المستقل إلى (1) المستقل ، إذ لا استقلال هنا في اللفظ العام ، لعدم نيته ، وإنما صار مدلول اللفظ بالنية إلى ذلك الخاصّ.
ومنها : تأثير النية في الدفع عن الدين المرهون به ، ولو خالفه (2) المرتهن حلف الدافع ، لأنه أعرف بقصده.
ولو لم ينو حالة الدفع ، ففي التقسيط ، أو مطالبته بإنشاء النية الآن ، وجهان.
ص: 106
لا تؤثر نية المعصية عقابا ولا ذما ، ما لم يتلبس بها ، وهو ما ثبت في الأخبار العفو عنه (1).
ولو نوى المعصية وتلبس بما يراه (2) معصية ، فظهر بخلافها ، ففي تأثير هذه النية نظر ، من أنها لما (3) لم تصادف المعصي فيه صارت كنية مجردة ، وهو غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاكه الحرمة وجرأته على المعاصي.
وقد ذكر بعض الأصحاب (4) : أنه لو شرب المباح متشبها بشارب المسكر فعل حراما. ولعله ليس بمجرد النية ، بل بانضمام فعل الجوارح إليها.
ويتصور محل النّظر في صور :
منها : ما (5) لو وجد امرأة في منزل غيره فظنها أجنبية ، فأصابها فتبين (6) أنها زوجته ، أو أمته.
ص: 107
ومنها : لو وطئ زوجته لظنها حائضا ، فبانت طاهرا.
ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره فأكل منه ، فتبين أنه ملك الآكل.
ومنها : لو ذبح شاة بظنها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه.
ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنها معصومة ، فبانت مهدورة.
وقد قال بعض العامة (1) : يحكم بفسق متعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة - ما لم يتب - عقابا متوسطا بين عقاب الكبيرة والصغيرة.
وكلاهما تحكم وتخرص على الغيب.
أن العمل أحمز من النية فكيف يكون مفضولا؟؟ وروي أيضا : (أن المؤمن إذا هم بحسنة كتبت بواحدة فإذا فعلها كتبت عشرا) (1) وهذا صريح في أن العمل أفضل من النية وخير.
السؤال الثاني : أنه روي : أن النية المجردة لا عقاب فيها (2) ، فكيف تكون شرا من العمل؟
أجيب بأجوبة :
منها : أن المراد ، أن نية المؤمن بغير عمل خير من عمله بغير نية.
حكاه السيد المرتضى رحمه اللّه (3).
وأجاب عنه : بأن (أفعل) التفضيل يقتضي المشاركة ، والعمل بغير نية لا خير فيه ، فكيف يكون داخلا في باب التفضيل؟؟ ولهذا لا يقال : العسل أحلى من الخل (4).
ومنه : أنه عام مخصوص ، أو مطلق مقيد ، أي (5) : نية بعض الأعمال الكبار ، كنية الجهاد ، خير من بعض الأعمال الخفيفة ، كتسبيحة
ص: 109
أو تحميدة ، أو قراءة آية ، لما في تلك النية من تحمل النّفس المشقة الشديدة ، والتعرض للغم والهم الّذي لا توازيه (1) تلك الأفعال. وبمعناه قال المرتضى (2) بيض اللّه وجهه ، قال : (وأتى بذلك لئلا يظن أن ثواب النية لا يجوز أن يساوي أو يزيد على ثواب بعض الأعمال).
ثمَّ أجاب : بأنه خلاف الظاهر ، لأن فيه إدخال زيادة ليست في الظاهر (3).
قلت : المصير إلى خلاف الظاهر متعين عند وجود ما يصرف اللفظ إليه ، وهو هنا حاصل ، وهو معارضة الخبرين السالفين ، فيجعل ذلك جمعا بين هذا الخبر وبينه.
ومنها : أن خلود المؤمن في الجنة إنما هو بنيته أنه لو عاش أبدا لأطاع اللّه أبدا ، وخلود الكافر في النار بنيته أنه لو بقي أبدا لكفر أبدا.
قاله بعض العلماء (4).
ومنها : أن النية (5) يمكن فيها الدوام ، بخلاف العمل فإنه يتعطل عنه المكلف أحيانا وإذا نسبت هذه النية الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيرا منه. وكذا نقول في نية الكافر.
ومنها : أن النية لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ، لأنها نتكلم
ص: 110
على تقدير النية المعتبرة شرعا ، بخلاف العمل فإنه يعرضه ذينك.
ويرد عليه : أن العمل وإن كان معرضا لهما إلا أن المراد به العمل الخالي عنهما ، وإلا لم يقع تفضيل.
ومنها : أن المؤمن يراد به : المؤمن الخاصّ (1) كالمؤمن المغمور بمعاشرة أهل الخلاف ، فان غالب أفعاله جارية على التقية ومداراة أهل الباطل. وهذه الأعمال المفعولة تقية منها ما يقطع فيه بالثواب ، كالعبادات الواجبة ، ومنها ما لا ثواب فيه ولا عقاب كالباقي. وأما نيته فإنها خالية عن التقية ، وهو وإن أظهر موافقتهم بأركانه ، ونطق بها بلسانه ، إلا أنه غير معتقد بجنانه ، بل آب عنها ونافر منها. وإلى هذا الإشارة بقول أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام - وقد سأله أبو عمرو الشامي (2) - عن الغزو مع غير الإمام العادل - : (إن اللّه يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة) (3). وروي مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه وآله (4).
وهذه الأجوبة الثلاثة من السوانح.
ص: 111
وأجاب المرتضى أيضا بأجوبة (1) :
منها : أن النية لا يراد بها التي مع العمل ، والمفضل عليه هو العمل الخالي من النية.
وهذا الجواب يرد عليه النقض السالف. مع أنه قد ذكره ، كما حكيناه عنه.
ومنها : أن لفظة (خير) ليست التي بمعنى (أفعل) التفضيل ، بل هي الموضوعة لما فيه منفعة ، ويكون معنى الكلام : أن نية المؤمن خير من جملة الخير من أعماله ، حتى لا يقدر مقدر : أن النية لا يدخلها الخير والشر كما يدخل في ذلك في الأعمال. وحكى عن بعض الوزراء استحسانه ، لأنه لا يرد عليه شي ء من الاعتراضات.
ومنها : أن لفظة (أفعل) التفضيل قد تكون مجردة عن الترجيح كما في قوله تعالى ( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (2). وقول المتنبي (3) :
أبعد بعدت بياضا لا بياض له
لأنت أسود في عيني من الظلم
قال ابن جني (4) : أراد أنك أسود من جملة الظلم ، كما يقال :
حر من أحرار ، ولئيم من لئام ، فيكون الكلام قد تمَّ عند قوله (لأنت أسود). ومثله قول الآخر :
وأبيض من ماء الحديد كأنه
شهاب بدا والليل داج عساكره (5)
ص: 112
وقول الآخر :
يا ليتني مثلك في البياض *** أبيض من أخت بني أباض
(1) أي : أبيض من جملة أخت بني أباض ومن عشيرتها.
فان قلت : قضية هذا الكلام أن يكون في قوة قوله (2) : النية من جملة عمله. والنية من أفعال القلوب فكيف تكون عملا ، لأنه يختص بالعلاج.
قلت : جاز أن تسمى عملا ، كما جاز أن تسمى فعلا. أو يكون إطلاق العمل عليها مجازا.
قلت : وقد أجيب أيضا : بأن المؤمن ينوي الأشياء من أبواب الخير نحو الصدقة ، والصوم ، والحج ، ولعله يعجز عنها أو عن بعضها فيؤجر على ذلك ، لأنه معقود النية عليه. وهذا الجواب منسوب إلى ابن دريد (3) (4).
ص: 113
وأجاب الغزالي (1) (2) : بأن النية سر لا يطلع عليه إلا اللّه تعالى ، وعمل السر أفضل من عمل الظاهر.
وأجيب : بأن وجه تفضيل النية على العمل أنها تدوم إلى آخره ، حقيقة أو حكما ، وأجزاء العمل لا يتصور فيها الدوام ، إنما تتصرم (3) شيئا فشيئا (4).
تعتبر مقارنة النية لأول العمل ، فما سبق منه لا يعتد به ، وإن سبقت سميت عزما) ، وهو غير معتد به أيضا على الإطلاق ، إلا على القول بجواز تقديم نية شهر رمضان عليه (5).
وقد اغتفرت المقارنة في الصيام فجاز تقدمها وتوسطها ، كما جاز مقارنتها ، وإن كان فعلها في النهار إنما جاز في مواضع الضرورة ، كنسيان النية ، أو عدم العلم بتعلق التكليف بذلك اليوم ، أو عدم حصول
ص: 114
شرط الكمال عند طلوع فجره.
ثمَّ إذا وقعت النية (1) مؤثرة في صحة الصوم استفاد ثوابه بأجمعه ، سواء فعلها بعد الزوال ، إذا جوزناه في الندب ، أو قبله.
وإن وقعت على سبيل التمرين ، كنية الصبي المميز ، استحق أمره الثواب ، واستحق هو العوض.
وإن وقعت على طريق التأديب ، كنية الكافر والمجنون والمغمى عليه والصبي ، بزوال أعذارهم في أثناء النهار ، استحق ثوابا على ذلك العمل وان لم يسم صوما.
وتجب إذا كانت واجبة. فينوي عند قراءة القرآن العزيز قراءة ، وتدبره ، وسماعه ، وإسماعه وحفظه ، وتجويده ، وغير ذلك من الغايات المجتمعة فيه.
وينوي السعي إلى مجلس العلم ، والحضور فيه ، ودخول المسجد ، والاستماع ، والسؤال ، والتفهم ، والتفهيم ، والتعلم ، والتعليم ، والتسبيح والفكر والصلاة على النبي وآله صلى اللّه عليهم ، والرضا عن الصحابة والتابعين ، والترحم على العلماء والمؤمنين ، وعيادة المريض ، والجلوس عنده ، والدعاء له ، وزيارة الإخوان ، والسلام عليهم ، ورد السلام ، وحضور الجنائز ، وزيادة المقابر ، والسعي في حاجة أخيه ، وفي حاجة عياله ، والنفقة عليهم ، والدخول إليهم.
وينوي عند الضيافة ، وإجابة السؤال في الضيافة. بل ينوي عند الإباحات ، كالأكل والشرب والنوم ، قاصدا حفظ نفسه إلى الحد الّذي
ص: 115
ضمن له الأجل وقاصدا التقوي على عبادة اللّه عزوجل.
والمؤمن المتّقي خليق بأن يصرف جميع أعماله (1) إلى الطاعة ، فإن الوسيلة إلى الطاعة طاعة. وكل ذلك يحصل بالنية.
وينوي عند المباضعة والمقدمات التحصن والتحصين ، وتحصيل الألفة المقتضية للمودة والرحمة ، والتعرض للنسل.
والضابط في ذلك كله : إرادة الطاعة الواجبة أو المستحبة تقربا إلى اللّه تعالى. وعن بعض العلماء : لو قال في أول نهاره : (اللّهم ما عملت في يومي هذا من خير فهو لابتغاء وجهك ، وما تركت فيه من شر فتركته لنهيك) ، عد ناويا وإن ذهل عن النية في بعض الأعمال أو التروك. وكذا يقول في أول ليله.
ويجزئ نية أعمال متصلة في أولها ولا يحتاج إلى تجديد نية لأفرادها وإن كان كل واحد منها مباينا لصاحبه ، كالتعقيب الواقع بعد الصلاة (2).
ينبغي للثاقب البصير (3) في الخيرات أن يستحضر الوجوه الحاصلة في العمل الواحد ، ويقصد قصدها بأجمعها ، لينفرد كل واحد منها بنفسه ويصير حسنة مستقلة أجرها عشرة إلى أضعاف كثيرة (ويحسب التوفيق لتكثر) (4) تلك الوجوه.
مثاله : الجلوس في المسجد ، فإنه يمكن اشتماله على نحو من عشرين
ص: 116
وجها ، لأنه في نفسه طاعة ، وهو بيت اللّه ، وداخله زائر اللّه ، ومنتظر للصلاة ، مشغول بالذكر والتلاوة واستماع العلم ، ومشغول عن المعاصي والمباحات والمكروهات بكونه فيه ، والتأهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات في غير طاعة اللّه ، وعكوف الهمة (1) على اللّه ، ولزوم الفكر في أمر الآخرة حيث يسكت عن الذّكر ، وإفادة العلم واستفادته ، والمجالسة لأهله ، والاستماع له ، ومحبته ، ومحبته أهله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المكروه. وقد نبه على ذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام : (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان : أخا مستفادا في اللّه ، أو علما مستطرفا ، أو آية محكمة ، أو رحمة منتظرة ، أو يسمع كلمة تدله على هدى ، أو كلمة تردعه عن ردى ، أو يترك ذنبا خشية أو حياء) (2).
فإذا استحضر العارف هذه الأمور إجمالا أو تفصيلا ، وقصدها ، تعدد بذلك عمله ، وتضاعف جزاؤه ، فبلغ بذلك أعمال المتقين وتصاعد في درجات المقربين. وعلى ذلك تحمل أشباهه من الطاعات.
ينبغي أن ينوي في الأشياء المحتملة للوجوب الوجوب ، كتلاوة القرآن ، إذ حفظه واجب على الكفاية ، وربما تعين على الحافظ له حذرا من النسيان. وكطلب العلم ، فإنه فريضة على كل مسلم (3). وكالأمر
ص: 117
بالمعروف وإن قام غيره مقامه. وبالجملة فروض الكفايات كلها.
وتجب نية الوجوب حيث يتعين. وفي ترك الحرام ينوي الوجوب (1) وفي فعل المستحب وترك المكروه ينوي الندب. واللّه الموفق.
لما كانت الأفعال تقع على وجوه واعتبارات أمكن أن يكون الفعل الواحد واجبا وندبا وحراما ومباحا على البدل ، وإنما يختص ذلك بالنية ، كضربة اليتيم ، فإنها تجب في تعزيره ، وتستحب في تأديبه ، وتحرم لإهانته. وكالأكل ، فإنه مباح بالنظر إلى ماهيته ، ومستحب أو واجب أحيانا. وكالتطيب والجماع ، فإنهما من حظوظ النّفس ، وقد ورد في فضائل الأعمال لهما ثواب كثير (2) ، وما ذلك إلا بحسب النية ، فلا يقصد المباضع والمتطيب بذلك إيفاء حظ نفسه بل حق اللّه في ذلك. ولا فرق في حظ النّفس أن يقصد بذلك مجرد (اللذة والتنعم) (3) ، أو إظهار التجمل بالطيب واللباس للتفاخر ، والرياء ، واستجلاب المعاملين ، بل إذا تطيبت المرأة لغير الزوج فعلت حراما فاحشا. وكذا إذا خرجت متطيبة للتعرض للفجور أو مقدماته ، أو قصد الرّجل بذينك (4) التودد إلى النساء المحرمات. فكل ما فيه حظ النّفس تتصور فيه الأحكام الخمسة
ص: 118
غالبا ، ولا ينصرف إلى أحدها إلا بالنية. ومن الخسران المبين أن يجعل المباح حراما فكيف الواجب والمستحب؟؟ بل معدود من الخسران إن صرف الزمان في المباح وإن قل ، لأنه ينقص من الثواب ، ويخفض من الدرجات ، وناهيك خسرانا بأن يتعجل ما يفنى ، ويخسر زيادة نعيم يبقى.
فمن حق المتطيب يوم الجمعة أن يقصد أمورا :
منها : التأسي بالنبي صلى اللّه عليه وآله ، وأهل بيته.
ومنها : إكرام الملائكة الكاتبين.
ومنها : تعظيم المسجد واحترام ملائكته.
ومنها : ترويج مجاوريه في الجلوس في المسجد.
ومنها : دفع ما عساه يعرض من رائحة كريهة عن نفسه وغيره.
ومنها : حسم باب (1) الغيبة عن المغتابين أو نسبوه إلى الرائحة الكريهة ، فالمتعرض للغيبة كالشريك فيها ، قال اللّه تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (2).
ومنها : زيادة العقل بالتطيب (3) ، كما جاء في الأخبار : (من تطيب في أول نهاره صائما لم يفقد (4) عقله) (5).
ولا يظن : أن النية هي التلفظ بقولك : اجلس في المسجد ، أو
ص: 119
استمع العلم ، أو أدرسه أو أدرّسه (1) تقربا إلى اللّه تعالى ، فان ذلك لا عبرة به ، بل المراد جمع الهمة على ذلك وبعث النّفس وتوجهها وميلها إلى تحصيل ما فيه ثواب عاجل أو آجل تلفظ بذلك أو لا ، ولو قدر تلفظه بذلك والهمة غيره فهو لغو.
يجب التحرز من الرياء في الأعمال ، فإنه يلحقها بالمعاصي.
وهو قسمان : جلي ، وخفي. فالجلي ظاهر. والخفي إنما يطلع عليه أولو المكاشفة والمعاملة لله ، كما يروى عن بعضهم : أنه طلب الغزو وتاقت نفسه إليه ، فتفقدها فإذا هو يحب المدح بقولهم : فلان غاز ، فتركه ، فتاقت نفسه إليه ، فأقبل يعرض نفسه (2) على ذلك الرياء حتى أزاله ، ولم يزل يتفقدها شيئا بعد شي ء حتى وجد الإخلاص مع بقاء الانبعاث ، فاتهم نفسه وتفقد أحوالها فإذا هو يجب أن يقال : فلان مات شهيدا ، لتحسن سمعته في الناس بعد موته.
وقد يكون ابتداء النية إخلاصا وفي الأثناء يحصل الرياء ، فيجب التحرز منه فإنه مفسد للعمل. نعم لا يكلف بضبط هواجس النّفس وخواطرها بعد إيقاع النية في الابتداء خالصة ، فإن ذلك معفو عنه ، كما جاء في الحديث (3).
ص: 120
اعتبر بعض الأصحاب (1) النية في الاعتداد ، استخراجا من أن مبدأ العدة في الوفاة من حين علم الزوجة لا من حين موته. وبعضهم (2) جعل العلة (3) في ذلك الإحداد.
وربما رجح الأول : بأن المرأة قد توجد صورة الإحداد في هذه المدة ، مع أنه غير كاف. مع أن باقي العدد لا يشترط فيها القصد ، فإن المطلقة تعتد من حين الطلاق وإن تأخر الخبر. وكذلك المنكوحة بالفاسد إذا لحقه الوطء ، أو وطئت لشبهة. وقد قيل (4) : إن مبدأ عدة الشبهة لا من حين آخر وطء بل من حين انجلائها (5) وهذا يمكن استناده إلى اعتبار النية. وإلى أنها في الظاهر في عصمة النكاح ، فلا يجامع العدة.
ص: 121
ذهب بعض العامة (1) إلى أن كل عبادة لا تلتبس بعبادة أخرى (2) لا تفتقر إلى النية ، كالإيمان باللّه ورسله ، واليوم الآخر ، والتعظيم والإجلال لله ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والحياء ، والمهابة ، فإنها متميزة في أنفسها بصورها التي لا يشاركها فيها غيرها. وألحق بذلك الأذكار كلها ، والثناء على اللّه عزوجل بما لا يشارك فيه ، والأذان ، وتلاوة القرآن.
وهذا بالاعراض عنه حقيق ، فإن أكثر هذه يمكن صدورها على وجه الرياء ، والعبث ، والسهو ، والنسيان ، فلا تتخصص للعبادة إلا بالنية.
أما الإيمان المذكور فإنه لا يقع إلا على وجه واحد فلم تجب فيه النية.
على أن استحضار أدلة الإيمان في كل وقت يمكن أن تتصور فيه النية.
وكذا في عقد القلب على ذلك والاستدامة عليه ، وقد جاء في الحديث : (جددوا إسلامكم بقول لا إله إلا اللّه) (3).
الأصل أن النية فعل المكلف ، ولا أثر لنية غيره.
وتجوز النية من غير المباشر في الصبي غير المميز ، والمجنون ، إذا حج بهما الولي.
ص: 122
وقد تؤثر نية الإنسان في فعل المكلف ، وله صور :
منها : أن يأخذ الإمام الزكاة قهرا من الممتنع ، فيمتنع أن تعرى عن النية ، فيمكن أن يقال : تجب النية من الإمام وإن كان الدافع المكلف.
ومنها : إذا أخذ (1) من المماطل قهرا فإنه يملك ما أخذه إذا نوى المقاصة. وحينئذ لو كان له على المماطل دينان فالتعيين مفوض إلى الآخذ فلو أخبر المقهور أنه نوى ، فالأقرب سماعه وترجحه (2) على نية القابض.
ومنها : إذا استحلف الغير وكان الحالف مبطلا فإن النية نية المدعى فلا يخرج الحالف بالتورية عن إثم الكذب ، ووبال اليمين الكاذبة.
لقوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) ، ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (4). وقول النبي صلى اللّه عليه وآله : (بعثت بالحنيفية السمحة السهلة) (5) وقوله صلى اللّه عليه وآله : (لا ضرر ولا ضرار) (6) ، بكسر الضاد وحذف الهمزة.
ص: 123
وهذه القاعدة تعود إليها جميع رخص الشرع كأكل الميتة في المخمصة ، ومخالفة الحق للتقية قولا وفعلا ، لا اعتقادا ، عند الخوف على النّفس أو البضع ، أو المال ، أو القريب ، أو بعض المؤمنين ، كما قال اللّه تعالى : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1). بل يجوز إظهار كلمة الكفر عند التقية. والأقرب أنه غير واجب هنا لما في قتله من إعزاز الإسلام ، وتوطئة عقائد (2) العوام.
ومن هذه (3) القاعدة : شرعية التيمم عند خوف التلف من استعمال الماء ، أو الشين ، أو تلف حيوانه أو ماله.
ومنها : إبدال القيام عند التعذر في الفريضة ، ومطلقا في النافلة ، وصلاة الاحتياط غالبا.
ومنها : قصر الصلاة والصوم ، وإن كان فرض السفر مستقلا في نفسه.
ومنها : المسح على الرّأس والرجلين بأقل مسماه. ومن ثمَّ أبيح الفطر جميع الليل بعد أن كان حراما بعد النوم (4). وكل ذلك للترغيب في العبادات وتحبيبها (5) إلى النّفس.
ومن الرخص ما يخص ، كرخص السفر ، والمرض ، والإكراه ، والتقية. ومنها ما يعم ، كالقعود في النافلة. وإباحة الميتة عند المخمصة
ص: 124
تعم عندنا (1) الحضر والسفر.
ومن رخص السفر : ترك الجمعة ، والقصر ، وسقوط القسم بين الزوجات لو تركهن ، بمعنى عدم القضاء بعد عوده ، وسقوط القضاء للمتخلفات لو استصحب بعضهن. والظاهر أن سقوط القسم تابع لمطلق السفر وإن لم تقصر فيه الصلاة.
ومن الرخص : إباحة كثير من محظورات الإحرام مع الفدية ، وإباحة الفطر للحامل ، والمرضع ، والشيخ ، والشيخة ، وذي العطاش ، والتداوي بالنجاسات والمحرمات عند الاضطرار ، وشرب الخمر لإساغة اللقمة ، وإباحة الفطر عند الإكراه عليه مع عدم القضاء ، سواء وجر في حلقه أو خوف حتى أفطر في الأصح. ولو أكره على الكلام في الصلاة فوجهان ، مع القطع بعدم الإثم. والقطع بالبطلان لو أكره على الحدث. اما الاستدبار وترك الستارة واستعمال النجاسة فكالكلام.
ومنه (2) : الاستنابة في الحج للمعضوب والمريض المأيوس من برئه ، وخائف العدو ، والجمع بين الصلاتين في السفر ، والمرض ، والمطر ، والوحل ، والاعذار ، بغير كراهية.
ومنه : إباحة نظر المخطوبة المجيبة للنكاح ، وإباحة أكل مال الغير مع بذل القيمة مع الإمكان ، ولا معها مع عدمه ، عند الاشراف على الهلاك.
ومنه : العفو عما لا تتم الصلاة فيه منفردا مع نجاسته ، وعن دم القروح والجروح التي لا ترقأ. وعدّ منه الشيخ (3) : دم البراغيث
ص: 125
- بناء على نجاسته - وما لا يدركه الطرف من الدم في الماء القليل. وطرده بعض الأصحاب (1) في كل نجاسة غير مرثية.
ومنه : قصر الصلاة في الخوف ، كمية وكيفية ، وفعلها مع الحركات الكثيرة المبطلة مع الاختيار ، وقصر المريض الكيفية.
ثمَّ التخفيف قد يكون لا إلى بدل كقصر الصلاة ، وان استحب الجبر بالتسبيح ، وترك الجمعة والظهر فرض قائم بنفسه ، وصلاة المريض.
وقد يكون إلى بدل كفدية الصائم وبعض الناسكين في بعض المناسك كبدنة عرفة ، وشاة المزدلفة ، وشاة مبيت منى.
وعد الشيخ من التخفيف : تعجيل الزكاة المالية قبل الحول ، والبدنية قبل الهلال (2).
والرخصة قد تجب ، كتناول الميتة عند خوف الهلاك ، والخمر عند الاضطرار إلى الإساغة به ، وقصر الصلاة في السفر والخوف ، وقصر الصيام في السفر عندنا. وقد تستحب ، كنظر المخطوبة. وقد تباح ، كالقصر في الأماكن الأربعة (3). والإبراد (4) بالظهر في شدة الحر
ص: 126
(محتمل للاستحباب) (1) والإباحة.
وهنا فوائد :
الأولى : المشقة الموجبة للتخفيف هي : ما تنفك عنه العبادة غالبا ، أما ما لا تنفك عنه فلا ، كمشقة الوضوء والغسل في السبرات (2) ، وإقامة الصلاة في الظهيرات ، والصوم في شدة الحر وطول النهار ، وسفر الحج ، ومباشرة الجهاد ، إذ منى التكليف على المشقة ، إذ هو مشتق من الكلفة ، فلو انتفت انتفى التكليف ، فتنتفي المصالح المنوطة به ، وقد رد اللّه على القائلين ( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) (3) بقوله ( قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ) (4).
ومنه : المشاق التي تكون على جهة العقوبة على الجرم (5) وإن أدت إلى تلف النّفس ، كالقصاص والحدود بالنسبة إلى المحل والفاعل وإن كان قريبا يعظم ألمه باستيفاء ذلك من قريبه ، لقوله تعالى ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (6).
والضابط في المشقة ما قدره الشارع. وقد أباح الشرع حلق المحرم
ص: 127
للقمل ، كما في قصة كعب بن عجرة (1) سبب نزول الآية (2). وأقر النبي صلى اللّه عليه وآله عمرا (3) على التيمم لخوف البرد (4) ، فلتقاربهما (5) المشاق في باقي محظورات الإحرام ، وباقي مسوغات التيمم. وليس ذلك مضبوطا بالعجز الكلي بما فيه تضييق على النّفس ، ومن ثمَّ قصرت الصلاة ، وأبيح الفطر في السفر ولا كثير مشقة فيه ولا عجز غالبا. فحينئذ يجوز الجلوس في الصلاة مع مشقة القيام وإن أمكن تحمله على عسر شديد ، وكذا باقي مراتبه. ومن ثمَّ تحلل المصدود والمحصور (6) وإن أمكنهما المصابرة لما في ذلك من العسر.
الثانية : يقع التخفيف في العقود كما يقع في العبادات.
ومراتب الغرر فيها ثلاث (7) :
ص: 128
إحداها : ما يسهل اجتنابه ، كبيع الملاقيح والمضامين (1) ، وغير المقدور على تسليمه ، وهذا لا تخفيف فيه ، لأنه أكل مال بالباطل.
وثانيها : ما يعسر اجتنابه وإن أمكن تحمله بمشقة ، كبيع البيض في قشره ، والبطيخ والرمان قبل الاختبار ، وبيع الجدار وفيه الأس (2) وهذا يعفى عنه تخفيفا.
وثالثها : ما توسط بينهما ، كبيع الجوز واللوز في القشر الأعلى ، وبيع الأعيان الغائبة بالوصف ، والظاهر صحته لمشاركته في المشقة.
ومنه : الاكتفاء بظاهر الصبرة المتماثلة ، وبظهور مبادئ النضج في بدو الصلاح وإن لم ينته.
ومن التخفيف : شرعية خيار المجلس لما كان العقد قد وقع بغتة فيتعقبه الندم ، فشرع ذلك ليتروى. ثمَّ لما كان مدة التروي قد تزيد على ذلك جوز خيار الشرط بحسبه وإن زاد على ثلاثة أيام ، ليتدارك فيه ما عساه يحصل فيه من غبن يشق تحمله.
ومنه : شرعية المزارعة والمساقاة والقراض وإن كانت معاملة على معدوم ، لكثرة الحاجة إليها.
ومنه : إجارة الأعيان ، فإن المنافع معدومة حال العقد.
ومنه : جواز تزويج المرأة من غير نظر ولا وصف ، دفعا للمشقة
ص: 129
اللاحقة للأقارب بذلك ، (وإيثار الحياء) (1) ، وسد باب التبرج على النساء ، بخلاف المبيع وإن كان أمة ، لعدم المشقة فيه.
ومن ذلك : شرعية الطلاق والخلع ، دفعا لمشقة المقام على الشقاق ، وسوء الأخلاق. وشرعية الرجعة في العدة غالبا ، ليتروى كما قال اللّه تعالى ( لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) (2). ولم يشرع في الزيادة على المرتين ، دفعا للمشقة عن الزوجات.
ومنه : شرعية الكفارة في الظهار ، والحنث ، تيسيرا من الإلزام بالمشقة ، لاستعقابه الندم غالبا.
ومنه : التخفيف عن الرقيق بسقوط كثير من العبادات (3) ، لئلا يجتمع عليه مع شغل العبودية أمر (4).
ومنه : شرعية الدية بدلا عن القصاص مع التراضي كما قال اللّه تعالى : ( ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) (5). فقد ورد : أن القصاص كان حتما في شرع موسى على نبينا وعليه السلام ، كما أن الدية كانت حتما في شرع عيسى على نبينا وعليه السلام (6) ، فجاءت الحنيفية بتسويغ الأمرين ،
ص: 130
طلبا للتخفيف ، ووضعا للآصار (1) ، وصيانة للدماء عن أيدي الموسرين الفجار.
الثالثة : التخفيف على المجتهدين إما اجتهادا جزئيا كما في الوقت ، والقبلة ،
والتوخي في الأشهر (2) عند الصوم ، واجتهاد الحجيج في الوقوف (3) فيخطئون بالتأخير ، دفعا للحرج في ذلك. وقيل : بالقضاء (4).
أما لو غلطوا بالتقديم ، فالقضاء ، لندوره ، إذ يندر فيه الشهادة زورا في هلال رمضان. وهلال شوال ، وذلك قليل الوقوع.
وإما اجتهادا كليا ، كالعلماء في الأحكام الشرعية ، فلا إثم على غير المقصر وإن أخطأ ، ويكفيهم الظن الغالب المستند إلى أمارة معتبرة شرعا ، وذلك تسهيل.
ومنه : اكتفاء الحكام بالظنون في العدالة والأمانة.
الرابعة : الحاجة قد تقوم سببا مبيحا في المحرم لولاها ، كالمشقة - كما قلنا - في نظر المخطوبة ، ومحله : الوجه ، والكفان ، والجسد من وراء الثياب. ونظر المستامة من الإماء فينظر إلى ما يرى من العبيد.
وقيل (5) : ينظر إلى ما يبدو حال المهنة. وقيل (6) : يقتصر على
ص: 131
الوجه والكفين ، كالحرة. ويجوز النّظر إلى المرأة للشهادة عليها ، أو المعاملة إذا احتاج إلى معرفتها ، ويقتصر على الوجه.
والفرق بينه وبين النّظر المباح على الإطلاق من وجهين :
أحدهما : تحريم التكرار في ذلك بخلافه هنا ، فإنه ينظر حتى يستثبت ويحرم الزائد.
والثاني : أن ذلك قد يصدر من غير قصد حتى قيل (1) : بتحريمه مع القصد ، بخلافه هنا. ولو خاف الفتنة حرم مطلقا.
ومنه : نظر الطبيب والفاصد إلى ما يحتاج إليه بحيث لا يعدّ المنكشف فيه هتكا للمرأة (2) ، ويعذر فيه لأجل هذا السبب عادة ، وهو مطرد في جميع الأعضاء. نعم في السوأتين مزيد تأكيد في مراعاة الضرورة.
والظاهر جواز نظر الشهود إلى العورتين ليتحملوا الشهادة على الزنا ، وإلى فرج المرأة لتحمل الولادة ، وإلى الثدي لتحمل الإرضاع.
وهي : البناء على الأصل ، أعني (3) استصحاب ما سبق. وهو أربعة أقسام :
أحدها : استصحاب النفي في الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل ، وهو المعبر عنه (بالبراءة الأصلية).
ص: 132
وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصص ، وحكم النص إلى ورود ناسخ ، وهو إنما يتم بعد استقصاء البحث عن المخصص والناسخ.
وثالثها : استصحاب حكم ثبت شرعا ، كالملك عند وجود سببه ، وشغل الذّمّة عند إتلاف مال (1) أو التزام إلى أن يثبت رافعه.
ورابعها : استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع ، كما نقول : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ، للإجماع على أنه متطهر قبل هذا الخارج ، فيستصحب ، إذ الأصل في كل متحقق دوامه حتى يثبت معارض ، والأصل عدمه. وكما نقول في المتيمم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة لا ينقض تيممه ، للإجماع على صحة صلاته قبل وجوده فيستصحب حتى يثبت دليل يخرجه عن التمسك به.
ومن فروعها : طهارة الماء لو شك في نجاسته ، ونجاسته لو وقعت فيه نجاسة وشك في بلوغه الكرية ، لأن الأصل عدم بلوغها. وقيل (2) : هو من باب تعارض الأصلين ، لأن الأصل طهارة الماء ، والشك في تأثره بالنجاسة.
ويضعف : بأن ملاقاة النجاسة المعلوم رفع حكم الأصل السابق فيحتاج إلى المانع.
أما لو كان كرا فوجده متغيرا وشك في تغيره بالنجاسة ، أو بالأجون (3) فالبناء على الطهارة ، لأنها الأصل الّذي لا يعارضه أصل آخر.
ص: 133
ومنها : عدم الالتفات لو تيقن الطهارة وشك في الحدث. وقال بعض العامة (1) : يتطهر ، لأن الصلاة ثابتة في ذمته يقينا فلا يزول إلا بيقين الطهارة.
ويرد عليه : الحد (2) السالف في هذه القاعدة.
والإعادة لو انعكس (3).
وإعادة الصلاة بالشك في الركعتين الأوليتين أو في الثنائية أو في الثلاثية ، لأنه مخاطب بالصلاة يقينا ، ولا يقين بالبراءة هنا إلا بإعادتها.
ولزوم الاحتياط لو شك في غير ذلك ، فان فيه مراعاة البناء على الأصل من عدم الإتيان بالزائد. ووجوب أداء الزكاة والخمس لو شك في أدائهما وسقوط الوجوب لو شك في بلوغ النصاب. وصحة الصوم لو شك في عروض المفطر. وصحة الاعتكاف لو شك في عروض المبطل. وكذا الشك في أفعال الحج بعد الفراغ منها. وعدم قتل (4) الصبي الّذي يمكن بلوغه. ودعوى المشتري العيب ، أو تقدمه. ودعوى الغارم في القيمة.
وقد يتعارض الأصلان ، كدخول المأموم في صلاة وشك هل كان الإمام راكعا أو رافعا؟ ولكن يتأيد الثاني بالاحتياط.
وكالشك في بقاء العبد الغائب فتجب فطرته أو لا ، ويجوز عتقه
ص: 134
في الكفارة أو لا. والأصح ترجيح البقاء على أصل البراءة.
وكاختلاف الراهن والمرتهن في تخمير العصير عند الرهن أو بعده لإرادة المرتهن فسخ البيع المشروط به ، فالأصل صحة البيع ، والأصل عدم القبض الصحيح ، لكن (1) الأول أقوى ، لتأييده بالظاهر من صحة القبض. وكذا لو كان المبيع عصيرا (2).
وكذا لو اختلف البائع والمشتري في تغيير المبيع وهو مما يحتمل تغيره فالأصل عدم التغير وصحة البيع ، والأصل عدم معرفة المشتري بهذه الصفة التي هو عليها الآن ، فان حاصل دعوى البائع : أن المشتري علمه على هذه الصفة الآن. ويتأيد هذا بأصالة عدم وجوب الثمن على المشتري إلا بما يوافق علمه (3). ويقوي إذا كان دعوى المشتري حدوث عيب في المبيع بعد الرؤية ، لأن الأصل عدم تقدم العيب على الزمان الّذي يدعي المشتري حدوثه فيه.
أما لو ادعى المشتري اشتماله على صفة كمال حال الرؤية ، كالسمن والصنعة ، وهو مفقود الآن ، وأنكر البائع اشتماله عليها ، فإنه يرجح قول البائع ، لأصالة عدم تلك الصفة.
ولو سلم (4) المستأجر العين وادعى على المؤجر أنه غصبها من يده وأنكر الموجر ، فهنا أصلان : عدم الغصب ، وعدم الانتفاع. ويؤيد
ص: 135
الأول : أن الأجرة مستحقة بالعقد ، والأصل بقاؤها.
ولو شك في وقوع الرضاع بعد الحولين أو قبله ، تعارضا.
ورجح الفاضل (1) : الحل.
ويشكل : بأغلبية الحرام على الحلال عند الاجتماع.
(ويندفع الإشكال : بعدم تيقن التحريم هنا) (2).
ولو شك في حياة المقدود بنصفين ، تعارضا ، وتقديم أصل الحياة قوي.
وربما فرق بعضهم (3) بين كونه في كفن وشبهه ، وبين ثياب الأحياء.
وهو خيال ضعيف ، لأن الميت قد يصاحب ثياب الأحياء ، والحي قد يلبس ثياب الموتى ، وخصوصا المحرم.
ومنه : اختلاف الزوجين في التمكين ، والنشوز ، أو تقدم وضع الحمل على الطلاق في صور منتشرة.
وهنا فوائد ثلاث (4) :
ص: 136
الأول : قد يستثنى من تغليب اليقين على الشك مسائل (1) :
منها : المتحيرة ، تغتسل عند أوقات الاحتمال ، والأصل عدم الانقطاع.
ونحن قد بينا في (الذكرى) (2) ضعف هذا.
(ولو ارتمى الصيد ميتا حرم) (3) ، مع أصالة عدم حدوث سبب آخر.
ويجب غسل جميع الثوب والبدن لو علم إصابة (النجاسة موضعا) (4) وجهل تعيينها ، مع أصالة الطهارة في غير ذلك الموضع.
ولا يلتفت الشاك بعد الفراغ من العبادة ، مع أن الأصل عدم الفعل.
ومن فاتته صلاة واحدة يجب ثلاث ، مع أصالة بالبراءة.
الثانية : قد يعارض الأصل الظاهر ففي ترجيح أحدهما وجهان.
وصورة كثيرة أيضا :
كغسالة الحمام ، ورجح فيها الأصحاب الظاهر.
ص: 137
وثياب مدمن الخمر وشبهه ، وطين الطريق ، ورجح فيهما الأصحاب الطهارة.
وربما فرق (بين طريق الدور) (1) والطريق في الصحاري.
ولو تنازع الراكب والمالك في الإجارة والعارية مدة [ لمثلها أجرة ] (2) ففيه الوجهان. وترجيح قول المالك أولى ، لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن ، فكذا في صفته (3).
ولو تنازع القاذف والمقذوف في الحرية والرقية ، فالأقرب ترجيح الظاهر ، لأنه الأغلب في بني آدم. مع إمكان أن يجعل معتضدا بأصالة الحرية (4).
ولو تنازع الزوجان بعد ردتهما (5) في وقت الإسلام ، فالظاهر : ترجيحها (6). ، فتجب النفقة. ويحتمل : ترجيح دعوى الزوج ، لأصالة البراءة من النفقة بعد الردة ، وأصالة عدم تقدم الإسلام ، والظاهر : بقاء ما كان على ما كان.
والاختلاف في شرط مفسد للعقد ، فيرجح فيه جانب الظاهر على أصالة عدم صحة العقد ، وعدم لزوم الثمن (7). وكذا في فوات
ص: 138
الشرط في الصحة.
وربما جعل حيض الحامل من هذا الباب (1) ، لأن الظاهر أنه دم علة ، والأصل السلامة والظاهر الغالب عدم حيض الحبلى ، فيكون لعلة (2). وهو ضعيف.
ومنه : إذا تمعط (3) شعر الفأرة في البئر ، فنزحت حتى غلب الظن على خروجه ، فإنه يحكم بطهارة الماء ، وإن كان الغالب أنه يبقى شي ء ، ترجيحا للأصل.
و [ منه ] : قطع لسان الصغير (4).
وعد العامة منها : قضية (5) ذي اليدين (6) (7) ، فإنه أعمل
ص: 139
الأصل من استصحاب بقاء الصلاة تماما ، وسرعان (1)(*) هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الشهير بالشيخ الصدوق من كبار علماء الإمامية وأجلائهم. كان بصيرا بالرجال ناقدا للأخبار. ورد بغداد سنة 355 ه- وسمع منه شيوخ الإمامية وهو حدث السن. مات بالري سنة 381 ه- صنف نحوا من ثلاثمائة مصنف. (القمي - الكنى والألقاب : 1 - 216)(2) الصحابة الذين خرجوا أعملوا الظاهر من عدم السهو على النبي صلى اللّه عليه وآله ، والزمان قابل للنسخ ، فجوزوا أن يكون تشريعا ، والساكتون تعارض عندهم الأصل والظاهر. وابن بابويه (3) قائل بهذه ، ولم يثبت عند باقي الأصحاب.
الثالثة : موضع الخلاف في تعارض الأصل والظاهر ليس عاما ، إذ الإجماع على تقديم الأصل على الظاهر : في صورة دعوى بيع أو شراء ، أو دين ، أو غصب ، وإن كان المدعي في غاية العدالة مع فقد العصمة ، وكان المدعى عليه معهودا بالتغلب والظلم.
كما أجمعوا على تقديم الظاهر على الأصل : في البينة الشاهدة بالحق ،
ص: 140
فان الظاهر الغالب صدقها ، وإن كان الأصل براءة ذمة المشهود عليه.
ولهذا نظائر (1).
القاعدة الرابعة : الضرر المنفي وحاصلها : أنها ترجع إلى تحصيل المنافع ، أو تقريرها لدفع المفاسد ، أو احتمال أخف المفسدتين.
وفروعها كثيرة حتى أن القاعدة الثانية (2) تكاد تداخل هذه القاعدة.
فمنها : وجوب تمكين الإمام لينتفي به الظلم ، ويقاتل المشركين وأعداء الدين.
ومنها : صلح المشركين مع ضعف المسلمين ، ورد مهاجريهم دون مهاجرينا ، وجواز رد المعين ، أو أخذ أرشه ، ورد ما خالف الصفة أو الشرط ، وفسخ البائع عند عدم سلامة شرطه من الضمين أو الرهن. وكذا فسخ النكاح بالعيوب.
ومنها : الحجر على المفلس ، والرجوع في عين المال ، والحجر على الصغير ، والسفيه ، والمجنون ، لدفع الضرر عن أنفسهم اللاحق بنقص مالهم.
ومنها : شرعية الشفعة ، والتغلظ على الغاصب بوجوب أرفع القيم ، وتحمل مئونة الرد ، وضمان المنفعة بالفوات ، وشرعية القصاص والحدود ، وقطع [ يد ] السارق في ربع دينار ، مع أنها تضمن بيد مثلها أو خمسمائة
ص: 141
دينار ، صيانة للدم والمال وقد نسب إلى المعري (1).
يد بخمس مئين عسجد فديت *** ما بالها قطعت في ربع دينار
(2) فأجابه السيد المرتضى رحمه اللّه :
حراسة الدم أغلاها وأرخصها *** حراسة المال فانظر حكمة الباري
(3) وقلت :
خيانتها إهانتها وكانت *** ثمينا عند ما كانت أمينا
نظما لقول بعض العلماء (4) : (لما كانت ثمينة كانت أمينة فلما (5) خانت هانت).
وتذكير : (الثمين ، والأمين) باعتبار موصوف مذكر ، أي : شيئا.
ومن احتمال أخف المفسدتين : صلح المشركين ، لأن فيه إدخال ضرر على المسلمين ، وإعطاء الدنية في الدين ، لكن في تركه قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا خاملين بمكة لا يعرفهم أكثر الصحابة ، كما قال
ص: 142
اللّه تعالى ( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ ... ) (1) الآية.
وفي ذلك مفسدة عظيمة ، ومضر (2) على المسلمين ، وهي أشد من الأولى.
ومنه : الإساغة بالخمر ، لأن شرب الخمر مفسدة ، إلا أن فوات النّفس أعظم منه ، نظرا إلى عقوبتها. وكذا فوات النّفس أشد من أكل الميتة ، ومال الغير.
ومنه : إذا أكره على قتل مسلم محقون الدم بحيث يقتل لو امتنع من قتله ، فإنه يصبر على القتل ولا يقتله ، لأن صبره أخف من الإقدام على قتل مسلم لأن الإجماع على تحريم القتل (3) بغير حق ، والاختلاف في جواز الاستسلام للقتل (4). ولا
كذا لو أكره على أخذ المال ، لأن إتلاف نفسه أشد من إتلاف المال ، فالفساد فيه أكثر. كذا لو أكره على شرب حرام ، شربه ، لكثرة الفساد في القتل.
متساويين. ولو كان أحدهما قريبه قدم الأجنبي. كما يكره قتل قريبه في الجهاد.
ومنه : تخيير الإمام في قتال أحد العدوين من جهتين مع تساويهما من كل وجه.
ويمكن التوقف في الواقع على (1) أطفال المسلمين ، إن أقام على واحد قتله ، وإن انتقل إلى آخر قتله.
وكذا لو هاج البحر واحتيج إلى إلقاء بعض المسلمين فلا أولوية.
ولو كان في السفينة مال أو حيوان ألقي قطعا. ولو كان في الأطفال من أبواه حربيان قدم.
ولو تقابلت المصلحة والمفسدة ، فإن غلبت المفسدة درئت ، كالحدود فإنها مفسدة بالنظر إلى الألم ، وفي تركها مفسدة أعظم ، فتدرأ المفسدة العظمى باستيفائها ، لأن في ذلك مراعاة للأصلح ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... ) (2). الآية.
وإن غلبت المصلحة قدمت ، كالصلاة مع النجاسة أو كشف العورة فإن فيه مفسدة ، لما فيه من الإخلال بتعظيم اللّه تعالى في أن لا يناجي على تلك الأحوال ، إلا أن تحصيل الصلاة أهم.
ومنه : نكاح الحر الأمة ، وقتل نساء الكفار وصبيانهم ، ونبش القبور عند الضرورة ، وتقرير الكتابي على دينه ، والنّظر إلى العورة عند الضرورة.
ص: 144
وقد قيل (1) : منه : قطع فلذة من الفخذ لدفع الموت عن نفسه.
أما لدفع الموت عن غيره ، فلا خلاف في عدم جوازه.
ومن انغمار المصلحة في جنب المفسدة فيسقط اعتبار المصلحة : ردّ شهادة المتهم ، وحكمه كالشاهد لنفسه والحاكم لها ، لأن قوة الداعي الطبيعي قادحة في الظن المستفاد من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا يبقى معه إلا ظن ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه. فالمصلحة الحاصلة بالشهادة والحكم مغمورة في جنب هذه المفسدة. أما شهادته لصديقه أو قريبه (2) أو معرفيه فبالعكس ، فإنه لو منع لأدى إلى فوات المصلحة العامة من الشهادة للناس ، فانغمرت هذه التهمة في جنب هذه المصلحة (3) العامة إذ لا يشهد الإنسان إلا لمن يعرفه غالبا.
ومنه : اشتمال العقد على مفسدة تترتب عليه ترتيبا قريبا ، كبيع المصحف أو العبد المسلم من الكافر ، وبيع السلاح لأعداء الدين ، ويحتمل أيضا : قطاع الطريق ، وبيع الخشب ليعمل صنما ، والعنب ليعمل (4) خمرا.
وقد يدخل المسلم في ملك الكافر فيزال ، كالإرث ، والرجوع بالعيب ، وإفلاس المشتري ، والملك الضمني كقوله : أعتق عبدك عني.
وفيما لو كاتب الكافر عبده ، وملك عبدا (5) فأسلم فعجز
ص: 145
المكاتب فعجزه سيده الكافر (1) ، فإنه يدخل ذلك العبد المسلم في ملك السيد الكافر ثمَّ يزال.
وفي شراء من ينعتق عليه ، إما باطنا كقريبه ، أو ظاهرا كما إذا أقر بحرية عبد ثمَّ اشتراه ، فيكون شراء من جهة البائع ، وفداء من جهة المشتري.
وفيما إذا أسلم العبد المجعول صداقا ، في يد الذمية زوجة الذمي ، ثمَّ فسخ نكاحها ، لعيب ، أو ردتها قبل الدخول ، أو طلاق ، أو إسلامها قبل الدخول.
وفي تقويم العبد المسلم على الشريك الكافر إذا أعتق نصيبه. وفي وطء الذمي الأمة المسلمة لشبهة فإنه يقوّم الولد عليه ، إن قلنا بانعقاده رقا ، مع أنه مسلم.
ولو تزوج المسلم أمة الكافر الذمية - في موضع الجواز - وشرط عليه رق الولد - وقلنا بجوازه في الحر المسلم ففي جوازه هنا تردد ، فان جوزناه دخل في ملك الكافر ثمَّ أزيل.
وفيما لو وهبه الكافر من مسلم واقتصه ، وقلنا بجواز رجوعه في موضع جواز الرجوع.
ولا يبطل بيع العبد بإسلامه قبل قبض المشتري الكافر ، بل يزال ملكه عنه ويتولى (2) مسلم قبضه بإذن الحاكم.
ص: 146
كاعتبار المكيال ، والميزان ، والعدد ، وترجيح العادة على التمييز في القول الأقوى ، وفي قدر زمان قطع الصلاة ، فإن الكثرة ترجع إلى العادة ، وكذا كثرة الأفعال فيها. وكذا تباعد المأموم أو علو الإمام ، وفي كيفية القبض ، وتسمية الحرز ، ورق الزوجة بالنسبة إلى استخدام السيد نهارا ، وفتح الباب (1) ، وقبول الهدية وإن كان المخبر امرأة أو صبيا مميزا ، والاستحمام ، والصلاة في الصحاري ، والشرب من الجداول والأنهار المملوكة حيث لا ضرر ، وإباحة الثمار بعد الاعراض عنها ، وهبة الأعلى للأدنى في عدم استعقاب الثواب ، وفي العكس في تعقبه عند بعض الأصحاب (2) ، وفي قدر الثواب عند بعض (3) ، وفي ظروف الهدايا التي لم تجر العادة بردها كالقوصرة (4) فيها التمر ، وفي عدم وجوب رد الرقاع إلى المكاتب ، وفي تنزيل البيع (5) المأذون فيه على ثمن المثل بنقد البلد الغالب ، وكذا عقود المعاوضات ، وتزويج الكفو في الوكالة
ص: 147
ومراعاة مهر المثل ، والتسمية (1) (2) ، وفي تسمية المال في الوكالة في الخلع من الجانبين ، وإبقاء الثمرة إلى أوان الصرام (3) وحمل الوديعة على (4) حرز المثل ، وسقي الدّابّة في غير المنزل إذا جرت العادة به ، وفي الركوب أو الحمل في الاستعارة التزام بما يحمل مثلها مثله غالبا ، وفي إحراز الودائع بحسب العادة ، فيفرق بين الجواهر والحطب والحيوان وفي أجرة المثل لمن أمر بعمل له أجرة عادة ، وفي الصنائع فيخيط الرفيع غير خياطة الكرباس (5) ، وفي ألفاظ الوقف والوصية ، كما لو أوصى لمسجد فإنه ينصرف (6) إلى عمارته ، والوصية للعلماء والقراء (7) ، وفي ألفاظ الأيمان ، وفي أكل الضيف عند إحضار الطعام وإن لم يأذن المضيّف وفي حل الهدي المعلّم.
ص: 148
يعتبر التكرار في عادة الحيض مرتين ، عندنا ، عملا بالنص (1) ، والاشتقاق (2). وكذا في عيب البول في الفراش. مع احتمال رجوعه إلى الكثرة العرفية.
أما المرض والإباق فيكفي المرة.
وفي اعتبار (3) العرف الخاصّ تردد ، كاعتياد قوم قطع الثمرة قبل الانتهاء ، واعتياد قوم بحفظ زرعهم نهارا ، وتسريح مواشيهم ليلا ، وقسمة البزار والحارس ، ووجوب إرسال الأمة إليه نهارا (4).
أما ما ندر ، كاعتياد النساء الحفاء في القرى ، فلا عبرة به بل يجب النعلان.
وفي عطلة المدارس في أوقات العادة تردد ، وخصوصا من واقف لا يعلم العادة. وحكم بعض العامة (5) بجوازها من نصف شعبان إلى عيد الفطر.
ص: 149
والظاهر أنه لا فرق بين العادة القولية - كاستعمال لفظ الدّابّة في الفرس - والفعلية كاعتياد قوم أكل طعام خاص لو أوصى رجل بالصدقة بالطعام.
وقطع بعض العامة : بأن العادة الفعلية لا تعارض الوضع اللغوي ، وأنه لم يجد أحدا حكى فيه خلافا إلا الآمدي (1) في الأحكام (2).
ويدل عليه أن كثيرا من العامة (3) حمل قوله عليه السلام في الرقيق : (أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون) (4) على ما اعتيد في زمن صاحب الشرع من مئاكل العرب المتقاربة الواقعة بحسب ضيق معايشهم ، وهذه عادة فعلية ، وحملوه على الاستحباب فيمن ترفع عن ذلك المأكل.
الأولى : ما ذكر أدلة شرعية الأحكام ، وهاهنا أدلة أخر لوقوع الأحكام ، ولنصرف الحكام.
فأدلة الوقوع منتشرة جدا ، فان الدلوك سبب لوجوب صلاة الظهر ودليل حصول الدلوك ووقوعه في العالم متكثر كالأسطرلاب (5) ،
ص: 150
والميزان ، وربع الدائرة ، والأشخاص المماثلة ، والمشاهدة بالبصر ، واعتباره بالأوراد في بعض الأحوال ، وصياح الديكة ، على ما روي (1).
وكذا جميع الأسباب ، والشروط ، والموانع ، لا يتوقف معرفة شي ء منها على نصب دليل يدل على وقوعه من جهة الشرع ، بل كون السبب سببا ، والشرط شرطا ، والمانع مانعا. فأما وقوعه في الوجود فموكول إلى المكلفين به بحسب ما عرفوه موصلا إلى ذلك.
وأما أدلة تصرف الحكام فمحصورة ، كالعلم ، وشهادة العدلين أو الأربعة ، أو العدل مع اليمين ، وإخبار المرأة عن حيضها وطهرها ، واستمرار اليد على الملك ، والاستطراق من أهل المحلة فيما يستطرقون فيه والاستطراق العام ، واليمين على المنكر ، واليمين مع النكول ، وشهادة أربع نسوة في بعض الصور ، وأقل في مثل الوصية والاستهلال ، فيثبت الربع بالواحدة ، وشهادة الصبيان في الجراح بشروطه ، ووصف اللقطة بالأوصاف الخفية فإنه يبيح الإعطاء (2) ، والاستفاضة في الملك المطلق ، والنسب والنكاح. وهذا كله قد سمي (الحجاج) وهو مختص بالأحكام ، كاختصاص الأدلة الشرعية بالمجتهدين (3).
الثانية : يجوز تغير الأحكام بتغير العادات ، كما في النقود المتعاورة (4)
ص: 151
والأوزان المتداولة ، ونفقات الزوجات والأقارب فإنها تتبع عادة ذلك الزمان الّذي وقعت فيه ، وكذا تقدير العواري بالعوائد (1).
ومنه : الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق ، فالمروي (2) تقديم قول الزوج ، عملا بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول.
ومنه : إذا قدم شيئا قبل الدخول كان مهرا إذا لم يسم غيره ، تبعا لتلك العادة. فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة ، واحتساب ذلك من مهر المثل.
ومنه : اعتبار الشبر في الكر ، والذراع في المسافة ، فإنه معتبر بما تقدم ، لا بما هو الآن ، إن ثبت اختلاف المقادير ، كما هو الظاهر.
الأصل في اللفظ : الحمل على الحقيقة الواحدة ، فالمجاز والمشترك ، لدليل من خارج.
والحقيقة ثلاثة : لغوية ، وعرفية ، وشرعية. وكذا المجاز. ولا مجاز في الحروف ، بل الكلام فيها في أصل الوضع.
وأما الأسماء فمنها : الماهيات الجعلية ، كأسماء العبادات الخمس ، وهي حقائق شرعية.
ومن الأسماء : المتصلة بالافعال كالمصدر ، واسم الفاعل ، واسم المفعول.
فاسم الفاعل معتبر في الطلاق عندنا ، ولا يجزي غيره في الأصح ،
ص: 152
ولا يجزي في البيع والصلح ، والإجارة - على الظاهر - والنكاح ، كأنا بائعك ، أو مصالحك ، أو مؤجرك ، أو بائع منك ، أو منكح (1).
ويكفي في الضمان ، والوديعة ، والعارية ، والرهن ، وكذا اسم المفعول ، كأنا ضامن ، أو هذا مودع عندك. وفي العتق ، كعتيق ومعتق. ويقرب منه : أنت حر ، وأنت كظهر أمي.
ويكفي المصدر في الوديعة ، والعارية ، والرهن ، والوصية.
وأما الأفعال ، فالماضي منها منقول إلى الإنشاء في العقود ، والفسوخ والإيقاعات في بعض مواردها.
ويتعين في اللعان والشهادة صيغة المستقبل ، فلو قال : شهدت بكذا لم يقبل. ولو قال : أنا شاهد عندك (2) بكذا ، فالظاهر القبول ، لصراحته.
ولا يجزي في البيع والنكاح المستقبل على الأصح ، ولا في الطلاق والخلع.
ويجزي في اليمين صيغة الماضي والآتي.
وأما الأمر فجائز في العقود الجائزة كالوديعة ، والعارية ، وفي النكاح على قول ضعيف (3) ، وفي المزارعة والمساقاة في وجه (4) وفي بذل الخلع.
والمأخذ في صراحة هذه مجيئها في خطاب الشارع لذلك وشيوعها
ص: 153
بين (حملة الفقه) (1).
لا يستعمل اللفظ الصريح في غير بابه إلا بقرينة ، فإن أطلق حمل على موضوعه ، كاستعمال (السلف) في البيع ، بقرينة التعيين ، فلو لم يعين نفذ في موضوعه (2) ، واشترط شروط السلف ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، فلو قال. بعتك ، وقبل الآخر (3) بالشراء أو بمعناه ، ثمَّ ادعى أحدهما قصد الإجارة ، حلف الآخر.
وقد تردد الأصحاب في إرادة الحوالة من الوكالة وبالعكس ، إما لعدم استقرار اللفظ في أحدهما ، فتقدم دعوى المخالفة من اللافظ ، لأنه أبصر بنيته ، وإما لأنه وإن استقر فيعضده أصل آخر (4). ولو قدمنا قول مدعي حقيقة اللفظ زال الإشكال.
ولو باع المشتري من البائع بعد قبضه ، واتفقا على إرادة الإقالة ، لم يصر إقالة ، لعدم استعماله فيه. وفي انعقاده بيعا نظر ، لعدم القصد إليه. مع احتمال جعله إقالة ، إذ لا صيغة لها مخصوصة ، بل المراد ما دل على ذلك المعنى. وتظهر الفائدة في الشفعة والخيار. ولو تقايلا ونويا البيع ، فالإشكال أقوى.
ولو قال : بعتك بلا ثمن ، فمعناه الهبة ، واللفظ يأباه. ولو قال :
ص: 154
وهبتكه بألف ، فهل يكون هبة بعوض ، أو بيعا؟ الظاهر الأول (1) ولو عقد السلم بلفظ الشراء صح عندنا ، وتجري عليه أحكام السلم إن كان المورد غير عام الوجود عند العقد ، ولو كان موجودا فالأقرب انعقاده بيعا.
وحينئذ هل يجب قبض أحد العوضين في المجلس؟ الأقرب نعم ، ليخرج عن بيع الذين بالدين. ولو قلنا هو سلم وجب قبض الثمن فيه.
أما لو كان الثمن معينا في العقد لم يجب قبضه في المجلس ، إن جعلناه بيعا ، وإلا وجب. وهل يكفي تعيينه لو كان في الذّمّة عن قبضه في المجلس إن جعلناه بيعا؟ احتمال.
ولا يشترط في الإجارة على عمل في الذّمّة القبض في المجلس ، لمباينتها (2) البيع عندنا. ولو عبر عن الإجارة بالبيع أو العارية ، ففي الانعقاد قولان ، أقربهما عدم الانعقاد (3).
ومن هذا الباب : قارضتك والربح لي ، أو لك ، ففي انعقاده بمعناه فيكون بضاعة ، أو قرضا ، أو بطلان العقد فيكون مضاربة فاسدة ، وجهان ، أقربهما الثاني. فالربح للمالك في الصورتين ، وعليه أجرة العامل.
ويحتمل سقوط الأجرة في الأول ، لرضاه بالسعي لا بعوض.
ومنه : تعليق البيع على الواقع ، أو على ما هو شرط فيه ، والأصح
ص: 155
انعقاد ، مثل : بعتك إن كان لي ، أو بعتك إن قبلت. ويحتمل البطلان ، نظرا إلى صيغة الشرط المحترز عنها في البيع ، وفي قوله : إن قبلت ، زيادة الشك ، فإن الإيجاب لا يكون إلا بعد المواطاة على القبول ، وهو يمنع الشك.
ومنه : بيع العبد من نفسه ففي انعقاده كتابة ، أو بيعا منجزا ، أو يبطل ، وجوه.
ولو وقف على غير المنحصر ، كالعلويين ، صح عندنا ، لأن المقصود الجهة لا الاستيعاب. ومن منع (1) نظر إلى أنه تمليك لمجهول ، إذ الوقف تمليك.
ولو راجع بلفظ النكاح أو التزويج ، ففي صحة الرجعة وجهان.
وتقوى الصحة إذا قصد الرجعة به ، ولو قصد حقيقة النكاح والتزويج ضعفت.
لا يحمل اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه ، فلو وقف أو أوصى لأولاده ، لم تدخل الحفدة ، ولو جعلناهم حقيقة دخلوا. ولا فرق بين أولاد البنين وأولاد البنات ، لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : (الحسن والحسين ولداي) (2) وقوله عليه السلام : (إن ابني هذا
ص: 156
سيد) (1) مشيرا إلى الحسن عليه السلام.
ولو حلف السلطان على الضرب أو تركه حمل على الأمر والنهي ، فلو باشره بنفسه ، فعلى القاعدة لا يحنث ، والظاهر الحنث ، ويجعل الضرب للقدر المشترك بين صدور الفعل عن رضاه (أو مباشرته إياه) (2).
ومن جوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجاز (3) فلا إشكال عنده.
ومنه ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (4) في الحمل على الجماع ، واللمس باليد.
ومنه ( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (5) في الحمل على القصاص أو الدية ، فإن السلطان حقيقة في القصاص. وهذا ضعيف. والظاهر أنه للقدر المشترك بين القصاص والدية ، وهو المطالبة بحقه.
من فروع حمل المشترك على معانيه : العتق ، أو الوصية ، أو الوقف على الموالي ، وتعليق الظهار على العين مثلا ، مثل : إن رأيت عينا ، فان قلنا بالحمل على الجميع لم يقع الظهار حتى يرى جميع مسميات العين.
ص: 157
وقال بعض العامة : يقع برؤية أي فرد كان ، لأن الصفة في التعليق تتعلق بأول أفرادها كما لو قال : إن دخلت الدار ، فإنها تقع مظاهرة بدخولها شيئا من الدار وان لم تدخل جميع الدار. وهو قياس فاسد فان الدخول متواط.
فائدة (1)
من فروع الحقيقة اللغوية والعرفية : لو علق الظهار على تمييزها نوى ما أكلت عما أكل ، أو على اخبارها بعدد ما في الرمانة من الحب ، أو ما في البيت من الجوز ، ففي الحمل على الوضع ، أو العرف ، تردد ، فعلى الأول : لو فرقت النوى كل واحدة على حدتها ، أو عدت عددا يتحقق فيه أنه لا ينقص عنه ولا يزيد عليه ، تخلصت من الظهار ، وعلى الثاني لا بد من التعين والتعريف الحقيقي.
فائدة (2)
الماهيات الجعلية ، كالصلاة ، والصوم ، وسائر العقود ، لا تطلق على الفاسد إلا الحج ، لوجوب المضي فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمى الصحة ، وهو الدخول فيهما ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث. ويحتمل عدمه ، لأنها لا تسمى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. أما لو تحرم في (3) الصلاة ، أو دخل في الصوم مع مانع
ص: 158
من الدخول ، لم يحنث قطعا.
ومن فروع الحقيقة : حمل (اللام) على الملك ، فلو قال : هذا لزيد ، فقد أقر له بملكه ، فلو قال : أردت أنه بيده عارية أو إجارة أو سكنى ، لم يسمع ، لأنه خلاف الحقيقة. وكذا الإضافة بمعنى (اللام) مثل : دار زيد ، فلو حلف أن لا يدخل دار زيد ، فهي المملوكة ولو بالوقف. وعلى هذا لا يحنث بالحلف على دابة العبد أصلا ، لعدم تصور الملك فيه على الأقوى ، إلا أن يقصد ما عرف به وشبهه. وقال بعض العامة : لا يحنث ولو قلنا بملكه ، لنقصه باعتبار أنه في معرض الانتزاع منه في (1) كل آن.
ويرد عليه : أن الملك ينقسم إلى التام والناقص حقيقة. إلا أن يمنع القسمة المعنوية.
فصل مما يشبه تعارض الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح - كالنكاح ، فإنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء ، أو بالعكس ، مع أن إطلاقه عليهما في حيز التساوي - أمور :
منها : لو تعارض في الإمامة الأفقه الأقرأ مع الأورع الأتقى ، ففي كل منهما وجه رجحان مقصود للآخر. والأقرب : ترجيح الأفقه الأقرأ لأن ما فيه من الورع يحجزه عن نقص الصلاة ، ويبقى علمه زائدا مرجحا.
وكذا في المجتهدين المختلفين.
ومنها : تعارض الحر غير الفقيه والعبد الفقيه في صلاة الجنازة ،
ص: 159
قدم الفاضل (1) (2) الفقيه ، لأن فضيلته اكتسابية ، بخلاف الحرية.
ومنها : تعارض الصلاة جماعة في آخر الوقت وفرادى في أوله ، أو جماعة في تقديم الثانية عن وقت فضيلتها ، وفرادى في تأخيرها إلى وقت الفضيلة ، كما في تأخير العصر إلى المثل ، والعشاء إلى المثل ، والعشاء إلى ذهاب الشفق ولعل مراعاة الجماعة أشبه ، للحث عليها (3).
ومنها : أصحاب الأعذار ، كالمتيمم الراجي للماء أو غير الراجي والعاري ، والأولى أن التأخير أفضل. وأوجبه المرتضى (4) رحمه اللّه.
ومنها : لو كان في الوضوء وأقيمت (5) الجماعة فيتعارض إسباغه (6) وفوات الجماعة في البعض أو في الكل ، والأولى ترجيح الجماعة ، لأن المتوسل إليه أولى بالمراعاة من الوسيلة.
ص: 160
ولو كان مدافعا للأخبثين أو الريح فوجهان ، لاشتماله على صفة الكراهية المغلظة باعتبار سلبه الخشوع الّذي هو روح الصلاة.
ومنها : تعارض الصف الأول وفوات ركعة ، ففي إيثار الصف الأخير لتحصيل الركعة الزائدة فصاعدا ، وجهان. أما لو كان وصوله إلى الصف الأول يفوّت جميع القدوة فإنه يصلي في الصف الأخير قطعا.
ومنها : تعارض الخطاب (1) في النكاح ، كعبد عفيف عدل عالم ، وحر فاسق ، أو حر فقير عالم ، وغني جاهل ، أو معيب عالم ورع ، وصحيح فاسق جاهل ، إذا كان العيب موجبا للفسخ.
المجاز لا يدخل في النصوص - كأسماء العدد - إنما يدخل في الظواهر ، فمن أطلق العشرة وقال : أردت تسعة ، لم يقبل منه ، ويعد مخطئا لغة. ومن أطلق العموم وأراد الخصوص فهو مصيب لغة.
وكل لفظ لا يجوز دخول المجاز فيه لا تؤثر النية في صرفه عن موضوعه ، فلو أخبر عن طلاق زوجته ثلاثا ، وقال : أردت اثنتين ، لم يسمع منه. ولو حلف على الأكل ، وقال : أردت الخبز ، سمع منه.
الصفة ترد للتوضيح تارة ، وللتخصيص أخرى. ولها فروع :
منها : الاختلاف في ملك العبد وعدمه ، فإنه يمكن استناده إلى
ص: 161
قوله تعالى ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (1) فان ذلك صفة لقوله ( عَبْداً ) فان قلنا : إنها للتوضيح دلت على عدم ملكه مطلقا ، وإن جعلناها للتخصيص فمفهومه الملك ، لأن التخصيص بالوصف لا يدل على نفيه عن غيره.
ومنها : الاختلاف في العارية ، فإنها عندنا لا تضمن إلا بالشرط.
وعند بعض العامة (2) تضمن من غير شرط ، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله استعار من صفوان بن أمية درعا ، فقال له : أغصبا؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله : (بل عارية مضمونة) (3) فالوصف للتوضيح (4).
قلت (5) : لم لا يكون للتخصيص ، أو يكون ذلك شرطا لضمانها؟
ومنها : لو قال لوكيله استوف ديني الّذي على فلان ، فمات ، استوفاه من وارثه ، لأن الصفة للتوضيح والتعريف. وقال بعضهم : بالمنع ، بناء على أنها للتخصيص.
ومنها : لو قال لزوجته : إن ظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت كظهر أمي ، فإن جعلنا الأجنبية للتوضيح ، وظاهر منها بعد تزويجها ، وقع الظهاران ، وإن جعلناها للتخصيص لم يقع ، لأن التزويج يخرجها
ص: 162
عن كونها أجنبية ، وهو الّذي قواه الأصحاب (1).
ومنها : لو حلف : أن لا يكلم هذا الصبي ، فصار شيخا ، أو : لا آكل من لحم هذا الحمل ، فصار كبشا ، أو : لا أركب دابة هذا العبد ، فعتق وملك دابة فركبها ، فعلى التوضيح يحنث ، وعلى التخصيص لا حنث.
ويقرب منه : ما يعبر عنه الفقهاء باجتماع الإضافة والإشارة ، كقوله : لا كلمت هذا عبد زيد ، أو هذه زوجته ، أو زوجته هذه ، أو عبده هذا ، فإن الإضافة في معنى الصفة ، فإن جعلناها للتوضيح فزال الملك ، والزوجية ، فاليمين باقية ، وإن جعلناها للتخصيص انحلت. وكذا لو قال : لأعطين فاطمة زوجة زيد ، أو سعيدا عبده.
ومنه : لو أوصى لحمل فلانة من زيد ، فظهر من عمرو ، أو نفاه زيد باللعان ، فان قلنا الصفة للتوضيح فالوصية باقية ، وإن قلنا للتخصيص بطلت لو ظهر من عمرو. وفي صورة اللعان نظر ، يبنى على قاعدة اعتبار مدلول اللفظ في الحال ، أو اعتبار مدلوله المستقر ، فعلى الأول يأخذ الوصية ، وعلى الثاني لا.
الإقرار في موضع يصلح للإنشاء هل يكون إنشاء؟
النص عن أهل البيت عليهم السلام : في المطلق على غير السنة يؤتى بشاهدين ، ثمَّ يقال له : هل طلقت فلانة؟ فإذا قال : نعم ، تعتد حينئذ (2).
ص: 163
وفي خبر السكوني عن الصادق عليه السلام : في الرّجل يقال له : هل طلقت امرأتك؟ فيقول : نعم. قال : قد طلقها حينئذ (1). وهذا فيه احتمال : أن يقصد به الإنشاء. وكثير من الأصحاب (2) جرى على الأول ، وآخرون (3) قيدوه بقصد الإنشاء ، وإلا جرى على الإقرار ، لأن الإقرار والإنشاء يتنافيان ، إذ الإقرار إخبار عن ماض ، والإنشاء إحداث. ولأن الإقرار يحتمل الصدق والكذب ، بخلاف الإنشاء.
وقد قطع بعض الأصحاب (4) بأنهما لو اختلفا في الرجعة وهما (5) في العدة ، فادعاها الزوج ، قدم قوله ، ولا يجعل إقراره إنشاء.
ويقرب منه : زوجت بنتك من فلان؟ فقال : نعم ، فقيل الزوج.
فحمله كثير من الأصحاب (6) على قصد الإنشاء. وهو محتمل لأن يراد جعله إنشاء. والسر فيه : أن الإنشاء المراد به إحداث حل أو
ص: 164
حرمة لإرادة المنشئ ذلك ، والمخبر عن الوقوع في قوة الراضي بمضمون الخبر ، والعمدة في العقود هو الرضا الباطني ، والإنشاء وسيلة إلى معرفته ، فإذا حصل بالخبر أمكن جعله إنشاء.
وفي مسألة الطلاق نكتتان أخريان : إحداهما : عدم استعمال الصيغة المخصوصة. والثانية : أن المطلق قد يعرض فيه عدم إرادة الطلاق لو علم فساد الأول.
أما المخبر بوجود ما يعلم عدمه ، يحمل كلامه على الإنشاء صونا له عن الكذب. وحينئذ يتجه أن يقال : كل إقرار لم يسبق مضمونه يجعل إنشاء. وكذا كل إقرار سبق مضمونه للعالم بفساده. وكل إقرار سبق من معتقد صحته لا يكون إنشاء. وعلى هذا يمكن حمل مسألة المطلق على غير السنة ، إلا أن في هذا طرحا للصيغة (1) الشرعية بالكلية. نعم يمكن نفوذ هذه القاعدة في العقود الجائزة ، إذ لا صيغ لها خاصة.
السبب والمسبب قد يتحدان ، وقد يتعددان. ومع تعدد الأسباب قد نقع دفعة ، وقد تترتب. ثمَّ قد تتداخل الأسباب أو المسببات وقد تتباين. فهنا مباحث :
الأول : اتحادهما ، كالقذف والحد.
الثاني : أن تتعدد الأسباب والمسبب واحد ، كأسباب الوضوء الموجبة له فيجزئ عنها وضوء واحد ، إذا نوى رفع الحدث وأطلق ، وإن نوى رفع واحد منها ، فالأصح ارتفاع الجميع ، إلا أن ينوي عدم رفع غيره فيبطل.
ص: 165
وإن تعددت أسباب الغسل ، فالأقرب أنه كذلك. وفصل بعض الأصحاب (1) نيته الجنابة المجزئة ، وعدم الجزاء غيرها عنها. وهو يعيد.
والأصل فيه : أن المرتفع ليس نفس الحدث بل المنع من العبادة المشروطة به ، وهو قدر مشترك بين الجميع ، والخصوصيات ملغاة. وهذا يسمى (تداخل الأسباب).
واختلفوا في تداخل أسباب الأغسال المسنونة إذا انضم إليها واجب.
وظاهر الروايات التداخل (2).
ومنه : تداخل مرات الوطء بالشبهة بالنسبة إلى وجوب مهر واحد ، وتداخل مرات الزنا بوجوب حد واحد.
الثالث : أن يتعدد السبب ولكن يختلف الحكم المترتب عليها ، فإن أمكن الجمع بينهما ، بأن يندرج أحدهما في الآخر ، تداخلت ، كما إذا نوى داخل المسجد فريضة أو نافلة راتبة ، فالظاهر إجزاؤها عن صلاة التحية.
وقد قيل (3) : بإجزاء تكبيرة الإحرام عنه وعن تكبيرة الركوع إذا نواهما.
ص: 166
أما إذا لم يمكن الجمع ، كما لو قتل واحد جماعة ، فان رتب ، قتل بالأول وكان للباقين الدية على الأقرب ، ولو عفى عنه الأول أو صولح على مال ، قتل بالثاني. وعلى هذا. ولو قتلهم دفعة - بأن ألقاهم في نار ، أو هدم عليهم جدارا ، أو جرحهم فماتوا جميعا - قتل بالجميع.
ويحتمل قتله بواحد ، تخرجه القرعة أو بعينه الإمام ، ويأخذ الباقون الدية (1). ويحتمل في الترتيب المساواة للدفعي ، وهو ظاهر بعض الأصحاب (2).
ولو اجتمع سببا إرث ولم يتنافيا ، أعملا ، كعم هو خال. وإن تنافيا قدم الأقوى كأخ هو ابن عم. وكذا في ميراث المجوس. وقد يحكم بالتساقط عند اجتماع الأسباب ، كتعارض البينتين على قول (3).
الرابع : أن يتحد السبب ويتعدد المسبب لكن يندرج أحدهما في الآخر ، كالزناء يوجب الحد ، وتحصل معه الملامسة وهي موجبة للتعزير ، فيغني الحد عنه. وكقطع الأطراف فإنه بالسراية إلى النّفس تدخل دية الطرف في دية النّفس. وأما القصاص فثالث الأقوال التداخل إن كان بضربة واحدة وعدمه إن تعددت (4) وأما الزاني المحصن فيجب الرجم عليه ، وإن كان شيخا جمع بين الجلد والرجم ، وإن كان شابا فقيل (5) :
ص: 167
بالتداخل ، لأن ما يوجب أعظم الأمرين بخصوصه لا يوجب أخفهما (1) بعمومه : والجمع أقرب لفعل عليّ عليه السلام حيث قال : (جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2).
ومن اتحاد السبب وتعدد المسبب ولا تداخل (3) : الحيض ، والنفاس ومس الأموات ، والاستحاضة مع كثرة الدم فإنها توجب الوضوء والغسل عندنا.
ومنها : القتل ، يوجب الدية أو القود والكفارة والفسق مع العمد.
وإتلاف مال الغير عمدا يوجب الضمان والتعزير. وقذف المحصنة يوجب الجلد والفسق. وزنا البكر يوجب الجلد والجز والتغريب. وسائر الحدود تجامع الفسق ، والسبب واحد.
والحدث الأصغر سبب لتحريم : الصلاة ، والطواف ، وسجود السهو ، وسجود العزيمة على قوله (4) ، ومس المصحف.
ص: 168
والحدث الأكبر يزيد على ذلك : قراءة العزائم (1) ، واللبث في المساجد على الإطلاق ، والجواز في المسجدين ، وتحريم الصوم والوطء والطلاق في الحيض ، إلى أحكام كثيرة (2).
النكاح (قد يكون سببا) (3) في أشياء كثيرة ، فيتعلق بالوطء : استقرار المهر المسمى بكماله. ووجوب مهر المثل إذا لم يسم أصلا. ووجوب الفرض المحكوم به إذا كانت مفوضة المهر. ووجوب مهر المثل حيث لا يصح التفويض ، وحيث تكون التسمية فاسدة ، وفي الشبهة وزنا الإكراه. ووجوب النفقة ما دامت ممكنة في الدائم. وتوزيع المسمى بحسب الأيام في المقطع. ووجوب الكسوة والمسكن في الدائم والخادم إذا كانت من أهله. ووجوب نفقة الخادم وكسوتها - وقد يكتفى في هذا الباب (4) بالتمكين. وثبوت التحصن لكل منهما في الدائم وملك اليمين. ولحوق الولد بشروطه. وتحريم العزل في الدائم بغير الاذن. ووجوب عدة الطلاق والفسخ عليها. وتحريم ابنتها عليه. ووجوب القسم إما ابتداء أو إذا قسم لضرتها - والظاهر أن هذا لا يتبع الوطء بل التمكين. ووجوب القضاء لها في القسم إذا ظلمها - وهذا كالأول.
ص: 169
وتقرير صحة العقد في نكاح المريض إلا أن يبرأ فيكفي العقد في التقرير. ونشر الحرمة في الرضاع. وصيرورة البنت (1) محرما - وفي حكمها بنت ابنها وبنت بنتها فنازلا. وامتناع فسخها بالعنة الطارئة. وتحقق الفئة به في الإيلاء والظهار. ووجوب الكفارة فيهما ، ففي الظهار يتعدد.
وأما منعها من أكل الثوم ، وكل ما يتأذى برائحته ، وإجبارها على الاستحداد (2) ، وإزالة الوسخ ، وكل منفر ، فيكفي فيه بذل المهر لها.
ووجوب النفقة عليه إذا طلق رجعيا ، ووجوب ذلك للبائن إذا كانت حاملا.
وأما وجوب الفراش ، وآلة التنظيف ، وكل ما تزال به الرائحة الكريهة ، ووجوب آلات الطبخ والأكل والشرب ، والإلزام بالغسل لو كانت ذمية إن وقفنا الاستمتاع عليه ، ووجوب أجرة الحمام مع الحاجة ، وكذا وجوب ثمن ماء الغسل على قول (3) ، ومنعها من الخروج ، والبروز والعبادات المتطوع بها ، والأسفار غير الواجبة ، ومجاورة النجاسة والمسكر (4) إذا كانت ذمية ، فيمكن ترتيبه على التمكين ، وبعضه على مجرد العقد. كما يترتب عليه : برّ اليمين إذا حلف ليتزوجن ، والحنث لو حلف على تركه. والخروج عن العزوبة المنهي عنها. وجواز الاستمتاع
ص: 170
بالمرأة ، والنّظر إلى جميع بدنها حتى العورة ، وبالعكس. واستقرار المهر بموت أحدهما ، ولو كان في مفوضة المهر وجبت المتعة. وقيل (1) : مهر المثل. ووجوب النصف إذا طلق أو فسخت لعنته قبل الدخول ، وكذا إذا أسلم قبلها قبل الدخول ، أو ارتد عن غير فطرة. إما عنها ، فالأقرب الجميع. ووجوب المتعة في مفوضة البضع إذا طلق قبل الدخول والفرض. وتحريم الأم والجمع بين الأختين ، والعمة والخالة وبنت الأخ أو الأخت إلا برضاهما. وتحريمها (2) على أبيه فصاعدا ، وعلى ولده فنازلا. وتحريم العقد على غيرها إن كانت رابعة بالدائم ، أو ثالثة حرة والزوج عبد ، أو ثالثة أمة والزوج حر. وملك طلاقها وخلعها ، وظهارها ، والإيلاء منها ، ولعانها. وثبوت الفسخ بظهور عيب فيه ، أو فيها. ووجوب نفقتها بالتمكين. وجواز السفر بها. وتحريم العقد على الأمة إلا بإذن الحرة. وعلى أمة ثانية إن شرطنا خوف العنت وعدم الطول - أما العبد فله أن يتزوج الأمة على الحرة عند بعض العامة (3) ، والأقرب المنع. وثبوت العدة بموته. والتوارث إذا لم يكن الدخول شرطا في صحة العقد ، ولا الأجل مانعا منه. وجواز غسلها. ووجوب تكفينها إذا كانت دائما. واستحقاق الصلاة عليها. والنزول معها في قبرها. وجواز ذلك لها إذا مات هو - وإن كان الرّجال أولى.
ويصير والده وابنه وإن علا أو سفل محرما لها. وتصير أمها وإن علت محرما له. ويملك نصف الصداق لو كان عينا وطلق قبل الدخول.
ص: 171
وبعث الحكم (1) عند الشقاق. وإلزامها بالغسل من الحيض عند الدخول إن حرمنا الوطء قبله ، وكذا لو كانت ذمية. وإلزامها بالاستحداد وما يتوقف عليه كمال الاستمتاع للتهيئة للدخول ، كما يجب في دوام النكاح. وتقديم قول الزوج في قدر الصداق ، وقولها في عدم دفعه. والتحالف لو اختلفا في تعيينه ، ولا ينفسخ العقد. وتحريمها على غيره. ومنعها من اليمين ، والنذر ، والعهد ، والإرضاع ، إذا اشتمل على منع حقه.
ينقسم الوطء بانقسام الأحكام الخمسة بالنسبة إلى الزوجة ، فيجب بعد كل (2) أربعة أشهر ، فلها الاستعداد عليه وان لم يكن موليا ، إلا أن المولي يجبر عليه أو على الطلاق ، وهنا يحتمل ذلك ، ويحتمل إجباره على الطلاق عينا (3) ، ويحتمل إجباره على الوطء عينا. ولو طلق أساء وسقط الوطء إذا كان بائنا ، ولو كان رجعيا ففيه إشكال ، من حيث أنه واجب يمكن استدراكه ، ومن زوال حقيقة العصمة. فإن قلنا بإجباره عليه ووطئها فهو رجعة قطعا. والأصح عدم الإجبار. نعم لو راجعها أمكن الإجبار ، لزوال المانع ، بل يمكن لو تزوجها بعد البينونة. كما تقضى لها ليالي الجور.
وكذا يجب الوطء بعد المرافعة في الإيلاء ، وبعد المرافعة بعد ثلاثة
ص: 172
أشهر في الظهار.
وقد يستحب الوطء ، وهو مع الإمكان ، ولا ضرر ولا مانع.
وقد يكره في الأوقات والأحوال المخصوصة.
وقد يحرم ، كالحيض ، والنفاس ، واشتباه الحيض قبلا. وفي الإحرام منه أو منها. والصوم الواجب كذلك. وعند تضيق وقت الصلاة. وفي الاعتكاف الواجب. وفي المساجد. وفي الظهار حتى يكفّر. وفي العدة عن وطء الشبهة من الغير. وبعد الإفضاء إلا أن تصلح وتلتئم فيحل (1) على قول (2). وإذا لم تحتمل الوطء لعبالته وصغرها أو ضعفها ، أو مرض يضر الوطء بها. قيل (3) : وفي ليلة غيرها. وإذا امتنعت قبل توفية الصداق. قيل (4) : وفي عدة الطلاق الرجعي. ويشكل : بما أنه رجعة بنفسه (5).
وما عدا ذلك مباح.
ص: 173
يتعلق بغيبوبة الحشفة في الفرج أو قدرها من مقطوعها : نقض الطهارة إلا أن يكون ملفوفا على قول ضعيف (1). ووجوب الغسل على الفاعل والقابل. ووجوب التيمم إن عجز عن الماء. وتحريم الصلاة والطواف. وسجود السهو. قيل (2) : وسجود التلاوة.
وقراءة العزائم وأبعاضها. والمكث في المسجد. والدخول إلى المسجدين. وإفساد الصلاة والصوم إن وقع عمدا. وإفساد التتابع إن كان الصوم مشروطا فيه ذلك. ووجوب قضاء الصوم إن كان واجبا. ووجوب الكفارة في المتعين. وإفساد الاعتكاف ، ووجوب قضائه إن وجب. ووجوب إتمامه إن كان قد شرط فيه التتابع.
وإفساد الحج والعمرة. ووجوب المضي في فاسدهما. ووجوب قضائهما. ووجوب البدنة أو بدلها مع العجز - وهي بقرة فان لم يجد فسبع شياه إن جعلنا الكفارة كالنذر. ونفقة المرأة التي جامعها في القضاء. والتحمل للبدنة عنها ، سواء كان في موضع الفساد أولا.
وهل يتعلق بالوطء منع انعقاد إحرامهما أو ينعقدا فاسدين؟ نظر. ووجوب التفريق بين الزوجين إذا وصلا موضع الخطيئة إلى أن يقضيا المناسك.
وثبوت الفسق إذا جامع في الإحرام أو الصوم الواجب أو الاعتكاف عالما بالتحريم. وترتب التعزير على ذلك. واستحباب الوضوء
ص: 174
إذا أراد النوم ولما يغتسل ، فان تعذر فالتيمم. وكفارة الحيض وجوبا أو استحبابا. وجعل البكر ثيبا ، فيعتبر نطقها في النكاح.
ووجوب العدة بالشبهة إذا كانت ممن لها عدة. وزوال التحصين في القذف إذا كان الوطء زنا ، لا مكرهة. ووجوب الجلد والرجم والجز والتغريب. وتحريم أم الموطوء وأخته وبنته - والمشهور (1) أنه يكفي هنا إيلاج البعض. والخروج عن حكم العنة. والتحليل للمطلقة ثلاثا حرة ، أو اثنتين أمة. وإلحاق الولد في الشبهة بالملك أو بالزوجية ، إذا كانت الموطوءة خالية. وتحريم نفي الولد إلا مع القطع بكونه ليس منه ، ولا يكفي الظن الغالب. والتمكن من الرجعة في العدة الرجعية. والتمكن من اللعان عند نفي الولد - أما القذف بالزنا فلا. ووجوب التعزير لو كانت الموطوءة زوجة بعد الموت.
ووجوب القتل في اللواط إذا كانا بالغين عاقلين. والتعزير في إتيان البهيمة. وتحريم وطء الأخت إذا وطئ أختها بملك اليمين حتى تخرج التي وطئها أولا. ونشر الحرمة بالشبهة والزنا على القول به. وفي إباحة بنت الأخ المملوكة مع العمة المملوكة من غير إذن العمة إشكال للفاضل (2) رحمه اللّه. وسقوط الامتناع من التمكين ، لأجل الصداق بعده. وسقوط عفو الولي بالطلاق بعده. وثبوت السنة والبدعة في الطلاق. وثبوت المهر بوطء المكاتبة. وثبوت بعضه بوطء المشتركة بينه وبين غيره. وصيرورة الأمة فراشا على رواية (3). وقطع
ص: 175
العدة إذا حملت من الشبهة. والفسخ بوطء البائع ، والإجازة بوطء المشتري. وفسخ الهبة في الأمة الموهوبة في موضع جواز الرجوع. وفسخ البيع فيما لو وجد البائع بالثمن عيبا بوطء الأمة. وفي كون وطء البائع الأمة (1) مع إفلاس المشتري استرداد للأمة وجه ضعيف (2). ورجوع الموصي به إذا لم يعزل (3). وكونه بيانا في حق من أسلم على أكثر من أربع. وكذا في الطلاق المبهم ، والعتق المبهم على احتمال. وتوقف الفسخ على انقضاء العدة فيما لو ارتدت الزوجة مطلقا ، أو الزوج عن غير فطرة ، أو أسلمت الزوجة مطلقا ، أو الزوج وكانت الزوجة وثنية. والمنع من الرد بالعيب ، إلا في عيب الحبل ، ويرد معها نصف عشر قيمتها. وسقوط خيار الأمة إذا أعتقت تحت عبد أو حر - على الخلاف (4) - ومكنت منه عالمة. ويمكن أن يكون هذا لأجل إخلالها بالفور ، لا لخصوصية التمكين من الوطء. وتحقق الرجعة
ص: 176
به في الرجعية. ومنعه من التزويج بخامسة إذا أسلم على أربع وثنيات حتى تنقضي العدة وهنّ على كفرهن ، وكذا الأخت حتى تنقضي العدة مع بقاء الأخت على الكفر. ومنعه من اختيار الأمة لو أسلمت (1) مع الحرة حتى تنقضي العدة مع بقاء الحرة على الكفر. ووجوب مهر ثان لو وطئ المرتد وبقي على الردة ، إذا كان عن فطرة ، وفي غيرها خلاف. ووقوع الظهار المعلق به أو العتق المنذور عنده. وذبح البهيمة الموطوءة المأكولة اللحم وإحراقها ، وتغريم قيمتها ، وبيع غيرها (2) وتغريمه القيمة. وإبطال خيار الزوجين لو تجدد العيب بعده ، إلا الجنون من الرّجل. ووجوب استبراء الأمة إذا وطئها السيد ، وأراد تزويجها أو بيعها.
كل هذه الأحكام يتساوى فيها القبل والدبر إلا : التحليل ، والخروج من الإيلاء والإحصان ، والاستنطاق في النكاح ، فتستنطق بالوطء في القبل لا في الدبر ، وخروج المني من الدبر بعد الغسل فإنه لا يوجب الغسل عليها ، بخلاف القبل (3) فان فيه كلاما ذكرناه في كتاب الذكرى (4).
ويتعلق بالدبر : إبطال حصانة الموطوءة بالنسبة إلى القذف ، كما يحصل
ص: 177
للواطئ بالنسبة إلى ذلك.
ولو لم يبق للمقطوع بقدر الحشفة فغيّبه ، فالظاهر عدم تعلق الأحكام به ، إلا تحريم أم المفعول به وأخته وبنته.
قد يقوم السبب الفعلي غير المنصوب ابتداء مقام الفعلي المنصوب ابتداء ، كتقديم الطعام إلى الضيف فإنه مغن عن الاذن في الأصح ، وتسليم الهدية إلى المهدي إليه وإن لم يحصل القبول القولي في الظاهر من فعل السلف والخلف ، وكذلك صدقة التطوع ، وكسوة القريب والصاحب ، وجائزة الملك من كسوة وغيرها ، وعلامة الهدي كغمس النعل في دمه وجعله عليه أو كتابة رقعة (1) عنده ، والوطء في الرجعية ، وفي مدة الخيار من ذي الخيار ، والتقبيل كذلك ، وكذا اللمس بشهوة. أما المعاطاة في المبايعات فتفيد إباحة التصرف لا الملك ، وإن كان في الحقير ، عندنا.
ولا يكفي تسليم العوض في الخلع عن بذلها ، أو قبولها بعد إيجابه ، ولا تسليم الدية في سقوط القصاص ، بل لا بد من التلفظ بالعفو أو بمعناه.
ولو خص الإمام بعض الغانمين بأمة ، وقلنا بتوقف الملك على اختيار التملك ، فلو وطئ أمكن كونه اختيارا ، لأن الوطء دليل الملك ، إذ لا يقع هنا إلا في الملك.
ومن الأسباب الفعلية القلبية : الإرادة والكراهة ، والمحبة. فلو علق ظهارها بإضمارها بغضه ، فادعته ، صدقت ، كدعوى الحيض ، فان اتهمها أحلفها إن قلنا بيمين التهمة (2). ولو علقه بحبها دخول النار ، أو السم ،
ص: 178
أو الأطعمة الممرضة ، فادعته ، أمكن القبول لأنه قد نصبه سببا ولا يعلم إلا منها ، وعدمه ، للقطع بكذب مدعي ذلك.
ولو علق بمشيئتها ، فالظاهر الاحتياج إلى اللفظ ، لأن كلامه يستدعي جوابا على العادة ، فلا تكفي الإرادة القلبية. وتظهر الفائدة : لو أرادت بالقلب ولما تتلفظ.
ولو تلفظت مع كونها كارهة بالقلب وقع الظهار ظاهرا ، وفي وقوعه باطنا بالنسبة إليها احتمالان : نعم ، لأن التعليق بلفظ المشيئة لا بما في الباط ، ولا ، كما لو علق بحيضها وكانت كاذبة في الاخبار عن الحيض ، فإنه لا يقع باطنا.
ولو كانت صبية فعلق على مشيئتها أو علق على مشيئة صبي ، فالأقرب الصحة مع التمييز ، لأنه اقتضى لفظه ، وقد وقع. ويحتمل المنع ، كما ليس للفظه اعتبار في الطلاق ولا في باقي العقود اللازمة.
ولو علق ظهارها على حيض ضرتها ، فادعته ، وأنكر الزوج ، حلف ، لأصالة العدم ، ولأنه تصديق في حق الضرة. ويحتمل قبول قولها ، لأنه لا يعرف إلا منها. فحينئذ لا يحلف ، لأن الإنسان لا يحلف ليحكم لغيره.
الوقت قد يكون سببا للحكم الشرعي ، كأوقات الصلوات ، وهو أيضا ظرف للمكلف به ، فليس السبب الدلوك مثلا وإلا لم تجب الظهر على من أسلم أو بلغ في أثناء النهار بعد الدلوك بلحظة ، بل كل جزء من الوقت سبب للوجوب وظرف للإيقاع. وكذا أجزاء أيام الأضاحي ،
ص: 179
سبب للأمر بالأضحية وظرف لإيقاعها فيه ، ومن ثمَّ استحب على من تجدد إسلامه ، وبلوغه. أما شهر رمضان فان كل يوم من أيامه سبب للتكليف لمن استقبله جامعا للشرائط ، وليس أجزاء اليوم سببا للوجوب ، ومن ثمَّ لم يجب على البالغ أو المسلم في الأثناء الصوم (1).
فان قلت : فينبغي في المريض والمسافر ألا يجب الصوم وقد زال العذر.
قلت : المرض والسفر ليسا مانعين لسببية السبب ، وإنما منعا الحكم بالوجوب ، فإذا زال المانع ظهر أثر السبب.
واعلم : إن الوقت قد يعرى عن السببية وإن كان لا يعرى عن الظرفية ، وهو واقع في كثير ، كالمنذورات (2) المعلقة على أسباب مغايرة للأوقات. وكالسنة بكمالها في قضاء شهر رمضان ، فإنها ظرف للإيقاع وليست سببا ، إنما السبب هو الفوات لما كان قد أثر فيه السبب الموجب للأداء ، فان موجب أداء شهر رمضان رؤية الهلال ، وموجب القضاء هو فوات الأداء. وكذا جميع العمر ظرف للواجبات الموسعة بالنذر أو الكفارة وإن كانت أسبابها مغايرة للزمان. وكذلك شهور العدد أو الأقراء ظروف للعدة ، والسبب الطلاق مثلا. وسبب الفطرة دخول هلال شوال على الأصح ، ومجموع الليلة ونصف النهار ظرف لا سبب ، فلا يجب على من كمل بعد دخول شوال (3).
ص: 180
لو علق حكما على سبب متوقع ، وكان ذلك الحكم يختلف بحسب وقت التعليق ووقت الوقوع ، ففي اعتبار أيهما؟ وجهان ، مأخذهما من الموصي بثلث ماله هل يعتبر يوم الوصية أو يوم الوفاة؟ والمشهور عندنا (1) :
الثاني : لأن بالموت يملك الموصى له. وكذا الصفات المعتبرة في الوصي (2).
ومن قال : باعتبار يوم الوصية (3) ، أجراه مجرى (النذر ، كما) (4) لو نذر الصدقة بثلث ماله ، فإنه معتبر عند النذر إذا كان منجزا. ولو كان معلقا على شرط ففيه الوجهان. وكذا لو أطلق العبد الوصية فتحرر ومات ، أو نذر العتق أو الصدقة فتحرر ، أو علق الظهار على مشيئة زيد وكان ناطقا فخرس ، فهل تعتبر الإشارة حينئذ كما لو كان أخرس ابتداء؟ أو نذر عتق عبده عند شرط متوقع فوقع حال المرض ، ففيه الوجهان.
لو شك في سبب الحكم بنى على الأصل ، فهنا صورتان :
إحداهما : أن يكون الأصل الحرمة ويشك في سبب الحل ، كالصيد
ص: 181
المتردي بعد رميه ، وكالجلد المطروح أو اللحم مع عدم قيام قرينة معينة.
ولو ظن تأثير السبب ظنا غالبا خرج عن الأصل ، كما لو كانت الضربة قاتله ، أو لم يعرض له سبب آخر.
الثانية : أصالة الحل والشك في السبب المحرم ، كالطائر المقصوص ، والظبي المقرّط (1) وقوى (2) الأصحاب التحريم (3).
أما لو علق أحد رجلين ظهار زوجته بكون الطائر غرابا ، وعلقه الآخر بكونه غير غراب ، فالأولى عدم وقوع الظهارين ، إذا امتنع استعلام حاله ، عملا بالأصل ، وإن كان الاجتناب أحوط. ولو كان في زوجتين لواحد ، اجتنبهما ، لأنه قد علم تحريم إحداهما في حقه لا بعينها.
ولو غلب الظن على تأثير السبب بنى على التحريم ، كما لو بال كلب في الماء فوجده متغيرا. أما لو كان بعيدا فلا أثر له ، كتوهم الحرمة فيما في يد الغير ، وإن كان الورع ترك ما في يد من لا يجتنب المحارم ، وقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال : (اني لأجد التمرة ساقطة على فراشي فلو لا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) (4).
ولو تساوى الاحتمالان ، كطين الطريق ، وثياب مدمن الخمر (5) والنجاسة ، والميتة مع المذكى غير المحصور ، والأخت مع نساء غير محصورات
ص: 182
فالأقرب البناء على الحل ، وإن كان تركه أحوط مع وجود غيره مما لا شبهة فيه. أما لو انحصرا ، فالأولى الحرمة ، لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به.
ولو عم في بلدة (1) الحرام وندر فيها الحلال ، فالأولى التجنب مع الإمكان ، ولو لم يمكن ، تناول ما لا بد منه من غير تبسط. هذا إذا علم المالك ، ولو جهل فعندنا الفرض الخمس ، فيمكن أن يقال : من تناول منه خمسه. وعند العامة (2) كل مال جهل مالكه ولا يتوقع معرفته فهو لبيت المال. وقد نظم بعضهم (3) وجوه بيت المال فقال :
جهات أموال بيت المال سبعتها *** في بيت شعر حواها فيه لافظه (4)
خمس ، خراج ، وفي ء ، جزية ، عشر *** وإرث فرد ، ومال ضل حافظه (5)
وظاهر كلام أصحابنا (6) انحصار وجوه بيت المال في المأخوذ من الأرض المفتوحة عنوة ، خراجا أو مقاسمة. ويمكن إلحاق سهم سبيل اللّه في الزكاة به على القول بعمومه (7). وقد ذكر (8)
ص: 183
الأصحاب (1) أن مصرف الجزية عسكر الإسلام. والعشر لا أصل له عندنا (2). وإرث من لا وارث له للإمام. والمال المأيوس من صاحبه يتصدق به. نعم قد يشكل (3) المرتضى (4) رحمه اللّه في دية الجناية على الميت أنها لبيت المال. ويجري في كلام بعض أصحابنا (5) أن ميراث من لا وارث له لبيت المال. وأما الخمس فمصرفه معروف عندنا.
لأنه داخل على ذات السبب.
قلنا : بل دخل على حكم السبب ، وهو التنجيز ، فأخره (1).
وتظهر الفائدة في مسائل :
منها : أن البيع بشرط الخيار ينعقد سببا لنقل الملك في الحال ، وإنما أثر الشرط في تأخير حكم السبب ، وهو اللزوم.
ومنها : أن الخيار يورث ، لأن الملك انتقل إلى الوارث ، والثابت له بالخيار حق الفسخ والإمضاء ، وهما راجعان إلى نفس العقد.
ومنها : بطلان تعليق الطلاق والظهار على النكاح ، وتعليق العتق على الملك ، لأن الصيغة المعلقة سبب لوقوع الطلاق عندهم (2) ، والظهار عندنا ، ولا بد من كون المحل صالحا لاتصال الصيغة به حتى يمكن تأخيره وقبل النكاح ليس صالحا.
المانع ثلاثة أقسام (3) :
أحدها : ما يكون مانعا ابتداء واستدامة ، كالمعصية في السفر ، وكالردة تمنع صحة النكاح ابتداء وتبطله استدامة ، إما في الحال كقبل
ص: 185
الدخول أو كون الزوج عن فطرة ، أو بعد انقضاء العدة في غيرها (1).
والرضاع كذلك. وفي الزنا ووطء الشبهة خلاف (2).
ومنه : أن الملك يمنع من العقد ، ولو طرأ بعد النكاح أبطله.
وفي منع الكر من النجاسة استدامة كالابتداء ، قولان (3) ، يعبر عنهما (بإتمام النجس كرا).
(ومنه : العنة في العنين) (4) والجنون في الرّجل ابتداء يمنع لزوم العقد ، وكذا يمنع استدامة النكاح.
الثاني : ما يكون مانعا ابتداء لا استدامة ، كالإحرام ، يمنع من ابتداء النكاح ، وطريانه لا يبطله. والإسلام ، يمنع من ابتداء السبي ولا يمنع من (5) استدامته. والتمكن من استعمال الماء ، مانع من ابتداء الصلاة ، ولا يبطل استدامتها في الأصح. والدين ، لا يصح ابتداء الرهن فيه ، ويصح بالاستدامة ، كما لو أتلف متلف الرهن ، فعوضه رهن ، وقد صار دينا ، لأنه ثبت في ذمة المتلف.
ولو سبي الذمي لم يحكم بإسلام المسبي ، ولو طرأ تملك ما سباه المسلم لم يخرج عن حكم الإسلام. وكذا ما عدا العنة والجنة (6) من العيوب.
ص: 186
وعصف الريح يوجب الضمان لو كان ابتداء ، لا استدامة.
والإسلام يمنع من تملك الذمي إياه ، ولو طرأ الإسلام لم يزل ملك الذمي.
والارتداد يمنع من ابتداء الإحرام ، وفي منعه استدامة وجه ضعيف (1). فلو أسلم بعد الردة بنى (2) ، على الأقوى ، كالمعصية في السفر ، والمأخذ : أن المؤمن لا يمكن كفره ، وقد تبين فساده في علم الكلام (3). ولو سلم (4) لم يكن مما نحن فيه ، لأن ذلك يكشف عن سبق الكفر.
والإحرام ، يمنع التوكيل في عقد النكاح ، ولو كان له وكيل لم ينعزل ، إلا أنه لا يباشر إلا بعد تحلل الموكل. ولا فرق بين الحاكم وغيره في أن إحرامه يمنع من عقد النكاح ، وهل يمنع إحرامه نوابه (5) المحلّين من عقد النكاح؟ نظر. والإمام الأعظم أقوى في عدم المنع ، لأدائه إلى تعطيل حكام الأرض من التصرف.
والعدد في الجمعة شرط في الابتداء ، لا الدوام.
ولو جنى المرهون على سيده الراهن خطأ لم يثبت له الفك ، ولو جنى على مورث السيد فالأقرب أن له الفك ، لأن الفك وقع أولا للمورث.
الثالث : ما يكون مانعا استدامة لا ابتداء ، كابتداء الرهن (فان
ص: 187
أمانته ترفع) (1) ضمان الغاصب ، على احتمال ، مع أنه لو تعدى في الاستدامة ضمن.
من فروع المجاز : أن المشرف على الزوال هل له حكم الزائل ، أو حكم نفسه؟
ويترتب عليه :
دخول المكاتب في عتق عبيده إذا كان مطلقا أو مشروطا ، ولو أدى المطلق اتجه الكلام في الباقي. وكذا إقامة الحدّ عليه هل هي للسيد أو للحاكم؟
وجواز وطء المشتري الجارية بعد التنازع (2) في الثمن قبل التحالف. وتغريم الغاصب إذا بلّ الحنطة وتمكن منها العفن بحيث لا يرجى عودها ، وكذا لو جعل منها هريسة ، أو غصب تمرا ودقيقا وسمنا واتخذ منه عصيدة ، فإن مصيره إلى الهلاك لمن ، لا يريده. وبيع العبد الجاني بما يوجب القصاص في النّفس ، وبيع المرتد خصوصا عن فطرة ، ورهن ما يتسارع إليه الفساد قبل الأجل ولم يشترط بيعه ، ورهن ثمنه ، والحجر بظهور إمارة الفلس ، كأن تكون الديون مساوية لماله إلا أن كسبه لا يفي بمئونته فإنه مشرف على قصور ماله عن ديونه. وينعكس فيما لو كانت أمواله أقل لكن كسبه يزيد عن مئونته ، فهو مشرف على الغنى.
ص: 188
الواجب : ما يذم تاركه شرعا لا إلى بدل.
ويطلق على ما لا بد منه وإن لم يتعقبه الذم. ويبنى عليه :
نية الصبي - في تمرينه - (1) الوجوب. وإن استعمله (2) في الطهارة الكبرى هل يلحقه حكم الاستعمال؟ وأن طهارته الواقعة في الصبي مجزية حتى لو بلغ لم يجب إعادتها. وأن صلاته في أول الوقت صحيحة ، فلو بلغ لم يعدها. والأصح وجوب الإعادة في الموضعين (3). وأنه لو غسل ميتا أو صلى عليه هل يعتد به؟ والأصح عدم الاعتداد (4).
الواجب على الكفاية له شبه بالنفل من حيث يسقط عن البعض بفعل الباقين. وقد يسقط بالتعرض له فرض العين ، كمن له مريض يقطعه تمريضه عن الجمعة ، وإن كان غيره من الأقارب قد يقوم مقامه ، ومن ثمَّ ظن بعض الناس (5) : أن الإتيان بفرض الكفاية أفضل من فرض العين (6) ، من حيث انه يسقط بفعله الحرج عن نفسه وعن غيره.
ص: 189
ويشكل : بجواز استناد الأفضلية إلى زيادة الثواب والمدح ، لا إلى إسقاط الذم.
اما الشروع فيه ، فإنه يلزم إتمامه غالبا ، كالجهاد وصلاة الجنازة.
ومن أن فيه شبها بالندب جاز الاستئجار عليه ، كالاستئجار على الجهاد. وربما جاز أخذ الأجرة على فرض العين ، كاللبأ (1) من الأم ، وإطعام المضطر إذا كان له مال ، فإنه يطعمه ويأخذ العوض.
قاعدة (2) - [54]
يصح الأمر تخييرا (بين أمور) (3) ، ويتعلق بالقدر المشترك وهو مفهوم أحدها (4) ، ولا تخيير فيه. ومتعلق التخيير الخصوصيات ، لأنه لا يجب عليه عين أحدها ، كما لا يجوز له الإخلال بجميعها.
وهل يصح النهي تخييرا؟
منع منه بعضهم (5) ، لأن متعلقه هو مفهوم أحدها ، الّذي هو مشترك بينهما ، فيحرم جميع الأفراد ، لأنه لو دخل فرد إلى الوجود لدخل
ص: 190
في ضمنه المشترك ، وقد حرم بالنهي.
لا يقال : ينتقض بالأختين ، والأم ، والبنت ، فإنه منهي عن التزويج بأيتهما شاء (1).
فنقول : التحريم هنا ليس على التخيير ، لأنه إنما يتعلق بالمجموع عينا لا بالمشترك بين الافراد ، ولما كان المطلوب أن لا تدخل ماهية المجموع في الوجود ، وعدم الماهية يتحقق بعدم جزء من أجزائها ، أي الأجزاء كان ، فأي أخت تركها خرج عن عهدة النهي عن المجموع ، لا لأنه نهي عن القدر المشترك ، بل لأن الخروج عن عهدة المجموع يكفي فيه فرد من أفراد ذلك المجموع ، ويخرج عن العهدة بواحدة لا بعينها.
وكذا نقول في خصال الكفارة لما وجب (2) المشترك حرم ترك الجميع ، لاستلزامه ترك المشرك ، فالمحرم ترك الجميع لا واحدة بعينها من الخصال.
فلا يوجد نهي على هذه الصورة إلا وهو متعلق بالمجموع لا بالمشترك ، وكيف لا يكون كذلك ، ومن (3) المحال العقلي أن يفعل فرد من نوع ، أو جزئي من كلي مشترك ، ولا يفعل ذلك المشترك المنهي عنه؟؟ لاشتمال الجزئي على الكلي بالضرورة ، وفاعل الأخص فاعل الأعم ، فلا يخرج عن العهدة في النهي إلا بترك كل فرد.
فرعان : أحدهما : يمكن التخيير بين الواجب والندب إذا كان التخيير بين جزء وكل ، لا بين أمور متباينة ، وذلك كتخيير النبي صلى اللّه عليه وآله في قيام الليل بين الثلث ، والنصف ، والثلاثين (4). وتخيير
ص: 191
المسافر في الأماكن الأربعة (1) بين القصر والإتمام ، وتخيير المدين في إنظار المعسر والصدقة (2) ، وفي هذا يقال : المندوب أفضل من الواجب.
ثانيهما : قد يقع التخيير بين ما يخاف سوء عاقبته وبين ما لا خوف فيه ، كخبر الإسراء ، وأنه عليه السلام خير بين اللبن والخمر ، فاختار اللبن. فقال له جبرئيل عليه السلام : (اخترت الفطرة ولو اخترت الخمر لغوت أمتك) (3). وليس هذا تخييرا بين المباح والحرام ، لأن سوء العاقبة يرجع إلى اختيار الفاعلين.
من المبني على أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب : وجوب غسل الثوب كله عند اشتباه النجاسة في اجزائه ، وغسل الثياب المحصورة عند اشتباه النجس منها ، ووجوب إعادة ثلاث صلوات أو الخمس عند اشتباه الفائتة ، ووجوب أجرة الكيال والوزان على البائع في المبيع وعلى
ص: 192
وفي حكم الخطأ الجهل.
ولا بد فيه من تقدير ، ويعبر عنه (بالمقتضى) ، إما حكم ، أو إثم ، أو لازم ، أو الجميع ، على خلاف بين الأصوليين (1).
وعن النبي صلى اللّه عليه وآله : (لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها) رواه مسلم (2). وفيه دلالة على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم في التحريم ، وإلا لما توجه الذم على البيع.
وقد وقع في الأحكام ارتفاع الحكم ، كمن نسي صلاة الجمعة ، أو تكلم في الصلاة ناسيا ، أو فعل المفطر في الصوم المتعين ناسيا ، أو أخطأ فصلى بغير طهارة صحيحة ، أو ظن طهارة الماء فتطهر ، أو أكره على أخذ مال الغير.
وورد فيها ارتفاع الإثم ، كمن نسي صلاة الظهر ، أو ظن جهة القبلة فأخطأ ، فإنه لا يرتفع الحكم ، إذ يجب القضاء ، وإنما ترتفع المؤاخذة به ، والإثم عليه. ووجوب التدارك هنا من أمر جديد ، كقوله صلى اللّه عليه وآله :
ص: 194
(من نام عن صلاة ، أو نسيها ، فليصلها إذا ذكرها) (1).
وقد يقع النسيان والخطأ في المنهيات عنها لذواتها ، وهو ثلاثة أقسام :
الأول : ما لا يتعلق بالغير ، كمن نسي فأكل طعاما نجسا ، أو جهل كون هذا خمرا فشربه. وهذا أيضا يرتفع فيه الحكم والإثم ، لأن الحد - مثلا - للزجر ، وذلك إنما يكون مع الذّكر.
الثاني : ما يتعلق بالغير ، كمن أكل ما أودعه نسيانا أو مخطئا ، فالمرفوع هنا الإثم والمؤاخذة بالتعزير ، وإن كان عليه الضمان.
الثالث : ما يتعلق بحق اللّه وحق العباد ، كالقتل خطأ أو نسيانا ، أو الإفطار في الصوم المتعين ، وهذا كالثاني فتجب الكفارة والدية.
وربما جعل هذا من (2) خطاب الوضع ، كوجوب القيمة على النائم المتلف ، والصبي والمجنون ، وإن لم يتصور فيهم تكليف. ومثله الوطء بالشبهة ، ويمين الناسي. وفي حنث الجاهل نظر ، كما لو حلف على ترك شي ء في وقت معين ، ففعله جاهلا به والأقرب العدم ، للحديث (3).
ص: 195
ولو علق الظهار على فعل ، ففعله جاهلا به ، فالإشكال أقوى في وقوع الظهار.
واتفق الأصحاب (1) على أن الجاهل والناسي لا يعذران في قتل الصيد في الإحرام ، ولا في ترك شرط أو فعل من أفعال العبادات (2) المأمور بها ، إلا ما ذكروه من الجهر والإخفات ، والقصر والتمام.
وبعضهم (3) جعل ما هو من قبيل الإتلاف في محرمات الإحرام لا حقا بالصيد ، كحلق الشعر ، وقلم الظفر ، وقلع الحشيش والشجر في الحرم.
وقالوا : يعذر المخطئ في دفع الزكاة إلى من ظهر غناه أو فسقه إذا اجتهد (4) ، وفي بقاء الليل مع المراعاة فيظهر خلافه ، وفي دخول الليل فيكذب ظنه.
ومن ذلك : الصلاة خلف من يظنه أهلا فبان غير ذلك.
ويشكل في الجمعة ، لأن من شرط صحتها الإمام فينبغي البطلان لو ظهر عدم الأهلية. وكذا في العيد مع الوجوب.
ولو أخطأ جميع الحاج فوقفوا العاشر ، فالأقرب الإجزاء ، للمشقة العامة ، وكثرة وقوعه ، بخلاف الثامن ، لندور شهادة الزور مرتين في شهرين ، بخلاف ما إذا أخطأ شرذمة قليلة فوقفوا العاشر ، فان التفريط
ص: 196
منهم ، حيث لم يبحثوا.
الإكراه يسقط أثر التصرف ، إلا في مواضع :
الأول : إسلام الحربي ، والمرتد عن ملة ، والمرأة مطلقا ، لا (1) الذمي.
الثاني : الإرضاع ، فينشر الحرمة لارتباطه بصورة وصول اللبن إلى الجوف لا بالقصد.
الثالث : الإكراه على القتل.
الرابع : الإكراه على الحدث بالنسبة إلى الصلاة ، والطواف.
الخامس : طلاق المظاهر والمولي ، ومع الاشتباه بين الزوجين ، حيث حكمنا بصحة الإكراه.
السادس : بيع المال في الحقوق الواجبة ولا سبيل إلا به.
السابع : قبض الزكاة والخمس ، فإنه معتبر مع الإكراه.
الثامن : اختيار من أسلم على أكثر من النصاب لو أدى الأمر إلى إكراهه عليه.
التاسع : تولي الحد والقصاص لو لم يباشره أحد إلا بالإكراه.
واختلف في الإكراه على فعل المنافي في الصلاة (2) عدا الحدث.
ص: 197
وفي تحقق الإكراه على زنا الرّجل (1) ، والأظهر تحققه ، لأن الانتشار طبيعي ، والإكراه إنما هو على الإيلاج ، وهو متصور (2).
الأمر والنهي متعلقهما إما أن يكون معينا أو مطلقا.
والمعين إما أن يتجزأ ، أو لا.
والأول : يشترط في الأمر الاستيعاب ، كمن حلف على الصدقة بعشرة ، فلا يكفي البعض.
وفي النهي يكفي الانتهاء عن البعض ، فلو حلف على أن لا يأكل رغيفا ، أو علق الظهار به ، فلا بد من استيعابه في تحقق الحنث ، فلا يحنث بالبعض ، لأن الماهية المركبة تعدم بعدم جزء منها.
وقال بعض العامة (3) : يحنث في النهي بمباشرة البعض ، فلو أكل بعض الرغيف المحلوف على تركه حنث ، لأنه إذا أكل منه شيئا فقد أخرجه عن مسمى الرغيف ، لأن الحقيقة المركبة تعدم بعدم بعض أجزائها.
قلنا : توجه النهي إنما هو على المجموع.
واما ما لا يتجزأ فلا فرق بين الأمر والنهي ، كالقتل ، لو حلف
ص: 198
على فعله أو تركه.
واما المطلق : ففي الأمر يخرج عن العهدة بجزئي من جزئياته ، وفي النهي لا بد من الامتناع عن جميع جزئياته ، فلو حلف على أكل رمان ، برّ بواحدة ، ولو حلف على تركه ، لم يبرّ إلا بترك الجميع ، لأن المطلق في جانب النهي كالنكرة المنفية في العموم مثل : لا رجل عندنا.
النهي في العبادات مفسد وإن كان بوصف خارج ، كالطهارة بالماء المغصوب ، والصلاة في المكان المغصوب.
وفي غيرها مفسد إذا كان عن نفس الماهية ، لا لأمر خارج ، فالبيع المشتمل على الرّبا فاسد لا يملك المساوي ولا الزائد ، والبيع وقت النداء صحيح ، لأن النهي في الأول لنفس ماهية البيع ، وفي الثاني لوصف خارج.
وفي ذبح الأضحية والهدي بآلة مغصوبة ، نظر.
الأفعال الكثيرة في الصلاة محرّمة ، والقليلة مكروهة ، فهل هذا مع القلة مستحب أم مباح؟
مما يجب على الفور من الأوامر بدليل من خارج : دفع الزكاة ، والخمس ، والدين عند المطالبة ، لأن المقصود من شرعية الزكاة والخمس سدّ خلة الفقراء ومعونة الهاشميين ، ففي تأخيرهما إضرار بهم لا سيما مع تعلق أطماعهم به. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن تأخيرهما كالتقرير على المعصية. والحكم بين الخصوم ، لأن المعتدي (1) منهما ظالم فيجب كفه عن ظلمه ، كالأمر بالمعروف ، ولأن ظلمه مفسدة ناجزة ، وتأخر الحكم يحققها. وإقامة الحدود والتعزيرات ، لأن في تأخيرها تقليل الزجر عن المفاسد المترتبة عليها ، إلا أن يعرض ما يوجب التأخير ، كخوف الهلاك ، والسراية حيث لا يكون القصد إتلاف النّفس.
ومنها : الجهاد ، وقتال البغاة ، لئلا تكثر المفسدة.
ومنها : الحج عندنا ، لدلالة الأخبار عليه (2). ولأن تأخيره كالتفويت ، لجواز عروض العارض ، إذ قد يتمادى تأخيره سنة إلى سنة ، والسلامة فيها من العوارض ، مشكوك فيه.
ومنها : الكفارات ، لأنها كالتوبة الواجبة على الفور من المعاصي.
ورد السلام ، لفاء التعقيب في قوله تعالى ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (3).
ص: 200
ولأن المسلّم يتوقعه في الحال فتأخيره إضرار به.
حكم ما يتصرف من (جميع) في العموم حكم (جميع) ، (كأجمع) و (جمعاء) ، و (أجمعين) ، وتوابعها المشهورة (كأكتع) وأخواته.
(وسائر) شاملة إما لجميع ما بقي ، أو للجميع على الإطلاق ، على اختلاف تفسيرها (1). وكذا : (معشر) ، و (معاشر) ، و (عامة) و (كافة) ، و (قاطبة) ، و (من) الشرطية والاستفهامية ، وفي الموصولة خلاف (2).
وقال بعضهم (3) : (ما) الزمانية للعموم ، وإن كانت حرفا ، مثل ( إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (4) وكذا المصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل مثل : يعجبني ما تصنع. و (أي) في الشرط والاستفهام ، وإن اتصل بها (ما) مثل (أيما امرأة نكحت). و (متى) و (حيث)
ص: 201
و (أين) و (كيف) و (إذا) الشرطية إذا اتصلت بواحد منها (ما). و (مهما) و (أنى) و (أيان) و (إذما) ، إذا قلنا باسميتها ، كما قاله المبرد (1) ، وعلى قول سيبويه أنها حرف (2) ليست من هذا (3) الباب.
قيل (4) : و (كم) الاستفهامية.
وحكم اسم الجمع كالجمع ، كالناس ، والقوم ، والرهط. والأسماء الموصولة كالذي والتي ، إذا كان تعريفهما للجنس ، وتثنيتهما وجمعهما.
وأسماء الإشارة المجموعة مثل قوله تعالى ( أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (5) ، ( ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (6). وكذا مثل ( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلّا أَحْصاها ) (7) ، ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ ) (8). وكذا الواقع في سياق الشرط مثل ( لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) (9) بعد قوله : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ) (10).
وقال الجويني في البرهان : (أحد) للعموم في قوله تعالى : ( وَإِنْ
ص: 202
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) (1).
وكذا قيل (2) : النكرة في سياق الاستفهام الّذي هو للإنكار ، مثل قوله تعالى ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (3) ، ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ) (4).
قيل : وإذا أكد الكلام بالأبد ، أو الدوام ، أو الاستمرار ، أو السرمد ، أو دهر الداهرين ، أو عوض وقط في النفي ، أفاد العموم في الزمان. وهو بين الإفادة لذلك.
قيل : وأسماء القبائل بالنسبة إلى القبيلة مثل : ربيعة ، ومضر ، والأوس ، والخزرج ، وغسان ، وإن كان التسمية لأجل ماء معين (5).
اللفظ بثمن معين ، وإنما جاء التعيين من جهة العرف ، فان العرف ثمن المثل ، لا الغبن ولا النقصان.
واعترض عليهم (1) : بأن مطلق الفعل أعم من المرة والمرات ، ووجوده يستلزم المرة قطعا ، لأن المرة إن وجدت فظاهر ، وإن وجدت المرات وجدت المرة بالضرورة.
فالحاصل : أن الحقيقة العامة (تارة) تقع في رتب (2) مرتبة بالأقل والأكثر ، والجزء والكل. (وتارة) تقع في رتب (3) متباينة. فالقسم الأول يستلزم فيه العام الخاصّ. والقسم الثاني لا يستلزم ، كالحيوان.
وحينئذ مسألة الوكالة تستلزم الأمر بالبيع بأقل ثمن يمكن ، الّذي هو مطلق الثمن ، وهو لازم للعمل بمقتضى اللفظ ضرورة ، فاللفظ دال عليه بالالتزام.
فان قيل. لا نسلم أن هذا من قبيل العام ، بل من قبيل الكل والجزء ، ولا ريب أن وجود الكل مستلزم لوجود الجزء ، فالأمر بالكل أمر بالجزء.
فالجواب : أن الأقل مع الأكثر لهما ماهية كلية مشتركة بينهما ، وذلك معنى العموم ، كقولنا : تصدق بمال ، فإنه مشترك بين الأقل والأكثر ، فيكون أعم منهما ، إذ يحمل على الأقل والأكثر ، كما يحمل الحيوان على الإنسان والفرس.
ص: 204
قسم بعض الأصوليين ترك الاستفصال في حكاية الحال إلى أقسام :
الأول : أن يعلم اطلاع النبي صلى اللّه عليه وآله على خصوص الواقعة ، فلا ريب أن حكمه لا يقتضي العموم في كل الأحوال.
الثاني : أن يثبت بطريق ما استفهام (1) كيفيتها ، وهي تنقسم إلى حالات يختلف بسببها الحكم ، فينزل إطلاق الجواب عنها منزلة اللفظ الّذي يعم تلك الأحوال كلها.
الثالث : أن يسأل عن الواقعة باعتبار دخولها في الوجود لا باعتبار أنها وقعت ، فهذا أيضا يقتضي الاسترسال على جميع الأقسام التي تنقسم عليها ، إذ لو كان الحكم خاصا ببعضها لاستفصل ، كما فعل النبي صلى اللّه عليه وآله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر : (أ ينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا : نعم. قال : فلا إذن) (2).
الرابع : أن تكون الواقعة المسئول عنها قد وقعت في الوجود ، والسؤال عنها مطلق ، فالالتفات إلى القصد الوجوديّ يمنع القضاء على الأحوال كلها ، والالتفات إلى إطلاق السؤال وإرسال الحكم من غير تفصيل يقتضي استواء الأحوال في غرض المجيب ، فمن قال بالعموم لأجل ترك الاستفصال (3)
ص: 205
التفت إلى هذا الوجه ، وهو أقرب إلى مقصود الإرشاد ، وإزالة الإشكال.
والفرق بين ترك الاستفصال وقضايا الأحوال : أن الأول ما كان فيه لفظ وحكم من النبي صلى اللّه عليه وآله بعد السؤال عن قضية يحتمل وقوعها على وجوه متعددة ، فيرسل الحكم من غير استفصال عن كيفية تلك القضية كيف وقعت ، فان جوابه يكون شاملا لتلك الوجوه ، إذ لو كان مختصا ببعضها والحكم يختلف لبيّنه النبي صلى اللّه عليه وآله.
وأما قضايا الأعيان ، فهي الوقائع التي حكاها الصحابي ليس فيها سوى مجرد فعله صلى اللّه عليه وآله ، أو فعل الّذي يترتب الحكم عليه ، ويحتمل ذلك الفعل وقوعه على وجوه متعددة ، فلا عموم له في جميعها ، فيكفي حمله على صورة منها.
فمن ترك الاستفصال وقائع :
من أسلم على أكثر من أربع وخيره النبي صلى اللّه عليه وآله ، كغيلان بن سلمة (1) ، وقيس بن الحارث (2) ، وعروة بن مسعود الثقفي (3) ، ونوفل بن معاوية (4).
ومنه : حديث فاطمة بنت أبي حبيش (5) : أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال لها - وقد ذكرت أنها تستحاض - : (إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فاغتسلي وصلي) (6) ولم يستفصل هل لها عادة قبل ذلك أم لا؟ وبه احتج من
ص: 206
قدّم من الأصحاب (1) التمييز على العادة.
ومنه : سؤال كثير من الحاج النبي صلى اللّه عليه وآله عند الجمرة في التقديم والتأخير فيجيب : (لا حرج) (2) ، ولم يستفصل بين العمد والسهو ، والجهل والعلم.
ومنه : جوابه (بنعم) للمرأة التي سألت عن الحج عن أمها بعد موتها (3) ، ولم يستفصل هل أوصت أم لا؟
ومن قضايا الأعيان : ترديد النبي صلى اللّه عليه وآله ماعزا أربع مرات في أربعة مجالس (4). فيحتمل أن يكون (قد وقع) (5) ذلك اتفاقا ، لا أنه شرط ، فيكفي فيه حمله على أقل مراتبه.
ص: 207
وحديث أبي بكرة (1) (2) لما ركع ومشى إلى الصف حتى دخل فيه ، فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله : (زادك اللّه حرصا فلا تعد) (3) إذ يحتمل كون المشي غير كثير عادة ، كما يحتمل الكثرة ، فيحمل على ما لم يكثر ، فلا يبقى في الحديث حجة على جواز المشي في الصلاة مطلقا.
ومنها : صلاة النبي صلى اللّه عليه وآله على النجاشي (4) ، إن حملت على غير الدعاء. فقيل (5) : يحتمل أن يكون قد رفع له سريره حتى شاهده ، كما رفع له بيت المقدس حتى وصفه (6).
وردّ : ببعد هذا الاحتمال. ولو وقع لأخبرهم به ، لأن فيه خرق
ص: 208
عادة ، فيكون معجزة ، كما أخبرهم بقصة بيت المقدس (1).
وحمله بعضهم (2) على أن النجاشي لم يصلّ عليه ، لأنه كان يكتم إيمانه ، فلم يصل قومه عليه الصلاة الشرعية ، فمن ثمَّ قالوا : لا يصلى على الغائب الّذي صلى عليه. ولك أن تقول : لعل هذه خصوصية للنجاشي رحمه اللّه ،
تخصيص العام ، فلا يكون جمعا بين الدليلين ، بل هذا راجع إلى أن العام هل يخص بالمفهوم أم لا؟ وكذا ليس منه : (لا تعتقوا رقبة) و (لا تعتقوا رقبة كافرة) قضية للعموم ، فهو تخصيص أيضا ، ولا دليل عليه بخلاف النكرة في سياق الأمر ، فإنها مطلقة لا عامة. وكذا في النفي.
فالحاصل : إن حمل المطلق على المقيد إنما هو في الكلي ، كرقبة ، لا في الكل كما مثلنا به.
(أخراهن (1) بالتراب) (2). وروينا ، ورووا : (أولاهن) (3). فيبقى المطلق على إطلاقه ، لكن رواية (أولاهن) أشهر ، فترجحت بهذا الاعتبار.
أفعال النبي صلى اللّه عليه وآله حجة ، كما أن أقواله حجة. ولو تردد الفعل بين الجبلي (4) والشرعي فهل يحمل على الجبلي ، لأصالة عدم التشريع أو على الشرعي (5) ، لأنه صلى اللّه عليه وآله بعث لبيان الشرعيات؟
وقد وقع ذلك في مواضع :
منها : جلسة الاستراحة ، وهي ثابتة من فعله صلى اللّه عليه وآله (6).
وبعض العامة (7) زعم أنه إنما فعلها بعد أن بدن وحمل اللحم ، فتوهم
ص: 211
أنه للجبلة.
ومنها : دخوله من ثنية كداء (1) ، وخروجه من ثنية كدي (2) ، فهل ذلك لأنه صادف طريقه ، أو لأنه سنة؟ وتظهر الفائدة في استحبابه لكل داخل.
ومنها : نزوله بالمحصب (3) لما نفر في الأخير (4) ، وتعريسه لما بلغ ذا الحليفة (5) (6). وذهابه بطريق في العبد ، ورجوعه بآخر.
والصحيح حمل ذلك كله على الشرعي.
ص: 212
ما فعله عليه السلام ويمكن فيه مشاركة الإمام دون غيره فالظاهر أنه على الإمام ، كما كان عليه السلام يقضي الديون عن الموتى ، لكونه (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (1) وهذا حاصل في الإمام ، والمروي عن أهل البيت عليهم السلام : أن على الإمام أن يقضي عنه (2).
ولما أقرّ النبي صلى اللّه عليه وآله أهل خيبر على الذّمّة قال : (أقركم ما أقركم اللّه) (3) فيجوز ذلك أيضا للإمام.
وقيل (4) : بالمنع ، لأن المعنى الّذي فعله النبي صلى اللّه عليه وآله لأجله هو انتظار الوحي ، وهو لا يمكن في حق الإمام.
كل فعل ظهر فيه قصد القربة ، ولم يعلم وجوبه ، اختلف فيه هل هو على الوجوب في حقنا أم الندب؟ خلاف (5). وذلك في مواضع :
ص: 213
منها : الموالاة في الوضوء والتيمم ، بل وفي الغسل ، وفي الطواف والسعي ، وخطبة الجمعة وصلاتها ، وكذلك العيد. وعندنا يراعى ذلك حسبما يأتي في الأحكام.
ومنها : القيام في الخطبة ، والحمد ، والثناء ، والمبيت بمزدلفة. وكل ذلك صح عندنا وجوبه.
(وتارة) بالإمامة ، كالجهاد ، والتصرف في بيت المال. (وتارة) بالقضاء ، كفصل الخصومة بين المتداعيين بالبينة أو اليمين أو الإقرار :
وكل تصرف في العبادة فإنه من باب التبليغ.
وقد يقع التردد في بعض الموارد بين القضاء والتبليغ :
فمنه : قوله عليه السلام : (من أحيا أرضا ميتة (1) فهي له) (2). فقيل (3) : تبليغ وإفتاء ، فيجوز الاحياء لكل أحد ، أذن الإمام فيه أم لا. وهو اختيار بعض الأصحاب (4). وقيل : تصرف بالإمامة ، فلا يجوز الاحياء إلا بإذن الإمام ، وهو قول الأكثر (5).
ص: 215
ومنه : قوله عليه السلام لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني. فقال لها.
(خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف) (1). فقيل (2) : إفناء ، فتجوز المقاصة للمسلط ، بإذن الحاكم وبغير اذنه. وقيل (3) : تصرف بالقضاء ، فلا يجوز الأخذ إلا بقضاء قاض.
ولا ريب أن حمله على الإفتاء أولى ، لأن تصرفه عليه السلام بالتبليغ أغلب ، والحمل على الغالب أولى من النادر.
فان قيل : فلا يشترط إذن الإمام في الاحياء حينئذ.
قلنا : اشتراطه يعلم من دليل خارج لا من هذا الدليل.
ومنه : قوله عليه السلام : (من قتل قتيلا فله سلبه) (4).
ص: 216
فقيل : فتوى فيعم ، وهو قول ابن الجنيد (1). وقيل (2) تصرف بالإمامة ، فيتوقف على إذن الإمام ، وهو أقوى هنا ، لأن القضية في بعض الحروب ، فهي مختصة بها. ولأن الأصل في الغنيمة أن تكون للغانمين لقوله تعالى ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ... ) (3) الآية.
فخروج السلب منه ينافي ظاهرها. ولأنه كان يؤدي إلى حرصهم على قتل ذي السلب دون غيره ، فيختل نظام المجاهدة ، ولأنه ربما أفسد الإخلاص المقصود من الجهاد. ولا يعارض بالاشتراط (بإذن الإمام) (4) ، لأن ذلك إنما يكون عند مصلحة غالبة على هذه العوارض.
الإجماع ، وهو حجة ، والمعتبر فيه قول المعصوم عندنا.
وإنما تظهر الفائدة في إجماع الطائفة مع عدم تمييز المعصوم بعينه.
فعلى هذا لو قدر خلاف واحد أو ألف معروفو النسب فلا عبرة بهم ، ولو كانوا غير معروفين قدح ذلك في الإجماع.
ص: 217
وعند العامة خلاف في اعتبار النادر ، هل يلحق بجنسه أو بنفسه (1)؟
ويتفرع على ذلك : طول مجلس المتعاقدين بما يخرج به عن العادة ، فعندنا يبقى الخيار ، إلحاقا له بجنسه (2).
ولو أنت بولد لستة أشهر التحق به ، وإن ندر. وكذا السنة في الأصح.
ومن الإجماع : المسمى بالسكوتي ، ولا أثر له عندنا ، ولا لما يترتب عليه من حضور المالك عقد الفضولي وسكوته ، ومن سكوت البائع على وطء المشتري في مدة الخيار. أما حلق المحل رأس المحرم فالسكوت فيه موجب للكفارة. وكذا سكوت المحمول عن المجلس عن الفسخ مع تمكنه من الكلام. واعتبر الشيخ (3) السكوت فيمن قال لرجل : هذا ابني.
وألحق به نسبه.
للشرع معلل بالمصالح ، فهي إما في محل الضرورة ، أو محل الحاجة ، أو التتمة ، أو مستغنى عنها ، إما لقيام غيرها مقامها ، وإما لعدم ظهور اعتبارها (4).
ص: 218
فاشتراط عدالة المفتي في محل الضرورة ، لصون الأحكام ، وحفظ دماء الناس ، وأموالهم ، وأبضاعهم ، وأعراضهم. وأبلغ منه الإمام.
وكذا يشترط عدالة القاضي ، وأمين الحكم (1) ، والوصي ، وناظر الوقف ، والساعي ، للضرر العظيم بالاعتماد على الفاسق فيها. وكذا في الشهادة والرواية ، لأن الضرورة تدعو إلى حفظ الشرع وصونه عن الكذب.
وكل موضع تشترط فيه العدالة فهي معتبرة في نفس الأمر ، وفي الطلاق وجه أنه يكتفي بالظاهر ، إذ يقع غالبا في العوام والبوادي والقرى فاشتراط العدالة في نفس الأمر (حرج وتعطيل) (2).
ودوام العدالة شرط في القاضي والمفتي ، لأنا محتاجون إلى دوام الاعتماد على قولهما ، وإنما يتم بالعدالة.
وأما ما هو في محل الحاجة ، فكعدالة الأب والجد في الولاية على الولد. والمؤذن ، لاعتماد أصحاب الأعذار على قوله في الأوقات. وإمام (3) الجماعة أبلغ ، لقوله عليه السلام : (الأئمة ضمناء) (4).
وأما ما هو في محل التتمة ، فكالولاية في عقد النكاح ، لأن طبع الولي (يدفعه عن الخيانة) (5) والتقصير في حق المولى عليه ، إلا أنه
ص: 219
لما كان بعض الفساق لا يبالي بذلك جعلت العدالة من المكملات ، إذ ينعقد عندنا نكاح الفاسق من الأولياء. وفيه للشافعية اثنا عشر وجها (1).
ومنه : ولاية تجهيز الموتى ، لأن فرط شفقة القريب يبعثه على الاحتياط في ذلك ، ولكن مع العدالة يكون أبلغ (2) ، فلهذا كانت العدالة هنا يستحب اعتبارها.
وأما المستغنى عنه لعدم ظهور اعتبار الحاجة إليه ، فكالإقرار ، لأن قضية الطبع حفظ النّفس والمال عن الإتلاف ، فلا يقرّ بما يضره. ومن اعتبر عدالة المقرّ في المرض ، فلأن المال قد صار في قوة ملك الغير ، فصار الإقرار كالشهادة التي تعتبر فيها العدالة في محل الضرورة (3).
واما المستغنى عنه لقيام غيره مقامه ، فكالتوكيل ، والإيداع ، إذا صدرا من المالك ، فإنه يجوز له توكيل الفاسق وإيداعه إذا وثق به ، إذ طبع المالك يرغبه عن إتلاف ماله ، فيكفي ظنه في جوازهما. فلو كان المالك سفيها قاصر النّظر ، لم يجز له التصرف.
ولو كان المودع غير المالك لضرورة ، اعتبر في الودعي العدالة ، لوجوب الاحتياط عليه في مال غيره بالوازع الشرعي. وكذا التوكيل فيما يحتاج إلى الأمانة ، كإمساك السلعة ، والتصرف فيها. أما في مجرد العقد فلا.
ص: 220
ضبط كثير من الأصحاب (1) الاستفاضة : بما يتاخم العلم.
وبعضهم (2) : بمحصل العلم. وهذه مأخوذة من الخبر المستفيض عند الأصوليين (3) ، وهو المشهور ، بحيث يزيد نقلته عن ثلاثة.
وقال بعضهم (4) : يثبت بالاستفاضة اثنان وعشرون (5) : النسب إلى الأبوين ، والموت ، والنكاح ، والولاية ، والعزل ، والولاء ، والرضاع ، وتضرر الزوجة ، والوقوف ، والصدقات ، والملك المطلق ، والتعديل ، والجرح ، والإسلام ، والكفر ، والرشد ، والسفه ، والحمل ، والولادة ، والوصاية ، والحرية ، واللوث قيل : والغصب (6) ، والدين والعتق ، والإعسار.
ص: 221
كل ما جاز الشهادة به جاز الحلف عليه ، وما لا فلا. وخرج عن ذلك : الحلف على تملك ما اشتراه من ذي اليد إذا قلنا لا يشهد له بالملك ، وإن جوزناه فلا خروج.
آخر إن اعتبرنا في الاستفاضة العلم جاز للحاكم أن يحكم بعلمه المستفاد منها ، وإلا ففيه نظر. وقد نصوا على أن الحاكم يحكم بعلمه في التعديل والجرح (1) مع أنه من الاستفاضة.
وقد يفرّق : بأن التعديل كالرواية العامة لجميع الناس ، لأن نصبه عدلا يعم كل مشهود عليه ، فهو كالرواية التي لا يشترط في قبولها العلم ، بخلاف باقي الأحكام الثابتة بالاستفاضة فإنها أحكام على أشخاص بعينهم ، فاعتبر فيها العلم القطعي.
يجوز الاعتماد على القرائن في مواضع.
وهذه مأخوذة من إفادة الخبر المحتف بالقرائن للعلم ، إما بمجرد القرائن ، أو بها وبالأخبار. ولكن معظم هذه المواضع فيها ظن غالب لا غير ، كالقبول من المميز في الهدية ، وفتح الباب ، واللوث ، وجواز
ص: 222
أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن ، والتصرف في الهدية من غير لفظ ، والشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع ، والعري في الخلوة ، وشبهه.
وقد بنى الشيخ (1) مباشرته لمحظور الإحرام على أن عمده عمد أو خطأ. وأجمعنا على أنه لو تعمد الكلام في الصلاة ، والإفطار في الصيام ، لبطلا.
ويترتب على ذلك : تحريم المصاهرة بوطئه إما عن عقد أو شبهة ، أو إيقاب ذكر.
والمجنون أبعد في اعتبار عمده. واعتبره بعض الأصحاب (2) في الزنا ، محصنا أو غير محصن.
كل ما توعد الشرع عليه بخصوصه فإنه كبيرة. وقد ضبط ذلك بعضهم (3) فقال : هي :
الشرك باللّه ، والقتل بغير حق ، واللواط ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والرّبا ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والغيبة بغير حق ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور ، وشرب الخمر ، واستحلال الكعبة ، والسرقة ، ونكث الصفقة (4) ، والتعرب بعد الهجرة ،
ص: 224
واليأس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه ، وعقوق الوالدين.
وكل هذا ورد في الحديث (1) منصوصا عليه بأنه كبيرة.
وورد أيضا (2) : النميمة (3) ، وترك السنة ، ومنع ابن السبيل فضل الماء (4) وعدم التنزه في البول ، والتسبب إلى شتم الوالدين ، والإضرار في الوصية.
وهناك عبارات أخر في حد الكبيرة :
منها : كل معصية توجب الحد (5).
ومنها : التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بكتاب أو سنة (6).
ص: 225
ومنها : كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث فاعلها بالدين (1).
ومنها : كل معصية توجب في جنسها حدا (2).
وهذه الكبائر المعدودة عند التأمل ترجع إلى ما يتعلق بالضروريات الخمس التي هي مصلحة : الأديان ، والنفوس ، والعقول ، والأنساب ، والأموال.
فمصلحة الدين (منها) ما يتعلق بالاعتقاد ، وهو إما كفر ، وهو الشرك باللّه ، أو ليس بكفر ، وهو ترك السنة ، إذا لم ينته إلى الكفر ، وتدخل فيه مقالات المبتدعة من الأمة كالمرجئة ، والخوارج ، والمجسمة. وقد يكون الاعتقاد في نفسه خطأ وإن لم يسم كفرا ولا بدعة ، كالأمن من مكر اللّه ، واليأس من روح اللّه. ويدخل فيه كل ما أشبه كالسخط بقضاء اللّه ، والاعتراض في قدره.
وقد يكون من أفعال القلوب المتعدية ، كالكبر ، والمكر ، والحسد ، والغل للمؤمنين.
ومن مصالح الدين ما يتعلق بالبدن ، إما قاصرا ، كالإلحاد في الحرم ، فيدخل فيه شبه كإخافة المدينة الشريفة ، والإلحاد فيها ، والكذب على النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام.
وإما متعديا ، وقد نصّ منها على النميمة ، والسحر ، والفرار (3) من الزحف ، ونكث الصفقة ، لأن ضرره متعد.
وأما مصلحة النّفس ، فكالقتل بغير حق. وتدخل فيه جناية الطرف.
ص: 226
وأما العقل ، فشرب الخمر. ويدخل فيه كل مسكر. وأكل الميتة ، وسائر النجاسات في معناه ، لاشتمال الخمر على النجاسة.
وأما الأنساب ، فالزنا ، واللواط ، وتدخل فيها القيادة. ومن النسب : عقوق الوالدين ، والإضرار في الوصية.
تنبيه (1)
جاء في الحديث : (لا صغيرة مع الإصرار) (2). والإصرار : إما فعليّ ، وهو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة. وإما حكمي ، وهو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها.
أما من فعل الصغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصر ، ولعله مما تكفره الأعمال الصالحة من الوضوء والصلاة والصيام ، كما جاء في الاخبار (3).
ص: 227
التوبة بشروطها تزيل الكبائر والصغائر.
وهل يشترط الاستبراء مدة تظهر فيها توبته وصلاح سريرته ، كما قال اللّه تعالى ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا ) (1)؟ الظاهر ذلك ، لأنا لا لتحقق التوبة بدونه.
ولا تقدير لتلك المدة. وقدرها بعض العامة (2) بسنة ، أو نصفها.
وهو تحكم ، إذ المعتبر ظن صدقه في توبته ، وهو يختلف بحسب الأشخاص والأحوال المستفادة من القرائن.
على أن بعض الذنوب يكفي في التوبة منها تركها بمجرده من غير استبراء ، كمن عرض عليه القضاء مع وجوبه فامتنع ثمَّ عاد ، أو أوصى إليه وعلم بعد الموت فامتنع وعاد ، أو تعينت عليه الشهادة فامتنع وعاد ، أو عضل (3) المرأة عن التزويج ثمَّ عاد.
ويظهر من كلام الشيخ (4) رحمه اللّه عدم الاستبراء بالكلية ،
ص: 228
لأنه قال في المشهور بالفسق : (يقول له الحاكم : تب أقبل شهادتك) (1)
قاعدة (2) - [69]
كل مسلم أخبر عن أمر ديني يفعله فالظاهر قبوله.
وهذه مخرجة من قبول قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو أمر النبي بكذا ، أو نهى عن كذا ، لأن الظاهر من حال الصحابي تثبته ومعرفته باللغة ، فلا يطلق ذلك إلا بعد تيقن ما هو أمر أو نهي.
وفي هذه القاعدة مسائل : كإخبار المسلم بوكالته في بيع أو وصية ، أو بأن ما في يده طاهر أو نجس ، أو بأنه طهر الثوب المأمور بتطهيره.
يشترط في بعض الأمور هنا ذكر السبب عند اختلاف الأسباب ، كما لو أخبر بنجاسة الماء ، فإنه يمكن أن يتوهم ما ليس بسبب سببا ، وإن كانا عدلين. اللّهم إلا أن يكون المخبر فقيها يوافق اعتقاده اعتقاد المخبر.
ومنه : عدم قبول شهادة الشاهد باستحقاق الشفعة ، أو بأن بينهما رضاعا محرما ، لتحقق الخلاف في ذلك ، أو بأولية شهر ، أو بإرث زيد من عمرو ، أو بكفر. والصور كثيرة.
ص: 229
ويشكل منها : لو شهدا بانتقال الملك عن زيد إلى عمرو ولم يبينا (1) سبب الانتقال ، أو بأن حاكما جائز الحكم حكم بهذا ولم يبيناه (2) ، أو شهدا على من باع عبدا من زيد أنه عاد إليه من زيد ولم يبينا (3) إقالة أو بيعا ، مثلا.
وبالجملة : لا ينبغي للشاهد أن يرتب الأحكام على أسبابها ، بل وظيفته أن ينقل ما سمعه منها من إقرار أو عقد بيع أو غيره ، أو ينقل ما رآه ، وإنما ترتيب المسببات وظيفة الحاكم. فالشاهد سفير والحاكم متصرف.
كلما كان هناك دليل من خارج على وجوب جزئي معين في الماهية الكلية (4) اتبع ، ولو قلنا بأن المطلق لا يتناول الجزئي المعين ، كوجوب إخراج الزكاة عند الحول ، والخمس ، وكالبيع بثمن المثل نقدا بنقد البلد.
ويقرب من هذه القاعدة : أن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه ، كالتوكيل في التصرفات التي لا تضبطها اليد الواحدة فيوكل في الزائد عن الممكن له ، وكالإذن في أداء الدين فان من لوازمه إثباته.
ص: 230
النهي في غير العبادات قد يقتضي الفساد ، بأن يكون النهي عن الشي ء لعينه ، أو لوصفه اللازم له.
فالأوّل : كبيع الميتة ، والخمر ، ونكاح المحرمات.
والثاني : كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة ، والرّبا ، ونكاح الشغار.
ومنه : عدم جواز ترخص العاصي بسفره ، كقاطع الطريق ، والآبق عن مولاه ، لأن تحريم السفر عليه لوصفه الّذي أنشأه لأجله ، ففي إباحة الترخص له بالقصر وشبهه من رخص السفر إعانة له على المعصية.
فإن قلت : ذبح الغاصب للشاة منهي عنه ، لوصف لازم ، وهو كونها ملك الغير ، مع وقوع الذكاة عليها.
قلت : الوصف اللازم هنا خارج عن الذبح ، إذ الذبح مستوف شرائطه ، والشاة باقية على ملك مالكها. وهذا بخلاف النهي عن ذبح الذمي فإنه يحرم الذبيحة ، أو بالظفر والسن ، أو بغير الحديد مع إمكانه ، فإن هذا النهي يرجع إلى وصف لازم للذكاة من حيث هي ذكاة.
علم إباحة الجرح وإشكال جوازه ، فمن ثمَّ قيل (1) : لا يختن الخنثى ، لأنه جرح مع الإشكال ، فلا يكون مباحا.
ووجه وجوبه (2) عملا بصورة الغلفة. ولا يجوز له حلق لحيته ، لجواز رجوليته. ويجب عليه الستر في الصلاة كالمرأة ، فلو ترك احتمل عدم البطلان (3) ، للشك في كونه امرأة. ويحرم عليه النّظر إلى النساء والرّجال ، كما يحرم على القبيلين النّظر إليه. وهو في الشهادة كالمرأة ، وكذا في الحجب.
الألف واللام يستعمل من معانيها عند الفقهاء والأصوليين ثلاثة ، لأنه إما أن ينظر إلى متعلقها من حيث هو هو ، وهو الحقيقة ، كقوله : اشتر الخبز ، أو اللحم ، ولا يريد شيئا بعينه أو من حيث هو مستغرق لتمام ما يندرج تحته ، وهو الجنس. أو من حيث هو خاص جزئي ، وهو العهد. فمتى كان في الكلام معهود يمكن عود التعريف إليه تعين له ، وإن لم يكن معهودا ولا قرينة عهد ، فالأصل أنها لاستغراق الجنس ، لأن الأعم أكثر فائدة ، فالحمل عليه أولى ، فإن تعذر
ص: 232
الجنس حمل على الحقيقة ، كقوله : لا آكل الخبز ، ولا أشرب الماء.
ومنه قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام ( وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ) (1).
ومن قال : اسم الجنس لا يعم (2) ، قال : لاشتباهه بتعريف الحقيقة.
ويرد على العامة الإشكال في قولهم : الطلاق يلزمني ، لم لا يقع الثلاث ، وإن لم ينوها (3)؟ لأن التعريف الجنسي يقتضي العموم ، وتعميم جميع عدد الطلاق متعذر ، والحمل على الثلاث ممكن ، فيحمل عليه.
وأجاب بعضهم (4) : بأن الأيمان تتبع المنقولات العرفية غالبا دون الأوضاع اللغوية ، وتقدم عليها عند التعارض. وقد انتقل الكلام في الحلف بالطلاق إلى حقيقة الجنس دون استغراقه ، فلذلك كان الحالف لا يلزمه إلا الماهية المشتركة ، فلا يزاد على الواحدة.
ووجهه : أنه لما امتنع حمله على جميع الجنس من أعداد الطلاق انصرف إلى تعريف حقيقة الجنس فكأنه قال : أنت طالق بعضا من
ص: 233
الطلاق. وذلك البعض مجهول ، والواحد فيه متيقن ، فينصرف اللفظ إليه.
الموالاة معتبرة في العقد ونحوه. وهو مأخوذ من اعتبار الاتصال بين الاستثناء والمستثنى منه.
وقال بعض العامة (1). لا يضر قول الزوج بعد الإيجاب : الحمد لله والصلاة على رسول اللّه ، قبلت نكاحها.
ومنه : الفورية في استتابة المرتد فتعتبر في الحال. وقيل (2) : إلى ثلاثة أيام.
ومنه : السكوت في أثناء الأذان إن كان كثيرا أبطله ، وكذا الكلام عند طول الفصل.
ومنه : السكوت الطويل في أثناء القراءة ، أو قراءة غيرها خلالها. وكذا التشهد.
ومنه : تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع ، فلو تعمدوا أو نسوا حتى ركع فلا جمعة. واعتبر بعض العامة (3) تحريمهم معه قبل الفاتحة.
ص: 234
ومنه : الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنه تكرار ، والموالاة في سنة التعريف ، فلو رجع في أثناء المدة استؤنف ، ليتوالى الإنجاش (1) ، وقيل (2) يبني.
الاستثناء المستغرق باطل إجماعا.
واختلف فيما لو عطف بعض العدد على بعض ، إما في المستثنى أو المستثنى منه ، هل يجمع بينهما حتى يكونا كالكلام الواحد ، كقوله : عليّ درهم ودرهم إلا درهما؟
وقال ابن الحداد (3) من العامة : لا يجمع ، لأن الجملتين المعطوفتين تفردان بالحكم.
وإن لم تكن (الواو) للترتيب ، كما إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق ، لا يقع إلا واحدة. بخلاف : طالق اثنتين ،
ص: 235
عندهم (1).
ويتفرع على ذلك : له عليّ ثلاثة إلا درهمين ودرهما ، وكذا : له علي درهمان ودرهم إلا درهما ، وله علي ثلاثة إلا درهما ودرهما ودرهما.
الاستثناء من (الإثبات نفي ، ومن) (2) النفي إثبات.
ويشكل عليه : واللّه لا أجامعك في السنة إلا مرة ، فمضت السنة ولم يجامع أصلا ، فإن قضية القاعدة أنه يحنث ، لأنه يقضي إثبات المرة ، فيجب الجماع مرة (3).
ووجه عدم الحنث : أن المقصود باليمين أن لا يزيد على الواحدة ، فيرجع ذلك إلى أن العرف يجعل (إلا) بمعنى (غير) (4).
ومنه : لو قال : لا لبست ثوبا إلا الكتان ، فقعد عاريا. فعند العامة (5) لا تلزمه الكفارة.
ويشكل عليهم : بما ذكرناه.
وجوابه : أن (إلا) في الحلف انتقلت عرفا إلى معنى الصفة
ص: 236
مثل (سوى ، وغير) فكأنه قال : لا لبست ثوبا غير الكتان ، فلا يكون الكتان محلوفا عليه ، فلا يضر تركه ولا لبسه (1).
ومنه : لو قال : ليس له علي عشرة إلا خمسة. فإنه قيل (2) لا يلزمه شي ء ، لأن النفي الأول توجه إلى مجموع المستثنى والمستثنى منه ، وذلك عشرة إلا خمسة ، وهي خمسة ، فكأنه قال : ليس له علي خمسة.
ووجه اللزوم : أن النفي ب- (ليس) لم يتوجه إلا في العشرة ، ثمَّ الاستثناء بعد ذلك من المنفي ب- (ليس) فكان إثباتا للخمسة.
والتحقيق : أنه إن نصب (خمسة) فلا شي ء ، وإن رفع فخمسة.
الاستثناء المجهول باطل ، فيبطل في المبيعات وسائر العقود ، كقوله : بعتك الصبرة إلا جزء منها. وفي صحيح مسلم (3) عن جابر : (أن النبي صلى اللّه عليه وآله نهى عن الثنيا).
وربما جاءت في الإيقاعات ، كقوله : عبيدي أحرار إلا واحدا ، أو : أعطوه نخلي إلا نخلة.
ولو قال : بعتك الصبرة إلا صاعا منها ، وهي متفرقة ، وأراد
ص: 237
واحدا من المتفرقة ، ولم يعينه ، بطل البيع. وكذا لو قال : بعتك صاعا من الصبرة متفرقة ، لأنه غرر يسهل اجتنابه. أو لأن العقد لم يجد موردا يحمل عليه. وإن كانت الصبرة مجتمعة وقال : بعتكها إلا صاعا منها ، فان كانت مجهولة الصيعان بطل البيع ، لعدم معرفة قدر المبيع. وكذا لو قال : بعتك صاعا منها ، إن نزلناه على الإشاعة ، وإلا صح إذا ظن اشتمالها عليه. وإن كانت معلومة فاستثنى منها عددا معينا صح قطعا. واختلف في تنزيله ، فقيل (1) : هو بمثابة جزء من الجملة كالربع ، والعشر ، فلو (2) كانت الصبرة أربعة أصواع فالربع. وعلى هذا ، حتى إذا تلف منها شي ء يقسط (3) بالحساب.
وقيل (4) : بل المبيع جزء مشاع (5) منها مقدر ، فلو لم يبق إلا صاع بقي البيع فيه. وعليه دل خبر بريد بن معاوية عن الصادق عليه السلام (6). والأول اختيار أكثر العامة.
ص: 238
للمطلق والمقيد أربعة (1) أقسام :
الأول : اختلاف الحكم والسبب. ولا حمل فيه اتفاقا ، مثل : ( فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) (2) مع قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (3) فإنه لا يقتضي تقييد المساكين بالعدالة.
الثاني : أن يتحد السبب والحكم ، فيحمل المطلق على المقيد قطعا ، مثل ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (4) مع قوله ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ) (5) ، وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (6) مع قوله ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) (7).
وقول النبي صلى اللّه عليه وآله : (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) (8) ، وفي حديث آخر : (فأبردوها من ماء زمزم) (9).
ص: 239
ومثل : (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ..) (1). وذكر الغراب منها. وفي حديث آخر : تقييد الغراب بالأبقع (2).
ومن أمثلة اتحادهما وهما نفيان ، قوله صلى اللّه عليه وآله : (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل) (3) مع قوله في الحديث الآخر : (إلا يدا بيد ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز) (4).
الثالث : أن يختلف السبب ويتحد الحكم ، كتحرير رقبة في الظهار مطلقة ، مع تقييدها في القتل بالإيمان.
الرابع : أن يتحد السبب ويختلف الحكم ، ففي الثبوت مثل : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (5) مع قوله تعالى في آية الوضوء : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (6) فان السبب فيهما واحد ، وهو التطهير للصلاة بعد الحدث ، والحكم مختلف بالغسل في أحدهما والمسح في الآخر.
ص: 240
المطالبة بتفسير المبهم على الفور مأخوذ من امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كمن أقر بمبهم إما ابتداء أو عقيب دعوى. وفيه أوجه إذا امتنع من الفور : يحبس حتى يجيب (1) ، وجعله ناكلا فيرد اليمين ، وأنه إن أقرّ بغصب مبهم وامتنع من بيانه حبس ، وإن أقرّ بدين مبهم جعل ناكلا. وكذا اختيار ما زاد على أربع ، أو طلق مبهمة ، أو ادعى القاضي دينا لميت لا ولي له.
التأويل إنما يكون في الظواهر دون النصوص.
ولا يقال تأويل لبيان المجمل ، كالمشترك إذا حمل على أحد معنييه بقرينة.
وللتأويل مراتب :
أعلاها : ما كان اللفظ محتملا له ، ويكثر دخوله في الكلام.
ويليه : ما يكون احتماله فيه بعد ، لكن تقوم قرينة تقتضي ذلك.
فان زاد البعد أشكل القبول والرد ، من جهة القرينة قوة وضعفا.
وأبعده : ما لا يحتمله اللفظ ولا تقوم عليه قرينة ، فيرد.
وهذا وارد في الأدلة ويجي ء مثله في ألفاظ المكلفين مثل : طلقتك ،
ص: 241
للرجعية ، يحتمل الإنشاء والاخبار ، فإذا ادعى الاخبار قبل منه.
وهذا في الحقيقة تبين لأحد محتملي اللفظ المشترك وليس تأويلا.
ولو كان اسمها (طالق) أو (حرة) فناداهما بذلك ، فان قصد النداء فلا تحث ، وإن قصد الإيقاع ، احتمل الوقوع. وإن أطلق ، فالأقرب الحمل على النداء ، للقرينة.
ومنه : تخصيص العام وتقييد المطلق بالنية (1) ، كما يقع في الأيمان.
ومنه : طلقتك ، أو أنت طالق ، وادعى سبق لسانه من غير قصد ، وأنه أراد أن يقول : طلبتك.
ومنه : لو صدقت الزوج في عدم الرجعة ثمَّ رجعت إلى تصديقه هل يقبل إقرارها ، لإمكان اخبارها عن ظنها ثمَّ تبين لها خلافه؟
ويشكل : بالإقرار بالمحرمية والرضاع ثمَّ يرجع ، فإنه لا يقبل ، مع قيام الاحتمال فيه.
وفرق بينهما : بأن المحرمية والرضاع أمران ثبوتيان وعدم الرجعة نفي ، والإحاطة في الثبوت أقرب من النفي. ومن ثمَّ لو ادعت عليه الطلاق البائن فرد اليمين عليها ، فحلفت ، ثمَّ رجعت لم يقبل منها ، لاستنادها إلى الإثبات.
ولو زوجت وقالت : لم أرض ، ثمَّ رجعت قبل ، لرجوعه إلى النفي ، لأنها أنكرت حق الزوج فرجعت إلى التصديق ، فيقبل ، لحقه.
وقيل (2) لا يقبل في جميع هذه المواضع ، لأن النفي في فعلها كالإثبات ، ولهذا يحلف على القطع.
ص: 242
وكالتأويل في الرجوع عن الإقرار بقدر الثمن بشراء وكيله وشبهه ، فتسمع دعواه.
ولو قال : له علي شي ء ، ففسره بحبة حنطة قيل (1) يقبل لأنه شي ء يحرم أخذه ويجب رده. ولو فسره بوديعة قبل ، لأن عليه ردها ، ويضمنها لو فرط وتلفت. ولو فسره بالعيادة ورد السلام لم يقبل ، لبعد التأويل.
ولو قال : له علي حق ، احتمل فيه (2) قبول رد السلام.
ويشكل : بأن الحق أخص ، ويبعد قبول الأخص بتأويل لا يقبله الأعم. ولو قيل : بأن العرف يأبى تأويله في الوجهين أمكن.
ومنه : دعوى إقامة القبالة في الدين ، والرهن.
قد يثبت ضمنا ما لا يثبت أصلا.
وهو مأخوذ من قاعدة المقتضي (3) في أصول الفقه ، وهي : ما إذا كان المدلول مضمرا ، لضرورة صدق المتكلم ، كرفع الخطأ ، أو لتوقف صحة اللفظ عليه (كاسأل القرية) ، أو لاقتضاء الشرع ذلك مثل : (أعتق عبدك عني) فإنه يقتضي تقدير سبق انتقال الملك إليه.
كما لو حكمنا بثبوت أول الصوم بشهادة الواحد ، فإنهم يفطرون عند كمال الثلاثين ضمنا ، وإن كان هلال شوال لا يثبت به.
ص: 243
وقيل (1) لا إفطار.
ويتفرع عليه (2) : حلول الدين ، وتعليق الظهار ، وغير ذلك.
أما لو شهد النساء على الولادة قبل ، ويثبت النسب ، وإن كان لا يثبت النسب بشهادتهن.
ولو وقف على الفقراء ، ثمَّ صار فقيرا ، فهنا دخل في الوقف ، وإن كان لو وقف على نفسه بطل.
وكبيع الثمرة مع الأصل ، لا يشترط فيها مع الظهور بدو الصلاح ، لأنها في ضمن الشجر.
ولو تجددت اللّقطة الثانية قبل أخذ الأولى وترك البائع للمشتري ، وقلنا لا خيار له ، لحصول التمليك ضمنا في الترك.
وكذا لو رد مشتري العبد المسلم من الكافر ، للعيب ، فإنه يدخل المسلم في ملك الكافر ضمنا ، أو وجد البائع في الثمن المعين عيبا.
والضمني في هذا أظهر.
ولو باع المريض محاباة فالزائد هبة ، ولا يشترط فيها القبض ، لأنه في ضمن البيع.
ولو قال : أعتق عبدك المستأجر عني ، صح ، وإن قلنا بمنع بيع العين المستأجرة ، لأن الملك ضمني.
وكذا لو أعتق العبد المغصوب عنه ولا يقدر الآذن على انتزاعه ،
ص: 244
فإنه يصح وإن لم يصح بيعه ، لأن الملك في ضمن العتق.
وكذا حب الزوال (1) في الحنطة بمثلها. وكذلك اللبن في الشاة إذا باعها بحالبه (2).
ولو قلنا بمذهب الشيخ (3) : أن للغسل عن الجنابة إذا كان على البدن نجاسة فغسلها بنية رفع الحدث ، وزالت ، فإنه يكون قد تضمن إزالة الحدث إزالة الخبث.
وكذا تدخل الأشجار في بيع الأرض ضمنا ، وكإرث الخيار تبعا للمال ، وإن كان الخيار وحده لا يورث.
التلاوة والأمر ، فإن صلاته لا تبطل ، لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله أمر أبيا بفتح القراءة على من يرتج عليه (1).
وهل تقوم الإشارة منه مقام اللفظ على الإطلاق؟ تظهر الفائدة في إبطال إشارة الأخرس لصلاته.
إذا تعارضت الإشارة والعبارة ففي ترجيح أيهما؟ وجهان. ويتفرع عليهما مسائل :
مثل : أصلي خلف هذا زيد ، وكان عمرا ، (أو على هذا زيد وكان عمرا) (2) ، أو على هذه المرأة ، وكان رجلا ، أو زوجتك هذه العربية ، وهي عجمية.
وقوى العامة تغليب الإشارة في الكل (3).
ومنه : بعتك هذا الفرس ، فإذا هو حمار ، وخلعتك على هذا الثوب الصوف ، فبان قطنا.
وفي الأيمان مسائل من هذا ، ومنه : لله علي إن اشتريت هذه الشاة جعلتها أضحية ، فإنه قيل (4) : بالمنع ، لأن التعليق على ملك
ص: 246
معين لا يجوز ، بخلاف ما لو قال : إن اشتريت شاة. والأصح الصحة في الموضعين.
فائدة (1)
الشهادة والرواية تشتركان في الجزم ، وتنفردان : في أن المخبر عنه إن كان أمرا عاما لا يختص بمعين فهو الرواية ، كقوله عليه السلام : (الشفعة فيما لا يقسم) (2) فإنه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة. وإن كان بمعين فهو الشهادة ، كقوله عند الحاكم : أشهد بكذا لفلان.
وقد يقع لبس بينهما في صور :
الأولى : رؤية الهلال ، فان الصوم مثلا لا يختص بمعين ، فهو رواية ، ومن اختصاصه بهذا العام دون ما قبله وما بعده ، بل بهذا الشهر ، فهو كالشهادة ، ومن ثمَّ اختلف في التعدد.
الثانية : المترجم عند الحاكم من حيث نصب (3) عاما للترجمة ،
ص: 247
ومن إخباره عن كلام معين. والأقوى التعدد في الموضعين.
الثالثة : المقوّم من حيث أنه منصوب لتقويمات لا نهاية لها ، فهو رواية ، ومن أنه إلزام لمعين (فلا يتعداه) (1).
الرابعة : القاسم من حيث نصبه لكل قسمة ، ومن حيث التعين في كل قضية.
الخامسة : المخبر عن عدد الركعات أو الأشواط ، من أنه لا يخبر عن إلزام حكم المخلوق بل للخالق سبحانه وتعالى ، فهو كالرواية ، ومن أنه إلزام لمعين لا يتعداه.
السادسة : المخبر بالطهارة أو النجاسة ، يرد فيه الشبهان (2).
ويمكن الفرق بين قوله : طهرته ، ونجسته ، لاستناده إلى الأصل هناك ، وخلافه في الإخبار بالنجاسة. أما لو كان في ملكه فلا شك في القبول.
السابعة : المخبر عن دخول الوقت.
الثامنة : المخبر عن القبلة.
التاسعة : الخارص.
والأقرب في هذه الخمسة الاكتفاء بالواحد إلا في الاخبار بالنجاسة ، لو (كان ملكه) (3) ، إلا أن تكون يده ثابتة عليه بإذن المالك.
أما المفتي فلا خلاف في أنه لا يعتبر فيه التعدد ، وكذا الحاكم ، لأنه ناقل عن اللّه عزوجل إلى الخلق فهو كالراوي. ولأنه وارث
ص: 248
النبي ، والإمام ، الّذي هو واحد.
وأما قبول الواحد في الهدية ، والإذن في دخول دار الغير ، فليس برواية ، إذ هو حكم خاص لمحكوم عليه خاص ، بل هو شهادة ، لكن اكتفى فيها بالواحد عملا بالقرائن المفيدة للقطع ، ولهذا قبل وإن كان صبيا. ومنه : إخبار المرأة في إهداء العروس إلى زوجها.
ولو قيل : بأن هذه الأمور قسم ثالث خارج عن الشهادة والرواية وإن كان مشبها للرواية كان قويا (1) ، وليس إخبارا ، ولهذا لا يسمى الأمين (2) المخبر عن فعله شاهدا ولا راويا ، مع قبول قوله وحده ، كقوله : هذا مذكى ، أو ميتة ، لما في يده. وقول الوكيل : بعت ، أو : أنا وكيل ، أو هذا ملكي.
ولا يرد على الفرق (3) : أن من الشهادات ما يتضمن العموم ، كالوقف العام ، والنسب المتصل إلى يوم القيامة ، وكون الأرض عنوة أو صلحا. ومن الروايات ما يتضمن حكما خاصا ، كتوقيت الصلوات بأوقاتها المخصوصة. لأن العموم هناك عارض ، وفي الحقيقة التعيين هو المقصود بالذات فإنها شهادة على الواقف ، وهو شخص واحد ، وليس العموم من لوازم الوقف. وكذا النسب المشهود عليه إلحاق معين بمعين ، والعموم طرأ عليه. وأما أوقات الصلوات وإن كانت متحدة بحسب صلاة إلا أنها شرع عام على جميع المكلفين.
ص: 249
الأول ، لو روى أحد المتنازعين رواية تقتضي الحكم له ، أو العبد رواية تقتضي عتقه ، فالأقرب السماع ، لأن العموم مع وازع العدالة يمنع التهمة في الخصوص.
الثاني : معنى (شهد) : حضر ، ومنه ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (1). وأخبر ، ومنه : الشهادة عند الحاكم. ومعنى : علم ، نحو (2) (على كل شي ء شهيد) (3) أي : عليم.
وقوله تعالى ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ ) (4) يحتمل الاخبار ، والعلم.
ومعنى (روى) تحمل ، فراوي الحديث يحمله عن شيخه ، ومن ثمَّ سمي البعير راوية ، لحمله الماء ، وأطلق على المزادة (5) للمجاورة ، وليس هذا من باب (أروى ، وروى) وإلا لقيل : مروية ، ومرويّة.
ص: 250
الثالث : رجح (1) الأصحاب (2) في بعض صور الشهادة بالأعدل ، فالأكثر ، كما في الرواية. ومنع بعضهم (3) : الأمرين.
وآخرون (4) : الترجيح بالعدد ، لأن الحاكم نصب لدرء (5) الخصومة وقطع المنازعة ، فلو فتح باب الكثرة أمكن طلب الخصم الإمهال ليحضر شهودا أكثر ، ولو زورا فإذا أحضر أمكن خصمه طلب مثله ، فيتمادى النزاع. بخلاف العدالة ، فإن العدالة لا تستفاد إلا من الحاكم فلا يمكن السعي في زيادتها (6).
وهذا خيال واه ، لأنا نمنع الإمهال أولا ، بل يحكم الحاكم بحسب
ص: 251
الحال الحاضر لما كان الإمهال يؤدي إلى هذا الإخلال.
سلمنا ، لكن المراد بالأعدل ظاهرا ، وقد يسعى في تحصيل الأعدل أيضا ظاهرا ، ولو زورا ، فان العصمة إذا ارتفعت اتسع المجال.
فالمحذور لازم. ولأن من القضايا ما يمكن فيها تكثير الشهود وتبديلهم ، كالشهادة على بيع معين ، فإنه يمكن أن يحضر جماعة (فيأتي ببعضهم) (1) ثمَّ يسعى لإكمال الباقي. أو على إقرار ، فيسعى لسماع الإقرار ثانيا وثالثا ، وذلك ممكن في الكثرة والأعدلية.
الإنشاء هو : القول الّذي يوجد به مدلوله في نفس الأمر (2). فقولنا : (يوجد به مدلوله) ، احتراز من الخبر ، فإنه تقرير لا إيجاد. وقولنا : (يوجد) المراد به الصلاحية للإيجاد ، فلو صدر الإنشاء من سفيه أو ناقص الأهلية لم يخرج عن كونه إنشاء ، لصلاحية اللفظ لذلك ، وإنما امتنع تأثيره لأمر خارج. وقولنا : (في نفس الأمر) ليخرج به العقد المكرر ، فإنه قول صالح لإيجاد مدلوله ظاهرا ولا يسمى إنشاء ، لعدم الإيجاد في نفس الأمر.
ومن قال بالكلام النفسيّ ، (3) قال : إن إنشاء السببية ، والشرطية ، والمانعية ، بل الأحكام الخمسة ، قائمة بذات اللّه تعالى ، ثمَّ أنه تعالى لما أنزل الكتاب دالا على ما قام بذاته زيد في الحد
ص: 252
(أو متعلقه) لأن الكلام النفسيّ لا دلالة فيه ولا مدلول ، وإضافته متعلق ومعلق.
ولكن الظاهر أن النيات إنشاء وهي من أفعال القلوب ، وقد قال كثير منا بوقوع النذر والعهد بالنية (1).
فالأولى أن يقال : الإنشاء هو : قول أو عقد يوجد به مدلوله.
ولا حاجة إلى (نفس الأمر) ، لأن الصيغة الثانية لا تسمى إنشاء إلا مجازا مستعارا.
والفرق بينه وبين الخبر من أربعة أوجه (2).
الأول : أن الإنشاء سبب لمدلوله ، والخبر ليس سببا.
الثاني : أن الإنشاء يتبعه مدلوله ، والخبر يتبع مدلوله. والمراد بتبعية الخبر لمدلوله : أنه تابع لتقريره في زمانه ، ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا ، لا أنه تابع لمخبره في وجوده ، وإلا لم يصدق إلا في الماضي ، فإن الحاضر مقارن ، فهو مساو في الوجود ، والمستقبل وجوده بعد الخبر ، فكان متبوعا لا تابعا.
الثالث : قبول الخبر للتصديق ومقابله ، بخلاف الإنشاء.
الرابع : أن الخبر يكفي فيه الوضع الأصلي ، والإنشاء قد يكون منقولا عن أصل أو ضع في صيغ العقود والإيقاعات ، وقد يقع إنشاء بالوضع الأصلي ، كالأمر والنهي ، فإنهما ينشئان الطلب بالوضع الأول.
ص: 253
الإنشاء أقسام : القسم ، والأمر ، والنهي ، والترجي ، والتمني (1) ، والعرض ، والنداء.
قيل (2) : وهذه متفق على كونها إنشاء في الإسلام والجاهلية.
وأما صيغ العقود فالصحيح أنها إنشاء. وقال بعض العامة (3) : بل هي أخبار على الوضع اللغوي ، والشرع قدم مدلولاتها قبل النطق بها بآن ، لضرورة تصديق المتكلم بها ، والإضمار أولى من النقل وهو تكلف.
وإنما يلزم من عدمه العدم. وبالتلازم في العدم ، يخرج المانع ، لأنه لا يلزم من عدمه عدم شي ء ، إنما يؤثر وجوده في العدم.
وقولنا : لذاته ، احتراز من مقارنة وجود السبب عدم الشرط ، أو وجود المانع ، فلا يلزم الوجود ، أو قيام سبب آخر حالة عدم الأول مقامه ، فلا يلزم العدم.
وأما الشرط فهو : الّذي يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، ولا يشتمل على شي ء من المناسبة في ذاته بل في غيره (1).
فبالأول : يخرج المانع. وبالثاني : السبب. وبالثالث : يحترز من مقارنة وجوده لوجود السبب فيلزم الوجود ، ولكن ليس لذاته بل لأجل السبب. أو قيام المانع ، فيلزم العدم لأجل المانع لا لذات الشرط.
والقيد الرابع : احتراز من جزء العلة ، فإنه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، إلا أنه يشتمل على جزء المناسبة ، فان جزء المناسب مناسب (2).
وأما المانع فهو : الّذي يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته (3).
فبالأول : خرج السبب.
وبالثاني : الشرط.
والثالث : احتراز من مقارنة عدمه لعدم الشرط ، فيلزم العدم ،
ص: 255
أو وجوب السبب فيلزم الوجود. بل بالنظر إلى ذاته لا يلزم شي ء من ذلك.
فظهر أن المعتبر من (المانع) وجوده ، ومن (الشرط) عدمه ، ومن (السبب) وجوده وعدمه. وقد اجتمعت في الزكاة ، فالنصاب سبب ، والحول شرط ، والمنع من التصرف مانع (1). وفي الصلاة ، فإن الدلوك سبب في الوجوب ، والبلوغ شرط ، والحيض مانع.
والشرط قد يكون لغويا ، وقد يكون عرفيا ، وقد يكون شرعيا ، وقد يكون عقليا.
فالشروط اللغوية هي التعاليق مثل : تعليق الظهار على الدخول ، وهي متلازمة مع المشروط في الوجود والعدم ، فهي أسباب في المعنى.
والعرفية : كالسلم مع صعود السطح.
والشرعية : كالطهارة مع الصلاة.
والعقلية : كالحياة مع العلم.
فإطلاق اسم الشرط عليها إما بطريق الاشتراك ، أو بطريق الحقيقة والمجاز ، بناء على أن المجاز خبر من الاشتراك ، أو بطريق التواطي والقدر المشترك بينها توقف الوجود على الوجود مع قطع النّظر عما عدا ذلك (2).
من قبيل الشرط اللغوي دائرة على ألسنة الأفاضل فلنذكرها حسبما
ص: 256
قرروها وهي ما أنشد بعضهم :
ما يقول الفقيه أيده اللّه *** ولا زال عنده إحسان
في فتى علق الطلاق بشهر *** قبل ما قبل قبله رمضان(1)
وليمثل عندنا في الظهار ، أو في النذر وشبهه.
ويمكن إنشاد هذا البيت على ثمانية : بالتقديم ، والتأخير ، بشرط استعمال الألفاظ في حقائقها دون مجازاتها مع بقاء الوزن. ولو طرحنا اعتبار الحقيقة والوزن وطوّلنا البيت بمثله اشتمل على سبعمائة وعشرين مسألة فقهية. وهلم جرا. ولا تتعجب من ذلك فان هنا بيتا يتفق فيه بحسب التغيير أربعون ألف بيت وثلاثمائة وعشرون بيتا ، وهو :
علي إمام جليل عظيم *** فريد شجاع كريم عليم
قلته محاذاة لقول بعض العلماء (2) :
لقلبي (3) حبيب مليح ظريف *** بديع جميل رشيق لطيف
وهو من بحر المتقارب ، لأن اللفظين الأولين لهما صورتان ، فإذا ضربتا في مخرج الثالث صارت ستة ، فإذا ضربت في مخرج الرابع صارت أربعة وعشرين ، فإذا ضربت في مخرج الخامس صارت مائة وعشرين ، فإذا ضربت في الستة ، فسبعمائة وعشرون ، فإذا ضربت في
ص: 257
السبعة فخمسة آلاف وأربعون ، ثمَّ في مخرج الثامن تبلغ ما قلناه.
ومن هذا يعلم أن صور النكس في الوضوء مائة وعشرون. ولو اعتبرنا الترتيب بين الرجلين كانت سبعمائة وعشرين (1).
ومنه يعلم الترتيب في قضاء الفوائت على القول بالوجوب أو الاستحباب.
فإذا أردنا في بيت السؤال تكثيره فمعنا في البيت ثلاثة من لفظ (قبل) وثلاثة من لفظ (بعد) فيجمع بين الستة ، فيخرج البيت عن الوزن فنقول :
قبل ما قبل قبل بعد ما بعد بعده رمضان
ثمَّ لنا أن ننوي بكل (قبل) وبكل (بعد) شهرا من شهور السنة ، أي شهر كان ، من غير مجاورة (2) ولا التفات إلى ما بينهما من عدة الشهور ويكون بالمجاز ، فإن أي شهر أخذته فبينه وبين الشهر الّذي نسبته إليه بالقبلية والبعدية علاقة ، من جهة أنه من شهور السنة معه أو هو قبله من حيث الجملة أو بعده من حيث الجملة ، أو هو شبيه بما يليه (3) من جهة أنه شهر موصوف بالقبلية (4) ، إلى غير ذلك من علائق المجاز.
ثمَّ إنا نعمد إلى هذه الألفاظ الستة (5) فتظهر نسبتها إلى رمضان ،
ص: 258
ويظهر من ذلك الشهر المسئول عنه. ثمَّ نورد عليها لفظة أخرى من لفظ (قبل) و (بعد) إلى آخر السنة. ومتى أفضى الأمر إلى التداخل بين صورتين في شهر نوينا به آخر من شهور السنة حتى تحصل المغايرة ، فيحصل من الألفاظ الستة ما ذكرناه. وإن زدت عليها لفظة (قبل) أو (بعد) تراقى الأمر إلى ما لا نهاية له.
وقال ابن الحاجب (1) في أماليه (2) : هذا البيت ينشد على ثمانية أوجه : لأن ما بعد قبل الأولى قد يكون قبلين ، وقد يكون بعدين ، وقد يكونان مختلفين ، فهذه أربعة أوجه كل منها قد يكون قبله (قبل) ، وقد يكون قبله (بعد) صارت ثمانية. فأذكر قاعدة يبنى عليها تفسير الجميع ، وهو : أن كل ما اجتمع فيه منها (قبل) و (بعد) فألقهما ، لأن كل شهر حاصل بعد ما هو قبله ، وحاصل قبل ما هو بعده ، فلا يبقى حينئذ إلا بعده رمضان ، فيكون شعبان ، أو قبله رمضان ، فيكون شوالا ، فلم يبق إلا ما جميعه قبل ، أو جميعه بعد ، فالأوّل هو الشهر الرابع من رمضان ، لأن معنى
ص: 259
قبل ما قبل قبله رمضان : شهر تقدم رمضان قبل شهرين قبله ، وذلك ذو الحجة. والثاني هو الرابع أيضا ولكن على العكس ، لأن معنى بعد ما بعد بعده رمضان : شهر تأخر رمضان عنه بعد شهرين بعده ، وذلك جمادى الآخرة. فإذا تقرر ذلك : فقبل ما قبل قبله رمضان ذو الحجة ، لأن ما قبل قبله شوال ، وقبله رمضان ، فهو ذو الحجة. وقبل ما بعد بعده رمضان شعبان ، لأن المعنى بعده رمضان وذلك شعبان. وقبل ما قبل بعده رمضان شوال ، لأن المعنى أيضا قبله رمضان ، وذلك شوال. وقبل ما بعد قبله رمضان شوال ، لأن المعنى أيضا قبله وذلك شوال. فهذه الأربعة الأول. ثمَّ نأخذ الأربعة (1) الأخر على ما تقدم ، فان بعد ما قبل قبله رمضان شوال ، لأن المعنى قبله رمضان ، وذلك شوال. وبعد ما بعد بعده رمضان جمادى الآخرة ، لأن ما بعد بعده شعبان ، وبعده رمضان فهو جمادى الآخرة. وبعد ما قبل بعده رمضان شعبان ، لأن المعنى بعده رمضان وذلك شعبان. وبعد ما بعد قبله رمضان ، شعبان ، لأن المعنى بعده. رمضان ، وذلك شعبان.
وقال : بعض البصريين : هنا مباحث (2) :
الأول : يصح في (ما) ثلاثة أوجه : أن تكون زائدة ، وموصولة ، ونكرة موصوفة. ولا تختلف الأحكام مع شي ء من ذلك.
ص: 260
فالزائدة ، نحو قولنا : قبل قبل قبله رمضان والموصولة تقديرها : للذي استقر قبل قبله رمضان ، ويكون الاستقرار في (قبل) الّذي بعد ما هو قبلها (1). وتقدير النكرة الموصوفة : قبل شي ء استقر قبل قبله رمضان ، فيكون الاستقرار العامل في الظرف الكائن بعدها (2) صفة لها.
الثاني : أن هذه القبلات والبعدات ظروف زمان ، مظروفاتها الشهور هاهنا ، ففي كل (قبل) أو (بعد) شهر هو المستقر فيه. مع أن اللغة تقبل غير هذه المظروفات ، لأن القاعدة إنا إذا قلنا : قبله رمضان ، احتمل أن يكون شوالا ، فإن رمضان قبله ، واحتمل أن يكون يوما واحدا من شوال ، فان رمضان قبله ، لصدق قولنا : رمضان قبل العيد حقيقة ، لكن يجب هنا كون المظروف شهرا ، للسياق ، ولضرورة الضمير في (قبله) العائد إلى الشهر المسئول عنه. إلا أن يتجوز في الشهر ببعضه ، تسمية للجزء باسم الكل. إلا أن الفتوى هنا مبنية على الحقيقة.
هذا تقرير (قبله) الأخير المصحوب بالضمير. وأما (قبل) المتوسط فليس معه ضمير يضطرنا إلى ذلك ، بل علمنا أن مظروفه شهر بالدليل العقلي ، لأن رمضان إذا كان قبل قبل الشهر المسئول عنه وتعين أن أحد القبلين - وهو الّذي أضيف إلى الضمير - مظروفه شهر ، تعين أن مظروف القبل المتوسط شهر أيضا ، لأنه ليس بين شهرين من جميع الشهور أقل من شهر ، فيصدق عليه أنه قبل شهر وبعد شهر ، بل لا يوجد بين شهرين عربيين إلا شهر ، فلذلك تعين أن مظروف هذه الظروف شهور تامة. وأما شهور القبط فإن أيام
ص: 261
النسي ء (1) متوسطة بين مشتري (2) وتوت.
الثالث : أن الإضافة تكفي فيها أدنى ملابسة كقوله تعالى ( وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ ) (3) أضيفت الشهادة إليه ، لأنه شرعها ، لا لأنه شاهد أو مشهود عليه. وكذلك (دين اللّه) (4) و (فنفخنا فيه من روحنا) (5) ، (ولله على الناس حج البيت) (6).
ومنه : قول أحد حاملي الخشبة : خذ طرفك. وقال الشاعر :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة (7)
لأنها كانت تقوم إلى عملها وقت طلوعه. فالقدر المشترك بين هذه الإضافات المختلفة المعاني هو أدنى ملابسة ، كما قاله صاحب المفصل (8).
إذا تقرر ذلك : فهذه القبلات أو البعدات المضاف بعضها إلى
ص: 262
بعض تحتمل لغة أن يكون كل ظرف أضيف إلى مجاوره أو إلى مجاور مجاوره فصاعدا ، فيكون الشهر الّذي قبل رمضان هو ربيع ، فان ربيعا قبل رمضان بالضرورة ، بل يومنا هذا قبل يوم القيامة.
وهذا كله حقيقة غير أن الظروف التي في البيت حملت على المجاور الأول ، لأنه الأسبق إلى الفهم مع أن غيره حقيقة أيضا.
الرابع : إنك تعلم إنك إذا قلت : قبل ما قبل قبله رمضان ، فالقبل الأول هو عين (1) رمضان ، لأنه مستقر في ذلك الظرف.
وكذلك : بعد ما بعد بعده رمضان ، فالبعد الأخير (2) هو رمضان ، لأنه مستقر فيه ، ومتى كان القبل الأول هو رمضان فالقبلان الكائنان بعده شهران آخران متقدمان على الشهر المسئول عنه. وكذلك في : بعد ما بعد بعده رمضان ، البعدان الأخيران شهران آخران متأخران عن الشهر المسئول عنه ، فالترتيب (3) دائما في الشهر (4) أربع ، الشهر المسئول عنه وثلاث ظروف لغيره.
الخامس : إنا إذا قلنا : قبل ما بعد بعده رمضان ، فهل نجعل هذه الظروف متجاورة على ما نطق بها في اللفظ؟ فيتعين أن يكون الشهر المسئول عنه هو رمضان ، فان كل شي ء فرض له أبعاد كثيرة متأخرة عنه فهو قبل جميعها ، فرمضان قبل بعده ، وبعد بعده ، وجميع ما يفرض من ذلك إلى الأبد هو قبل تلك الظروف كلها الموصوفة
ص: 263
ب- (بعد) ، وإن كانت غير متناهية. وكذلك يصدق أيضا أنه بعد قبله ، وقبل قبله ، إلى الأزل ، فيكون رمضان أيضا.
قال (1) : ويبطل ما قاله ابن الحاجب (2) ، فإنه عين في الأول شوالا وفي الثاني شعبان. ويقتضي ما ذكرناه ، أن يكون الشهر المسئول عنه هو رمضان في المسألتين.
أو نقول : مقتضى اللغة خلاف هذا التقدير (3) ، وأن لا تكون هذه الظروف المنطوق بها مرتبة على ما هي عليه في اللفظ ، بل قولنا : قبل ما بعد بعده ، فبعد الأولى المتوسطة بين قبل وبعد متأخرة في المعنى ، وقبل المتقدمة متوسطة بين البعدين منطبقة على بعد الأخيرة ، وتكون بعد الأخيرة بعدا وقبلا معا ، وليس ذلك محالا ، لأنه بالنسبة إلى شهرين واعتبارين. وتقدير (4) ذلك : أن العرب إذا قالت : (غلام غلام غلامي) ، فهؤلاء الأرقاء منعكسون في المعنى ، فالغلام الأول هو الغلام الأخير الّذي ملكه عبد (5) عبد عبدك ، والغلام الأخير هو عبدك الّذي ملكته ، وهو ملك عبد الأخير ، فملك ذلك العبد الأخير العبد المقدم ذكره. وكذلك إذا قلت : (صاحب صاحب صاحبي) فالمبدوء به هو أبعد الثلاثة عنك ، والأقرب إليك هو الأخير ، والمتوسط متوسط.
ص: 264
إذا عرفت هذا فنقول : قولنا : قبل ما بعد بعده رمضان هو شعبان ، كما قاله ابن الحاجب ، لأن شعبان بعده رمضان ، وبعد قبل (1) بعده شوال ، فقولنا قبل مجاور لبعده الأخيرة ، لأنه لم يقل : قبل بعده ، بل قبل بعد بعده ، فجعله مضافا في المعنى إلى بعد ، متأخر عن بعد ، وهو البعد الثاني ، فيكون رمضان قبل البعد الثاني [ و ] هو شوال ، فالواقع قبله رمضان. وليس لنا شهر بعده بعد ان رمضان قبل البعد الأخير إلا شعبان.
فان قلت : رمضان حينئذ هو قبل البعد الأخير وهو بعد شوال ، باعتبار البعد الأول كما بينه ، فيلزم أن يكون قبل بعد ، وهو محال ، لأن القبل والبعد ضدان ، والضدان لا يجتمعان في الشي ء الواحد (2).
قلت : مسلم أنهما ضدان ، وأنهما اجتمعا في شي ء واحد وهو رمضان ، لكن باعتبار إضافتين ، فيكون رمضان قبل باعتبار شوال ، وبعد باعتبار شعبان ، كما يكون المؤمن صديقا للمؤمن عدوا للكافر ، فتجتمع فيه الصداقة والعداوة باعتبار فريقين.
إذا عرفت هذا فيتعين إنا لو زدنا في لفظ (بعد) لفظة أخرى منه فقلنا : قبل ما بعد بعد بعده [ رمضان ] (3) ، تعين أن يكون الشهر المسئول عنه رجبا ، وإن جعلنا (بعد) أربعة ، كان جمادى الآخرة ، أو خمسة كان جمادى الأولى ، أو ستة كان (4) ربيع الثاني ، أو سبعة
ص: 265
كان شهر ربيع الأول. وكذلك كلما زاد (بعد) زاد شهر قبل ، فان هذه الشهور ظروف ، كما تقدم.
فيحصل على هذا الضابط مسائل غير متناهية ، وإذا وصلت إلى أكثر من اثني عشر ظرفا فقد دارت السنة معك فربما عدت إلى غير الشهر الّذي كنت قلته في المسألة ، ولكن من سنة أخرى. وكذا في السنتين إذا كثرت.
فإن عكسنا وقيل : بعد ما قبل قبله رمضان ، فمقتضى جعلنا الظروف متجاورة على ما هي في اللفظ يكون الشهر المسئول عنه رمضان ، فان كل شي ء بعد جميع ما هو قبله وبعد قبلاته ، وإن كثرت.
وقال ابن الحاجب : إنه شوال ، بناء على ما تقدم (1) ، وهو أن [ القبل ] (2) الأول متقدم على البعد الأول [ والبعد الأول ] (3) متوسط مضاف إلى البعد الأخير المضاف إلى الضمير العائد على الشهر المسئول عنه ، فنفرض شهرا هو شوال ، فقبله رمضان ، وقبل رمضان شعبان. والسائل قد قال : إن رمضان بعد أحد القبلين ، والقبل الآخر بعده ، وليس لنا شهران الثاني منهما رمضان إلا شوال ، فتعين. فيكون رمضان موصوفا بأنه بعد ، باعتبار شعبان ، وبأنه قبل ، باعتبار شوال ، ولا تضاد كما تقدم (4).
ص: 266
وإن زدنا في لفظة (قبل) لفظة أخرى فقلنا : بعد ما قبل قبل قبله رمضان ، كان ذا القعدة ، فإن رمضان أضيف إلى قبل قبل قبلين ، وهما شوال وذو القعدة. فإن جعلنا لفظ (قبل) أربعا كان ذا الحجة ، أو خمسا كان المحرم. وعلى هذا.
فإذا قلنا : بعد ما بعد بعده رمضان ، فهو جمادى الآخرة ، لأن السائل قد نطق بثلاث بعدات غير الشهر المسئول عنه ، فرجب البعد الأول ، وشعبان البعد الثاني ، ورمضان البعد الثالث ، والرابع هو الشهر المسئول عنه المتقدم عليها ، وذلك جمادى الآخرة.
وإذا قلنا : قبل ما قبل قبله رمضان ، تعين ذو الحجة ، لأن السائل قد نطق بثلاث من لفظ قبل ، فقبل ذي الحجة ذو القعدة ، وقبل ذي القعدة شوال ، وقبل شوال رمضان ، وهو ما قاله السائل.
وأما قبل ما قبل بعده ، أو بعد ما بعد قبله ، فقد تقدم (1) أن كل شي ء هو قبل ما هو بعده ، وبعد ما هو قبله ، وإذا اتحدت العين صار معنى الكلام : بعده رمضان أو قبله رمضان. فيكون المسئول عنه شعبان في الأول ، وشوال في الثاني.
ص: 267
جميع أجوبة البيت منحصرة في أربعة أشهر : طرفان وواسطة ، فالطرفان : جمادى الآخرة وذو الحجة ، والواسطة : شوال وشعبان.
وتقريب ضبطها : أن جميعها إن كانت قبلا فالجواب بذي الحجة ، أو بعدا فالجواب بجمادى الآخرة ، أو مركبا من قبل وبعد ، فمتى وجدت في الأخير قبل بعده ، أو بعد قبله ، فالشهر مجاور لرمضان ، فان كل شي ء هو قبل بعده ، وبعد قبله فالكلمة الأولى إن كانت حينئذ قبلا فهو شوال ، لأن المعنى : قبله رمضان ، أو بعدا فهو شعبان ، لأن التقدير : بعده رمضان.
هذا إن اجتمع آخر البيت قبل ، وبعد ، فان اجتمع قبلان ، أو بعد أن ، وقبلهما مخالف لهما ففي البعدين شعبان ، وفي القبلين شوال ، فشوال ثلاثة ، وشعبان ثلاثة. وهذه الستة هي المتوسطة بين جمادى وذي الحجة.
هذا كله على تقدير البيت على التزام الحقيقة والوزن ، وأما على خلافهما من التزام المجاز وعدم النظم ، بل يكون الكلام ، نثرا فتصير المسائل سبعمائة وعشرين مسألة.
طريان الرافع للشي ء هل هو مبطل له ، أو بيان لنهايته؟
وهي مأخوذة من أن النسخ هل هو رفع أو بيان؟
ويتفرع على ذلك مسائل : كالرد بالعيب ، والغبن ، وفسخ الخيار ،
ص: 268
ورد المسلم إليه العين بالعيب.
وقد يعبر عنها : بأن الزائل العائد هل هو كالذي لم يزل ، أو كالذي لم يعد (1)؟ فإن القائل بأنها كالذي لم يزل ، يجعل العود بيانا لاستمرار الحكم الأول ، والقائل بأنها كالذي لم يعد ، يقول برفع الحكم الأول بالزوال فلا يرجع حكمه بالعود.
ومنه (2) : لو انقطع دم المستحاضة (3) بعد الطهارة ولما يعلم أهو للبرء أم لا؟ فإنها تعيد الطهارة. فلو تركت ودام الانقطاع ، قضت ما صلت بالطهارة التي يعقبها بالانقطاع ، فان عاد الدم ففي القضاء وجهان مبنيان على أن هذا العائد كشف عن أن الدم لم يزل ، فهو بمثابة الواقع (4) ، أو أنه كالذي لم يعد ، فيجب القضاء. وهذا يتم إذا دخلت في الصلاة ذاهلة عن وجوب الطهارة ، أما مع علمها بأنها مكلفة بإعادة الطهارة فإنها تعتقد فساد صلاتها ، فلا تكون صحيحة.
ولو تعجل الفقير الزكاة ، ثمَّ ارتد في أثناء الحول ، أو فسق ، وقلنا أنها زكاة معجلة ، وعاد إلى الإسلام أو تاب (5) ، فان قلنا : إن الزائل العائد كأنه لم يزل ، أجزأت ، وإن قلنا : كالذي لم يعد لم تجز. والأول أقرب.
ومنه : ما لو عاد الملك بعد زواله إلى يد المفلس ، فهل لغريمه
ص: 269
الرجوع؟ وكذا لو عاد الملك إلى الموهوب بعد زواله ، وقلنا : إن التصرف غير مانع.
ومنها (1) لو زال ملك المرأة عن المهر ، ثمَّ عاد ، وطلقها قبل الدخول. ولو أصدقها عصيرا ، ثمَّ تخمر في يدها ، ثمَّ عاد خلا ، فهل يرجع الزوج المطلق بنصفه ، لكون عينه باقية وإنما تغيرت صفتها ، أولا يرجع بشي ء ، لأن حق الرجوع إنما يثبت إذا كان المقبوض مالا ، والمالية هنا حدثت في يدها؟ والأقرب الرجوع.
ومنها : لو دبر عبدا ، ثمَّ ارتد ، ثمَّ عاد إلى الإسلام ، فهل يعود إلى (2) التدبير؟
ولو جار في القسمة وطلقها ، ثمَّ تزوجها ، فهل يجب عليه القضاء؟
ولو فسق الحاكم ، أو جن ، أو أغمي عليه ، ثمَّ زالت الأسباب هل تعود ولاية القاضي؟
أو جرحه مسلم ثمَّ ارتد المجروح ، ثمَّ عاد بعد حدوث سرايته في زمان الردة ، أو قبله.
في جريان الأحكام قبل العلم احتمالان ، لعلهما مأخوذان من قاعدة :
ص: 270
جواز النسخ قبل الفعل.
وفروعه : كرجوع الموكل قبل علم الوكيل. وعزل القاضي ولما يعلم. ورجوع السيد عن إذن الإحرام لعبده ولما يعلم حتى أحرم.
ورجوع واهبة الليلة ولما يعلم الزوج. وصلاة الأمة مكشوفة الرّأس ولما تعلم بعتقها قبل. أو إباحة ثماره فأكل بعد رجوعه (1) ولما يعلم. أو رجع المعير فاستعملها المستعير جاهلا. والأصح أنه لا أثر لهذا كله ، بل تمضي الأحكام قبل العلم ، لامتناع التكليف بالمحال (2).
قد يثبت الحكم على خلاف الدليل لمعارضة دليل أقوى منه.
كرد الصاع عوضا عن لبن المصراة. وقبول قول ذي اليد في شراء ما في يده من العين المربحة للمضاربة. والجعالة. والعارية.
وغرامة مهر زوجة المهادن. والكتابة. ومنع سيده للتصرف في ماله لغير لاستيفاء. وجعل جارية من القلعة للدال عليها مع أنها غير معلومة ولا مقدور على تسليمها. (وكذا يقبل قول الزوجة : إن زوجي طلقني ، وقول الأمة بالعتق إذا لم يعلم لهما منازع ، وإن خالف الأصل) (3).
ص: 271
كلما وقع الإتفاق على أصول أجريت فروعه عليه. وقد يختلف فيها لعارض.
ثمَّ قد يكون الاختلاف بعد تعيين العلة ، كالاتفاق على أن العلة في طهورية الماء (1) هي إطلاقه ، ثمَّ خالف العامة في المتغير بالتراب المطروح قصدا ، أو بالملح المائي (2).
وهذا عجيب ، لأن العلة إذا كانت قائمة كيف يتخلف عنها المعلول؟؟
قالوا : هذا يسلب اسم الماء ، لأن طهوريته إما تعبد لا يعقل معناه ، وإما لاختصاصه بمزيد لطافة ورقة ونفوذ لا يشاركه فيها سائر المائعات (3). وعلى التقديرين المناط الاسم.
قلنا : مسلم لكن التقدير أنه لم يزل الاسم بهذا النوع من التغير.
ولو زال فلا إشكال في زوال الطهورية.
ص: 272
وقد يكون الاختلاف بعد تعيين العلة ، والمرجع فيه إلى العرف ، كالغرر في البيع فإنه نهي عنه (1) ، مع الاختلاف في صحة بيع سمك الآجام مع ضم القصب ، وشبهها من الأحكام ، فمن أبطله (2) يقول : لا تغني الضميمة عن معرفة المنضم (3) إليه مع كونه مقصودا ، فالغرر بحاله. ومن صححه (4) يقول : الضميمة معلومة ، والباقي في ضمنها كالحمل في بيع الدّابّة إذا شرطه ، أو مطلقا ، عند الشيخ (5) وابن البراج (6) (7).
وليس من هذا بيع الغائب ، لأن الوصف الشارح يزيل الغرر عرفا ، وما فات عن اللفظ يتدارك بخيار الرؤية ، فمثله لا يسمى
ص: 273
غررا عرفا.
وقد يكون الاختلاف بعد تعيين العلة. والمرجع فيه إلى الحس ، كزوال تغير الماء بالتراب عند من قال من الأصحاب (1) بطهارة الماء بزوال التغير كيف اتفق ، فمن قال (2) التراب مزيل فهو كالماء في التطهير ، ومن قال (3) ساتر فهو كالمسك والزعفران في عدم التطهير. فحاصل الاختلاف راجع إلى أمر حسي.
ومنه ما يكون قبل تعيين العلة والنزاع إنما هو في العلة ، كالقول بعدم طهورية الماء المستعمل ، والاختلاف في التعليل ، إما بأداء الفرض ، أو أداء العبادة.
يكون تعبدا.
وتظهر الفائدة : في تعدية الحكم عند من قال بالقياس من العامة (1) ، ونحن نذكره إلزاما لهم ، وذلك مثل : اختصاص الماء بالطهورية هل هو تعبد أو لعلة كما مر (2)؟ واختصاص التراب بذلك تعبد ، أو استعماله في الولوغ ، للجمع بين الطهورين ، أو تعبدا ، أو استظهارا (3)؟
وتظهر الفائدة : في الأشنان والدّقيق ، فعلى الأولين لا يجزيان دون الثالث.
ونحن نقول : التعدية غير ممكنة ، لأنه إذا دار الأمر بين احتمالين لا يمكن القطع بأحدهما تعيينا ، فبقي عدم التعدية بحاله.
وأما عدم تعين الحجر في الاستجمار فمأخذه عندنا النصوص الصريحة (4). وعند العامة قد يؤخذ من نهي النبي صلى اللّه عليه وآله : (أن يستنجي بروث أو عظم) (5) فإنه يعلم منه أنه لا يتعين الحجر وإلا لما كان لاستثناء هذين فائدة ، وإنما ذكرت الأحجار لتيسرها غالبا في كل موضع. وأما الأحجار في رمي الجمار فلا يحث في عدم التعدي.
ص: 275
الاستجمار رخصة.
إذ هو أمر خارج عن إزالة النجاسة المعتادة ، ولكن اكتفى الشارع به تخفيفا ، لعموم البلوى ، فلا بد فيه من النقاء وعدد الأحجار ، جمعا بين النص (1) والمعنى. والعامة اضطربوا هنا ، فمنهم (2) من رأي هذا دالا على العفو ، فجوز ترك الاستجمار ، ثمَّ عداه إلى كل نجاسة بقدر الدرهم ، إذ هو مقدار المسرية (3) غالبا.
ومنهم (4) من اعتبر النقاء ولو بواحد ، نظرا إلى المعنى ولم يعدّ الحكم إلى غيره.
ومنهم (5) من حمله على النص ، واعتبر التعدد لا النقاء.
وإذا اعتبرنا النص فالمراد بالحجر المسحة ، فيجزئ ذو الوجوه.
ص: 276
والمأخذ ما روي (أن النبي صلى اللّه عليه وآله حمل إليه حجران وروثة ، فألقى الروثة واستعمل الحجرين) (1). فان الظاهر أنه استعمل وجهي أحدهما.
ألحق بعض العامة (2) إزالة النجاسة بالماء بالرخص ، قال : لأن الماء إن كان قليلا فالجزء الّذي يلاقي النجاسة ينجس ، ثمَّ ينجس المجاور له ، ثمَّ المجاور حتى ينجس جميع ما في الآنية التي يصب منها ، بل كل جزء من الماء الكثير ولو كان ماء (البحر ، فإنه منفصل) (3) في الحقيقة ، وإن كان متصلا في الحس ، فإذا لاقته نجاسة ينجس ذلك الجزء ، فينجس ما يجاوره. وهلم جرا. وحينئذ إزالة النجاسة من باب الرخص ، والغرض بها إنما هو زوال الأعيان عن الحس.
وهذا الإلحاق باطل ، لأن الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان ، وقد جعل الشارع للنجاسة علامات خاصة كالتغير في الكثير ، أو استواء السطح ، أو علو النجاسة في القليل ، فلا يحكم بالنجاسة بدون ما نصبه الشارع إمارة لها (4).
ص: 277
الأمور الخفية جرت عادة الشارع أن يجعل لها ضوابط ظاهرة.
ومنه : الاستنجاء ، لما كانت المسرية تخفى عن العيان ، وكانت الثلاثة مما تزيل النجاسة عنها غالبا ، ضبطها بالثلاثة.
والقصر ، لما كان للمشقة ، وهي مضطربة مختلفة باختلاف المسافرين والأوقات ضبطت بالمسافة التي هي مظنة المشقة غالبا.
والعقل الّذي هو مناط التكليف ، لا يكاد يعلم ، ضبط بالأمور (المعرفة للبلوغ) (1).
وضبط التراضي في العقود ، بصيغها الخاصة. والإسلام ، بالشهادتين لأن التصديق القلبي لا يطلع عليه. وضبطت العدة الاستبرائية (2) ، بالوطء. والوطء ، بغيبوبة الحشفة.
الأول : لو علق الظهار بمشيئتها فقالت : شئت ، وهي كارهة لذلك هل يقع؟
على هذه القاعدة ينبغي أن يقع ، لأن الأمور منوطة بالظاهر.
الثاني : لو أوقع بيعا أو شراء قاصدا إلى خلاف مدلوله أو غير مريد له فهل ينفذ ظاهرا وباطنا؟
يحتمل النفوذ ، لأن الشرع وضع ذلك سببا.
ص: 278
إذا دار الوصف بين الحسي والمعنوي فالظاهر أن الحسي أولى لكونه أضبط ، ويتفرع عليه :
تحريم انهزام مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل (من الكافرين) (1) ، وثبات مائة بطل من المسلمين لمائتي ضعيف وواحد.
وحل التقسيط (2) في أطعمة الغنيمة وإن كان هناك سوق. ولا تجزئ المكسورة ، وإن كان غير مؤثر في الهزال كعند (3) الذبح. ولا يمنع الذمي من ركوب البغل وإن كان أنفس من الفرس.
كلما كانت العلة مركبة توقف الحكم على اجتماع اجزائها.
كالقتل عمدا عدوانا في ثبوت القود ، وكالسكوت لا بنية القطع ، والقطع لا بنية السكوت في القراءة لا يبطل ، واجتماعهما يبطل. وكل من نية التعدي والنقل في الوديعة لا يضمن ، وكلاهما يضمّن.
لو راج نقدان متساويان جاز بيع الوكيل بأيهما شاء. وفي جواز بيعه بهما وجهان.
ص: 279
يتوصل مدعي الخطأ إلى استعجال الإرث بالقتل.
وتوغل العامة (1) في الإمام لو قتل مورثه حدا بالرجم أو بالمحاربة ، فذكروا فيه أوجها ثلاثة ، يفرق في الثالث بين ثبوته بالبينة أو الإقرار ، ففي الأول : يمنع ، وفي الثاني : لا منع (2) ، لعدم التهمة. وفي قتله قصاصا خلاف مرتب ، وأولى بالحرمان عندهم (3).
وكذا في الميت بالتسبيب ، كنصب الميزاب ، ووضع الحجر ، والشهادة على مورثه بما يوجب رجما أو قصاصا ، وإخراج الجناح والروشن (4) فيقع على مورثه.
ومنه : ما إذا شرب مسكرا ، أو مرقدا ، أو ألقى نفسه من شاهق فجن ، فإنه يجب عليه قضاء تلك الأيام. وفي الجنون نظر.
وفي قتل أم الولد سيدها ، والمدبر مدبره ، ورب الدين المؤجل مديونه ، وجه بالمقابلة بعيد.
ويورث المطلق في مرض موته بائنا ، والمتزوج في العدة عالما ، فإنه
ص: 281
استعجل الحل قبل وقته فعورض بنقيض مقصوده. وألحق به الجاهل مع الدخول (1) ، لتوغله في الاستعجال في مظنة البقاء.
ولو جنت (2) الزوج ، وقلنا بأن الحادث يفسخ به ، ففيه وجه بمنعها الفسخ.
أما هدم المستأجر الدار ، فالأصح أنه لا فسخ فيه ، للمعارضة ، ولأنه سبب إدخال النقص على نفسه.
ولو أوصى للقاتل قبل الجرح أو بعده ، ففيه وجه ، والفرق ، فيرث إذا تقدمت الجراحة الوصية دون العكس.
ولو قتلت نفسها قبل الدخول لم يسقط المهر ، بخلاف ما لو قتلها سيدها.
قد وقع التعبد المحض في مواضع لا يكاد يهتدى فيها إلى العلة.
كالبداءة بظاهر الذراع وباطنه في الوضوء ، وكالجريدتين إن لم تعلل بدفع العذاب ما دامت خضراء ، وكرمي الجمرات ، والنهي عن بيع الطعام حتى يكال أو يوزن ، فكونه لا يكتفى به في المكيال لو قلنا به تعبد ، وإذن الواهب في قبض ما بيد الموهوب ومضي زمان
ص: 282
عند الشيخ (1) ، والسرف في استعمال الماء على شاطئ نهر أو بحر فإنه مكروه ، ووجوب طلب المتيمم وإن علم عدم الماء ، ووجوب إمرار الموسى على رأس الأقرع أو استحبابه - ولا تدخل هذه الصورة تحت قوله : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) إذ لم يأت بشي ء من المأمور به - ووجوب العدة على المتوفى عنها مع عدم الدخول ، ووجوبها على الصغيرة واليائسة عند المرتضى (3) رحمه اللّه ومن تبعه (4) ، وعدم وجوب إخراج القيمة في الكفارة وفي الأنعام الزكوية عند بعض الأصحاب (5) ، مع أن مشروعية الزكاة لسد خلة الفقراء وهو حاصل بالقيمة ، وتحريم الرّبا ، ومع اشتماله على المخلصات المخصوصة يخرج عن التحريم ، والتفاضل حاصل (6).
ما ثبت على خلاف الدليل لحاجة قد يتقدر بقدرها وقد يصير أصلا مستقلا ومن ثمَّ وقع الخلاف في مواضع :
ص: 283
منها : الماسح على الخف أو الجبيرة ، أو غاسل موضع المسح ثمَّ يزول السبب.
ومما صار أصلا مستقلا : الإجارة ، فإنها معاوضة على المنافع المعدومة ، وشرعيتها للحاجة ، ثمَّ صارت أصلا ، لعموم البلوى.
والجعالة ، شرعت للتوصل إلى تحصيل المجهول ، فلو كان معلوما ففي الجواز كلام للعامة (1). والأصح أنها صارت أصلا مستقلا ، فتجوز مع العلم.
وجواز اقتداء الأجنبي المرأة (2) ، وإن كان شرعيته لحاجة المرأة.
وصلاة الخوف شرّعت مقصورة بنص القرآن (3) ، لأجل الخوف في السفر ، ثمَّ عم في جميع الأسفار المباحة.
وتجويز المسابقة بعوض مع جهالة العمل ، وبيع العرايا (4) ، والمزارعة ، والمساقاة.
ص: 284
ولو تمكن من إقامة البينة على زنا زوجته ففي جواز ترك ذلك اعتمادا على اللعان ، لأن ذلك عار وخزي ، أو لا ، لعموم قوله تعالى : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ ) (1) ، وهذا متمكن من الإشهاد.
إذا دل الدليل على حكم ولم يرد فيه بيان من النبي صلى اللّه عليه وآله مع عموم الحاجة إليه ،
(في زمانه) (2) هل يكون ذلك قدحا في ذلك الدليل؟
فيه كلام في الأصول ، ويعبر عنه العامة : بالقياس الجزئي مما لم يرد من النبي صلى اللّه عليه وآله فيه بيان مع عموم الحاجة إليه في زمانه ، أو عموم الحاجة إلى خلافه. وله أمثلة :
منها : إذا غمس المجنب يده في ماء قليل ، فنوى رفع الحدث هل يصير الماء مستعملا؟ فمستند هذا أنه ماء استعمل في رفع الحدث الأكبر فلا يرفع ثانيا. ويعارضه إن النبي صلى اللّه عليه وآله لم يبين ذلك لسكان البوادي مع تكرار حاجتهم إلى ذلك. ولو غمسها لا بنية الاستعمال ، فلا إشكال. ولو غمسها لا بنية أصلا ، فالظاهر أنه لا يحصل الغسل. ويحتمل حصوله اعتمادا على النية الأولى.
ومنها : ما ذهب إليه بعض الأصحاب من بسط النية على التكبير بحيث تقع بين الهمزة والراء ، فان دليل المقارنة قد يدل عليه ، مع
ص: 285
أن النبي صلى اللّه عليه وآله لم يبينه مع احتياج كل إلى بيانه.
ومنها : ما ذهب إليه بعض العامة (1) من جواز الصلاة على كل ميت غائب بالنية في مشارق الأرض ومغاربها ، ولم يبينه النبي صلى اللّه عليه وآله بقول ولا فعل (2).
ومنعهم ولاية الفاسق عقد النكاح (3) ، ولم يبينه للبوادي وغيرهم ممن يغلب عليهم الفسق.
ومنها : ضمان الدرك ، فإنه ضمان ما لم يجب ، وسوّغه مسيس الحاجة إليه ، ولم يبينه النبي صلى اللّه عليه وآله.
وجواز شراء عين أقر قابضها بشرائها من الغير ، فإن قضية الدليل عدم الجواز لأنه أقر بالملك لغيره ، وادعى حصوله لنفسه ، ولكن شرع لما قاله الأئمة عليهم السلام : (لو لا هذا لما قامت للمسلمين سوق) (4) ولم ينقل في هذا بيان عن النبي صلى اللّه عليه وآله ،
ص: 286
مع عموم الحاجة إليه.
الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة.
كجواز قتل الترس من النساء والصبيان من الكفار ، بل ومن المسلمين عند الحاجة.
وكجواز النّظر لحاجة العلاج إلى الأجنبية ، هل هو ملحق بالتيمم في قدر المرض الّذي يبيحه هل هو المضر أو يكفي مطلق المرض وإن لم يخش عاقبته؟
وفرق بينهما : بأن الحاجة إلى التيمم عامة بخلاف الحاجة إلى الطبيب في هذا المقام فإنها خاصة نادرة.
وقد يعبر عن هذه القاعدة : بتنزيل ما يعم وإن خف منزلة ما يثقل إذا خص.
العدول عن الأصل المنتقل إليه إلى الأصل المهجور هل هو جائز؟ الظاهر المنع. وله صور :
ص: 287
منها : إذا كثر سهوه فحكمه عدم لالتفات ، فلو شك كثير السهو في سجدة أو تسبيحة ، أو قراءة وهو في محلها فإنه لا يلتفت ، لأن كثرة السهو جوزت البناء على الفعل مع أن الأصل عدمه. فلو فعل ذلك هل تبطل صلاته؟ فيه أوجه ، ثالثها : الفرق بين الركن وغيره.
وكما لو غسل موضع المسح تقية فإنه صار أصلا مستقلا ، فلو مسح حينئذ ففي الإجزاء احتمال.
وزعم بعض العامة (1) : أن الشاة في الإبل بدل عن الإبل ، إذ الأصل كون المخرج من جنس المخرج عنه ، وجوزوا أن يكون أصلا. ورتبوا عليه إجزاء البعير عن خمس شياه ، أو عن شاة (2).
إذا تردد الفرع بين أصلين وقع الاشتباه.
وهو مناط الإشكال في مواضع :
منها : ما هو داخل في القياس فذكره إلزام.
ومنها : غيره. مثاله : حجر السفيه متردد بين كونه لنقص فيه كالصبي ، أولا لنقص ، بل لحفظ المال كحجر العبد. ويتفرع عليه : لو أذن الولي للسفيه في البيع فهل يبطل ، كالصبي ، أو يصح ، كالعبد؟ وكذا في عقد النكاح والوصية.
ص: 288
ومنه (1) : الحيوانية بالنسبة إلى الآدمية وغيرها ، تارة يفرق بالضرورة ، وتارة بالتحسين ، فالأوّل منه : ما إذا ألقاه في البحر فالتقمه الحوت قبل وصوله الماء ، فمن منع الضمان (2) قال : لأن الحيوان يقطع مباشرة السبب. والأصح الضمان ، لأنه متلف على كل حال.
وإذا فتح عن طائر قفصا ، فطار ، اعتبر بعضهم (3) مباشرة الطائر. وهو خطأ ، بل يضمنه ، سواء طار عقيب الفتح أو بعد مكث. فلو كسر الطائر في خروجه قارورة آخر ضمنها الفاتح أيضا.
ولو فتح جراب شعير لغيره فلما فتحه أكلته دابة ، فالأقرب الضمان على الفاتح ، ولكن يرجع على صاحب الدّابّة إن فرط.
وأما التحسين (فكشبه العبد الحر) (4) ، فإنه لا فرق بينهما في الآدمية ، ولكن المملوكية تلحقه بشبه غير الآدمي من الحيوان ، ولهذا يلحق بالحر فيما فيه مقدر ، وبالحيوانات المملوكة فيما لا مقدر فيه. وبنى بعضهم حل العبد الآبق على ذلك فيما لو أبق (5). وفصّل
ص: 289
الأصحاب (1) بعقله وجنونه ، لقوة اختيار العاقل.
ومنه : اللعان متردد بين الأيمان والشهادات ، وشبه الأيمان أقوى ، فيجوز من الذمي.
وحد القذف متردد بين حق اللّه تعالى وحق الآدمي ، من جهة أنه يتشطر بالرق ، وأن استيفاءه بإذن الإمام فيشبه حق اللّه ، ومن توقفه على مطالبة المستحق وسقوطه بعفوه ، وأنه لا يسقط بالرجوع من المقرّ به ، وأنه يورث. ويتفرع عليه ثبوته بالشهادة على الشهادة.
والعدة مترددة بين حق اللّه تعالى وحق الآدمي ، ويغلب فيها حق اللّه تعالى لوجوبها مع الوفاة وإن لم يدخل. ولذلك كان الأقرب عدم تداخل العدتين.
وجنين الأمة هل يعتبر بنفسه ، أو بكونه عضوا من أعضاء أمه ، لعسر اعتباره بنفسه ، ولهذا يدخل عند الشيخ (2) : في البيع والعتق والتدبير والوصية. فمن ثمَّ وجب فيه عشر قيمة الأم.
وهذا كله إظهار للحكمة ، وإلا فالاستناد إلى المنصوص منها واجب (3).
قد يتردد الشي ء بين أصلين فيختلف الحكم فيه بحسب دليل الأصلين.
ص: 290
فمنه : الإقالة في كونها فسخا أو بيعا ، والأقوى أنها فسخ ، وإلا لصحت من (1) غير المتعاقدين ، وبغير الثمن الأول.
ويتفرع على ذلك فروع كثيرة.
كالإقالة في العبد بعد إسلامه والبائع كافر ، فعلى الفسخ يمكن الصحة. وثبوت خيار المجلس والشرط والحيوان ، والشفعة .. وجوازها بعد التلف .. وجوازها قبل القبض في المكيل والموزون .. وغرم أرش المبيع لو تعيب في يد المشتري بعد الإقالة على قول الفسخ ، وعلى قول البيع يتخير البائع بين إجازة الإقالة والأرش وبين الفسخ. وقبل (2) : لا أرش ، وهو قضية قول من قال من الأصحاب بأن العيب الحادث بعد العقد وقبل القبض لا أرش فيه (3). ولو اطلع البائع على عيب حدث في يد المشتري قبل الإقالة فلا رد له على الفسخ وعلى البيع. والأقرب الرد على القولين (4).
ومن المتردد بين أصلين الإبراء ، هل هو إسقاط أو تمليك؟
ويتفرع عليه :
احتياجه إلى القبول وعدمه ، فان اعتبرنا القبول ارتد بردّه :
وتولى المبرإ العقد عن المبرئ بوكالته جائز على الإسقاط ، وعلى التمليك يبنى على جواز تولي الطرفين.
ص: 291
والإبراء عن المجهول يصح على الإسقاط ، ويبطل على التمليك.
ولو قال لمن اغتابه : قد اغتبتك ، ولم يبيّن الغيبة ، فأبرأه يمكن القول بالصحّة ، لأنه هنا إسقاط محض. والأقرب المنع ، للاختلاف في الأغراض ، والرضا بالمجهول لا يمكن.
ولو كان له على جماعة دين فقال : أبرأت أحدكم ، فعلى التمليك لا يصح قطعا ، وعلى الإسقاط يمكن الصحة ويطالب بالبيان (1).
ومنه : الحوالة هل هي استيفاء وإقراضه المحال عليه ، أو هي اعتياض عما كان في ذمة المحيل بما في ذمة المحال عليه؟ وله فروع كثيرة مشهورة (2).
ومنه : ما هو متردد بين القرض والهبة ، كقوله : أعتق عبدك عني ، ولم يذكر العوض ، أو : أقضي ديني ، ولم يذكر الرجوع ، فهل يرجع في الموضعين بالعوض ، كالقرض أو لا ، كالهبة؟
ولو دفع إليه مالا وقال : انجر في حانوتي لنفسك ، أو بذرا وقال : أزرعه في أرضى لك ، فهو معير للحانوت والأرض ، وهل المال قرض أو هبة؟
ولو دفع إلى فقير دراهم وقال : اشتر بها قميصا لك ، فهل يكون هبة أو قرضا؟ يقوى الهبة هنا ، عملا بالقرينة ، وليس له العدول إلى شراء غير (3) القميص بها قطعا ، إلا أن يكون قوله على سبيل التبسط (4) ، فيتصرف كيف شاء.
ص: 292
ولو دفع إلى شاهد في موضع تلحقه المشقة بحضوره أجرة دابة ليركبها ، فهل هي (1) قرض أو هبة؟
ومنه : تردد العين المستعارة للرهن بين العارية والضمان ، فكان المعير ضامنا للمال في عين ماله ، والمستعير مضمون عنه.
ويتفرع عليه : معرفة الجنس والقدر والصفة على قول الضمان ، بل ومعرفة المرهون عنده.
ولو تلف في يد المرتهن فعلى قول الضمان لا شي ء عليه ولا على الراهن ، وعلى قول العارية على الراهن الضمان : ولو تلف في يد الراهن ضمن على القولين (2).
فرع :
لو قال مالك العبد : ضمنت ما لفلان عليك في رقبة هذا العبد ، قيل (3) : يصح على قوله الضمان ، ويكون كالإعارة للرهن.
ويشكل : بعدم قبول المضمون له ، إلا أن يقال : قبوله غير شرط ، بل يكفي الرضا.
ومنه : أن الصداق قبل الدخول هل هو مضمون على الزوج ضمان عقد أو ضمان يد؟ فيه وجهان :
ص: 293
ووجه الأول ، أنه مملوك بعقد معاوضة ، فهو كالمبيع.
ووجه الثاني ، أن النكاح لا ينفسخ بتلفه ، وما لا ينفسخ العقد بتلفه يكون مضمونا ضمان اليد ، كما لو غصب البائع المبيع بعد قبضه فإنه مضمون عليه ضمان اليد.
والأصل فيه : أن في الصداق مشابهة العوض ، ومشابهة النحلة ، والنحلة هي العطية من غير عوض فلا يكون مضمونا عليه ضمان العقود.
وحجة المعاوضة : أن للزوجة رده بالعيب ، وحبس نفسها إلى القبض ، والنحلة لا تتعين للعطية ، بل قيل (1) : هي للتدين والشريعة.
سلمنا أنها عطية ، لكن هي عطية من اللّه للزوجات.
وأما عدم انفساخ النكاح بتلفه ، فلأن المهر ليس ركنا في عقد النكاح ، لصحته مع تجرده عنه ، فالزوجان هما الركنان في النكاح ، كالعوضين في البيع ، ومن ثمَّ وجب تسمية الزوجين في العقد لو باشره الوكيل ، كما تجب تسمية العوضين في البيع.
وفروع ذلك كثيرة (2) ، منها : إذا تلف الصداق في يده فان قلنا ضمان عقد انفسخ عقد الصداق وتعذر عود الملك إليه قبل التلف ، ويكون لها مهر المثل ، لأن النكاح مستمر ، والبضع كالتالف فيرجع إلى عوضه ، وإن قلنا ضمان اليد لم ينفسخ العقد في الصداق بل يتلف على ملك الزوجة ، حتى لو كان عبدا وجب عليها مئونة تجهيزه ويضمن الزوج بدله مثلا أو قيمة.
ص: 294
ومنه : الظهار يشبه الطلاق من حيث اشتراط الشاهدين ، والطهر ، والاستبراء ، ويشبه اليمين من حيث بقاء حقيقة الزوجية واحتياج البينونة إلى الطلاق.
وفرّع العامة (1) عليه : توقيف الظهار ، فعلى الطلاق لا يجوز ، وعلى اليمين يجوز.
ولو قال لأربع : أنتن عليّ كظهر أمي ، فعلى الطلاق لكل واحدة كفارة ، وعلى اليمين كفارة واحدة ، كما لو حلف : لا كلمت جماعة فكلمهم.
ومنها : جواز التوكيل في الظهار ، فعلى اليمين لا يجوز ، وعلى الطلاق يصح.
ولو كرر الظهار من واحدة فعلى اليمين يلزمه بكل مرة كفارة ، قالوا : إن قصد التأسيس ، وعلى الطلاق كفارة واحدة إذ لا يصح طلاق المطلقة ثانيا قبل الرجعة عندنا.
ومنه : المطلقة البائن مع الحمل تجب نفقتها بالنص (2) ، وهل هي للحامل ، أو للحمل؟
وفروعه كثيرة : كوجوبها على العبد ، وسقوط قضائها أو لا ، ووجوبها لو كانت ناشزا حال الطلاق أو إن (3) نشزت بعده ، أو ارتدت بعد الطلاق ، وصحة ضمان الماضي منها ، وإذا كان الزوج حرا والزوجة أمة ، ومنعها المولى من الليل ، وكذا لو كان رقيقا مع
ص: 295
الشرط ، وإذا مات وهي حامل ، لأن نفقة القريب تسقط بالموت ، وإن قلنا للحامل وجبت. وروى الأصحاب (1) : أن نفقة الحامل (2) من نصيب الحمل. وفي أخرى (3) : لا نفقة لها. وهي تؤيد أن النفقة للحامل ، وبالبينونة زالت توابع الزوجية. ولو مات الزوج مقدما (4) فلا نفقة إن قلنا للحامل قطعا ، وإن قلنا للحمل وجبت في ماله.
ولو خلف أبا فإن قلنا لها ، فلا نفقة ، وإلا وجبت على الجد.
ويحتمل أن لا نفقة على القولين.
ولو أبرأته عن النفقة الحاضرة ، كما بعد طلوع الفجر من نفقة اليوم ، لم تسقط على الحمل.
ولو أعتق أم ولده الحامل منه وجبت النفقة (5) إن جعلناها للحمل.
وتقبض من الزكاة والخمس مع فقرها إن جعلناها للحمل ، وإن قلنا لها فلا (6) ، لأنها في نفقة الزوج. وهذا الفرع مشكل ، لأن الزوج أبو الحمل ، فالنفقة واجبة عليه على التقديرين ، فان كان
ص: 296
موسرا أداها ، وإن كان معسرا كان هو القابض. نعم لو مات أو كان كافرا والأم (1) مسلمة ، فإن كانت فقيرة قبضت على التقديرين ، لأن المصروف إنما هو إليها ، وإلا فلا ، لوجوب نفقة الحمل عليها.
ولو (2) سافرت بغير إذنه ، فان قلنا للحمل ، وجبت ، وإلا فلا.
ويصح الاعتياض عنها إن كانت لها.
ولو أسلم وهي كافرة وجبت ، إن قلنا للحمل ، وإلا فلا.
ولو سلم إليها نفقة ليومه ، فخرج الولد ميتا في أوله لم يسترد ، إن قلنا لها ، وإلا استردت.
ووجوب الفطرة إن قلنا للحامل دون الحمل (3). ويشكل : بما أنها متفق عليها حقيقة فكيف لا تجب فطرتها؟؟
ولو أتلفها متلف بعد قبضها وجب بدلها إذا قلنا للحمل ، ولم يفرط.
ولو نشزت في النكاح وهي حامل ، أمكن وجوب النفقة ، إن قلنا إنها للحمل (4). ويشكل : بأنها غير مطلقة ولا معتدة.
ولو حملت الأمة من رقيق ، فان قلنا للحمل ، وجبت على السيد وإن قلنا للحامل فعلى العبد إذا انفرد السيد بالولد.
ص: 297
لو كانت معتدة من غير الطلاق ، فمنهم (1) من بناها على الحمل والحامل ، فتجب إن قلنا للحمل ، وإلا فلا ، كالمعتدة عن النكاح الفاسد ، أو الشبهة أو المفسوخ نكاحها لعيبها.
ومنهم (2) من قال : إن نفقة الحامل إنما تجب ، لكونها كالحاضنة ، ومئونة الحاضنة على الأب ، فلا يفترق الحال بين المطلقة والمفسوخ نكاحها ، فتجب النفقة عليها ، على التقديرين.
فهذه نيف وثلاثون فرعا (3).
ومنه : إذا نذر عبادة كصلاة - مثلا - وأطلقها ، فهل تصير كالصلاة الواجبة فتنزل على أقل الواجب ، أو تنزل على أقل ما يصح من الصلاة شرعا؟
الأقرب الأول.
ويتفرع : جوازها على الراحلة ، وصلاتها قاعدا ، ووجوب السورة بعد الحمد ، وتعلق الاحتياط بها ، وسجود السهو فيها ، وجواز
ص: 298
الائتمام بها ، وفيها ، وجواز ركعة ، ووجوب التشهد بين كل ركعتين لو نذر أربع ركعات بتسليمة.
وكما لو نذر ركعتين فصلى أربعا إما بتشهد واحد أو اثنين ، فان قلنا كالجائز شرعا صح ، وإلا فلا ، كما لو صلى (1) الصبح أربعا.
ولو نذر الخطبة في الاستسقاء ، فان نزلناه على الواجب من جنسه ، وجب القيام ، وإن نزلناه على الجائز شرعا في الخطبة المطلقة ، لم يجب.
ووجوب تبييت النية مبني على ذلك ، فان جعلناه كأقل المجزئ شرعا ، فهو كالصوم المندوب (2) ، فيجزئ فيه عدم التبييت.
ولو نذر المغصوب (3) حجا ، وقلنا بجواز نيابة المميز في حج التطوع ، وهو الظاهر ، فان نزلناه على الواجب من جنسه لم يجز استنابته ، وإن قلنا ينزل على الجائز من جنسه ، أجزأ ولو نذر عتق رقبة ، فهل تجزئ الكافرة؟ فإن قلنا بجواز عتق الكافر ابتداء ، يبنى على التنزيل على العتق الواجب ، أو على العتق الجائز.
ولو نذر أن يهدي بعيرا أو شاة ، فهل ينزل على الهدي الواجب ، فيشترط فيه شروطه ، أو على الهدي الجائز شرعا؟
ولو نذر كسوة فقير أو يتيم ، فان نزلناه على الكسوة الواجبة لم يجز غير المسلم وإلا أجزأ الذمي.
وقد ذكر الأصحاب جواز الأكل بل استحبابه في الأضحية
ص: 299
المنذورة (1) ، وفيه إشارة إلى تنزيله منزلة الأضحية المستحبة ، لا الهدي الواجب.
ولو نذر إتيان المسجد الحرام ، فان نزلنا النذر على الواجب بالشرع لزم إتيانه بنسك ، وإن نزلنا على الجائز شرعا ، وكان ممن يجوز له دخول مكة بغير إحرام ، لم يجب (2).
ومنه : أن قاطع الطريق إذا قتل فإنه يقتل ، ففي هذا القتل معنى القصاص ، لأنه قتل في مقابلة قتل ، وفيه معنى الحد ، لأنه لا يصح العفو عنه ، بل لو عفا الولي (3) قتل حدا ، سواء قلنا بالترتيب أو بالتخيير ، فهل يغلب حق اللّه أو جانب الآدمي؟ فيه وجهان.
وتظهر الفائدة في مواضع :
منها : إذا قتل من لا يقاد به كالأب ولده ، والحر العبد ، والمسلم يقتل (4) الكافر ، إن غلبنا حق اللّه تعالى قتل به ، وإن غلبنا حق الآدمي قتل لا به.
ولو قتل جماعة ، فان غلبنا معنى القصاص قتل بواحد منهم وللباقين الدية ، في وجه ذكره الأصحاب (5). وهو الأولى ، إن ترتبوا ، وبواحد بالقرعة إن لم يترتبوا. وإن غلبنا حق اللّه تعالى قتل بهم ،
ص: 300
ولا دية.
ولو مات قبل القود ، فان غلبنا حق اللّه فلا شي ء لورثة المقتول ، وإلا أخذت من تركته على القول به في غير المحاربة.
ولو عفا الولي على مال ، فان غلبنا حق الآدمي فلا قصاص ، وتجب الدية ، ويقتل حدا ، كمرتد استوجب القصاص فعفي عنه ، وإن غلبنا حق اللّه تعالى لغا العفو.
وإن (1) قتل المحارب أجنبي ، كمن تولى (القتل من غير) (2) إذن الإمام ، فإن غلبنا القصاص فعليه الدية لوارثه. والأقرب عدم الاقتصاص منه ، لأن قتله متحتم. ويحتمل القصاص ، لأنه معصوم بالنسبة إليه. وإن غلبنا حق اللّه عزر فقط.
ولو كان مستحق القصاص صبيا أو مجنونا فينبغي أن يخرّج عفو الولي على هذا الاختلاف ، فان غلبنا حق الآدمي لم يقتص حتى يبلغ ، أو يفيق إن أوجبنا التربص في مثله ، لئلا يفوت عليه المال لو أراده ، وإن غلبنا حق اللّه تعالى فعفوه لاغ ، فيقتل في الحال.
ولو تاب قبل الظفر به ، فان غلبنا حق الآدمي لم يسقط القصاص ، ويسقط التحتم (3) ، وإن غلبنا حق اللّه سقط.
ومنه : اليمين المردودة على المدعي والواجبة بالنكول عليه هل هي كإقرار المدعى عليه ، أو كالبينة؟
يحتمل الأول ، لأن المدعى عليه بنكوله توصل إلى إثبات حق المدعي فأشبه إقراره.
ص: 301
ووجه الثاني : أنها حجة صادرة من المدعي مع جحد (1) المدعى عليه.
وفيها فوائد :
الأولى : لو أقام المدعى عليه بعد يمين المدعي بينه أن العين ملكه ، أو أنه أدى الدين ، أو أبرئ منه ، فان قلنا كالإقرار لم تسمع ، وإن قلنا كالبينة سمعت.
الثانية : افتقار الثبوت إلى الحكم على البينة دون الإقرار.
الثالثة : هل للبائع مرابحة إحلاف المشتري على نفي علمه بزيادة الثمن عما أخبر به؟ إن قلنا كالإقرار ، فله ذلك رجاء النكول ورد اليمين ، فيكون كالتصديق له ، وإن قلنا كالبينة فلا ، لعدم سماع بينة على هذا الثمن الزائد.
الرابعة : لو أنكر الأصيل دفع الضامن فهل له إحلافه؟ إن قلنا لو صدقه رجع عليه فله ذلك ، فيحلف على نفي العلم بالدفع ، وإن قلنا لا يرجع عليه لو صدقه لعدم انتفاعه بالدفع إذ الفرض إنكار المستحق. فان قلنا اليمين كالإقرار لم يلزم بالحلف ، لأن غايته النكول ، فيحلف المدعي فهو كالإقرار ، وإن قلنا كالبينة طالبة بالحلف طمعا في نكوله فيحلف ، فيرجع ، كما لو أقام بينة.
الخامسة : لو ادعى كل من اثنين على واحد رهن عبده عنده وإقباضه إياه ، فصدق أحدهما ، قضى به للمصدق ، وهل للمكذب إحلافه؟ الظاهر : نعم ، لأنه لو صدقه غرم له. ولو قلنا : لا يغرم بالتصديق ، فهل له المطالبة باليمين؟ إن قلنا : كالإقرار ، فلا ،
ص: 302
وإن قلنا : كالبينة ، أحلف (1) ، ويستفيد به الغرم ، لا انتزاعه من الأول ، لأن البينة هنا حجة على المتداعيين ، لا على غيرهما.
السادسة : هل يطالب السفيه باليمين على نفي القتل (2) الموجب للمال؟ إن قلنا. كالإقرار ، فلا ، لأن غايته النكول فيحلف المدعي ، فيكون كإقرار السفيه ، وهو غير مسموع ، وإن قلنا : كالبينة ، طولب. ويحتمل مطالبته باليمين ولو قلنا كالإقرار ، لأنه قد يحلف فتنقطع الخصومة ، وهو أولى من بقائها.
السابعة : لو ادعى على المفلس فأنكر ، وحلف المدعي ، إن قلنا : كالبينة ، شارك الغرماء ، وإن قلنا كالإقرار ، بني على المشاركة بالإقرار. وعلى القول بأن البينة إنما تتعلق بالمتداعيين ، لا يشارك على التقديرين.
الثامنة : لو ادعى عليه رجل (3) بقتل الخطأ ، وثبت باليمين المردودة ، ووجبت الدية على العاقلة إن جعلناها كالبينة ، وإلا فعلى المدعى عليه. ولا فرق هنا بين المفلس وغيره إلا في مشاركة الغرماء وعدمه. ويجي ء الكلام السالف (4).
إلا أن يقال : العاقلة ليست أجنبية هنا ، إذ هي قائمة مقام الجاني في الخطأ. وهو بعيد.
التاسعة : لو تداعى كل من الأختين زوجيته ، فصدق إحداهما ،
ص: 303
فهل للأخرى إحلافه؟ الأقرب : نعم ، لأن المقصود المهر. وأما النكاح فمدفوع بإنكاره ، فإن نكل حلفت ويبطل نكاح أختها ، إن قلنا كالبينة ، ويرد الكلام الأول.
العاشرة : لو قال في عين بيده : هي لأحد هذين ، ثمَّ عين زيدا ، فهل لعمرو إحلافه؟ فيه ما سبق.
الحادية عشرة : لو ادعى عليه عينا في يده ، فقال : هي لفلان ، فصدقه فلان ، أخذها ، وهل للمدعي إحلاف المصدق؟ إن قلنا بالغرم ، فنعم ، وإلا ففيه ما سبق.
الثانية عشرة : لو زوجها أحد الوكيلين (1) برجل والآخر بآخر ، أو ادعى زوجيتها اثنان ، فصدقت في الصورتين أحدهما ، ثبت نكاحه ، وهل يحلف (2) للآخر؟ إن قلنا بالغرم حلف (3) ، وإلا يبنى (4) على الوجهين. وأما انتزاعها من الأول للثاني عند يمينه ففيه ما تقدم.
وكذا انتزاع العين من المصدق أولا في المسألة السابقة.
الثالثة عشرة : إذا باع أحد الشريكين سلعة بينهما وهو وكيل في القبض ، فادعاه المشتري عليه ، وصدقه الشريك ، وأنكر البائع ، حلف لهما ، فلو نكل البائع عن اليمين للشريك ، فحلف الشريك ، استحق نصيبه ، وللبائع المطالبة بنصيبه للمشتري بعد يمينه على عدم القبض. ولو قلنا : اليمين المردودة كالبينة وأنها حجة على الخارج ، لم يكن له مطالبة المشتري.
ص: 304
اليمين لنفي شي ء لا تكون لإثبات غيره.
ولها صور كثيرة :
منها : إذا اختلف البائع والمشتري في تقدم (1) العيب ، حلف البائع مع عدم البينة والقرينة ، ويحلف على القطع.
فلو اختلف (2) بعد ذلك في الثمن وقلنا بالتحالف ، أو كان الاختلاف في تعيين الثمن ، فان التحالف فيه هو الأقرب ، ففسخ البيع إما بالحلف أو بغيره ، على اختلاف فيه ، فطلب البائع من المشتري أرش العيب الّذي اختلفا فيه أولا ، بناء على أنه استقر أنه حادث بيمين البائع ، لم يكن له ذلك ، لأن يمينه كانت لنفي الغرم عنه أو الرد ، فلا يصلح لشغل ذمة المشتري ، بل يحلف الآن المشتري على أن هذا العيب ليس بحادث ، فان حلف برئ ، ولا يثبت تقدمه بحيث يطالبه (3) المشتري بالأرش ، فإن رد اليمين أو نكل حلف البائع الآن على حدوثه واستحق أرشه ، سواء قلنا يمين الرد كالإقرار أو كالبينة.
ومنها : لو قذفه بالزنا ، فلما دعاه للحد طلب منه يمينا على نفي الزنا وقلنا بقول الشيخ (4) : بثبوت اليمين هنا ، فنكل أو ردها على القاذف ، فحلف القاذف أنه زنى ، سقط حد القذف عنه ، ولا
ص: 305
يجب على المقذوف حد الزنا سواء قلنا : كالإقرار أو لا ، لأن هذه اليمين كانت لدفع (1) حد القذف عنه لا لإثبات الزنا على المقذوف.
وليس هذا كاللعان في أن نكول الزوجة عنه يوجب عليها الحد.
ومنها : لو أقر الوكيل في البيع وقبض الثمن بهما ، وأنكر الموكل القبض ، قيل (2) : حلف الوكيل ، لاستئمانه. فلو خرج المبيع مستحقا ، ورجع المشتري على الوكيل بالثمن ، لجهله بالوكالة ، لم يكن للوكيل أن يرجع على الموكل ببدل الثمن بناء على تلك اليمين ، لأن يمينه كانت لنفي الغرم عنه ، لا لشغل ذمة الموكل ، بل القول الآن قول الموكل في عدم القبض مع يمينه ، فلو ردها على الوكيل ، أمكن القول بحلفه وبراءته حينئذ ، سواء قلنا يمين الرد كالإقرار أو كالبينة.
لها تعلق بما قبلها ظاهر الأصحاب (3) أن التدبير وصية بالعتق ، وليس تعليقا للعتق على صفة الموت.
ص: 306
وربما تخيل ذلك في بعض المواضع.
وله عند العامة (1) فروع على هذين المأخذين : من جواز الرجوع فيه وعدمه ، والبيع بخيار ، فعلى الصفة لا يصح ، وعلى الوصية يحتمل بطلان التدبير قبل لزوم البيع ، فلا يعود إلى التدبير لو فسخ البيع ، واحتمل المراعاة.
ولو رهنه أمكن الرجوع ، لأنه عرضه للبيع ، وعدمه ، لأنه ليس بمزيل للملك ، وعلى الصفة لا بحث (2). والعرض على البيع كالبيع.
ويمكن العدم ، لأنه لم يخرج عن الملك. أما الوطء فليس برجوع قطعا على الوجهين ، لأنه مع الحمل يؤكد التدبير. وفي المكاتبة وجهان. ويحتمل أنه إن قصد بالمكاتبة الرجوع عن التدبير كان رجوعا على القول بالوصية ، وإلا (3) فهو مدبر مكاتب.
ولو ادعى العبد أنه دبر ، ففي سماع الدعوى تردد ، من توهم أن الإنكار رجوع.
ولو حملت ، تبعها الولد ، أما على العتق فظاهر ، وأما على الوصية فمشكل من حيث أن الوصية بالجارية لا يدخل فيها الحمل المتجدد قبل الوفاة. وهذا يوهم أنه عتق بصفة ، لفتوى الأصحاب بأن الولد مدبر (4). وبالغوا في ذلك حتى منعوا من الرجوع في تدبيره ولو
ص: 307
رجع في تدبير أمه (1) ، وهو يؤكد الصفة.
العمل بالأصلين المتنافيين واقع في كثير من المسائل (2).
وأصله : الأخذ بالاحتياط غالبا ، وما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله في قضية عبد بن زمعة : (هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ، واحتجبي منه يا سودة) (3). قيل (4) : قال ذلك لما رأى فيه شبها بعتبة بن أبي وقاص فأتبعه للفراش بأخي سودة أم المؤمنين ، وأمرها بالاحتجاب منه ، للشك الطارئ على الفراش.
ولما روي عنهم عليهم السلام : في الّذي وطئ أمته ووطئها أجنبي فجورا وحصلت إمارة على كون الولد ليس منه ، فإنه لا يبيعه ولا يورثه ميراث الأولاد (5).
ص: 308
فمنها : المتحيرة إذا قلنا بالاحتياط فهي تفرض بالنسبة إلى وجوب العبادة طاهرا ، وبالنسبة إلى وجوب القضاء وتحريم الوطء وغير هما حائضا.
ومنها : حيض الحامل ، مع عدم انقضاء العدة به من صاحب الحمل ومن غيره. الأقرب الانقضاء.
واشتباه موت الصيد بالجرح ، أو الماء القليل في أحد الوجهين.
ونفي إحصان من اعترف بالولد من زوجته ، ونفي وطئها ، فإنه يلحق به الولد ولا يثبت إحصانه ، إلا أن يتصور علوقها من مائة بغير وطئها قبلا.
ولو ادعى المطلق انقضاء عدتها وأنكرت ، حلفت ، ويجب عليه الإنفاق وله التزويج بالأخت ، أو الخامسة في وجه.
واللقيط في دار الإسلام لو أقر بالرقية إن (1) أعملنا فيه الأصلين المنافيين (2) ، على ما اختاره بعض الأصحاب.
التعليل بانتفاء المقتضي ووجود المانع مختلف فيه.
ويرجح الأول : اعتضاده بالأصل ، والثاني (3) : على خلاف
ص: 309
الأصل.
وله فروع :
منها : أن الحكم ببطلان البيع الصادر من المميز وشبهه كالإجارة هل هو لانتفاء المقتضى ، وهي الأهلية المقتضية لصحة التصرف ، وهي التكليف ، أو لوجود المانع ، وهو انفراده عن الولي :
وتظهر الفائدة : لو أذن له الولي ، فعلى الأول البطلان بحاله ، وعلى الثاني يصح.
في الاحتياط لاجتلاب المصالح ودفع المفاسد.
وقد ظهر أثره : في الشاك في فعل من أفعال الصلاة وهو في محله ، فإنه يأتي به. والشاك في فعل الصلاة وهو في الوقت يأتي بها.
والشاك في العدد يبطل في الثنائية والثلاثية ، وهو احتياط ، إذ الأصل عدم فعل المشكوك فيه ، وفي الرباعية يبني على الأكثر ، وهو ضد الاحتياط لكنه يجبر بالتدارك. والشاك في عين الفائتة يصلي خمسا احتياطا.
وآخر يوم من شعبان يصام احتياطا. والصلاة على جميع القتلى ودفنهم احتياطا عند اشتباه المسلمين بالكفار. وترك التزويج بالمشتبهة بالمحرمة في عدد محصور.
وأصل هذا أحاديث خاصة في بعضه ، وعموم قول النبي صلى اللّه عليه وآله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1).
ص: 310
أما إعادة الصلاة لو شك بعد الانتقال في ركن أو فعل ، أو إعادة الصوم لو شك في نيته أو غسله ، وإعادة الزكاة لو شك في استحقاق القابض ، وإعادة الحج لو شك في تمام أركانه ، بل إعادة جميع العبادات عند زيادة الفقه بعد فعلها ، فلم نظفر فيه بنص على خصوصه ، ولا بلغنا فيه نقل عن السلف ، وإن كان متأخرو الأصحاب أولو الورع يصنعونه كثيرا. وقد حققنا هذه القاعدة في كتاب الذكرى (1).
ويطرد ذلك : لو شك في الحدث بعد يقين الطهارة ، أو في دخول الوقت قبل الطهارة ، أو في اشتغال ذمته بصلاة واجبة لينوي واجب الطهارة ، أو في كون الخارج منيا ، أو في تعيين المني من صاحبي الثوب المشترك ، فطريق الاحتياط لا يحصل بمجرد الفعل في مسائل الأحداث أو الشك في الطهارات ، بل ينبغي إيجاد السبب اليقيني ثمَّ الفعل ، لأن الفعل مع النية المشكوك فيها كلا فعل عند بعض الأصحاب (2).
ويتوغل في ذلك : إلى استحباب طلاق الزوجة مع الشك في وقوعه ، وإلى إبانتها بطلقة جديدة لو شك. ومن شك بما ذا أحرم يتمتع احتياطا. ومن شك في تمليك شي ء توصل إلى اليقين (3). إلى غير ذلك مما لا ضابط له.
وقد اعتبره بعض العامة (4) ما لم يؤد إلى كثرة الشك ، فإنه
ص: 311