بطاقة تعريف: السید مرتضی، علی بن حسین ، 355 - 436 ق.
عنوان واسم المبدع: الملخص فی اصول الدین/ علی بن الحسین الموسوي علم الهدی ؛ تحقیق عده من المحققین؛ اشراف محمدحسین الدرایتی؛ [تهیه کننده] مرکز همایش های علمی و پژوهش های آزاد دارالحدیث.
مواصفات النشر: مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی ، 1441ق. = 1398.
مواصفات المظهر: 2ج.
فروست : الموتمرالدولی لذکری الفیه الشریف المرتضی. مولفات الشریف المرتضی ؛ 8.
شابک : دوره : 978-600-06-0396-0 ؛ ج.1 : 978-600-06-0397-7
حالة الاستماع: فاپا
لسان : العربية.
موضوع : توحید
*Tawhid (Unity of God)
خدا -- صفات
God-- Attributes
شیعه امامیه -- عقاید
*Imamite Shi'ah -- Doctrines
عدل (اصول دین)
*Justice (Pillars of Islam)
معرف المضافة: درایتی ، محمدحسین ، 1343 -
معرف المضافة: بنیاد پژوهشهای اسلامی
معرف المضافة: Islamic Research foundation
معرف المضافة: موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث . مرکز همایش های علمی و پژوهش های آزاد
تصنيف الكونغرس: BP217/4
تصنيف ديوي: 297/42
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 5559722
اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
الملخّص في أُصول الدين الشريف المرتضى
عليّ بن الحسين الموسوي، علم الهدى
(355-436 ه)
المجلّد الثاني
تحقيق
عدّة من المحقّقين
مؤلّفات الشريف المرتضى / 9
ص: 3
ص: 4
مقدّمة التحقيق... 7
نماذج من تصاوير النسخة... 43
الملخّص في أُصول الدين
الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع... 51
الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ... 53
الفصل الثاني: في الدَّلالةِ علىٰ إثباتِ المُحدِثِ ... 99
الباب الثاني: الكلام في الصفات... 115
القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة... 115
الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ... 117
الفصلُ الثاني: في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ... 127
الفصل الثالث: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ ... 137
الفَصلُ الرابع: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ... 155
الفصلُ الخامس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ موجودٌ... 179
الفصلُ السادس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ ... 191
الفصلُ السابع: في بيانِ أحكامِ الصفاتِ الثبوتيّةِ الذاتيّةِ ... 227
ص: 5
القسم الثاني: الصفات السلبيّة... 347
الفَصلُ الأوّل: في نَفيِ الحاجَةِ عنه تَعالىٰ و إثباتِه غَنيّاً... 349
الفصلُ الثاني: في نَفي الجسميّةِ عنه تَعالىٰ ... 361
الفصلُ الثالث: الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ ... 405
فهرس المطالب... 483
ص: 6
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
لقد مرّ علم الكلام خلال تاريخه الطويل بمراحل متعدّدة، تنقّل فيها بين مراحل بدائيّة ليصل إلى مراحل أكثر تطوّراً، و لينتهي إلى مراحل شهدت تطوّراً مذهِلاً على يد كبار المتكلّمين من مختلف الفرق الإسلاميّة.
فقد بدأ علم الكلام بطرح مسائل جزئيّة مثل شرعيّة إمامة بعض الأشخاص، أو كفر و إيمان أشخاص آخرين، ليصل فيما بعد إلى طرح نظريّات عامّة حول الإمامة و صفات الإمام، و حقيقة الإيمان و الكفر، و غير ذلك من الأبحاث، لينتهي إلى طرح أفكار و آراء غاية في العمق و الدقة، ممّا عكست مدى الثراء العلمي و الخصوبة الفكريّة التي كان يعيشها المسلمون في عصرٍ كانوا يتربّعون فيه على عرش العالَم.
و قد مرّ علم الكلام عند الإماميّة بنفس المراحل الفكريّة، بدأت من مراحل بدائيّة لتصل إلى مرحلة التنظير على يد كبار المتكلّمين، و على رأسهم هشام بن الحكم (ق 3 ه) أكبر و أبرز و أخطر متكلّمٍ إماميٍّ في عصره بلا منازع، و غيره من المتكلّمين من أمثال عليّ بن إسماعيل المِيثمي (أوائل القرن 3 ه)، و يونس بن
ص: 7
عبد الرحمن (ت 280 ه)، و الفضل بن شاذان (ت 260 ه)، و أبي سهل النوبختي (ت 311 ه)، و غيرهم ممّن تطول بهم قائمة الأسماء... حتّى وصلت النوبة إلى الشيخ المفيد (ت 413 ه) كي يشهد علم الكلام تطوّراً جديداً لم يتوقّف مع وفاته، بل استمرّت و تيرة تطوّره على يد أعلام كبار من تلاميذه، و على رأسهم الشريف الأجلّ المرتضى علم الهدى رحمه اللّٰه.
لقد شهد علم الكلام على يد الشريف المرتضى قفزةً نوعيّةً ، و تطوّراً كبيراً من حيث عمق الطرح، و دقّة الاستدلال، و تفصيل المطالب، فقد أسّس لمدرسةٍ كلاميّة ألقت بظلالها على مَن جاء بعده من متكلّمي الإماميّة في بغداد، و الريّ ، و حلب، و غيرها، و فرضت هيبتها عليهم مدّة قرنَيْن من الزمان أو أكثر من ذلك، إنّها مدرسة الشريف المرتضى.
قرّر الشريف المرتضى بناء منظومته الفكريّة الكلاميّة على أساس قاعدة محكمة و رصينة، فكان أفضل أساس لذلك هو «العلم»، فإنّ اعتماد العلم و اليقين و اتّباعهما ممّا قد قرّره الإسلام بكلّ وضوح، قال تعالى: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(1) ، فقد نهى عن اعتماد غير العلم.
و بذلك جعل الشريف المرتضى من العلم وجهته التي يتوجّه إليها، و رائده الذي يسير على هداه، فكلّ ما أدّى به إلى العلم أخذ به و تبنّاه، و كلّ ما لم يؤدّ به إلى ذلك رفضه و أعرض عنه. فصار «العلم» يمثّل الهدف الأسمى الذي تتحرّك
ص: 8
مدرسة الشريف المرتضى نحوه، و الأساس الذي تتعامل من خلاله مع مختلف النظريّات و الأدوات الفكريّة.
و قد ظهر أثر اتباع هذه المنهجيّة العلميّة بجلاء في تعامل الشريف المرتضى مع الأدوات الفكريّة المتّبعة في البحث الكلامي، فرفض اعتماد خبر الواحد لمجرّد أنّه لا يفيد العلم، بينما اعتمد على الخبر المتواتر، و الإجماع، و العقل، لكونها أدوات تمهّد السبيل للمتكلّم للوصول إلى العلم.
و هكذا نرى أثر ذلك في إيمانه بنظريّة الصرفة مثلاً؛ فإنّها باعتقاده تؤمّن عنصر العلم بكون القرآن معجزة، بحيث تجعل الباحث يجزم و يقطع بذلك، خلافاً للنظريّات الأُخرى المطروحة في هذا المجال كالفصاحة و النظم؛ فإنّها برأيه لا توفّر هذا العنصر(1).
و من جهةٍ أُخرى، فإنّ عدم إيمان الشريف المرتضى بقيمة الخبر الواحد لا يعني إعراضه عن اتّباع السنّة بالمرّة، فإنّ خبر الواحد لا يمثّل الطريقَ الوحيد للوصول إلى السنّة، بل لقد اتّبع الشريف المرتضى طرقاً بديلة مكّنَتْهُ من تحصيل السنّة من دون الرجوع إلى خبر الواحد، و ذلك من خلال الاعتماد على الخبر المتواتر و الإجماع.
أمّا الخبر المتواتر فقد تقدّم أنّه يوفّر عنصر العلم، و لذلك سُمح له بالدخول إلى منظومة الشريف المرتضى كأداة من أدوات التعرّف على الآراء الكلاميّة الموجودة في السنّة.
و أمّا الإجماع فقد كان له دورٌ مهمٌّ في استنباط جملة من النظريّات الكلاميّة
ص: 9
التي آمن بها الشريف المرتضى، فهو لم يكن يعتمد على الإجماع في مجال الفقه فحسب، بل تعدّاه إلى مجال علم الكلام، فقام بالاستدلال على عددٍ كبير من الآراء الكلاميّة بالإجماع(1).
و الإجماع برأيه يكشفُ عن رأي الإمام المعصوم الغائب عليه السلام، و بذلك يكون كاشفاً عن السنّة؛ باعتبار أنّ رأي المعصوم سواءً كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أو أحد الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام يمثّل رأي السنّة، فإنّ السنّة عند الإماميّة غير منحصرة بالرسول صلّى اللّٰه عليه و آله بل تشمل الأئمّة عليهم السلام أيضاً. و بذلك انفتح المجال أمام الشريف المرتضى للوصول إلى السنّة، الأمر الذي عوّض له بعض ما فقده من آراء نتيجةَ رفضه لقيمة خبر الواحد.
و أمّا العقل فهو الأداة العلميّة المهمّة التي كان لها دورٌ أساس في استنباط الكثير من الآراء الكلاميّة في مدرسة الشريف المرتضى، و كان لها بروزٌ و ألقٌ خاصّ ممّا سمح للكثيرين أن ينعتوا هذه المدرسة بالعقلانيّة. و هو وصف تستحقّه هذه المدرسة بامتياز، فهو يعكس إلى حدٍّ كبير أهمّ معالم هذه المدرسة.
و لكن ينبغي التنويه إلى نقطةٍ مهمّة، و هي هل كان اعتماد الشريف المرتضى على العقل اعتماداً مطلقاً شاملاً لكل المسائل الكلاميّة، أم أنّ هناك دائرةً معيّنةً يتحرّك العقل في داخلها، و لا يتجاوز حدودها؟
قد لا نجد جواباً صريحاً على هذا السؤال في كتب و رسائل الشريف المرتضى، و لكن إذا راجعنا مجمل أفكاره، و أجَلنا النظر في الأُسس التي ابتنت عليها مدرسته الكلاميّة لوجدنا - كما تقدّم - أن هناك أدواتٍ أُخرى يعتمد عليها في استنباط الأفكار الكلاميّة، و هي الخبر المتواتر و الإجماع، و الخاصيّة
ص: 10
التي تتمتّع بها هاتان الأداتان هي كشفهما عن رأي السنّة - أي رأي الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله أو الإمام عليه السلام - بصورةٍ قطعيّة، أيّ أنّهما تكشفان عن رأي المعصوم عليه السلام و كأنّنا جُلوس أمامه نستمع كلامه الشريف.
و الذي يعرف الشريف المرتضى كمتكلّمٍ مؤمن، يعرف أنّه لا يجرؤ على مخالفة قول الإمام عليه السلام الذي يؤمن بعصمته، و يرى أنّه على حقٍّ في كلّ ما يقوله و يعتقد به(1).
و مع معرفة رأي المعصوم عليه السلام لا يبقى مجالٌ لإعمال العقل، و هذا لا يعني أنّ ما يُؤخذ من الدين قد يخالف العقل، لا أبداً، بل معناه أنّه مع معرفة رأي المعصوم عليه السلام المطابق للواقع، لا يبقى مبرّر لاعتماد العقل، و خاصّة في المجالات التي يُحجم العقل عن مساسها و الدخول فيها.
و بذلك يبقى المجال أمام العقل مفتوحاً في المجالات التي ليس فيها خبرٌ متواتر أو إجماع، ليدلو بدلوه و يبدي رأيه، و هي مجالاتٌ واسعة و آفاقٌ رحبة، تتّضح للقارئ لمدرسة الشريف المرتضى الكلاميّة التي اعتمدت على العقل بصورةٍ كبيرةٍ حتّى استحقّت أن توصف - كما تقدّم - بالعقلانيّة.
من المسائل التي طال الحديث حولها، و التي يرجع تاريخها إلى ما يقارب عصر الشريف المرتضى، و ربّما إلى عصره، هي مسألة علاقته بالمعتزلة، و خاصّة معتزلة البصرة، و مدى تأثّره بهم، حتّى عدّه البعض من المعتزلة، و وضعه في ضمن طبقاتهم(2).
ص: 11
و ما زال الكلام حول هذا الموضوع مستمرّاً، فصار يحلو لبعض المعاصرين أن يصف الشريف المرتضى بأنّه «بهشمي» نسبةً إلى أبي هاشم الجبّائي، و لعلّه لا نجد من سمّى الشريف المرتضى بهذه التسمية قبل زماننا.
و للبتّ في هذا الموضوع ينبغي تحديد ما يسمّى بمحل النزاع كي لا يتشتّت البحث و يخرج من إطاره العلمي إلى دائرة الاتّهام و سوء الطويّة.
و قبل كلّ شيءٍ يجب معرفة معنى الاعتزال، فقد عرّف أبو الحسين الخيّاطُ (ت بعد 300 ه) المعتزليَّ بأنّه الذي يؤمن بأُصول الاعتزال الخمسة، و هي: التوحيد، والعدل، و الوعيد، و المنزلة بين المنزلتَيْن، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنّ من لا يؤمن بواحدٍ منها فهو خارج من دائرة الاعتزال، حيث قال الخيّاط: «و ليس يستحقّ أحدٌ منهم اسم الاعتزال حتّى يجمع القول بالأُصول الخمسة... فإذا كملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي».(1)
و من الواضح للمُراجع لأفكار الشريف المرتضى يجده يرفض أصلَيْن من أُصول المعتزلة رفضاً باتّاً، و هما الوعيد، و المنزلة بين المنزلَتيْن(2)، و بقي إلى آخر لحظةٍ من حياته مصرّاً على رفضهما و اعتبارهما أصلين باطلين. و بذلك لا يمكن اعتباره معتزليّاً و ذلك وفقاً للتعريف الآنف للاعتزال.
و هناك تعريف آخر للاعتزال جعل كلّ مَن يؤمن بالتوحيد و العدل، و لم يؤمن بما يوجب العداوة معتزلياً، فقد قال أبو القاسم البلخي (ت 327 ه):
و الاعتزال - رحمك اللّٰه -... فقد صار في يومنا هذا سمةً لمن قال بالتوحيد و العدل، و لم يَعتقد مِن سائر المقالات ما يزيل الولاية و
ص: 12
يوجب العداوة، و زال عمّن خالف التوحيد و العدل، و إن قال بالمنزلة بين المنزلتَيْن، هذا ضرار و أصحابه يقولون بذلك، و ليس تلزمهم سمة الاعتزال، و لا يقبلهم أهله(1).
و من الواضح أنّ القيد الذي وضعه البلخي، و هو أنْ يَعتقد مِن سائر المقالات بما يزيل الولاية و يوجب العداوة، أنّ هذا القيد يُخرج الشريف المرتضى من حقيقة الاعتزال، فهو يختلف في العديد من المقالات مع المعتزلة بنحوٍ يُخرجه عن ولايتهم، و يُدخله في عداوتهم.
و من أبرز تلك المقالات الإمامة، فقد وقف الشريف المرتضى في هذه المسألة وجهاً لوجه مع المعتزلة، و لم يتهاون في مخالفتهم و ردّ مقالتهم في الإمامة، و طرح رؤيته التي تمثّل رؤية الإماميّة حول هذا الموضوع، و كتابه الشافي في الإمامة خيرُ شاهدٍ على ذلك، و هو كفيل بجلب عداوة المعتزلة.
و يبدو أنّ كلّ هذا كان واضحاً لدى الكثيرين ممّن وسم الشريف المرتضى بالاعتزال، و لكنّهم مع ذلك أصرّوا على دعواهم، و هذا الأمر يرجع إلى أنّهم وجدوا شَبَهاً كبيراً بين آراء الشريف المرتضى في مجالي التوحيد و العدل و مسائل ما يسمّى ب: لطيف الكلام، و بين آراء المعتزلة و خاصّة معتزلة البصرة.
و هذا على فرض تسليمه فهو استحداثٌ لاصطلاح جديد يجعل كلّ مَن يؤمن بالتوحيد و العدل بأيّ نحوٍ من الأنحاء معتزليّاً.
و لكن ينبغي لمن أراد إطلاقه على مثل الشريف المرتضى أن يبيّن مراده منه، و في المقابل يحقّ للآخرين أن يقبلوا بهذا الاصطلاح أو أنْ ينكروه.
ص: 13
و هذا بالطبع على فرض التسليم بتأثّر الشريف المرتضى بالمعتزلة في مجالَي التوحيد و العدل، لكنّه أمر غير مسلّم بصورةٍ مطلقة، و لا بدّ من تفصيل القول فيه:
أمّا أصل القول بالتوحيد و العدل، فإنّ هذين الأصلين من الأُصول العريقة في مدرسة أئمّة أهل البيت عليهم السلام التي ينتمي إليها الشريف المرتضى، فهذه المدرسة هي الوِرْدُ الذي يصدر منه المرتضى، و النبعُ الذي يَغرف منه، فهو قد اقتبس هذَيْن الأصلَيْن من المدرسة التي ينتمي إليها، و لا يوجد أيّ مبرّرٍ معقولٍ لافتراض أخذه لهما من المعتزلة.
ثمّ إنّ هذَيْن الأصلَيْن لم يكونا يوماً حكراً على المعتزلة، و ما كانا قطّ من بنات أفكارهم؛ كي يصبح كلّ مَن آمن بهما تبعاً لهم. و قد قال الشريفُ المرتضى رحمه اللّٰه كلمتَه المشهورة:
اعلم أنّ أُصول التوحيد و العدل مأخوذةٌ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، و خُطبه، و أنّها تتضمّن من ذلك ما لا مزيد عليه، و لا غاية وراءه. و مَن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه عَلم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه و جمعه إنّما هو تفصيلٌ لتلك الجُمَل، و شرحٌ لتلك الأُصول، و روي عن الأئمّة من أبنائه عليهم السلام من ذلك ما لا يكاد يُحاط به كثرة.
و من أحبّ الوقوف عليه و طلبه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، و نتاج للعقول العقيمة(1).
و أمّا تفاصيل مسائل التوحيد و العدل، فالكثير منها ممّا تواترت به الأخبار عن
ص: 14
أئمّة أهل البيت عليهم السلام، أو قام عليه إجماع الإماميّة، أو كان له وجودٌ بين الإماميّة، مثل نفي الرؤية، أو نفي التكليف بما لا يطاق، و غيرها، فإنّ مجرد وجود تشابه بين هذه المسائل عند الشريف المرتضى و المعتزلة لا يعني أنّه صار تابعاً لهم، بل إنّ تَبَنِّيهِ لهذه المسائل ناشئٌ من وجود أصلٍ لها في تراث الإماميّة، فيكون بذلك تابعاً للمدرسة الإماميّة، لا للمعتزلة؛ فقد تقدّم أنّه مع وجود خبرٍ متواتر أو إجماعٍ حول مسألة فهذا يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام الذي لا يخالفه الشريف المرتضى في أيّ حالٍ من الأحوال، و لا تسمح له مدرسته الفكريّة بذلك، فيكون بذلك تابعاً لقول المعصوم عليه السلام بدلاً من المعتزلة.
و أمّا وجه التشابه بين آراء الإماميّة المُجمَع عليها بينهم و بين المعتزلة، فينبغي إرجاعها إلى اتّحاد المصادر الفكريّة لكلا المدرستَيْن، و هذا المصدر هو مدرسةُ أئمّة أهل البيت عليهم السلام، و خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام الذي يفاخر الإماميّة و المعتزلة بالانتماء إليه.
قال الشيخ المفيد:
ما رأيتُ أعجب منكم يا معاشر المعتزلة، تتكلّمون فيما قد شارككم الناس فيه من العدل و التوحيد أحسن كلام، حتّى إذا صرتم إلى الكلام في الإمامة و الإرجاء صرتم فيهما عامّةً حشويّةً تخبطون خبطَ عشواء، لا تدرون ما تأتون و ما تذرون، و لكن لا أعجب العجب من ذلك، و أنتم إنّما جوّدتم فيما عاونكم عليه غيركم، و استفدتموه من سواكم، و قصرتم فيما تفرّدتم به، لا سيّما في نصرة الباطل الذي لا يقدر على نصرته في الحقيقة قادر(1).
ص: 15
بقي عددٌ من المسائل التي آمن بها الشريف المرتضى و المعتزلة، و لم نجد لها مصدراً محدّداً في تراث الإماميّة، ففي هذه الحالة لا مناصَ من القول بمتابعة الشريف المرتضى لهم، و لكن هذه المسائل محدودة و قليلة، فممّا وقفنا عليه من المسائل الكلاميّة في مجال التوحيد و العدل و التي قد حصل فيها تأثّر من المعتزلة هي مسألة حقيقة الإرادة، و حقيقة السمع و البصر، و لكن هذا العدد الضئيل من المسائل لا يسمح لنا بأنْ نصفَ الشريفَ المرتضى بأنّه معتزليٌّ أو بهشميٌّ ، حتّى على فرض إمكان جعل معنى جديد للاعتزال، بحيث يشمل مسألتَيْن أو مسائل محدودة يحصل فيها تأثّرٌ بالمعتزلة.
و أمّا مسألة الأحوال فهي غير واضحة في فكر الشريف المرتضى، فهو لا يرفضها و لا يقبل بها بصراحة، و عباراته تحتمل الطرفين، أي تحتمل القول بالأحوال، و القول بعينيّة الذات و الصفات، فلا يمكن الجزم بأنّه قد تبنّى القولَ بالأحوال، و أنّه قد تأثّر بذلك بالمعتزلة، و لنذكر بعض عباراته في هذا المجال، فقد قال:
فصلٌ : في كيفيّة استحقاقه تعالى ما تقدّم ذكره من الصفات، و أنّه يستحقها لذاته لا لمعانٍ ... و إذا بطلت أقسام المعاني كلّها لم يبقَ إلّاأن يكون مستحقّاً لها لذاته، أو لما هو عليه في ذاته.(1)
فإنّ قوله: «مستحقّاً لها لذاته» يناسب القول بالعينيّة، و قوله: «أو لما هو عليه في ذاته» يناسب القول بالأحوال.
و هكذا قال حول صفة القدرة: «... وجب أنْ يكون قادراً لنفسه، أو لما عليه في
ص: 16
نفسه»(1). و قال: «و قد بيّنا أنّ كونه قادراً إذا كان للنفس، أو لما يرجع إلى النفس»(2).
إلى غير ذلك من أقواله التي تحتمل الوجهَيْن.
هذا كلّه بالنسبة إلى دعوى تأثّر الشريف المرتضى بالمعتزلة في مجال المسائل الكلاميّة، و أمّا متابعته لهم في بعض الأدلّة التي أقاموها، فهو لا يعني أنّه متأثّرٌ بهم في أصل الفكرة، فقد تكون له أدلّة معيّنة، مثل التواتر أو الإجماع هي التي دَعَتْهُ إلى تبنّي الفكرة، سوى أنّه استعان بأدلّة المعتزلة لتأييدها، و هذا لا يعني أنّه متأثّرٌ في أصل الفكرة بهم.
نعم، إذا تمّ التأكد من أنّ السبب الوحيد الذي دعاه لتبنّي الفكرة هو الأدلّة التي أخذها من المعتزلة، فهذا يعني أنّه متأثّرٌ بهم في تبنّيها أيضاً.
و أمّا تأثّره بأدبيّاتهم، و لغتهم، و أُسلوبهم في طرح الأفكار و مناقشتها و الاستدلال عليها، فلا ضير في ذلك، و هو لا يعني تأثّره بهم، بل هو أمرٌ متعارفٌ في كلّ عصرٍ أن يتمّ الاستعانة بأدبيّات ذلك العصر و لغته، و قد كانت لغة العلم العقلانيّة السائدة في عصر الشريف المرتضى و التي تتلائم مع فكره و مدرسته هي لغة المعتزلة، و هذا لا يعني أنّه صار معتزليّاً لمجرّد متابعته لهم في ذلك.
إذن، ينبغي التريّث قبل اتّهام الشريف المرتضى بالاعتزال، أو إطلاق اسم معتزليّ أو بهشميّ عليه.
عندما بدأ الشريف المرتضى بإملاء كتاب الملخّص كانت نيّته أن يقوم باستعراض جميع المسائل الكلاميّة بصورة تفصيليّة. و لو كان قد تمّ له ما أمّل
ص: 17
لكان يتحوّل الكتاب إلى أوسع كتابٍ كلاميّ - موافق لمذهب الإماميّة - إلى عصر الشريف المرتضى، فنحن لم نعهد كتاباً كلاميّاً بهذا الحجم و العمق و التفصيل قد كُتب قبل ذلك بين الإماميّة، فهي إذن محاولةٌ رائدةٌ و جريئةٌ و فريدةٌ من نوعها.
و لكن ممّا يؤسف له أنّ الشريف المرتضى لم يوفّقْ لإكمال إملاء الكتاب؛ فقد نصّ البُصروي و الشيخ الطوسي على أنّه ناقصٌ و لم يتمّ (1)، كما جاء في نهاية الكتاب في نهاية فصل «في تمييز وجوه الأفعال الراجعة إلى فاعلها» ما يلي: «هذا آخر ما خرج من هذا الكتاب»، حيث ينقطع البحث فجأة، و هو صريح في عدم تمام الكتاب.
و لا نعرف السبب الذي منع من إتمام الكتاب بالدقّة، و قد أشار الشريف المرتضى في خاتمة كتاب الذخيرة إلى سبب ذلك و لكن بصورة مغلقة، حيث قال: «فلمّا وقف تمام إملاء الملخّص - لعوائق الزمان التي لا تُملك - تغيّرت النيّة...»(2).
و لعل من تلك العوائق كثرة الاشتغالات التي كانت تفرضها عليه مكانته الاجتماعيّة، كنقيب للطالبيّين، و متولٍّ لشؤون الحجّ و المظالم(3)، أو النزاعات الطائفيّة التي كانت تنشب بين الفينة و الأُخرى في بغداد.
و يبدو أنّه لم يوفّق أبداً لإتمام الكتاب، فقد أشار في الذريعة الّذي ألّفه في أُخريات حياته، أي في سنة 430 ه، إلى الملخّص و قال: «و استقصاء هذه الجملة لا يليق بهذا الموضع، و قد بسطناه في كتاب الذخيرة، و فيما خرج
ص: 18
من كتاب الملخّص»(1). فقوله: «و فيما خرج» صريحٌ بأنّ الكتابَ لم يتمّ إلى ذلك الحين.
نعم، لقد قام الشريفُ المرتضى بإكمال كتابه من خلال إملاء كتابٍ آخر، و هو كتاب الذخيرة، فعندما كان مشغولاً بإملاء كتاب الملخّص - و هي دورةٌ كلاميّةٌ مفصّلة كما تقدّم - بدأ بإملاء دورةٍ كلاميّةٍ مختصرةٍ ، و التي ظهرت فيما بعد بصورة كتاب الذخيرة، و لكن عندما انقطع إملاء الملخّص، قرّر أن يقوم بتفصيل أبحاث الذخيرة - من الموضع الذي انقطع فيه إملاء الملخّص - بنفس المستوى من التفصيل الذي قام به في الملخّص، و ذلك لكي يسدّ الفراغ الذي تركه انقطاعُ إملاء الملخّص.
و بهذا صار ما خرج من كتاب الملخّص و القسمُ المفصّل من الذخيرة يشكّلان بمجموعهما دورة كلاميّة تفصيليّة كاملة، لا يخلو منها بحثٌ من الأبحاث الكلاميّة المهمّة، حتّى يمكن اعتبارهما كتاباً كلاميّاً واحداً.
و قد أشار الشريف المرتضى في خاتمة الذخيرة إلى كلّ هذه الأُمور، حيث قال:
و بين أوائل هذا الكتاب [يعني الذخيرة] و أواخره تفاوتٌ ظاهر؛ فإنّ أوّله على غاية الاختصار، و البسطُ و الشرحُ معتَمَدان في أواخره.
و العذر في ذلك أنَّا بدأنا بإملائه، و النيّة فيه الاختصار الشديد؛ تعويلاً على أنّ الاستيفاء و الاستقصاء يكونان في كتاب الملخّص، فلمّا وقف تمام إملاء الملخّص - لعوائق الزمان التي لا تُملك - تغيّرت النيّة في كتابنا هذا، و زدنا في بسطه و شرحه.
و إذا جُمع بين ما خرج من كتاب الملخّص، و جُعل ما انتهى إليه كأنّه
ص: 19
أوّل لهذا الكتاب، وُجد بذلك الكلام في جميع أبواب الأُصول مستوفىً و مستقصىً (1).
كما جاء في بداية الجزء الرابع من النسخة الوحيدة للملخّص - بعد انتهاء استنساخ ما خرج من الملخّص - ما يلي:
نبدأ بعون اللّٰه و قوّته في هذا الجزء بذكر أوّل الكلام المبسوط من الكتاب الموسوم ب: الذخيرة، المخالِف لما بُني عليه صدرُه من الإيجاز و الاختصار، ليكون تماماً للكتاب الملخّص، من حيث انتهى الإملاء منه، حسبما رآه مصنّفهما و رَسَمَه.
و كلّ هذا صريح في أنّ الذخيرة تكملةٌ للملخّص، و أنّ زمان تأليفهما كان متلاصقاً، فالجزء المختصر من الذخيرة كان متزامناً مع إملاء الملخّص، و أمّا الجزء المفصّل منه فقد بدأ بعد انقطاع إملاء الملخّص.
و على أيّ حال، فالقدر الذي خرج من الكتاب الملخّص يشكّل حوالي نصف المشروع الذي بدأه الشريف المرتضى، و هو يعكس إلى حدٍّ كبير آراء الشريف المرتضى بصورة تفصيليّة في مجال التوحيد، و الصفات الإلهيّة، و شيء مهمّ من مباحث العدل، كما يعكس النضج الذي بلغه العقل الإمامي في ذلك العصر.
و الظاهر أنّ الشريف المرتضى كان يملي مطالب هذا الكتاب من خلال دروس يلقيها على تلامذته، كما هو ظاهر كلمة «إملاء» التي جاءت في عبارته الآنفة. و لعلّه كان يكتب البحث قبل إلقائه ثمّ يقرؤه على تلاميذه، أو يلخّص مطالبه لهم، كما يحتمل أنّه كان يكتب البحث بعد إلقائه شفهيّاً على الطلّاب، و مناقشتِه من قِبَلهم.
ص: 20
ثمّ إنّ الكتابَ مقسّمٌ إلى ثلاثة أبواب رئيسيّة، و كلٌّ منها يحتوي على فصول، و هي:
الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع.
و ينقسم إلى فصلَيْن:
الأوّل: في الدلالة على حدوث الأجسام.
الثاني: في الدلالة على إثبات المُحدِث.
الباب الثاني: الكلام في الصفات.
و ينقسم إلى قسمَيْن رئيسيَّيْن، و كلّ قسمٍ يحتوي على فصول:
القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة الذاتيّة.
و يحتوي على فصول تعرّضت إلى صفات القدرة، و العلم، و الحياة، و الإدراك (السمع و البصر)، و الوجود، و القِدَم، و أحكام هذه الصفات.
القسم الثاني: الصفات السلبيّة.
و يحتوي على فصول تعرّضت إلى البحث عن نفي الحاجة (الغنى)، و نفي الجسميّة، و نفي الرؤية، و نفي الثاني (التوحيد)، و الردّ على الأديان المخالِفة في الصفات.
الباب الثالث: الكلام في العدل.
و يحتوي على فصول دارت أبحاثها حول بيان ضروب الأفعال و أقسامها، و أنّه تعالى قادرٌ على القبيح، إضافةً إلى بحوث مفصّلة حول الإرادة، و الكلام، و المخلوق.
ص: 21
و قد تعرّض في الفصل الأخير - أي فصل المخلوق - إلى معظم أبحاث الفعل المباشر، و أمّا الفعل المتولد فلم يبحثه بسبب انقطاع إملاء الكتاب، و لكنه قام بالبحث عنه في كتاب الذخيرة.
كما بقيتْ أبحاث أُخرى كان الشريف المرتضى قد وعد ببحثها في باب العدل - كما أشار إلى ذلك في تمهيد هذا الباب - إلّاأنّه لم يوفّقْ لذلك لانقطاع الكتاب، مثل أبحاث: الأصلح، و اللطف، و العوض، و التكليف، و هي أبحاث قام بتفصيل البحث عنها في الذخيرة أيضاً، ليتمّ بذلك باب العدل.
سمّاه البُصروي: «الملخّص» و وصفه بأنّه ناقصٌ (1). فيما ذكر النجاشيُّ اسمه الكامل، فقال: «الملخّص في أُصول الدين»(2). و سمّاه الطوسي: «الملخّص في الأُصول»، و قال: «لم يتمّه»(3). و هكذا سمّاه ابن شهر آشوب تبعاً للطوسي، و أضاف عليه كلمةً واحدةً ، حيث قال واصفاً الكتاب بأنّه حَسَنٌ (4).
و أمّا الشريف المرتضى فقد سمّاه في كتبه و رسائله بهذه الأسماء كلّها، فسمّاه في أكثر الأحيان: «الملخّص»(5)، و سمّاه أيضاً: «الملخّص في الأُصول»(6)، كما سمّاه:
ص: 22
«الملخّص في أُصول الدين»(1). و الظاهر أنّ الاسم الأخير هو الأفضل و الأكمل، و إنّما سمّي بالأسماء الأُخرى بهدف الاختصار.
فالراجح تسميته: الملخّص في أُصول الدين.
ثمّ إنّ كلمة «الملخّص» لا تعني هنا الاختصار، و إنّما تعني التهذيب و الترتيب و التبيين، فإنّ هذا أحد معنيَي التلخيص، قال ابن منظور في مادّة «لخص»:
التلخيص: التبيين و الشرح، يقال: لخصت الشيء و لحصته - بالخاء و الحاء - إذا استقصيت في بيانه و شرحه و تحبيره. يقال: لخِّص لي خبرك، أي بيِّنه لي شيئاً بعد شيء.
و في حديث عليّ عليه السلام أنّه قعد لتلخيص ما التبس على غيره. و التلخيص: التقريب و الاختصار، يقال: لخّصت القول، أي اقتصرت فيه، و اختصرت منه ما يُحتاج إليه(2).
و الذي يدلّ على أنّ المراد بالتلخيص في كتاب الملخّص هو التبيين و التهذيب، لا الاختصار، ما تقدّم من أنّه قد قام بتفصيل الأبحاث في هذا الكتاب و لم يقم باختصارها، فقد تقدّم كلامه في خاتمة الذخيرة بأنّه اختصر الذخيرة في البداية؛ تعويلاً على أن يكون الاستيفاء و الاستقصاء في الملخّص، كما صرّح بذلك في خاتمة جُمَل العلم و العمل، و قال: «فمن أراد التزيّدَ في علم أُصول الدين، و الغوصَ إلى أعماقه و تغلغل شعابه، فعليه بكتابنا الموسوم ب: الذخيرة،
ص: 23
فإن آثر الزيادةَ و الاستقصاء فعليه بكتابنا الملخّص(1). إذن لم يقم الشريفُ المرتضى باختصار الأبحاث الكلاميّة في كتابه الملخّص، و إنّما قام بترتيب تلك الأبحاث و تهذيبها و تبيينها، و هو المقصود بالتلخيص.
لا شكّ في نسبة الملخّص إلى الشريف المرتضى؛ فقد نسبه إليه تلامذَتُهُ أعني:
البُصروي، و النجاشي، و الطوسي، كما تقدّم، و هُم أدرى بكتب شيخهم و أُستاذهم.
أضفْ إلى ذلك لقد أرجع إليه الشريف المرتضى في كتبه الأُخرى المعلوم نسبتها إليه، مثل الذخيرة(2)، و جُمَل العلم و العمل(3)، و الذريعة(4).
كما أنّه أرجع في الملخّص إلى بعض رسائله المعلومة نسبتها إليه، مثل رسالة الكلام فيما يتناهى و لا يتناهى التي ردّ فيها على يحيى بن عدي (ت 364 ه)(5)، و هي من رسائله التي لا شكّ فيها، فقد نسبها البُصروي إليه و سمّاها: مسألة في الردّ على يحيى بن عدي النصراني فيما يتناهى و لا يتناهى(6). كما أرجع إلى رسالةٍ أُخرى له ردّ فيها أيضاً على رسالة ليحيى بن عدي في طبيعة الممكن(7)، و التي سمّاها البُصروي: مسألة [في الردّ] على يحيى في طبيعة الممكن(8).
ص: 24
و أرجع أيضاً إلى إحدى رسائله حول نفي الرؤية بالأبصار(1)، و هذه الرسالة موجودة في نهاية المجلس الثاني من أماليه التي لا شكّ في نسبتها إليه(2).
و بذلك لا يبقى مجال للشكّ في نسبة الكتاب إلى الشريف المرتضى.
لا يوجد دليلٌ واضحٌ يحدّد لنا تاريخ تأليف الملخّص بصورة دقيقة، و لكن يمكن ترجيح أن يكون قد تمّت كتابته ما بين السنوات 410 و 415 ه، أو قبل ذلك أو بعده بقليل، ويمكن أن نقيم على ذلك بعض الشواهد الاحتماليّة:
1. لقد أرجع الشريف المرتضى في كتاب الذخيرة إلى كتابيه الأمالي(3) (الذي فرغ منه سنة 413 ه)، و المقنع في الغيبة(4) (الذي كتبه للوزير المغربي(5) الذي صار وزيراً في بغداد بين سنتي 414 و 415 ه)، و هذا يعني أنّه تمّ تأليف الذخيرة بعد هذه السنوات تقريباً، فيكون تأليف الملخّص متزامناً تقريباً مع هذه السنوات؛ فقد تقدّم أنّ تأليف الملخّص متقدّم على الذخيرة، و أنّ زمانَي تأليفهما متلاصقان.
2. لقد أرجع الشريفُ المرتضى إلى الملخّص في جواب سؤال حول قِدَم العالم أرسله إليه المحقق الكراجكي، و كان سبب إرسال الكراجكي للسؤال هو دخوله في مناظرة مع أحد الأشخاص عندما كان في الرملة، فوجّه ذاك الشخص إشكالاً، أجاب عنه الكراجكي، و لكنه لم يكن مقتنعاً بالجواب، فأرسل الإشكال
ص: 25
إلى الشريف المرتضى في بغداد كي يجيب عليه(1).
و عند مراجعتنا لحياة الكراجكي (ت 449 ه) نجد أنّه كان موجوداً في الرملة بين السنوات 410 و 416 ه تخلّلتها زيارة إلى بيت اللّٰه الحرام(2). فإذا كانت مناظرة الكراجكي مع ذلك الشخص التي وقعت في الرملة، قد وقعت في هذه السنوات، و أنّ الشريف المرتضى قد أرجع في جوابه لسؤال الكراجكي إلى الملخّص، فهذا يعني أنّ تأليف الملخّص قد تمّ في هذه السنوات تقريباً.
إذن الراجح أنّ تأليف الملخّص قد تمّ تقريباً في بدايات العقد الثاني من القرن الخامس، أو في منتصف هذا العقد.
و يمكن أن نضيف إلى ذلك أنّ تأليف الملخّص قد تمّ بعد الشافي؛ فقد تقدّم أنّ تأليف كتاب الملخّص متقدّم زمنيّاً على تأليف كتاب الذخيرة، و لكن قبل انتهاء الملخّص كان الشريف المرتضى قد بدأ بكتابة الذخيرة، و هذا يعني أنّ الملخّص متقدّم زمنيّاً على الذخيرة، و لكن في فترةٍ حصل تداخل في زمن تأليف الكتابَيْن، أي أنّ تاريخَي تأليف الكتابَيْن كانا متلاصقَيْن، و لا يوجد بينهما فاصل زمني، هذا من جهة.
و من جهة أُخرى، لقد أرجع الشريف المرتضى في الذخيرة إلى كتابه الصرفة(3)، و هذا يعني أنّ تأليفَ الصرفة متقدّمٌ زمنيّاً أيضاً على الذخيرة، فيمكن أن يكون تأليف الصرفة متزامناً مع تأليف الملخّص المتقدّم أيضاً على الذخيرة، كما يمكن أن يكون الصرفة متقدّماً على الملخّص أيضاً.
ص: 26
و لكن لا يمكن أن يكون الصرفة متأخّراً عن الملخّص؛ لأنه تقدّم أنّ الملخّص و الذخيرة كانا متلاصقين من حيث تاريخ التأليف، فإذا صار الصرفة متأخّراً عن الملخّص، فهذا يعني أنّ تأليفه متزامنٌ مع تأليف الذخيرة، و هو لا يتلائم مع الإرجاع إلى الصرفة في الذخيرة.
و من جهةٍ ثالثة، لقد أرجع الشريفُ المرتضى في كتاب الصرفة إلى كتابه الشافي(1) الذي انتهى من تأليفه سنة 398 ه(2)، و هذا يعني أنّ تأليف الصرفة متأخّرٌ عن هذا التاريخ.
فإذا صحّ ما تقدّم من أنّ تأليفَ الصرفة و الملخّص متزامنان، أو أنّ الصرفةَ متقدّمٌ على الملخّص لا متأخّر، فهذا يعني أنّ تأليفَ الملخّص تمّ بعد سنة 398 ه أيضاً، أي بعد تأليف كتاب الشافي.
يمكننا من خلال التتبّع في مطاوي الكتب أن نرصدَ بعض الأعمال التي دارت حول كتاب الملخّص من خلال إتمامه أو شرحه. و قد كان أوّل مَن حاولَ إكمال الكتاب هو الشريف المرتضى نفسه، فقد قام بإكماله من خلال تأليف كتابٍ آخر، و هو الذخيرة في علم الكلام كما تقدّم.
و يمكن أن نشير إلى عملَيْن تعرّضا إلى الملخّص بالإتمام و الشرح، و هما:
1. تتمّة الملخّص(3). ذكر الميرزا عبد اللّٰه الأفندي (من أعلام القرن الحادي عشر)
ص: 27
هذا الكتاب عن بعض الفضلاء الذي قال: «الشيخ أبو يعلى حمزة بن محمّد، المعروف بسلّار، و هو ديلميّ من تلاميذ المرتضى، و له تتمّة الملخّص للمرتضى و غيره من التصانيف، و مات بعد وفاة المرتضى»(1).
إلّاأنّ الأفندي شكّك في نسبة هذا الكتاب إلى سلّار، و احتمل أن يكون المؤلّف هو أبو يعلى حمزة بن محمّد الجعفري، و أنّه قد حصل خلطٌ بينه و بين سلّار بسبب تشابه كنيتهما(2). كما استظهر قبل ذلك أنّ أبا يعلى حمزة بن محمّد الجعفري صهر الشيخ المفيد هو نفس أبي طالب حمزة بن محمّد بن أحمد بن عبد اللّٰه الجعفري(3).
و لكن الملاحَظ أنّ صهر الشيخ المفيد هو أبو يعلى محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري(4)، و ليس أبا يعلى حمزة بن محمّد الجعفري، و الظاهر أنّه قد حصل خلطٌ بين الشخصَيْن، كما احتمل الأفندي أيضاً ذلك(5).
و على أيّ حالٍ ، فهناك ثلاثة احتمالات حول مؤلّف تتمّة الملخّص:
الأوّل: أنه الشيخ أبو يعلىٰ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، المعروف ب: «سلّار» (ت 448 ه)، و لكنّ الذي يضعّف هذا الاحتمال أنّ اسم سلّار هو حمزة بن عبد العزيز، لا حمزة بن محمّد. إلّاأنّ المحقّق الطهراني استقرب احتمال أن يكون المؤلّف هو سلّار، و أكّد على أنّ خطأ ذلك الفاضل في اسم أب سلّار، لا يدلّ على
ص: 28
عدم كون سلّار مؤلّفاً للكتاب؛ فإنّ تتلمذ سلّار على الشريف المرتضى و تتّبعه لتصانيفه و انتصاره له مشهورٌ، فإنّه الرادّ على أبي الحسين البصري في نقضه للشافي تأليف أُستاذه المرتضى(1).
الثاني: أنّه محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري (ت 463 ه) صهر الشيخ المفيد، و الذي قد يؤيّد أن يكون هذا الجعفري مؤلّفاً للتتمّة هو أنّ النجاشي قد نسب إليه كتاباً سمّاه: التكملة(2)، و لعلّه نفس تتمّة الملخّص. و الذي يضعّفه أنّ اسم الجعفري هو محمّد بن الحسن بن حمزة، لا حمزة بن محمّد.
الثالث: أنّه أبو طالب أو أبو يعلى حمزة بن محمّد بن أحمد بن عبد اللّٰه الجعفري (القرن 6 ه)، ولكن ذهب المحقّق الطهراني إلى أنّه من معاصري الشيخ منتجب الدين الرازي المتوفّى (ت 585 ه)(3)، و هذا لا يتناسب مع عبارة ذلك الفاضل التي نقلها الميرزا الأفندي، حيث قال عن المؤلّف: إنّه من تلاميذ الشريف المرتضى، كما يظهر منها معاصرة المؤلّف للمرتضى، حيث قال عنه: «و مات بعد وفاة المرتضى»، بينما الجعفري المذكور هنا متأخّرٌ عنه بقرنٍ من الزمان تقريباً.
إذن، من المحتمل أنّ مؤلّف التتمّة هو الشيخ سلّار، كما يحتمل أنّه شخصٌ آخر يُدْعى «الشيخ أبو يعلى حمزة بن محمّد».
2. شرح الملخّص: لأبي عليّ الحسن بن أحمد بن عليّ بن المعلّم الحلبي (كان حيّاً سنة 453 ه). قال: ابن العديم في ترجمته: «و له كتابٌ في الأُصول شَرَحَ فيه الملخّص»، و احتمل محقّق الكتاب أنْ يكون المقصود بالملخّص هو كتاب
ص: 29
الملخّص في أُصول الدين للشريف المرتضى(1).
و الذي يعرف علماء حلب من الإماميّة، و مدى تأثّرهم بأفكار الشريف المرتضى، و متابعتهم لآرائه، و اهتمامهم بتراثه، يستطيع أنْ يطمئنَّ بأنّ المراد بكتاب الملخّص المذكور في عبارة ابن العديم هو ملخّص الشريف المرتضى، خاصّة و أنّ الشيخ ابن المعلّم الحلبي الشارح لكتاب الملخّص هو من تلامذة الشيخ أبي الصلاح الحلبي(2)، أحد أبرز تلامذة الشريف المرتضى و المتأثّرين بفكره.
و هناك كتاب آخر من المحتمل أن يكون ناظراً إلى كتاب الملخّص، و هو كتاب التعليق في علم الكلام، للشيخ قطب الدين أبي جعفر محمّد بن الحسن المُقري النيسابوري (ق 6 ه)، فقد احتمل محقّق الكتاب أنْ يكون تعليقاً على كتاب الملخّص؛ و ذلك للتطابق بين فصوله و عناوينه، و أُسلوب مطالبه و سياقها(3).
و الذي يطالع هذا الكتاب و يعرف مدى تأثّر مؤلّفه بأفكار الشريف المرتضى، لا يستبعد هذا الاحتمال.
ثمّ إنّ للعلّامة الحلّي (ت 726 ه) كتاباً سمّاه: تحصيل الملخّص(4)، و لكن الظاهر أنّه لا علاقة له بملخّص الشريف المرتضى، بل هو ناظرٌ إلى كتاب الملخّص للفخر الرازي في الحكمة و المنطق(5)، و كأنّ العلّامة الحلّي أراد بعنوان (تحصيل
ص: 30
الملخّص) محاكاة كتاب (تلخيص المحصّل) الذي كتبه أُستاذه الخواجة الطوسي (ت 673 ه) و لخّص فيه كتاباً آخر من كتب الفخر الرازي.
و الأمر بحاجة إلى دراسة فكر و تراث العلّامة الحلّي لمعرفة الفرق الموجود بين أفكاره و أفكار الشريف المرتضى، فإنّ الدارس لذلك يضعف عنده احتمال أن يقوم العلّامة بالاهتمام بكتابٍ كلامي للمرتضى من هذا النوع.
على الرغم من كون كتاب الملخّص ناقصاً، إلّاأنّ المقدار الذي خرج منه كان جديراً باهتمام العلماء به من خلال إتمامه أو شرحه كما تقدّم.
و كان الشريف المرتضى مِنْ أوّل مَن اهتمّ بهذا الكتاب من خلال إرجاعه إليه في مختلف كتبه و رسائله، فقد أرجع إليه في الذخيرة(1)، و جُمَل العلم و العمل(2)، و الذريعة(3)، و المسائل الطبريّات(4)، و الطرابلسيّات الأُولى(5)، و الثالثة(6)، و في جواب مسألةٍ حول قِدَم العالم نقلها الكراجكي في كتابه(7).
و أمّا مَن تلا الشريفَ المرتضىٰ في الاهتمام بالملخّص، و الاشارة إليه، فمنهم:
1. الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، فقد أشار إلى الملخّص في كتابه تمهيد الأُصول(8).
ص: 31
2. و قد تقدّم أنّ الشيخ سلّار (ت 448 ه) أو شخصاً يدعى «الشيخ أبو يعلى حمزة بن محمّد» قام بتأليف تتمّة الملخّص، و قد تقدّمت الاحتمالات الموجودة حول مؤلّف هذه التتمّة.
3. و ممن تأثّر بالملخّص ابن سنان الخفاجي الحلبي (ت 466 ه)، فقد تعرّض في كتابه سرّ الفصاحة إلى بحوث كلاميّة حول حقيقة الكلام، و إذا قمنا بمقارنة ما جاء في هذا الكتاب مع بحث الكلام الإلهي من الملخّص، لوجدنا تطابقاً كبيراً بين الآراء و حتّى ألفاظ الكتابَيْن، حتّى لقد تمّت الاستعانة في فصل الكلام الإلهي من التحقيق الجديد لكتاب الملخّص بهذا الفصل من كتاب سرّ الفصاحة، و هو يدلّ على مدى تأثّر ابن سنان بالملخّص.
و ممّا يزيد احتمال تأثّره هو أن المُراجع لكتابه سرّ الفصاحة يجد تطابقاً كبيراً بين آرائه و آراء الشريف المرتضى، مثل رأيه حول حقيقة الصوت و الكلام و ما يتعلّق بذلك، و القول بالصرفة، و نفي حجّيّة المفاهيم(1).
4. و تقدّم أنّ الشيخ أبا عليّ الحسن بن أحمد بن عليّ بن المعلّم الحلبي (كان حيّاً سنة 453 ه) قام بشرح الملخّص، و هو يدلّ على اهتمامٍ خاصٍّ بالكتاب.
5. و ممّن اهتمّ بالكتاب، و نقل نصوصاً منه المُقري النيسابوري (ق 6 ه)، فقد أشار إلى الملخّص و نقل منه نصَّين(2)، و المُراجع لكتب المُقري يجد مدى تأثّره بالشريف المرتضى، و تطابق آرائهما الكلاميّة.
6. كما تقدّم أنّ الشيخ ابن شهر آشوب (ت 588 ه) وصف الملخّص بأنّه «حَسَن»، و يظهر من ذلك أنّه قد شاهد الكتاب.
ص: 32
7. و ممّن اهتمّ بكتاب الملخّص، و بالتراث الكلامي للشريف المرتضى بصورة عامّة، جماعةٌ من اليهود كانوا يعرفون باسم (القَرَّائين)، كانوا مرتبطين بدار العلم القَرَّائينيّة في القدس (أُورشليم)، حيث قاموا في حوالي القرن الخامس أو السادس باستنساخ نسخة من كتاب الملخّص كتبوها بخطٍّ عبري، و لعلّهم استنسخوها في مدينة القدس. و قد بقيت على الأقلّ ورقتان من هذه النسخة ما زالتا محفوظتين في مكتبة سان بطرسبورغ كما سوف يأتي ذلك عند التعريف بها.
و بعد ذلك اختفى الملخّص لعدّة قرون، فلا نجد له ذكراً - حسب تتبّعنا - في الحلّة، و لا في غيرها من مراكز الإماميّة، ليعود إلى ظهورٍ ضعيفٍ في بداية القرن الحادي عشر، حيث قام أحدهم بكتابة نسخةٍ منه، انتهى من كتابة الجزء الثاني منها في سنة 1027 أو 1037 (النسخة غير واضحة)، و لكن يبدو أنّ أحداً لم يهتم بهذا الكتاب، فعاد الاختفاء مرّةً أُخرى، و خاصّة بعد سقوط أوراق من بداية النسخة.
و قد استقرّت هذه النسخة من الملخّص فيما بعد في مكتبة شيخ الإسلام الزنجاني (ت 1373 ه)، و لا ندري مدى انتفاعه بهذا الكتاب في بحوثه و مؤلّفاته.
و قد شاهد المحقّق الطهراني هذه النسخة في مكتبة الشيخ الزنجاني(1).
و منذ طباعة الكتاب حوالي سنة 1423 ه صار محطّاً لاهتمام الباحثين في مجال علم الكلام و تاريخه، إلّاأنّ وجود مشاكل متعدّدة في هذه الطبعة عوّق إمكان الانتفاع الكامل بالكتاب، و نأمل أن تكون الطبعة الجديدة التي بُذلت فيها جهودٌ كبيرة، فاتحةَ عهدٍ جديد للانتفاع بهذا الكتاب الثمين.
ص: 33
لقد تتبّعنا قبل قليل وجود نسخ من الملخّص في بغداد و حلب و الريّ و ربما في القدس، إلى نهايات القرن السادس، إلّاأنّ شيئاً من هذه النسخ لم يصلنا، ما عدا ورقتين من النسخة العبريّة كما تقدّم. و الذي وصل إلينا نسخة واحدة فقط من القرن الحادي عشر.
و فيما يلي تعريفٌ بنسخة الكتاب الوحيدة، و بالورقتين المُشار اليهما:
1. نسخة مجلس الشورى بطهران. لقد وصلت إلينا نسخةٌ واحدة نسخت في سنة 1027 ه، أو 1037 ه بواسطة شخصٍ مجهول، و في مكان مجهول أيضاً، و قد تقدّم أنّ هذه النسخة وصلت إلى مكتبة شيخ الإسلام الزنجاني، إلى أن انتهى بها المطاف إلى مكتبة مجلس الشورى في طهران، حيث هي الآن مودعة فيها، و تحمل الرقم 10073، و تحتوي على 142 ورقة، إضافة إلى صفحةٍ أخيرة واحدة تحتوي على أربعة أسطر، فيكون مجموع صفحات النسخة 285 صفحة، في كلّ صفحة 23 سطراً.(1)
و تحتفظ بمصوّرة هذه النسخة الثمينة:
أ) مكتبة آية اللّٰه السيّد المرعشي، برقم 951.(2)
ب) مركز إحياء الميراث الإسلامي، برقم 391.(3)
و النسخة قد سقط منها شيء من بدايتها، يشتمل على مقدّمة الكتاب و شيءٍ من برهان حدوث الأجسام. و تعتبر هذه النسخة واحدة من أردأ النسخ، من حيث
ص: 34
كثرة السقط و التصحيف الذي وصل إلى العشرات بل إلى المئات من الموارد، حتّى عثر على موارد قد تمّ فيها نقل مقاطع كبيرة من الكتاب من مواضعها الأصلية و إلحاقها بمواضع هي أجنبية عنها - كما حدث في ج 2، ص 131 و 148 و 161 و 162 و 258 و 284، و هو أمرٌ لا يمكن التعرّف عليه إلّامن خلال التدقيق في عبارة الكتاب. و قد أدّى هذا الخلل إلى عدم استفادة الباحثين من الكتاب و الإعراض عنه.
و تبدأ النسخة - بعد سقوط ما سقط منها - بقوله: «قِدمُها يرجع إلى ذاتها، و متى ادّعى ذلك في بعض الفعل فلا وجه له...».
و تنتهي فجأة بقوله: «... و أمّا الإلجاء الراجع إلى المضارّ و المنافع فقد يجوز تغيّره و خروج ما هو إلجاء منه عن صفته. ألا ترى أنّ المُلجأ إلى الهرب من الأسد».
و قد قُسّم الكتاب في هذه النسخة إلى أربعة أجزاء، و هو تقسيم غير علمي كما سوف يأتي، و الأجزاء هي كما يلي:
الجزء الأوّل: يبدأ من بداية الكتاب، و جاء في نهايته:
تمّ الجزء الأوّل من الكتاب الملخّص في أُصول الدين، و يتلوه في الجزء الثاني: «و أمّا الذي يدلّ على الاشتراك في صفة من صفات النفس» وقع الفراغ من تسويد هذا الجزء، و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على محمّدٍ و آله، و سلّم تسليماً كثيراً كثيراً كثيراً.
الجزء الثاني: جاء في نهايته:
يتلوه فصل في الدلالة، على أنّه تعالى لا يختار فعل القبيح في الجزء
ص: 35
الثالث. فُرغ من نسخه في رابع شهر ذي قعدة الحرام سنة 1027 أو 1037 هجريّة (النسخة غير واضحة)، و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و العاقبة للمتّقين، و صلّى اللّٰه على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين، و حسبنا اللّٰه كافياً و معيناً و أميناً و هادياً و نصيراً، حسبنا اللّٰه و نعم الوكيل، نعم المولى و نعم النصير.
الجزء الثالث: جاء في آخره:
هذا آخر ما خرج من هذا الكتاب، يتلوه بعون اللّٰه في أوّل الجزء الرابع فصل في إفساد قولهم في الكسب. و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلواته على نبيّه محمّدٍ و عترته الطاهرين.
الجزء الرابع: جاء في بدايته:
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، هو ثقتي و حسبي. نبدأ بعون اللّٰه و قوّته في هذا الجزء بذكر أوّل الكلام المبسوط من الكتاب الموسوم ب: الذخيرة، المخالف لما بُني عليه صدره من الإيجاز و الاختصار، ليكون تماماً للكتاب الملخّص، من حيث انتهى الإملاء منه، حسبما رآه مصنّفهما و رسمه. و باللّٰه عزّ و جلّ التوفيق.
و قد اتّضح من خاتمة الجزء الثالث أنّ كتاب الملخّص قد انتهى بنهاية هذا الجزء، حيث جاء التصريح بأنّه آخر ما خرج من هذا الكتاب. كما تمّ التصريح في بداية الجزء الرابع بأنّ هذا الجزء يبدأ ببداية القسم المفصّل و المطوّل من كتاب الذخيرة؛ لكي يكون تكملةً للمطالب التي لم يتعرّض إليها المصنّف في الملخّص.
إلّا أنّ هذه النسخة لا تحتوي إلّاعلى شيءٍ يسير من بداية الذخيرة، حيث تنتهي عند ص 125 من المطبوع من الذخيرة، أيّ أنّها تحتوي على حوالي 53
ص: 36
صفحة من الذخيرة فقط، فإنّ نصّ الذخيرة المطبوع سابقاً يبدأ من ص 73، و ما قبل ذلك يشتمل على مقدّمة المحقّق.
ثمّ إنّ تقطيع الكتاب إلى أربعة أجزاء تقطيعٌ غير علمي، فقد وُضع نصفٌ من فصل «في أن لا يستحقّ هذه الأحول لمعانٍ قديمة» في نهاية الجزء الأوّل و نصفه الآخر في بداية الجزء الثاني، أي أنّه قد تمّ إنهاء الجزء الأوّل في أثناء البحث عن ذلك الفصل و قبل إكتمال الفكرة، و هو أمرٌ غير علميّ ، و لا يقوم به مثل الشريف المرتضى، بل لعلّه قام به بعض النسّاخ. و لذلك لم يتمّ في هذه الطبعة تقسيم الكتاب إلى أربعة اجزاء، و إنّما أشير إلى ما هو موجود في النسخة في الهامش.
2. ورقتا سان بطرسبورغ. تمّ العثور في ضمن بعض الأوراق المخطوطة المحفوظة في مكتبة سان بطرسبورغ، و التي كتبت فيها كتبٌ عربيّة بخطٍّ عبري، تمّ العثور على ورقتين من نهايات كتاب الملخّص، كان يُتصوّر أنّهما ورقتان من كتاب المحيط في التكليف، و لكن بعد مقارنتهما مع المطبوع من كتاب الملخّص تبيّن أنّهما منه، و لا ندري لعلّ هناك أوراقاً أُخرى من هذه النسخة قد اختلطت مع أوراق كتب أُخرى. و قد قام غريغور شوارب من جامعة برلين الحرّة بالتعريف بهاتَيْن الورقتَيْن من خلال مقال مختصر.(1).
و هاتان الورقتان محفوظتان في ضمن مجموعة فيركوفيتش الثانية في المكتبة
ص: 37
الوطنيّة الروسيّة الواقعة في مدينة سان بطرسبورغ، و تحملان الرقم 3034 Ms Yevr. -Arab. rver.-Arab.I الورقتان 11-12. مقياس كلّ صفحة 14 في 18/2 سم، و في كلٍّ منها 20 سطراً. و تمّ تحديد تاريخ نسخها بالقرن الحادي عشر، أو بدايات القرن الثاني عشر الميلاديَّيْن، أي حوالي القرن الخامس أو السادس الهجريَّيْن.
و قد قام شوارب في مقاله المُشار إليه بمقابلة هاتَيْن الورقتَيْن مع الطبعة السابقة للملخّص، و أثبت الاختلافات التي تبلغ حوالي عشرين مورداً، و التي تبدأ من الصفحة 341 من المجلّد الثاني للملخّص، إلى الصفحة 344.
و المُلاحَظ وجود خطأ في أحد هذه الموارد، و هو قوله: «مقدور القدرتين»، حيث كتبها الناسخ العبري بهذه الصورة: «مقدوراً لقدرتين»، فهو قد ظنّ أن الألف متعلقة بكلمة «مقدور» بينما هي متعلقة بكلمة «القدرتين»، فقام بزحزحة الألف، و ألصقها بكلمة «مقدور».
لقد بُذلت في تحقيق هذا الكتاب جهود كبيرة، فإنّ المطالع للنسخة الوحيدة للكتاب يجد مدى صعوبة العمل؛ و ذلك من عدّة جهات:
منها: عمق المطالب الكلاميّة المطروحة في هذا الكتاب.
و منها: تعرّض الكتاب إلى آراء كلاميّة كانت متداولة في مدرسة بغداد، و هي آراء متقدّمة لم يعتد عليها الكثير من الباحثين في عصرنا ممّن اعتادوا على الآراء الكلاميّة لمدرسة الحلّة، و خاصّة آراء العلّامة الحلّي؛ و لذلك صارت قراءة و فهم الكثير من بحوث هذا الكتاب بحاجةٍ إلى بذل جهود مضاعفة.
و منها: لغة الشريف المرتضىٰ رحمه اللّٰه الصعبة، و أُسلوبه النثري المعقّد.
ص: 38
و منها: الاعتماد على نسخةٍ فريدةٍ لا ثاني لها، حيث لم يُعثر على نسخة أُخرىٰ ، و هو أمر زاد في صعوبة العمل.
و منها: رداءة النسخة كما تقدّم، فقد احتوت على عددٍ كبير جدّاً من موارد السقط، و التصحيف، و البياض، و رداءة الخطّ، و لعلّ ذلك راجع إلى عدم كون الناسخ من أهل العلم. و على أيّ حال فإنّها النسخة الوحيدة المتبقّية لهذا الكتاب، و لولاها لكان الكتاب قد ضاع في متاهات الماضي.
و أمّا الأعمال الذي تمّ القيام بها في هذا الكتاب، فهي كما يلي:
1. مقابلة الكتاب مع نسخته الفريدة مقابلة متأنّية و دقيقة، و ذلك ثلاث مرّات من قبل ثلاث من المحقّقين المتمكّنين؛ زيادةً في الضبط، و تجنّباً من الخطأ و الغلط، و عبّرنا عن النسخة ب: «الأصل».
2. بسبب عدم وجود نسخةٍ أُخرى للكتاب، و وجود مصاعب كثيرة في فهم نصّ الكتاب كما تقدّم، لذلك تمّت الاستعانة بالنصوص الشبيهة بنصّ كتاب الملخّص، مثل كتاب المغني للقاضي عبد الجبّار (ت 415 ه)، و المسائل السلّارية للشريف المرتضى، و تمهيد الأُصول للشيخ الطوسي (ت 460 ه)، و شرح الأُصول الخمسة لأحمد بن الحسين بن أبي هاشم الحسيني الرازي المعروف ب: مانكديم (ت 399 ه)، و التوحيد المنسوب إلى أبي رشيد النيسابوري (ت 415 ه)، و سرّ الفصاحة لابن سنان الخفاجي (ت 466 ه)، و التعليق في علم الكلام للمُقري النيسابوري (القرن 6 ه). و قد ساعدت هذه الطريقة بصورةٍ كبيرة جدّاً على قراءة و فهم نصّ الملخّص بصورةٍ صحيحة.
3. إضافة موارد الخلاف الموجودة في الورقتَيْن التي نقلها شوارب في مقاله المُشار اليه، و إثباتها في المتن أو الهامش، كلّ موردٍ بحسبه، و قد أُشير إلى تلك
ص: 39
الورقتَيْن باسم (نسخة سان بطرسبورغ)، فقيل مثلاً: «هكذا في نسخة سان بطرسبورغ»، و لم يُجعل لها رمز خاص و ذلك لقلّة الموارد.
4. محاولة ترميم ما سقط من بداية النسخة، و ذلك بهدف أن يكون القارئ على بيّنةٍ من أمره عندما يبدأ بقراءة الكتاب، فقد تقدّم أنّ نسخة الكتاب قد سقط منها شيءٌ من بدايتها، ممّا جعل فهم البحث الذي تبدأ به مبهماً، كما تمّ ترميم أجزاء أُخرى مبثوثة في ثنايا الكتاب.
5. إضافة كلمات إلى النصّ بسبب اقتضاء السياق، و وضعها بين معقوفين من دون الإشارة إلى ذلك في الهامش في كثير من الأحيان؛ فإنّ وضع الكلمة بين معقوفَيْن يكفي للدلالة على أنّها ليست من النصّ ، و إنّما تمّت إضافتها.
6. تقطيع النصّ بصورةٍ علميّة، إضافة إلى ترقيم الكثير من محتويات الكتاب، كالاستدلالات، و الإشكالات، و أجوبة الشبهات، و غير ذلك؛ فإنّ الكتابَ مكتوبٌ بصورةٍ مرتّبةٍ و دقيقةٍ جداً، إلّاأنّ خلوّه من الترقيم قد يجعل البعض يظنّ أنّه خالٍ من الترتيب، و لكن من خلال الترقيم سوف يتّضح مدى الترتيب الدقيق لمطالب الكتاب.
7. إضافة عناوين تفصيليّة إلى الكثير من بحوث الكتاب، و وضعها بين معقوفَيْن، ممّا يساعد كثيراً على فهم مطالب الكتاب.
8. تخريج ما استلزم تخريجه من الآيات و الروايات و الأقوال و الآثار، و ما شابه ذلك، اعتماداً على أهمّ المصادر و أقدمها.
9. إضافة تعليقات مهمّة، تساعد علىٰ فهم النصّ ، و توضّح العبارات المعقدة و المبهمة، نظراً لقِدم النصّ و مصطلحاته المنقرضة.
10. تشكيل الكلمات و إعراب الكتاب؛ وفقاً لقواعد اللغة العربية، و هي أيضاً
ص: 40
بدورها تساعد في فهم النصّ بصورة صحيحة.
11. شرح المفردات المشكلة و الكلمات الغريبة، من مصادر اللغة القديمة، و كذلك شرح المصطلحات الكلاميّة.
12. ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في متن الكتاب ترجمةً مختصرةً ، و كذلك التعريف بالفرق و المذاهب الكلاميّة.
13. تقسيم مطالب الكتاب إلىٰ أبواب و فصول، فمع أنّ النسخة غير مبوّبة إلّا أنّ ترتيب مطالبها دقيق جدّاً، فقسّمناها إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع، و فيه فصلان.
الباب الثاني: الكلام في الصفات، و هو ينقسم إلى قسمين: الصفات الثبوتيّة (7 فصول)؛ و الصفات السلبيّة (5 فصول).
الباب الثالث: الكلام في العدل، و فيه خمسة فصول.
14. وضع أرقام صفحات المخطوطة (الأصل) بين معقوفَيْن في داخل النصّ ، و أرقام الطبعة السابقة للملخص في خارج النصّ على جانب الصفحة.
15. إعداد فهارس فنّية عامّة و متنوّعة في آخر الكتاب، تسهيلاً للوصول إلى مطالب الكتاب.
و ختاماً ينبغي أن نتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ من اشترك في تحقيق الكتاب، و نخصّ منهم بالذكر:
1. الشيخ جواد الفاضل البخشايشي، حيث قام بمقابلة النسخة و المساهمة في تقويم النصّ ، و تكميل التخريجات، و ترجمة الأعلام المذكورين في الكتاب، و شرح الكلمات و المفردات الصعبة.
ص: 41
2. د. الشيخ حب اللّٰه النجفي، حيث تولّىٰ تقويم النصّ ، و تشكيل الكلمات، و وضع الحركات عليها، مع ملاحظة النسخة و الرجوع إليها.
3. الشيخ محمّد رضا الأنصاري؛ حيث سلّم لنا عمله علىٰ الكتاب مع إجراء بعض التعديلات عليه.
4. الأخ أمير حسين السعيدي لاستخراجه الفهارس الفنيّة.
5. الشيخ محمّد حسين الدرايتي لتولّيه إدارة مشروع تحقيق مصنّفات الشريف المرتضىٰ رحمه اللّٰه عامّة، و هذا الكتاب خاصّة، و متابعته مراحل العمل و الإشراف عليها.
و أمّا نحن فإضافة إلىٰ كتابة المقدّمة، قمنا بالمراجعة النهائية العلميّة مع ملاحظة نسخة الكتاب، كما قمنا بتقطيع الكتاب و وضع عناوين لأهمّ مطالبه، اضافة إلىٰ بعض التعليقات العلميّة و التوضيحات التي أُضيفت إلى الهامش.
و الحمد للّٰه ربّ العالمين
حيدر البياتي (الحسن)
ص: 42
ص: 43
الصورة
ص: 44
الصورة
ص: 45
الصورة
ص: 46
الصورة
ص: 47
الصورة
ص: 48
ص: 49
ص: 50
[بسم اللّٰه الرحمن الرحيم](1)
ص: 51
ص: 52
[الفصلُ الأوّل] [في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ](1)
[الكلام على الدعوى الأُولىٰ ](2)
-----
ص: 54
فلا وَجهَ له(1)، إلّالأنّ وجودَها واجبٌ لها(2)، و يَجِبُ عَنهُ (3) إثباتُ القَديمِ الأوّلِ قَديماً لنفسِه و اطِّراحُ إثباتِ شيءٍ مِن العِللِ ؛ لأنّ الصفتَينِ المُستَحَقّتَينِ علىٰ وَجهٍ واحدٍ لا يَجوزُ أن تَختَلفا في المُقتَضي لهما.
و إذا بَطَلَ أن يَكونَ قَديماً لعِلّةٍ أو فاعلٍ ، فلَم يَبقَ إلّاأنّه قَديمٌ لنفسِه، و أنّه لا وَجهَ يَستَحِقُّ مِنه الصفاتِ إلّاما ذَكَرناه.(4)
و الذي يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ القَديمَ قَديمٌ لنفسِه: أنّا نَعلَمُ أنّه بهذه الصفةِ [أو] ما
ص: 55
[تَستَنِدُ إليه](1) يُخالِفُ غَيرَه من المُحدَثاتِ ؛ أ لا تَرىٰ أنّه قد وجبَ الوجودُ له فيما لَم يَزَل مِن غَيرِ فاعلٍ و لا عِلَّةٍ ، و لا يَجِبُ لشيءٍ مِن المُحدَثاتِ الوجودُ إلّابتوَسُّطِ فاعلٍ؟ فلا بُدَّ مِن كَونِ هذه الصفةِ أو ما تَستَنِدُ(2) إليه مِن أخَصِّ أوصافِه. و المستَفادُ بقولِنا: «إنّ الصفةَ نفسيّةٌ و ذاتيّةٌ » هو هذا المعنىٰ بعَينِه، فوجبَ صحّةُ ما ذَكَرناه مِن كَونِه قَديماً لنفسِه.
فأمّا الذي يَدُلُّ على أنّ الصفةَ النفسيّةَ لا يَخرجُ عنها المَوصوفُ : فهو أنّ
المُقتَضِيَ أو الموجِبَ إذا كان حاصلاً مُستمِرّاً في كُلِّ حالٍ ، فلا بُدَّ أن يكونَ ما اقتَضاه أو أوجَبَه حاصلاً في كُلِّ حالٍ . و إذا كان المَرجِعُ في صفةِ النفسِ إلَى الذاتِ التي لا تَخرجُ مِن كَونِها(3) نَفساً و ذاتاً في كُلِّ حالٍ ، فواجبٌ أن لا تَخرُجَ (4) عن الصفةِ التي تَستَنِدُ إلَى النفسِ في كُلِّ حالٍ .
يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ صفاتِ العِللِ متىٰ كان موجِبُها حاصلاً فلا بُدَّ مِن ثُبوتِها، و إنّما تَنتَفي بانتفاءِ موجِبِها. فكذلكَ القولُ في صفاتِ النفسِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ لمّا كانَ سواداً لنفسِه، لم يَخرُجْ عن كَونِه سواداً في حالِ عدمٍ و لا وجودٍ و إن خَرَجَ عن كَونِه موجوداً؟ إلّاأنّه استَحَقَّ كَونَهُ سواداً لنفسِه، و لَم يَستَحِقَّ كَونَه موجوداً لنفسِه، و القَديمُ يَستَحِقُّ كَونَه موجوداً على الوجهِ الذي استَحَقَّ السوادُ كَونَه سواداً.
ص: 56
فإن قيلَ : ألَيسَ القَديمُ عندَكم مُدرِكاً لنفسِه و إن أُخرجَ [عن] كونِه مُدْرِكاً(1) و جازَ وجودُه و إن لَم يَكُن مُدرِكاً؟ فكَيفَ قَضَيتُم بأنّ صفاتِ النفسِ لا يَخرُجُ عنها المَوصوفُ؟!
قُلنا: أمّا أبو هاشمٍ (2) فلا يَلزَمُهُ هذا الكلامُ ؛ لأنّه لا يُثبِتُ القَديمَ مُدرِكاً لنفسِه، بَل يَقولُ : إنّه مدرِكٌ لا لنفسِه و لا لمعنىً ، [و] إن كانَ [كونُه] حَيّاً يَقتَضي كونَه مُدرِكاً متىٰ وُجِدَ المُدرَكُ .
و مَن قالَ مِن أصحابِه: «إنّ القَديمَ مُدرِكٌ لنفسِه» يُجيبُ عن هذا السؤالِ بأن يَقولَ :
إنّ صفاتِ النفسِ إنّما تَجِبُ إذا صَحَّت، و مَتىٰ خَرَجَت عن الصحّةِ لم تَجِبْ ، بلِ استَحالت، فيكونُ القَديمُ تَعالىٰ مُدرِكاً و إن كانَ [مدركاً] للنفسِ (3)، فهو(4) متىٰ صَحَّ وجبَ ؛ لأنّ المُدرَكَ إذا كانَ مَوجوداً و صَحَّ كَونُه مُدرِكاً له وجبَتِ الصفةُ له، و مَتىٰ لَم يَكُن مَوجوداً لَم تَجِبِ الصفةُ ؛ لأنّ المَعدومَ يَستَحيلُ أن يَكونَ مُدرَكاً.
ص: 57
و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه، و كانَ «وجودُ القَديمِ صحيحاً في كُلِّ حالٍ علىٰ وَجهٍ
معقولٍ » يَقتَضي استحالةَ [عدمِه](1) في بعضِها، وجبَ أن يَكونَ وجودُه حاصلاً في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ الوجودَ [يَقتَضي](2) الصحّةَ في صفاتِ النفسِ .
و الذي يَدُلُّ أيضاً(3) علىٰ أنّ القَديمَ لا يَجوزُ عدمُه: أنّ كُلَّ ذاتٍ وُجِدَت أكثَرَ مِن وقتٍ واحدٍ، لَم يَجُز عدمُها إلّابضِدٍّ أو ما يَجرِي مَجرَى الضِّدِّ.
و هذا حُكمُ جَميعِ الذواتِ الباقياتِ ، كالسوادِ و التأليفِ و ما أشبَهَهما.
و إنّما يَجوزُ عدمُ بعضِ الذواتِ بغَيرِ ضِدٍّ، متى اختصَّت في الوجودِ بوقتٍ واحدٍ، كالصوتِ و الإرادةِ و ما أشبَهَهما. (4) و إذا كانَ حُكمُ القَديمِ حُكمَ الذواتِ الباقياتِ ، وجَبَ أن(4) يَستَمِرَّ به الوجودُ، و لا يَنتَفيَ في حالٍ مِن الأحوال؛ لأنّه لا ضِدَّ له.
فإن قيلَ : و لِمَ أحَلتُم أن يَكونَ للقَديمِ ضِدٌّ؟
قُلنا: مِن حَيثُ عُلِمَ أنّ كُلَّ ضِدٍّ فمِن حُكمِه الرّاجِعِ إلىٰ ذاتِه أن يَمنَعَ بوجودِه مِن وجودِ ضِدِّه، و هذا أخَصُّ أوصافِ التَّضادِّ. فلَو كانَ له(5) ضِدٌّ لَوجبَ أن يَكونَ ضِدُّه
ص: 58
مُحدَثاً؛ لأنّه لَو كانَ قَديماً لَوجبَ مِنه اجتماعُ الضِّدَّينِ في الوجودِ، و لا يَجوزُ أن يَكونَ مُحدَثاً و هو ضِدٌّ للقَديمِ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ وجودُ القَديمِ الذي هو ضِدُّه فيما لَم يَزَل غَيرَ مانعٍ مِن وجودِه؛ لأنّ وجودَه و هو مُحدَثٌ [فيما لم يزل] مُستَحيلٌ لأمرٍ يَرجِعُ إليه لا إلىٰ ضِدِّه(1)، و قد ثَبَتَ أنّ مِن حُكمِ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَمنَعَ وجودُ كُلِّ واحدٍ مِنهما مِن وجودِ الآخَرِ.
فإن قيلَ : فهَلّا انتَفىٰ (2) بما يَجرِي مَجرَى الضِّدِّ،(3) و قد أقرَرْتُم بأنّه وُجِدَ في الثاني ؟
قُلنا: ما يَنتَفي بوجودِ ما يَجري مَجرَى الضِّدِّ، هو كالعِلمِ الّذي يَنتَفي بوجودِ المَوتِ ، و إن لَم يَكُن ضِدّاً للعِلمِ ، بل هو ضدٌّ للحياةِ التي يحتاجُ إليها(4) العِلمُ . و كانتفاءِ التأليفِ عِندَ انتفاءِ المجاوَرةِ ؛ لِحاجَةِ التأليفِ إليها. و القَديمُ لا يَحتاجُ في وجودِه إلىٰ غَيرِه، فَبَطَلَ فيه هذا الوَجهُ أيضاً. فلَم يَبقَ وجهٌ يَقتَضي بُطلانَه؛(5)فوجبَ أن يَكونَ وجودُه مُستَمِرّاً، و أن لا يُعدَمَ في حالٍ مِن الأحوالِ .
فإن قيلَ : كَيفَ يَصِحُّ أن يَستَدِلّوا بذلكَ علىٰ مَن خالَفَ في قِدَم الأعراضِ ، و مَن يُخالِفُ في ذلكَ يُثبِتُ العَرَضَ قَديماً، و إنِ احتاجَ إلىٰ غَيرِه ؟
قُلنا: مَن خالَفَ في قِدَمِ الكَونِ (6) لا يُمكِنُه أن يُثبِتَه مُحتاجاً إلّاإلىٰ مَحَلِّه فَقَط؛
ص: 59
لأنّه لا يَحتاجُ إلىٰ أكثَرَ مِن ذلكَ ، [و] إذا كانَ مَحَلُّه مَوجوداً غَيرَ مُنتَفٍ ، فيَجِبُ استمرارُ وجودِه إلّابضِدٍّ يَطرَأُ عَلَيه؛ لأنّ انتفاءَه بما يَجري مَجرَى الضِّدِّ إنّما يَكونُ بأن يَنتَفيَ مَحَلُّه فيَنتَفيَ لأجلِه، و إذا كانَ مَحَلُّه قَديماً فوجودُه مُستَمِرٌّ لا يَخرُجُ عنه إلّا بضِدٍّ.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ القَديمَ لا ضِدَّ له: أنّ مِن حَقِّ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَكونَ لِكُلِّ واحدٍ مِنهما صفةٌ تَرجِعُ (1) إلىٰ ذاتِه بالعَكسِ مِن صفةِ ضِدِّه، و هذا أخَصُّ صفاتِ التَّضادِّ.
فلَو كانَ للقَديمِ ضِدٌّ لَوجبَ ذلكَ فيه، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ ذلكَ الضِّدُّ مَعدُوماً لِما هو(2) عَلَيه في ذاته، حتّىٰ يَكونَ بعَكسِ صفةِ القَديمِ تَعالىٰ ، و هذا محالٌ (3) [؛ لأنّ كون الضدّ المعدوم معدوماً(4)] لا لَهُ ،(5) فَضلاً عن أن يُقالَ : إنّه معدومٌ لِما هو عَلَيه في ذاتِه.(6)
ص: 60
و لأنّه يَجِبُ [حينئذٍ نفيُ ](1) الضِّدِّ المعدومِ ضِدَّه و إن لَم يَخرُجْ عن صفةِ العدمِ ؛ لأنّ خُروجَه عن صفةِ العدمِ يَقتَضي [انتفاءَ ](2) الصفةِ التي تُضادُّ القَديمَ بكَونِه عَلَيها، و في عِلمِنا بِاستحالةِ نَفيِ المعدومِ لغيرِه دَلالةٌ على [صحّةِ ](3) هذا القولِ (4).
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الأجسامَ و الجَواهرَ لا تَخلُو مِن المَعاني التي بها تَكونُ (5)في الجِهاتِ : أنّها لو خَلَت مِنها لَخَلَت مِن أحكامِها،(6) و في عِلمِنا باستحالةِ خُلوِّها مِن الأحكامِ دليلٌ على استحالةِ خُلوِّها مِن الذواتِ ؛(7) لأنّ ما أَوجَبَ أحَدَ الأَمرَينِ موجِبٌ الآخَرَ؛ لتَعلُّقِ كُلِّ واحدٍ مِنهما بصاحبِه.
فإن قيلَ : بَيِّنوا أنّ الجسمَ و الجَوهرَ لا يَخلُو في حالِ وجودِه مِن أحكامِ هذه المَعاني؛ لِيَتِمَّ ما قَصَدتُموه.
قُلتُ : لَو جازَ وجودُ الجسمِ أو الجَوهرِ و هو غَيرُ كائِنٍ في جِهةٍ من الجِهاتِ ، لَم يَجُز ذلكَ عَلَيه إلّاو هو [غير] مُتَحَيِّزٍ؛ لأنَّ تَحيُّزَه يوجِبُ أن يَكونَ في جهةٍ ما. و لو خَرَجَ (5) عن تَحيُّزِه و هو موجودٌ، لَخرجَ عن كَونِه جَوهَراً؛ لأنّ كَونَه جَوهراً
ص: 61
يوجِبُ تَحيُّزَه بِشَرطِ الوجودِ، [و] في خُروجِه من صفتِه الذاتيّةِ قَلبُ جنسِه، فوجبَ بما ذَكَرناه أن يَكونَ وجودُ الجَوهرِ خالياً(1) مِن الأكوانِ مؤَدّياً(2) - بالترتيبِ الذي رتَّبناه - إلى قَلبِ جنسِه.
فإن قيلَ : و لِمَ زَعَمتُم أنّه متىٰ وُجِدَ وجبَ أن يَكونَ متحيِّزاً، و أنّ تَحيُّزَه يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه ؟ ثُمَّ لِمَ زَعَمتُم أنّه إذا كان متحيِّزاً وجبَ أن يَكونَ في جهةٍ؟
قُلنا: أمّا الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ :(3) فهو [أنّه] لا يَخلُو مِن أن يَكونَ تَحيُّزُه إنّما وجبَ لوجودِه، أو لحُدوثِه، أو لحُدوثِه علىٰ وَجهٍ ، أو لعدمه، أو لعدمِ معنىً ، أو لوجودِ معنىً ، أو بالفاعلِ ، أو لنفسِه، أو لِما هو عَلَيه في نفسِه.(4)
[1.] و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ متحيِّزاً لوجودهِ (5)؛ لأنّه يَجِبُ مِنه أن يكونَ كُلُّ ما شارَكَه في الوجودِ متحيِّزاً، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ السوادُ و سائِرُ الأعراضِ بِهذه الصفةِ !
على أنّ مَن قالَ بذلكَ فقد سَلَّمَ لنا(6) غرضَنا في هذا البابِ ؛ لأنّه قد اعتَرَفَ بأنّ الجَوهرَ مع وجودِه لا بُدَّ مِن تَحيُّزِه. و هذا [هو] الذي قَصَدناه في المعنى، و إن
ص: 62
كانَ مُخالِفاً؛ لأنّه قَصَدَ إلىٰ ما جَعلناه شَرطاً(1)، فجَعَله مُقتَضياً.
[2.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ متحيِّزاً لِحُدوثِه؛ لمِثلِ ما ذَكَرناه في الوجودِ. و لأنّ في وجودِ ذلكَ أيضاً اعترافاً بالحُدوثِ (2) الذي هو المقصودُ.
و إن أُريدَ بالحُدوثِ حالُ حدوثِه التي(3) تجدَّدَ له الوجودُ فيها، فيَجِبُ مِنه استحالةُ تَحيُّزِه في حالِ البقاء، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلك.
[3.] و لا يَجوزُ أنْ يَكونَ كذلكَ (4) لحُدوثِه علىٰ وَجهٍ يُشارُ إليه مِن وجوهِ الحُدوثِ ؛ [لأنّه لا وجهَ يُشارُ إليه من وجوه الحدوث](5) يَقتَضي كَونَه بهذه الصفةِ . و لأنّه أيضاً كانَ لا يَمتَنِعُ حُدوثُه علىٰ وَجهٍ آخَرَ، فلا يَكونُ متحيِّزاً.
و [إذا كان](6) لا بُدَّ مِن اختصاصِه في الوجودِ بصفةٍ يَتميَّزُ بها، فيَجِبُ أن يَكونَ علىٰ هذا - متى وُجِد و لَيسَ هو بمتحيّز - بصفةِ جنسٍ آخَرَ. و لا يَمتَنِعُ علىٰ هذا أن يَحدُثَ علَى الوجهِ الذي يَقتَضي كَونَه مِثلاً؛ لأنّه لا تَنافيَ بَينَ صفةِ السوادِ و بَينَ صفةِ التحيُّزِ.(7) و نحنُ نبيِّنُ فيما يأتي أنّه لا يَجوزُ أن يكونَ بصفةِ جنسَينِ .
ص: 63
[4.] و لا يَجوزُ أن [يكونَ كذلك لعدمِه؛] (1) لأنّ العدمَ مُحِيلٌ للتحيُّزِ، فَكَيفَ يَجوزُ [أن] يكون موجِباً له ؟
[5.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ كذلكَ لعدمِ معنىً ، و قد [اُريد بكونه متحيّزاً أن](2) يَكونَ في الجهةِ لوجودِ معنىً فيه؛ فإنّ (3) المعنىٰ متى عُدِمَ مِنه لَم يوجِبْ كَونَه علَى الصفةِ (4)؛ لعدمِ أن يَكونَ (5) كُلُّ معنىً معدومٍ يوجِبُ (6) له شيئاً مِن الصفاتِ .
علىٰ أنّه لَو سُلِّمَ (7) أنّه متحيِّزٌ لعدمِ [معنىً ، فقَد سُلِّمَ ](8) لنا ما نريدُه [من استحالة](9)وجودِه مِن غَيرِ أن يَكونَ متحيِّزاً؛ لأنّه لا بَدَلَ (10) لعدمِ ذلكَ المعنىٰ ، فيَجِبُ أن يَكونَ الجَوهرُ مَعَ وجودِه أبَداً متحيِّزاً، فهذا الذي نُريدُه.
[6.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ متحيِّزاً لوجودِ معنىً ؛ لأنّ ذلكَ المعنىٰ لا يوجِبُ كَونَه بهذه الصفةِ ،(11) إلّابأن يَختَصَّه غايةَ الاختصاصِ ، فلا يَخلو ذلكَ الاختصاصُ بَينَهما مِن أن يَكونَ ؛ بالحُلولِ ، أو بالمُجاوَرةِ . و كِلا الأمرَينِ يوجِبُ تَقدُّمَ التحيُّزِ؛ لأنّ ما حَلَّ (12) غَيرَه لا يكونُ إلّامتحيِّزاً، و كذلكَ ما جاوَرَه، فكيفَ يَجوزُ أن يَكونَ
ص: 64
التحيُّزُ موجَباً عن أمرٍ يَجِبُ تَقدُّمُ التحيُّزِ له!
و أيضاً: فإنّه لَو كانَ متحيِّزاً لمعنىً ، لَكانَ القولُ في ذلك المعنىٰ كالقولِ فيه؛(1)لأنّه لا بُدَّ مِن استحقاقِ ذلك المعنىٰ صفةً تَقتَضي إيجابَه لتحَيُّزِ الجَوهرِ، فلا يَخلو مِن أن يَكونَ استحقَّها لِمعنىً آخَرَ، فيؤَدّي ذلكَ إلىٰ إثباتِ مَعانٍ لا نهايةَ لها، و إن كان استحقَّها لنفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ التحيُّزُ(2) أيضاً مُستَحَقّاً(3) علىٰ هذا الوجهِ ؛ لأنّ طريقةَ (4) الاستحقاقِ واحدةٌ ، و هذا الوجهُ يُبطِلُ أن يَكونَ الجَوهرُ متحيِّزاً لمعنىً ؛ سَواءٌ كان ذلكَ المعنىٰ حالاًّ فيه، أو في غَيرِه، أو موجوداً(5) لا في مَحلٍّ .
و أيضاً: فلو كان متحيِّزاً لمعنىً لَوجبَ أن يَكونَ السوادُ سواداً لمعنىً ؛(6) لأنّ كيفيّةَ استحقاقِ الصفتَينِ (6) واحدةٌ ، و هذا يؤَدّي إلىٰ جَوازِ كونِ الذاتِ الواحدةِ جَوهراً(7) سواداً؛ بأن يُعقَلَ المعنَيانِ اللّذانِ بهما تَكونُ (8) علىٰ هاتَينِ الصفتَينِ ؛ لأنّه لا تَنافيَ بَينَهما، و لا ما يَجري مَجرَى التنافي. و سنبيِّنُ بَعدَ هٰذا الموضعِ بُطلانَ ذلك، فإن كانا واحدةً (9) لا يَجوزُ أن تكونَ (10) بهاتَينِ الصفتَينِ .
ص: 65
و أيضاً: لَو كانَ متحيِّزاً لِمعنىً لم يَمتَنِعْ (1) أن يَتزايدَ المَعنىٰ ، فيَتزايدَ حُكمُه،(2) و هذا يَقتَضي أن يَتزايدَ حَجمُ الجَوهرِ و جُثّتُه مِن غَيرِ انضمامِ جَواهرَ إليه.
[7.] فأمّا ما يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَكونُ متحيِّزاً بالفاعل:
[ألف:] أنّه لَو كانَ كذلكَ بالفاعلِ ، لَجازَ أن يَجعلَه الفاعلُ متحيِّزاً سواداً؛ لأنّ صفةَ التصرّف تابعةٌ لِما(3) يَكونُ بالفاعلِ .(4)
و لأنّه إن قيلَ : إنّه متىٰ وُجِدَ كانَ متحيِّزاً، و لَم [يتمكّن الفاعلُ من جَعْله بِ]
خِلافِ ذلكَ (5)، كانَ القائلُ به مسلِّماً للمعنىٰ ، مخالِفاً في عبارةٍ .(6)
و في جوازِ كونِه متحيِّزاً سواداً، ما يؤَدّي إلىٰ كَونِه موجوداً معدوماً في حالةٍ واحدةٍ . و إنّما قُلنا ذلك؛ لأنّه إذا كانَ بهاتَينِ الصفتَينِ ، ثُمّ وُجِدَ البياضُ الذي هو مُنافٍ للسوادِ، فيَجِبُ انتفاءُ هذه الذاتِ مِن حَيثُ كانَت سواداً، و بقاؤها مِن حَيثُ كانَت متحيِّزةً ؛ لأنّ البياضَ لا يُنافي التحيُّزَ، و هذا فاسدٌ. فما أدّىٰ إليه - مِن القولِ بأنّ التحيُّزَ مستَنِدٌ إلَى الفاعلِ - فاسدٌ.
ص: 66
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ [وجود الذات](1) يَنتَفي مِن الوَجهَينِ جَميعاً؛(2)لأنّها [ذاتٌ واحدةٌ ](3) إذا وَجبَ انتفاؤها مِن وَجهٍ وَجَب انتفاؤها مِنَ الآخَرِ علىٰ طريقِ التَّبَعِ له، [...](4) عندَ غَيرِه التضادّ؛ لأنّ العِلمَ يَنتَفي عندَ وجودِ المَوتِ و إن لَم يَكُن ضِدّاً له، و الكَونَ يَنتَفي عندَ عدمِ الجَوهرِ و إن لَم يَكُن [ضِدّاً له، و إنّما ينتفيان بالتبع لا للتضادِّ.](5)
قُلنا: انتفاءُ الذواتِ الباقيةِ لا يَجوزُ أن يَكونَ إلّابالتّضادِّ؛ إمّا بواسطةٍ أو بغَيرِ واسطةٍ . و مَن لَم يَحْرُسْ هذا الأصلَ ، [اقتَضىٰ كلامُه](6) ضَرباً إلَى الجَهالاتِ !
فأمّا انتفاءُ العلمِ عندَ ما ضادَّ الحياةَ فلأنّ (7) العِلمَ يَحتاجُ إلَى الحياةِ في وجودِه، فما نَفاها يجبُ [عندَه] انتفاءُ العِلمِ ؛ لأنّه نَفىٰ ما يَحتاجُ العِلمُ في وجودِه إليه.
و كذلكَ القولُ في الكَونِ : إنّه يَحتاجُ في وجودِه إلَى الجَوهرِ، فما نَفَى الجَوهرَ يَجِبُ أن يَنتَفيَ عندَه.
ص: 67
و لَيسَ هذه سبيلَ الذاتِ الواحدةِ إذا(1) كانت متحيِّزةً سواداً؛ لأنّ كَونَها بإحدَى هاتَينِ الصفتَينِ لا يَحتاجُ إلَى الأُخرىٰ ؛ ألا تَرىٰ أنّ جوازَ كَونِها سواداً مِن غَير أن تَكونَ (2) متحيِّزةً ، كجوازِ كَونِها متحيّزةً مِن غَيرِ أن تَكونَ سواداً؟ و امتناعُ ذلك في العِلمِ و الحَياةِ لاستحالةِ كَونِ العالِمِ عالِماً مِن غَيرِ أن يَكونَ حَيّاً.
فإن قيلَ : كونُه متحيِّزاً(3) إن لَم يَحتَجْ إلىٰ كونِه سواداً كحاجةِ العِلمِ إلَى الحَياةِ ، فإنّ كَونَه متحيِّزاً و سواداً معاً يَحتاجُ إلىٰ وجودِه؛ فإذا طرأَ ضِدُّ السوادِ، و انتَفىٰ مِن
حيثُ كانَ سواداً، و خرجَ عن الوجودِ، خرجَ أيضاً عن التحيُّزِ؛ لانتفاءِ الوجودِ الذي تَحتاجُ إليه كُلُّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ .
قُلنا: الذاتُ إذا كانَت بهاتَينِ الصفتَينِ ، فهي مِن حيثُ كانَت متحيِّزةً يَصِحُّ بقاؤها، و يَجِبُ لها استمرارُ الوجودِ إلىٰ أن يَطرأَ ما يُنافي هذه الصفةَ . و كذلك هي مِن حيثُ كانت سواداً. فإذا طرأَ(4) ما يُنافي(5) السوادَ و يَختَصُّ بمُضادّتِه(6)، فقَد جُعِل في هذه الذاتِ وَجهانِ : وَجهٌ يَقتَضي انتفاءَها، و الآخَرُ يَقتَضي استمرارَ وجودِها، فيَجِبُ أن تكونَ (7) موجودةً (7) معدومةً علىٰ ما ألزَمنا؛ لأنّها لَيسَ هي بأن تَنتفيَ (8)
ص: 68
لأجلِ الوجهِ المُوجِبِ للانتفاءِ (1) بأَولىٰ مِن أن تَثبُتَ (2) و يَستمِرَّ لها الوجودُ لأجلِ الوجهِ الذي يَقتَضي استمرارَ وجودِها.
فإن قيلَ : ألا قلتُم: «إنّها بالانتفاءِ أَولىٰ ؛ لأنّ الوَجهَ المُقتَضيَ للانتفاءِ طارٍ، و ما يَقتَضي الاستمرارَ باقٍ ، و الطاري أَولىٰ بالتأثير مِن الباقي» كما تَقولونَ في انتفاءِ الضِّدِّ بضِدِّه: «إنّ الطاريَ بالتأثيرِ أَولىٰ مِن الباقي»؟(3)
قُلنا: إنّما نَقولُ بأنّ «الطاريَ أَولىٰ بالتأثيرِ مِن الباقي» في المَوضِعِ الذي تُقابِلُ (4) فيه صفةُ كُلِّ واحدٍ مِن الضِّدَّينِ لصفةِ الآخَرِ و يَترَجَّحُ حُكمُ الطاري، فيَكونُ بالوجودِ أحقَّ لِطُرُوِّه، و هذا بخِلافِ ما تَكلَّمنا عَلَيه؛ لأنّ الذاتَ إذا كانَت متحيِّزةً سواداً، ففيها وَجهانِ ، كُلُّ واحدٍ مِنهما يَقتَضي استمرارَ وجودِها، و الضِّدُّ الطاري إنّما يُقابلُ أحَدَ هاتَينِ الصفَتينِ دونَ الاُخرىٰ ، [و] إنّما كانَ يَجِبُ أن يَترجَّحَ وجودُه لَو لَم يَكُن في هذه الذاتِ ما(5) يَقتَضي استمرارَ وجودِها إلّا هذا الوجهَ الواحدَ الذي يُقابِلُه(6) بصفتهِ ، و يَترجَّحُ عَلَيه بطُروِّه، ففارَقَ
ص: 69
ذلك ما نَقولُه(1) في الطاري.
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم علىٰ مَن مَنَعَ مِن كَونِ الذاتِ الواحدةِ جَوهراً سواداً مِن أجلِ أنّه يُؤَدّي إلى ما ذَكَرتُموه مِن وجودِها و انتفائِها في حالةٍ واحدةٍ ؛ لأنّ ما يؤَدّي إلَى المُحالِ يَجِبُ الامتناعُ مِنه ؟
قُلنا: لَيسَ يَجوزُ أن نَمنَعَ مِن القولِ لأجلِ ما يؤَدّي إليه مِن الفاسدِ، [و نَلجأَ] إلَى التَّمسُّكِ بالأصلِ المؤَدّي إلىٰ ذلكَ القولِ ، بل الواجبُ إذا امتَنَعنا مِن الفاسدِ أن
نَمتَنِعَ ممّا يُؤَدّي إليه و يَقتضيهِ .
و لَو لا أنّ الأمرَ علىٰ ما ذَكَرناه لَساغَ لكُلِّ مُبطِلٍ أن يَتمسَّكَ بباطلِه، و يَمتَنِعَ ممّا يؤَدِّيه إليه مِن الفَسادِ، و يَعتَلَّ بمِثلِ ما ذَكَره السائلُ ؛ حتّىٰ يَقولَ قائلٌ : إنّ قُدَرنا تَتعلَّقُ بالأجسامِ ، و إنّما لا يَقَعُ مِنّا فِعلُ الأجسامِ ؛ لِما يؤَدّي إليه مِن اجتماعِ جَوهرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ إن فَعَلناها علىٰ سَبيلِ المُباشَرةِ ، أو امتلاءِ الظروفِ (2)الفارغةِ متَى اعتَمَدنا فيها اعتماداً متّصلاً إن فَعَلناها علىٰ سَبيلِ التوليد. و يَتمسَّكُ هذا بالقولِ المؤَدّي إليه مِن اعتقادِ أنّ القُدرةَ مُعلَّقةٌ بالجسمِ . فلمّا كان هذا باطلاً، وجبَ - علىٰ ما ذَكَرناه - أن يُطرَحَ القولُ بتَعلُّقِ القدرةِ بالأجسامِ ، و لا يُتمسَّكَ بذلكَ مَعَ الامتناعِ ممّا يؤَدّي إليه.
[و] وجبَ أيضاً علىٰ مَن ذهبَ إلىٰ أنّ التحيُّزَ يَكونُ بالفاعلِ - إذا امتَنَعَ ممّا يؤَدّي إليه هذا القولُ مِن الفَسادِ - أن يَمتَنِعَ مِن أصلِ القولِ المؤَدّي إلَى الفَسادِ، و هو إثباتُهُ للتحيُّزِ مُستَنِداً إلَى الفاعلِ .
ص: 70
فإن قيلَ : أ لَستُم تَمنَعونَ مِن وجودِ الحياةِ في مَوضِعِ الاتّصالِ بَينَ زَيدٍ و عَمرٍو [لِمَا يؤدّي إليهِ من فسادٍ، فكيفَ عِبتُم مِثلَه](1)؟!
[قلنا: إنّا لم نمتنع من وجود الحياة بحيث الاتّصال] لِما(2) يؤَدّي إليه مِن الفَسادِ، بل لوَجهٍ ثابتٍ صحيحٍ ، [و هو أنّ كَونَ ] العُضوِ [الواحدِ] بعضاً لِحَيَّينِ في حُكمِ المتنافي؛ لأنّ مِن شأنِ ما يكونُ بعضاً لزيدٍ ألّايَكونَ بعضاً لغَيرِه، فإن أمكَنَ أن يُشارَ في امتناعِ كَونِ الجَوهرِ سواداً إلىٰ وَجهٍ ثابتٍ يَمنَعُ مِن ذلكَ ، مِن غَيرِ اعتمادٍ علىٰ ما يؤَدّي إليه مِن الفَسادِ، فليُذكَرْ.
[ب:] و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ [أنّ ] التَحيُّزَ لا يَكونُ بالفاعلِ : أنّ كُلَّ صفةٍ تَكونُ عَلَيها الذاتُ بالفاعلِ لا يَختَصُّ بها بعضُ القادرينَ دونَ بعضٍ ، فلَو كان التحيُّزُ بالفاعلِ لَتأَتّىٰ مِنّا أن نَجعَلَ الذاتَ عَلَيه، كما يَصِحُّ مِنّا و يَتأَتّىٰ (3) في كُلِّ ما يَكونُ بالفاعلِ . و في تَعذُّرِ ذلك دليلٌ علىٰ فَسادِ القول(4) بأنّ التحيُّزَ بالفاعلِ .
علىٰ أنّه لَو كانَ متحيِّزاً بالفاعلِ لَكانَ جاعلُه متحيِّزاً موجِداً لذاتِه؛ لأنّا قَد بيّنّا فيما مضىٰ (8) أنّ مَن جَعَلَ الذاتَ علىٰ صفةِ الفاعلِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ هو المُحدِثَ لها.
و إذا آلَ الأمرُ إلىٰ حُدوثِ الجَوهرِ، فهو(5) الذي أَجرَينا بِحَمْلِه هذا الكلامِ إليه.(6)
ص: 71
[9، 8.] و لم يَبقَ بَعدَ ما أفسَدناه مِن الأقسامِ ، إلّاأن يَكونَ متحيِّزاً لنفسِه بلا
واسطةٍ ؛(1) لأنّ كَونَه متحيِّزاً لِما هو عَلَيه في نفسِه هو الصحيحُ المطلوبُ .
و علىٰ هذينِ الوَجهَينِ كانَ تَمَّ ما قَصَدناه مِن أنّ الجَوهرَ متىٰ وُجِدَ وجبَ كَونُه متحيِّزاً، و أنّه مع الوجودِ لا يَجوزُ فيه خلافُ ذلك.
و إنّما(2) يُمكِنُ أن يُتبيَّنَ أنّ التحيُّزَ لا يَرجِعُ إلَى النفسِ بغَيرِ واسطةٍ متىٰ ثَبَتَ حُدوثُ الجَوهرِ، و أنّ له حالَتَينِ : حالةَ عدمٍ و حالةَ وجودٍ، و أنّه كانَ في حالِ العدمِ غَيرَ متحيِّزٍ، ثُمّ اختَصَّ مع الوجودِ بالتحيُّزِ، فيُعلَمُ (3) بذلك أنّ التحيُّزَ لا يَستَنِدُ إلَى النفسِ مِن غَيرِ واسطةٍ .
و ما تَبيَّنَ مِنَ الكلامِ على حُدوثِ الجَوهرِ لا يَجوزُ أن نَستعمِلَه(4) مع مَن يُخالِف في قِدَمِه، لا سيَّما و لمْ [تَثْبُتْ ](5) لنا دَلالةُ الحُدوثِ .
و إذاً ثَبَتَ أنّ التحيُّزَ راجعٌ إلَى الذاتِ ، و أنّه واجبٌ مع الوجودِ.
هو أنّه معلومٌ ضَرورةً أنّ ما هذه صفتُه مِن الذواتِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ في جهةٍ ما، و لا إشكالَ فيما يَجري هذا المَجرىٰ مِن العلومِ المُستَقِرّةِ في العقولِ . و قد بَيَّن الشيوخُ هذا و قَرَّبوه، بأن قالوا:
معلومٌ ضَرورةً في كُلِّ جَوهرٍ يُشارُ إليه، أنّه لو وُجِدَ جَوهرٌ آخَرُ معه لَكانَ بَعيداً مِنه أو قريباً، و لا يُمكِنُ واسطةٌ بَينَ الأمرَين. و هذا يدلُّ على أنّ الاختصاصَ بالجهةِ مع التحيُّزِ واجبٌ لا نَجِدُ له محيلاً.(1)
فإن قيل: كيفَ تَدَّعونَ عِلمَ الضرورةِ في ذلكَ ، و أصحابُ الهَيولىٰ (2) يَدَّعونَ أنّ الجَواهرَ لمّا كانَت هَيولىٰ غَيرَ مصوَّرةٍ ، كانَت خاليةً مِن الأعراضِ ، و غَيرَ مختصّةٍ بجهةٍ مِن الجِهاتِ؟
قُلنا: لا شُبهةَ أن يكونَ هؤلاءِ القومُ إنّما اعتَقَدوا ما ذَكَرتُموه في الجَواهرِ؛ لأنّهم جَعَلوها في حُكمِ المعدومِ (3) و إن أطلَقوا عَلَيها اسمَ «الموجودِ»؛ فإنّ العبارةَ
ص: 73
لا اعتبارَ لها في هذا البابِ . و الموجودُ عند القومِ يَنقَسِمُ أقساماً كثيرةً (1)، و رُبَّما أَثبَتوا المعدومَ موجوداً علىٰ بعضِ مَعاني الوجودِ عندَهم(2)، و لَيسَ نُنكِرُ أن يَنفِيَ قُربَ أحَدِ الجَوهَرَينِ مِن الآخَرِ أو بُعدَه مِنه مَن اعتَقَد فيهما أنّهما معدومانِ .
علىٰ أنّ الخِلافَ في المَعاني غَيرُ الخلافِ في الأحوالِ التي تَجِبُ عن المَعاني، و أصحابُ الهَيولىٰ إنّما خالَفوا في المَعاني، و نَفَوا في «الحالِ » الّتي ادَّعَوها للأجسامِ عنها كُلَّ المَعاني و الصوَرِ، و إن كانوا مع اعتقادِهم وجودَها لا بُدَّ مِن أن
يَعتَقِدوا أنّها في جهةٍ مِن الجِهاتِ . و إذ(3) لَم يَكُن كذلكَ و تلكَ الحال [مُحالٌ ]، فقَد بانَ أنّ تعميمَهم للمَعاني في بعضِ الأحوالِ لا يَقتَضي دَفعَ ما ذَكَرناه من اختصاصِ الأجسامِ بالجهاتِ . و إذا كانَ الدليلُ قد دَلَّ علىٰ أنّ هذه الحالَ لا تَحصُلُ للأجسامِ في وقتٍ مِن الأوقاتِ إلّافي المَعاني، ثَبَتَ أنّ الأجسامَ كما لم تَخلُ مِن هذه الأحوالِ لَم تَخلُ مِن المَعاني، و زالَ الخِلافُ علىٰ كُلِّ حالٍ .
و قد قيلَ في الجوابِ عن هذا السؤالِ : إنّ أصحابَ الهَيولى إنّما جازَ أن يَعتَقِدوا في الأجسامِ في تلكَ الحال أنّها لَم تَكُن مجتَمِعةً و لا متفرِّقةً ، مِن حَيثُ اعتَقَدوا أنّها كالشيءِ الواحدِ، و أنّه لا تأليفَ فيها؛ فيَتبَعُ اعتقادُهم لنفيِ كونِها مجتَمِعَةً أو متفرِّقةً اعتقادَهُم الفاسِدَ أنّها كالشيءِ الواحدِ. و إذا عُلِمَ بالدليلِ أنّ ما هو بصفةِ
ص: 74
الجسمِ لا يَجوزُ أن يَكونَ شيئاً واحداً، بَطَلَ ما ذَهَبوا إليه؛ و هذا قَريبٌ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَخلُو مِن الأكوانِ : أنّا وَجَدنا ما يَمنَعُ مِن كَونِ الجَوهرِ (9) أو الجسمِ بحَيثُ كَونُه مِن الخَوارجِ (1) يَمنعُ مِن وجودِه فيه؛ ألا تَرىٰ أنّ الفاعلَ للجَوهرِ لا يُوصَفُ بالقُدَرةِ علىٰ أن يَفعَلَ بفعلِه كَونَه هناكَ؟ و إذا زالَ الجَوهر عن تلك الجِهةِ ، جازَ إيجادهُ فيها مِن حَيثُ صَحَّ إيجادُ كَونِه في تلك الجهةِ ، فوَضَحَ بذلكَ أنّ الجَوهرَ و الكَونَ كالشيءِ الواحدِ، و وجبَ أن لا تخلُوَ الجَواهرُ مِن الأكوانِ في حالٍ من الأحوالِ .
فإن قيلَ : كيفَ تَدَّعون أنّهما كالشيءِ الواحدِ، و عِنْدَكُم أنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَقصِدَ الفاعلُ للجَوهرِ إلىٰ فِعلِه في جهةٍ يَعلَمُ أنّ غَيرَه يَعتَمِدُ في تلكَ الحالِ فيها(2)، و لا يَجِبُ أن يَقصِدَ مع فِعلِ الجَوهرِ إلى فِعلِ الكَونِ؟
قُلنا: هذا إذا جِئنا إليه لا يُخِلُّ بما ذَكَرناه مِن أنّ «الجَوهرَ و الكَونَ كالشيءِ الواحدِ»، و إنِ اختُلِفَ بَينَ الأمرَينِ ، فنَقولُ : قد بيّنّا أنّ الجَوهرَ يَختَصُّ في حالِ وجودِه بصفةٍ (3) مِن الصفاتِ ، و هي كَونُه في جهةٍ ما مِن الجِهاتِ ، و إذا لَم يَكُن في
الجهةِ أن لا يَكونَ قد وجبَ أنّه لا يَخلو - إذا وُجِدَ - مِن الألوان، و لَيسَ للجسمِ و لا للجَوهرِ [حالة غيرها]، فتنتفي(4) الصفاتُ فيها؛ لأنّه(5) لا يَخلُو مِن اللّونِ ، فوجبَ افتراقُ الأمرَينِ .
ص: 75
فإن قيلَ : و لِمَ زَعمتُم أنّه لا صفةَ له تَقتَضي(1) ما ذَكَرتُموه ؟
قُلنا له: ليس يَخلُو لَو كانَ محتاجاً إلَى اللون، مِن أن يَحتاجَ إليه في وجودِه، [أو صفة زائدة](2) مِن الصفاتِ التي يَجِبُ حُصولُها في حالِ وجودِه، أو في بعضِ الأحكامِ التي تَحصُلُ (3) في الوجودِ و الصّفاتِ ؛ مِثلِ كَونِه متحيِّزاً في جهةٍ مِن الجِهاتِ ، و كَونِه على الصفةِ التي تَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، و هي المُستَفادةُ (4) بقَولِنا «جَوهرُ الأحكام»، [و] مِثلِ كَونِه(5) مُحتَمِلاً للأعراضِ ، و كَونِه مُدرَكاً.
أو يَكونَ الجَوهرُ موجِباً لِلَّوْنِ (6) إيجابَ السببِ للمُسبَّبِ أو العلّةِ للمعلولِ .(7)
ذلك الوَجهِ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ حاجةِ الشيءِ إلىٰ نفسِه.
[2.] و لا يَجوزُ أَن يَحتاجَ إليه في كَونِه متحيّزاً؛ لأنّ اللَّونَ يَحتاجُ إلَى الجَوهرِ مِن هذا الوَجهِ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَصِحُّ أن يَحُلَّه إلّابَعدَ أن يَكونَ متحيِّزاً؟
و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَحتاجَ إلىٰ جنسٍ مِن الألوان مخصوصٍ ؛ لأنّه لَيسَ لجُملةِ الألوان صفةٌ مشترَكٌ فيها، يَصِحُّ أن يَحتاجَ الجَوهرُ إلىٰ ما كانَ بتلكَ الصفةِ (1) - كما نَقولُ في حاجةِ التأليفِ إلى الأكوان(2) المُجاوِرةِ ، و أنّ الأكوان(3) المختلفةَ تَقومُ في حاجةِ التَّآلُفِ مَقاماً واحداً؛ مِن حَيثُ كان التأليفُ يَحتاجُ إلىٰ كَونِ الجَوهَرينِ مُتَجاوِرَينِ (2) - و اختلافُ الألوان لا يُخِلُّ بهذه الصفةِ .(3)
و هذا الوَجهُ أيضاً يُبطِلُ حاجتَه إليه في وجودِه، زائداً علىٰ ما تَقدَّمَ .
و أيضاً: فإنّ تَحيُّزَ الجَوهرِ إنّما(4) يوجِبُه صفةُ جنسِه بشَرطِ الوجودِ،(5) فمُحالٌ أن يَكونَ لهذه الصفةِ مؤثِّرٌ(6) آخَرُ سِوى ما ذَكَرناه.
[3.] و لَيسَ يَجوزُ أن يَحتاجَ إليه في كَونِه جَوهراً؛ لأنّ هذه الصفةَ تَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، و يَجِبُ حُصولُه عَلَيها في حالِ العدمِ ،(7) و مُحالٌ أن يَحتاجَ إلَى اللون في الصفةِ الثابتةِ
ص: 77
في حالِ العدمِ ؛ لأنّ اللون لا يَصِحُّ أن يَختَصَّ به و هو معدومٌ .
و لَيسَ يَجوزُ أَن يَحتاجَ إلَى اللونِ في كَونهِ في بعضِ الجِهاتِ (1)؛ لأنّه قد ثَبَتَ حاجتُه
إلَى الكَونِ في هذه الصفةِ ، و مُحالٌ أن يَحتاجَ إلَى الكَونِ و اللون مَعاً في الصفةِ الواحدةِ ؛ لأنّ الجنسَينِ المُختَلِفَينِ لا يوجِبانِ صفةً واحدةً ؛ مِن قِبَلِ أنّ اختلافَ جنسَيهما يَقتَضي اختلافَ ما يَجِبُ عنهما، إذا كانَ الإيجابُ يَرجِعُ إلىٰ ما عَلَيه الذاتُ (2).
و أيضاً: فكانَ يَجِبُ أن يَثبُتَ مِن الألوان بعَددِ الجِهاتِ ، كما يَجِبُ مِثلُه في الأكوانِ ، و قد عَلِمنا اختلافَ ذلك؛ (10) لأنّ الألوان منحصِرَةُ الأجناسِ ، و الجِهاتُ لا انحصارَ لها.
و أيضاً: فيَجِبُ علىٰ هذا القولِ استحالةُ تَنَقُّلِه في الجِهاتِ و هو مُلَوَّنٌ بلَونٍ واحدٍ، و استحالةُ تَعاقُبِ الألوانِ المُختَلفةِ عَلَيه و هو في جهةٍ واحدةٍ . و في جَواز ذلك الدليلُ علىٰ أنّه لا يَحتاجُ إلَى اللون في كَونِه في الجهةِ .
[4.] فأمّا كَونُه مُحتَمِلاً للأعراضِ ،(3) فإن أُريد به اختصاصُه بالصفةِ التي معها يَحتَمِلُ ، فتلكَ الصفةُ هي التحيُّزُ، و قد دَلَلنا علىٰ أنّه لا يَحتاجُ إلَى اللون فيها.
و إن أُريدَ أنّ اللون يَجِبُ وجودُه لاحتمالِه له، و لتَحيُّزِ وجودِه فيه، فذلكَ يوجِبُ وجودَ ما لا نِهايةَ له مِن الجنسِ الواحدِ؛ لاحتمالِه لكلِّ قَدرٍ زائدٍ(4)
ص: 78
أُشيرَ إليه، و لأنّ السوادَ أيضاً لا يَكونُ بالوجودِ فيه أَولىٰ مِن البياضِ ؛ لأنّ احتمالَه لهما علىٰ سَواءٍ .
[5] فأمّا كَونُه مُدرَكاً،(1) فإنّما يُدرَكُ لِتحيُّزِه،(2) و قد بيّنّا أنّه لا يَحتاجُ إلى اللون في ذلك.(3)
و لأنّ تَحقِيقَ كونِه مُدرَكاً يَرجِعُ إلىٰ غَيرِه لا إليه، فكيفَ يُعلِّلُه بعِلّةٍ (4)تَرجِعُ (5) إليه ؟
علىٰ أنّ إدراكَ الشيءِ يَرجِعُ إلىٰ ما هو عَلَيه في ذاتِه، و يُدرَكُ علىٰ أخَصِّ أوصافِه، فأيُّ تأثيرٍ للّونِ في إدراكِ الجَوهرِ، و هو مُستَنِدٌ إلىٰ ما ذَكَرناه!
و بَعدُ، فقَد عَلِمنا أنّ الجَوهرَ يُدرَكُ لَمساً كما يُدرَكُ بالبَصَرِ، و إن لَم يَتعلَّقْ إدراكُه لَمساً باللون، فكيفَ يَكونُ اللون مُقتضِياً لإدراكِه ؟(6)
فأمّا قولُهم: «إنّه لا يُدرِكُه إلّاعلىٰ هَيئَتِه» ففيه وَقَعَ النِّزاعُ ، و هو نفسُ الدعوىٰ ؛ لأنّا قد نُدرِكُ ما لا هيئةَ له [بأيّ ] نحوٍ، لِحَقِّ الأجيرِ(7)؛ و لأنّا قد نُدرِكُ الجسمَ بحاسّةِ اللمسِ علىٰ غَيرِ هيئتِه(8).
ص: 79
علىٰ أنّ قولَهم: «إنّه لا يَخلو مِن اللون؛ لأنّه ذو هَيئةٍ » تَعليلُ الشيءِ بنفسِه؛ لأنّ معنَى الهَيئةِ معنَى اللون، و لَيسَ ذلكَ يَجري مَجرىٰ قولِنا: «إنّه لا يَخلُو مِن الكَونِ ؛
لِاختصاصِه ببعضِ المُحاذِياتِ »؛ لأنّ هذا لَيسَ تعليلاً للشيءِ بنفسِه؛ لأنّ كَونَه في الجِهةِ حالٌ معقولةٌ تَجِبُ (1) له عَلى الكَونِ ، و كونَه ذا هَيئةٍ لا يُعقَلُ مِنه إلّاوجودُ اللونِ فيه.
[1] و لا يَجوزُ أن يَكونَ الجَوهرُ مُوَلِّداً للَّونِ ؛(2) لأنّه لَو وَلَّدَه لَم يَكُن بأن يُوَلِّدَ السوادَ أَولىٰ مِن البياضِ ؛ لأنّه لا اختصاصَ له بأحدِهما دونَ الآخَرِ، و هذا يُؤَدّي إلىٰ تَوليدِه في حالةٍ واحدةٍ لألوانٍ مُتَضادَّةٍ !
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : و لَو وَلَّد الاعتمادُ(3) الحَرَكةَ ، لم يَكُن بأن يُولِّدَها في جهةٍ أَولىٰ مِن غيرِها!
و ذلك: أنّ الاعتمادَ يَختَصُّ بالجهةِ ، فيُوَلِّدُ ما يُوَلِّدُه فيها، و ليس كذلك حُكمُ الجَوهرِ لَو كانَ مُوَلِّدَ اللَّونِ .
[2] و لَيسَ يجوزُ أن يَكونَ اللون موجَباً عن الجوهرِ إيجابَ العلّةِ للمعلولِ ؛ لأنّ العلّةَ لا توجِبُ وجودَ الذاتِ ، و إنّما توجِبُ الأحوالَ ،(4) و اللونُ ذاتٌ ؛ فكيفَ يَجِبُ عن علّةٍ؟
ص: 80
و أنّ (1) كُلَّ (2) ما لا توجِبُه(3) العلّةُ لا يَتعلّقُ (4) بالفاعلِ ، و قد عَلِمنا تَعلُّقَ اللونِ بالفاعلِ ؛ فكيفَ يَكونُ موجَباً عن علّةٍ؟
و أيضاً: و(5) لو وجبَ اللون عن الجَوهرِ إيجابَ العلّةِ ، لَم يَكُنِ السوادُ بأن يَجِبَ عنه أَولىٰ مِن البياضِ ؛ لِنَفيِ الاختصاصِ .
و أيضاً: فإنّ العلّةَ لا توجِبُ بالشيءِ وجودَه، و قد عَلِمنا حُلولَ الألوانِ المُتَضادَّةِ في الجَوهرِ، فكيفَ تَجِبُ مع تَضادِّها عنه ؟
فإن قيلَ : لِمَ اعتَمَدتُم في حُدوثِ الأجسامِ علَى الأكوانِ دونَ الحركةِ و السكونِ و الاجتماعِ و الافتراقِ ، و قد اعتَمَدَ ذلكَ جَماعةُ مَنْ تَقدَّمَ مِنَ الشيوخِ؟ و هَل يَصِحُّ الاعتمادُ علَى الكُلِّ ، أو فيه ما لا يَصِحُّ اعتمادُه ؟(6)
قيلَ له: دليلُ الاعتبارِ فيما يَدُلُّ علىٰ حُدوثِ الأجسامِ مِن المَعاني، [لا] بجنسِه و لا باسمِه، و إنّما الاعتبارُ بإثباتِ حُدوثِه، مع أنّ الجسمَ لم يَخلُ مِنه. و عُدولُنا إلىٰ ذِكرِ الأكوان هو لوَجهٍ صحيحٍ ، و ذلكَ أنّ الجسمَ و الجَوهرَ لا يَخلُو في وقتٍ مِن الأوقاتِ مِن المعنَى الذي يَستَحِقُّ هذه التَّسميةَ ؛ لأنّها عبارةٌ عمّا كانَ به في المكانِ .
ص: 81
[الكلام على الدعوى الرابعة](1)
و إذا كانَ .........................................
...(2)(11) ما لَم يَتقدَّمْه، و اعتقادُ قِدَمِها يَقتَضي عِلماً بوجودِها قَبلَ وجودِ هذه الذاتِ التي أشَرنا إليها، فصارَ اعتقادُ قِدَمِ ما لَم يَتقدَّمِ المُحدَثَ يَقتَضِي اعتقادَ وجودِ الذاتِ و عدمِها في حالةٍ واحدةٍ ، و كلُّ هذا [تنبيهٌ ](3) لا استدلالٌ ؛ لأنّ الأمرَ في ذلكَ أوضَحُ مِن أن يُستَدَلَّ عَلَيه.
و لا فَرقَ في القضيّة التي ذَكَرناها بين كَونِ الجسمِ غَيرَ متقدِّمٍ في الوجودِ لذاتٍ (4) واحدةٍ مُحدَثةٍ أو لذَواتٍ كثيرة. و كذلكَ لا فَرقَ بَينَ أن يُقارِنَ شيئاً مِنها قَبلَ شيءٍ ، أو لا يَكونَ كذلكَ ، في أنّ حُدوثَه واجبٌ علىٰ سائرِ الوجوهِ (5)؛ لأنّ العلّةَ الموجبةَ لذلكَ لا تَختَلِفُ (6) باختلافِ هذه الوجوهِ ، و إن كانَ متىٰ قارَنَ شيءٌ قَبلَ
ص: 82
شيءٍ ، فإنّ الذي يَدُلُّ علىٰ حُدوثِه هو الحادِثُ الذي لَم يَتقدَّمْه إلىٰ سِواه، دونَ ما تَقدَّمَه و قارَنَ غَيرَه.
فأمّا الكلامُ في أنّ العِلمَ بذلكَ (1) ضَروريٌّ أو مُكتَسَبٌ ، فالذي يَجِبُ أن يقالَ به:
إنّ العِلمَ بأنّ «ما لَم يتقدَّمِ المُحدَثَ يَجِبُ أن يَكونَ مُحدَثاً(2)» عِلمٌ ضَروريٌّ يَتناوَلُ جُملتَها، [و] يَختصُّ بهذه الصفةِ مِن غَيرِ تفصيلٍ ، فمتىٰ عَلِمنا في ذاتٍ بعَينِها(3)بالتأمُّل أنّها لم تَتقدَّمِ الحَوادثَ ، فلا بُدَّ مِن أن نَفعَلَ (4) اعتقاداً بأنّها(5) مُحدَثةٌ (6)، و يَكونَ عِلماً(7) [مفصَّلاً]؛(8) لتقدّمِ العِلمِ بالجملةِ التي ذَكَرناها،(9) و يَجري ذلكَ مَجرىٰ عِلمِ العاقلِ بأنّ الظلمَ قبيحٌ في أنّ ما عَلِمَه(10) جُملةً يَتناولُ قُبحَ ما اختصَّ مِن
ص: 83
الأفعالِ بصفةِ الظلمِ ، فإذا عَلِمَ مِن بَعدُ بالدليلِ في فِعلٍ بعَينهِ أنّه بصفةِ الظلمِ ، فَصَّل عَلَيها لقُبحِه(1).
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ العِلمُ بأنّ «الجسمَ مُحدَثٌ مِن حيثُ لَم يتقدَّم الحوادثَ »(2) عِلمَ استدلالٍ ؛ لأنّه لَو كانَ كذلكَ لَجازَ أن لا يَحصُلَ بتَركِ النظَرِ في دليلِه، مع العِلمِ بأنّه لَم يَتقدَّمِ المَعانيَ المُحدَثةَ ، و قد عَلِمنا أنّه لا بُدَّ مِن حُصولِه.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ ضَروريّاً كما قُلناه في العِلمِ المتعلِّقِ بالجُملةِ ؛(3) لأنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَفتَقِرَ إلَى العِلمِ بإثباتِ المَعاني و حُدوثِها، و أنّ الجسمَ لَم يَتقدَّمْها، بل كانَ يَجِبُ حُصولُه في كُلِّ حالٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ العِلمَ بأنّ «ما لَم يَتقدَّمِ المُحْدَثَ مُحدَثٌ » علىٰ سَبيلِ الجُملةِ كانَ ضَروريّاً [حقّاً فهو كان أوّلاً]،(4)و قد عَلِمنا أنّ حدوثَ الجسمِ لا يَعلَمُه إلّامَن عَلِمَ ما ذَكَرناه مِنَ العِلمِ بتَقدُّمِ المَعاني المُحدَثةِ .
علىٰ أنّ أبا هاشمٍ يَقولُ : «[العِلمُ بتَقدُّمِ المَعاني المُحدَثةِ ](5) يَصيرُ مُتَعلِّقاً به بحُدوثِ الجسمِ ، بَعدَ أن لَم يَكُن متعلِّقاً به».
و هذا لا يَجوزُ؛ لأنّه يُؤَدّي إلىٰ قَلبِ جنسٍ مِن حيثُ [يؤدّي إلى ما] عُلِمَ بغَيرِه [مضافاً] إلىٰ جنسِه.
ص: 84
و إذا بَطَلَ أن يَكونَ ضَروريّاً و مُستَدَلّاً عَلَيه، ثَبَتَ ما قُلناه(1) مِن أنّه مُكتَسَبٌ ؛(2) و معنىٰ قولِنا بِذلكَ المعنىٰ (3) أنّ العاقلَ يَفعَلُه؛ لتَقدُّمِ عِلمِه بما ذَكَرناه كما سَمَّيناه،(4)كما يَفعَلُه المُتَنبِّهُ مِن نَومِه مِن العلومِ التي يَعودُ بها إلىٰ ما كانَ عَلَيه مُكتَسَبةً ؛ مِن حَيثُ فَعَلها؛ لكَونِه ذاكِراً لأحوالِه، و صارَ ما يَفعَلُه مِن(5) الاعتقادِ عِلماً لهذا الوَجهِ ، كما صارَ ما يَفعَلُه المُعتَقِدُ للتفصيلِ مِن بابِ المُحدَثِ عِلماً؛ لتَقدُّمِ عِلمِه بالجُملةِ التي ذَكَرناها.
فلَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا لَم يَكُن هذا العِلمُ ضَروريّاً و كانَ مُكتَسَباً، فألّا جازَ ارتفاعُه، و ألّايَختاره بعضُ العقلاءِ؟
و ذلكَ : أنّ عِلمَ العاقلِ بأنّ «الذاتَ إذا لَم تَتقدَّمِ (6) المُحدَثَ فهي مُحدَثةٌ » الذي(7)قلنا: إنّه عِلمٌ جُمَلٌ (8)، داعٍ قويٌّ (9) إلىٰ فِعلِ اعتقادِ حُدوثِ ما له هذه الصفةُ ؛ ليُطابِقَ التفصيلُ الجُملةَ المُقرَّرةَ في العقلِ .
ص: 85
و لا يَجوزُ أن لا يفعلَ ذلكَ إلّابدُخول شُبهةٍ عَلَيه في صفةِ هذه الذاتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ القائلَ لمّا كانَ متقرِّراً في عقلِه أنّ «ما له صفةُ الظلم فهو قَبيحٌ » لا يَجوزُ متىٰ عَلِم في بعضِ الأفعال(1)(12) أنّ له صفةَ الظلمِ أنْ لا يفعل اعتقاداً لقُبحِه، و أنّه إنّما يَصِحُّ أن لا يفعل ذلك [إلّا] بدخول(2) شُبهةٍ عَلَيه في صفةِ الفعل، حتّى تُخرِجَه(3) مِن مطابقَةِ الجُملةِ المتقرِّرةِ في عقلِه ؟(4) فإذا كانَ الأمرُ علىٰ ما ذَكَرناه، لَم يَزَل - إذا كان العِلمُ الذي أشَرنا إليه مُكتَسَباً - أن يَجوزَ ارتفاعُه على كُلِّ حالٍ .
فإن قيلَ : كيفَ يَكونُ العِلمُ الذي ذَكَرتُموه واجباً حُصولُه(5) مع تَقدُّمِ العلومِ الثلاثةِ التي ذَكَرتُموها، [و] قد خالَفَ بعضُ العقلاءِ في ذلكَ - و هو ابنُ الروَنديِّ (6) -
و اعتَقدَ أنّ الجسمَ قَديمٌ ، و إن لم يَتقدَّمِ المَعانيَ المُحْدَثةَ .
ص: 86
قُلنا: خِلافُ ابنِ الروَنديّ في التحقيقِ يَرجِعُ إلىٰ إحدَى(1) الدَّعاوَى المتقدِّمةِ ؛(2)لأنّه يَزعُمُ أنّ الجِسمَ لَم يَزَل يُقارِنُ حادثاً قَبلَ حادثٍ بلا أوّلٍ ، و هذا قولٌ في المعنىٰ بِتَقدُّمِ المَعاني؛ ألا تَرىٰ أنّه قد صَرَّح بأنّ فيها ما وجودُه كوجودِ الجسمِ القديمِ عندَه ؟ و ما وجودُه كوجودِ القديمِ لا بُدَّ أن يَكونَ قديماً. و لا اعتبارَ بإطلاقِه بأنّها مُحدَثةٌ ؛ لأنّه قد سَلَبَ معنىٰ ما أعطاه بالقولِ ، و الاعتبارُ بالمَعاني دونَ العباراتِ .
فإن قيلَ : إذا جازَ أن يُقارِنَ الجسمُ العَرَضَ فلا يَكونَ عَرَضاً، فألّا(3) جازَ أن يُقارِنَ المُحدَثَ و لا يكونَ مُحدَثاً؟
قُلنا: هذا سؤالُ مَن لَم يتحقَّقْ مَعنىٰ كلامِنا؛ لأنّا لَم نُوجِبْ «أن يَكونَ الجسمُ مُحدَثاً مِن حَيث ما يَتقدَّمُ الحوادثَ » لأنّ مِن شأنِ كُلِّ شيءٍ لَم يَتقدَّمْ غَيرَه أن يَكونَ بِمِثلِ صفتِه، فَيلزَمنا هذا الكلامُ .
و إنّما أَوجَبنا ذلكَ ؛ لأنّ وَصفَنا القَديمَ بأنّه قَديمٌ يُفيدُ(4) أنّه [ما] وُجِدَ بَعدَ عدمٍ ، و الذاتانِ (5) إذا لَم تَتقدَّمْ (6) إحداهما الأُخرىٰ ، فمُحالٌ أن تَكونَ (7) إحداهما قَديمةً
ص: 87
و الأُخرىٰ مُحدَثةً ، بل لا بُدَّ مِن كَونِهما معاً إمّا قَديمتَينِ أو مُحدَثتَينِ . و ليسَ هذا سَبيلَ ما سألتم عنه؛ لأنّ واصِفَ العَرَضِ بأنّه عَرَضٌ لَيسَ بمُفيدٍ [لتقدّمٍ أو](1) لتأخُّرٍ، كما ذَكَرناه في وَصفِ القَديمِ و المُحدَثِ ، و إنّما يُفيدُ مِن [فعل](2) مخصوصٍ ، و الشيءُ إذا قارَنَ غَيرَه [و لم يتقدّمه، فهو](3) ممّا لا يَجِبُ أن يَكونَ مِن قَبيلِه، و لا علىٰ
سائرِ صفاتِه؛ ألا تَرىٰ أنّا إذا فَرَضنا [أنّ عَمْراً](4) لَم يَتقدَّمْ ميلادُه ميلادَ [زيدٍ](5)، فواجبٌ أن يَكونَ مقدارُ عُمُرِهما واحداً، و لا يَجِبُ (6) قياساً علىٰ ذلكَ إذا كانَ أحَدُهما فاعلاً [فاعليّةَ الآخر، و هذا](7) يُسار(8) في هذا البابِ بكَونِ الفاعلِ واحداً إذا وجبَ حُصولُ الكَونِ مع حُصولِ الجَوهرِ.
على أنّ أبا هاشم قد مَنَعَ مِن ذلك، و قال: «لا يَجوزُ أن يَكونَ فاعلُ الجَوهرِ غَيرَ فاعلِ الكَونِ ».(9)
و هذه المسألةُ مَبنيّةٌ علىٰ أصلٍ ، و هو أنّه «لَيسَ مِن شَرطِ تَوليدِ الاعتمادِ الكَونَ في المَحَلِّ ، أن يَكونَ مَحَلُّه مُماسّاً لمَحَلِّ الكَونِ ، إلّافي حالِ وجودِهِ ».
فإن صَحَّ هذا الأصلُ ، جازَ خِلافُ قولِ أبي هاشمٍ ؛ لأنّ كُلَّ معنىً احتاجَ إلىٰ غيرِه صَحَّ مِن القَديمِ تَعالىٰ إيجادُه إذا وُجِدَ المُحتاجُ إليه، و إن كانَ مِن فِعلِ غَيرِه.
ص: 88
و إن لَم يَصِحَّ هذا الأصلُ [و] كانَ مِن شَرطِ تَوليدِ الاعتمادِ أن يَكونَ مَحَلُّهُ مُماسّاً لمَحَلِّ الكَونِ قَبلَ حالِ وجودِه، صَحَّ ما قالَه أبو هاشمٍ ، و سَقَطَ السؤالُ مِن أصلِه.
و في صحّةِ ذلك و فَسادِه نظَرٌ، لَيسَ هذا مَوضِعٌ يَقتَضيه؛(1) لأنّا قد بيّنّا صحّةَ ما أَورَدناه علَى الوَجهَينِ معاً.
فإن قيلَ : إذا كانَ الكَونُ عندَكم غَيرَ الجوهرِ، فهَلّا صَحَّ مِن فاعلِ الجَوهرِ أن يَفعلَهَ و إن لَم يَفعَلْ معه الكَونَ ؛ لأنّ هذا حُكمُ كُلِّ غَيرَينِ تَعَلَّقا بقُدرةِ القادرِ؟
قُلنا: مَن قَصَدَ إلى فِعلِ الجوهرِ، و كان مُضمَّناً لغَيرِه، وجبَ أن يَقصِدَ إلىٰ فعلِ ذلكَ الغَيرِ؛ لحاجةِ ما قَصَدَ مِن الجوهرِ إليه. و هذا كمَن قَصَدَ إلىٰ فِعلِ العَرَضِ المُختصِّ ببعضِ المَحالِّ ، في أنّه لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قاصداً إلىٰ فعلِ ذلكَ المَحَلِّ (13) الذي يَتِمُّ ما قَصَدَ به. و كذلكَ مَن(2) قَصَدَ إلىٰ فِعلِ مُسبَّبٍ لا يوجَدُ إلّاعن سببٍ مخصوصٍ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قاصداً إلىٰ فِعلِ ذلك السَّببِ .
و إذا كُنّا قد بيّنّا حاجةَ الجَوهرِ إلَى الكَونِ و أنّهما كالشيءِ الواحدِ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ القاصدُ إلىٰ فِعلِ الجَوهرِ قاصداً إلَى الكَونِ .
فإن قيلَ : إذا احتاجَ الجَوهرُ إلَى الكَونِ ، و الكَونُ مُحتاجٌ إلَى الجَوهرِ بغيرِ شُبهةٍ ، فقَد احتاجَ كُلُّ واحدٍ مِنهما إلَى الآخَرِ، و هذا متَناقِضٌ !
قُلنا: لَيسَ يتعيَّنُ (3) ما يَحتاجُ إليه الجَوهرُ مِن الأكوانِ و يَتخصَّصُ ، كتعيُّنِ ما
ص: 89
يحتَاجُ إليه الكَونُ مِن الجَوهرِ؛ لأنّ الجَوهرَ لا يَحتاجُ إلَى كَونٍ (1) بعَينِه، و إنّما يَحتاجُ - إذا وُجِدَ - إلىٰ كَونٍ مّا غَيرِ متعيِّنٍ ، و الكَونُ هو الذي يَحتاجُ إلىٰ جَوهرٍ متعيِّنٍ ؛ و لهذا يَجوزُ وجودُ الجَوهرِ مع عدمِ الكَونِ الذي يَحتاجُ إليه بعَينِه.
فإن قيلَ : ألَيسَ الكَونُ المعيَّنُ الموجودُ في الجَوهرِ يُحتاجُ إليه في هذه الحالِ ، و الكَونُ مع ذلكَ يَحتاجُ إليه(2) بعَينِه ؟ فَقد عادَ الأمرُ إلىٰ حاجةِ كلِّ واحدٍ مِنهما إلَى الآخَرِ!
قُلنا: الجَوهرُ و إنِ احتاجَ إلَى الكَونِ المعيَّنِ الموجودِ فيه، فإنّما احتاجَ إليه ليَكونَ به في جهةٍ مخصوصةٍ لا لوجودِه، و الكَونُ إنّما يَحتاجُ إلَى الجَوهرِ في وجودِه، فاختَلفَت جهةُ الحاجةِ كما تَرىٰ . و إذا اختَلفَت الجهةُ صحَّت الحاجةُ ، و لَم تَجرِ في الفَسادِ مَجرىٰ أن يَحتاجَ كُلُّ واحدٍ مِنهما إلَى الآخَرِ مِن وَجهٍ واحدٍ.
فإن قيلَ : فهَبوا(3) أنّه مسلَّمٌ لكم أنّ الجَوهرَ لا يَخلو - مع وجودِه(4) - مِن أن يَكونَ في جهةٍ مِن الجهاتِ ، لِمَ زَعَمتُم أنّ ذلكَ يَقتَضي أنّه(5) لَم يَخلُ في حالٍ مِن الأحوالِ مِن الأكوانِ؟ و ما أَنكَرتُم أن يَكونَ الجَوهرُ في حالِ حُدوثِه إنّما اختَصَّ بالجهةِ بالفاعلِ ، و إن كانَ في حالِ بقائِه و انتقالِه إلَى الأماكنِ يَكونُ فيها لمعنىً (6)؟ فإنّ
ص: 90
الذي أبطَلتُم به أن يَكونَ في أحوالِ بقائِه مختَصّاً بالجهاتِ بالفاعلِ لا يَتناوَلُ هذا المَوضِعَ .
قُلنا: أوّلُ ما نَقول: إنّ هذا الكلامَ لا يَكونُ شُبهةً لِمَن خالَفَ في حُدوثِ الأجسامِ ؛ لأنّ اعتراضَه مَبنيٌّ علىٰ تَسليمِ حُدوثِها، و إنّما يَصِحُّ أن يَكونَ اعتراضاً ممّن نَفَى الأعراضَ و وافَقَ في حُدوثِ الأجسامِ .
و الذي يُبطِلُه مِن بَعدُ: أنّا قد عَلِمنا أنّ الجَوهرَ إذا نَقَلناه مِن هذه الجهةِ التي ذُكِرَت، ثُمّ أعَدناه إليها، فإنّه لا يَكونُ فيها إلّابمعنىً ؛ لأنّ كَونَه في حالِ البَقاءِ مُستَقِلّاً بالفاعلِ مِن غَيرِ تَوسُّطِ معنىً قد ظَهَرَ بُطلانُه، و سُلِّمَ أيضاً في السؤالِ ، و هو إذا انتَقَلَ إليها لَم يَحصُل مِن الحالِ إلّاما كانَ له في الابتداءِ بعَينِه، و الصفتانِ المتماثِلَتانِ المتّفِقَتانِ في كيفيَّةِ الاستحقاقِ لا يَجوزُ أن يُستَحَقّا مِن وَجهَينِ مختلِفَينِ ، فلا بُدَّ أن يَكونَ المُقتَضي لهما(1) واحداً. و قد عَلِمنا أنّ الحالَ التي تَحصُلُ (2) للجَوهرِ في الجهةِ المخصوصةِ التي كانَ فيها في حالِ الحُدوثِ مُماثِلَةٌ
للحالِ التي تَحصُلُ له فيها في حالِ البَقاءِ ، و كيفيّةُ الاستحقاقِ أيضاً واحدة؛ لأنّه في حالِ الحُدوثِ كانَ يَجوزُ أن يَحصُلَ في غَيرِها بَدَلاً مِنها، كما هو كذلكَ في حالِ البَقاءِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ الموجِبُ للصفتَينِ واحداً غَيرَ مُختَلَفٍ . فإذا بَطَلَ أن يَكونَ في حالِ البقاءِ في الجهةِ بالفاعلِ ، فهو(3) كذلكَ في حالِ الحُدوثِ .
و ما يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ كَونَ الجسمِ في المُحاذاةِ (4) يَصِحُّ التَّزايُدُ فيه؛
ص: 91
و لهذا يَمنَعُ الأقوىٰ مِنه الأضعَفَ ، و ما صَحَّ التزايُدُ فيه لا يَكونُ بالفاعلِ كالحُدوثِ ، و هذا قد تَقدَّمَ .
و قد أجابَ (14) بعضُهم عن هذِه الشُّبهةِ ، بأن قالَ : لَو فَرَضنا أنّ الجِسمَ في أوّلِ أحوالِ وجودِه يَكونُ في المُحاذاةِ بالفاعلِ ، لَم يَقدَحْ ذلكَ في إثباتِ حُدوثِه و نَفيِ قِدَمِه؛ لأنّه إذا كانَ في الحالِ الثانيةِ لا يَكونُ في المُحاذاةِ إلّابمعنىً مُحدَثٍ ،(1) فحُدوثُه واجبٌ هو؛ لأنّ ما يَتقدَّمُ المُحدَثَ (2) بوقتٍ واحدٍ، لا يَكونُ إلّا مُحدَثاً غَيرَ قَديمٍ .
و هذا لا يُحتاجُ إليه؛ لأنّ السائلَ عن هذهِ المسألةِ قد سَلَّمَ حُدوثَ الجسمِ لَفظاً و معنىً ، و مسألتُه مَبنيّةٌ علىٰ هذا الأصلِ ؛ فأيُّ معنىً لاستخراجِها فيما يَلزَمُه، و مسألتُه مَبنيّةٌ عَلَيه، و هو يُصرِّح به ؟!
[فإن قيل]: إنّه لا يخلو مِنَ الكَونِ ، و إذا أجَزتُم خُلُوَّه مِن الأكوانِ فأَجيزوا خُلوَّه عن الأَلوانِ !(3)
قُلنا: لَو سَوَّينا بَينَ الأمرَينِ و أحَلْنا خُلوَّه مِن الكَونِ و اللَّونِ معاً، لَكانَ ذلكَ غَيرَ قادحٍ فيما نُريدُ إثباتَه مِن حُدوثِه؛ ألا تَرىٰ أنّ السائلَ إذا طالَبَنا(4) بإجازةِ خُلوِّه من اللَّونِ (5)، فالواجبُ - [أن لا نجيز](6) [إن كان أحَدُهما] أسوَدَ أن يَكونَ الآخَرُ كذلكَ ،
ص: 92
و لا إذا كانَ أحَدُهما قُرَشيّاً(1) أن يَكونَ الآخَرُ علىٰ صفتِه ؟(2)
و هذا الجَوابُ [جوابٌ ] عن قولِهم: «إذا لَم يتقدَّمِ الجسمُ ما لا يَبقىٰ و لَم يَكُن ممّا لا يَبقىٰ ،(3) فكذلكَ لا يَتقدَّمُ المُحدَثَ و لا يَكونُ مُحدَثاً»(4)، و عن سائرِ ما يَسألونَ عنه علىٰ هذا الوَجهِ .
فإنَ قيلَ : و لِمَ أَنكَرتُم أن تَكونَ الحوادثُ غَيرَ مُتناهِيَةٍ ، و لِمَ زَعَمتُم لها أوّلاً؟
قُلنا: وَصفُها بالحُدوثِ يَقتَضي تَناهِيَها؛ لأنّ المُحدَثَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ فاعِلُه قد(5)فَرَغَ مِنه، و لَم يَبقَ مِنهُ شيءٌ يُنتظَرُ وجودُه(6). و ما تَناهىٰ (7) حُدوثُه و انقطَعَ ، فلا(8) بُدّ
ص: 93
مِن أن يَكونَ له أوّلٌ و آخِرٌ؛ فَمَن وَصفَه بالحُدوثِ و نَفىٰ تناهِيَهُ ظَهَرت مُناقَضتُه.
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا تَناهي الحوادثِ المُستقبَلةِ ، و أن يَكونَ نَعيمُ أهلِ الجَنّة و عِقابُ أهلِ النار مُنقَطِعَينِ ، علىٰ ما يَزالُ يُلزِمونَنا(1) إيّاه(2).
و ذلك أنّ الفَرقَ بَينَ الأمرَينِ واضِحٌ ؛ لأنّ المُستَقبلَ مِن الحوادثِ ما(3) دخَلَت(4)حقيقتُه في الوجودِ، و لا فرَغَ فاعلُه منه، و لا يَلزَمُ أن يَكونَ مُتناهِياً. و الماضي مِن الحوادثِ قد انقَطَعَ وجودُه، و فَرَغَ فاعلُه منه، فلابُدَّ مِن تَناهيهِ .
علىٰ أنّا نَقولُ في المُستَقبَل مِثلَ ما قُلناه في الماضي، فنَحكُمُ بتَناهي كُلِّ ما وُجِدَ مِنه، كما حَكَمنا بتناهِي الماضي؛ لأنّ العِلّةَ في تَناهي الجميعِ واحدةٌ .
و معنىٰ قولِنا: «إنّ النعيمَ و العِقابَ غَيرُ مُنقَطِعَينِ »، هو أنّ فاعلَها يَفعلُ مِنهما(5)الشيءَ بَعدَ الشيءِ ، و لا يُريدُ نَفيَ النهايةِ عن الموجود فيهما؛ و لهذا جازَ أن يكونَ لا آخِرَ للأفعالِ . و لا يَجوزُ قياساً علىٰ ذلكَ أن لا يَكونَ لها أوّلٌ ؛ مِن حَيثُ كانَ نَفيُ (6) الآخِرِ لا يَقتَضي وجودُه(7) ما لا يَتناهى، و نَفيُ الأوّلِ يَقتَضي ذلكَ .
ص: 94
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الحوادثَ أوّلَ أوانِها متناهيةٌ : أنّه لَو كانَ لا أوّلَ لها لَوجبَ أن يَكونَ فاعلُها لَم يَفعَلْ شَيئاً مِنها إلّابَعدَ أن فَعَلَ ما لا نِهايةَ له، و هذا ممّا لا يَصِحُّ ؛ لأنّه لَو صَحَّ ذلكَ ماضياً لَصَحَّ مستقبَلاً، و في عِلمِنا باستحالةِ أن يَبتدئَ بفِعلِ ما لا نِهايةَ له، ثُمّ يَفعلَ بَعدَ ذلكَ فِعلاً مِن الأفعالِ ، دليلٌ علىٰ تَناهي الحوادثِ .
فإن قيلَ : و لِمَ جَمعتُم بَينَ (1) الماضي و المُستَقبَلِ في هذا البابِ؟
قُلنا: لأنّ المُضِيَّ و الاستقبالَ مِن أوصافِ الزمانِ ، لا تأثيرَ له في استحالةِ ما يَجري هذا المَجرىٰ و لا في صحّتِه.
و لأنّه لا ماضيَ إلّاو قَد كان مُستَقبَلاً، كما أنّه لا مُستَقبَلَ إلّاو سَيصيرُ ماضياً، فيَجِبُ أن يكونَ كلُّ شَرطٍ استَحالَ معه إحداثُ الفِعلِ في المستقبَلِ ، يَستَحيلُ معه(2) ذلكَ فيما مَضىٰ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا استَحالَ في المُستَقبَلِ وقوعُ الفِعلِ مِن غَيرِ قادرٍ، استَحالَ مِثلُه في الماضي، و كذلكَ [لمّا] استَحالَ أن يَتعلَّقَ وجودُ الفِعلِ (15) مستَقبَلاً بوجودِ(3) الضِّدَّينِ ، استحالَ ذلكَ ماضياً؟ فلَو جازَ 62
لأحَدٍ أن يُفرِّقَ فيما لا نِهايةَ له بينَ (4) الماضي و المستَقبَلِ ، لَجازَ لغَيرِه أن يُفرِّقَ في سائرِ ما ذَكَرناه.
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ صحّةِ استحالةِ ما ذَكَرتُموه في المُستَقبَلِ ، حتّىٰ يَصِحَّ بِناؤُكم الماضيَ عَلَيه ؟
قُلنا: لَو جازَ مِن بعضِ القادرينَ أن يَبتدئَ فيَفعَلَ ما لا نِهايةَ له، لَصَحَّ مِن كُلِّ
ص: 95
قادرٍ مِثلُ ذلكَ ؛ لأنّه لا وجهَ معقولٌ يُمكِنُ أن يُذْكَرَ في اختلافِ القادرينَ في هذا البابِ ، و هذا يوجِبُ أن يَصِحَّ مِن أحَدِنا أن يَبتدئَ فيَدخُلَ داراً بَعدَ دُخولِه ما لا نِهايةَ له مِن الدُّورِ، و يَقتَضي أن يُصدَّقَ مَن أخبَرَنا بذلكَ عن نفسِه، أو يُجوَّزَ صِدقُه، كما يُجوَّزُ تصديقُ المُخبِرِ عن كُلِّ أمرٍ جائزٍ وقوعُه. فلمّا كانَ ذلكَ مستَحيلاً مِنّا، و أخبرَ بما(1) يُقطَعُ علىٰ كَذِبِه، عَلِمنا أنّه لَم يَجُز ماضياً؛ لمساواةِ الماضي للمستَقبَلِ في هذا البابِ .
علىٰ أنّ تَعلُّقَهم في هذا المثالِ الذي ذَكَرناه أنّه مستَقبَلٌ و ما أجازَه ماضٍ ، لا يُغني شيئاً مع ما بَيّنّاه مِن تَساوي حُكمِ الماضي و المُستَقبَلِ في هذهِ القضيّةِ .
و لو أبدَلْنا(2) لفظَ المثالِ الذي أَورَدناه إلىٰ لفظِ الماضي، [حتّىٰ ] يدُلَّ بدَلالتِه إذ(3)كانَ بلفظِ الاستقبالِ ، لَعَلِمنا بأنّ القائلَ إذا قالَ : «لَم أدخُلْ هذه الدارَ إلّابَعدَ أن دَخَلتُ ما لا نِهايةَ له مِن الدُّورِ»، أو قالَ : «لَم أدخُلْ داراً إلّابَعدَ أن دَخَلتُ داراً قَبلَها»، فإنّه متىٰ دَخَلَ داراً كاذبٌ في قولهِ ، و إن شَرطَه الذي عَقَدَه في دخولِ الدارِ لَم يَقَعْ . فبانَ وضوحُ الكَلامِ مِن كُلِّ وجهٍ .
و قد استَقصَينا الكلامَ في هذا المعنىٰ ، و ذكرنا فيه وجوهاً كثيرةً و زياداتٍ يَقتَضيها الكلامُ ، في مَقالةٍ ليَحيَى بنِ عَدِيٍّ النَّصرانيِّ المَنطِقيِّ (4)، و سَمَّيناها ب
ص: 96
ص: 98
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ التصرُّفَ الذي يَظهَرُ مِنّا - كالقيامِ و القعودِ و غَيرِهما - قد ثَبَتَ حُدوثُه بما دَلَلنا به علىٰ حُدوثِ جَميعِ الأعراضِ ، فثَبَتَ تَعلُّقُ ذلكَ بنا، و حاجتُه إلينا في حُدوثِه، دونَ سائِر صفاتِه. و هذا يَقتَضي حاجةَ كُلِّ مُحدَثٍ إلىٰ
مُحدِثٍ ؛ للمشارَكةِ في علّةِ الحاجةِ .
فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ أنّ هذه الأفعالَ تَتعلَّقُ بكم بَعدَ أن تُفسِّروا معنىٰ هذا التعلُّقِ ، و أنّها مُحتاجةٌ إليكم في حُدوثِها دونَ غيرِه(1)، و أنّ ما شارَكَها في الحُدوثِ يَحتاجُ إلىٰ محدِثٍ !(2)
قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ تَصرُّفَنا يَجِبُ وقوعُه و انتفاؤه بحَسَبِ أحوالِنا، مع السَّلامةِ و ارتفاعِ المَوانعِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا متىٰ أرادَ القيامَ و دَعا الداعي إليه و كان قادراً عَلَيه و غيرَ ممنوعٍ مِنه، فلا بُدَّ مِن وقوعِ القيامِ منه. و كذلك إذا كَرِهَه و صَرَفَه الصارفُ عنه، لا بُدَّ مِن انتفائِه. و لهذا نَقطَعُ علىٰ وقوعِ الأكلِ مِن الجائعِ الذي يَحضُرُه
ص: 99
الطعامُ ، و يُمَكَّنُ مِن تَناوُلِه، فإن عَرَضَ له عارضٌ و صارفٌ - مِثلُ أن يَعتقِدَ أنّ الطعامَ مسمومٌ - لَم يَقَعِ الأكلُ . و اختَلفَ الأمرُ في وقوعِه و انتفائِه بحَسَبِ أحوالِه في كَونِه عالِماً؛ لأنّ الكتابةَ لا تَقَعُ مِن الأُمّيِّ ؛ لأنّه لا يَعلَمُها، و تَقَعُ ممّن يَعلَمُها(1) مِن نساجةٍ [و تأليفٍ (2)] و غَيرِ ذلكَ . و هذا هو التعلُّقُ الذي نُشيرُ إليه، و هو معلومٌ ضَرورةً لسائرِ العقلاءِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ التصرُّفَ مُحتاج إلينا: أنّه لَو لَم يكن بهذه الصِّفةِ ، لَم يَجِبْ له هذا التعلُّقُ الذي ذَكَرناه، كما أنّ ألوانَنا و هيئاتِنا لمّا لَم تَكُن مُحتاجةً إلينا لَم تَقَعْ بحَسَبِ أحوالِنا، و لا كانَ لنا معها هذا التعلُّقُ الذي يَحصُلُ مع تَصرُّفِنا. و كذلك أفعالُ غَيرِنا - كقيامِه و قُعودِه - لمّا لَم تَكُن مُحتاجةً إلينا (16) لَم تَتعلَّقْ بأحوالِنا. و كُلُّ هذا يَدُلُّ علىٰ ثُبوتِ حاجةِ التصرُّفِ إلينا.
فإن قيلَ : ألَيسَ قد يُريدُ الإنسانُ مِن أفعالِه ما(3) لا يَقَعُ ، فكيف ادَّعَيتُم وجوبَ ذلكَ؟
قُلنا: لَيسَ يَجوزُ أن يُريدَ ما لا يَقَعُ مع السلامةِ و ارتفاعِ الموانعِ ، و إنّما لا يَقَعُ ما يُريدُه، بأن لا يَكونَ قادراً عليه، أو بأن يَكونَ - مع كَونِه قادراً - ممنوعاً.
و قد سَقَطَ بما اشتَرطناه مِن ذِكرِ «الوجوبِ »(4) اعتراضُهم بوقوعِ (5) تَصَرُّفِ العبد بحَسَبِ إرادةِ المَولىٰ ، و تَصَرُّفِ الرَّعيّةِ بحَسَبِ إرادةِ المَلِكِ ، و وقوعِ
ص: 100
ما يُريدُه أهلُ الجَنّةِ مِنَ اللّهِ تَعالىٰ علىٰ حَسَبِ ما يُريدونَه، [و وقوعِ أفعالِ المُلجَإ بحَسَبِ إرادةِ المُلجِئ](1).
و ذلكَ : أنّ سائِرَ ما طَعَنوا به و إن حَصَلَت فيه الموافَقةُ (2) فهي(3) غَيرُ واجبةٍ . و إنّما اعتبرنا في وُقوعِ أفعالِنا(4) بحَسَبِ أحوالِنا «الوجوبَ » الذي هو غَيرُ حاصلٍ هاهنا؛
ألا تَرىٰ أنّ طاعةَ العبدِ المَولىٰ و الرَّعيةِ المَلِكَ غَيرُ واجبةٍ ، و إنّما تَحصُلُ منهم الطاعةُ بحَسَبِ اعتقادِهم فيها المَنفَعةَ و دَفعَ المَضَرّةِ ، و لهذا لَو اعتَقَدَ العبدُ أو واحدٌ مِن الرعيَّةِ أنّ طاعةَ المَولىٰ أو المَلِكِ تَضُرُّه ضَرَراً عظيماً لا يَتَلافاه لَعَصاه، و كذلكَ لَو ألزَمَه مَولاه الكتابةَ و هو أُمّيٌّ لم يُطِعْه!
فقد عادَ الأمرُ إلىٰ أنّ تَصَرُّفَهم بحَسَبِ أحوالِهم، لا بحَسَبِ أحوالِ مَن يُطيعونَه.
و يَكفي في هذا المَوضِعِ أن نَجِدَ مَن يُخالِفُ مَولاه أو مَلِكَه في فِعلٍ واحدٍ، في الفَرقِ بَينَ الأَمرَينِ ؛ لأنّ المُخالَفةَ لا يمكن(5) أن يُوجِدها(6) بإزاءِ ذلكَ من يُريدُ شيئاً مِن نَفسِه و لا يَقَعُ مع السَّلامةِ .
فأمّا وقوعُ ما يُريدُه(7) أهلُ الجَنّةِ ، فمعلومٌ أنّه غَيرُ واجبِ الوجودِ الذي أرَدناه، و إنّما يَفعَلُه(8) القديمُ بحَسَبِ ما وَعَدَهم به. وَ الذي يُبيِّنُ أنّه غَيرُ واجبٍ ، أنّهم لَو
ص: 101
أرادوا أن يُفعَلَ بهم مِنَ الثَّوابِ أكثَرَ ممّا يَستَحِقّونَه، لَم يَقَعْ . و كذلكَ لو أرادَ أحَدُهم أن يُسوّىٰ بَينَه و بَينَ النبيِّ صلّى اللّٰه عليه و آله في الثوابِ ، لَما وَقَعَ ما يُريدُه؛ فبانَ ما ذَكَرناه.
فأمّا الاعتراضُ بوقوعِ أفعالِ المُلجَإ بحَسَبِ إرادةِ المُلجئِ : فغَيرُ صحيحٍ أيضاً؛ لأنّ فِعلَ المُلجَإ لا يَقَعُ إلّابحَسَبِ أحوالِه، و إنّما الإلجاءُ إلَى الفِعلِ يُلجئُ إلىٰ إرادتِه، فالمُلجَأُ لا يَفعَلُ إلّاما أرادَه، و قَوِيَت(1) دَواعيهِ إليه.
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إذا كان المُلجَأُ تَقَعُ أفعالُه بحَسَبِ إرادتِه و إرادةِ مُلجئِه، فَلِمَ حَكَمتُم بتعلُّقِ الفِعلِ به دونَ مُلجِئِه، و جهةُ التعلُّقِ التي(2) اعتمدتُموها حاصلِةٌ فيهما معاً؟
و ذلكَ : أنّ الأمرَ و إن كانَ علىٰ ما ذَكَروه، فالاعتبارُ بأحوالِ المُلجَإ دونَ المُلجئِ ؛ لأنّه لَو كانَ المُلجَأُ(3) علىٰ هذه(4) الحالِ (5) مِن غَيرِ أن يَكونَ المُلجئُ عَلَيها، لَم يُخِلَّ ذلكَ بوقوعِ الفعلِ و وجوبِ وقوعِهِ ، و لَو كانَ المُلجئُ علىٰ هذه الحالِ و لَيسَ المُلجَأُ عَلَيها، لَما وَقَعَ الفِعلُ . فصارَ الاعتبارُ إنّما هو بحالِ المُلجَإ - التي مُخِلٌّ اختلافُها(6) لوقوعِ الفعلِ - دونَ حالِ المُلجئِ .
و يوضِحُ أيضاً ذلكَ ما ذكرناه مِن أنّه لَو أَلجَأَه و هو أُمّيٌّ إلى الكتابةِ ،
ص: 102
لَم تَقَعْ (1) مِنه؛ مِن حَيثُ لَم يكُن عالِماً بها.
فإن قيلَ : ألَيسَ قد يَقَعُ بحَسَبِ قُصودِكم ما تَقولونَ : إنّه لَيسَ هو فِعلاً لكُم؛ نَحوُ الحُمْرةِ و الخُضْرَةِ الّتي تَحصُلُ (2) عندَ الضَّربِ؟ و هذا يَقتَضي أحَدَ الأمرَينِ : إمّا
فَسادَ اعتبارِكم بما يَقَعُ عندَ القصدِ، أو أن تَكونَ الألوانُ مِنْ أفعالِكم!
قُلنا: قد تَضَمَّنَ كلامُنا شَرطَينِ :
أحَدُهما: أن يَكونَ الفِعلُ حادثاً.
و الآخَرُ: أن يَجِبَ وقوعُه بحَسَبِ قُصودِنا و أحوالِنا، كالقيامِ و [القُعودِ.
و هذانِ الشَّرطانِ لَم يَثبُتا معاً في اللَّونِ الحاصِلِ ](3) عندَ الضَّربِ ؛ لأنّه لَم يَثبُتْ حُدوثُه (17) و إنّما هو لَونُ (4) الدَّمِ المُنزَعِجِ (5) مِن مَكانِه المُجتَمِعِ إلىٰ مَكانٍ آخَرَ،(6) و لهذا يَختَلِفُ بحَسَبِ صَلابةِ المَوضِعِ و رَخاوتِه، و كَثرةِ الدَّمِ و قِلَّتِه.
و أيضاً، فلَو كانَ حادثاً لَم يَلزَمْ علىٰ ما ذَكَرناه؛ لأنّه غَيرُ واجبٍ وقوعُه بحَسَبِ قُصودِنا؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا لَو ضربَ العَينَ و ما أشبَهَها مِنَ المَواضِعِ الدَّقيقةِ ، و قَصَدَ إلىٰ أنْ لا يَحصُلَ هذا اللَّونُ ، لَما كانَ أيضاً لِقَصدِه تأثيرٌ، فعُلِمَ أنّه مُفارِقُ
ص: 103
الأفعالِ الواقعةِ بحَسَبِ قُصودِنا.
فإن قيلَ : إذا جازَ عندَكم أن يَفعَلَ القَديمُ تَعالىٰ فيكُم هذا التصرُّفَ بحَسَبِ قُصودِكم، و لَم يُمكِنْكم أن تَمتَنِعوا مِن أحوالِ كَونِه قادراً علىٰ ذلك، فأَلّا يَمنَعُكم(1)ذلكَ مِن القَطعِ علىٰ تَعلُّقِ قُدَرِ(2) التصرُّفِ بكم لهذا التَّجويزِ، و يُشَكِّكُكُم في وقوعِ ما جَزمتمُوه ؟(3)
قُلنا: كُلُّ سؤالٍ لا يَصِحُّ إلّابَعدَ صحّةِ ما يَقدَحُ به فهو باطلٌ ؛ لأنّ صحّتَه تَقتَضي صحّةَ ما اعتَرَضَ بالسؤالِ عَلَيه، و صحّةُ ذلكَ تَقتَضي بُطلانَ السؤالِ .
و تفسيرُ هذه الجُملةِ : أنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَصِحُّ إثباتُه بصِفاتِه إلّابَعدَ أن يَثبُتَ تَعلُّقُ ما يَظهَرُ مِن التصرُّفِ بنا(4)، و حُدوثُه(5) مِن جهتِه(6)؛ لِيَبتَنيَ علىٰ ذلكَ حاجةُ كُلِّ مُحدَثٍ إلىٰ مُحدِثٍ ، ثُمّ يَثبُتَ له مِن الصِّفاتِ ما تَقتَضِيه الأدلّةُ . و لا طريقَ إلىٰ إثباتِ مُحدِثٍ للأجسامِ إلّابذا دونَ غَيرِه.
ص: 104
و قد بَيَّنَ الشُّيوخُ صحّةَ هذا(1) الطريقِ في غَيرِ مَوضِعٍ ، و لَعَلَّنا أن نَشرَحَها في(2)باقي الكتابِ إن عَرَضَ ما يُحتاجُ فيه إلىٰ شَرحِها.(3)
و إذا ثَبَتَ أنّه لا طَريقَ إلىٰ إثباتِ القَديمِ تَعالىٰ بصفاتِه(4) إلّاما ذَكَرناه، فكيفَ يَصِحُّ أن يُعترضَ بما يَتضمَّنُ إثباتَ القَديمِ ، علىٰ ما لَولا ثُبوتُه و صحّتُه لَما ثَبَتَ القَديمُ تَعالىٰ ، و هو تَعلُّقُ التصرُّفِ بمَن ظَهَرَ مِنه ؟ و هذا واضحٌ .
فإن قيلَ : فهَبُوا أنّ السؤالَ فَسَدَ مِن هذا الوَجهِ إذا أُورِدَ هذا المَورِدَ، لكنْ إذا كنتم تُجَوِّزونَ قَبلَ إثباتِ القَديمِ تَعالىٰ بصفاتِه(5) أن يَكونَ مُحدِثُ العالَمِ بهذه الصِّفاتِ ؛ لأنَّ التجويزَ لا يَفتَقِرُ إلى الأدلّةِ ، و إنّما يَفتَقِرُ إليها القَطعُ ، فالسؤالُ باقٍ بحالِه؛ لأنّه يُقالُ : جَوِّزوا أن يَكونَ هذا التصرُّفُ فيكم مِن فِعلِ مَن جَوَّزتُم(6) كَونَه قادراً علىٰ أن يَفعَلَه فيكم علىٰ هذا الوَجهِ !
قُلنا: الجوابُ عن(7) ذلك - إذا أُورِدَ هذا المَورِدَ - هو أنّه قد ثَبَتَ تعلُّقُ هذا التصرُّفِ [بنا]، و وقوعُه بحَسَبِ أحوالِنا، فلَو كانَ له فاعلٌ غَيرُنا، لَم يَكُن بَينَه و بينه مِنْ تَعلُّقٍ (8) أكثَرَ مِن التعلُّقِ الذي له معنا؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُشارَ في تَعلُّقِ الفِعلِ بفاعلِه إلىٰ أوكَدَ ممّا(9) ذَكَرناه. و إذا كُنّا لَو أثبَتنا له فاعلاً لَكانَ تعلُّقُه به علىٰ هذا
ص: 105
الوجهِ ، وجبَ القَطعُ علىٰ كَونِه فِعلاً لمَن عُلِمَ تعلُّقُه به، دونَ غيرِه، و دونَ مَن جُوِّزَ ذلكَ فيه؛ لأنّه لَيسَ يُمكِنُ أن يَثبُتَ بهما؛ لاستحالةِ وقوعِ الفِعلِ من فاعِلَينِ .
قيلَ في هذا: إنّ حُكمَ الفاعلِ لا بُدَّ أن يَكونَ معقولاً قَبلَ إضافةِ الفِعلِ إلىٰ فاعلٍ مخصوصٍ ، فمَن قيلَ له: جَوِّزْ أن يَكونَ التصرُّفُ الذي يَظهَرُ منكَ فِعلَ غَيرِكَ فيكَ ، لا بُدَّ أن يَكونَ عندَه كَيفيّةُ إضافةِ الفِعلِ إلىٰ فاعلِه و أحكامُه التي بها يَكونُ فِعلاً له، و لَيسَ يَعقِلُ أحَدٌ مِن ذلكَ إذا ما عَقَلَه إلّابتصرُّفِه(1) معه.
و هذا يرجِعُ إلىٰ ما ذَكَرناه و أوضَحناه؛ أنّا قد بينّا وجوبَ وقوعِ تَصرُّفِه بحَسَبِ أحوالِه، فلَو كانَ فِعلاً لغَيرِه فَعَلَه علىٰ هذا الوجهِ فيه اختياراً لَما وَجَب ما ذَكَرناه؛ لأنّ وجوبَه مُنافٍ . و مَن أدخَلَ شُبهةً في وجوبِ ذلكَ ، و عَلَّقَه باختيارِ مُختارٍ، و كذلك سائِرُ الواجباتِ ، فهذا(2) يؤَدّي إلَى التجاهُلِ !
فإنْ قيلَ : لَو كانَ وجوبُ وقوعِ التَّصرُّفِ بحَسَبِ قُصودِكم يَقتَضي (18) كَونَه فِعلاً لكم، لَوجبَ أن يَكونَ ما لَيسَ بهذه الصفةِ لَيسَ بفِعلٍ لكم، و هذا يوجِبُ أن
يَكونَ تصرُّفُ الساهي و النائمِ فِعلاً لغَيرِهما! بل لَوجبَ أن تَكونَ (3) الإرادةُ خارجةً مِن أفعالِ العبادِ!
فَمِثلُ ما ذَكَرناهُ مِنَ الاعتبارِ إنّما هو دَلالةٌ لا حَدٌّ، و الدَّلالةُ لا يَجِبُ فيها العَكسُ (4)، و إنّما يَجِبُ ذلكَ في الحُدودِ(5). و لَيسَ نَمنَعُ إثباتَ الحُكمَينِ المُتَماثِلَينِ بدَليلَينِ مُختَلِفَينِ .
ص: 106
و وجودُ مِثلِ مدلولِ الدَّلالةِ مع فَقدِها لا يَكونُ نقصاً، و إنّما النقصُ وجودُ الدَّلالةِ مع فَقدِ مدلولِها؛ لأنّ ذلكَ هو الذي يُخرِجُها مِن كَونِها دَلالةً ؛ ألا تَرىٰ أنّا نُثبِتُ حُدوثَ الأجسامِ بدليلٍ لا يَتَأتّىٰ في حُدوثِ الأعراضِ ، و إنّما نُثبِتُ حُدوثَ الأعراضِ بدليلٍ آخَرَ، و لا يَقتَضي ذلكَ فَساداً؟ لأنّ الدلالةَ كاشِفةٌ و لَيسَت بعِلّةٍ موجِبةٍ . و لا يَمتَنِعُ أن تَكشِفَ (1) عن الأشياءِ المُتماثِلِة الأشياءُ المُختَلِفةُ .
فإن قيلَ : فما الذي يَدُلُّ علىٰ إثباتِ تَصرُّفِ الساهي و النائمِ فِعلاً لهما، و علىٰ أنّ الإرادةَ فِعلٌ لكم،(2) إذا كانَ ما ذكرتُموه مِن الطريقةِ لا تَتَأتّىٰ فيه ؟
قُلنا: هذا ممّا لا يَلزَمُ في هذا المَوضِعِ ؛ لأنّ قَصدَنا يَتِمُّ مِن دونهِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا إنّما أجرَينا في هذا الكلامِ إلىٰ إثباتِ حَوادثَ تَتعلَّقُ بِنا مِن حَيثُ كانت مُحدَثةً ؛ لِنَبنيَ علىٰ ذلكَ حاجةَ كُلِّ المُحدَثاتِ إلىٰ مُحدِثٍ؟ و هذا يَتِمُّ و إن لَم يَدُلَّ علىٰ أنّ جميعَ تَصَرُّفِنا في جميعِ الأفعالِ فِعلٌ لنا، غَيرَ أنّا نَتبرَّعُ بذِكرِه حَتّىٰ لا يَدخُلَ مِن جهتِه شُبهةٌ .
[1.] فنقولُ : فِعلُ الساهي أو النائمِ و إن لَم يَقَع بحَسَبِ قُصودِه، فمعلومٌ أنّه لَو كانَ عالِماً بالفِعلِ له و لمن يَقصِدُ إليه(3)، و هو غَيرُ ساهٍ عنه، لَوقعَ بحَسَب قَصدِه، و يُخالِفُ في هذه القضيَّةِ فِعلَ غَيرِه الذي لا يَجِبُ ذلكَ فيه.(4) و لهذا رُبَّما [يُحتَرَزُ](5)
ص: 107
مِن هذا السؤالِ [بالتصرّف] في أصلِ الاستدلالِ بأن يُقالَ : إنّ تَصَرُّفاتِنا يَجِبُ وُقوعُها(1) بحَسَبِ قُصودِنا إمّا حقيقةً أو تقديراً؛ فيُحتَرَزُ(2) بذِكرِ «التقديرِ» مِن تصرُّفِ السّاهي و مَن جَرىٰ مَجراه.
و أيضاً، فإنّ الساهيَ و إن لَم يَقَعْ (3) تصرُّفُه بحَسَبِ قَصدِه، فإنّه [يقع] بحَسَبِ حالٍ له أُخرىٰ ، و هو كونُه قادراً؛ ألا تَرىٰ أنّ القويَّ إذا نامَ كأنّه يَقَعُ منه مِنَ التصرُّفِ و الاعتمادِ علىٰ مقدارِ قوّتِه، و لا يَقَعُ ذلكَ مِن الضعيفِ و المريضِ النائِمَينِ؟ فَعُلِمَ بذلكَ أنّ التصرُّفَ مِن فِعلِه؛ لوقوعهِ بحَسَبِ أحوالِه؛ لأنّ تصرُّفَ غَيرِه لا يَجِبُ وقوعُه بحَسَبِ كَونِه هو قادراً.
فإن قيلَ : و الأصَحُّ الاستدلالُ بهذه الطريقةِ في أصلِ الاستدلالِ .
قلتُ : لا؛ لأنّه إذا لَم يَثبُتْ كَونُ أحَدِنا فاعلاً، لَم يَصِحَّ إثباتُه قادراً؛ لأنّ التوصُّلَ إلىٰ إثباتِ حالِ القادرِ إنّما هو بصحّةِ الفِعلِ ، فإذا لَم نَعلَمْ في أحَدِنا - بمِثلِ ذلكَ الاستدلالِ - صحّتَه، لا سَبيلَ إلى إثباتِه قادراً، فَضلاً عن أن نَعلَمَ وقوعَ تَصرُّفِه بحَسَبِ هذه الحالِ .(4)
و إذا عَلِمنا(5) بالطريقةِ المتقدِّمةِ أنّه فاعلٌ لِما يَقَعُ بحَسَبِ قُصودِه، و أثبتناهُ قادراً بقُدرةٍ يَجوزُ عليها، و عَلِمنا أنّ النَّومَ و السَّهوَ(6) و ما جَرىٰ مَجراهما لا يَنفي القُدَرَ، صَحَّ لنا الاستدلالُ علىٰ أنّ تصرُّفَه في حالِ نَومِه واقعٌ بحَسَبِ الحالِ التي عَلِمنا
ص: 108
حالَه في حالِ يَقَظَتِه، و أنّ النَّومَ لا يُضادُّها و لا يُخرِجُه عنها. فصَحَّ بذلكَ الاستدلالُ بهذه الطريقةِ في الثاني، دونَ الأوّلِ .
[2.] و أمّا الإرادةُ نَفسُها: فالذي يَدُلُّ علىٰ أنّها فِعلُه، أنّها تَقَعُ تابعةً لدَواعيهِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ الداعِيَ الذي يَدعو إلَى الأكلِ يَدعوه إلىٰ فِعلِ إرادةِ الأكلِ ، و الصارِفَ الذي يَصرِفُ عنه أو عن غَيرِه مِن الأفعالِ يَصرِفُه(1) عَن فِعلِ الإرادةِ ، و يَدعوه إلىٰ فِعلِ (19) الكَراهةِ؟! و هذا واضحٌ .
و إذا ثَبَتَ حاجةُ «التصرُّفِ الذي يَظهَرُ مِنّا» إلينا و تَعَلُّقُه بنا، فالذي يَدُلُّ علىٰ أنّه إنّما احتاجَ إلينا في ذلكَ (2) دونَ غَيرِه: أنّ (3) غَيرَ الحُدوثِ لَيسَ له هذا الحُكمُ الذي ذَكَرناه؛ ألا تَرىٰ أنّ العالِمَ مِنّا لمّا احتاجَ في كونِه عالِماً إلىٰ عِلمٍ ، احتاجَ إليه في الصفة التي تَتجدَّدُ له عندَ وجودِه، و هي كونُه عالِماً، دونَ سائِر صفاتِه. و السَّوادَ لمّا احتاجَ في انتفائِه إلَى البَياضِ ، احتاجَ إليه فيما يَحصُلُ عندَ وجودِه، و هو الانتفاءُ؟! فكذلكَ التصرُّفُ إذا كانَ مُحتاجاً إلينا، فيَجِبُ أن يَكونَ وجهُ حاجتِه مِن الصفةِ المُتجدِّدةِ له عندَ قُصودِنا، و هي الحُدوثُ .
فإن قيلَ : ألّاأثبتُّم حاجةَ التصرُّفِ إليه مِن حيثُ كانَ كَسباً؟
ص: 109
قُلنا: تعليقُ الحاجةِ لصفةٍ مِن صِفاتِ الفِعلِ ، يَقتَضي كَونَ تلكَ الصفةِ معقولةً للعقلِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا لمّا عَلَّقنا الحاجةَ بالحُدوثِ لَم نُحِلْ علىٰ أمرٍ مجهولٍ ، بَل علىٰ ما يَعقِلُه كُلُّ عاقلٍ ، و إنِ احتاجَ في المعرفةِ بتعلُّقِ الحاجةِ به إلىٰ ضَربٍ مِن الاستدلالِ . و لَيسَ يُعقَلُ ما يَدَّعيهِ خُصومُنا مِن مَعنَى الكَسبِ . و علىٰ مَن اعتَرَض بذلكَ أن يُعَقِّلَنا أوّلاً هذه الصفةَ ، ثُمّ يُنازِعَ في تَعلُّقِ الحاجةِ بها. و سنُشبِعُ الكلامَ في الكَسبِ ، و نوضِحُه فيما يأتي مِن الكتابِ ، بعَونِ اللّهِ و مَشيّتِه.(1)
علىٰ أنّ الكَسبَ لَو كانَ معقولاً كما يَدَّعونَ (2)، و جازَ تعلُّقُ الحاجةِ به، لَم يُنافِ ذلكَ تَعلُّقَها بالحُدوثِ ؛ لأنّ غايةَ حالِ الكَسبِ أن يَكونَ لها مع التصرُّفِ مِن العَلاقةِ مِثلُ ما ذَكَرناه مِن الحُدوثِ ؛ فالاعتراضُ بالكَسبِ في هذا المَوضِعِ [مَردودٌ] علىٰ كُلِّ حالٍ .
فإن قيلَ : إذا اعتَبَرتُم في حالِ إضافةِ التصرُّفِ إليكم ما يَتجدَّدُ له عندَ قُصودِكم، فقد يَتجدَّدُ له غَيرَ الحُدوثِ صِفاتٌ كثيرةٌ ؛ نَحوُ كَونِه خَبَراً أو أمراً أو حَسَناً و قَبيحاً و حالاًّ في المَحَلِّ و غَيرَ ذلكَ ، فألا حَكَمتم بحاجتِه إلَى الفاعلِ في كُلِّ ذلك، أو فَرَّقتُم بَينَ ما ذَكَرتُموه و بَينَ الحُدوثِ؟
قُلنا: إذا ثَبَتَت حاجتُه إلينا في الحُدوثِ ، فما يَتبَعُ الحُدوثَ - و هو كالفَرعِ عَلَيه - لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُحتاجاً إلينا فيه،(3) إلّاأنّ الحُدوثَ هو الأصلُ .
ص: 110
و نَحنُ نُثبِتُ الفِعلَ مُحتاجاً إلى مَن ظَهَرَ منه في كَونِه خَبَراً أو أمراً أو حَسَناً و قبيحاً؛ لأنّ كُلَّ ذلك ممّا يَتبَعُ الحُدوثَ ، و الحاجةُ في الحُدوثِ تَقتَضيهِ (1).
فأمّا حُلولُ الفِعلِ في المَحَلِّ (2) فلَيسَ بصفةٍ زائدةٍ ، و لَيسَ لِمَا حَلَّ المَحَلَّ مِن الأفعالِ صفةٌ زائدةٌ علَى الحُدوثِ ، و تَتعلَّقُ (3) الحاجةُ بها.
فإن قيلَ : فما الدليلُ علىٰ أنّ كُلَّ مُحدَثٍ يَحتاجُ إلى مُحدِثٍ؟ و ما تُنكِرونَ أن تَكونَ الأجسامُ و إن شارَكَت أفعالَكم في الحُدوثِ ، فإنّها تُخالِفُها في الحاجةِ إلى مُحدِثٍ ؛ لمُخالِفَتها لها في الجنسِ؟
قُلنا: إذا ثَبَتَ أنّ أفعالَنا إنّما احتاجَت إلىٰ مُحدِثٍ لِحُدوثِها، لا لكَونِها مِن جنسٍ مخصوصٍ ، و شارَكَتها الأجسامُ في علّةِ الحاجةِ ، وجبَ أن تُشارِكَها(4) في الحاجةِ ؛ لأنّ المُشارَكةَ في العلّةِ تَقتَضي المُشارَكةَ في الحُكمِ الواجبِ عنها.
و بعدُ: فإنّ أفعالَنا أجناسٌ مُختَلِفةٌ ، و هي مع اختلافِ أجناسِها تَحتاجُ إلَى المُحدِثِ ، و لَيسَ مُخالَفةُ الأجسامِ لأجناسِ أفعالِنا بأكثَرَ مِن خِلافِ بعضِها لبعضٍ ، و إذا كانَ اختلافُ أجناسِها لا يَمنَعُ مِن حاجةِ الجميعِ إلَى المُحدِثِ ، وجبَ مِثله في الأجسامِ .
فإن قيلَ : ما تُنكِرون(5) أن تَكونَ أفعالُكم إنّما احتاجَت إلَى المُحدِثِ ؛ لأنّها
ص: 111
حَدَثَت مع جَوازِ (20) أنْ لا تَحدُثَ (1)؛ لأنّ حُدوثَها لَو وجبَ لَاستَغنَت عن مُحدِثٍ ؛ و لهذا تَحتاجونَ في إثباتِ الحركةِ إلَى الدَّلالةِ علىٰ أنّ الجِسمَ تحرَّكَ مع جَوازِ أن لا يَتحرَّكَ . و هذا يوجِبُ عَلَيكم أن تَدُلّوا علىٰ أنّ الأجسامَ لَم يَجِبْ حُدُوثُها، و إلّا فكلامُكم غَيرُ مُستَمِرٍّ و لا مُنقَطِعٍ .
قُلنا: قد أُجيبَ عن هذا السؤالِ بأن قيلَ : لَيسَ نَحتاجُ في إثباتِ مُحدِثٍ لأفعالِنا إلىٰ ما نَحتاجُ إليه مِن إثباتِ الحركةِ ؛ لأنّ أفعالَنا سَبَقَ العِلمَ بِتعلُّقِها بنا النظَرُ في أنّها حدثت(2) مع جَوازِ أن لا تَحدُثَ ، فيُستَدَلُّ مِن بَعدُ [علىٰ ] أنّها متعلِّقةٌ (3) بنا. علىٰ أنّ حُدوثَها جائزٌ غَيرُ واجبٍ ؛ إذ لَو كانَ واجباً لَم يَحصُلْ هذا التعلُّقُ المخصوصُ . فإذا استَدلَلنا مِن بَعدُ [علىٰ ] أنّها تَعلَّقَت بنا مِن حَيثُ كانَت مُحدَثةً (4)، قَضَينا علىٰ كُلِّ مُحدَثٍ بالحاجةِ إلىٰ مُحدِثٍ قَبلَ النظَرِ في جَوازِ حُدوثِه أو وجوبِه(5)، و إذا عَلِمنا حاجتَه إلَى المُحدِثِ عَلِمنا أنّ حُدوثَه غَيرُ واجبٍ .
و لَيسَ هذا كسَبيلِ (6) الحركةِ ؛ لأنّا نَعلَمُ تَعلُّقَ كَونِ الجسمِ متحرِّكاً [بالحركة] ِ ،(7)كما نَعلَمُ تَعلُّقَ الفِعلِ بالواحدِ مِنّا، فلا بُدَّ مِن أن يُستَدَلَّ علىٰ جَوازِ الصفةِ ، و أنّها غَيرُ واجبةٍ ؛ لِيُعلَمَ استنادُها إلىٰ فاعلِها؛(8) ففارَقَ ذلكَ بابَ إثباتِ المُحدِثِ .
و هذا و إن كانَ صحيحاً، فيُمكِنُ أن يُقالَ فيه: ما تُنكِرونَ - بَعدَ عِلمِكم بتَعلُّقِ
ص: 112
الأفعالِ بكم و حاجتِها إليكم، و استدلالِكم بذلكَ علىٰ أنّ حُدوثَها غَيرُ واجبٍ - أن تَكونَ (1) إنّما احتاجَت إليكم لِحُدوثِها مع جَوازِ أن لا تَحدُثَ (2) لا لِمجرَّدِ حُدوثِها؟! و كيف تَدفَعونَ ذلكَ و أنتم تَقولونَ : إنّ العالِمَ مِنّا لَم يَحتَجْ إلَى العِلمِ لِمجرَّدِ كَونِه عالِماً، بل لأنّه عَلِمَ مع جَوازِ أنْ لا يَعلَمَ ، و كذلكَ تَقولونَ في القادرِ و الحَيِّ (3)؟!
و لَيسَ لكم أن تَقولوا: إنّ الفِعلَ لا يَجوزُ أن يَحتاجَ إلَى الفاعلِ في صفةٍ لا تَتجدَّدُ(4)عندَ قَصدِه، و تَقولونَ (5): إنّ الحُدوثَ هو المتجدِّدُ عندَ القَصدِ، دونَ كَونِه جائزَ(6)الحُدوثِ و ممّا يَجوزُ أن لا يَحدُثَ .
و ذلك: أنّ كُلَّ هذا يَلزَمُكم في العالِمِ و القادِرِ و مَن جَرىٰ مَجراهما.
و يُقالُ لكم: يَجِبُ أن يَحتاجَ العالِمُ مِنّا إلَى العِلمِ في الصفةِ المتجدِّدةِ عندَ وجودِ العِلمِ ، [و] هي(7) كَونُه عالِماً، دونَ كَونِه ممّن يَجوزُ أن يَعلَمَ و أن لا يَعلَمَ .
و كُلُّ هذا يوجِبُ الدَّلالةَ علىٰ أنّ الأجسامَ لا يَجِبُ وجودُها.
و نَحنُ نَدُلُّ علىٰ ذلكَ لِتَزولَ الشُّبهَةُ فيه، فنَقولُ : لَو وجبَ وجودُ الجسمِ لَم يُفصَلْ (8)
مِن سائرِ الصِّفاتِ الراجعةِ إلىٰ ذاتِه. و لَو رَجَعَ وجوبُه(9) إليها لَوجبَ أن يَكونَ مَوجوداً فيما لَم يَزَلْ ، و ذلكَ يَقتَضي قِدَمَه، و قد ثَبَتَ حُدوثُه.
ص: 113
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ وجودَه [مشروطاً]، فإن رَجَعَ إلىٰ كونِه(1) مَشرُوطاً بالتحيّزِ(2)، فإنّ (3) التحيُّزَ له شَرطٌ معقولٌ و هو الوجودُ - فحُصولُه مَوقوفٌ علىٰ شَرطٍ - و الوجودُ(4) مُحالٌ أن يُشرَطَ بالوجودِ.
علىٰ أنّ مَن قَدَرَ أن يَطعَنَ بهذه الشُّبهَةِ في إثباتِ الصانعِ فقَد أخطَأَ؛ لأنّ إثباتَه يَصِحُّ مع تَجويزِ وجوبِ وجودِ الأجسامِ ؛ لأنّها لو وجبَ وجودُها، لَكانَ لا بُدَّ مِن كَونِها في جهةٍ مِن الجهاتِ ، و قد دَلَّلنا على أنّ اختصاصَ الجَوهرِ بالجهةِ لا يَكونُ إلّا موجَباً عن الكَونِ ، فلا بُدَّ مِن إثباتِ فاعلِ الكَونِ في الجَوهرِ الّذي وَجَبَ بالتقديرِ وجودُه، و لا بُدَّ أن يَكونَ مِن غَيرِ قَبيلِ الأجسامِ . فبان أنّ ذلكَ لا يَطعَنُ في إثباتِ الصانعِ .
و مِن وجهٍ آخَرَ: و هو أنّه قد يُمكِنُ إثباتُ الصانعِ بالأعراضِ التي لا تَدخُلُ تَحتَ مقدورِنا؛ كَالألوانِ و الطُّعومِ و ما شاكَلَها. و إذا ثَبَتَ ذلكَ أمكَنَ أن يُجابَ عن الشُّبهةِ في (21) وجوبِ وجودِ الأجسامِ ممّا يُبنىٰ عَلَيه، فنَقولُ : لَو وجبَ وجودُ الأجسامِ ، لَوَجبَ (5) أن تَكونَ مماثِلةً للقَديمِ الذي قد ثَبَتَ وجودُه بما يَخرُجُ (6) عن مقدورِنا مِن الأعراضِ ، فيُجعَلُ ذلكَ طريقةً يَصِحُّ الاعتمادُ [عَلَيها]. و كلُّ هذا واضِحٌ بحَمدِ اللّٰهِ .
ص: 114
ص: 115
ص: 116
[ال] فصلُ [الأوّل] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ(1)
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا وَجَدنا في الشاهِدِ ذاتاً يتَأتّىٰ مِنها الفِعلُ ، و ذاتاً اُخرىٰ تُشارِكُها في جميعِ صفاتِها المعقولةِ - كنَحوِ كَونِها موجودةً و حَيّةً و عالِمةً - و مع ذلكَ فيَتعذَّرُ منها الفِعلُ .
و لَو لَم يَختَصَّ مَن تَأتّىٰ مِنه الفِعلُ بحالٍ أو صفةٍ لَيسَت لِمَن تَعذَّرَ عَلَيه، لَم يَكُن بالتأتّي أَولىٰ مِنَ التعذُّرِ، و لا كانَ مَن تَعذَّرَ عَلَيه بذلكَ أَولىٰ مِن غَيرِه. فثبَتَ الاختصاصُ بحالٍ لَيسَت حاصلةً لِمَن تَعذَّرَ عَلَيه الفِعلُ .
و وَجَدنا أهلَ اللُّغةِ يُسَمّون مَن كانَ علىٰ هذه الحالِ : «قادِراً». فأَثبَتنا الحالَ بالدَّلالةِ التي ذَكَرناها، و رَجَعنا في التسميةِ إلىٰ أهلِ اللُّغةِ .
و إذا ثبَتَ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قد تأتّىٰ مِنه الفِعلُ ، فيَجِبُ أن يَكونَ قادِراً؛ لأنّ مدلولَ الدَّلالةِ لا يَختَلِفُ .
فإن قيلَ : و مَن هذا الذي وَجَدتُموه في الشاهِدِ يَتعذَّرُ عَلَيه الفِعلُ ، مع مُشارَكتِه
ص: 117
في الصفاتِ التي ذَكَرتُموها؟
قلنا: قد عَلِمنا أنّ المريضَ المُدْنِفَ (1) قد يَنتَهي به الحالُ في المرضِ إلىٰ أن يَتعذَّرَ عليه تحريكُ أعضائِه، و تصريفُ يَدِه و رِجلِه، مع احتمالِ يَدِه للحركةِ ؛ بدَلالةِ أنّ غَيرَه لَو حَرَّكَها لَتحرَّكَت، فلا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ ذلكَ لِخُروجِ اليَدِ عن احتمالِ الحركةِ . و إذا ثَبَتَ تَعذُّرُ الفعلِ تَمَّ ما أرَدناه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ المريضَ إنّما لَم يَتَأتَّ مِنه تحريكُ يَدِه لِنُقصانِ قُدَرِه،(2)و إنّه يَحتاجُ في تحريكِها إلىٰ زيادةِ قُدَرٍ، فلهذا لَم يَتأتَّ مِنه التحريكُ ، دونَ خروجِه مِن كَونِه قادراً.
و ذلكَ : أنّ تحريكَ الإنسانِ لِعُضوِ نَفسِه لا يَحتاجُ فيه إلىٰ زيادةِ قُدَرٍ لا يَجري تحريكُه لأعضائِه مَجرىٰ تحريكِه لِغَيرِه.
و الذي يُبيِّنُ ذلكَ : أنّه لا يَثقُلُ عَلَيه - علَى اختلافِ أحوالِه - تحريكُ يَدِه متىٰ لَم يَكُن فيها ما يَجري مَجرَى المانعِ .
علىٰ أنّا لَو سَلَّمنا ذلكَ لَتَمَّ معه أيضاً ما نُريدُ؛ لأنّ المريضَ إذا تَعذَّرَ عَلَيه تحريكُ يَدِه لِنُقصانِ أحوالِه في كَونِه قادراً، فلا بُدَّ مِن أن تَكونَ (3) صحّةُ الفِعلِ في الأصلِ تَقتَضي(4) حالاً بها صَحَّ الفعلُ ؛ لأنّه إذا كانَت زيادةُ الفِعلِ تَقتَضي زيادةَ القُدرَ و أحوالِ القادرِ، فصحّةُ أصلِ الفِعلِ تَقتَضي هذه الحالَ لا مَحالةَ ؛ فإثباتُ المريضِ قادراً لا يَضُرُّ في هذا المَوضِعِ ؛ ألا ترىٰ أنّا و إن لَم نُثبِتْهُ قادراً بما حَلَّ يَدَه، فإنّما نُثبِتُه
ص: 118
قادراً بما يَحُلُّ قَلبَه، و إن لَم يَتأتَّ مِنه - لِكَونِه قادراً بقُدَرِ(1) قَلبِه - تحريكُ أعضائِه ؟!
و قَد يُستَدَلُّ بهذه الدَّلالةِ علىٰ وَجهٍ يُطابِقُ الكلامَ الذي ذَكَرناه، فيُقالُ : قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا يَتأتّىٰ مِنه حَملُ الخَفيفِ مِن الأجسامِ دونَ الثَّقيلِ ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ تَعذَّرَ عَلَيه لِنُقصانٍ عَلَيه فيما صَحَّحَ الفِعلَ (2) عمّا يَحتاجُ إليه حَملُ الثَّقيلِ . و إذا كانَ يَحتاجُ في زيادةِ الفِعلِ إلىٰ زيادةِ الصفةِ ، احتيجَ في الأصلِ إلىٰ حُصولِ الصفةِ .
و قد يُستَدَلُّ أيضاً علىٰ وجهٍ آخَرَ، فيُقالُ : قد نَجِدُ أحَدَنا يَتعذَّرُ عَلَيه في بعضِ الأوقاتِ بعضُ الأفعالِ ، و يَتأتّىٰ مِنه في وَقتٍ آخَرَ ذلكَ الفِعلُ بِعَينِه، فيُعلَمُ أنّه [قد حَصَلَ له] في حالِ التأتّي ما لَم يَحصُلْ له في حالِ التَعذُّرِ.
فإن قيلَ : ما يُنكِرونَ أن تَكونَ المُفارَقةُ بَينَ مَن تَأتّىٰ مِنه الفعلُ و بَينَ مَن تَعذَّرَ عَلَيه (22) إنّما هي لِطَبعٍ أو قُوّةٍ ، لا لِحالِ القادرِ التي يُثبِتونَها؟!
ص: 119
قُلنا: الفِعلُ إذا صَحَّ مِن الجُملةِ دونَ آحادِها، فلا بُدَّ له مِن مُصَحِّحٍ يَرجِعُ إلىٰ مَن تَأتّىٰ مِنه الفِعلُ ، و هي الجُملةُ دونَ آحادِها؛ فإنّ الطَّبعَ و القُوّةَ التي تَذكُرونَهما لا تَخلو مِن أحَدِ الامرَينِ :
إمّا أن يَكونَ معنىٰ حُكمِه مقصوراً علىٰ مَحَلِّه لا يَتعَدّاهُ إلَى الجُملةِ ، و [إمّا أن] تَكونَ (1) المُشارَكةُ [مِن الآحادِ](2) للجُملةِ ، حَتّىٰ يَرجِعَ حُكمُه إلَى الجُملةِ ، و يوجِبَ لها حالاً.
فإن كان الأوّل، فهو(3) باطِلٌ بما ذَكَرناه مِن اعتبارِ مَن تَأتّىٰ مِنه الفِعلُ ؛ فإنّه إذا كانَ الجُملةَ دونَ أجزائِها، وجبَ أن يَكونَ المُصَحِّحُ راجعاً إليها.
و إن كان الثاني، فهو خِلافٌ في عبارةٍ ، و المعنى الذي أرَدناه قد صَحَّ ، و العبارةُ لا مُضايَقةَ فيها.(4)
فإن قيلَ : ألَيسَ كَونُ القديمِ قادراً يَقتَضي وجودَه، و مِثلُ المَقضيّ بحالٍ أن يَحصُلَ و لا يَكونَ مَقضيّاً؟ فيَجِبُ علىٰ هذا أن يكون كَونُ أحَدِنا قادراً يَقتَضي أيضاً وجودَه، و هذا يوجِبُ أن يَكونَ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ - و هو كَونُه قادراً - يَقتَضي أن يَرجِعَ إلَى الآحادِ، و هو الوجودُ.
قُلنا: إنّما مَنَعنا أن تَقتَضيَ الصفةُ الراجِعةُ إلَى الجُملةِ ما يَرجِعُ إلَى الأبعاضِ - فيما يَقتَضي - اقتضاءَ التأثيرِ لا اقتضاءَ الدَّلالةِ . و كَونُ القادرِ قادراً إنّما يَقتَضي
ص: 120
وجودَه اقتضاءَ الدَّلالةِ له، لا اقتضاءَ التأثيرِ. و الفِعلُ إذا صَحَّ مِن الجُملةِ ، فلا بُدَّ مِن مؤَثِّرٍ في صحّتِه يَرجِعُ إلَى الجُملةِ .
فإن قيلَ : إذا كان تَأتّي الفِعلِ يَدُلُّ علىٰ أنّ فاعلَه قادرٌ(1) علَى اختصاصِه بالحالِ التي ذَكَرتُموها، فقولوا: إنّ تَعذُّرَه يَدُلُّ علىٰ نَفيِ ذلكَ .
قُلنا: لَيسَ يَجِبُ في الأدلّةِ العَكسُ ، فلَيسَ يَجِبُ إذا دَلَّ الشيءُ علىٰ حُكمٍ مِن الأحكامِ ، أن يَدُلَّ عَكسُه على عَكسِ ذلكَ الحُكمِ .
علىٰ أنّا نَقولُ : إنّ تَعذُّرَ الفِعلِ بشَرطِ ارتفاعِ المَوانعِ يدُلُّ علىٰ أنّ مَن تَعذَّرَ عَلَيه لَيسَ بقادرٍ.
فإن قيلَ : و كيف الطريقُ إلىٰ أن تَعلَموا ذلكَ مِن حالِه ؟
قُلنا: بأن نَعلَمَ قُوّةَ دواعي أحَدِنا إلَى الفِعلِ و وفورَها، و ارتفاعَ الموانِعِ المعقولةِ ، فنَحكُمَ بالتعذُّرِ، ثُمّ نَنظُرَ إن كان المتعذِّرُ هو جنسَ الفعلِ و مُجرَّدَ وجودِه، حَكَمنا بنَفيِ كَونِه قادراً.
و إن كانَ المتعذِّرُ وقوعَه علىٰ بعضِ الوجوهِ ، حَكَمنا بارتفاعِ ما به يَقَعُ علىٰ ذلكَ الوجهِ ؛ مِن علمٍ أو غَيرِه، و إن كانَ قادراً.(2)
فإن قيل: فألّا شَرَطتُم في صحّةِ الفِعلِ و وقوعِه و دَلالتِه على كونِه قادراً ما اشتَرَطتُموه في تَعذُّرِه مِن ارتِفاعِ المَوانعِ؟
ص: 121
قُلنا: اشتراطُ ذلك فيما ذَكَرتُموه لا معنىٰ له؛ لأنّ وقوعَ الفِعل يَنفي حُصولَ مانِعٍ منه، و لَيسَ كذلك تَعذُّرُه؛ لأنّه قد يَتعذَّرُ لمانِعٍ مع كونِ (1) القادرِ قادراً. و رُبَّما(2)يَتعذَّرُ لغَيرِ مانعٍ ، فيَدُلُّ علَى انتفاءِ حالِ القادرِ. و المَوضِعانِ مختَلِفانِ ، علىٰ ما تَرىٰ .
فإن قيلَ : كيفَ تُثبِتونَ الممنوعَ قادراً، و مُفارَقةُ مَن صَحَّ الفِعلُ [مِنه] له(3)كمُفارَقتِه لغَيرِه ممّن تَنفونَ (4) كَونَه قادراً؟
قُلنا: قد عَلِمنا أنّ الممنوعَ إذا ارتَفَعَ المَنعُ ، فَعَلَ و هو علىٰ ما كانَ عَلَيه مِن غَيرِ تَجدُّدِ حالٍ أُخرىٰ . و مَن لَيسَ بقادرٍ لا يَقَعُ مِنه الفِعلُ مع ارتفاعِ المَوانعِ إلّابتَجدُّدِ حالٍ أُخرىٰ . فبانَ الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ .
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن تكونَ الحالُ (5) إنّما تَثبُتُ [لمَن(6)] تَعذَّرَ عَلَيه الفِعلُ ، و يَصِحُّ الفِعلُ ممَّن لَم يَكُن عَلَيها(7)، بالعَكسِ ممّا(8) تَقولونَه؛ لأنّكم تَزعُمونَ أنّ صحّةَ الفِعلِ تَرجِعُ إلىٰ إثباتِ حالٍ (9)، و تَعذُّرَه يَرجِعُ إلىٰ نَفيِها، و تَزعُمونَ (10)
ص: 122
أنّه لا حالَ (23) للعاجزِ بكَونِه عاجزاً؟!(1)
قُلنا: لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما سُئلنا عنه، لَكانَ المعدومُ مِنَ الجَواهرِ لا يَخلو: مِن أن يَكونَ علىٰ هذه الحالِ ،(2) أو أن لا يَكونَ عَلَيها.
فإن لَم يَكُن عَلَيها، وجبَ أن يَصِحَّ الفِعلُ مِنه؛ لأنّ صحّتَه علىٰ هذا الفَرضِ
يَقدَحُ نَفيَ هذه(3) الحالِ .(4)
و إن كانَ عَلَيها، فلا بُدَّ(5) مِن رُجوعِها إلىٰ ذاتِه؛ لاستحالةِ أن يَرجِعَ فيه إلىٰ معنىً لا يوجِبُ لغَيرِه صفةً إلّابأن يَختَصَّ به نِهايةَ الاختصاصِ ، فلا يَصِحُّ أن يَختَصَّ المعنىٰ بالجَوهرِ إلّابأن يَحُلَّه، و الجَوهرُ المعدومُ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مَحَلاًّ لغَيرِه. و لا يَجوزُ أيضاً أن تَرجِعَ الصفةُ فيه إلَى الفاعِلِ ؛ لأنّها غَيرُ متجدِّدةٍ في رُجوعِها إلىٰ ذاتِه، [و] ما يَقتَضي أن تَكونَ (6) [مِن] قَبيل الجَواهر، لا يَصِحُّ مِنها الفِعلُ و إن دَخَلَت في الوجودِ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .(7)
ص: 123
علىٰ [أنّ ] النَّفيَ (1) و ما يَجري مَجراه، لا يَرجِعُ إلى الجُملةِ ، و صحّةُ الفِعلِ تَرجِعُ (2) إليها، فيَجِبُ أن يَكونَ المُقتَضي لصحّةِ الفِعلِ ما يَرجِعُ إلىٰ مَن صَحّ مِنه، و هو الجُملةُ .
و بَعدُ، فإنّ النَّفيَ لا تَختَصُّ به ذاتٌ دونَ غَيرِها، و هذا يوجِبُ صِحّةَ الفعلِ الواحدِ مِن فاعلينَ كَثيرينَ ، و ذلكَ مُحالٌ .
فإنْ قيلَ : خَبِّرونا عن الفِعلِ ، كَيفَ يَدُلُّ علىٰ أنّ مَن صَحَّ مِنه قادرٌ؟ و في أيِّ الأحوالِ يَقتَضي كَونَه قادراً؟
قُلنا: الفِعلُ إذا كانَ مُبتَدأً، فإنّما يَدُلُّ علىٰ أنّ فاعلَه قادِرٌ قُبَيلَه بحالٍ واحدةٍ . و علىٰ ذلكَ يدُلُّ ما وَقَعَ مِنَ القَديمِ تَعالىٰ مِنَ الأفعالِ ؛ لأنّ مدلولَ الأدلّةِ لا يَختَلِفُ ، و إنّما يُعلَمُ أنّه تَعالىٰ قادرٌ فيما لم يَزَلْ و لا يَزالُ بدَليلٍ آخَرَ، كما يُعلَمُ أنّه - جَلَّ و عَزَّ - يَقدِرُ علىٰ جَميعِ الأجناسِ و مِن كُلِّ جنسٍ علىٰ ما لا يَتناهىٰ بأدلّةٍ أُخَرَ. و سيَجيءُ الكلامُ في ذلك مفصَّلاً بعَونِ اللّٰهِ تَعالىٰ ؛(3) لأنّه مَبنيٌّ علَى استحقاقِه تَعالىٰ هذه الصفاتِ لنَفسِه.
فإن قيلَ : فهل يَدُلُّ حُدوثُ الفِعلِ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِ فاعلِه قادراً؟
قُلنا: الذي يَقولُه أبو هاشِمٍ في ذلكَ أنّ الفِعلَ يَدُلُّ علىٰ كَونِ فاعلِه قادراً و حَيّاً
ص: 124
و موجوداً، و رُبَّما مضىٰ في كلامِه ما يَقتَضي خِلافَ هذا.
فالصحيحُ أنّ مجرَّدَ حُدوثِ الفِعلِ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَون فاعلِه قادراً، و إنّما يُعلَمُ كَونُه حَيّاً و موجوداً [بدَلائل أُخرى غيرِ حُدوثِ الفِعلِ ](1).
و الذي يَدُلُّ على ما ذَكَرناه، أنّ الفِعلَ إنّما يَدُلُّ على الصفةِ التي لِكونِ الفاعلِ عَلَيها صَحَّ مِنه الفِعلُ ؛ لأنّه لا تَعلُّقَ له إلّابهذه الصفةِ . و ما صَحَّحَ الفِعلَ هو كَونُ
القادرِ قادراً دونَ غيرِه، و لَو جازَ أن يُدَّعىٰ دَلالةُ الفِعلِ علىٰ كَونِه موجوداً و حَيّاً - مع أنّه لا تَعلُّقَ له بهاتَينِ الصفتَينِ - لَجازَ أن يُدَّعىٰ دَلالتُه علىٰ صِفاتٍ كثيرةٍ و إن لَم يَكُن بَينَه و بَينَها تَعلُّقٌ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَدَّعيَ أنّ صحّةَ الفِعلِ يؤثِّرُ فيها كَونُه موجوداً و حَيّاً؛ لأنّه لَو كانَ لِهاتَينِ الصفتَينِ تأثيرٌ في صحّةِ الفِعلِ مجتَمِعَةً مفتَرِقةً ، لَوجبَ أن يَصِحَّ الفِعلُ ممّن حَصَلَت له الصفتانِ و إحداهما إذا ارتَفَعَتِ المَوانِعُ كما يَجِبُ صحّةُ الفِعلِ ممّن كانَ قادراً، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
و يَدُلُّ علىٰ أنّ مجرَّدَ الفِعلِ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِ فاعلِه قادراً: أنّ النظَرَ إذا وَقَعَ في دليلٍ واحدٍ مِن وَجهٍ واحدٍ و إن كَثُرَ(2)، لا يُوَلِّدُ عُلوماً مختَلِفةً ؛ ألَاتَرىٰ أنّ النظَرَ في إحكامِ الفِعلِ و اتِّساقِه مِن وَجهٍ واحدٍ و إن كَثُرَ، لا يُوَلِّدُ عُلوماً مختَلِفةً ؛ مِن
ص: 125
حَيثُ كانَت الدَّلالةُ واحدةً و [مِن] وجهٍ واحدٍ(1). أنتَجت(2) علىٰ هذا أن يَكونَ النظَرُ إلىٰ مجرَّدِ الفِعلِ لا يُؤَدّي إلىٰ كَونِ فاعلِه قادراً و حَيّاً و موجوداً؛ لأنّ العُلومَ بهذه الصفاتِ مختَلِفةٌ .
ص: 126
[الفصلُ الثاني] [في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ](1)
[الذي يدلُّ علىٰ ذلك: أنّا وَجدنا في الشاهدِ ذاتَينِ يَصحُّ من إحداهُما الفعلُ المُحكمُ ، و يَتعذّرُ علىٰ الأُخرىٰ مع مشاركتِها لها في جميعِ صفاتِها مِن كونِها موجودةً حيّةً قادرةً . فلا بدّ مِن أن تختصَّ الذاتُ التي يصحُّ منها الإحكامُ بصفةٍ ليست حاصلةً للأُخرىٰ .
و إذا ثبتَ أنّه لابدّ من صفةٍ ، و وجدنا أهلَ اللغةِ يُسمُّونَ مَن كانَ علىٰ هذهِ الصفةِ «عالِماً»، فقد أثبتنا الصفةَ عقلاً، و رجعنا في التسميةِ إلىٰ أهلِ اللغةِ .](2)
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ علىٰ ما ذَكَرناه بالنظر(3) في مُحكَمٍ مِن الفِعلِ ، و أنّه
ص: 127
يُستَدَلُّ به علىٰ أنّ فاعلَه قادرٌ و عالِمٌ في الخَبَرِ (24)، و الاستدلالِ (1) علىٰ أنّ فاعِلَه قادرٌ و مريدٌ.
لأنّ الفِعلَ المُحكَمَ لَم يَدُلَّ على الصفتَينِ مِن وَجهٍ واحدٍ، بل مِن وَجهَينِ ؛ ألَا تَرىٰ أنّه دَلَّ بمجرَّدِ وقوعِه علىٰ أنّه قادرٌ، و يَكونُ خَبَراً علىٰ أنّه مريدٌ؟ و قد احتَرَزنا عن هذا السؤالِ في كلامِنا بقَولِنا: «و مِن وجهٍ واحدٍ».
و قد تَعلَّقَ أبو هاشِمٍ في نُصرةِ قَولِه الذي حَكَيناهُ (2) بأشياءَ (3):
مِنها: أنّ الفِعلَ كما لا يَصِحُّ إلّامِن قادرٍ، كذلكَ لا يَصِحُّ إلّامِن حَيٍّ موجودٍ، فيَجِبُ أن يدُلَّ علَى الكُلِّ .
[و] مِنها: أنّه لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ أحَدٌ بالذاتِ قادرةً (4)، و هو لا يَعلَمُ صحّةَ كَونِها قادرةً ، و لا يَجوزُ أن يَعلَمَ صحّةَ كَونِها قادرةً و هو لا يَجِدُ(5) أنّها حَيّةٌ ؛ لأنّ العِلمَ بأنّ الحَيَّ حَيٌّ هو العِلمُ بأنّه يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ .
و مِنها: أنّه كما لا يَجوزُ أن يُعلَمَ صحّةُ كَونِها - بكونِ الذاتِ قادرةً - غَيرَ موجودةٍ
و لا حَيّةٍ ، كذلكَ لا يَجوزُ أن تُعلَمَ (6) قادرةً مِن غَيرِ أن تُعلَمَ حَيّةً موجودةً .
ص: 128
و الجَوابُ عن أوّلِ ما تَعلَّقَ به: أنّ المُعتَبَرَ فيما يَدُلُّ الفِعلُ عليه هو ما يُصَحِّحُ (1)الفِعلَ ، و لَولا حُصولُه لَما صَحَّ . و لا اعتبارَ بما صَحَّحَ ما صَحَّحَ الفِعلَ ؛ ألا تَرىٰ أنّه كما أنّ القادرَ لَولا كَونُه حَيّاً موجوداً لَما صَحَّ كونُه قادراً، و كذلكَ لَولا وجودُ القُدرةِ - التي لَولا حُصولُها(2) - لما كانَ قادراً؟! و الفِعلُ مع ذلكَ لا يَدُلُّ علىٰ جميعِ ما ذَكَرناه و إن كانَ له(3) حظٌّ(4) في تَصحيحِ ما صَحَّحَه. و كذلك دليلُ حُدوثِ الجسمِ لا يَدُلُّ علىٰ أنّ له مُحدِثاً،(5) و إن كانَ لَولا مُحدِثُه لَما حَدَثَ . فقَد بانَ أنّ الذي تَعلَّقَ به غَيرُ لازمٍ ، و أنّ الفِعلَ إنّما يَجِبُ أن يَدُلَّ علىٰ ما صَحَّحَه بغَيرِ واسطةٍ ، و لا حَظَّ له في الدَّلالةِ علىٰ ما سِوىٰ ذلكَ .
و يُقالُ له فيما تَعَلَّقَ به ثانياً: إنّ العِلمَ بأنّه حَيٌّ لَيسَ مُتعلَّقُه أنّه يَصِحُّ [كَونُه قادراً عالِماً]، و إنّما هو عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ تُصحِّحُ (6) كَونَه قادراً عالِماً. كما أنّ العِلمَ بأنّه عالِمٌ (7) لَيسَ هو عِلماً بصحَّةِ الفِعلِ [المُحكَمِ ]، و إنّما هو عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ يَصِحُّ معها [الفِعلُ ] المُحكم؛ و ذلكَ أنّ الجاهلَ إنّما لَم يَتأتَّ مِنه الفِعلُ المُحكَمُ ؛ لأنّه لَيسَ بعالِمٍ ، و إن كانَ في كَونِه غَيرَ عالِمٍ يُصاحِبُ كَونَه جاهِلاً؛ ألا تَرىٰ أنّه قد يَتعذَّرُ عَلَيه [الفِعلُ المُحكَمُ ] مع انتفاءِ العِلمِ و الجَهلِ جميعاً؟!
ص: 129
فإن قيلَ : فبأيِّ طريقٍ يُعلَمُ في الغَيرِ أنّه جاهلٌ؟
قلنا: بأن يُضطَرَّ إلَى اعتقادٍ به يُعلَمُ بُطلانُه، و هذا مِثلُ عِلمِنا باعتقادِ المُجبِرَةِ و المُشَبِّهةِ لِمَناهيها إصراراً،(1) و عَلِمنا بالدليلِ بُطلانَ ذلكَ الاعتقادِ.
فإن قيلَ : ألّاجَوَّزتُم أن يَقومَ الاعتقادُ أو الظَّنُّ مَقامَ العِلمِ (2) في صحّةِ وقوعِ الفِعلِ مُحكَماً(3)، فإذا كانَ تَعذُّرُ(4) الفِعلِ (5) علىٰ بعضِ القادرينَ دونَ بعضٍ يَدُلُّ علىٰ مُفارَقةٍ (6)، فألَّا(7) جازَ أن تَكونَ هذه المفارَقةُ هي الاعتقادَ و الظَّنَّ (8)؟
قُلنا: الاعتقادُ الذي لَيسَ بعِلمٍ و الظَّنُّ ، لا يَقتَضيانِ السُّكونَ (9) الذي معه يَقَعُ
ص: 130
التصرُّفُ في إحكامِ الفعلِ و اتّساقِهِ ، فإذا كانَ الفِعلُ هو المُقتَضيَ لذلكَ دونَ غَيرِه، وجبَ أن يَنوبَ غَيرُه مَنابَه.
يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ مَن جُنَّ أو سَكِرَ بَعدَ أن كانَ عالِماً بتَرتيبِ المَذاهِبِ أو
ببعضِ الصَّنائعِ ، لا يَجوزُ أن يَقَعَ مِنه بَعدَ سُكرِه أو جُنونِه(1)، مِن تَرتيبِ المَذاهِبِ و الصَّنعةِ ، ما كانَ يَقَعُ قَبلَ ذلك. و السُّكرُ و الجُنونُ لا يَنفيانِ الاعتقادَ، و إنّما يَنفيانِ العِلمَ .
و أيضاً: مَن(2) ظَنَّ حُروفَ الكتابةِ علَى التفصيلِ ، و لَم يَفعلها، يتَفاوَت حالُه في الكتابةِ ، و كذلكَ إذا كانَ [عار] فاً(3) بالجُملةِ الكتابةَ .
و يُبيِّنُ أيضاً صحّةَ ما ذَكَرناه: أنّ المُمارِسَ (4) الصانعَ لا يَصِحُّ مِنه في أوّلِ وَهلةٍ و بأدنىٰ مُمارَسةٍ ما يَصِحُّ مِنه بَعدَ ذلك. و لَيسَ (25) يَمتَنِعُ أن يَحصُلَ الظَّنُّ بأدنىٰ مُمارَسةٍ ، و إنّما العِلمُ هو الذي يَمتَنِعُ في تلكَ الحالِ .
و أيضاً: فإنّ الفِعلَ المُحكَمَ يَدُلُّ علَى اختصاصِ فاعلِه بصفةٍ ، يَجِبُ إذا حَصَلَ الواحدُ مِنّا عَلَيها أن تَستَمِرَّ(5) مع كمالِ عقلِه، حَتّى إذا زالَت أخَلَّ ذلكَ بكمالِ عقلِه.
و لهذا لا يَجوزُ في أحَدِنا أن تَتأتّىٰ (6) مِنه الكتابةُ بُرهةً مِن الزمانِ ، ثُمّ تَتعذَّرَ مع وُفورِ قُدَرِه و كَونِه مَحَلاًّ كامِلَ العقلِ . و قد ثَبَتَ أنّ استمرارَ الاعتقادِ أو الظَّنِّ لا يَجِبُ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ كمالِ العقلِ ؛ لأنّ الاعتقادَ إن كان واقفاً علىٰ شُبهةٍ ، فإنّ الانتقالَ عنه
ص: 131
يَجوزُ مع كمالِ العقلِ . و كذلكَ إن كانَ تقليداً أو تبخيتاً. و لا شُبهةَ أيضاً في أنّ الانتقالَ علَى الظَّنِّ به مع كَمالِ العقلِ سائِغٌ . و إذا ثَبَتَ هذا وجبَ استمرارُ ما له صَحَّ الفِعلُ المُحكَمُ ، و كانَت هذه القضيّةُ لا تَصِحُّ إلّافي العِلمِ دونَ الاعتقادِ؛ لصحّةِ استمرارِ أحَدِنا عالماً بأشياءَ كثيرةٍ مع كمالِ عقلِه، فصَحَّ ما ذَكَرناه.
و إذا ثَبَتَت(1) هذه الجُملَةُ التي ذَكَرناها في دَلالةِ الفِعلِ الذي أوضَحناه علىٰ كَونِ فاعلِه عالِماً، و وَقَعَ مِنَ القَديمِ تَعالىٰ مِنَ الأفعالِ ما يَزيدُ(2) في الإحكامِ علىٰ كُلِّ ما يَظهَرُ مِنّا - كالإنسانِ ، و ما فيه مِن بَدائِعِ الحِكمةِ ، و غَيرِه -، وجبَ أن يَكونَ عالِماً؛ لأنَّ مدلولَ الدَّلالةِ لا يَختَلِفُ .
فإن قيلَ : إن كانَ ما يَظهَرُ فيه الحِكمةُ هو التأليفُ و الترتيبُ دونَ مجرَّدِ الذواتِ ، فما أَنكَرتُم أن يَكونَ فاعلُ هذه التأليفاتِ غَيرَ اللّٰهِ تَعالىٰ ، فلا يَدُلَّ خَلقُ الإنسانِ و ما جَرىٰ مجراه علىٰ كَونِه عالِماً؟
قُلنا: هذا السؤالُ سَقَطَ باعتبارِ أوّلِ حَيٍّ مخلوقٍ ؛ لأنّه لا يُمكِنُ أنْ يُدَّعىٰ
في تأليفِه و تركيبِه ما ذُكِرَ مِن كَونِه فِعلاً لغَيرِ اللّٰهِ تَعالىٰ ؛ لأنّا فَرَضنا كَونَه أوّلَ الأحياءِ ، و إذا كانَ تأليفُ أوّلِ حَيٍّ كتأليفِ جَميعِ الأحياءِ في دَلالتِه علىٰ عِلمِ فاعلِه، ثَبَتَ ما أرَدناه.
ص: 132
و أيضاً:(1) فإنّ التأليفَ لا يَقَعُ مِن غَيرِ القَديمِ تَعالىٰ إلّابآلاتٍ مخصوصةٍ ؛ مِن حَيثُ كانَ القادرُ يَقدِرُ علىٰ بَعضِه(2) لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ ذلكَ إلّاعلىٰ هذا الوجهِ (3).
و هذه الآلاتُ لا تَحصُلُ علَى الوجوهِ المخصوصةِ و التركيبِ حتّىٰ يَصِحَّ استعمالُها فيما ذَكَرناه، إلّامِن فِعلِ عالِمٍ حَكيمٍ ؛ لأنَّ ظُهورَ الحِكمةِ فيها كَظُهورِها(4) فيما يُستَعمَلُ فيها.
و إن كانَ فاعِلُها(5) علىٰ هذا الوَجهِ (6) أحَدَ القادِرينَ مِنّا، كانَ الكلامُ في هذه الآلاتِ كالكلامِ فيما تَقدَّمَها(7)، و اتَّصَلَ ذلكَ [إلىٰ ] ما لا نِهايةَ ؛ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ الفاعلُ لها القَديمَ الذي لا يَقدِرُ بقُدرةٍ (8). و هذا يَدُلُّ أيضاً على أنّهُ عالِمٌ .
ص: 133
و يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أيضاً - [أي] علىٰ أنّه عالِمٌ -: أنّه لَو لَم يَكُن عالِماً، لَما صَحَّ أن يَخلُقَ القَدْرَ مِن الأجزاءِ التي يُحتاجُ (1) إليها في بِنْيَة الحَيِّ ، و لا القَدْرَ المُحتاجَ إليه مِن الحَياةِ و الرُّطوبةِ و اليُبوسةِ ، و خَلقُ الأجزاءِ المُحتاجِ إليها(2) مِن الحَياةِ و الرُّطوبةِ يَدُلُّ على أنّه عالِمٌ .(3)
و يدُلُّ أيضاً: خَلقُ الثِّمارِ المخصوصةِ (4)، و خَلقُ الأشياءِ المخصوصةِ ، و في أوانٍ مخصوصٍ . و يَجري ذلكَ المَجرىٰ مؤذِّنٌ رَأَيناه يؤَذِّنُ في كُلِّ صَلاةٍ علَى التحديدِ، في أنّه لا بُدَّ أن يَكونَ عالِماً بأوقاتِ الصلاةِ ، [و] لَولا ذلكَ لاختَلَفَ (5) وقتُ أذانِه، و [لَم] يَجرِ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ .
و يَدُلُّ عَلَيه خَلقُه تَعالىٰ في الناسِ شَهَواتٍ [و] غَيرَها، و استمرارُ ذلكَ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ غَيرِ مختَلِفةٍ ، و مِثلُ هذا لا يَقَعُ إلّامِن عالِمٍ ؛ لأنّه جارٍ مَجرىٰ مَن أعلَمَ (6) مِنّا علىٰ بَعضِ أجناسِ النباتِ بسَوادٍ، و علىٰ جنسٍ آخَرَ ببَياضٍ ، و استمرَّ ذلكَ مِنه علىٰ طريقةٍ واحدةٍ ، في أنّه لا بُدَّ مِن أن يَكونَ عالِماً حتّىٰ
ص: 134
لا يَختَلِفَ وقوعُ العَلامةِ (26) فيه.
فإن قيلَ : ففي أيِّ حالٍ يَدُلُّ الفِعلُ علىٰ أنّ فاعلَه عالِمٌ؟
قُلنا: يَدُلُّ علىٰ أنّه عالِمٌ به في حالِ فِعلِه و قَبلَه بحالةٍ واحدةٍ إن(1) كانَ مُبتَدَأً، و إن كان مُسبَّباً قُبَيلَ إيجادِ سببِه.
و إنّما قُلنا: إنّه يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً به قَبلَ وجودِه؛ لأنّه لَو لَم يكُن كذلكَ ، لَما صَحَّ مِنه القَصدُ إلىٰ إيجادِ المُحكَمِ ، و التعَمُّدُ له دونَ غَيرِه.
و إنّما قُلنا: إنّه يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً في الحالِ ؛ لأنّه لَو لَم يَكُن كذلكَ ، لَم يَقَعِ الفِعلُ المُحكَمُ في تلك الحالِ ، مع صحّةِ وقوعِه غَيرَ مُحكَمٍ . و إذا وَقَعَ علىٰ وَجهٍ مع جَوازِ وقوعِه علىٰ غَيرِه، فلا بُدَّ(2) مِن مُقتَضٍ لذلكَ حاصلٍ في الحالِ . فهذا ما تَقتَضيهِ (3) دَلالَةُ الفِعلِ المُحكَمِ .
و أمّا ما به يَثبُتُ كَونُه تَعالىٰ عالِماً فيما لَم يَزَلْ و لا يَزالُ ، و عالِماً بسائرِ المعلوماتِ ، قادراً(4) [فَسَنذكُرُها] فيما بَعدُ.(5)
ص: 135
ص: 136
[ال] فصل [الثالث] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ (1)
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا وَجَدنا في الشاهدِ ذاتَينِ يَصِحُّ مِن إحداهُما أن تَكونَ عالِمةً قادرةً ، و مُستَحيلٌ علَى الأُخرىٰ ذلكَ ؛ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ مَن صَحَّتِ الصفاتُ عَلَيه مُفارِقاً لِمَن استحالَت فيه بصفةٍ مِن الصفاتِ ، علىٰ ما ذَكَرناهُ في بابِ القادرِ و العالِمِ .(2) و إذا كانَ لا بُدَّ مِن صفةٍ ، [و] وَجَدنا أهلَ اللُّغَةِ يُسَمّونَ مَن كانَ على هذه الصفةِ «حَيّاً»، ثَبَتَ ما قَصَدناه مِنَ المعنىٰ و اللفظِ جميعاً.
فإن قيلَ : أشيروا إلىٰ هاتَينِ الذاتَينِ اللتَينِ أشَرتُم أنّ إحداهُما يَصِحُّ (3) أن تكونَ قادرةً عالِمةً ، و الأُخرىٰ يَستَحيلُ ذلكَ عليها.
قُلنا: قد عَلِمنا أنّ الجَماداتِ و ما جَرىٰ مَجراها لا يَجوزُ أن تَكونَ (4) - و هِي علىٰ ما هِي(5) عليه - قادرةً و لا عالِمةً . و مِن كمالِ العقلِ العِلمُ بما ذَكَرناه، و بالتفرقةِ بَينَ مَن يَصِحُّ ذلكَ عَلَيه و بَينَ ما لا يَصِحُّ . و الواحِدُ منّا يَصِحُّ أن يَعلَمَ
ص: 137
ما لَيسَ هو الآنَ عالِماً به، و يَقدِرَ علىٰ ما لَيسَ هو الآنَ قادراً عَلَيه. فثَبَتَت المُفارَقةُ التي ذَكَرناها.
83
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فلَعلَّ المُفارَقةَ بَينَكم و بَينَ الجَمادِ هي راجِعةٌ إلىٰ حُصولِ هاتَينِ الصفتَينِ (1)؛ [فالجَمادُ]: «لَيسَ بقادرٍ و لا عالِمٍ » و الواحدُ مِنكم قادرٌ و عالِمٌ !
و ذلكَ : أنّه لَو كانَ الأمرُ علىٰ هذا، و كانَت المُفارَقةُ هي بحُصولِ الصفتَينِ ، لَما كانَ بَينَنا و بَينَ الجَمادِ فَرقٌ في صحّتِهما. كما أنّ القادرَ و العالِمَ مِنّا لا يُفارِقُ مَن لَيسَ بقادرٍ مِنّا و لا عالِمٍ ، إلّابحُصولِ الصِّفتَينِ دونَ صحّتِهما. و قد عَلِمنا في الجَمادِ خِلافَ ذَلك، و أنّه مُفارِقٌ لنا في الصحّةِ ، و لَولا أنّه كذلكَ لَجَرىٰ مَجرىٰ مُفارَقةِ مَن لَيسَ بعالِمٍ منّا للعالِمِ .
علىٰ أنّ أحَدَنا قد يَخرُجُ مِن(2) كَونِه قادراً و عالِماً، و لا يَخرُجُ مِن صحّةِ كَونِه مُدرِكاً(3)، و أنّه كالشيءِ الواحدِ. و كذلكَ قد يَفقِدُ العِلمَ و القُدرةَ مِن بعضِه، و لا(4) يَخرُجُ مِن صحّةِ الإدراكِ . و كُلُّ هذا يَقتَضي أنّه لَم يَكُن كالشيءِ الواحدِ،
ص: 138
و يُفارِقِ الجَمادَ بكَونِه قادراً و عالِماً.
فإن قيل: ألَيسَ بعضُ الذَّواتِ يَصِحُّ أن يَكونَ حَيّاً دونَ بعضٍ؟ فإن لَم تُثبِتوا بَينَهما مُفارَقةً تَرجِعُ إلىٰ صفةٍ من الصفاتِ ، فقولوا بمِثلِ ذلكَ فيمَن(1) يَصِحُّ أن يَكونَ قادراً عالماً(2).
قُلنا: أمّا الذاتُ (27) التي يَصِحُّ (3) أن تَكونَ حَيّةً ، فلا بُدَّ فيها مِن أمرٍ مفقودٍ فيما لا يَصِحُّ [فيه، و](4) ذلكَ الأمرُ هو(5) ما يَصِحُّ وجودُ الحياةِ معه مِن البِنيَةِ (6). و لَيسَ كُلُّ مُفارَقةٍ بَينَهما يَجِبُ أن يَكونَ حالاً مِن الأحوالِ ، أو صفةً مِن الصفاتِ .
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ مِثلُ ذلكَ فيمَن(7) صَحَّ أن يَكونَ قادراً عالِماً؛ لأنّ
ص: 139
المُصَحِّحَ لِهاتَينِ (1) الصفتَينِ الراجعتَينِ إلَى الجُملةِ لا بُدَّ أن تَكونَ صفةً راجعةً إليها؛ لِما قَدَّمنا ذِكرَه(2) مِن أنّ المُصَحِّحَ لصفةٍ أو المُقتَضيَ لها، لا بُدَّ أن يَكونَ راجعاً إلَى الموصوفِ بتلكَ الصفةِ ، و أنّ الصفةَ لا تُصَحِّحُ (3) أُخرىٰ إلّاإذا كانَ الموصوفُ بهما واحداً؛ ألا تَرىٰ أنّ الصفةَ التي يَختَصُّ بها زَيدٌ، لا يَجوزُ أن تَقتَضِيَ (4) و لا تُصَحِّحَ (5)صِفةً لَعمرٍو؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن الموصوفُ بها واحداً. و حُكمُ المَحَلِّ مع الجُملةِ حُكمُ زَيدٍ مع عَمرٍو، و مِثلُ هذا لا يَلزَمُ فيما صَحَّحَ كَونَه حيّاً؛ لأنّ الذاتَ لا تَكونُ جُملةً قَبلَ الحَياةِ ؛ لأنّ الحياةَ هي التي تَدخُلُها في أن تكونَ جُملةً . و الحُكمُ (6) الذي هو صحّةُ كَونِ هذه الأجزاءِ حَيّةً لَيسَ براجِعٍ إلىٰ جُملةٍ ، فبَطَلَ في مُقتَضاه أن(7)يَكونَ راجعاً إلى الجُملةِ ، فلَم يَجِبْ أن يَكونَ ما يُصحِّحُ كَونَها حَيّةً يَجرِي مَجرىٰ
ما يُصحِّحُ كَونَها قادرةً عالِمةً في رُجوعِها إلَى الجُملةِ ، كما ذَكَرناه.
فإن قيلَ : كيفَ تَصِحُّ (8) دَعواكُم أنّ ما يَختَصُّ المَحَلَّ لا يَرجِعُ حُكمُه إلَى الجُملةِ ، و أنتُم تَعلَمونَ أنّ العِلمَ بوَجهٍ في بعضِ الجُملةِ ، يوجِبُ (9) الحالَ للجُملةِ ، و كذلك القُدرةُ و الحَياةُ؟
قُلنا: بَينَ ما ذَكَرتَه و بَينَ ما ذَكَرناه فَرقٌ واضحٌ ؛ لأنّ العِلمَ و ما جَرىٰ مَجراه إنّما
ص: 140
وجبَ فيه ذلكَ مِن حَيثُ كانَ عِلّةً في كَونِ الجُملةِ على الصفةِ التي يوجِبُها، و العِلّةُ لا توجِبُ معلولَها لبعضِ الذَّواتِ إلّابَعدَ أن يَختَصَّ بها غايةَ الاختصاصِ ، و ذلكَ لا يَكونُ إلّابالحُلولِ .
و هذا بخِلافِ الذي أنكَرناه؛ لأنّا إنّما أَنكَرنا أن يُصحِّحَ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ ما حُكمُه مقصورٌ علىٰ مَحَلِّه، و بيّنّا أنّ حُكمَ الجُملةِ مع المَحَلِّ حُكمُ زَيدٍ مع عَمرٍو، فكما لا يَجوزُ أن يَصِحَّ (1) مِن زَيدٍ الفِعلُ أو غيرُه مِنَ الأحكامِ الراجعةِ إليه لأمرٍ عَلَيه عَمرٌو؛ مِن حَيثُ احتاجَ في مِثلِ ذلك إلىٰ ما يَرجِعُ إليه دونَ عَمروٍ، فكذلك(2)لا يَجوزُ أن يُصحِّحَ الجُملَةَ ما يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ ، و لا يَرجِعُ إليها. و العِلَّةُ في إيجادِها ما يوجِبُه بخِلافِ ذلكَ ، علىٰ ما ذَكَرناه.
فإن قيلَ : ألَيسَ [كَونُ ] أحَدِنا قادراً يَقتَضي كَونَه موجوداً(3)؟ و كَونُه قادراً مِن الصفاتِ الراجعةِ إلىٰ جُملتِه، و لَيسَ كذلكَ كَونُه موجوداً؛ لأنّه راجعٌ إلىٰ أبعاضِه؛ و هذا بخِلافِ ما قُلتُم!
قُلنا: قد أجَبنا عن هذا السؤالِ فيما تَقدَّمَ ،(4) و ذَكَرنا أنّ المُقتَضيَ لغَيرِه علىٰ سَبيلِ التأثيرِ، بخِلافِ ما يَقتَضي علىٰ سَبيلِ الدَّلالةِ . و كونُ القادرِ قادراً إنّما يَقتضي كَونَه مَوجوداً علىٰ سَبيلِ الدَّلالةِ ، لا علىٰ سَبيلِ التأثيرِ، و الذي أَنكَرناه أن يَقتَضيَ ما يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ اقتضاءَ التأثيرِ؛ فبانَ الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ .
ص: 141
علىٰ أنّ في أصحابِنا مَن يُجيبُ عن هذا السؤالِ ، بأن يَقولَ : كَونُ الواحدِ مِنّا قادراً لا يَقتَضي كَونَه موجوداً؛ لِما(1) قَدَّمناهُ مِن الأصلِ مِن رُجوعِهما إلىٰ مَوصوفَينِ (28) مُختَلِفَينِ .
و يَقولَ : إنّما وجبَ في أحَدِنا أن يَكونَ مَوجوداً مِن حَيثُ كان قادراً بقُدرةٍ ، و كانَت القُدرةُ لا تَختَصُّه إلّاأن تَحِلَّ (2) بَعضَه، و المَحَلُّ لا يَكونُ إلّامَوجوداً.
و يَقولَ : أن يكون القَديمُ تَعالىٰ قادراً يَقتَضي كَونَه موجوداً؛ لأنّ الموصوفَ بالصفتَينِ جميعاً واحدٌ، و هذا أيضاً واضحٌ .
فإن قيلَ : جميعُ ما ذَكَرتُموه في إيجابِ كَونِ القادرِ حَيّاً، يَقتَضي أن يَكونَ (3)القَديمُ جِسماً و مُرَكَّباً مِن جَواهِرَ(4) و مَبنيّاً(5) ضَرباً مِن البِنيَةِ ؛ لأنّه كما أنّ مَن لَيسَ بِحَيٍّ (6) في الشاهدِ، لا يَصِحُّ أن يَكونَ قادراً و لا عالِماً، كذلكَ [مَن] لَيسَ مُرَكَّباً مِن جَواهِرَ(7) مَبنيّاً ضَرباً(8) مِن البِنيةِ ، لا يَصِحُّ أن يَكونَ حَيّاً و لا قادراً و لا عالِماً، فإمّا أن
ص: 142
يُثبِتوا للقَديمِ تَعالىٰ جَميعَ هذه الصفاتِ ،(1) أو يَمتَنِعوا مِن إثباتِ شيءٍ مِنها!
قُلنا: أوّلُ ما نَقولُه: إنّا لَم نُعَوِّلْ في إثباتِ «كَونِه حَيّاً و قادراً و عالِماً و سائِرِ صفاتِه» علىٰ مُجرَّدِ الوجودِ؛ لِيَلزَمَنا ما ذَكَرتُموه، و إن ثَبَتَ له سائرُ ما وَجَدناه في الشاهدِ، و إنّما عَوَّلنا علىٰ طريقةٍ مِن الاستدلالِ ، إذا تؤُمِّلَت لَم يَلزَم عَلَيها شيءٌ ممّا أُلزِمناه؛ و ذلكَ أنّ صحَّةَ الفِعلِ مِن الفاعلِ إذا اقتَضَت كَونَه علىٰ صفةٍ ، تَرجِعُ (2) إليه مِن حَيثُ كانَت الصحّةُ راجعةً إليه، و كانَ أهلُ اللُّغةِ يُسَمُّونَ مَن كانَ علىٰ هذه الصفةِ قادراً، لمّا صَحَّ مِنه الفعلُ . و كذلك(3) القولُ في صحّةِ الفِعلِ المُحكَمِ و إيجابِها كَونَه عالِماً.
و لمّا اقتَضَت(4) صحّةُ كَونِه بهاتَينِ الصفتَينِ كَونَه حَيّاً، أثبَتناه أيضاً له، فلَم يَثبُتْ إلّا ما دَلَّ عَلَيه الفِعلُ ؛ إمّا بنَفسِه أو بواسطةٍ . و الفِعلُ لا يَدُلُّ علىٰ كَونِ فاعلِه مَبنيّاً و لا مُرَكَّباً و لا علىٰ شيءٍ ممّا ذَكَرناه في السؤالِ ؛ لأنّه لا صفةَ له تَقتَضي ذلكَ ، و لا تَعلُّقَ (5) بَينَه و بَينَ شيءٍ مِن هذه الأُمورِ.
علىٰ أنّ ما ذَكَرناه مُتقدِّماً(6) - مِن أنّ المُقتَضيَ للصفةِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ راجعاً إلىٰ مَن تَرجِعُ إليه الصفةُ - يُبطِلُ ذلكَ ؛ لأنّ البِنيَةَ و التأليفَ و سائرَ ما ذُكِرَ، ممّا لا يَتَعدّىٰ حُكمُه المَحَلَّ ، فكيفَ (7) يَقتَضي صحّةَ الفِعلِ ، أو صحّةَ (8) كَونِ الفاعلِ
ص: 143
قادراً، و ذلكَ في إحكامٍ؟(1)
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فإذا كانَ لا حَظَّ لِكَونِه مَبنيّاً أو مُرَكَّباً مِن جَواهرَ إلىٰ سائرِ ما ذَكَرناه، مِن تَصحيحِ كَونِه حَيّاً و قادراً، فألا جازَ أن يَكونَ حَيّاً و قادراً و إن لَم يَكُن مُرَكَّباً و لا مبنيّاً؟
و ذلك: أنّ أحَدَنا لَمْ يَحتَجْ (2) في كَونِه قادِراً و حَيّاً، أن يَكونَ مُرَكَّباً و مَبنيّاً مِن جَواهرَ لمُجرَّدِ هاتَينِ الصفتَينِ ، و إنّما احتاجَ إلىٰ ذلكَ لأنّه ممّن لا يَقدِرُ إلّا بقُدرةٍ ، و لا يَحيا(3) إلّابحَياةٍ ، و الحَياةُ و القُدرةُ لا توجِبُ الصفةَ إلّابَعدَ أن تَختَصَّه نِهايةَ الاختصاصِ ، و ذلكَ لا يَكونُ إلّابالحُلولِ ، فالبِنيةُ و التركيبُ يَحتاجُ
إليها [أحَدُنا](4) لِتَحُلَّه هذه المَعاني؛ لأنّها لا تَحُلُّ (5) إلّاما اختَصَّ مِن المَحالِّ ببِنيةٍ (6) علىٰ صفةٍ . و لو كانَ أحَدُنا لا يَحتاجُ إلى الحياةِ في كونِه حَيّاً، و لا إلَى القُدرةِ في كَونِه قادراً،(7) لَما احتاجَ إلَى البِنيةِ ، و لا إلىٰ أن يَكونَ مُرَكَّباً مِن جَواهرَ(8)، فلهذا لمّا استَغنَى القَديمُ تَعالىٰ عن المَعاني و العلَلِ في كَونِه حَيّاً و قادِراً، استَغنىٰ عن جَميعِ ذلكَ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا جازَ لكم أن تَدَّعُوا أنّ حاجةَ أحَدِنا (29) إلى البِنيةِ ،
ص: 144
لا يَرجِعُ [إلىٰ ] كَونِه حَيّاً، و إنّما يَحتاجُ إلىٰ ذلكَ لأجلِ الحَياةِ التي تَحُلُّه، فقولوا أيضاً: إنّه لَم يَحتَجْ في كَونِه [قادراً إلىٰ كَونِه](1) حَيّاً، و إنّما تَحتاجُ (2) القُدرةُ إلَى الحَياةِ ممّن لَيسَ بذي قُدرةٍ يَحتاجُ (3) إلىٰ أن يَكونَ حيّاً، كما أنّ مَن(4) لَيسَ بذي قُدرةٍ و لا حَياةٍ يَحتاجُ إلىٰ أن يَكونَ مُؤلَّفاً.
و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا أنّ صحّةَ كَونِ أحَدِنا قادراً، يَقتَضي كَونَه علىٰ صفةٍ تَرجِعُ (5) إليه دونَ أبعاضِه، و أنّه لولا كَونُه علىٰ (6) هذه الصفةِ لَم يَصِحَّ كَونُه قادراً، فاستَحالَ في ذَواتٍ أُخَرَ(7) كَونُها قادرةً ، و هذا يَقتَضي فيه(8) أنّ الصفةَ تَحتاجُ (9) إلَى الصحّةِ ، دونَ المعنَى الذي يوجِبُها، و كَرَّرنا(10) ذلكَ في هذا البابِ ، و فيه إسقاطٌ لهذا السؤالِ .
علىٰ أنّ الذي يَدُلُّ علىٰ بُطلانِ [ما] يوهِمُه المُعارضُ لنا بما حَكَّمناه في هذه المسألة:
أنّا وَجَدنا الإنسانَ مِن جُملةِ العالِمِ القادِرِ؛ لِما في قَلبِه مِن العِلمِ و القُدرةِ ، فإذا فُصِلَت عنه [الحَياةُ ] فقد(11) خَرَجَ (12) مِن جُملةِ العالِمِ القادرِ؛ لخُروجِه(13) مِن جُملةِ
ص: 145
الحَيِّ ، و إن كانَ (1) العِلمُ و القُدرةُ باقيَينِ في(2) مُخالَفتِهما فِعلَها؛ لخُروجِهما علىٰ هذا الوَجهِ ، [فثَبَتَت] حاجةُ كونِه(3) عالِماً إلىٰ كونِه حَيّاً، و بَطَلَ تَوهُّمُ (4) مَن يَقولُ :
إنّ المَعنىٰ (5) هو الذي [لا] يَحتاجُ (6) إلَى المعنىٰ .
فإنْ قيلَ : فما الدليلُ علىٰ أنّه خَرَجَ (7) مِن جُملةِ العالِمِ الحَيِّ ، على ما ادَّعَينا؟
قُلنا: قد عَلِمنا أنّه مع الاتّصالِ يَصِحُّ مِنه الإدراكُ ، و هذا يَقتَضي تَداخُلَه في جُملةِ الحَيِّ ، و يَصِحُّ وقوعُ الأفعالِ المُبتَدَأةِ فيه، و هذا يَقتَضي كَونَه مِن جُملةِ القادرِ. فإذا انفَصَلَت [القدرة] عنه لَم يَصِحَّ الإدراكُ مِنه و لا الأفعالُ ، فخَرَجَ مِن جُملةِ الحَيِّ القادرِ؛ لبُطلانِ الأَحكامِ التي تَجعَلُه(8) مِن جُملَتِه.
و إذا كانَ خُروجُه مِن جُملةِ الحَيِّ يَتبَعُه خُروجُه مِن جُملةِ القادِرِ العالِمِ ، ثَبَتَ ما أرَدناه مِن حاجةِ هاتَينِ الصفتَينِ إلى صفةِ الحَيِّ .
فإن قيلَ : العُضوُ الواحِدُ إذا خَرَجَ مِن أن يَكونَ جِسماً، خَرَجَ مِن جُملةِ العالِمِ القادِرِ، و لَم يَجِبْ علىٰ هذا أن يَكونَ الذي أدخَلَه في جُملةِ العالِمِ القادِرِ كَونَه جِسماً؛ فألا جازَ أيضاً أن يَخرُجَ مِن جُملَةِ العالِمِ القادرِ، إذا خَرَجَ مِن كَونِه جِسماً؟
ص: 146
فلَم يَكُن كذلكَ ، إلّالأنّه لمّا خَرَجَ مِن كونِه جِسماً، خَرَجَ مِن جُملةِ الحَيِّ ، فخَرَجَ مِن جُملةِ العالِمِ ، فالتأثيرُ إنّما هو للخُروجِ مِن صفةِ الحَيِّ دونَ (1) الجسميَّةِ . و لَو جازَ أن يَخرُجَ مِن كَونِه جِسماً و لا يَخرُجَ مِن جُملةِ الحَيِّ [لم يَجُزْ] خُروجُه مِن جُملةِ العالِمِ ، فصارَ التأثيرُ لِما ذَكَرناه.
و لأنّ بدُخولِه بالجسميّةِ لا يَدخُلُ في جُملةِ القادرِ، و بدُخولِه [بالحَياةِ يَدخُلُ ](2)في جُملةِ العالِمِ القادرِ إذا كانَ في قَلبِ الحَيِّ عِلمٌ و قدرةٌ . و يَجري مَجرىٰ خُروجِ المُتحرِّكِ عن كَونِه مُتحرِّكاً لعدمِ الحركةِ و لعدمِ ذاتِه، و مع هذا فالتأثيرُ في كَونِه مُتحرِّكاً إنّما هو لوجودِ الحركةِ دونَ وجودِ ذاتِه، و إن كانَ عند عدمِ الأمرَينِ معاً يَخرُجُ مِن الصفةِ ؛ مِن حَيثُ كانَ في عدمِ الذات عدمُ الحركةِ التي هي المؤثِّرة(3).
و إنّما عَلِمنا أنّ التأثيرَ لها، دونَ جميعِ ما ارتَفَعَتِ الصفةُ عندَ عدمِه، بالطريقِ الذي ذَكَرناه؛ و هو أنّ بوجودِ الحركةِ لا بُدَّ مِن كَونِه مُتحرِّكاً، و مع وجودِ ذاتِه لا يَجِبُ ذلكَ . و صَرَفنا خُروجَه عندَ عدمِ ذاتِه عن الصفةِ ؛ إلّاأنّه لأجلِ عدمِ الحركةِ دونَ غَيرِها.
علىٰ أنّا قد بيّنّا أنّ الصفةَ لا تَقتَضي الأُخرى، إلّاإذا كانَ المَوصوفُ بهما واحداً(4)، فلَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ لِكَونِه جسماً مَدخَلٌ في تصحيحِ كَونِه عالِماً
ص: 147
و لا قادراً؛ لأنّ ما (30) به يَكونُ الجسمُ [جسماً](1) يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ و لا يَتَعدّاه، و كَونُ الحَيِّ حيّاً يَرجِعُ إلَى المَوصوفِ بأنّه عالِمٌ قادِرٌ، فجازَ أن يُصَحِّحَ (2) هاتَينِ الصفتَينِ علىٰ ما ذَكَرناه.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ [أنّ ] القادِرَ العالِمَ لا بُدَّ مِن كَونِه حَيّاً: أنّه قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا يَجِدُ نَفسَه مُدرِكاً، و العِلمُ بذلكَ (3) مِن حالِه(4) ضَرورةٌ ، و لا بُدَّ لذلك مِن مُقتَضٍ .
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ المُقتَضي لذلكَ (5) كَونَه قادراً؛ لأنّ كَونَ القادرِ قادراً يَتَزايَدُ و يَتَناقَصُ ، و كَونُه مُدرِكاً لا يَتَزايَدُ. و لا بُدَّ مِن أن تَكونَ الصفةُ التي يَتعلَّقُ بها التزايُدُ غَيرَ الصفةِ التي لا تَزايُدَ فيها و لا تَفاوُتَ . و الذي ذَكَرناه مِن تَزايُدِ كَونِ
القادرِ قادراً بَيِّنٌ في الذاتِ الواحدةِ (6) و الذَّواتِ الكثيرةِ ؛ لأنّ أحَدَنا قد تَتَزايَدُ(7)أحوالُه في هذه الصفةِ و تَتَناقَصُ ، و كذلكَ قد تَزيدُ بعضُ أحوالِ القادرينَ فيها علىٰ بعضٍ .
و أيضاً: فلَو كانَ الإدراكُ يَصِحُّ مِن الجهةِ [المُصحِّحةِ ] لكَونِها قادرةً ، لَوجبَ أن تَكونَ القُدَرُ مُتَماثِلةً مِن حيثُ وَقَعَ بها الإدراكُ ، و مُختَلِفةً لتَغايُرِ المُتَعلَّقِ .
و كانَ أيضاً يَجِبُ أن يَصِحَّ الفِعلُ بكُلِّ عُضوٍ صَحَّ به الإدراكُ ؛ لأنّ ذلكَ
ص: 148
واجبٌ إذا كانَ المَرجِعُ في المُقتَضي إلىٰ أمرٍ واحدٍ، و قد عَلِمنا أنّ شَحمةَ الأُذُنِ يَصِحُّ بها الإدراكُ ؛ - لأنّا نُفرِّقُ بَينَ ما فيها مِن الحارِّ و الباردِ - و لا يَصِحُّ أن يَبتَدئَ الفِعلُ بها(1)، فلَو كانَ ما به يُدرِكُ هو الذي به يَقدِرُ، لَكانَ ابتداءُ الفِعلِ علىٰ هذا الوجهِ بها(2) واجباً.
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ المُقتَضي لِكَونِه مُدرِكاً كَونَه عالِماً؛ لأنّه قد يُدرِكُ (3) مع السَّهوِ و في كثيرٍ مِن الأحوالِ [مع] فَقدِ العِلمِ .
و لا يَجوزُ أن يَرجِعَ كَونُه مُدرِكاً إلىٰ كَونِه مُريداً و كارِهاً و مُعتَقِداً، أو نافِراً و مُشتَهِياً؛ لِما ذَكَرناه في كَونِه قادراً.
و كُلُّ ذلكَ ممّا حَصَلَت(4) الشبهةُ فيه، و إن حَصَلت [أيضاً] فيما تَقدَّمَ .
و إذا ثَبَتَ أنّه لا بُدَّ لهذه الصفةِ (5) مِن مقتَضٍ (6) غَيرِ ما ذَكَرناه، فتلكَ الصفةُ الزائدةُ علىٰ ما عَدَّدناه مِنَ الصفاتِ هي التي سُمّيَ مَن كانَ عَلَيها: حَيّاً.
و إذا ثَبَتَت الصفةُ و عُرِفَت، فالذي يَدُلُّ علىٰ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يُخَصُّ بها: كَونُه عالماً قادراً، و قَد دَلَّلنا علىٰ أنّ كونَ الحَيِّ حَيّاً هو المُصَحِّحُ لكَونِه عالِماً قادراً بما ذَكَرناه مِن حالِ الحَيِّ (7)، و أنّ بخُروجِه(8) مِن جُملةِ الحَيِّ يَخرُجُ مِن جُملةِ العالِمِ القادرِ.
ص: 149
فإن قيل: أيَصِحُّ الاستدلالُ علىٰ كَونِ الذاتِ حَيّةً ، بكونِها(1) عاجزةً و جاهلةً ، كما يَصِحُّ أن يَستَدِلّوا علىٰ ذلكَ بكَونِها قادرةً عالمةً؟
فإِن أبَيتُم(2) ذلكَ ، فما الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ في صحّةِ الاستدلالِ ، و أنتُم تَعلَمونَ أنّ العاجزَ الجاهلَ لا بُدَّ أن يَكونَ حيّاً، كما أنّ القادِرَ العالِمَ لا بُدَّ أن يَكونَ حَيّاً؟
و إن أجَبتُم إلىٰ صحّةِ الاستدلالِ في الجميعِ (3)، فلِمَ حَدَّدتُم «الحَيَّ » بأنّه «مَن يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ »، دونَ أن تَقولوا: «مَن يَصِحُّ أن يَعجِزَ و يَجهَلَ »(4)؟
قُلنا: أوّلُ (5) ما نقوله(6) أنّ الذي يَدُلُّ علىٰ كَونِ المَوصوفِ بصفةٍ مِن الصفاتِ ، لا
بُدَّ مِن أن يَجمَعَ بَينَ الأمرَينِ :
أحدُهما: أن يَكونَ ممّا(7) لَولاه لَم يَحصُلِ الموصوفُ علىٰ تلكَ الصفةِ .
و الآخَرُ: أن يَصِحَّ العِلمُ به قَبلَ العِلمِ بتلكَ الصفةِ .
و قد عَلِمنا أنّه لَولا كَونُ أحدِنا حَيّاً لَم يَصِحَّ أنْ يَكونَ قادراً و لا عالِماً، و العلِمُ بكَونِه علىٰ هاتَينِ الصفتَينِ يَتقدَّمُ علَى العِلمِ بكَونِه حَيّاً؛ فصَحَّ الاستدلالُ به، علىٰ ما (31) ذَكَرناه.
ص: 150
و كذلكَ يَصِحُّ أن يَستَدِلَّ بكَونِه مُريداً و كارهاً و جاهلاً و مُعتَقِداً و ظانّاً و مُدرِكاً و مُشتَهياً و ناظِراً و نافِراً علىٰ كونِه حَيّاً؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ قد يَعلَمُه(1) الإنسانُ مِن نَفسِه أو مِن غَيرِه، و يَصِحُّ أن يَجعَله طريقاً إلَى الاستدلالِ علىٰ كَونِه حَيّاً؛ مِن حَيثُ لَولا كَونُه حَيّاً لَم يَصِحَّ جَميعُ ذلك.
فأمّا كونُه عاجزاً فبخِلافِ ما ذَكَرناه؛ لأنّه لا حالَ للعاجزِ بكَونِه عاجزاً، و إنّما المُستَفادُ بهذا الوصفِ نَفيُ كَونِه قادراً علىٰ وَجهٍ مخصوصٍ ، ففارَقَ هذا الوَجهُ جَميعَ ما تَقدَّمَ .
فأمّا مَن أثبَتَ مِن الشُّيوخِ للعاجزِ بكَونِه عاجزاً حالاً، فلَم يَتَوفَّقْ إلىٰ (2) إثباتِها، و لا قَطَعَ علىٰ نَفيِها كما فَعَلَ غَيرُه. و لا يُمكِنُه أيضاً الاستدلالُ بهذه الصفةِ علىٰ كَونِه حَيّاً؛ فإنّما(3) يُنظَرُ(4) إلىٰ إثباتِ صفةِ العاجزِ، باعتبارِ خُروجِ القادرِ عن كَونِه قادراً و حالُه(5) واحدةٌ ، فلا بُدَّ مِن أن يُعلَمَ كَونُه حَيّاً مع انتفاءِ كَونِه قادِراً، و لذلك(6) استُغنيَ عن التطرُّقِ إليه بكَونِه عاجزاً، و هو إنّما يَحصُلُ بَعدَ العِلمِ بأنّه حَيٌّ .
و أمّا الكلامُ في الحَدِّ،(7) فمُخالِفٌ لِما تَقدَّمَ ؛ لأنّه لَيسَ كُلُّ ما دَلَّ علىٰ أمرٍ مِن الأُمورِ ساغَ أن يُجعَلَ حَدّاً له. و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يُحَدَّ «الحَيُّ » بكُلِّ
ص: 151
ما يَصِحُّ أن يُستَدَلَّ به علىٰ إثباتِ هذه الصفةِ له. و لا بُدَّ فيما تُحَدُّ(1) به الصفةُ مِن أن يَكونَ حاصلاً لكُلِّ مُختَصٍّ بها؛ لأنّ انتفاءَه عن بعضِ المُختَصّينَ بالصفةِ يَنقُضُ (2) الحَدَّ.
و لا بُدَّ أيضاً مِن أن يَكونَ ما يُحَدُّ(3) به [الشيء] حاصلاً للمَحدودِ في كُلِّ حالٍ ، فلهذا اقتَصَرنا في حَدِّ «الحَيِّ » علىٰ أنّه «مَن يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ » أو «مَن(4)لا تَتعذَّرُ فيه هاتانِ الصفتانِ »؛ لأنّ ذلكَ حُكمٌ حاصلٌ لكُلِّ حَيٍّ قَديمٍ أو مُحدَثٍ ، ممّا لا يَتغيَّرُ و لا يَختَلِفُ عَلَيه مع ثُبوتِ كونِه حَيّاً.
و لا يَجوزُ أن يُحَدَّ «الحَيُّ » [بأنّه] من يَصِحُّ أن يَجهَلَ أو يَشتَهيَ أو يَتفكَّرَ أو يَظُنَّ أو يَعتَقِدَ؛ لأنَّ كُلَّ ذلكَ ممّا قد عَلِمنا بالدليلِ استحالتَه علىٰ بعضِ الأحياءِ ، و هو القَديمُ تَعالىٰ .
فأمّا كونُه مُدرِكاً و مُريداً و كارِهاً: فلا(5) يَجوزُ أيضاً أن نَجعَلَه حَدّاً؛ لأنّه(6) قد ثَبَتَ كَونُه تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ حَيّاً، و إن لَم يَكُن علىٰ هذه الصفاتِ .
اللّهمّ إلّاأن يُقالَ : حُدُّوا بصحّةِ (7) هذه الصفاتِ عَلَيه، كما فَعَلتُم(8) في قادرٍ و عالمٍ .
فالجَوابُ عن ذلكَ : ما ذَكَره بعضُ الشُّيوخِ مِن أنّ فيمَن يُثبِتُه حَيّاً مَن يَنفي
ص: 152
عنه صحّةَ كَونِه مُريداً و كارهاً و مُدرِكاً، و هم البَغداديّونَ (1). فَنُعَوِّلُ (2) في الحَدِّ علَى الصفاتِ التي لا يُثبته حَيّاً إلّامَن أثبتها عليه(3).
و مَن تَمكَّنَ أن يَحُدَّ الحَيَّ بأنّه «يَصِحُّ أن يُريدَ و يَكرَهَ و يُدرِكَ »، [إنّما يُعوِّلُ في ذلك علىٰ ] أنّه(4) لا يَكونُ حَيّاً(5) إلّاو يَصِحُّ ذلكَ فيه، كصحّةِ (6) كَونِه قادراً و عالِماً. و لا يَجعَلُ خِلافَ مَن خالَفَ مِن البَغداديّينَ مؤثِّراً في هذا الحَدِّ؛ لأنّ الحُدودَ بالِغةٌ (7)لِما ثَبَتَ مِن المَعاني بالأدلّةِ ، و الخِلافُ فيها بالشُّبهةِ لا يُؤثِّرُ، غَيرَ أنّ التعويلَ علىٰ كَونِه قادراً و عالِماً كأنّه أوضَحُ [و] إن كانَ المجموعُ في المعنىٰ واحداً.
ص: 153
فإن قيلَ : كيفَ كانَ حَدُّكم «الحَيَّ » بأنّه(1) الذي «يَصِحُّ أن يَقدِرَ و أن يَعلَمَ » مُستَقيماً، و القَديمُ تَعالىٰ حَيٌّ ، و لا يَجوزُ أن يُقالَ : إنّه «يَصِحُّ أن يَقدرَ و يَعلَمَ »؟
قُلنا: المَعاني إذا فُهِمَت لَم يَكُن للتعلُّق(2) بالعباراتِ (32) معنىً . و معنىٰ قولِنا:
«يَصِحُّ » هو(3) أنّه لَيسَ بمُستَحيلٍ ، و أنّه لا يَتَعذَّرُ. و معلومٌ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يُثبِتونَ كَونَه قادراً و عالماً، فقد(4) حَصَلَتِ الصحةُ التي أَورَدناها، و انتفَىٰ التَعذُّرُ(5)و الاستحالةُ ، و لهذا اختارَ بعضُنا بَدَلاً مِن قَولِنا: «يَصِحُّ »، «لا(6) يَتعَذَّرُ له أن يَكونَ قادراً عالماً».
ص: 154
[ال] فَصلُ [الرابع] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ(1)
اعلَم أنّ هذا الفصلَ (2) لا يَتِمُّ العِلمُ به إلّابَعدَ أُمورٍ:
منها: الدَّلالةُ علىٰ إثباتِ كَونِ الواحد(3) مِنّا مُدرِكاً(4)، و أنّ له بكَونِه مُدرِكاً حالاً مُخالِفةً للحالِ التي تَجِبُ (5) له بكَونِه قادراً و عالِماً، و سائِر أحوالِ الحَيِّ .
و منها: أنّ المُقتَضيَ لهذه(6) الحالِ كَونُه حَيّاً دونَ سائرِ الأحوالِ ، و أنّه لا مَدخَلَ لها(7)
ص: 155
في اقتضاءِ ذلكَ الحَواسُّ و صِفاتُها.(1)
و منها: إثباتُه تَعالىٰ علىٰ هذه الحالِ ، و بيانُ المُرادِ بقَولِنا: «إنّه سَميعٌ بَصيرٌ»
و الدَّلالَةُ علىٰ حُصولِه تَعالىٰ بهذه الصفةِ . و الكلامُ في أنّ (2) السَميعَ و البَصيرَ بِكَونهِ علىٰ هاتَينِ الصفتَينِ حالٌ زائدةٌ علىٰ كَونِه حَيّاً لا آفةَ به؛ أو لا حالَ له يَزيدُ علىٰ ذلكَ .(3)
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ إثباتِ هذه الصفةِ فينا، [فإنّ ] مِن أوضَحِ ما(4) يَدُلُّ عليه أنّ أحَدَنا(5) يَجِدُ نفسَه مُدرِكاً، كما يَجِدُ(6) نفسَه مُعتَقِداً و مُريداً و كارهاً و مفكِّراً. و لا شَيءَ أظهَرُ ممّا يَجِدُه الإنسانُ نَفسُه عليه. فإثباتُ هذه الحالِ لا شُبهةَ فيه.
بها إلىٰ كَونِه حَيّاً و قادراً و مُريداً و كارهاً و مُشتَهياً و نافِراً، و إن كانَت(1) الشُّبهةُ [لَم] تُنقَلْ (2) فيما عَدا كَونِه عالِماً و حَيّاً مِن الصفاتِ .
و الذي يَدُلُّ علَى انفصالِ هذه الصفةِ (3)[عن](4) كونِه(5) عالِماً و زيادتِها عَلَيها: أنّه لا شيءَ أبلَغُ في العِلمِ بتغايُرِ(6) الصفتَينِ مِن ثُبوتِ كُلِّ واحدٍ مِنهما مع عدمِ الأُخرىٰ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا جازَ أن يَكونَ قادراً. و إن لَم يَكُن عالِماً، [و أن يَكونَ عالِماً] و إن لم يَكُن قادراً، حَكَمنا بتَغايُرِ الصفتَينِ؟
و قد عَلِمنا أنّ أحَدَنا يَكونُ عالِماً و إن لَم يَكُن مُدرِكاً؛ بدَلالةِ أنّا(7) نَعلَمُ الصَّوتَ بَعدَ تَقَضّيهِ ، و يَستَمِرُّ كَونُنا عالمينَ به، و إن لَم نَكُن مُدرِكينَ له. و نَعلَمُ المعلومَ و القَديمَ و سائرَ الذواتِ التي لا يَجوزُ عَلَيها الإدراكُ ، و إن لم نَكُن مُدرِكينَ لها. و هذا الوَجهُ ممّا لا يَشتَبِهُ (8).
ص: 157
و أمّا إثباتُ الإدراكِ مع فَقدِ العِلمِ : فطريقُه(1) أنّ النائمَ مُدرِكٌ في حالِ نَومِه الأصواتَ و غَيرَها و إن لم يَكُن [عالِماً بها(2)](3)؛ ألا تَرىٰ أنّه قد يَنتَبِهُ بالصَّوتِ الشَّديدِ؟ فلا يَخلو مِن أن يَكونَ أَدرَكَه في حالِ نَومِه، أو بَعدَ انتباهِه، فلَو أدرَكَه بَعدَ الانتباهِ لَم يَكُن هو السَّبَبَ ، فثَبَتَ أنّه أدرَكَه نائماً.
و لهذا رُبَّما تَنَغَّصَ (4) نَومُه و اضطَرَبَ ، و تَحرَّكَ لِقَرصِ (5) البَراغيثِ و غَيرِ ذلكَ ممّا يؤلِمُه. و لَو كانَ لا يُدرِكُ ، ما ثَبَتَ ما(6) ذَكَرناه فيه. و لهذا أيضاً إذا تَحدَّثَ [الإنسان](7) أو حُدِّثَ بحَضرةِ النائمِ ، لَاعتَقَدَ(8) أنّ الحَديثَ الذي يَسمَعُه شَيءٌ يَراهُ في مَنامِه، و لَولا أنّه مُدرِكٌ لَما وجبَ ذلكَ فيه.
و لَيسَ (9) يَجوزُ أن يُقالَ : إنّه يُدركُ و يَعلَمُ ؛ لأنّ النومَ [يَمنَعُ ](10) مِن ثُبوتِ العِلمِ
ص: 158
بالمُدرَكاتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ النائمَ لَو عَلِمَ ما يُدرِكُه [حقيقةً ]، لَما تَخيَّلَ له في الصَّوتِ الذي يَسمَعُه أنّه شَيءٌ يَراه في مَنامِه، و لَوَجبَ (1) أن يَكونَ النائمُ يَعلَمُ في حالِ نَومِه (33) جَميعَ ما كانَ [يَعلَمُه و هو](2) يَقظانُ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
و الذي يَدُلُّ أيضاً علىٰ ما ذَكَرناه:(3) أنّ أحَدَنا قد يَعلَمُ الألمَ في جسمِ غَيرِه، [و لا يُدْرِكه](4)، فلا يألَمُ به [إلّا] مَن كانَ في جسمِه مِن حَيثُ أَدرَكَه، فلَو كانَ الإدراكُ لا يَزيدُ علَى العِلمِ (5)، لَوجَبَ أن يَستَويَ حالُ مَن ذَكَرناه في الإدراكِ أو عدمِه(6)؛ مِن حَيثُ استوائهما(7) في العِلمِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ الذي يَحُلُّ جسمَه الألمُ عَليلٌ (8) مع نُفورِ نفسِه عنه، فلهذا ألِمَ به.(9)
و ذلكَ : أنّ النُّفورَ حاصلٌ في العالِمينَ جميعاً؛(10) ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا مع نُفورِه عن الألَمِ لا يَتألّمُ بما(11) يَعلَمُهُ في جسمِ غَيرِه مِن الألمِ؟ و الاشتراكُ في
ص: 159
النُّفورِ كالاشتراكِ في العِلمِ و حالتهما(1) مختَلِفةٌ ، فلَولا حُصولُ نُفوره(2) بالإدراكِ لَم يَجِبْ ذلكَ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ اختلافَ الحالِ بَينَ (3) المُدرِكِ الألمَ في جسمِه و العالِمِ به، و بَينَ مَن يَعلَمُ ذلكَ في جسمِ غَيرِه، إنّما هو لاختلافِ (4) طريقِ العِلمِ ، لا لِحالٍ زائدةٍ علَى العِلمِ . كما أنّ أحَدَنا يُفرِّقُ بَينَ كَونِه عالِماً بالشيءِ ضَرورةً ، و بَينَ كَونِه عالِماً بالاستدلالِ .
و ذلك أنّ اختلافَ طُرُقِ العِلمِ و جهاتِ حُصولِه، لا يؤثِّرُ فيما(5) يَجِدُه العالِمُ مِن نَفسِه، و لا يَقتَضي اختلافَ حالِه. و لَو لَم يَكُن لِمَن أدرَكَ الألمَ في جسمِه و عَلِمَه، حالةٌ زائدةٌ علىٰ حالِه إذا عَلِمَه حالاًّ في غَيرِه، لَما وُجِدَ هذا الفَرقُ الذي أَشَرنا إليه؛ لأنّ الحَيَّ إنّما يَجِدُ نفسَه علىٰ ما يَختَصُّ به مِن الصفاتِ و [غيرها من](6) أحوالِه، دونَ ما لَيسَ له هذا الحَظُّ. و اختلافُ طَريقِ العِلمِ إذا كانَ لا يَتعلَّقُ بالحَيِّ ، و لا
ص: 160
يوجِبُ له صفةً ، فكيفَ يَستَنِدُ(1) الفَرقُ الذي مِن نفسِه إليه(2)؟
اللّهمَّ إلّاأن يُدَّعىٰ أنّ الحَيَّ بهذا الاختلافِ قَد حَصَلَت له صفةٌ تَرجِعُ إليه زائدةٌ ، فيَكونَ وِفاقاً في المعنىٰ و خِلافاً في العبارةِ .
علىٰ أنّه يُمكِنُ أن يُقالَ : في كُلِّ صفتَينِ مُختَلِفتَينِ مِن صفاتِ الحَيِّ يَجِدُ نفسَه عَلَيهما شَواهِدَ؛ فيُقالَ : إنّ كَونَه مُريداً يَرجِعُ في المعنىٰ إلىٰ كَونِه مُعتَقِداً، و إنّما
يَجِدُ الفَرقَ لاِختلافِ الجهاتِ أو غَيرِ ذلكَ ممّا يَقتَضِي اختِلافَ الصفتَينِ في نُفوسِهما. و لا مَخلَصَ مِن ذلكَ إلّابما اعتَبَرناه.
فأمّا الفَرقُ بَينَ العِلمِ الضَّروريِّ و المُكتَسَبِ : فله(3) وجهٌ معقولٌ لا يَقتَضي اختلافَ الصفةِ ، و إنّما فُرِّقَ بَينَهما مِن حَيثُ كانَ أحَدُهما - و هو الضروريُّ - لا يُمكِنُ العالِمَ به إخراجُ نفسِه عنه، و يُمكِنُه(4) ذلك في الآخَرِ علىٰ بعضِ الوجوهِ . فمِن هنا حَصَلَ الفَرقُ ، لا مِنْ حيثُ اختلَفَت(5) الصفةُ ، و هذا لا يُمكِنُ أن يُقالَ في العِلمِ بالألمِ الذي ذَكَرناه، بل لا وَجهَ للفَرقِ هُناكَ إلّااختلافُ الصفةِ .
و يدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ :(6) أنّ كَونَ المُدرِكِ مُدرِكاً يَتعلَّقُ ببَعضِ ما يَصِحُّ أن يُعلَمَ دونَ [جَميعِه]، فيَجِبُ مُخالَفةُ كَونِه مُدرِكاً لِكَونِه عالِماً، كما وجبَ ذلكَ في كَونِه مُريداً و عالِماً.
ص: 161
و أيضاً: فإنّ عدمَ المُدرَكِ يُحيلُ تعلُّقَ الإدراكِ به، و لا يُحيلُ (1) ذلك كَونَه(2)متعلَّقَ (3) العِلمِ .
و يَمنَعُ عن إدراكِ المُدرَكِ مَوانِعُ كثيرةٌ لا تَمنَعُ عن العِلمِ به، و فَسادُ الحاسّةِ يؤثِّرُ في الإدراكِ و لا يُؤَثِّرُ في العِلمِ .
و أيضاً: فبعضُ الأجناسِ يَختَصُّ بصحّةِ أن يُدرَكَ ، و بعضُ ما(4) يَختَصُّ بذلكَ إنّما يَصِحُّ أن يُدرَكَ علىٰ أخَصِّ أوصافِه دونَ سائرِ صفاتِه، و إن كانَ الكُلُّ يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ [به] العِلمُ .
فهذا كُلُّه بَيِّنٌ في [أنّ ] الإدراكَ غَيرُ العِلمِ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ [أنّ ] كَونَه مُدرِكاً صفةٌ زائدةٌ علىٰ كَونِه حَيّاً: أنّا قد عَلِمنا أنّ كَونَه (34) مُدرِكاً يَتعلَّقُ بغَيرِه(5)، [و كَونَه حَيّاً لا يَتعلَّقُ بغَيرِه.
ولأنّ كون الحيِّ حيّاً لا يجده الإنسان من نفسِه، و إنّما يَعلمه بالدليلِ و النظرِ، بينما كونُه مدرِكاً ممّا يجده الإنسان من نفسه،](6) فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ما يَجِبُ له النظَرُ غَيرَ ما لا يَجِبُ فيه ذلكَ .
ص: 162
و لأنّ كَونَه مُدرِكاً يَتجدَّدُ(1)، و كَونَه حَيّاً مُستَمِرٌّ غَيرُ مُتجدِّدٍ، و لا بُدَّ علىٰ هذا اختلافُهما.
و لَيسَ لأحَدٍ [أن] يَدَّعي أنّ كَونَه مُدرِكاً لا يَتجدَّدُ مع استمرارِ كَونِه حَيّاً، بل يَستَمِرُّ استمرارَ هذه الصفةِ .
لأنّه لَو كانَت هذه الصفةُ مُستَمِرّةً (2) - و هي ممّا يَجِدُ نفسَه عَلَيها(3) - لَوجبَ أن
يَجِدَ نفسَه في سائرِ الأحوالِ علَى الحالةِ (4) التي يَجِدُها عندَ إدراكِه المُدرَكاتِ ؛ مِن الأصواتِ و الأشخاصِ و غَيرِها، و قد عَلِمنا(5) خِلافَ ذلكَ .
و أيضاً: فإنّه بكَونِه(6) حَيّاً يَصيرُ كالشيءِ الواحدِ، و هذه الصفةُ هي التي تَجعَلُ الجُملةَ جُملةً ، و كَونُه مُدْرِكاً لا حَظَّ [له] في ذلك.
و أيضاً: فإنّه يَحتاجُ في كَونِه مُدرِكاً لِمُدرِكاتٍ (7) مُختَلِفةٍ ؛ كالسَّمعِ و البَصَرِ و غَيرِهما، و لا يَحتاجُ في كَونِه حَيّاً إلىٰ شَيءٍ مِن ذلكَ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ صفةَ المُدرِكِ مخالِفةٌ لصفةِ القادرِ: أنّه يَقدِرُ علىٰ ما لا يُدرِكُ ؛ كالاعتقاداتِ و الإرادات و الأكوانِ و غَيرِها، و يُدرِكُ ما لا يَقدِرُ عَلَيه؛ كالألوانِ و الطُّعومِ و الجَواهرِ.
ص: 163
[و] أيضاً: فإنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ إلّابالمعدومِ ، و إذا وُجِدَ بَطَلَ تَعلُّقُها به، و الإدراكُ لا يَتعلَّقُ إلّابالموجودِ، و إذا عُدِمَ لَم يَتعلَّقْ به.
و أيضاً: فإنّ صفةَ القادرِ يَقَعُ فيها التفاوتُ و التزايد(1)، و الإدراكُ لا يُتزايَدُ فيه.
و أيضاً: فإنّ القُدرةَ يَخرُجُ بها الشيءُ مِن العدمِ إلَى الوجودِ، و الإدراكُ يَتعلَّقُ بالشيءِ علىٰ ما هو به، و لا يَجعَلُه علىٰ شَيءٍ مِن صفاتِه.
فأمّا إثباتُ الإدراكِ صفةً زائدةً علىٰ كَونِ المُريدِ مُريداً: فهو أنّه يُريدُ ما لا يُدرِكُ و يُدرِكُ ما لا يُريدُ.
و كذلك القولُ في الكراهة(2) و الشَّهوةِ و النِّفرةِ .
فوَضَحَ بهذه الجُملةِ أنّ كَونَ المُدرِكِ مُدرِكاً(3) صفةٌ زائدةٌ علىٰ جميعِ صفاتِه المعقولةِ .
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المُقتَضيَ لهذهِ الصفةِ كَونُه حَيّاً:(4) أنّه قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا إذا
ص: 164
كانَ حَيّاً، و وُجِدَ المُدرَكُ ، و ارتَفَعَت المَوانعُ و الآفاتُ ، و صَحَّت حَواسُّه، فلا بُدَّ مِن كَونِه مُدرِكاً؛ فلا يَخلو مِن أنّ المُقتَضيَ لِكَونِه مُدرِكاً هو وجودُ المُدرَكِ ، أو وجودُ معنىً هو الإدراكُ ، أو(1) ارتفاعُ الآفاتِ و المَوانعِ ، أو صحّةُ الحاسّةِ ، أو كَونُه حَيّاً بشَرطِ ما ذَكَرناه.(2)
[1.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ وجودُ(3) مُدرَكٍ مُقتَضياً(4) لهذه الصفةِ ؛ لأنّه كانَ يؤَدّي إلَى استحالةِ كَونِه مُدرِكاً لِذاتَين(5) مُتضادَّتَين(6) في حالةٍ واحدةٍ ، كالسوادِ و البياضِ
و ما أشبَهَهما؛ مِن حَيثُ كانَ يَجِبُ علىٰ (7) هذا القولِ أن يَكونَ علىٰ صفتَينِ مُتَضادَّتينِ .
[و] لأنّه كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ مُدرِكاً و إن لَم يَكُن حَيّاً.
[2. و] لا يَجوزُ أن يَكونَ كذلكَ (8) لوُجودِ معنىً هو إدراكٌ ؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّ المُدرَكَ لا يُدْرَكُ بإدراكٍ .
و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَصِحَّ كَونُه مُدرِكاً للمحجوبِ و البَعيدِ و الدَّقيقِ ؛ لأنّ عَينَه مُحتَمِلةٌ لذلكَ المعنىٰ .
ص: 165
[3.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ المُقتضي لذلكَ ارتفاعَ الآفاتِ و المَوانعِ ؛ لأنّه يَرجِعُ ذلكَ إلَى النَّفيِ ، و النَّفيُ لا اختصاصَ له بهذه الذاتِ دونَ غَيرِها. و الصفةُ المُختَصّةُ ببعضِ الذاتِ لا بُدَّ مِن إثباتِ مُقتَضٍ لها يَختَصُّ بتلك الذاتِ .
[4.] فأمّا صحّةُ الحاسّةِ فمَرجِعُها(1) إلىٰ مَعانٍ تَختَصُّ المَحَلَّ ؛ كالتأليفِ و ما يَجرِي مَجراه ممّا لا يَتَعدّىٰ حُكمُه مَحَلَّه، و قد بيّنّا(2) أنّ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ (35) مِن الصفاتِ ،(3) لا يَجوزُ أن يَقتَضيَه إلّا(4) ما يَرجِعُ إليها، دونَ ما يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ الذي هو في حُكمِ الغَيرِ لها.
[5.] و إذا بَطَلَ ذلكَ ، ثَبَتَ أنّ المُقتَضيَ لهذه الصفةِ كَونُ الحَيِّ حَيّاً بالشُّروطِ التي ذَكَرنا.
و يدُلُّ علىٰ ذلكَ :(5) أنّا وَجَدنا كُلَّ ما يَدخُلُ الحَيَّ يَصِحُّ الإدراكُ به، و ما يَخرُجُ مِن جُملتِه لا يَصِحُّ الإدراكُ به، فلا وَجهَ (6) لاِستحالةِ الإدراكِ به إلّا(7) خُروجُه مِن جُملةِ الحَيِّ ، كما لا وَجهَ لصحّةِ ذلكَ إلّادُخولُه في جُملتِه.
فإن قيلَ : لِمَ قُلتُم إنّ العُضوَ يَصِحُّ الإدراكُ به لِما ادَّعَيتُم [مِن دخولِه في جُملة الحَيِّ ]؟
ص: 166
قُلنا: لأنّا قد عَلِمنا أنّ الحَيَّ مِنّا يُدرِكُ بكُلِّ (1) عُضوٍ فيه حياةٌ مُتَّصِلٍ (2)، فلا يَخلُو مِن أن يَكونَ إنّما صَحَّ إدراكُه به: مِن حَيثُ كانَ مُتَّصِلاً، أو لأنّ فيه حَياةً يَرجِعُ إليها(3). فرَجَعَ (4) إلىٰ مَعنىٰ ما قُلناه [من] أنّ المذكورَ(5) دَخَلَ (6) في(7) جُملةِ الحَيِّ ، مِن غَيرِ أن تَكونَ فيه(8) حَياةٌ يَصِحُّ إدراكُه بها. و كذلكَ الأجزاءُ لَو كانت تَصيرُ(9) في حُكمِ الجُملةِ الواحدةِ بحَياةٍ واحدةٍ توجَدُ(10) في بعضِها، لَكانَ يُدرِكُ بسائرِ أبعاضِه، و إن لَم يَكُن في كُلِّ جُزءٍ حَياةٌ .(11)
فإن قيلَ : إذا كانَ كَونُه حَيّاً هو المُقتَضيَ لِكَونِه مُدرِكاً، فلِمَ افتَقَرَ أحَدُنا إلىٰ صحةِ الحَواسِّ في الإدراكِ؟ و لِمَ إذا فَسَدَت حَواسُّه أخَلَّ فَسادُها بإدراكِه ؟
فدَلَّ (12) علىٰ أنّ لِصحّةِ الحَواسِّ تأثيراً في اقتضاءِ هذه الصفةِ .
ص: 167
قُلنا: لَيسَ كُلُّ ما لا تَحصُلُ الصفةُ إلّامعه فيما بينّا يَجِبُ أن يَكونَ المقتضيَ لها(1)؛
ألا تَرىٰ أنّه لَو لَم يَكُن(2) أحَدُنا مُحدَثاً و جَوهَراً مؤَلَّفاً، لَما صَحَّ كَونُه مُدرِكاً؟ و في فَقدِ ما ذَكَرناه أو بعضِه إخلالٌ بإدراكِه، و إن لَم يَكُن لشيءٍ ممّا عَدَّدناه تأثيرٌ(3) في اقتضاءِ هذه الصفةِ .
و كذلكَ القادرُ مِنّا [قد لا يصحّ منه الفعل]؛ لمحلّ (4) عدمِ الآلةِ ، و إفسادِها لكثيرٍ(5)مِن أفعالِه، فإنّه(6) لَم يَكُن لوجودِ الآلاتِ و لا لِصفاتِها تأثيرٌ في صحّةِ الفِعلِ ، بل المُصَحِّحُ لذلك(7) كَونُه قادراً.
فأمّا وَجهُ حاجةِ أحَدِنا إلىٰ صحّةِ الحواسِّ في الإدراكِ : فهو(8) مِن حَيثُ كانَ [حيّاً] بحياة(9) تَحُلُّ أبعاضَه، و للحياةِ تأثيرٌ في وقوعِ الإدراكِ تَحُلُّ (10)، و يُستَعمَلُ مَحَلُّها
ص: 168
في الإدراكِ ، و يَصيرُ كأنّه آلةٌ فيه. و لَيسَ يَمتَنِعُ في الآلاتِ أن تَختَلِفَ صفاتُها، و يُحتاجَ فيها إلىٰ أن تَكونَ (1) علىٰ بعضِ الوجوهِ .
و يَجري أحَدُنا في الحاجةِ في الإدراكِ إلَى الآلةِ مِن حَيثُ كان حَيّاً بحَياةٍ ، مَجراه في حاجتِه في بعضِ الأحوالِ - كالكتابةِ و غَيرِها - إلىٰ آلاتٍ مخصوصةٍ ، مِن حَيثُ كانَ قادراً بقُدرةٍ ؛ فإن كانَ المُقتَضي لِكَونِه مُدرِكاً هو كَونَه حَيّاً، [كانَ ] المُقتَضي لِصحّةِ الفِعلِ كَونَه قادراً، و أن يَرجِعَ الافتقارُ إلَى الحَواسِّ و الآلاتِ إلىٰ معنىً يَخُصُّه؛ فكما أنّ القَديمَ تَعالىٰ يَستغني في جميعِ الأفعالِ عن الآلاتِ مِن حَيثُ كَونُه قادراً لنفسِه، فكذلكَ يَجِبُ أن يَستَغنيَ في إدراكِ جميعِ المُدرَكاتِ عن الحَواسِّ مِن حَيثُ كانَ حَيّاً لنفسِه.
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ وجوبِ كَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً عندَ وجودِ المُدرَكاتِ : فهو أنّا قَدَّمنا أنّ كَونَ الحَيِّ حَيّاً هو المُقتَضي لهذه الصفةِ ،(2) و ما يَقتَضي مِن الصفاتِ غَيرَه(3) لا يَقَعُ فيه اختصاصٌ ، بل حَيثُ وُجِدَ لا يَكونُ (4) إلّامُقتَضياً. و وجودُه في بعضِ المَواضعِ غَيرَ مقتَضٍ (5) [يوجِبُ ] خُروجَه(6) مِن أن يَكونَ مُقتَضياً
ص: 169
في حالٍ مِن الأحوالِ ، كما أنّ وجودَ الدَّلالةِ (36) مع ارتفاعِ المدلولِ إخراجٌ لها مِن أن تَكونَ (1) دَلالةً .
و إذا كانَ المُقتَضي حاصلاً، و الشَّرطُ الذي لابُدَّ مِنه - و هو وجودُ المُدرَكِ - ثابتاً، فلا بُدَّ مِن كَونِه مُدرِكاً؛ لأنّ ما عَدا هذا الشرطِ لا يَتأَتّىٰ فيه.
فإن قيلَ : إذا جازَ أن تَختَلِفَ (2) الشُّروطُ في المُدرِكينَ ، فلِمَ لا يَجوزُ أن تَختَلِفَ [المقتَضِياتُ؟
قُلنا: الشروطُ يَجوزُ اختلافُها](3) لأنّها غَيرُ مؤثِّرةٍ ، و المُقتَضي لا يَجوزُ اختلافُه لِتأثيرِه.
[فإن] (4) قيل: فَلِمَ [لَم](5) تُجَوِّزوا أن يَكونَ تَعالىٰ مُدرِكاً لِلمَعدومِ ، و أن يَكونَ
وجودُ المُدرَكِ شَرطاً [يَجوزُ اختلافُه](6)، كما ادَّعَيتُم ذلكَ في الشُّروطِ الباقيةِ؟
قُلنا: مَتَى(7) اقتَضَت الصفةُ أُخرىٰ ، فلا يَصِحُّ دخولُ الاختلافِ (8) في
ص: 170
[الصفةِ المُقتَضيةِ ، و](1) دخولُ ذلكَ فيها(2) نَقضٌ لاقتضائِها، [علىٰ ] ما تَقدَّمَ ذِكرُه، و تَجري في ذلكَ مَجرَى الدَّلالةِ ، بل هي آكَدُ حالاً؛ لأنّ الدَّلالةَ كاشفةٌ غيرُ مؤثِّرةٍ ، فلا يَجوزُ أن تَنقُصَ حالُ الصفةِ المُقتَضيةِ المؤثِّرةِ عن حالِ الدَّلالةِ التي لا تؤَثِّرُ.
و ليسَ كذلك الشُّروطُ؛ لأنّها رُبَّما اختَلَفَت و رُبَّما لَم تَختَلِفْ ، فحُكمُها مَوقوفٌ علَى الدَّلالةِ ؛ فإن كانَ ما له أثبَتنا الشُّروطَ في بعضِ المَواضِعِ يَقتَضي(3) ذلكَ في كُلِّ موضِعٍ أثبَتناه كذلكَ ، و إن كانَ مُختَصّاً خَصَّصناه؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَ القادرِ قادراً لمّا كانَ هو المقتَضيَ لصحّةِ الفِعلِ ، وجبَ أن يَقتَضِيَ ذلكَ في كُلِّ مَوضِعٍ؟ و لمّا كانَ الشرطُ في كَونِ المقدورِ مقدوراً عدمَه،(4) و كانَ ذلكَ شَرطاً يَرجِعُ إليه لا إلىٰ مَن تَعَلَّقَ به، وجبَ أن نُثبِتَه(5) في كُلِّ قادرٍ. و لمّا كانَ الشرطُ فيه(6) صحّةَ بعضِ الآلاتِ ، و كانَ هذا الشرطُ مُختَصّاً - مِن حَيثُ افتَقَرنا إليه لأمرٍ يَرجِعُ إلَى القُدرةِ ، و لَم يَكُن راجعاً إلَى المقدورِ نَفسِه كالشرطِ الأوّلِ - خَصَّصناه بمَن(7) كانَ قادراً علىٰ هذا الوَجهِ ، و نَفَيناه(8) عمّن يَقدِرُ لِنفسِه.
ص: 171
فكذلكَ القولُ في وجودِ المُدرَكِ و صحّةِ الحَواسِّ ، [و هو] أنّ وجودَ المُدرَكِ لمّا كان أمراً راجِعاً إلى المُدرَكِ [و] لَولاه لَاستحالَ تَعلُّقُ الإدراكِ به، وجب أن يَكونَ شَرطاً في كُلِّ مُدرِكٍ ، و يَجري مَجرىٰ عدمِ المقدورِ. و لمّا كانَ صحّةُ الحَواسِّ شَرطاً فيمَن كانَ حَيّاً علىٰ بعضِ الوجوهِ (1)، لَم يَجِبْ إثباتُه شَرطاً في القَديمِ تعالى؛ لِفَقدِ حاجتِه إليه، و جَرىٰ مَجرَى اشتراطِ الآلاتِ في الأفعالِ . و هذا واضحٌ في الفَرقِ بَينَ الأمرَينِ .
فأمّا الدليلُ علىٰ أنّه لا حالَ للسَّميعِ البَصيرِ بكَونِه كذلكَ زائدةً علىٰ كَونِه حَيّاً، لا آفةَ به(2)، فهو أنّه لَو كانَ له حالٌ زائدةٌ علىٰ ما ذَكَرناه، لَجازَ أن يَكونَ حَيّاً لا آفةَ به [، و لا يوصَف بأنّه سميعٌ بصيرٌ، و المعلومُ خِلاف ذلك](3)؛ لأنّه لا تَعَلُّقَ بَينَ هاتَينِ الصفتَينِ مِن وَجهٍ يَقتَضي وجوبَ حُصولِ أحَدِهما مع الأُخرىٰ ، فلمّا استَحالَ ذلكَ ، عَلِمنا أنّه لا حالَ للسَّميعِ و البَصيرِ تَزيدُ علىٰ ما ذَكَرناه.
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا ما يَقولُونَ في [صفتَي] وجودِ الجَوهرِ و تحيُّزِه، بأنّ (4) إحداهما لا تَنفَكُّ (5) مِن الأُخرىٰ ، مع أنّهما صفتانِ مُختَلِفَتانِ .
و ذلكَ : لأنّ التحيُّزَ مشروطٌ بالوجودِ، و ما يَقتَضي التحيُّزَ مِن كَونِه جَوهراً
ص: 172
حاصلٌ في كُلِّ حالٍ ، فلذلكَ لَم تَنفَكَّ (1) كُلُّ واحدةٍ (2) مِن الصفتَينِ مِن الأُخرىٰ . و لَيسَ هذا في كَونِه حَيّاً و سَميعاً و بَصيراً.
علىٰ أنّ الوجودَ قد يَحصُلُ في غَيرِ الجَوهرِ، و لا يَكونُ مُتحيِّزاً، فعُلِمَ بذلك انفكاكُ (3) الصفتَينِ . و لَيسَ يُمكِنُ وجودُ حَيٍّ لا آفةَ به، مِن غَيرِ أن يَكونَ سَميعاً بَصيراً.
و أيضاً: فإنّه لو كانَت له حالٌ زائدةٌ ، لَجازَ أن يَعلَمَه سَميعاً بَصيراً مَن لا يَعلَمُه حَيّاً لا آفةَ به، أو يَعلَمَه حَيّاً لا آفةَ به مَن لا يَعلَمُه سَميعاً بَصيراً، فلمّا فَسَدَ ذلكَ صَحَّ ما ذَكَرناه.
فإن قيلَ : ألَيسَ أحَدُنا قد يَكونُ [حَيّاً] و إن لَم يَكُن سَميعاً [بصيراً]؟ فكيفَ تَدَّعونَ أنّ المُقتَضيَ لِكَونِه علىٰ (37) هاتَينِ الصفتَينِ هو كَونُه حَيّاً؟
قُلنا: قد ذَكَرنا فيما اعتَبَرناه انتفاءَ الآفةِ ، احترازاً [ممّا] ذَكَرتَه؛ لأنّ أهلَ اللُّغةِ إنّما وَضَعوا هذه العبارةَ (4) لِمَن(5) صَحَّ - و هو علىٰ ما هو عَلَيه - أن يُدرِكَ المَسموعاتِ و المُبصَراتِ إذا وُجِدَت، فلا يَحُدّونَ الضَّريرَ بأنّه بَصيرٌ،(6) و الأصَمَّ بأنّه سميعٌ ؛ لأنّهما(7) و إن كانا حَيَّينِ فلا يَصِحُّ أن يُدرِكا المَسموعاتِ و المُبصَراتِ إذا وُجِدَت، و هما علىٰ ما كانا علَيه.
ص: 173
فأمّا القَديمُ تَعالىٰ ، فإنّه يوصَفُ في كُلِّ حالٍ بأنّه سَميعٌ بَصيرٌ، مِن حَيثُ كانَ في كُلِّ حالٍ حَيّاً، و لَيسَ هو تَعالىٰ ممّن يُدرِكُ بآلةٍ أو حاسّةٍ ، فَيُعتَبَرَ فيه صحّتُها و انتفاءُ الآفةِ عنها، فيَكفي في استحقاقِه الوَصفَ (1) بأنّه سَميعٌ بَصيرٌ كَونُه حَيّاً، و لهذا نَقولُ : إنّه تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ سَميعٌ بَصيرٌ، و لا نَقولُ : إنّه فيما لَم يَزَلْ سامِعٌ أو مُبصِرٌ؛ لأنّ الوَصفَ بأنّه سامِعٌ و مُبصِرٌ يَقتَضي وجودَ المَسموعِ و المُبصَرِ؛ لأنّه يُفيدُ الإدراكَ له، و الإدراكُ لا يَتناوَلُ إلّاالمَوجودَ. و لَيسَ كذلك قولُنا: سَميعٌ و بَصيرٌ.
فإن قيلَ : فإذا وَصَفتُموه تَعالىٰ بأنّه سامِعٌ و مُبصِرٌ مِن حَيثُ كانَ مُدرِكاً للأصواتِ و المَرئيّاتِ ، فإنّما(2) وَصَفتُموه تَعالىٰ بأنّه شامٌّ مِن حيثُ إدراكِ الرَّوائِحِ ، و ذائقٌ مِن حَيثُ إدراكِ الطُّعومِ !
قُلنا: الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ واضحٌ ؛ لأنّ الشَّمَّ و الذَّوقَ لَيسا باسمَينِ للإدراكِ (3)، و إنّما الشامُّ هو(4) المُقرِّبُ للجسمِ المَشمومِ إلىٰ حاسّةِ شَمِّه، و الذائقُ هو(5) المُقرِّبُ للجسمِ المَذوقِ إلىٰ حاسّةِ ذَوقِه علىٰ جهةِ المُماسّةِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ ما ذَكَرناه: أنّهم يَقولونَ : «شَمَمتُ كَذا فلَم أجِدْ له ريحاً» و «ذُقتُه
فلَم أجِدْ له طَعماً»؛ فلَو كانَ الشمُّ و الذَّوقُ هما الإدراكَ بعَينِه، لَكانَ هذا
ص: 174
الكلامُ مُتناقِضاً مِن حيثُ تَضمَّنَ النَّفيَ وَ الإثباتَ ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لا يَقولونَ : «سَمِعتُ كَذا فلَم أُدرِكْه» و لا «أَبصَرتُه فلَم أُدرِكْه» لمّا كانَ السامِعُ و المُبصِرُ هو المُدرِكَ؟ و نَظيرُ ما ذَكَرناه: «نَظَرتُ إلىٰ كذا فلَم أرَه» في أنّ النظَرَ غَيرُ الرؤيةِ .
فكيفَ يَكونُ الشَّمُّ و الذَّوقُ اسمَينِ للإدراكِ ، - و هُما توصَفُ (1) بِهما الأجسامُ التي لا يَصِحُّ إدراكُها بحاسّةِ الشمِّ و الذَّوقِ - الإدراكَ المختصَّ بهما؟ ألا ترىٰ أنّهم لا يَمتَنِعونَ في أن يَقولُوا: «ذُقتُ العَسَلَ » و «شَمَمتُ الرَّيحانَ » فيُجرونَ الوَصفَ علىٰ نفسِ الأجسامِ؟ فدَلَّ ذلكَ على أنّ المعنىٰ ما ذَكَرناه.
فإن قيلَ : فهَلّا وَصَفتُموه تَعالىٰ أنّه آلِمٌ و مُلتَذٌّ؛ مِن حَيثُ إدراكِ اللذَّةِ و الألمِ ، و ألا وَصَفتُموه أيضاً بأنّه يُحِسُّ؟
قُلنا: [أمّا الآلِم مِنّا](2) فلَيسَ هو المُدرِكَ للألمِ فقط، بل هو المُدرِكُ له مع نُفورِ نفسِه، و كذلكَ المُلتَذُّ هو المُدرِكُ للَّذَّةِ مع شَهوَتِه لها؛ ألا تَرىٰ أنّ التقطيعَ الذي يَحصُلُ في جسمِ الحَيِّ قد يُدرِكُه تارةً و هو نافِرٌ عنه فيَكونُ آلِماً، و يُدرِكُه أُخرىٰ و هو مُشتَهٍ (3) له - كالجَرِبِ الذي يَلتَذُّ بالحَكِّ - فيَكونُ مُلتَذّاً به.
و إذا كان القَديمُ تَعالىٰ لا يَجوزُ عليه الشَّهوةُ و النِّفارُ، لَم يَجُز أن يَكونَ آلِماً و لا مُلتَذّاً، و إن كانَ مُدرِكاً لسائرِ المُدرَكاتِ .
ص: 175
فأمّا المُحِسُّ فهو المُدرِكُ بالحاسّةِ ، و القَديمُ تَعالىٰ مُدرِكٌ بغَيرِ حاسّةٍ .
و قد كانَ أبو عليٍّ (1) يُجيبُ عن هذا، بأن يَقولَ : الإحساسُ هو أوّلُ العِلمِ (2) الذي يَحصُلُ فينا بالمُدرَكاتِ ، و إذا كانَ كَونُه تَعالىٰ عالِماً لَيسَ بمتجدِّدٍ، لَم يوصَفْ بأنّه مُحِسٌّ . و كُلُّ ذلكَ بيِّنٌ .
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ (38) القَديمُ تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ علىٰ صفةِ المُدرِكِ ، و إن كانَ تعلُّقُ هذه الصفةِ يَتجدَّدُ(3) عندَ وجودِ المُدرَكاتِ؟(4) كما تَقولونَه في تَعلُّقِ القادرِ؛ فإنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَخرُجُ بِعدمِ (5) مقدورِه مِن صفةِ القادرِ و إن زالَ التعلُّقُ؟
قُلنا: الذي يُفسِدُ ما ذَكَرتُموه، أنّ أحَدَنا - مع كَونِه حَيّاً لا آفةَ به - يَتجدَّدُ كَونُه مُدرِكاً إذا وُجِدَ المُدرَكُ . و الذي يَدُلُّ علىٰ تَجدُّدِه له: أنّ هذه الصفةَ ممّا يَجِدُه الحَيُّ مِن نفسِه، فلَو كانَت حاصلةً له غَيرَ وُجودِ المُدرَكِ و غَيرَ مُتجدِّدةٍ ، لَوجبَ أنْ
ص: 176
يَجِدَها مِن نَفسِه كما يَجِدُها عندَ حُصولِ المُدرَكِ ، و قد عَلِمنا مِن أنفُسِنا خِلافَ ذلكَ .
و إذا ثَبَتَ أنّ هذه الصفةَ فينا مُتجدِّدةٌ عِندَ وجودِ المُدرَكِ ، ثَبَتَ أنّها في القَديمِ كذلكَ ؛ لأنّ الشرطَ الذي أثبَتناه - مِن وجودِ المُدرَكِ - واجبٌ مِن أجلِ الصفةِ التي يُدرِكُ الذاتَ عَلَيها، فلا بُدَّ(1) أن تَكونَ (2) مشروطةً بالوجودِ، فوجبَ اعتبارُ هذا الشرطِ في كُلِّ مُدرِكٍ .(3)
ص: 177
ص: 178
قد ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ قادرٌ، و للقادرِ تَعلُّقٌ بالمقدورِ؛ بدَلالةِ صحّةِ وجودِه مِن جهتِه دونَ غَيرِه.(1) و العدمُ يُحيلُ التعلُّقَ ، [و] ما يَتعلَّقُ بغَيرِه إذا كانَ إنّما يَتعلَّقُ به لنفسِه [، فإنّ عَدمَه يُخرِجُه مِن التعلّق](2).
[الدليل الأوّل](3)
و الدليلُ علىٰ ذلكَ أنّ الإرادةَ إذا عُدِمَت خَرَجَت مِن تَعلُّقِها بما كانَت تَتعلَّقُ به
ص: 179
و هي موجودةٌ ، و المؤَثِّرُ في خُروجِها هو العدمُ .(1)
و هذه الجُملةُ لا تَتِمُّ إلّابأن يُدَلَّ علىٰ أشياءَ :
أوّلُها: أنّ الإرادةَ لها تَعلُّقٌ بالمُرادِ.
و ثانيها: أنّها عندَ العدمِ تَخرُجُ مِن التعَلُّقِ .
و ثالثُها: أنّ المؤَثِّرَ في خُروجِها عدمُها(2) دونَ غَيرِه.
و رابعُها: أنّ حُكمَ كُلِّ شيءٍ تَعلَّقَ بغَيرِه لنفسِه، حُكمُها(3) في أنّ العدمَ يُحيلُ تَعلُّقَه.(4)
و الدليلُ علىٰ أنّ الإرادةَ مُتعلِّقةٌ : أنّا وَجَدنا المُراداتِ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ تَنحَصِرُ، فلا يَصِحُّ أن نُريدَ(5) المُرادَ بأنْ لا يَتَناهىٰ مُتَّصِلاً، فلَولا تَعلُّقُ الإرادةِ ، و أنّها لا تَتَناوَلُ أكثَرَ مِن مُرادٍ واحدٍ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، لَم يَجِبْ ذلكَ .
فلَم يَبقَ لأحَدٍ [إلّا] (6) أن يَقولَ : إنّما انحَصَرَتِ المُراداتُ المُفصَّلةُ ، لاِنحصارِ كَونِ المُريدِ مريداً، و هو المُتعلِّقُ في الحقيقةِ دونَ الإرادةِ .
و ذلكَ : أنّ انحصارَ الصفةِ لا يَقتَضي مُتعلَّقَها؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَه تَعالىٰ عالِماً صفةٌ واحدةٌ ، و هو مع ذلك يَتعلَّقُ بما لا يَتَناهى ؟
ص: 180
و أيضاً: فإنّ الصفةَ الواجبةَ عن العلّةِ تابعةٌ لها، فإذا كانَت الصفةُ التي تَجِبُ عنها مُتعلِّقةً ، وجبَ فيها أن تَكونَ مُتعلِّقةً .
يُبيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ العِلمَ بأنّه تَعالىٰ لا ثانِيَ له، لَمّا لَم يَكُن مُتعلِّقاً في الحقيقةِ ، لَم تَكُن الصفةُ الواجبةُ عن هذا العِلمِ مُتعلِّقَهُ .
و أيضاً: فإنّ معنىٰ قَولِنا في الشيءِ : «إنّه مُتعلِّقٌ بغَيرِه»، أنّه يَصِحُّ مِن أجلِه ظُهورُ حُكمٍ في ذلكَ الغيرِ أو فيما(1) يَتَّصِلُ به - و هذا بعَينِه قائِمٌ في الإرادةِ ؛ لأنّ بها يَقَعُ الفِعلُ على وَجهٍ دونَ وَجهٍ -، و أن يؤَثِّرَ في أحكامِه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ التأثيرَ هو كَونُ المُريدِ مُريداً.
لأنّه: و إن كانَ كذلكَ ، [إلّا أنّ الإرادة هي](2) المؤَثِّرةُ في كَونِ المُريدِ مُريداً، فقَد عادَ التأثيرُ إليها و إن كانَ بواسطةٍ .
و أيضاً: فإنّ الحَياةَ لمّا لم تَكُن مُتعلِّقةً بالغَيرِ، لَم توجِبْ صفةً متعلِّقةً ، ففي إيجابِ الإرادةِ صفةً مُتعلِّقةً دَلالةٌ علىٰ أنّها في نفسِها(3) مُتعلِّقةٌ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الإرادةَ تَخرُجُ مِن التعلُّقِ عندَ العدمِ ، و هو [الثاني مِن] (4) القِسمةِ :
فهو أنّ أحَدَنا (39) قد يُريدُ الأكلَ مثَلاً أو غَيرَه(5) مِن الأفعالِ [في وقتٍ من الأوقات]، فإذا تَقَضَّىٰ (6) فلا بُدَّ مِن الإرادةِ في الثاني؛ لأنّها لَو كانَت باقيةً علىٰ ما
ص: 181
كانَت عَلَيه، لَوجبَ أن تَكونَ (1) مُتعلِّقةً بما يَقتَضي(2) الأَكلَ . و لا يَجوزُ تعلُّقُ الإرادةِ بالمُقتَضي؛ لأنّها لَو جازَ ذلكَ فيها، لَجازَ أن يَبتَدئَ إرادةً تَتعلَّقُ علىٰ هذا الوَجهِ أيضاً؛ فإنّها لَو كانَت مُتعلِّقةً [به](3)، لَكانَ المُريدُ لِما كانَ مُريداً له قَبلَ ذلكَ ، و قد عَلِمنا أنّه لا يَجِدُ نَفسَه(4) مُريداً لِما يَقتَضي.
و لا يَجوزُ أن تَكونَ (5) باقيةً و هي غَيرُ مُتعلِّقةٍ بذلكَ المُرادِ و لا بغَيرِه(6)، و لا يَجوزُ أيضاً أن تَتعلَّقَ (7) بعَينِ هذا المُرادِ بَعدَ أن كانَت مُتعلِّقةً به؛ لأنّ علَى الوَجهَينِ جميعاً يَقتَضي ذلكَ قَلبَ جنسِها؛ لأنّ تَعلُّقَها بما(8) تَتعلَّقُ به يَرجِعُ إلىٰ صفةِ نَفسِها، بخُروجِها عنه علىٰ ذلك الوجودِ(9) مع الوُجودِ، [و] لا يَجوزُ إلّابأن تَخرُجَ عن صفةِ
نَفسِها التي تَقتَضي ذلكَ التعلُّقَ بشرطِ الوجودِ.
فوضَحَ بهذه الجُملةِ أنّها(10) تُعدَمُ ، فلا يَخلو إذا عُدِمَت [أن] تَكونَ : مُتعلِّقةً بالمُرادِ كما كانَت، أو مُتعلِّقةً بمعنىً ، أو تَكونَ قد خَرَجَت عندَ العدمِ مِن التعلُّقِ .
ص: 182
و قد أفسَدنا تَعلُّقَها بالمُرادِ، و قد يَقتَضي وَجهَينِ (1)، و أفسَدنا أيضاً تَعلُّقَها بغَيرِه، فلَم يَبقَ إلّاالخُروجُ مِن التعلُّقِ ، و هو الذي قَصَدناه.
علىٰ أنّ القولَ بأنّها - و هي معدومةٌ - مُتعلِّقةٌ بالمُرادِ أو بغَيرِه(2) ظاهرُ البُطلانِ ؛ لأنّها - و هي معدومةٌ - لا تَختَصُّ (3) بالمُريدِ، و إنّما تَختَصُّه بأن توجَدَ(4) في بَعضِه، و ذلكَ لا يَتَأتّىٰ فيها و هي معدومةٌ ، فإذا(5) لَم تَختَصَّ (6) المُريدَ و تؤَثِّرْ في كَونِه مُريداً، فكيف تَتعلَّقُ بالمُرادِ(7)، و تَعلُّقُها به(8) لا يُعقَلُ إلّابتَوسُّطِ كَونِ المُريدِ مُريداً؟
على أنّ الإرادةَ لو تَعلَّقَت في العدمِ بمُرادِها و قد ثَبَتَ أنّ لها ضِدّاً و هي الكَراهةُ ، لَوجبَ أن تُنافِيَها؛ لِاشتراكِهما في الاختصاصِ بالصفةِ التي يَرجِعُ التنافي إليها في حالِ العدمِ ، و هذا يوجِبُ استحالةَ اجتماعِ الإرادةِ و الكَراهةِ للشيءِ الواحدِ علىٰ وَجهٍ واحدٍ في العدمِ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
علىٰ أنّ معنىٰ قولِنا في الشيءِ الواحدِ: «إنّه متعلّق بغيره(9)» هو أنّه يَصِحُّ لأجلِه
ص: 183
ظُهورُ حُكمٍ في ذلكَ الغَيرِ، أو فيما يَتَّصِلُ (1) به. و قد عَلِمنا أنّ هذا المعنىٰ لا يَتأتّىٰ في الإرادةِ المعدومةِ ؛(2) فكيفَ يُقالُ : «إنّها مُتَعلِّقةٌ بغَيرِها»(3)؟
علىٰ [أنّ ] الإرادةَ [لَو تَعلَّقَت بالغير](4) في حالِ العدم(5) لَوجبَ أن يَكونَ تَعالىٰ مُريداً [و كارهاً](6) للشيءِ الواحدِ، في الوقتِ الواحدِ، علىٰ وَجهٍ واحدٍ؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُريدٌ بإرادةٍ توجَدُ في غَيرِ مَحَلٍّ . و كانَ يَجِبُ أيضاً في الواحدِ مِنّا مِثلُ ذلكَ ؛ يَعني أن يَكونَ مُريداً و كارِهاً للشيءِ الواحدِ، علىٰ وَجهٍ واحدٍ، في وقتٍ واحدٍ. و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ.
فأمّا الكلامُ علَى الفصلِ الثالثِ ، و هو: «أنّ المؤَثِّرَ في خُروجِ الإرادةِ عن التعَلُّقِ ، هو عدمُها دونَ غَيرِه».
فالذي(7) يَدُلُّ عَلَيه: أنّه قد ثَبَتَ خُروجُها عندَ العدمِ عن التعَلُّقِ ، و ثُبوتِه، أمّا مع الوجودِ، فلا يَثبُتُ [إلّا] مِن أربعةِ أقسامٍ :
إمّا أن يَكونَ المؤَثِّرُ في خُروجِها هو عدمَها، أو تَقَضّيَ (8) مُرادِها، أو خُروجَها عن
ص: 184
إيجابِ الصفةِ للمُريدِ، أو خُروجَها عن الصفةِ التي تَقتَضي التعلُّقَ .(1)
و لا يَجوزُ أن يَكونَ تَقَضّي(2) المُرادِ هو المؤَثِّرَ في خُروجِها؛ لأنّها قد تُعدَمُ (3) و تَخرُجُ عن التعلُّقِ بخُروجِ المُريدِ مِن أن يَكونَ مُريداً بها، و إن كانَ المُرادُ لَم يَتَقَضَّ (4)؛ لأنّ ما أحالَ تَعلُّقَ الشيءِ بغَيرِه، يُحيلُ كَونَه علَى الصفةِ التي معها يَتعلَّقُ (40) إذا كانَ لا تَعلُّقَ (5) له سِواه؛ ألا تَرىٰ أنّا قد عَلِمنا بأنّ تَقَضّيَ (6) المُرادِ لَمّا أحالَ تَعَلُّقَ (7) الإرادةِ بما عَلِمناه مُتَقَضّياً، أحالَ وجودَ الإرادةِ له، و كَونَ الميّتِ ميّتاً لمّا أحالَ تَعلُّقَ العِلمِ به أحالَ وجودَ العِلمِ في قَلبِه، و عدمَ الجَوهرِ كما أحالَ تَعلُّقَ الكَونِ به أحالَ وجودَه ؟
فلَو كانَت الإرادةُ (8) تَتعلَّقُ في الوجودِ و العدمِ معاً، و إنّما خَرَجَت في حالِ العدمِ مِن التعلُّقِ لِتَقَضّي(9) المُرادِ، لَكانَ ما يُحيلُ تَعلُّقَها يُحيلُ كَونَها علَى الصفةِ التي معها تَتعلَّقُ (10). فكانَ يَجِبُ إذا تَقَضّىٰ مُرادُها، و استَحالَ تَعلُّقُها به، أن يَستَحيلَ عدمُها، و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَستَحيلَ وجودُها؛ لأنّها تَتعلَّقُ في الوجودِ و العدمِ معاً. و هذا يوجِبُ خُروجَها عندَ تَقَضّي المُرادِ مِن الوجودِ و العدمِ جميعاً، و في استحالةِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّها لا تَتعلَّقُ (11) و هي معدومةٌ .
ص: 185
و أمّا الدَّلالةُ علىٰ أنّها لَم تَخرُجْ عن التَعلُّقِ لأجل خُروجِها مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ، و هو(1) القِسم الثالثُ : فهو أنّها عندَ العدمِ تَخرُجُ مِن الأمرَينِ معاً: مِن التعلُّقِ بالمرادِ، و إيجابِ الصفةِ للمُريدِ؛ فيَجِبُ أن يَكونَ العدمُ هو المؤثِّرَ في الأمرَينِ معاً.(2)
و أيضاً فإنّه لَيسَ القولُ بأنّها «خَرَجَت مِن التعلُّقِ بالمُرادِ لِخُروجِها مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ»، [بأولىٰ مِن القولِ بأنّها «خَرَجَت مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ](3) لأجلِ خُروجِها من التعلُّقِ بالمرادِ»؛(4) لأنّ كِلا(5) الأمرَينِ يَثبُتانِ مع الوجودِ و يَثبُتانِ مع العدمِ .
و أمّا الكلامُ على القِسم الرابعِ : فهو أنّ العدمَ يؤثِّرُ في خُروجِها مِن التعلُّقِ ، كما يؤثِّرُ في خُروجِها عن الصفةِ التي تَقتَضي(6) التعلُّقَ ؛ لأنّ عندَ العدمِ يَنتَفي كِلا الأمرَينِ في الوجودِ، [و عند انتفائِهِ ] يَثبُتانِ معاً؛ فيَجِبُ أن يَكونَ العدمُ علّةً فيهما.
و لا بُدَّ لِمَن تَعلَّقَ بذلكَ إذا قيلَ له: و لِمَ خَرَجَتِ الإرادةُ مِن الصفةِ التي تقتضي التعلُّقَ؟
أن يَقولَ : إنّما خَرَجَت لأجلِ عدمِها، فيَؤولُ الأمرُ إلىٰ أنّ العدمَ هو المؤثِّرُ في الخُروجِ مِن التعلُّقِ : إمّا بنفسِه، أو بواسطةٍ .
علىٰ أنّ ذلك يوجِبُ خُروجَ كُلِّ معدومٍ عن الصفةِ التي تَقتَضي تَعلُّقَه، فيَتِمُّ مِنه
ص: 186
غَرَضُنا، و يَثبُتُ أنّ صانِعَ العالِمَ لا يَجوزُ أن يَكونَ معدوماً؛ لأنّ عدمَه كانَ يَجِبُ أن يُخرِجَه عن التعلُّقِ ، و عن الصفةِ التي تَقتَضي التعلُّقَ .
و أمّا الكلامُ علَى الفصلِ الرابع و قِسمِه الأوّلِ (1): فظاهرٌ؛ لأنّه إذا ثَبَتَ في الإرادةِ أنّ عدمَها يُخرِجُها مِن تعلُّقِها دونَ غَيرِها، فيَجِبُ في كُلِّ مُتعلِّقٍ بغَيرِه(2) لنفسِه أن يَكونَ عدمُه مُخرِجاً له مِن التعلُّقِ . و في هذا صحّةُ ما أوجَبناه [مِن] وجودِ صانعِ العالَمِ ؛ لِثُبوتِ كَونِه قادراً، علىٰ ما تَقدَّمَ .(3)
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : [إنّ عَدَمَ ](4) الإرادةَ إنّما أحالَ تعلُّقَها بالمُرادِ مِن حَيثُ كانَ وجودُها شَرطاً في تَعلُّقِها، و لَم يَثبُتْ في صانِعِ العالَمِ تَعالىٰ أنّ وجودَه شَرطٌ في تَعلُّقِه.
و ذلكَ : أنّ المُستَفادَ مِن قولِنا: «إنّ الوجودَ شَرطٌ» أنّ ارتفاعَه يُحيلُ الحُكمَ ، فيَصيرُ بحُصولِ الحُكمِ أنّ عدمَ الإرادةِ إنّما أحالَ تَعلُّقَها بِالمُرادِ؛ لأنّ عدمَها يُحيلُ هذا التعلُّقَ ، و هذا تعليلُ الشيءِ بنفسِه.
و لَيسَ له أيضاً أن يَقولَ : إنّ عدمَ الإرادةِ إنّما أحالَ تَعلُّقَها [بالمراد](5) لأنّه(6)يوجِبُ الصفةَ المخصوصةَ للمُريدِ، و لأنّ تَعلُّقَها إنّما يَتعلَّقُ به هذا المُتعلّقُ
ص: 187
المخصوصُ بالإرادةِ (1).
و ذلكَ : أنّ إيجابَ الإرادةِ الصفةَ للمُريدِ تابعٌ لوجودِها، و مشروطٌ به، فلا يَجوزُ أن تُعَلَّقَ استحالةُ عدمِها و وجوبُ وجودِها بأنّها تُوجِبُ الصفةَ للغَيرِ؛ لأنّ هذا يَقتَضي أن يَكونَ وجودُها تابعاً لإيجابها، (41) و قد بيّنّا أنّ إيجابَها تابعٌ لوجودِها، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ الشيءُ تابعاً(2) لِما هو تابِعٌ له، و أن يَتعلَّقَ كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحِبِه.
و هذا بعَينِه هو الجَوابُ عن قولِهم: «إنّ الإرادةَ إنّما وجبَ وجودُها حَتّىٰ تَتعلَّقَ [بأحَدِ مُراداتِها](3) التعلُّقَ المَخصوصَ »؛ لأنّ هذا التعلُّقَ الذي أشاروا إليه مشروطٌ بالوجودِ و تابعٌ له، فكيفَ يُجعَلُ الوجودُ مشروطاً بِه، و يُعلَّقُ (4) كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بالآخَرِ؟ و فَسادُ ذلكَ ظاهرٌ.
[الدليل الثاني](5)
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ العدمَ يَمنَعُ مِن تَعلُّقِ ما يَتعلَّقُ بغَيرِه لنفسِه: أنّ القُدرةَ التي يَقدِرُ بها أحَدُنا لا تَتعلَّقُ (6) إلّاو هي موجودةٌ ، و متىٰ عُدِمَت خَرَجَت عن التعلُّقِ ؛ علىٰ (7) ما ذَكَرناه [من] أنّها لَو تَعَلَّقَت مع العدمِ لَصَحَّ الفِعلُ بها و هي
ص: 188
معدومةٌ ؛ فكيفَ يَصِحُّ الفِعلُ بها و هي لا تَختَصُّ (1) القادرَ؟ لأنّها إنّما تَختَصُّه بأن توجَدَ في بَعضِه(2).
و لَو صَحَّ أن يَقدِرَ أحَدُنا بقُدرةٍ معدومةٍ ، و قد عَلِمنا أنّ ما في العدمِ مِن القُدَرِ لا يَتَناهى، لَما تَعذَّرَ(3) علىٰ أحَدِنا حَملُ [جسمٍ ] مِن الأجسامِ و إن ثَقُلَ ، و لَما صَحَّ (4)أن يَخِفَّ (5) عَلَيه في بَعضِ الأوقاتِ ما كانَ يَثقُلُ [عليه] في غَيرِه، و استَحالَ أيضاً أن يَكونَ بعضُنا أقدَرَ(6) مِنْ بعضٍ و أمنَعَ مِنه.
و في بُطلانِ كُلِّ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّ القُدَرَ لا تَتعَلَّقُ و هي معدومةٌ . و إذا كانَ العدمُ هو المُقتَضيَ لخُروجِها مِن التعلُّقِ - علىٰ ما ذَكَرناه في الإرادةِ - وجبَ في كُلِّ متعلِّقٍ بغَيرِه لنفسِه مِثلُ ذلكَ .
ص: 189
ص: 190
[ال] فصلُ [السادس] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ (1)
قد دَلَّلنا علىٰ أنّه تَعالىٰ موجودٌ، فلَو لَم يَكُن قَديماً لَكانَ مُحدَثاً؛ لأنّه لا مَنزِلةَ في الوجودِ بَينَ القِدَمِ و الحُدوثِ . و لَو كانَ مُحدَثاً لأدّىٰ إلىٰ أحَدِ الأمرَينِ :
إمّا إلىٰ وجودِ ما لا نِهايةَ له مِن المُحدِثينَ ، و مُحدِثي المُحدِثينَ .(2)
أو إلىٰ وجودِ مُحدَثٍ لا مُحدِثَ له.
و كِلا الأمرَينِ فاسِدٌ؛ لأنّا قد دَلَّلنا على(3) حاجةِ المُحدَثِ مِن حَيثُ كان مُحدَثاً إلَى المُحدِثِ .(4) و هذه قضيّةٌ مُستَمِرّةٌ في كُلِّ مُحدَثٍ ؛ لاستمرارِ علّتِها.
و وجودُ ما لا يَتَناهىٰ مِن المُحدِثينَ مُحالٌ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ قِدَمِ بَعضِ المُحدَثاتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا بُدَّ مِن إثباتِ قَديمٍ مّا، هو موجودٌ فيما لم يَزَلْ منها؟
و لأنّه كانَ يَجِبُ أنّ العالَمَ ما حَدَث إلّابَعدَ [حُدوثِ حَوادِثَ لا نِهايةَ لها،](5)
ص: 191
و قد عَلِمنا أنّ أحَدَنا لا يَصِحُّ أن يَبتَدئَ (1) فعلاً مِن الأفعالِ بَعدَ أن يَفعَلَ قَبلَه ما لا
نِهايةَ له، و إذا استَحالَ هذا مُستَقبَلاً، استَحالَ ماضياً [؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا استَحالَ في المُستَقبَلِ وجودُ الضّدَّينِ في حالةٍ واحدةٍ ، فإنّ وجودَه مُحالٌ في الماضي ؟] و قد تَقدَّمَ الكلامُ علىٰ هذا مُستَقصىً في بابِ حُدوثِ الأجسامِ .(2)
و أيضاً: فإنّ المُحدَثَ لا يَقَعُ إلّامِن قادرٍ، و لا بُدَّ(3) مِن تَقدُّمِ كَونِه قادراً علىٰ كَونِه فاعلاً - علىٰ ما سَنَدُلُّ عَلَيه فيما يأتي مِن الكِتابِ ، بعَونِ اللّٰهِ تَعالىٰ (4) -، و ما تَقدَّمَ عَلَيه غَيرُه، فلا بُدَّ و أن يَكونَ له أوّلٌ . [و هذا يُؤدّي إلى] ما لا نِهايةَ له.
[فإن قيلَ : لِمَ قُلتُم: إنّ المُحدَثَ لا يَقَعُ إلّامِن قادرٍ؟](5)
قُلنا: ما اقتَضىٰ حاجةَ المُحدَثِ مِن حَيثُ كانَ مُحدَثاً إلىٰ غَيرِه، يَقتَضي حاجتَه إلىٰ مَن له صفةٌ مخصوصةٌ ، فمَن أثبَتَ مُحتاجاً إلىٰ غَيرِ مَن له [هذه الصفةُ ]، كمَن نَفىٰ حاجتَه علىٰ كُلِّ وَجهٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّا إنّما تَوصَّلنا إلىٰ إثباتِ المُحدِثِ لحاجةِ تصرُّفِنا إليه(6)؟، و قد عَلِمنا أنّ تصرُّفَنا إنّما يَحتاجُ إلىٰ مَن له صفةٌ مخصوصةٌ ، و هي صفةُ المُختارِ القادرِ. فإثباتُ مَن يَحتاجُ التصرُّفُ إليه مِن غَيرِ أن يَكونَ علىٰ هذه
ص: 192
الصفةِ التي بها تَوصَّلنا إلَى المُحدِثِ كنَفيِه(1)، و هذا يُغني عن سائرِ ما تُكُلِّفَ مِن الكلامِ (42) علىٰ أصحابِ الطبائعِ ؛(2) فهو طويلٌ .
فإن قيلَ : هذا الذي اعتَمَدتُموه يَقتَضي إثباتَ قَديمٍ يقتضي(3) الصفةَ ؛(4) فمِن أينَ أنّه(5) هو الذي صَنَعَ العالَمَ (6)؟ و ما تُنكِرونَ أن يَكونَ صانِعُ العالَمِ بعضَ الذَواتِ المُحدَثةِ ، و أن يَكونَ (7) الصانِعُ لتلكَ (8) الذاتِ هو القَديمَ؟
قُلنا: لا بُدَّ مِن كَونِ صانِعِ العالَمِ قادراً، و القادرُ لا يَعدو إحدىٰ مَنزِلتَينِ :
إمّا أن يَكونَ يَستَحِقُّ هذه الصفةَ في حالٍ يَجِبُ استحقاقُه الصفةَ فيها.
أو في حالٍ كانَ يجوزُ أن لا يَستَحِقَّها فيها.
ص: 193
و القِسمُ الأوّلُ : يَقتَضي كَونَه قادراً لِنفسِه، أو لِما هو عَلَيه في نفسِه.
و القِسمُ الثاني: يَقتَضي أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ .(1)
[الدليل الأوّل](2)
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ بعضُ الذواتِ المُحدَثةِ قادراً لِنفسِه و لا لِما هو عَلَيه في نفسِه؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي وجوبَ كَونِه قادراً مع الوجودِ؛ لأنّ صفةَ النفسِ لا تُفارِقُ الذاتَ في كُلِّ حالٍ ، و الصفةَ الراجِعَةَ إليها لا بُدَّ مِن حُصولِها مع الوجودِ. و في هذا وجوبُ كَونِه حَيّاً مع وجودِه؛ لأنّ كَونَه حَيّاً لَو لَم يَجِبْ مَتىٰ وُجِدَ، لَما وجبَ كَونُه قادراً - و قد بيّنّا أنّ كَونَه قادراً إذا كانَ للنفسِ ، أو لِما يَرجِعُ إلَى النفسِ ، فلا بُدَّ مِن وجوبِه في حالِ الوجودِ، و مِن(3) وجوبِ كَونِه حَيّاً مَتىٰ وُجِدَ - و لَجازَ أن يوجَدَ
علىٰ بعضِ الأحوالِ و لا يَكونَ حَيّاً.
علىٰ أنّه لا يُمكِنُ أن يَكونَ حَيّاً بالفاعلِ مِن وجهٍ آخَرَ: و هو أنّ المُشتَرِكَينِ في كيفيّةِ استحقاقِ الصفةِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونا(4) مُشتَرِكَينِ في المُقتَضي لها(5)، و سَنُبَيِّنُ
ص: 194
هذه الطريقةَ إن شاءَ اللّٰهُ عزَّ و جَلَّ عندَ الكلامِ علىٰ أصحابِ الصفاتِ (1).
و قد عَلِمنا أنّ استحقاقَ أحَدِنا كَونَه حَيّاً، علَى الوَجهِ الذي يَستَحِقُّ لذلكَ المُحدَثُ كَونَه حَيّاً عَلَيه، و هو الاستحقاقُ في حالٍ كانَ يَجوزُ أنْ لا يَحصُل الاستحقاقُ فيها.
فمُحالٌ - علىٰ ما قدَّمناه - أن يَختَلِفا(2) في المُقتَضي للصفةِ . و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ المُقتَضي للأمرَينِ واحِداً. فلمّا استُحِقَّ (3) في أحَدِنا أن يَكونَ حَيّاً إذا وُجِدَ(4)، فلا بُدَّ(5)مِن رُجوعِه إلَى النفسِ ، اقتَضىٰ ذلكَ أن تَكونَ (6) هذه الذاتُ مِثلاً للقَديمِ تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ شارَكَته في صفةِ نفسِه، و هي كَونُه حَيّاً، و ذلكَ يَقتَضي: كَونَها قَديمةً ، أو خُروجَه تَعالىٰ عن كَونِه قَديماً، و كِلا الأمرَينِ فاسِدٌ.
و إنّما عَدَلنا عمّا هي [الطريقةُ المعتَمَدةُ ] كثيراً في الكُتُبِ ، مِن أنّه لَو كانَ المُحدَثُ قادراً لنفسِه لَكانَ مِثلاً للقَديمِ ؛ لأنّ ذلكَ غَيرُ مُستَمِرٍّ؛ مِن حَيثُ لا يَصِحُّ
ص: 195
اشتراكُ القادرَينِ في صفةٍ مُتَماثِلةٍ مِن حيثُ كانا قادرَينِ ؛ لأنّ مقدورَ كُلِّ قادرٍ غَيرُ مقدورِ صاحبِه. و التماثُلُ إنّما يَقتَضيه الاشتراكُ في صفةٍ مُتَماثِلةٍ مُستَنِدةٍ إلَى النفسِ . و عَدَلنا إلَى اعتبارِ كَونِه حَيّاً؛ لِسَلامَتِه مِن هذا الاعتراضِ ، و وضوحِ الأمرَينِ في أنّ الاشتراكَ فيه يَقتَضي التماثُلَ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً [على] فَسادِ كَونِ المُحدَثِ قادراً لنفسِه، أنّه لَو كانَ كذلكَ ، لكانَت مقدوراتُه غَيرَ مُتَناهيةٍ ؛ لأنّ الذي يَقتَضي تَناهِيَ المقدورِ بحَيثُ يَتَناهىٰ ، هو القُدَرُ المُختَصّةُ في تَعلُّقِها بالمُتَناهي، و مَن كانَ قادراً لنفسِه لا يَتِمُّ ذلكَ فيه.
و في كَونِه قادراً لنفسِه ممّا يوجِبُ صحّةَ مُمانَعَتِه للقديمِ تَعالىٰ ، و ذلكَ ممّا لا خَفاءَ (1) بفَسادِه، و سيأتي مَشروحاً في بابِ نَفيِ الاثنَينِ ،(2) بمشيَّةِ اللّٰه تَعالىٰ .
[الدليل الأوّل](3)
و لا يجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ؛ لأنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ فِعلُ الأجسامِ بها. و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ أحَدَنا لا يَصِحُّ مِنه فِعلُ الجسمِ (43) بما فيه مِن القُدَرِ، و يتعذَّرُ
ص: 196
عَلَيه ذلكَ مَتىٰ رامَه [لمانع](1) و لا لوَجهٍ معقولٍ ، بل استَحالَ ،(2) فَيُعلَمُ أنّ القُدَرَ لا تتعلَّقُ بفعلِ الأجسامِ .
فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ هذه الجُملةِ .
قُلنا: أمّا الدليلُ علىٰ أنّ أحَدَنا يَقدِرُ بقُدرةٍ فواضِحٌ ؛ لأنّه يَتجدَّدُ كَونُه قادراً مع جَوازِ أن لا يَتجدَّدَ. و لأنّه يَضعُفُ أحياناً و يَقوىٰ أحياناً.
و في الجُملةِ : فطَريقُ إثباتِ الأكوانِ مُتَأَتٍّ في إثباتِ القُدَرِ(3)، و ما قَدَّمناه مِن [فسادِ] كَونِ المُحدَثِ قادراً لنفسِه يوضِحُ (4) ذلكَ أيضاً.(5)
و الّذي يَدُلُّ علىٰ أنّ فِعلَ الأجسامِ لا يَتَأَتّىٰ بها:(6) أنّا قد عَلِمنا أنّ القادرَ مِنّا لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ الجسمَ إلّاعلىٰ أحَدِ وَجهَينِ :
إمّا مُباشَراً، وحَدُّه ما ابتُدئَ في مَحَلِّ القُدرةِ عليه.
أو(7) مُتولِّداً، و هو الواقع(8) بحَسَبِ غيره.(9)
و الجسمُ لا يَصِحُّ أن يُفعَلَ علَى الوَجهَينِ جَميعاً.(10)
ص: 197
فإن قيلَ : و لِمَ أَنكَرتُم أن يَكونَ أحَدُنا يَفعَلُ الأفعالَ مُختَرَعةً ،(1) و لا تَكونَ مُتولِّدةً و لا مُباشَرةً؟
قلنا: أَنكَرْنا مِن قِبَلِ أنَّه يؤَدّي إلىٰ أُمورٍ فاسدةٍ :
مِنها: أن يَكونَ القويُّ مِنّا يَمنَعُ الضعيفَ [مِن المشي] في السُّوق(2) و الحركةِ في الجهاتِ ، و إن كانَ بعيداً منه، و غَيرَ مُماسٍّ له و لا لِما ماسَّه.
و مِنها: أن يَكونَ المريضُ المُدنِفُ ، [الذي] لا قُدرةَ في جَوارحِهِ ، يَختَرِ عُ بقُدَرِ قَلبِه(3) الأفعالَ في جَوارِحِه؛ لانّه قادرٌ في قَلبِه(4)؛ و ذلك أنّا نَعلَمُ أنّ المُدنِفَ قد يُريدُ و يَعتَقِدُ و يُفَكِّرُ(5) بقَلبِه، و إن تَعَذَّرَ عَلَيه تحريكُ جَوارِحِه.
و مِنها: أنّه يؤَدّي إلىٰ أن يَختَرِعَ أحَدُنا بقُدَرِ(6) شِمالِه الفِعلَ في يَمينِه، و هذا يوجِبُ [أن يَقوىٰ أحَدُنا علىٰ أن يَحمِلَ بيَمينِه كُلَّ ما هانَ عَلَيه أن يَحمِلَه بيَمينِه و شِمالِه معاً،](7) [و] قد عَلِمنا ضَرورةً فَسادَ ذلكَ .
ص: 198
فَثَبَتَ أنّ أفعالَنا لا تَكونُ إلّامُباشَرةً أو مُتولِّدةً .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الجسمَ لا يَقَعُ مِنّا [مُباشَرةً ](1): أنّا لَو فَعَلنا علىٰ هذا الوجهِ
لَأدّىٰ إلَى اجتماعِ جَوهرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ؛ و هذا يوجِبُ أن لا تَعْظُمَ (2) الأجسامُ بانضمامِ بعضِها إلى بَعضٍ ، و يَقتَضي أيضاً صحّةَ دُخُولِها(3) في الجَبَلِ الأصَمِّ مِن غَيرِ فُرجةٍ تَحصُلُ فيه. و كُلُّ ذلك فاسِدٌ.
[الدليل الأوّل علىٰ عدم وقوع الجسم و الجوهر منّا متولّداً](4)
و أمّا المُتولِّدُ فعلىٰ ضَربَينِ :
مِنه ما يَحصُلُ في مَحَلِّ القُدرةِ .
و مِنه ما يَتَعدّىٰ مَحَلَّ القُدرةِ .
و لَيسَ (5) يجوزُ أن نَفعَلَ (6) الأجسامَ علَى الوجهِ الأوّلِ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ ما أفسَدناه مِن اجتماعِ الجَوهَرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ.
ص: 199
فلَم يَبقَ (1) إلّاأن يُقالَ : إنّكم تَفعلونَه(2) بسببٍ يَتَعدّىٰ به الفِعلُ عن مَحَلِّ القُدرةِ .
و الّذي يُبطِلُ ذلك: أنّ الذي تَعدَّىٰ بأفعالِنا(3) عن مَحَلِّ القُدرةِ ، هو(4) جنسُ الاعتمادِ؛ لأنّه الذي يَختَصُّ بالجهَةِ مِن بَينِ سائرِ الأجناسِ ، و قد عَلِمنا أنّ أجناسَ الاعتمادِ محصورةٌ بانحصارِ الجِهاتِ السِّتِّ ، و هي أجمَعُ في مقدُورِنا و نَحنُ نَفعَلُها، و لا يَتولَّدُ عن شَيءٍ منها الجَواهرُ.
و يُمكِنُ الاعتراضُ علىٰ هذا الكلامِ (5) مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ :
أحدُها: أن يُقالَ : إنّكُم قادرونَ علىٰ فِعلِ الجَواهرِ، و إنّما لا تَقَعُ (6) مِنكم(7) لِمانِعٍ ، أو ما جَرىٰ مَجرَى المانِعِ ، و يُذكَرُ في ذلكَ إمّا فَقدُ العِلم، أو فَقدُ الآلة، أو فقدُ البِنيةِ ، أو لأنّ العالَمَ لا خَلَأَ(8) فيه.(9)
[ثانيها: أن يُقالَ : ما أنكرتم أن تكون الجَواهرُ إنّما تعذّرت مِنكم؛ لأنّ ما فيكم مِن
ص: 200
القُدَرِ لا يَتعلَّقُ بها؟ و إن جازَ أن يَكونَ في العدمِ قُدرةٌ تَتعلَّقُ بالجَواهرِ، و إن فُعِلَت فيكم لَتَأتّىٰ مِنكم فِعلُها.](1)
و الوَجهُ الآخَرُ(2): أن يُقالَ : إنّكم الآنَ فاعلونَ (44) للجَواهرِ.
فإن قُلتم: لَو فَعَلناها لَأَدركناها و مَيَّزَناها!
قيلَ لكم: يَجوزُ أن تَفعَلوها أجزاءً مُتفرِّقةً ، و علىٰ حَدٍّ مِن اللَّطافةِ لا تُدرَكُ مُعتَمَداً، كما لا تُدرِكُون الهَواءَ و ما جَرىٰ مَجراه.
و الجَوابُ عن الأوّل: أنّ المانِعَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ معقولاً؛ لأنّ إثباتَ مانعٍ غَيرِ معقولٍ [يؤدّي](3) إلَى الجَهالاتِ .
و لَيسَ يَجوزُ أن يكونَ المانِعُ هو فَقدَ العِلمِ ؛ لأنَّ العِلمَ لا يُحتاجُ إليه في إيقاعِ جنسِ الفعلِ ، و إنّما(4) يُحتاجُ إليه في إيقاعِه علىٰ بعضِ الوجوهِ .(5) و لَيسَ يَحتاجُ جنسُ الفِعلِ إلىٰ أكثَرَ مِن كَونِ القادرِ قادراً؛ ألا تَرىٰ أنّ الكتابةَ لمّا تَعذَّرَت
ص: 201
علَى الأُمِّيِّ لفَقدِ العِلمِ بها، لم يَتعذَّرْ عَلَيه إيقاعُ جنسِها؟ لأنّ كَونَها كتابةً يُنبئُ عن وقوعِها علىٰ بعضِ (1) الوجوهِ . و الجَوهرُ هو جنسُ الفِعلِ ، و معنىٰ قولِنا: «إنّه جنسُ الفِعلِ » أنّه ممّا لا يوجَدُ إلّاجَوهَراً، و لَيسَ كذلكَ الخبرُ و الأمرُ و الحُسنُ و القُبحُ ؛ لأنّ جنسَ كُلِّ ذلك يوجَدُ، و إن لَم يَكُن مُستَحِقّاً لهذه الأوصافِ . و في عِلمنا بِتعذُّرِ الجَوهرِ مِنّا - مع أنّه مِن جنسِ الفِعلِ - دَلالةٌ علَى استحالةِ كَونِه مقدوراً لنا.
و هذا بعَينِه يُعلِمُ أنّه لم يَتعذَّرْ لفَقدِ الآلةِ ؛ لأنّ الآلاتِ علَى اختلافِها إنّما يُحتاجُ إليها في إيقاعِ الأفعالِ علىٰ بعضِ الوجوهِ ، لا في أجناسِها، و قد بيّنّا أنّ الجَوهرَ جنسُ الفِعلِ .
فإن قيلَ : كَيفَ يَصِحُّ ما ذَكَرتُموه مِن أنّ «العِلمَ لا يُحتاجُ إليه في جِنسِ الفعلِ » و النظرُ و الإرادةُ جَميعاً لا يَقَعانِ إلّامِن العالِمِ ، أو ممّن [في] حُكمِ العالِمِ ، و هما جنسُ الفِعلِ؟
قُلنا: إنّ النظَرَ وَ الإرادةَ لا يَحتاجانِ في وجودِهما إلَى العِلمِ ، و إنّما يَحتاجُ كَونُ الناظِرِ ناظِراً إلىٰ أن يَكونَ عالِماً بما يَنظُر فيه، و يَحتاجُ كَونُ المُريدِ مُريداً إلىٰ كَونِه عالِماً أو(2) في حُكمِ العالِم بالمُرادِ؛ فالحالُ هي المُحتاجةُ إلى الحالِ الأُخرىٰ ، دونَ أن تَكونَ الحاجةُ مصروفةً إلىٰ حاجةِ ذاتِ الإرادةِ و النظَرِ إلىٰ ذاتِ العِلمِ . و لَو صَحَّ أن يَفعَلَ أحَدُنا إرادةً في غَيرِه، مِن غَيرِ أن يَكونَ لها مُريداً، لَجازَ أن يَفعَلَها مِن غَيرِ أن يَكونَ عالِماً بالمُرادِ، و لا في حُكمِ العالِمِ به.
علىٰ أنّا قُلنا: إنّ العِلمَ بالفِعلِ إنّما يُحتاجُ إليه لإيقاعِه علىٰ وَجهٍ دُونَ وَجهٍ ،
ص: 202
و لا يُحتاجُ إليه في(1) إيقاعِ جنسِه، و لَيسَ هذا ممّا عورِضنا به مِن النظَرِ و الإرادةِ ؛ لأنّهما لَيسا يَحتاجانِ إلَى العِلمِ بهما، و إنّما يَحتاجانِ إلَى العِلمِ بالمُرادِ و المَنظورِ إليه، و هذا بخِلافِ ما ذَكَرناه.
فأمّا ما يُبطِلُ ما سُئِلنا عنه مِنَ البِنيةِ : فهو أنّ الجَواهرَ لا تَفتَقِرُ في وجودِها إلىٰ بِنيةٍ ؛ لأنّها توجَدُ مُتفرِّقةً كما توجَدُ مُجتَمِعةً .
و أيضاً: فإنّ البِنيةَ تَفتَقِرُ في وجودِها [إلىٰ مَحَلٍّ ](2)، فكيفَ يَحتاجُ المَحَلُّ في وجودِه إليها؟ و هذا يَقتَضي حاجةَ كُلِّ واحدٍ إلىٰ صاحبِه، و يؤَدّي إلىٰ حاجةِ (3)الشيءِ إلىٰ نفسِه.
و أيضاً: فإنّ البِنيةَ إنّما يَحتاجُ إليها ما مِن شأنِه أن يَحِلَّ غَيرَه، و الجَواهِرُ لا تَحتاجُ (4) إلىٰ مَحَلٍّ .
فأمّا الكلامُ علىٰ مَن اعتَرَضَ بأنّ العالَمَ لا خَلَأَ فيه(5)، فهو أنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ وجودِ الخَلَإ.
ص: 203
و الذي دَلَّ على ذلك: أنّه لَولا الخَلَأُ لَما أمكَنَ أحَداً(1) أن يَتصرَّفَ و يَتحرَّكَ في العالَمِ ؛ لأنّه إذا كانَ مَشحوناً بالجَواهرِ مِن غَيرِ خَلَإٍ(2) قَليلٍ و لا كَثيرٍ، فَالتصَرُّفُ مُتعذِّرٌ. و لا فَرقَ بَينَ أن تَكونَ الأجزاءُ المُجاوِرةُ صُلبةً أو غَيرَ صُلبةٍ ، بَعدَ أن تَكونَ الجِهاتُ مَشحونةً بها؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا لو (45) حُبِسَ في بَيتٍ و شُحِنَ جميعُ ما يَليهِ مِن البَيتِ بالدَّقيقِ لَتعذَّرَ عَلَيه التصرُّفُ و التحرُّكُ ، كما يَتعذَّرُ لَو كانَ مَشحوناً بالرَّصاصِ و ما يَجرى مَجراه ؟
و أيضاً: فإنّ القولَ بذلك يؤَدّي إلَى انتقالِ الجسمِ إلىٰ مَكانِ غَيرِه، في حالِ انتقالِ ذلكَ الغَيرِ إلىٰ مَكانِه، و [هذا] معلومٌ فَسادُه؛ ألا تَرىٰ أنّه يَتعذَّرُ عَلَينا في كوزَينِ مملوءَينِ ماءً أن نَجعَلَ ما في أحَدِهما في الآخَرِ، مِن غَيرِ تَفريغٍ لأحَدِهما؟!
و أيضاً: فإنّ الزِّقَّ (3) الفارِغَ المَشدودَ الرأسِ نِهايةَ الشَّدِّ، إذا كانَ مُنطَبِقَ الجانِبَينِ أحَدِهما علَى الآخَرِ، يُمكِنُ أن يُرفَعَ أحَدُ جانِبَيه عن الآخَرِ، و لا يَتعذَّرُ ذلكَ عَلَينا، فيُعلَم أنّه قد حَصَلَ فيه مَكانٌ فارِغٌ ؛ لأنّه لا طَريقَ للهواءِ و لا لِغَيرِه إلَى الدُّخولِ !
ص: 204
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الهواءَ دَخَلَ مِن مَسامِّ الزِّقِّ ، في حالِ ما رَفَعتم بعضَه مِن بعضٍ ؛ لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلىٰ أن [لا](1) يَثبُتَ الهواءُ في الزِّقِّ مُدّةً طويلةً ، و كانَ يَجِبُ إذا مَلَأنا زِقّاً مِن الهواءِ بالنفخِ و أحكَمنا شَدَّ رأسِه، أن نَجِدَهُ بَعدَ ذلكَ فارِغاً!
و ممّا يُبَيِّنُ أيضاً ما ذَكَرنا: أنّ الزِّقَّ الذي يُنفَخُ غايةَ النفخِ ، و يُشَدُّ رأسُه، يُمكِنُ أن يُدخَلَ فيه مِسَلَّةٌ (2)، و لا يَجوزُ أن يَنتَهِيَ مِن الامتلاءِ إلىٰ حَدٍّ يَتعذَّرُ إدخالُ المِسَلّةِ فيه، فَيُعلَمُ بذلك [أنّ بين أجزاء الزقّ المملوء](3) بالهواءِ خلأً.
و أيضاً: فإنّ أحَدَنا إذا أخَذَ قارورةً ضَيِّقةَ الرأسِ ، فوَضَعَها على الماءِ ، لَم يَرتَفِع إليها مِنه شيءٌ ، فإذا مَصَّها و وَضَعَها على الماءِ ، ارتَفَعَ الماءُ إليها، مِن غَيرِ أن تَحدُثَ (4) لها أصواتٌ ، كما تَحصُلُ فيه تلكَ الأصواتُ إذا صَبَبنا الماءَ فيها؛ لأنّ
الهواءَ إذا لاقىٰ أجزاءَ الماءِ [صَعِدَ](5)، فيُعلَمُ أنّا بالمَصِّ استَخرَجنا ما فيها مِن الهَواءِ ،
ص: 205
حتّىٰ سَهُلَ ارتفاعُ الماءِ إليها مِن غَيرِ صَوتٍ .
و لَيسَ لَهم أن يَقولوا: إنّ القارورةِ إذا مَصَصناها حَصَلَ فيها هواءٌ حارٌّ، و الحارُّ سَريعُ الحركةِ ، و هي قَبلَ المَصِّ فيها هواءٌ باردٌ، و البارِدُ بَطيءُ الحركةِ ، فلهذا افتَرَقَ (1) الخلآنِ فيها.
و ذلكَ : أنّ الهواءَ قد يُحمىٰ في القارورةِ بالنارِ و الشمسِ علىٰ وَجهٍ يُعلَمُ ضَرورةً أنّه يَزيدُ علىٰ حَرارةِ هَواءِ الفَمِ و اللَّهَواتِ (2) و مع ذلكَ فلا يَجِبُ فيه مِثلُ ما ذَكَرناه عندَ المَصِّ .
علىٰ أنّ الماصَّ للهَواءِ لا يَكونُ نافِخاً في حالِ مَصِّهِ ، بَل المَصُّ كالمُضادِّ للنفخِ ؛ فكيفَ يَحصُلُ في القارورةِ - في حالِ مَصِّنا للهَواءِ فيها - هَواءٌ مِن أفواهِنا؟ و ذلكَ لا يَكونُ إلّابالنفخِ الذي ما استَعمَلناه!
و قد تَعلَّقَ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ العالَمَ لا خَلَأَ فيه بأشياءَ (3):
مِنها: أنّ الآلةَ المعروفةَ بالسَّحّارةِ ، و هي الآلةُ التي يَكونُ في رأسِها ثَقْبٌ واحِدٌ و في أسفَلِها ثُقوبٌ كثيرةٌ ، إذا مَلَأناها بالماءِ ثُمّ سَدَدنا(4) رأسَها بالإبهامِ ، لَم يَنزِلِ الماءُ
ص: 206
مِن الثُّقوبِ (1) التي في أسفَلِها، و إذا أزَلنا إبهامَنا نَزَلَ الماءُ ، و لا عِلّةَ لذلكَ إلّاأنّا عندَ سَدِّ رأسِها بالإبهامِ مَنَعنا الهَواءَ مِن أن يَخلُفَ في مكانِ الماءِ .
و مِنها: أنّ الحَجّامَ إذا مَصَّ المِحجَمةَ [انجَذَبَ ](2) اللحمُ مِن الرقَبةِ ، و حَصَلَ في داخِلِ المِحجَمةِ ؛ و لا عِلّةَ لذلك إلّالأنّ المَصَّ لمّا أخرَجَ الهَواءَ ، حَصَلَ اللحمُ في مكانِه.
و مِنها: أنّ القارورةِ الضيِّقةَ الرأسِ إذا مَصَصنا ما فيها مِن الهواءِ ، و قَلَبناها(3) علَى الماءِ ، ارتَفَعَ إليها الماءُ ، مع أنّ (46) مِن شأنِه أن يَذهَبَ سُفْلاً؛ و لا عِلّةَ لذلكَ إلّالأنّ المَصَّ يَجعَلُ فيها(4) هَواءً حارّاً، و الحارُّ سَريعُ الحركةِ ، فإذا خَرَجَ ذلكَ الهَواءُ مِن القارورةِ عندَ كَبِّها علَى الماءِ ، خَلَفَه شَيءٌ مِن الماءِ ، و ارتَفَعَ إلىٰ مكانِه؛ لِعِلّةِ أنّ المكانَ لا يَخلو مِن مُتمكِّنٍ .
فيُقالُ لهم فيما تَعلَّقوا به أوّلاً:(5) ما أَنكَرتُم أنّ العِلّةَ في وقوفِ الماءِ عندَ سَدِّ(6) رأسِ الآلةِ المعروفةِ بالسَّحّارةِ بالإبهامِ غَيرُ ما ظَنَنتم ؟ و هي أنّ رأسَها إذا كانَ مفتوحاً،
ص: 207
[لاقَى الهَواءُ الماءَ ](1) الذي فيها و دافَعَه، فأَعانَ [علىٰ ] نُزولِه(2) مِن الثُّقوبِ التي في أسفَلِها، فإذا سُدَّ رأسُها، لَم يَجرِ الماءُ مِن تلكَ الثُّقوبِ لمُدافَعةِ الهواءِ (3)؛ لأنّ ما
يَجري في تِلك الثُّقوبِ (4) بضَعفِه و قِلّتِه لا يَقوىٰ علىٰ خَرقِ الهواءِ ؛ فإذا دافَعهُ الهَواءُ مِن أعلَى الآلةِ ، أعان علىٰ نُزولِه. و لا شُبهةَ في أنّ الهَواءَ قد يَمنَعُ ما خَفَّ (5)مِن الأجسامِ مِن النُّزولِ (6)؛ ألا تَرىٰ أنّ الريشةَ و ما جَرىٰ مَجراها مِن الأجسامِ الخِفافِ قد تَقِفُ في الهَواءِ لِخِفّتِها؟ لأنّ الهَواءَ يَمنَعُها مِن النُّزولِ ، و لَو كانَ مكانَها جسمٌ ثَقيلٌ لَنَزَلَ .
و الذي يُبَيِّنُ ذلكَ : أنّا لَو وَسَّعنا الثُّقوبَ (7) لَنَزَلَ الماءُ ، و إن كانَ رأسُ الآلةِ مَسدوداً.
و كذلك لَو مَلَأناها(8) زِئبَقاً و سَدَدنا رأسَها، و الثُّقوبُ علىٰ ما هي عَلَيه مِن الضَّيقِ ، لَنَزَلَ و لَم يَختَلِفِ الحالُ بَينَ سَدِّ الرأسِ و فَتحِه. و إنّما كانَ كذلكَ ؛ لأنّ الثُّقوبَ إذا اتَّسَعَت، قَوِيَ ما يَخرُجُ منها [مِن] الماءُ ، فلم يَقوَ الهَواءُ علىٰ دَفعِه. و الزِّئبَقُ لثِقلِه لا يَستَقِلُّ الهَواءُ أيضاً بمُدافَعتِه، و هذا بَيِّنٌ .
ص: 208
فأمّا الجَوابُ عن الثاني: فهو أنّ العِلّةَ في انجِذابِ اللحمِ عندَ المَصِّ بالمِحجَمةِ ، أنّ الهَواءَ يَختَلِطُ بالماءِ و يُشارِكُه، فإذا جُذِبَ هَواءٌ بالمَصِّ انجَذَبَ اللحمُ معه. و لذلكَ لو رَكَّبنا مِحجَمةً علىٰ حَجَرٍ ثُمّ مُصَّتِ الدهرَ الأطوَلَ لَما انجَذَبَ الحَجَرُ إليها لمُخالَفةِ اللحمِ (1) فيما ذَكَرناه(2). و لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما ظَنُّوه، [و أنّ ](3) العِلّةَ في انجِذابِ اللَّحمِ اضطرارُ الخَلَأِ، لَوجبَ انجِذابُ الحَجَرِ؛ لأنّ العلّةَ فيه قائمةٌ .
و يُبَيِّنُ ذلكَ أيضاً: أنّا لَو قَدَّرنا صَفيحةً (4) مُرَكَّبةً مِن أجزاءٍ لا تَتجزَّأُ علىٰ سَبيلِ المِسطَحِ (5)، ثُمَّ رَكَّبنا عليها(6) مِحجَمتَينِ مِن جِهتَينِ مُختَلِفَتينِ و مَصَصنا، لَوجبَ علىٰ قولِهم: إمّا أن تَنجَذِبَ الصَّفيحةُ إلَى الجهتَينِ معاً في حالةٍ واحدةٍ ، و هذا محالٌ ، أو(7) أن تَنجَذِبَ إلىٰ إحدَى الجِهتَينِ ، و هذا أيضاً باطلٌ ؛ لأنّه لَيسَ بَعضُ الجِهاتِ بذلكَ أَولىٰ مِن بَعضٍ .
علىٰ أنّ ذلكَ أيضاً يؤَدّي إلىٰ خُلُوِّ الجهةِ التي انجَذَبَتِ الصَّفيحةُ عنها مِن
ص: 209
كائنٍ فيها(1)، و هذا نَقضُ مَذْهَبِهم. أو يَقولوا: إنّ الصَّفيحةَ تَقِفُ فلا تَنجَذِبُ إلىٰ واحدةٍ مِن الجِهتَينِ ، و هذا يؤَدّي إلىٰ خُلُوِّ الجِهتَينِ .
علىٰ أنّه إن كانَت العِلّةُ في انجِذابِ اللحمِ ما ذَكَروه مِن اضطرارِ الخَلَإ، فلِمَ صارَ
اللحمُ بأن يَنجَذِبَ فيَخلُفَ الهَواءُ أَولىٰ مِن أن يَنعَطِفَ (2) جانِبا المِحجَمةِ و يَلتَقِيا؟
و أمّا الجَوابُ عَمّا ذَكَرُوه ثالثاً: فقد بيّنّا أنّ اعتبارَ القارورةِ في صُعودِ الماءِ إليها، يَدُلُّ علىٰ صحّةِ قولِنا و بُطلانِ قولِهم. و أزَلنا ما تَعلَّقوا به مِن حَرارةِ الهَواءِ و بُرودَتِه، فلا وَجهَ لإعادتِه.(3)
ما في الجارحةِ مِن القُدَرِ. و إذا كانَ الأمرُ كذلكَ ، لَم يَصِحَّ أن يَتولَّدَ الجَوهرُ مِن(1) بعضِها دونَ بعضٍ ، فيَجِبُ أن يُولَّدَ [مِن] الجَميعِ . و مِن شأنِ الاعتمادِ أن لا يُولَّدَ إلّامِن جُملَتِه، وَ جُملتُه هي المكانُ الثاني. فيَجِبُ مِن ذلكَ اجتماعُ الجَواهرِ الكثيرةِ في مكانٍ واحدٍ. و هذا وَجهٌ معقولٌ يَمنَعُ مِن الفِعلِ و إن كانَ مقدوراً.
قُلنا: إذا سَلَّمنا أنّه لا بُدَّ أن يُفعَلَ بكُلِّ قدرةٍ ، لَم يَجِب ما ظَنَنتُم؛ لأنّ جهةَ الاعتمادِ لَيسَ هي المكانَ الثانيَ خاصّةً ، بل جِهاتُ ذلك السَّمتِ كُلُّها(2) هي جهةُ الاعتمادِ، و لهذا يُحَرِّكُ أحَدُنا أوّلَ الرُّمحِ بالاعتمادِ عَلَيه في حالةٍ واحدةٍ ، فيَتحرَّكُ آخِرُه كما يَتحرَّكُ أوّلُه؛ و لَو كانَ بِطولِ الأرضِ !
و أيضاً: فكانَ لا يَمتَنِعُ عَلَيه أن يقَعَ (3) مِنّا الجَواهرُ علىٰ بعضِ الوجوهِ ؛ بأن يُفعَلَ في مَحَلِّ القُدرةِ مِن الاعتماداتِ ما يُعادِلُ كُلَّ ما في ذلكَ المَحَلِّ مِن [القُدَرِ إلّاجُزءً واحداً](4)، ثُمّ يَقَعَ الجَوهرُ بذلكَ الجُزءِ .
علىٰ أنّ بعضَ الشيوخِ لا يُسلِّمُ أنّ الفِعلَ ببعضِ القُدَرِ دونَ بعضٍ لا يَصِحُّ ، و يُجوِّزُ ذلك. و إذا لَم يَسلَمْ هذا الأصلُ ، لَم يَتِمَّ ما بَنَوا عَلَيه السؤالَ . و ليسَ هذا مَوضِعَ استقصاءِ الكلامِ في صحّةِ (5) ذلكَ مِن فَسادِه.
ص: 211
فأمّا الجَوابُ عن الاعتراضِ الثاني مِن القِسمةِ الأُولىٰ ، التي ذَكَرناها(1)، و هو المُتَضمِّنُ لقولِهم: «ما أَنكَرتُم أن تَكونَ (2) الجَواهرُ إنّما تَعذَّرَت مِنكم. لأنّ ما فيكُم مِنَ القُدَرِ لا يَتعلَّقُ بها؟ و إن جازَ أن يَكونَ في العدمِ قُدرةٌ تَتعلَّقُ (3) بالجَواهرِ، و إن فُعِلَت فيكم لَتأتّىٰ مِنكُم فِعلُها».
فإنّ الدليلَ قد دَلَّ علَى اختلافِ القُدَرِ كُلِّها، و أنّ مقدُورَها في الجنسِ مُتَّفِقٌ . و
إذا كانتِ القُدرةُ الموجودةُ فينا مختَلِفَةَ الأجناسِ ، و لَم يَتَأَتَّ بشيءٍ منها فِعلُ الجَواهرِ، و عَلِمنا أنّ القُدرةَ المعدومةَ لَيسَ خِلافُها الموجودُ فينا إلّاكاختلافِ القُدَرِ الموجودةِ بعضِها لبعضٍ ، صَحَّ بذلك القَطعُ علىٰ أنّ الجَواهِرَ لا يَتأتّىٰ فِعلُها بشيءٍ مِن القُدَرِ الموجودةِ و المعدُومةِ .
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ القُدَرَ كُلَّها مختَلِفةُ الأجناسِ كما ادَّعَيتُم ؟
قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلكَ تَغايُرُ مُتعلَّقاتِها؛ لأنّ كُلَّ قُدرةٍ لا بُدَّ فيها مِن أن تَكونَ مُتعلِّقةً بغَيرِ مُتعلَّقِ القُدرةِ الأُخرىٰ . و إذا كانَت بهذه الصفةِ ، لَم يَسُدَّ كُلُّ واحدٍ منها مَسَدَّ الأُخرىٰ فيما رَجَعَ إلىٰ ذاتِها. و جَرىٰ وجوبُ اختلافِ أجناسِها لهذه العِلّةِ مَجرَى اختلافِ العِلمَينِ إذا تَغَايَرَ مُتعلَّقُهما، و الإرادتَينِ إذا تَغَاير مُتَعلَّقهما.
ص: 212
فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ما يُبقِي أحَدَهما لا يُبقي الآخَرَ. و هذا ظاهرٌ في وجوبِ اختلافِهما.
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ مقدُورَ القُدَرِ مُتَغايِرٌ، فعَلَيه بَنَيتُم الاختلافَ؟
قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلك أنّ القُدرتَينِ لو تَعلَّقَتا بمقدورٍ واحدٍ، لَم يُمنَعْ أن تَتعلَّقا(1) به و إن حصلتا لقادرَينِ ، فيؤَدّي ذلكَ إلىٰ كَونِ المقدورِ (48) الواحدِ مقدوراً لقادرَينِ .
و الذي يُبيِّنُ ذلك: أنّه لا جنسَ مِن أجناسِ الأعراضِ إلّاو يَحتَمِلُه كُلُّ مَحَلٍّ يُشارُ إليه، و يُصحِّحُ (2) وجودُه علىٰ بعضِ الوجوهِ وجودَه فيه؛ لأنّ ذلكَ لو لَم يَجرِ(3) لَأدّىٰ إلىٰ تجويزِ وجودِ جَوهرٍ لا يَجوزُ وجودُ جنسِ السوادِ فيه، أو وجودِ جَوهرٍ لا يَصِحُّ كَونُه في مُحاذاةٍ مخصوصةٍ . و إذا استحالَ ذلكَ وجبَ القَطعُ علىٰ أنّ زيداً لَو جازَ أن توجَدَ(4) فيه قُدرَتانِ علىٰ مقدورٍ واحدٍ، لَجازَ أن يوجَدَ في عَمرٍو ما هو مِن جنسِ تلكَ القُدَرِ، قياساً علىٰ سائرِ الأجناسِ . و هذا سنُبيِّنُ فَسادَه فيما يأتي مِن الكتابِ ، عندَ انتهائنا إلىٰ مَوضِعِه، إن شاءَ اللّٰهُ .(5)
ص: 213
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ مقدورَ القُدَرِ في الجنسِ مُتَّفِقٌ ، مع اختلافها في أنفسِها(1)؟
قُلنا: لَو لَم يَكُن مقدورُ القُدَرِ مُتَّفِقاً في الجنسِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يُقدَرَ ببعضِها علىٰ ما لا يُقدَرُ عَلَيه بسائرِها؛ حتّىٰ يَكونَ في القادرينَ مِنّا مَن يَقدِرُ علَى الكَونِ و لا يَقدِرُ علَى الاعتمادِ، أو يَقدِرُ عَلَيهما و لا يَقدِرُ علَى الصوتِ ، أو يَكونُ قادراً علَى التصرُّفِ في بعضِ الأماكِنِ ، و لَو نُقِلَ إلىٰ مكانٍ آخَرَ لَتعذَّرَ عَلَيه التصرُّفُ
فيه. و كُلُّ ذلك ظاهِرُ الفَسادِ، فثَبَتَ أنّ مقدورَ القُدَرِ في الجنسِ مُتَّفِقٌ ، و إن كانَت مختَلِفةً في نُفوسِها.
و هذا الحُكمُ إنّما وجبَ لها لِكَونِها ممّا يَصِحُّ الفِعلُ بها؛ بدَلالةِ أنّ العُلومَ المُختَلِفةَ لا يَجِبُ أن تَكونَ مُتعلِّقاتُها مُتَجانِسةً . و كذلكَ كُلُّ ما يَتعلَّقُ بِمَعانٍ (2)سِوَى القُدَرِ، مع مُشارَكَةِ هذه المعاني للقُدَرِ في الوجودِ و الحُدوثِ و سائر الصفاتِ ، سِوىٰ أنّها ممّا يَصِحُّ بها الفعلُ . فعُلِمَ أنّ القُدَرَ إنّما اختَصَّت بما ذَكَرناه مِن الحُكمِ ؛ لِكَونِها ممّا يَصِحُّ بها الفِعلُ ، فيَجِبُ في كُلِّ قُدرةٍ أن يَكونَ لها هذا الحُكمُ .
و ممّا يُجابُ [به] عن هذا الاعتراضِ أيضاً: أنّه لَو كان في العدمِ قدرةٌ تَتعلَّقُ بالجَواهرِ، لَصَحَّ وجودُها في بعضِ القادرينَ منّا؛ لأنّه لَو لَم يَصِحَّ ذلكَ ، لَم يَصِحَّ
ص: 214
بتلكَ القُدرةِ فِعلُ الجَوهرِ على وَجهٍ مِن الوجوهِ ، و ما لا يَصِحُّ به(1) [فِعلُ الجَوهرِ] كيفَ يَكونُ قُدرةً عَلَيه ؟
و إذا صَحَّ وجودُها، فلا بُدَّ مِن أن يَتأتّىٰ فِعلُ الجَواهرِ علىٰ بعضِ الوجوهِ التي ذَكَرناها و أفسَدناها؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الجَواهرَ لا يَصِحُّ أن تَقَعَ مِنّا علىٰ سبيلِ الاختراعِ و لا المُباشَرةِ و لا التوليدِ(2)، و إذا كانَت كُلُّ الوجوهِ التي يُمكِنُ أن يُفعَلَ الجَوهرُ عليها بتلكَ (3) القُدرَةِ باطلةً ، ثَبَتَ أنّ الجَوهرَ لا يَتأتّىٰ بقُدرةٍ معدومةٍ .
و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : لِمَ لا يُفعَلُ بتلكَ القُدرةِ علىٰ سَبيلِ الاختراعِ؟
لأنّا قد بيّنّا أنّ الاختراعَ بالقُدَرِ الموجودةِ فينا إنّما استَحالَ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ كَونِها قُدَراً، و مِن القَبيلِ الذي يَصِحُّ أن يَقَعَ به(4) الفِعلُ ؛ بدَلالةِ أنّ هذه القضيّةَ واجبةٌ فيها أجمَعَ ، مع اختلافِ أجناسِها، و كُلُّ ما شارَكَها في هذه القضيّةِ وجبَ أن يُشارِكَها في استحالةِ الاختراعِ به.
و لا له أيضاً أن يَقولَ : إنّه يُفعَلُ بتلك القُدرةِ علىٰ سبيلِ التوليدِ(5)!
لأنّا قد بيّنّا(6) أنّ الذي تُعَدَّىٰ (7) به أفعالُنا عن مَحَلِّ القُدرةِ ، هو جنسُ الاعتمادِ؛ مِن حَيثُ كانَ هو المُختَصَّ بالجهةِ مِن بَينِ سائرِ الأجناسِ . و أجناسُ الاعتمادِ محصورةٌ بانحصارِ الجِهاتِ السِّتِّ . فتلك (49) القُدرةُ لَو فَعَلنا بها الجَوهرَ علىٰ
ص: 215
سَبيلِ التوليدِ، لَكُنّا إنّما نَفعَلُه مُتولِّداً عن الاعتمادِ في بعضِ هذه الجِهاتِ السِّتِّ . و إذا كُنّا الآنَ قادرينَ علىٰ أجناسِ الاعتماداتِ ، و كانَ الجَوهرُ لَو تَولَّدَ فإنّما يَتولَّدُ
عنها، فيَجِبُ أن نَكونَ قادرينَ عليهِ ؛ لأنّ القُدرةَ على السببِ قدرةٌ علَى المسبَّبِ . و في عِلمِنا بأنّا نَفعَلُ أجناسَ الاعتماداتِ كُلَّها، و لا يَتولَّدُ عن شيءٍ مِنها الجَوهرُ، دليلٌ علىٰ فَسادِ ما اعتَرَضوا به.
و أمّا الجوابُ عن الاعتراضِ الثالثِ (1)- و هو المُتَضَمِّنُ لقولِهم: «ما أَنكَرتُم أن تكونُوا(2) فاعِلينَ للجَواهرِ، و إن لم تُدرِكوها و تُمَيِّزُوها؛ لِلَطافتِها، و لأنّها تَتفرَّقُ في الهَواءِ؟» - فهو أنّ المانعَ مِن إدراكِها لَو كانَ ما ذَكَروه مِن التفرُّقِ ، لَوجبَ إذا أدخَلَ أحَدُنا يَدَه في جِرابٍ و أوثَقَ سَدَّ رأسِه، و اعتَمَدَ فيه زَماناً طويلاً، أن يَمتَلِئَ بالجَواهرِ بَعدَ أن كانَ فارغاً؛ لأنّ اعتماداتِ يَدِه لا بُدَّ علىٰ قَولِهم أن تُوَلِّدَ مِنَ الجَواهرِ بعَدَدِها في كُلِّ حالٍ .
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ الظرفَ إنّما لا يَمتَلِئُ ؛ لأنّ الجَواهرَ تَخرُجُ مِن خلله.
و ذلك: أنّ الأمرَ لَو كانَ علىٰ ما قالوه، لَوجبَ أنْ لا يَثبُتَ في الزِّقِّ الهواءُ ، بأن يَخرُجَ من خلله، و هذا يَقتَضي أن لَو مَلَأنا زِقّاً بالنَفخِ مِنَ الهواءِ ، أن نَجِدَه بَعدَ قليلٍ فارغاً، و إن لم يَزُلْ سَدُّ رأسِه. و إذا فَسَدَ ذلكَ و عَلِمنا أنّ الجَواهِرَ التي تَتولَّدُ عن الاعتماداتِ ، لا تَزيدُ(3) في اللَّطافةِ علَى الهَواءِ ، ثَبَتَ أنّ الجَواهرَ لا تَتولَّدُ عن
ص: 216
الاعتمادِ، علىٰ ما ذَكَرناه.
و قد قيلَ أيضاً في ذلكَ : إنّ الجَواهرَ لَو كانَت في مقدورِنا، لَجازَ أن نَعلَمَها(1) في تألُّفِها(2)؛ لأنّ التأليفَ لا شَكَّ مِن مقدورِنا. و إذا تألَّفَ الجَوهرُ مع غَيرِه لَم يُمنَعْ إدراكُه و العِلمُ به.
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ الجَواهرَ إذا كانَت مُتفرِّقةً ، لَم تُدرِكُوها و لَم تَعلَموها؛ فكيفَ تُؤَلِّفونَها(3)؟
و ذلك: أنّ التأليفَ لا يَفتقِرُ إلَى العِلمِ بالمُؤلَّف، و التمييزِ له.
و لا لهم أن يَقولوا: إنّ التأليفَ إنّما(4) يَحتاجُ إلى بِنيةٍ [و آلةٍ (5)] مخصوصةٍ حتّىٰ يَقَعَ بَينَ الجواهرِ، و أنتُم فاقِدونَ لتلك الآلةِ .
و ذلكَ (6): أنّ جنسَ التأليفِ لا يَحتاجُ إلىٰ آلةٍ ، و إن كانَ بعضُ التأليفِ إذا وَقَعَ علىٰ بعضِ الوُجوهِ يَحتاجُ إلى آلةٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ جنسَ التأليفِ قد يَقَعُ مِن كُلِّ قادرٍ إذا حَلَّ سببُه على كُلِّ حالٍ؟ و أسبابُ التأليفِ - و هي المُجاوَراتُ - في مقدورِنا، فكانَ
ص: 217
يَجِبُ إذا فعَلنا الجَواهرَ و المُجاوَرةَ بَينَ بعضِها و بعضٍ أن تَجتَمِعَ (1) و تَتألَّفَ ، فَتُدرَكَ و تُمَيَّزَ إن كانَ المانِعُ مِن إدراكِها ما ادَّعَوه مِن اللطافةِ . و في فَسادِ ذلكَ دليلٌ علىٰ صحّةِ ما ذَكَرناه.(2)
[الدليل الثاني علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً](3)
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَقَعُ مِن فِعلِنا مُتولِّداً: أنّ الاعتمادَ الذي قد بيّنّاه مِن
قَبلُ أنّه السببُ المُعَدِّي لِلأفعالِ عن مَحَلِّ القُدرةِ ، هو الذي كان يولِّدُه(4) فكانَ مُتولِّداً، و لَو كانَ كذلكَ ، لَم يَكُن بِأن يولِّدَه(5) في بعضِ الجِهاتِ - مِن سَمتِ جهةِ الاعتمادِ - أَولىٰ مِن بعضٍ ، فكانَ (6) يَجِبُ أحَدُ أمرَينِ : إمّا وجودُ الجَوهرِ في سائرِ جِهاتِ ذلكَ الاعتمادِ، أو أن يوجَدَ لا في جهةٍ . و كِلا الأمرَينِ فاسدٌ.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ الجَوهرَ مُتولِّدٌ في أقرَبِ المُحاذِياتِ إلىٰ مَحَلِّ القُدرةِ ، و يَدَّعِيَ أنّه(7) مِن شُروطِ(8) تَوليدِ الاعتمادِ.
ص: 218
و ذلك: أنّا قد نولِّدُ (50) [الحركَةَ ](1) في طَرَفِ الرُّمحِ باعتمادِ أيدينا علىٰ أوّلِه؛ بدَلالةِ أنّ التولُّدَ لا يَتَراخىٰ ؛ فبَطَلَ أن يَكونَ مِن شُروطِ تَوليدِ الاعتماد أن يولِّدَ في أقرَبِ المُحاذِياتِ إلَيه.
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَدخُلُ تَحتَ مقدورِنا: أنّه لَو كانَ مِن فِعلِنا، لَكانَ إذا فَعَلَ أحَدُنا [الجوهرَ]، فقَد فَعَلَ كَونَه الذي يَكونُ به في الجهةِ ؛ لأنّ مَن أَوجَدَه فقَد جَعَلَه علَى الصفةِ المُوجَبةِ عن الكَونِ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه فاعلاً لِما كانَ به علىٰ تلكَ الصفةِ ، و الكَونُ لا يَصِحُّ فِعلُه في الجَوهرِ في ابتداءِ حالِ وجودِه؛ لأنّ تَقدُّمَ مُماسّةِ مَحَلِّ الاعتمادِ للمَحَلِّ الذي يولِّدُ فيه، شَرطٌ في تَوليدِه، فيَجِبُ إن كانَ مولِّداً للكَونِ أن يَكونَ مُماسّاً مَحَلَّه قَبلَ وجودِه. و هذا يَقتَضي أن يَكونَ مُماسّاً للمعدومِ . و في فَسادِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَتولَّدُ مِن الاعتمادِ.
فإن قيلَ : لِمَ قُلتم: إنّ الاعتمادَ لا يولِّدُ إلّابشَرطِ مُماسّةِ مَحَلِّه لِلمَحَلِّ الذي يولِّدُ(2)فيه ؟
قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ المُماسّةَ لا بُدَّ مِنها حتّىٰ يَتِمَّ [تولُّدُ](3) الكَونِ عن الاعتمادِ؛ فإمّا أن
ص: 219
تَكونَ (1) شَرطاً(2) في وجودِ الكَونِ ، أو في كَونِ الاعتمادِ مولِّداً(3).
و لَيسَ يَجوزُ أن تَكونَ (4) شَرطاً في وجودِ الكَونِ ؛ لصحّةِ وجودِه في الجُزءِ (5)المُنفَرِدِ؛ فثَبَتَ أنّ المُماسّةَ شَرطٌ في تَولُّدِ الكَونِ عن الاعتمادِ. و إذا كانَتِ الحالُ التي «يوجَدُ فيها الاعتمادُ، و يولِّدُ(6) في الثانيةِ (7)» الجَوهرُ فيها معدومٌ ، استَحالَت
مُماسَّتُه(8)، و إذا استَحالَت لَم يَجُز أن يَتولَّدَ الكَونُ عن الاعتمادِ و لا الجَوهرُ؛ لفَقدِ الشَّرطِ في تَوليدِه.
فإن قيلَ : فألَا كانَ ما ذَكَرتُموه جهةَ مَنعٍ ، و إن كانَ الجَوهرُ في مقدورِكم ؟
قُلنا: كُلُّ ما يؤَثِّرُ تأثيرَ المَوانِع، يجِبُ صحّةُ ارتفاعِه علىٰ وَجهٍ من الوجوهِ ، و إلّا التَبَسَ الجائزُ بالمُستَحيلِ .
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: نَحنُ نُقدِّرُ صحّةَ ارتفاعِه، بأن(9) يُصادِفَ فِعلُ أحَدِكم الجَوهرَ فعلَ اللّٰهِ تَعالىٰ فيه الكَونَ ، فيَظهَرُ، و تَزولُ (10) جهةُ المَنعِ .
و ذلكَ أنّ هذا باطلٌ مِن وَجهَينِ :
أحَدُهما: إذا جازَ أن يَحدُثَ الجَوهرُ في كُلِّ جهةٍ علَى البَدَلِ ، و قد صارَ كَونُه
ص: 220
في إحدَى الجهاتِ بمَنزلةِ كَونِ الكلامِ خَبَراً عن زيدٍ دونَ غَيرِه ممّن كانَ يَجوزُ أن يَكونَ خَبَراً عنه. و كما أنّ القادرَ علىٰ ذاتِ الخَبَرِ يَجِبُ أن يَكونَ هو الذي يَجعَلُه خَبَراً، فكذلكَ الجَوهرُ يَجِبُ أن يَكونَ الجاعِلُ له موجوداً هو الجاعِلَ له في بعضِ الجِهاتِ الّتي كانَ يَصِحُّ وجودُه فيها و في غيرِها علَى البَدَلِ . و كما يَجِبُ في الإرادةِ التي بها يَكونُ الخَبَرُ خَبَراً أن تَكونَ (1) مِن فِعلِ فاعلِ الخَبَرِ، كذلكَ يَجِبُ في الكَونِ الذي به يَكونُ الجَوهرُ كائناً في جهةٍ دونَ اُخرىٰ أن يَكونَ مِن فِعلِ فاعلِ الجَوهرِ.
و الوَجهُ الآخَرُ: أنّ الكَونَ في الجَوهرِ الذي يَفعَلُه، لَو كانَ حاصلاً فيه مِن فعلِ اللّٰهِ تَعالىٰ لَوجبَ أن يَكونَ تَعالىٰ قادراً علىٰ ذلك الكَونِ الذي به يَكونُ في تلكَ الجهةِ ، مِن غَيرِ أن يَكونَ قادراً [علىٰ ](2) أن يَفعَلَ فيه في ذلكَ الوقتِ ما يُضادُّ ذلكَ الكونَ ، و هذا مُحالٌ .
و إنّما قُلنا: إنّه يؤَدّي إلىٰ ذلك؛ لأنّه لَو كانَ قادراً علىٰ ضِدِّه و فَعَلَه، لَكانَ الجَوهرُ مُتولِّداً عن الاعتمادِ في خِلافِ جهتِه. و لا يَجوزُ أن يولِّدَ الاعتمادُ في خِلافِ جهتِه إلّا عندَ المُصاكّةِ (3)، و علىٰ وَجهٍ قد عُلِمَ بُعدُه هاهنا.
[الدليل الثاني علىٰ إبطال كون صانع العالم قادراً بقدرة](4)
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ فاعلَ الأجسامِ لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ : أنّه لا يَخلو مِن أن يَكونَ (51) جسماً، أو مُحدَثاً غَيرَ مُتحيِّزٍ.
ص: 221
و قد دَلَّلنا علىٰ أنّ الجسمَ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ الأجسامَ .
أمّا [ما](1) لَيسَ بمُتحيِّزٍ فلا يَصِحُّ (2) أن تَحُلَّه القُدرةُ ، و إذا لَم تَحُلَّه لَم تَخلُ مِن أن
توجَدَ(3): لا في مَحَلٍّ ، أو في مَحَلٍّ هو غَيرُه.
و يَفسُدُ القِسمُ الأوّلُ بما نُثبِتُه(4) مِن بَعدُ؛ مِن أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ بها الفِعلُ ، إلّابأن يُستَعمَلَ مَحَلُّها فيه أو في نَسبَتِه.
و يُفسِدُ الثانيَ : أنّ القُدرةَ لا تَحُلُّ إلّامَحَلاًّ فيه حَياةٌ ، و يَجِبُ أن تَكونَ (5)قُدرةً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّ مقدوراً واحداً لقادرَينِ ، و ذلكَ فاسدٌ.
فإن قيلَ : ما الدليلُ علىٰ صحّةِ ما ادَّعَيتُموه أوّلاً(6) مِن أنّ القادرَ إمّا أن يَجِبَ كَونُه قادراً، فتَكونَ هذه الصفةُ للنفسِ ، أو تَكونَ الصفةُ جائزةً ، فيَكونَ قادراً لعِلّةٍ هي القُدرةُ؟ و ما أَنكَرتُم أن يَكونَ قادراً بالفاعلِ ، لا للنفسِ و لا للعِلّةِ؟
قُلنا: لَو كانَ قادراً بالفاعلِ ، لَم يَكُن بأن يَكونَ قادراً علىٰ قُدَرٍ مِن المقدوراتِ أَولىٰ مِن قُدَرٍ؛ لأنّ المُخَصِّصَ ببعضِ المقدوراتِ دونَ بعضٍ إنّما هو القُدَرُ، و إذا فُقِدَت فلا مُقتَضِيَ للتخصيصِ . و هذا يؤَدّي إلى أن يَكونَ قادراً علىٰ ما لا نِهايةَ له،
ص: 222
و في ذلك صحّةُ مُمانَعتِه للقَديمِ ، و ذلكَ ما(1) سيَجيءُ بَيانُ فَسادِه.(2)
فإن قيلَ : و لِمَ زَعَمتُم أنّه لَو كانَ قادراً بالفاعلِ ، يوجِبُ أنْ لا يَتَناهىٰ مقدورُه ؟ و ما أَنكَرتُم أن يَتَناهى و يَختَصَّ مِن حَيثُ يَجعَلُه الفاعِلُ قادراً علىٰ قُدَرٍ(3) دونَ قُدَرٍ؟
قُلنا: لَو كانَ ما ادَّعَيتُموه صحيحاً، لَكانَ المُقتَضي له قَصْدَ الفاعلِ . [و] لا يُمكِنُ أن يَكونَ المقتضي له جَعْلَهُ له؛ لأنّ ذلك يوجِبُ أنّ كُلَّ شيءٍ جَعَلَه فهو قادرٌ.
و لا أن يُقالَ : إنّه كذلكَ لِجَعلِه له قادراً؛ لأنّه تعليلٌ بما يَدخُلُ المُعلَّلُ فيه. فلَم يَبقَ إلّا ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ المؤَثِّرَ هو القَصدُ، و هذا يَقتَضي إذا قَصَدَ كَونَ أحَدِنا قادراً وَ واجِداً مع ذلكَ القُدرةَ فيه، أن يَكونَ قادراً بالقُدرةِ و بالفاعلِ . و كُلُّ شيءٍ يُفسِدُ أن يَكونَ القادرُ قادراً علَى الشيءِ (4) بقُدرتَينِ ، يُفسِدُ أن يَكونَ قادراً عَلَيه مِن وَجهَينِ .
علىٰ أنّ ما يَتعلَّقُ بالفاعلِ يَحصُلُ علىٰ سَبيلِ الاختيارِ، و ما يَتعلَّقُ بالمعنى فالمؤَثِّرُ(5) فيه المعنىٰ علىٰ جهةِ الوجوبِ .
و أيضاً فإنّ ما يَتعلَّقُ بالمعنىٰ ، وجودُ المعنىٰ شَرطٌ [له]، حتّىٰ أنّه مَتىٰ زالَ
المعنىٰ زالَ ذلكَ الحُكمُ . و ما يَتعلَّقُ بالفاعلِ لا يؤَثِّرُ في زَوالِهِ عدمُ الفاعلِ ؛ فكيفَ يَجوزُ - مع ما ذَكَرناه - أن يَحصُلَ قادراً بالفاعِل، [مع] أنّه كانَ لا يَمتَنِعُ في هذه الصفةِ أن لا تَحصُلَ (6) في حالِ الحُدوثِ - لأنّها إن وجبَت مع الحُدوثِ ، لَم يَجُز
ص: 223
تَعلُّقُها بالفاعلِ - و إذا لَم تَحصُلْ في حالِ الحُدوثِ جازَ أن تَحصُلَ في حالِ البقاءِ ؛ لأنّ تلكَ الذاتَ لا يَمتَنِعُ أن تَكونَ حَيّةً ؛ لأنّ المُصَحِّحَ لِكَونِ الذاتِ قادرةً كَونُها حَيَّةً . و لو حَصَلَت هذه الصفةُ لَم يَصِحَّ (1) أن تَختَلِفَ (2) جهةُ استحقاقِها بأن تَحصُلَ في حالتَينِ . و مُحالٌ حُصولُ هذه الصفة بالفاعلِ في حالِ البقاءِ ؛ [لأنّه بعد أن لم تكن](3) الذاتُ حادثةً مِن الفاعلِينَ ، [بل تحدث بالفاعل] لا يَجوزُ أن تَصيرَ(4) به علىٰ صفةٍ مِن غَيرِ أن يَفعَلَ معنىً موجِباً لذلكَ (5)، و لهذا لَم يَكُن كلامُ غَيرِنا [لنا خَبَراً و لا](6) أمراً؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن [له] بنا مَحَلٌّ ثابتٌ (7)، و هذا قد تَقدَّمَ بَيانُه.
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَجوزُ وجودُ قادرٍ مُحدَثٍ لَيسَ مِن قَبيلِ (8) الجَواهرِ: أنّ ذلك (52) يَقتَضي في الإرادةِ الموجودةِ لا في مَحَلٍّ ، أن يوجِبَ ذلكَ كَونَهُ مُريداً، كما يوجِبُ ذلكَ فيه تَعالىٰ ؛ لأنّه لَيسَ لها معه تَعالىٰ مِن الاختصاصِ ما لَيسَ لها مع ذلكَ القادرِ، و كذلك الكراهةُ . و هذا يَمنَعُ مِن صحّةِ كَونِ أحدِهما مُريداً لِما الآخَرُ كارِهٌ له. و قد عَلِمنا أنّ هذا الحُكمَ لا بُدَّ مِن صحّتِه في كُلِّ حَيَّينِ .
ص: 224
و هذه الطريقةُ تَدُلُّ علىٰ نَفيِ ثانٍ قَديمٍ أيضاً.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ما ذَكَرناه: أنّ مِن حَقِّ معلولِ العِلّةِ [أن] لا يُعتبَرَ في حُصولِه إلّا وجودُ العِلّةِ ؛ بدَلالةِ أنّه لو اعتَبَرنا أمراً آخَرَ، لَم يُمنَعْ أن تَكونَ في قُلوبِ المَوتىٰ عُلومٌ ، و إنّما لَم تُوجِبِ الأحوالَ لفَقدِ كَونِهم أحياءً . فلَو كانَ قادرٌ مُحدَثٌ مِن غَيرِ قَبيلِ الجَواهرِ لوَجَبَ في الإرادةِ الموجودةِ لا في مَحَلٍّ أن توجِبَ (1) الحُكمَ له علىٰ ما بيّنّا، فَلو لَم تُخلَقْ (2) هذه الذاتُ لَكانَتِ الإرادةُ الموجودةُ لا في مَحَلٍّ يَمتَنِعُ وجودُها؛ لِفَقدِ مَن توجِبُ (3) الحكمَ له، [و] وجبَ (4) أن لا يَمتَنِعَ وجودُها؛ لأنّه تعالى علَى الصفةِ التي يَصِحُّ أن توجِبَ (5) الإرادةُ الحُكمَ له معها بمِثلِه. و بهذه الطريقةِ أحَلنا أن يكونَ المعنى الواحدُ يوجِبُ الصفةَ للجُملةِ و المَحَلِّ .
و هذه الجُملةُ تُبطِلُ (6) أن يَكونَ صانعُ العالَمِ مُحدَثاً؛ سَواءً قيل أنّه جسمٌ أو عَرَضٌ ، أو لم يوصَفْ بإحدى الصفتَينِ ؛ لأنّ القسمةَ التي قَدَّمناها في اعتبارِ كَونِه قادراً، و كيفيّةِ حُصولِه تأتي(7) علىٰ فَسادِ ذلكَ مِن طريقِ المعنىٰ ، و العباراتُ لا اعتبارَ بها مع صحّةِ المَعاني.
ص: 225
ص: 226
اعلَمْ أنّه لَو استَحقَّ كونَه قادراً، بَعدَ أن لَم يَستَحِقَّ ذلكَ ، لَوجبَ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، و سَنُبيِّنُ فَسادَ تَعلُّقِ كَونِه قادراً بمعنىً مُحدَثٍ .(1)
فإن قيلَ : بَيِّنوا صحّةَ ما ادَّعَيتُم.
قُلنا: لَيسَ يَخلو استحقاقُه لكَونِه قادراً مِن أحَدِ أمرَينِ : إمّا أن يَكونَ حَصَلَ علىٰ سَبيلِ الوُجوبِ ، أو يَكونَ قادراً مع جَوازِ أن لا يَكونَ بهذه الصفةِ .
فإن كانَ الأوّلُ ، وجبَ أن يَكونَ قادراً لنفسِه، أو لِما عَلَيه في نفسِه؛ و أيُّ الأمرَينِ ثَبَتَ وجبَ كَونُه قادراً فيما لم يَزَلْ .
ص: 227
و إن كان قادراً مع جَوازِ أن لا يَكونَ كذلكَ ،(1) وَجَبَ أن يَكونَ قادراً لمعنىً مُحدَثٍ .
و إن شئتَ أن تَقولَ : تَجدُّدُ الصفةِ لا يَصِحُّ [إلّا] علىٰ أحَدِ أمرَينِ : إمّا [على] تجدّد مُقتَضيها أو [تَجدُّدِ شَرطِها](2)، و لَن تَتجدَّدَ لأمرٍ معقولٍ سِوىٰ ما ذَكَرناه.
فإن تَجدَّدَ كَونُه قادراً لِتجدُّدِ المُقتَضي، فلَيسَ ذلكَ إلّاالقُدرةُ ، و فَسادُه يأتي بعَونِ اللّٰهِ .(3)
و إن كانَ بتجدُّدِ الشرطِ، فالشرطُ المعقولُ في كَونِ القادرِ قادراً عدمُ المقدورِ، و ذلك غَيرُ مُتجدِّدٍ، بل هو حاصلٌ فيما لَم يَزَل، فيَجِبُ حُصولُ الصفةِ فيما لَم يَزَلْ .
و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : الشرطُ في ذلكَ صحّةُ وجودِ المقدورِ، و هذا ممّا يَتجدَّدُ، و لا يَثبُتُ فيما لَم يَزَل.
و ذلك: أنّ صحّةَ وجودِ المقدورِ تابعةٌ لكَونِ القادرِ قادراً، و لا يَصِحُّ أن يُجعَلَ كَونُه قادراً مُفتَقِراً إليها و مَشروطاً بها(4)؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ تَعلُّقَ كُلِّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه و كَونَه(5) مَشروطاً به، و فَسادُ مِثلِ ذلكَ ظاهِرٌ.
علىٰ أنّ الفِعلَ فيما لَم يَزَل كانَ (53) يَصِحُّ أن يَقَعَ في المُستَقبَلِ ، و لَيسَ مِن
ص: 228
شَرطِ القادرِ أن يَصِحَّ مِنه الفِعلُ في حالِ كَونِه قادراً، بل وجودُ الفِعلِ في حالِ كَونِ القادرِ قادراً عليه مُحالٌ بما سَيأتي في الكتابِ بمَشيّةِ اللّٰهِ و عَونِه.
و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ الشرطَ هو صحّةُ الفِعلِ علَى الوَجهِ الذي لا يَتقدَّمُه(1) كَونُه
قادراً، إلّابوَقتٍ واحدٍ.
و ذلكَ : أنّ أحَدَنا يَقدِرُ علىٰ ما يُقطَعُ (2) أنّ الشرطَ هو صحّةُ الفِعلِ بَعدَ أوقاتٍ ؛ كإصابةِ الغَرَضِ بالسهمِ (3) و ما جَرىٰ مَجراها.
و لأنّ القُدرةَ قد ثَبَتَ (4) بالدّليلِ بَقاؤها(5)، و هي قُدرةٌ علىٰ كُلِّ ما يوجَدُ في الأحوالِ المُستَقبَلةِ .
علىٰ أنّ الفِعلَ إنّما يَستَحيلُ وجودُه فيما لَم يَزَلْ لأمرٍ يَرجِعُ إليه لا إلَى القادرِ، و ما يَرجِعُ إلى الفِعلِ لا يَحُلُّ بما صَحَّحَ الفِعلَ مِن القادرِ؛ ألا تَرىٰ أنّ الممنوعَ قادرٌ و إن تَعذَّرَ [عليه] الفِعلُ لِمانعٍ مؤثِّرٍ في وجودِ الفِعلِ؟
علىٰ أنّ كَونَه قادراً، إن وُجِدَ(6) علىٰ سَبيلِ الوُجوبِ لأجلِ حُصولِ شُبهةٍ ،
ص: 229
لَم يَخلُ (1) المؤثِّرُ في ذلكَ مِن أن يَكونَ ما هو عَلَيه في نفسِه، أو كَونَه حَيّاً.
و ما عَلَيه الشيءُ في نفسِه لا يَجوزُ أن يَكونَ مشروطاً بأمرٍ منفَصِلٍ . و هذا يَقتَضي وجوبَ الصفةِ و حُصولَها في كُلِّ حالٍ .
و إن كانَ كَونُه حيّاً هو المؤثِّرَ في كَونِه قادراً، وجبَ مِثلُ ذلكَ فينا، و أن نَستَغنيَ في كَونِنا قادرينَ عن القُدرةِ . و قد دَلَّ الدليلُ علىٰ أنّ أحَدَنا لا يَكونُ قادراً إلّا بقُدرةٍ ؛ فيَجِبُ فَسادُ ما أدّىٰ إلىٰ خِلافِه.
و إذا ثَبَتَ أنّه قادرٌ فيما لَم يَزَل، ثَبَتَ أنّه حَيٌّ بوجودٍ لَم يَزَلْ ؛ لتَعلُّقِ كَونِه قادراً بكَونِه حَيّاً موجوداً.
و لأنّه لَو كانَ حَيّاً بَعدَ [أن] لَم يَكُن حَيّاً، لَوجبَ كَونُه كذلكَ لمعنىً مُحدَثٍ . و لَو تَجدَّدَ وجودُه مع جَوازِ أن لا يَتجدَّدَ، لاحتاجَ إلىٰ مُحدِثٍ ، و لأدّىٰ إلىٰ وجودِ ما لا نِهايةَ له مِن المُحدِثينَ .
و الكلامُ في أنّه عالمٌ فيما لَم يَزَلْ يَجري أيضاً على الطريقةِ التي تَقدَّمَت؛ لأنّه لو تَجدَّدَ كَونُه عالِماً، لَكانَ (2) يَتجدَّدُ مع جَوازِ أنْ لا يَتجدَّدَ و الحالُ واحدةٌ ؛ لأنّه لا شَرطَ معقولٌ تَعلَّقَ تَجدُّدُه به، و ذلك يَقتَضي أنّه تَجدَّدَ لِتَجدُّدِ عِلمٍ مُحدَثٍ .
ص: 230
[1. نفي أن يكون شرط تجدّد كونه عالِماً هو وجود المعلوم](1)
فإن قيلَ : ألّاأجرَيتُم كَونَه عالِماً مَجرىٰ كَونِه مُدرِكاً، و جَعَلتُم الشرطَ في تَجدُّدِه وجودَ المعلومِ ، كما أنّ الشرطَ عندكم في تَجدُّدِ كَونِه مُدرِكاً وجودُ المُدرَكِ ؛ فلا يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ (2)، كما لا يَجِبُ مِثلُ ذلك في كَونِه مُدرِكاً؟
قُلنا: الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ واضحٌ ؛ لأنّ الإدراكَ يَستَحيلُ تَعلُّقُه بالمَعدومِ ؛ فوجبَ
أن يَكونَ وجودُه شَرطاً في تَعلُّقِ الإدراكِ به. و لَيسَ كذلك العِلمُ ؛ لأنّه يَتعلَّقُ بالمعدومِ و الموجودِ علىٰ سَواءٍ ، و سَنُبيِّنُ ذلكَ .(3)
علىٰ أنّه جَرىٰ كَونُه عالِماً مَجرىٰ كَونِه مُدرِكاً في تَعلُّقِه بشَرطٍ، فيَجِبُ أن يَكونَ المُقتَضي لكَونِه عالِماً هو كَونَه حَيّاً(4) بشَرطِ وجودِ المعلومِ ، كما اقتَضى ذلكَ كَونَه مُدرِكاً، و هذا يوجِبُ أن يكونَ أحدُنا متىٰ وُجِدَ المعلومُ ، يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً به؛ لحُصولِ المُقتَضِي و هو كَونُه حَيّاً، و الشَّرطِ و هو وجودُ المعلومِ ، كما وجبَ ذلكَ في كَونِ أحَدِنا مُدرِكاً، و قد عَلِمنا فَسادَ ذلكَ .
و الّذي يَدُلُّ علىٰ صحّةِ تَعلُّقِ العِلمِ بالمعدومِ كصحّتِه بالموجودِ، أشياءُ :
مِنها: أنّ الفاعلَ للمُحكَمِ مِن الفِعلِ ، متىٰ لَم يَكُن عالِماً بكيفيّةِ إيقاعِه علىٰ وَجهِ
ص: 231
الإحكامِ قَبلَ أن يَفعَلَه (54) لَم يَصِحَّ أن يَقَعَ مِنه مُحكَماً، و هذا يوجِبُ أن يكونَ المعدومُ معلوماً.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ العِلمَ بما ذَكَرتُم مِن الصَّنائعِ المُحكمَةِ ، لا يَتعلَّقُ بالمعدومِ في الحقيقةِ ، و إنّما يَتعلَّقُ بوجودِه.
و ذلكَ : أنّ هذا القولَ يوجِبُ أن لا يَعلَمَ العالِمُ مِن الكتابةِ و غَيرِها مِن الصَّنائعِ المُحكَمةِ إلّاما يوجَدُ لا مَحالَةَ في المُستَقبَلِ ، أو وُجِدَ فيما مَضىٰ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
علىٰ أنّ العِلمَ الذي أُشيرَ إليه لَو كانَ يَتعلَّقُ في حالِ عدمِ العِلمِ بوجودِه، لَاستحالَ مع بقاءِ هذا العِلمِ الجَهلُ بوجودِه؛ مِن حَيثُ كانَ يؤَدّي إلى الجَهلِ بالشيءِ علَى الوَجهِ الذي عُلِمَ عَلَيه. و في صحّةِ كَونِه عالِماً به قَبلَ وجودِه مع جَهلِه به عندَ وجودِه، دَلالةٌ على أنّ العِلمَ الذي ذَكَرناه لا يَتعلَّقُ بوجودِه.
و بَعدُ، فإنّ العِلمَ بكيفيّةِ إيجادِ فِعلِ الكتابةِ به مَثَلاً، عِلمُ جُملةٍ لا يَتعلَّقُ بحُروفٍ مخصوصةٍ ؛ فكيف يُقالُ : إنّه عِلمٌ بما يوجَدُ مِنها؟ و كيفَ يَكونُ العِلمُ بالموجودِ منها و هو علمٌ تفصيليٌّ ، هو العِلمُ المتعلِّقُ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، و اختلافُهما ظاهرٌ؟!
و مِنها: أنّا نَعلَمُ الثوابَ و العِقابَ ، و البَعثَ و النُّشورَ، و كُلُّ ذلك معدومٌ . و أهلُ الجَنّةِ لا بُدَّ أن يَعلَموا أنّ ثَوابَهم دائمٌ متَّصِلٌ و إن كانَ معدوماً.
و منها: أنّ أحَدَنا يَعلَمُ ما تَقَضّىٰ (1) مِن أفعالِ غَيرِه؛ ككَلامِه و قيامِه و قُعودِه و ضُروبِ أفعالِه.
و لا يَجوزُ أن يُقالَ في هذه العلومِ : إنّها تَتعلَّقُ في الحقيقةِ بأنّ هذه الأفعالَ كانَت موجودةً .
ص: 232
و ذلكَ : أنّ العالِمَ بها يُفصِّلُ بَينَ حالةٍ قد كانَ عالِماً بوجودِها مِن قَبلُ و بَينَ عِلمِه الآنَ بها بَعدَ تَقضّيها، كما يُفصِّلُ بَينَ حالتَيه فيما يَعلَمُه مِن وجودِ الجسمِ و كَونِه مُتحرِّكاً، و لا شيءَ أظهَرُ ممّا يَجِدُه الإنسانُ مِن نفسِه.
و ممّا يُقالُ في(1) ذلك أيضاً: إنّا قد فَصَّلنا بَينَ القَديمِ و المُحدَثِ ، و لَو كانَ المعدومُ لَن(2) يَصِحَّ أن يُعلَمَ لَما وَقَعَ هذا العِلمُ ؛ لأنّ العِلمَ بحُدوثِ الذاتِ هو عِلمٌ بعدمِها قَبلَ وجودِها.
و إذا قيلَ : إنّ العِلمَ بتجدُّدِ الوجودِ يَكفي في ذلك.
أمكَنَ أن يُقالَ : إنّ تَجدُّدَ الوجودِ إذا حَصَلَ ، لَم يُعقَلْ مِنه إلّاالوجودُ بَعدَ العدمِ ، و إلّا فهو غَيرُ معقولٍ .
فإن قالَ قائلٌ : كيفَ يَصِحُّ القولُ بأنّه تَعالىٰ «عالِمٌ بالمعلوماتِ كُلِّها فيما لَم يَزَلْ »؟ و هو الآنَ عالِمٌ بأنّها موجودةٌ ، و فيما لَم يَزَلْ لا يَصِحُّ وصفُه بالعِلمِ (3) بذلكَ ، بل كانَ عالِماً بأنّها غَيرُ موجودةٍ و أنّها سَتوجَدُ. و كذلكَ كانَ عالِماً فيما لَم يَزَلْ بأنّه غَيرُ فاعلٍ ، و الآنَ لا يُوصَفُ [بالعِلمِ ](4) بذلكَ ، بل يوصَفُ بالعِلمِ بأنّه فاعِلٌ . و هذا يَقتَضي حُدوثَ العِلمِ ، علىٰ ما ذَهَبَ إليه مُخالِفُكُم!
قيلَ له: قد بَيَّنَ عُلماءُ أهلِ التوحيدِ الجوابَ عَن هذا السؤالِ ، و أزالوا الشُّبهةَ به،
ص: 233
فقالوا: إنّ العِلمَ بأنّ الشيءَ سيوجَدُ، هو بعَينِه عِلمٌ بوجودِه إذا وُجِدَ، و بأنّه كانَ موجوداً إذا مضىٰ . و إنّ تَعلُّقَ العِلمِ لا يَختَلِفُ باختلافِ العبارةِ ، كما أنّ الوقتَ المخصوصَ تَختَلِفُ العبارةُ عَلَيه؛ فيوصَفُ إذا كانَ مُستَقبَلاً بأنّه غَدٌ، و إذا كان حاضِراً بأنّه يَومٌ ، و إذا مضىٰ بأنّه أمْسِ ، فتَختَلِفُ العبارةُ ، و المُعبَّرُ عنه غَيرُ مختَلِفٍ في نفسِه.
و ذَكَروا أنّ الدَّلالةَ فيما تَتعلَّقُ (1) به تَجري(2) مَجرَى العِلمِ فيما ذَكَرناه.
فأمّا الخَبَرُ الصِّدقُ : فمِن حَيثُ الفائدةِ و المعنى يَجري مَجرَى العِلمِ و الدَّلالةِ ، و يُخالِفُهما مِن حَيثُ الصورةِ (55) و الصيغةِ ، لأنّ صيغةَ الخَبَرِ تَختَلِفُ بالماضي و المُستَقبَلِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ العِلمَ ب [أنّ ] الشيءَ سَيوجَدُ، هو [بعينه](3) عِلمٌ بوجودِه إذا
وُجِدَ: أنّه لَو لَم يَكُن كذلكَ ، لَصَحَّ بقاؤه مع الجهلِ بوجودِ ذلكَ الشيءِ ؛ مِثلَ أن يَعلَمَ أنّ زَيداً سيَموتُ في غَدٍ، و يَجهَلُ في غَدٍ مَوتَه مع بقاءِ عِلمِه الأوّلِ . و في عِلمِنا باستحالةِ كَونِه جاهلاً بالمعلومِ مع بقاءِ العِلمِ الأوّلِ دَلالةٌ علىٰ صحّةِ ما قُلناه؛ مِن أنّ مُتعلَّقَ العِلمِ (4) الأوّلِ هو وجودُه.
و إنّما قُلنا: إنّه لا يُنكَرُ وجودُ الجهلِ مُصاحِباً لبقاءِ العِلمِ الأوّلِ ؛ لأنّ مُتعلَّقَهما - على ما يَذهَبُ إليه المُخالِفُ - لا يَتناوَلُ وَجهاً واحداً. و كُلُّ عِلمَينِ تَعلَّقا بالمعلومِ
ص: 234
علىٰ وَجهَينِ ، جازَ(1) وجودُ كُلِّ واحدٍ مِنهما مع الجهلِ المُضادِّ لِلآخَرِ، إذا لَم يَكُن أحَدُهما أصلاً للآخَرِ.
و لَيسَ هذا الدليلُ مبنيّاً(2) علىٰ وجوبِ بقاءِ العِلمِ ، فَيُرفَضَ (3) بأنّه لا يَبقىٰ ، بل قد يَجوزُ أن يُقالَ : «لَو بَقِيَ كيفَ كانَت تَكونُ (4) الحالُ في جَوازِ مُصاحَبةِ الجَهلِ الذي ذَكَرناه له [و عدمِ جوازِه](5)؛ فإذا عُلِمَ استحالةُ مُصاحَبتِه له لَو بَقيَ ، عُلِمَ أنّه يَتعلَّقُ بوجودِ الذاتِ ؛ لأنّ بقاءَ العِلمِ لا يَقلِبُ مُتعلَّقَه و يَجعَلُه مُتعلِّقاً بغَيرِ ما كانَ مُتعلِّقاً به» لَو(6) قيلَ ، بل لا بُدَّ مِن قولِنا: لَو بَقيَ أو وُجِدَ مِثلُه في الثاني لَصحَّ الكلامُ ؛ لأنّه إذا استحالَ مُصاحَبةُ الجَهلِ (7) لِما هو مِثلُ العِلمِ الأوّلِ ، صَحَّ أنّ الأوّلَ يَتعلَّقُ بما يَتعلَّقُ به الثاني؛ مِن وجودِ الذاتِ في الوقتِ الذي توجَدُ(8) فيه.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ العِلمَ بأنّه سيوجَدُ، لَو لَم يَكُن عِلماً بوجودِه - علىٰ صفةِ ما ذَكَرناه -، لَكانَ لا يَخلو لَو بَقِيَ إلىٰ حالِ وجودِ ذلكَ الشيءِ المعلومِ ، مِن أن يَكونَ : عِلماً بأنّه سَيوجَدُ، أو عِلماً بوجودِه.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ عِلماً بأنّه سَيوجَدُ و هو موجودٌ؛ لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلَى انقلابِه
ص: 235
في حالِ البقاءِ جهلاً، و قد عُلِمَ أنّ بقاءَ الشيءِ لا يَقلِبُ جنسَه، فيَجِبُ أن يَكونَ عِلماً بوجودِه.
و يَدُلُّ أيضاً عَلَيه: أنّ العِلمَ بأنّ زَيداً سَيَقومُ في غَدٍ، لَو لَم يَكُن عِلماً بقيامِه، لَكانَ لا يُنكَرُ أن يَذكُرَ هذا العالِمُ أنّه كانَ عالِماً بذلكَ ، و إن جَهِلَ قيامَه أو لَم يَعلَمْه؛ لأنّ ذِكرَ العِلمِ لَيسَ بأقوىٰ مِن العِلمِ نفسِه. و إذا كانَ العِلمُ الأوّلُ لا يَتعلَّقُ بقيامِه لَو بَقيَ ، فذِكرُه لا يَمنَعُ مِن الجهلِ بقيامِه. و قد عَلِمنا خِلافَ ذلك.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ صحّةِ ما ذَكَرناه: أنّ النبيَّ صلّى اللّٰه عليه و آله لَو أخبَرَ بأنّ زَيداً سَيَموتُ ، لَكانَ ذلكَ الخَبَرُ دليلاً علىٰ مَوتِه. و يَجِبُ أن يَكونَ مَن استَدَلَّ به قَبلَ
مَوتِه أو في حالِ المَوتِ أو بَعدَه، سَواءً فيما يَتولَّدُ مِن العُلومِ المُتَماثِلةِ ؛ لأنّ النظَرَ في الدليلِ الواحدِ مِن الوَجهِ الواحدِ لا يُولِّدُ عُلوماً مختلِفةً ، و لا يولِّدُ إلّاالمُتَماثِلَ مِن العُلومِ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ ، و يوضِحُ (1) أنّ اختلافَ العبارةِ لا تأثيرَ لها في هذا البابِ : أنّا نَعلَمُ أنّ مَن عَلِمَ شيئاً أنّه يَكونُ في الوقتِ العاشرِ، مَتىٰ بَقيَ عِلمُه إلى الثاني، فلا بُدَّ أن يَكونَ عِلماً بأنّه سَيَكونُ في الوقتِ التاسعِ (2). و كذلكَ إذا بَقِيَ إلى الثالثِ يَكونُ عِلماً بكَونِه في الثامِنِ .
و علىٰ هذا لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما ذَكَروه، لَوجبَ أن يَكونَ ما يَتعلَّقُ (3) بكَونِه
ص: 236
في العاشرِ لا يَكونُ في الثاني مُتعلِّقاً بكَونِه في (56) التاسعِ ؛ لأنّ العِلمَينِ عندَهم مُختَلِفانِ (1). و في وضوحِ فَسادِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّ اختلافَ العبارةِ علَى العِلمِ - الذي جَعَلَه العِلمُ شُبهتَهم في هذا البابِ - لا يَقتَضي اختلافَ مُتعلَّقِ العِلمِ .
و أمّا(2) وصفُنا له تَعالىٰ بأنّه عالِمٌ فيما لَم يَزَلْ بأنّ الدُّنيا غَيرُ موجودةٍ ، و وصفُه الآنَ بأنّه يَعلَمُها موجودةً : فلا شُبهةَ في مِثلِه إذا تُؤُمِّلَ حَقَّ التأمُّلِ ، و لَم نَصِفْه الآنَ مِن العِلمِ إلّابما وَصَفناه به فيما لَم يَزَلْ ، متىٰ أُضيفَ تَعلُّقُ العِلمِ بالمعلومِ إلى الأوقاتِ أو ما يُقدَّرُ تقديرَها؛ لأنّه تَعالىٰ كانَ عالماً فيما لَم يَزَلْ بأنّ الدُّنيا غَيرُ موجودةٍ في تلكَ الأحوالِ الموصوفةِ بأنّها لَم تَزَلْ ، و هو الآنَ عالِمٌ بأنّ الدُّنيا غَيرُ موجودةٍ في تلكَ الأحوالِ ، كما كانَ . و إذا وَصَفناه الآنَ بأنّه عالِمٌ بوجودِها في هذه الأوقاتِ ، فما وَصَفناه إلّابما كانَ عَلَيه فيما لَم يَزَلْ ؛ لأنّه لَم يَزَل عالِماً بوجودِها في هذه الأوقاتِ .
و كذلكَ القولُ في وَصفِنا له بالعِلمِ بأنّه: غَيرُ فاعلٍ فيما لَم يَزَلْ . و الآنَ فاعلٌ ؛ لأنّه إذا أُضيفَ إلَى الأوقاتِ زالَت الشُّبهةُ مِنه.
و انتفاءُ العِلمِ فيما لَم يَزَلْ غَيرُ انتفائِه في سائرِ الأحوالِ ، كما أنّ ثُبوتَه الآنَ لا يقتضي ثُبوتَه فيما تَقدَّمَ . و هو عالِمٌ [فيما] لَم يَزَلْ و في كُلِّ حالٍ : بانتفاءِ الفِعلِ في الوقتِ الذي انتَفىٰ فيه، و بثُبوتِه في الوقتِ الّذي ثَبَتَ فيه.
ص: 237
و قد استَقصَينا الكلامَ في هذا المعنىٰ ، و في أنّ المعدومَ يَصِحُّ تَناوُلُ العِلمِ له؛ سَواءٌ كانَ ممّا قد عُدِمَ بَعدَ وجودٍ، أو ممّا لَم يوجَد في وقتٍ مِن الأوقاتِ ، و
شَرَحناه و بَسَطناه في نَقضِنا علىٰ يَحيى بنِ عَدِيٍّ النَّصرانِيِّ مَقالتَه الموسومةَ ب «الكلامُ في طبيعةِ المُمكِنِ »(1).
و ذَكَرنا أنّ الأظهَرَ عندَنا أن يَكونَ العِلمُ بأنّ الشيءَ سَيوجَدُ، هو مَجموعُ عِلمَينِ ؛ أحَدُهما يَتناوَلُ وجودَه في الوقتِ الذي يوجَدُ فيه، و الآخَرُ: يَتناوَلُ عدمَه قَبلَ ذلكَ ، و أنّه لَم يَكُن مَوجوداً.
و تَجري هذه اللَّفظةُ في أنّها عبارةٌ عَن عِلمَينِ : مَجرَى العِلمِ بأنّ الذاتَ مُتحرِّكةٌ ؛ لأنّ ذلكَ يُنبئُ عن كَونِها في المَكانِ عَقِيبَ كَونِها في غَيرِه. و مَجرَى العِلمِ بالمُعادِ، في أنّه مجموعُ ثَلاثةِ عُلومٍ : أحَدُها يَتناوَلُ وجودَه، و الآخَرُ يَتَناوَلُ عدمَه قَبلَ هذا الوجودِ، و الآخَرُ يَتَناوَلُ وجودَه قَبلَ ذلكَ العدمِ .
و قَوَّينا هذه الطريقةَ بما لا يُحتاجُ إلىٰ تَكرارِه هاهنا. و مَن أراده علىٰ وَجهِه وَقَف عَلَيه مِن هُناكَ .
***
ص: 238
[2] فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَختَصُّ في ذاتِه بصفةٍ زائدةٍ على ما ذَكَرناه و الرَّدُّ علىٰ أصحابِ المائيّةِ (1)
اِعلَمْ (2) أنّ كُلَّ ما لِلعِلمِ به طريقٌ ، فإنّه لا يَجوزُ إثباتُه علىٰ صفةٍ لا يَقتَضيها(3) ذلكَ الطريقُ ؛ إمّا بنفسِه أو بواسطةٍ ، و قد عَلِمنا أنّ طريقَ إثباتِه تَعالىٰ هو الفِعلُ ؛ لأنّه بأفعالِه يُتوصَّلُ إلىٰ إثباتِه، فيَجِبُ أن تَكونَ أوصافُه مُثبَتةً مِن طريقِ الفِعلِ أيضاً؛ إمّا بنفسِه أو بواسطةٍ .
أحَدُهما: أنّ كُلَّ شيءٍ ثَبَتَ مِن طريقٍ ، فمِنه تَثبُتُ أحوالُه و صفاتُه.
ص: 239
و المَوضِعُ الآخَرُ: أنّ الفِعلَ لا يَدُلُّ علىٰ صفةٍ تَزيدُ علىٰ ما أثبتناه؛ لا بنفسِه و لا بواسطةٍ .
و الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ : وجودُنا [و] سائرُ المُدرَكاتِ كالسوادِ و غَيرِه، لمّا ثَبَتَت بالإدراكِ ، لَم يَصِحَّ أن تَثبُتَ (1)(57) لها صفةٌ لا يَقتضيها(2) إدراكٌ بنفسِه أو بواسطةٍ .
و كذلك كَونُ الجسمِ مُتحرِّكاً، لمّا كانَ الطريقَ إلىٰ إثباتِ ذاتِ الحركةِ ، كان هو الطريقَ إلىٰ إثباتِ صفاتِها؛ حتّىٰ لا نُثبِتُ (3) لها شيئاً مِن الصفاتِ إلّاو كَونُ الجسمِ مُتحرِّكاً طريقٌ إليه بنفسِه أو بواسطةٍ .
و القولُ بخِلافِ ما ذَكَرناه يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ ، و إلىٰ إثباتِ أحوالٍ و مَعانٍ له تَعالىٰ و لغَيرِه مِن المُدرَكاتِ سِوىٰ ما عَقَلناه لا نِهايةَ لها، و ذلكَ تشكيكٌ في العِلمِ بتَضادِّ(4) الذَّواتِ و تَماثُلِها، و إيجابِ العِلَلِ و تأثيرِ الأسبابِ .
و الذي يَدُلُّ علَى الأصلِ الثاني: أنّ الفِعلَ بمُجرَّدِه لا يَدُلُّ إلّاعلىٰ كَونِ مَن صَحَّ مِنه قادراً، و وقوعُه علىٰ وَجهِ الإحكامِ لا يَقتَضي إلّاكَونَه عالِماً. و وقوعُه(5) علىٰ وَجهٍ دونَ آخَرَ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِه مُريداً أو كارهاً. و كَونُه علىٰ هذه الصِّفاتِ يَدُلُّ علىٰ كَونِه حَيّاً. و وجوبُ هذه الصفاتِ له يَقتَضي علىٰ رأيِ أبي هاشمٍ إثباتَ صفةٍ له نَفسيّةٍ (6)، لأجلِها وجبَت هذه الصفاتُ . و لَيسَ في الفِعلِ و لا فيما يَرجِعُ إليه ما يَقتَضي ما يَدَّعونَه مِن المائيّةِ ، فيَجِبُ نَفيُها.
فإن قيلَ : أ لَيسَ أثبَتَ أبو هاشمٍ له تَعالىٰ صفةً نفسيّةً أوجَبَت عندَه ما ذَكَرتُموه
ص: 240
مِن الصفاتِ؟ و هذا قولٌ بمَذهَبِ ضِرارٍ(1) في المائيّةِ في المعنى!
قُلنا: لَم يُثبِتْ أبو هاشمٍ إلّاما اقتَضاهُ الفِعلُ ؛ لأنّه لمّا ثَبَتَ (2) بالفِعلِ عندَه(3) كَونُه تَعالىٰ علَى الصفاتِ الّتي ذَكَرناها، و وجبَت له هذه الصفاتُ ، و استَحَقَّها علىٰ خِلافِ ما يَستَحِقُّها غَيرُه، أثبَتَه تَعالىٰ علىٰ صفةٍ تَقتَضي ذلكَ ؛ فلَم يُثبِت(4) علىٰ كُلِّ حالٍ إلّاما اقتَضاه الفِعلُ .
فإن كانَ ضِرارٌ إنّما عَنىٰ بالمائيّةِ هذه الحالَ الّتي أثبَتَها أبو هاشمٍ ، فقَد أصابَ المعنىٰ مِن وَجهٍ .
و أخطأَ في قولِه: «إنّ اللّٰهَ تَعالىٰ يَعلَمُ نفسَه عَلَيها، و أنّ غَيرَه لا يَعلَمُه كذلكَ »؛ لأنّا قد عَلِمنا بالدليلِ [عدمَ ](5) كَونِه تَعالىٰ علىٰ هذه الحالِ المخصوصةِ .
و أخطأَ في قولِه: «إنّه يُدرِكُ نفسَه عَلَيها، و نُدرِكُه نَحنُ يَومَ القِيامة أيضاً عَلَيها»؛ لأنّ الإدراكَ مُستَحيلٌ علىٰ ذاتِه تَعالىٰ ، بما سَيأتي في الكتابِ بعَونِ اللّٰهِ (6).
ص: 241
و أخطأَ أيضاً في العبارةِ ، و تَسمِيَتِه هذه الصفةَ بأنّها: «مائيّةٌ »؛ لأنّ أحَداً مِن الأُمّةِ لا يَستَعمِلُ هذه اللفظةَ فيه عَزَّ و جَلَّ ، كما لا يَستَعمِلُ الكيفيّةَ و الكمّيّةَ ؛ لأنّ المائيّةَ لا تُستَعمَلُ إلّافيما له نظيرٌ.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ بُطلانِ قولِه بالمائيّةِ : أنّه لا يَصِحُّ إثباتُ الذاتِ علىٰ صفةٍ ثُبوتُها في جميعِ الأحكامِ المعقولةِ كانتفائِها؛ لأنّ ذلك يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ ، و إلىٰ إثباتِ ما لا يَتَناهىٰ مِن الصِّفاتِ ! و لهذا لا يَجوزُ أن يُجعَلَ في المَحَلِّ معنىً يَختَصُّه، إلّاو يَحصُلُ للمَحَلِّ معه حُكمٌ لَولاه لَما حَصَلَ . و قد عَلِمنا أنّ هذه المائيّةَ التي أشاروا إليها لا حُكمَ لها يَقِفُ عَلَيها؛ حتّىٰ إنّها لَو لَم تَثبُتْ لَم يَكُن حاصِلاً، فيَجِبُ نَفيُها.
فإن قيلَ : فأيُّ حُكمٍ لِكَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً؟
قلنا: إنّ كَونَه تَعالىٰ غَنِيّاً لا يَثبُتُ إلّامعه(1)، كما أنّ الحاجةَ تَثبُتُ معه فينا، و هذا حُكمٌ معقولٌ .
و قد قيل: إنّ الذي يَجِبُ في الصفةِ ، أن يَكونَ لها حُكمٌ في مَوضعٍ مِن المَواضِعِ ، و لَيسَ بواجِبٍ ذلكَ في كُلِّ مكانٍ . و علىٰ (2) وَجهٍ مّا لِكَونِه مُدرِكاً حُكمٌ ، و هو عِلمُ المُدرَكاتِ مُفصَّلاً. و المائيّةُ التي ادَّعَوها لا حُكمَ لها علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ (58).
132
و يُمكِنُ أن يُقالَ زائداً علىٰ ذلكَ : إنّ كَونَ المُدرِكِ مُدرِكاً يَقتَضيهِ كَونُه حَيّاً، و إن كانَ مشروطاً. و ما تَقتَضيهِ الصفةُ و يَجِبُ عنها جارٍ مَجرَى الصفةِ و كالجُزءِ منها.
ص: 242
و إذا كانَ لِكَونِه حَيّاً حُكمٌ معقولٌ ، فذلكَ الحُكمُ كأنّه حُكمُ كَونِه مُدرِكاً؛ لاقتضاءِ الصفةِ الأُخرىٰ ، و مِثلُ ذلكَ لا يُمكِنُ في المائيّةِ .
و تَعلُّقُ ضِرارٍ في هذا البابِ بإطلاقِ الأمرِ أنّه أعلَمُ بنفسِه مِنّا، مِن رَكيكِ الشُّبَهِ ؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ عَلَيه:
أوّلاً: إثباتَ مائيّةٍ له أُخرىٰ لا يَعلَمُها إلّاأنبياؤه عليهم السلام؛ لأنّ مَن أطلَقَ أنّه تَعالىٰ أعلَمُ بنفسِه مِنّا، مُطلِقٌ أنّ أنبياءَه عليهم السلام أعلَمُ به مِنّا.
و يوجِبُ أيضاً أنّ للذّواتِ كُلِّها أيضاً مائيّاتٍ يَنفَرِدُ بعِلمِها دونَنا؛ لأنّهم يُطلِقونَ أنّه أعلَمُ بكُلِّ شيءٍ مِنّا.
على أنّ لِما أُطلِقَ مِن ذلكَ (1) معنىً صحيحاً؛ و هو أنّه تَعالىٰ عَلِمَ (2) مِن كَونِه قادراً علَى الأشياءِ و مُدرِكاً لها علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، ما لا يَتَناهى(3) إليه عُلومُنا.
و يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يَعلَمُ مِن أفعالِه و أوصافِه ما لا يَعلَمُه غَيرُه، كما يُقالُ في أحَدِنا: «إنّه أعلَمُ بنفسِه مِن غَيرِه»، و المُرادُ بذلكَ ما يَرجِعُ إلىٰ أخلاقِه و أفعالِه و عاداتِه.
و كُلُّ ذلكَ واضحٌ .
***
ص: 243
[3] فَصلٌ في تَرتيبِ العِلمِ بهذه الأحوالِ (1)
اِعلَمْ أنّ أوّلَ العُلومِ مِن أحوالِه كَونُه تَعالىٰ قادراً؛ لأنّها الحالُ التي يَقتَضيها مُجرَّدُ الفِعلِ .
فإذا عَلِمَ ذلكَ ، صَحَّ أن يُفَسِّرَ هذا(2) العِلمَ (3) في حالةٍ بالعِلمِ (4) بأنّه حَيٌّ موجودٌ قَديمٌ ؛ بأن يَكونَ قد عَلِمَ مِن قَبلِ ذلكَ أنّ القادرَ لا يَكونُ إلّاحَيّاً موجوداً، و أنّ الحَوادِثَ لا بُدَّ مِن أن تَنتَهِيَ إلىٰ صانعٍ قديمٍ . فإن لَم يَكُن قد تَقدَّم عِلمُه بما ذَكَرناه، صَحَّ أن يَبتَدئَ الاستدلالَ بكَونِه قادراً علىٰ أنّه حَيٌّ موجودٌ.
و يَجوزُ قَبلَ أن يَستَدِلَّ علىٰ أنّه حَيٌّ موجودٌ، الاستدلالُ علىٰ أنّه عالِمٌ ، بما
وَقَعَ مِن أفعالِه المُحكَمةِ . و العِلمُ بهذه الصفةِ - يَعني كَونَه عالِماً - لا بُدَّ من
ص: 244
تَأَخُّرِها عن العِلمِ بكَونِه قادراً. و لا يَجوزُ مِن مُقارَنتِها لها ما [جازَ](1) في كَونِه حَيّاً موجوداً.
و إذا عَلِمَه حَيّاً؛ فإن كانَ قد عَلِمَ مِن قَبلُ أنّ مِن حقِّ الحَيِّ أن يُدرِكَ المُدرَكاتِ إذا تكامَلَت الشُّروطُ، و أن يَكونَ سَميعاً بَصيراً، عَلِمَ أنّه تَعالىٰ سَميعٌ بَصيرٌ مع العِلمِ بأنّه حَيٌّ . و إن لَم يَتقَدَّمْ له ذلكَ ، استَدَلَّ بكَونِه حَيّاً علىٰ أنّه سَميعٌ بَصيرٌ.
و أمّا صفتُه تَعالَى الذاتيّةُ فإنّه يَعلَمُها الناظِرُ مع عِلمِه بوجوبِ (2) هذه الصفاتِ التي ذَكَرناها له، أو وجوبِ واحدةٍ منها.
و كَونُه مُريداً و كارهاً يُعلَمُ بخِطابِه، و لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ قَبلَ أن يُعلَمَ عالِماً؛ لأنّه إن عَوَّلَ في الاستدلالِ علىٰ ذلكَ علىٰ كَونِه آمِراً و مُخبِراً، فهو(3) مَبنِيٌّ علَى «السَّميعِ » الذي لا يَصِحُّ إلّابَعدَ صحّةِ كَونِه عالِماً. و إنِ استَدَلَّ بأنّ العالِمَ بما فَعَلَه إذا كانَ يَختارُه لغَرَضٍ يَخُصُّ الفِعلَ ، لا بُدَّ أن يُريدَه متىٰ لَم يَكُن ممنوعاً مِن الإرادةِ ، فبِناؤه علىٰ أنّه واضحٌ .
ص: 245
و كذلك إنِ استَدَلَّ بأنّه لَو لَم يَقصِدْ بخَلقِنا تَعريضاً للنفعِ ، لَم يَكُن حِكمةً و كانَ قبيحاً، فإنّه لا يَتِمُّ إلّابَعدَ أن يَبنِيَ علىٰ أنّه لا يَختارُ القَبيحَ و العَبَثَ (1)، و أنّه لا يَختارُ ذلكَ مَبنِيٌّ على أنّه عالِمٌ لا محالَةَ ؛ فبانَ ما ذكرناه.
***
[1.] اِعلْم أنّ حُكمَ كَونِه تَعالىٰ (59) قادراً، صحّةُ إيجادِه ما قَدَرَ عَلَيه. و لا يُحتاجُ إلى التَقيُّدِ فيه بذِكرِ انتفاءِ المَوانِعِ ، و إنِ احتيجَ إلىٰ ذلكَ فينا؛ لاستحالةِ المَوانِعِ عليه.
كما لَم يُحتَج في كَونِه مُدرِكاً إلَى اشتراطِ انتفاءِ الآفاتِ (2)، كما اشتَرَطناه فينا؛ لاستحالةِ الآفاتِ عَلَيه تَعالىٰ .
فإن قيلَ : كيفَ يَكونُ قادراً فيما لَم يَزَلْ ، و الفِعلُ لا يَصِحُّ فيما لَم يَزَلْ؟
قُلنا: الفِعلُ إنّما لا يَصِحُّ وجودُه فيما لم يَزَلْ ، فأمّا صحّةُ إيجادِه علَى الوجهِ الذي يَصِحُّ وجودُه عَلَيه فثابتةٌ لَم تَزَلْ . كما أنّ الفِعلَ و إن لَم يَصِحَّ وجودُه
في حالِ وجودِ القُدرةِ (3) عَلَيه، فإنّ صحّةَ (4) أن يوجَدَ بها علَى الوَجهِ الذي
ص: 246
يَصِحُّ وجودُه عليه ثابتةٌ (1) لَم تَزَلْ ، و يوصَفُ في ابتداءِ حالِ القُدرةِ بأنّه «يَصِحُّ » علىٰ هذا التفسيرِ.
[2.] فأمّا حُكمُ كَونِه تَعالىٰ عالِماً: فهو صحّةُ المُحكَمِ مِن الأفعالِ مِنه؛ إمّا علىٰ سَبيلِ التحقيقِ ، أو التقدير. و لا يَلزَمُ علىٰ هذا الحَدِّ أن لا يَكونَ عالِماً بأفعالِ غَيرِه، و بما(2) لا يَكونُ قادراً عليه، و بما لَيسَ بمقدورٍ في نفسِه؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ لَو قَدَّرناه مقدوراً له، لَصَحَّ أن يَفعَلَه مُحكَماً، فلهذا قُلنا: «تحقيقاً أو تقديراً».
و قد يُؤَثِّرُ أيضاً كَونُه تَعالىٰ عالِماً في غَيرِ ذلكَ (3)؛ لأنّ الاعتقاداتِ التي يَفعَلُها فينا تَكونُ (4) عُلوماً لأجلِ كَونِه عالِماً.
و يؤَثِّرُ أيضاً كَونُه عالِماً بالثَّوابِ ، و أنّه سَيَفعَلُه و يُفيدُ مَن يَستَحِقُّه، في حُسنِ التكليفِ .
[3.] فأمّا حُكمُ كَونِه موجوداً: فهو تَصحيحُ كَونِه عالِماً قادراً.
[4.] و أحكامُ كَونِه قَديماً: هي نَفيُ صفاتِ المُحدَثاتِ عَنه؛ كالجسميّةِ ، و أن يَكونَ مُدرَكاً، و غَيرِ ذلكَ .
[5.] فأمّا كَونُه حَيّاً: فحُكمُه صحّةُ كَونِه تَعالىٰ عالِماً قادراً، و أن يُدرِكَ عندَ وجودِ المُدرَكِ .
[6.] فأمّا كَونُه مُدرِكاً: فقد بيّنّا(5) أنّ حُكمَه ثُبوتُ الغَناءِ و انتفاءُ الحاجةِ ؛ لأنّهما
ص: 247
يَترتَّبانِ علىٰ صحّةِ الإدراكِ ؛ مِن حَيثُ إنّ المُحتاجَ هو الذي يَحتاجُ أن يُدرِكَ ما يَشتَهيهِ ، أو يَحتاجُ أن يَندَفِعَ عنه ما يُدرِكُه و هو نافِرٌ. و الغَنِيُّ هو الذي لا يَحتاجُ إلىٰ ذلكَ . فصحّةُ الإدراكِ مُراعاةُ [ذلكَ ] في هذا البابِ على ما يُرىٰ .
و قد قالَ قومٌ : إنّ حُكمَ هذه الصفةِ أنّ معها يَصِحُّ العِلمُ بالمُدرَكاتِ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ؛ لأنّ الأكمَهَ لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ ذلكَ ، مِن حَيثُ لَم يَكُن مُدرِكاً.
و هو غَيرُ صحيحٍ ؛ لأنّه غَيرُ ممتَنِعٍ أن يَخلُقَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِ الأعمَى العِلمَ بالمُدرَكاتِ علَى التفصيلِ . و قد تَقدَّمَ في جُملةِ ما قلناه أنّ الصفةَ لا يَجِبُ أن يَكونَ لها حُكمٌ في كُلِّ مكانٍ ، و إنّما يَجِبُ أن تَختَصَّ بحُكمٍ تَبِينُ به مِن غَيرِها، و أن تَثبُتَ في مَوضِعٍ دونَ آخَرَ. و حُكمُ هذه الصفةِ فينا ظاهِرٌ.
و قد بَيَّنّا و ذَكَرنا أيضاً وجهاً آخَرَ(1)، و هو أنّها مِن حَيثُ لَم تَنفَصِلْ (2) عن كَونِه حَيّاً، كانَت أحكامُ (3) كَونِه حَيّاً كأنّها حاصِلةٌ لِكَونِه(4) مُدرِكاً.
[7.] فأمّا حُكمُ كَونِه مُريداً و كارِهاً: فهو وُقوعُ أفعالِه خَبَراً و أمراً و نَهياً، و لمكان
هذه الصفةِ أيضاً يَكونُ مُثيباً و مُعاقِباً إلىٰ غَيرِ ذلك.
[8.] فأمّا حُكمُ الصفةِ الذاتيّةِ : فهو وُجوبُ ما ذَكَرناه مِن كَونِه عالِماً قادراً حيّاً فيما لَم يَزَلْ (5)، علىٰ وجهٍ لا يَكونُ لِغَيرِه.
***
ص: 248
فَصلٌ [استطراديّ ](1)في ذِكرِ جُملةٍ مِن الاستدلالِ بالشاهدِ علَى الغائبِ
(60) اِعلمْ أنّا إنّما أَورَدنا هذه الجُملةَ ، و قَطَعنا بها نِظامَ الكلامِ في الصفاتِ ؛ لأنّ كثيراً ممّا مَضىٰ و يَمضي، بل جَميعُه مَبنِيٌّ عَلَيه، فلا بُدَّ مِن الإشارةِ فيه إلىٰ جُملةٍ كافيةٍ .
و اعلَمْ أنّ معنىٰ قَولِنا في الشيءِ : إنّه «شاهِدٌ» أنّه معلومٌ ، و مَعنىٰ قَولِنا: «غائِبٌ » أنّه غَيرُ معلومٍ ؛ لأنّا إنّما نَستَدِلُّ بما يُعلَمُ علىٰ ما لا يُعلَمُ . و لَيسَ الاعتبارُ بكَونِ ما يُستَدَلُّ به مُشاهَداً و لا حاضراً، بل الاعتبارُ بكَونِه معلوماً علَى الوَجهِ الذي له يَدُلُّ ، و بِكَونِ (2) ما استُدِلَّ عَلَيه غَيرَ معلومٍ لنا علَى الوَجهِ الذي نَطلُبُه بالدَّلالةِ .
لَم يُمكِنِ الاستدلالُ به. و متىٰ عَلِمَه مِن الوَجهِ الذي ذَكَرناه، أمكَنَه أن يَستَدِلَّ به، و إن كانَ غائباً غَيرَ حاضرٍ و لا مُشاهَدٍ. و لهذا يُستَدَلُّ بوُقوعِ تَصَرُّفِ زَيدٍ مِن جهتِه - و هو معلومٌ لنا - على أنّه قادِرٌ، مِن حَيثُ لَم يَكُن معلوماً لنا.
و قد قُسِمَ الاستدلالُ إلىٰ أربعة أقسامٍ (1):
أوّلُها: مَبنيٌّ علَى الاتّفاقِ في طريقةِ إثباتِ الحُكمِ و معرفتِه.
و ثانيها: طريقةُ التعليلِ ، إذا وَقَعَ الاشتراكُ في العِلّةِ .
و ثالثُها: وُقوعُ الاشتراكِ في أحكامٍ قد عُلِمَ استنادُها إلىٰ صفاتٍ مخصوصةٍ .
و رابعُها: إثباتُ الحُكمِ بالمَزيّةِ و الترجيحِ ، و إن لَم تَظهَرِ العِلّةُ .
فمِثالُ الأوّلِ : أن نُثبِتَ (2) أحَدَنا قادراً بطريقةِ صحّةِ الفعلِ ، ثُمّ نُثبِتُ القَديمَ تَعالىٰ و كُلَّ مَن صَحَّ مِنه الفِعلُ قادراً؛ لأنّ الطريقةَ في الكُلِّ واحدةٌ غَيرُ مختلِفةٍ . و لا نَحتاجُ
فيها إلَى استعمالِ القياسِ (3).
و مِثالُ الثاني: أن نَعلَمَ (4) أنّ المُحدَثَ يَتعلَّقُ بنا، و يَحتاجُ إلينا في حُدوثِه، فنَقيسُ الغائبَ علىٰ أفعالِنا؛ للاشتراكِ في العِلّةِ .
و كذلكَ نَعلَمُ أنّ عِلّةَ قُبحِ الكَذِبِ العاري مِن نَفعٍ أو دَفعِ ضَرَرٍ، هي كَونُهُ كَذِباً، فنَقيسُ علىٰ ذلكَ الكَذِبَ الذي فيه نَفعٌ أو دَفعُ ضَرَرٍ في بابِ القُبحِ .
و مِثالُ الثالثِ : أن نَعلَمَ كَونَ أحَدِنا آمِراً أو مُخبِراً، فإنّ المُؤَثِّرَ في صحّةِ ذلكَ مِنه
ص: 250
كَونُه مُريداً قادراً، [فإذا] عَلِمناه تَعالىٰ آمِراً و مُخبِراً، عَلِمناه مُريداً.
و مِثالُ الرابِعِ : أن نَعلَمَ في الشاهِدِ أنّ أفعالاً مَخصوصَةً تَحسُنُ (1) مع الظَّنِّ ، فَنُعلَمُ (2)أنّها بأن تَحسُنَ عندَ العِلمِ - و له المَزيّةُ علَى الظَّنِّ - أَولىٰ .
و اعلَمْ أنّ الدَّلالةَ لا بُدَّ أن تَكونَ : فِعلاً و حادثةً في الأصلِ ، أو ممّا يَتقدَّرُ بقَدرِ الفِعلِ .
و مِثالُ ما يُستَدَلُّ به مِن الأفعالِ أوسَعُ ممّا يُذكَرُ.
فأمّا ما يَتقدَّرُ بتقديرِ الفِعلِ : فكالاستدلالِ بجَوازِ العدمِ في العَرَضِ على حُدوثِه؛ لأنّ العدمَ و تَجدُّدَه يُقَدَّرُ تقديرَ الحُدوثِ ، و يُنَزَّلُ في بابِ الاستدلالِ جَوازُه بمنزلةِ وقوعِه.
و إن كان رُبَّما قيلَ في هذا الوَجهِ و ما أشبَهَه: إنّ النظَرَ غَيرُ واقعٍ في دليلٍ علَى الحقيقةِ ، بل يُسمّىٰ ما يَقَعُ العِلمُ عندَه هاهنا: «طريقةَ النظَرِ». هذا إذا كانَ النظَرُ في بعضِ (3) أحوالِ الذاتِ ، ليُعلَمَ بها(4) حالٌ أُخرىٰ ، فأمّا إذا كانَ المعلومُ غَيرَ المنظورِ فيه، فلا شُبهةَ في التسمِيَةِ ب: «الدليلِ » و «الاستدلالِ »(5).
ص: 251
و كُلُّ هذا خِلافٌ في عبارةٍ ، [و غَيرُ مؤَثِرٍ](1) في المَعاني.
و مِن (61) حَقِّ الدليلِ أن يَدُلَّ علىٰ أحَدِ وَجهَينِ :
إمّا علىٰ ما لَولاه لَم يَصِحَّ ؛ كدَلالةِ الفِعلِ علىٰ كَونِ فاعلِه قادراً و ما أشبَهَه.
أو علىٰ ما لَولاه لم يَحسُنْ أو لَم يَجُز؛ كدَلالةِ المُعجِزِ علىٰ صِدقِ النبيِّ صلّى اللّٰه عليه و آله(2)؛ مِن حَيثُ لَولا صِدقُه لَما [حَسُنَ إعجازُه](3)، و ما أشبَهَ ذلكَ ممّا يَرجِعُ إلَى الدَّواعي.
و اعلَمْ أنّ شَرائطَ ما يَصِحُّ الاستدلالُ عَلَيه ثلاثةٌ :
أوّلُها: أن يَكونَ في نفسِه معقولاً؛ لأنّه إذا لم يكُن بهذه الصفةِ ، لَم يُمكِنِ اعتقادُه، و ما لا يُمكِنُ اعتقادُه لا يَصِحُّ أن يُطلَبَ بالدّليلِ .
و ثانيها: أن لا يَكونَ معلوماً للناظرِ فيه علَى الوَجهِ الذي يَطلُبُه بالدَّلالةِ ؛ لأنّ العِلمَ بالشيءِ يَمنَعُ مِن الاستدلالِ عليه.
و ثالثُها: أن يَكونَ الدليلُ [مُثبتاً له](4) و مُتعلِّقاً به.
ص: 252
و اعلمْ أنّ الدليلَ لكُلِّ حالٍ أو حُكمٍ غَفَلنا عنه، يَجِبُ أن يَكونَ سائِغاً متىٰ أمكَنَ ؛ لأنّ التعليلَ هو نظَرٌ و طَلَبُ المعرفةِ ، و الأصلُ جَوازُ مِثلِ ذلكَ ، إلّاأن يكونَ مؤَدّياً إلىٰ فَسادٍ فيُمنَعُ منه.
و إنّما يؤَدّي إلَى الفَسادِ علىٰ أحَدِ وَجهَينِ :
أحَدُهما: أن يَكونَ بأيِّ شيءٍ عُلِّلَ كانَ فاسداً؛ مِثلُ تعليلِ اختصاصِ المَحَلِّ بذاتٍ دونَ ذاتٍ أُخرىٰ مِن جنسِها، و ما أشبَهَ ذلكَ .
الوَجهُ الآخَرُ المانِعُ مِن التعليلِ : أن يَكونَ فيه عَودٌ علَى الحُكمِ أو الصفةِ بالنقضِ ؛ و مِثالُه تعليلُ صفةِ الذاتِ و أن يَلتَمِسَ ما له كان السَّوادُ سَواداً وجهةَ اختصاصِه بذلكَ دونَ البَياضِ ؛ لأنّ تعليلَ ذلكَ يُخرِجُ الصفةَ مِن أن تكونَ ذاتيّةً و يُبطِلُ حُكمَها، و يؤَدّي إلىٰ أنّه لا غايةَ للتعليلِ و لا انقطاعَ .
فأمّا ما يَصِحُّ التعليلُ به، فأحسَنُ ما خُصَّ به أن يُقالَ : إنّ التعليلَ يَقَعُ إمّا بالذاتِ و ما يَرجِعُ إليها، أو بالفاعلِ و ما يَتبَعُه، أو بأمرٍ موجَبٍ و ما يَعودُ إليه.
فمِثالُ الأوّلِ : نَحوُ كَونِ الجوهرِ مُتحيِّزاً، و ما يُدرِكُ عَينُه لذَواتِ المُدرَكاتِ مِن الصفاتِ .
و مثالُ الثاني: الذي يُعلَّلُ بالفاعلِ و بكَونِه قادراً.
و مثالُ الثالثِ : كَونُ المَحَلِّ في جهةٍ من الجِهاتِ ؛ فإنّه مُعلَّلٌ بالكَونِ . و كَونُ أحَدِنا مُعتَقِداً و مُريداً؛ لأنّه يَجِبُ عن مَعانٍ أَوجَبَت له هذه الصفاتِ .
ص: 253
و لهذه الجُملةِ التي ذَكَرناها شَرحٌ يَطولُ ، و تَفصيلٌ نَخرُجُ (1) بإيرادِه عن الغَرَضِ في هذا الكتابِ ، و فيما أوردناه كفايةٌ .
***
لَيسَ يَخلو تَعالىٰ مِن أن يَكونَ مُستَحِقّاً لهذه الصفاتِ : لِمَعانٍ ، أو لا لِمَعانٍ .
فإن استحقّها لِمَعانٍ ، لم تَخلُ تلكَ المَعاني مِن أن تَكونَ : موجودةً ، أو معدومةً ، أو لا توصَفَ بشيءٍ مِن ذلكَ .
فإن كانَت موجودةً ، لَم تَخلُ من أن تَكونَ قَديمةً ، أو مُحدَثةً ، أو لا توصَفَ (2) بكُلِّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ .
و إذا بَطَلَت أقسامُ المعاني كُلُّها(3)، لَم يَبقَ إلّاأن يَكونَ مُستَحِقّاً لها لِذاتِه، أو لِما هو عَلَيه(4) في ذاتِه؛ لأنّ ما يَنقَسِمُ إليه ما يُستَحَقُّ (5) لا لِمعنىً مِن الصفاتِ ، هو الذّاتُ ، و ما رَجَعَ إليها(6)، و الفاعلُ ، و لا شُبهةَ في أنّ الفاعلَ هاهنا لا يَصِحُّ الاعتراضُ به؛
ص: 254
لأنّا قد بيّنّا ثُبوتَ هذه الصفاتِ فيما لَم يَزَلْ ، و الفاعلُ لا يَجوزُ (62) أن يَتَعلَّقَ به ما يَثبُتُ فيما لَم يَزَلْ ، و إنّما تَتعلَّقُ (1) به الأُمورُ المُتجدِّدةُ (2).
فأمّا ما يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَجوزُ أن يَستَحِقَّ هذه الصفاتِ لِمَعانٍ معدومةٍ ، هو أنّه لَو كانَ عالِماً بعِلمٍ معدومٍ - و قد ثَبَتَ أنّ لِلعِلمِ ضِدّاً يُنافيه و هو الجهلُ ، و هذا الضِّدُّ معدومٌ بعدمِ (3) العِلمِ - فَيَجِبُ أن يَكونَ عالِماً جاهلاً في حالٍ واحدةٍ (4)؛ لأنّه لَيسَ لأحَدِ الأمرَينِ مِن الاِختصاصِ به إلّاما لِلآخَرِ. و في استحالةِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ فَسادِ ما أدّىٰ إليهِ .
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ العِلمَ لا يَكونُ عِلماً لجنسِه، و إنّما يحصُلُ بهذه الصفةِ لوقوعِه علىٰ وَجهٍ ، و هذا ممّا يُستَدَلُّ عَلَيه فيما يأتي مِن الكتابِ بعَونِ اللّٰهِ (5).
و إذا كانَ المعدومُ لا يَتأتّىٰ فيه ما له يَكونُ العِلمُ عِلماً، مِن وقوعِه علىٰ وَجهٍ ،
ص: 255
لَم يَصِحَّ أن يَكونَ تَعالىٰ عالِماً بعِلمٍ مَعدُومٍ .
و ممّا يدُلُّ علىٰ ذلكَ أيضاً: ما قَدَّمنا ذِكرَه؛ مِن أنّ المُتعلِّقاتِ بأغيارِها لأنفُسِها يُخرِجُها العَدَمُ مِن التعلُّقِ (1).
و هذه الطريقةُ (2) تَدُلُّ علَى استحالةِ كَونِه قادراً بقُدرةٍ معدومةٍ ، كما تَدُلُّ (3) في العِلمِ .
و الذي يَدُلُّ على أنّه لا يَجوزُ أن يَقدِرَ بقُدرةٍ معدومةٍ : هو(4) أنّ القُدرةَ مِن حُكمِها صحّةُ الفِعلِ ، و لا يَصِحُّ الفِعلُ بها إلّابَعدَ أن يُستَعمَلَ مَحَلُّها في الفِعلِ أو في سَبَبِه.
و إذا كان هذا الحُكمُ لا يَصِحُّ فيها و هي معدومةٌ ، ثَبَتَ أنّها لا توجِبُ كَونَ القادرِ قادراً إلّامع الوجودِ.
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ ما ادَّعَيتُموه في حُكمِ القُدرةِ؟
قُلنا: الدليلُ عليه أنّ أحَدَنا قد يَخِفُّ عَلَيه حَملُ الشيءِ الذي يَستَعينُ علىٰ حَملِه بيَمينِه و شِمالِه، عمّا كانَ عَلَيه لَو حَمَلَه بإحدىٰ يَدَيهِ . و رُبَّما تأتّىٰ (5) مِنه مع الاستعانةِ باليَدَينِ حَملُ ما يَتعذَّرُ بإحداهما، مع أنّ قُدَرَ كِلتا(6) يَدَيه بمنزلةٍ واحدةٍ في إيجابِها كَونَه قادراً، فلو لا صحّةُ ما ذَكَرناه مِن حُكمِ القُدرَةِ ، لَم يَجِبْ هذا الذي
ص: 256
قَضَينا بوجودِه علىٰ كُلِّ حالٍ . و في عِلمِنا بوجوبِه دلالةٌ على أنّ مِنْ حُكمِ القُدرةِ ما بيّنّاه، و أنّ الفِعلَ بقُدَرِ اليَسارِ في اليمينِ إنّما يَتعذَّرُ مِن حيثُ لَم تَكُن موجودةً في اليَمينِ ؛ لأنّه قادرٌ بالجَميعِ .
و الذي يُبَيِّنُ أنّ هذا الحُكمَ إنّما وَجَبَ في القُدرةِ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ أنّها قُدرةٌ ، و كَونِها ممّا يَصِحُّ الفِعلُ بها: أنّا وَجَدنا العِلمَ و الإرادةَ يُشارِكانِها في شأنيّةِ الصفاتِ المعقولةِ ، سِوَى اقتضاءِ صحّةِ الفعلِ ، و لا يُشارِكانِها في هذا الحُكمِ الذي ذَكَرناه؛ ألا تَرىٰ أنّا نَفعَلُ الكتابةَ بأيدينا لِمَكانِ العِلمِ الحالِّ في القَلبِ ، و كذلكَ نَفعَلُ الخَبَرَ خَبَراً لِمَكانِ الإرادةِ الموجودةِ في القَلبِ؟ و لا يَقِفُ ذلكَ علَى استعمالِ مَحَلِّ العِلمِ أو الإرادةِ في الفعلِ و لا في سَبَبِه، و مِثلُ هذا لا يَسوغُ في القُدرةِ . فثَبَتَ أنّ هذا الحُكمَ يَختَصُّها لِما هي [عَلَيه] مِن اقتضاءِ صِحّةِ الفِعلِ ، فوجبَ استحالةُ الفِعلِ بها و هي معدومةٌ .
فإن قيلَ : و لِمَ لا يَجوزُ أن يَكونَ المَعدومُ حالاًّ في غَيرِه ؟
قُلنا: لَو صَحَّ ذلكَ ، لَوجبَ أن يَتَضادَّ السَّوادُ و البَياضُ علَى المَحَلِّ في حالِ
عدمِهما، و هذا يقتضي استحالةَ عدمِهما عن المَحَلِّ في حالٍ واحدةٍ ، كما وجبَ لمّا (63) تَضادّا في الوجودِ استحالةُ وجودِهما في المَحَلِّ في حالةٍ واحدةٍ .
و نحنُ نَعلَمُ خِلافَ ذلك؛ لأنّ الجسمَ الآخَرَ قد انتفىٰ عنه السَّوادُ و البَياضُ معاً في حالةٍ واحدةٍ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ حَيّاً بحَياةٍ معدومةٍ : أنّ الحياةَ لها تأثيرٌ في محَلِّها؛ لأنّها تُصَيِّرُه بعضاً للحَيِّ . و ممّا يَصِحُّ به الإدراكُ لأجلِها.
و هذا الحُكمُ الذي ذَكَرناه يَجِبُ لِما هي عَلَيه في نفسِها، و وجودُها مِن غَيرِ أن
ص: 257
توجِبَ الحُكمَ الذي ذَكَرناه للمَحَلِّ ، كوجودِها مِن غَيرِ إيجابِ صفةٍ للحَيِّ في أنّه يَقتَضي قَلبَ جنسِها و حَرفَها(1) عن صفتِها الذاتيّةِ ، و قد عَلِمنا أنّ هذا الحُكمَ لا يَتأتّىٰ في الحَياةِ و هي معدومةٌ ، فيَجِبُ أن يُقضىٰ على استحالةِ كونِ الحَيِّ بها حَيّاً في هذه الحالِ .
و أيضاً: فإنّ الحياةَ لجنسِها تؤَثِّرُ في تَصييرِ(2) الأجزاءِ الكثيرةِ في حُكمِ الشيءِ الواحدِ، و لا تَكونُ (3) كذلكَ إلّاإذا كانَت موجودةً في مَحَلٍّ ، و كانَت الأجزاءُ المُنضَمّةُ (4) إلىٰ مَحَلِّها، فيها أجزاءٌ مِن الحَياةِ . و لهذا لا يَجوزُ وجودُها في الجُزءِ المُنفَرِدِ، و لا في الجُزءِ المَضمومِ إلىٰ أجزاءٍ لا حَياةَ فيها. و كلُّ هذا يَستَحيلُ مع العدمِ .
علىٰ أنّه تَعالىٰ شَيءٌ واحدٌ، و كَونُه شيئاً واحداً يُحيلُ عَلَيه حُكمَ الحَياةِ الذي هو تصييرُها(5) الأشياءَ الكثيرةَ في حُكمِ الشيءِ الواحدِ.
فأمّا الكلامُ علىٰ مَنِ امتَنَعَ مِن الوصفِ لِما به كانَ عالِماً و حَيّاً و قادراً،
ص: 258
بالوجودِ أو العدمِ و الحُدوثِ أو القِدَمِ ، فلَم يُدخِلْه في جُملةِ الأقسامِ ؛ لأنّه مفهومٌ معقولٌ ، لكِن الآنَ بعضُ الناسِ تَعلَّقَ به و جَعَلَه شُبهةً ، فلا بُدّ مِن بيانِ ما فيه:
و خِلافُ هؤلاءِ لا يَخلُو مِن أن يَكونَ في المعنىٰ ، أو العبارةِ (1).
و الخِلافُ في المعنىٰ هو أن يَقولوا: إنّه مُمكِنٌ ، و أمرٌ معلومٌ أن يَخرُجَ مِن كَونِه ثابتاً و غَيرَ ثابتٍ . و شيءٌ جائزٌ(2) أنّه يَعرىٰ مِن أن يَكونَ مُتقدِّمَ الوجودِ و لا ابتدِاءَ لثُبوتِه، و مِن(3) أن يكونَ وُجِدَ بَعدَ أن لَم يَكُن موجوداً.
و هذا لا يَصِحُّ مِن كاملِ العقلِ ؛ للعِلمِ (4) بأنّ كُلَّ صفتَينِ اقتَضَت إحداهما نَفيَ ما أثبَتَته الأُخرىٰ ، فمُحالٌ أن يَعرىٰ شيءٌ مِن المعلوماتِ مِنهما، و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ علىٰ إحداهما.
و الذي بَنَينا عَلَيه الكلامَ هو(5) المعنىٰ دونَ العبارةِ و الأسماءِ . و إذا كانَ معنَى الوجُودِ أو العدمِ (6)، و الحُدوثِ أو القِدَمِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ حاصِلاً لهذه المعاني، فلا ضَرَرَ في الامتناعِ مِن العبارةِ ؛ لأنّه غَيرُ مُخِلٍّ بما قَصَدناه.
و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : كيفَ يَكونُ ما قُلتم(7) معلوماً ضرورةً ، و قد خالَفَ فيه
ص: 259
ابنُ كُلّابٍ (1) و سُلَيمانُ بنُ جَريرٍ(2) و مَن تابَعَهما؟
و ذلكَ : أنّ خِلافَ هؤلاء عندَ التحقيقِ يَرجِعُ إلَى العبارةِ دونَ المعنىٰ .
و أمّا الخِلافُ في العبارةِ و الامتناعُ مِن إجراءِ الوَصفِ علىٰ ما هو ثابِتٌ و أنّه(3) موجودٌ علىٰ ما هو موجودٌ [عَلَيه] فيما لم يَزَلْ بأنّه «قَديمٌ » فالذي يُسقِطُه الرُّجوعُ إلَى اللُّغةِ و أوضاعِها(4)، و قد عَلِمنا أنّ أهلَ اللُّغةِ وَضَعوا قولَهم:
«موجودٌ» للتفرِقةِ بَينَ الثابتِ و المُنتَفي، و قولَهم: «قَديمٌ » للأزَليِّ (5) الوجودِ؛ ليُفرِّقوا (64) بَينَه و بَينَ المُتجدِّدِ الوجودِ، مِن غَيرِ أن يَخطُرَ ببالِهم كَونُ «ما يوصَفُ بذلكَ و يُفرَّقُ بَينَه و بَينَ غَيرِه» صفةً أو موصوفاً، فيَجِبُ علىٰ مُقتَضَى اللُّغةِ أن نُجرِيَ
ص: 260
ما أجرَوا مِن الأوصافِ في كُلِّ مَوضِعٍ عَقَلنا ما عَقَلوا فيما أجرَوا مِن أجلِه
الاسمَ و أفادوه به؛ لأنّ الامتناعَ مِن ذلكَ نَقضٌ (1) للّغةِ ، و خُروجٌ عنها، فلا فَرقَ بَينَ مَن خَصَّ بهذه الأوصافِ بعضَ الذَّواتِ دونَ بعضٍ مع الاشتراكِ في الفائدةِ ، و بَينَ مَن خَصَّ بذلكَ بعضَ الأوقاتِ أو بعضَ الأماكنِ . و كُلُّ هذا نقضٌ لِلغةِ .
فإن قالوا: معنىٰ قولِنا: «إنّ الصفاتِ لا توصَفُ » أنّه لا يَجري عَلَيها مِن الأوصافِ ما يُفيدُ قيامَ المَعاني بها، فلا(2) تَستَحِقُّ الأحوالَ لِلمعاني ؟!
قيلَ لهم: إذا كانَ هذا مُرادَكم فهو صحيحٌ في المعنىٰ ، إلّاأنّه لا يَقتَضي الامتناعَ مِن الوَصفِ بأنّها موجودةٌ أو قَديمةٌ ؛ لأنّ ذلكَ لا يَقتَضي قيامَ المَعاني، بل يُفيدُ التفرِقةَ التي قَدَّمنا(3) ذِكرَها.
فإن قالوا: بل «الموجودُ» عِندَنا موجودٌ بوجودٍ، و «القَديمُ » قَديمٌ بقِدَمٍ ، فلهذا مَنَعنا مِن وَصفِ الصفاتِ بذلكَ .
قُلنا: الذي يُبطِلُ ذلكَ ما تَقدَّمَ مِن أنّ أهلَ اللُّغةِ لَم يُفيدوا ب «قَديمٍ » و «موجودٍ»، إلّا الأحوالَ و الفُروقَ التي ذَكَرناها؛ بدَلالةِ أنّهم يُجرونَ ذلكَ علىٰ ما عَقَلوا له الحُكمَ الذي ذَكَرناه، و إن لَم يَعتَقِدوا معنىً هو وجودٌ أو قِدَمٌ ؛ لا علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تفصيلٍ . و لهذا يَصِفونَ العَرَضَ بأنّه موجودٌ كما يَصِفونَ الجسمَ بذلكَ ، و إن لَم يُجيزوا علَى العَرَضِ قيامَ المَعاني.
ص: 261
و أنّه(1) لَو كانَ الموجودُ موجوداً بوجودٍ، و كانَ القَديمُ قَديماً بقِدَمٍ ، لَأدّىٰ إلى أنّ الذاتَ لا توجَدُ حتّىٰ يوجَدَ ما لا نِهايةَ له مِن الذواتِ . و ذلك ما قد بُيِّنَ فَسادُه في غَيرِ مَوضِعٍ .
هذا علىٰ تَجاوزٍ مِنّا لِما ادَّعَوه مِن أنّ العِلمَ و القُدرةَ و ما أشبَهَهما صفاتٌ علَى الحَقيقةِ ، و ذلكَ عندَنا باطلٌ ؛ لأنّ الصفةَ و الوَصفَ عندَ أهلِ اللُّغةِ واحِدٌ لا فَصلَ بَينَهما، كما لا فَصلَ بَينَ قولِهم: «وَعدٌ» و «عِدةٌ »، و «وَجهٌ » و «جهةٌ »، و «وَزنُ » و «زِنةٌ »، و إنّما يُجرونَ ذلكَ علَى الأقوالِ دونَ ما لَيسَ بقَولٍ مِن المَعاني، و لهذا يَقولونَ : «وَصَفَ فُلانٌ فُلاناً بوَصفٍ حَسَنٍ ، و صفةٍ حَسَنةٍ »، و يُسَمّونَه علَى الوَجهَينِ واصفاً. و لَولا أنّ ذلكَ الوَصفَ هو الصفةُ ما جازَ ذلكَ .
علىٰ أنّ الصفةَ لَو كانَت هي المعنىٰ دونَ القولِ ، لَكانَ مَن فَعَلَ الحركةَ في نفسِه أو غَيرِه يُقالُ : «وَصَفَ نفسَه أو غَيرَه بأنّه مُتحرِّكٌ »، و لَوجبَ أن يَكونَ الخَرَسُ (2)
لا يَمنَعُ مِن الوَصفِ ، كما لا يَمنَعُ مِن فِعلِ المعنىٰ . و هذا ظاهرُ الفَسادِ.
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ «واصفاً» مُشتَقٌّ مِن فِعلِ الوصفِ ، لا مِن فِعلِ الصفةِ ، و مَن فَعَلَ الحركةَ ، فقَد فَعَلَ (3) الصفةَ دونَ الوصفِ .
و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا أنّ أهلَ اللُّغةِ لا يُفرِّقونَ بَينَ الوصفِ و الصفةِ .
علىٰ أنّ «واصفاً»(4) إذا كانَ اسماً لفاعلِ (5) الوصفِ ، فما المُشتَقُّ مِن
ص: 262
الصفة للفاعلِ؟ و مِن شأنِهم أن يَشتَقّوا(1) مِن كُلِّ الحَوادِثِ الظاهِرةِ لهم المُستَمِرّةِ (2)أسماءَ الفاعِلينَ !
علىٰ أنّ هؤلاءِ قد ناقَضوا مُناقَضةً ظاهرةً ؛ لأنّهم يُجرونَ علىٰ هذه المَعاني أوصافاً كثيرةً ؛ مِثلَ قولِهم: «معلومٌ »، و «شيءٌ »، و «عِلمٌ »، و «قُدرَةٌ »، و «حَياةٌ » و غَيرِ ذلكَ . و ليس [ابنُ ] كُلّابٍ (3) يَصِفُها (65) مع ذلكَ بالوجودِ. و إذا جازَ أن توصَفَ بما ذَكَرناه، و لا يُمنَعُ كَونُها صِفاتٍ مِنها، جازَ أن توصَفَ بما امتَنَعوا مِنه؛ مِن القِدَمِ و غَيرِه.
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَستَحِقُّ الصفاتِ التي ذَكَرناها لِمَعانٍ مُحدَثةٍ : فهو أنّه لَو كانَ قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، لَوجبَ أن يَكونَ هو الفاعِلَ لها. و مِن حَقِّ الفاعلِ أن يَكونَ قادراً قَبلَ أن يَفعَلَ . و إذا كانَ لا يَقدِرُ إلّابقُدرةٍ يَفعَلُها، و لا يَصِحُّ أن يَفعَلَها إلّابَعدَ أن يَكونَ قادراً، لَتَعلَّقَ كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه، و استَحالا معاً.
ص: 263
فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ أنّه لَو قَدَرَ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، لَكانَ هو المُحدِثَ لها.
قيلَ : لَو فَعَلَ تلكَ القُدرةَ غَيرُه تَعالىٰ ، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ : قادراً لنفسِه، أو بقُدرةٍ . و لَيسَ يَجوزُ إثباتُ قادرٍ لنفسِه سِواهُ تَعالىٰ ؛ لِما نَذكُرُه في بابِ التوحيدِ(1). و القادرُ بقُدرةٍ لا يَتَأتّىٰ مِنه فِعلُ القُدرَةِ . علىٰ أنّ ذلكَ القادرَ بقُدرةٍ لا بُدَّ أن يَكونَ الفاعِلُ لِقُدرتِه غَيرَه، فإمّا أن يؤَدِّيَ إلىٰ ما لا نِهايةَ له مِن الفاعِلينَ ، أو الاستنادِ إلىٰ مُحدِثٍ قادرٍ لنفسِه يَفعَلُ القُدرةَ ، و هو المطلوبُ في هذا المَوضِعِ .
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَتأتّىٰ مِنه فِعلُ القُدرةِ؟
قُلنا: لوُجوهٍ :
أوّلُها: أنّا قد بيّنّا أنّ القُدرةَ و إنِ اختَلَفَت بمقدورِها، لا تَختَلِفُ (2) في الجنسِ ، و إذا تَعذَّرَ علىٰ أحَدِنا فِعلُ القُدرةِ بما فيه مِن القُدرةِ ، دَلَّ علىٰ [أنّ ] القُدرةَ خارجةٌ مِن مقدورِ القُدَرِ علىٰ كُلِّ حالٍ .
و الذي يُبيِّنُ ما ذَكَرناه أنّ أحَدَنا قد تَدعُو الدَّواعي إلىٰ زيادةِ حالِه في كَونِه(3)قادراً، فلَو كانَت قُدَرُه(4) مُتعلِّقةً بالقُدَرِ، لَصَحَّ أنْ يَفعَلَها و أن يَتبيَّنَ مِن حالِه الزيادةُ في كَونِه قادراً، و هذا يَتبيَّنُ بالقُدَرِ لا بفِعلِ القُدَرِ.
و ثانيها: أنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ به تَعالىٰ ، إلّاإذا وُجِدَت في غَيرِ مَحَلٍّ علىٰ حَسَبِ وجودِ إرادتِه. و مَن كانَ قادراً بقُدرةٍ ، لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ إلّامُباشَراً أو مُتولِّداً. و لَيسَ يَصِحُّ أن يَتولَّدَ الشيءُ عن السببِ في غَيرِ مَحَلِّهِ ، إلّاإذا كانَ ذلك السببُ ممّا
ص: 264
يَختَصُّ بجهةٍ كالاعتمادِ. و ليسَ يَجوزُ أن يُولِّدَ الاعتمادُ قُدرةً في غَيرِ مَحَلٍّ ، و لا شَيئاً ممّا يُولِّدُه علىٰ هذا الوَجهِ ؛ لأنّه لا يُولِّدُ إلّافي جهتِه، فلذلك(1) يَجِبُ علىٰ هذا أن تَكونَ (2) القُدرةُ أو غَيرُها ممّا يُولِّدُهُ الاعتمادُ موجوداً في الجهةِ التي هي جهةُ الاعتمادِ. و كُلُّ شيءٍ يوجَدُ في جهةٍ لا علىٰ سَبيلِ التَّبَعِ لغَيرِه، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ذا حَجمٍ و حَيِّزٍ. و لا يَصِحُّ علىٰ هذه المَعاني ذلكَ ، ففَسَدَ أن يَكونَ الاعتمادُ مُولِّداً لها.
و ثالثُها: أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَكونُ إلّاجسماً، و الجسمُ - علىٰ ما بيّنّاه - لا يَكونُ إلّا مِن فِعلِ القَديمِ تَعالىٰ (3)، [و] علىٰ فَرضِ [عدمِ كونِ ] هذا الفاعلِ (4) قادراً و لا حَيّاً، فكيفَ فَعَلَ هذا الجسمَ؟
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ : أنّ تلكَ القُدرةَ لا تَخلُو مِن أن تَكونَ : حالّةً فيه تَعالىٰ ، أو في غَيرِه، أو موجودةً لا في مَحَلٍّ .
و وجودُها فيه مُحالٌ ؛ لأنّ القُدرةَ تَحتاجُ في وجودِها إلىٰ وجودِ الحَياةِ في مَحَلِّها، و الحَياةُ تَحتاجُ (5) إلى بِنيةٍ مخصوصةٍ ، و البِنيةُ لا تَصِحُّ علىٰ (66) ما لَيسَ [بجسمٍ ].
و لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ تَحُلُّ في غَيرِه؛ لأنّ ذلكَ الغَيرَ لا بُدَّ أن يَكونَ حَيّاً،
ص: 265
و لَو جازَ أن يَقدِرَ بقُدرةٍ تَحُلُّ سِواه، لَجازَ أن يَعلَمَ بعِلمٍ في غَيرِه، و يَجهَلَ بجَهلٍ في غَيرِه. و هذا يَقتَضي كَونَه عالِماً جاهِلاً بالشيءِ الواحدِ علَى الوَجهِ الواحدِ، إذا عَلِمَه عالِمٌ و جَهِلَه جاهِلٌ .
علىٰ أنّ القُدرةَ الموجودةَ في مَحَلٍّ فيه حَياةٌ ، يَجِبُ أن تَكونَ قُدرةً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، و يُؤَدّي ذلكَ إلىٰ إثباتِ مقدورٍ واحدٍ في(1) قادرينَ ، و فَسادُ ذلكَ يأتي بعَونِ اللّٰهِ (2).
و لا يَجوزُ أن تَكونَ (3) القُدرةُ موجودةً لا في مَحَلٍّ ؛ لِما قد بيّنّاه في إبطالِ كَونِه قادراً بقُدرةٍ معدومةٍ (4)، مِن أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ الفِعلُ بها إلّابأن يُستَعمَلَ مَحَلُّها [في الفعل](5) أو في سببِه. و هذا يَقتَضي أنّ وُجودَها لا في مَحَلٍّ يُبطِلُ حُكمَها و صحّةَ الفِعلِ بها!
و بمِثلِ ما قُلناه يُعلَمُ أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ حَيّاً بحَياةٍ مُحدَثةٍ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ هو المُحدِثَ لحَياتِه، و مَن لَيسَ بحَيٍّ لا يَصِحُّ أن يُحدِثَ شَيئاً.
و جميعُ ما أورَدناهُ في القَديمِ ، إذا أُورِدَ علىٰ هذا الكلامِ ، كانَ الجوابُ عنه ما بيّنّاه؛ فإنّ الطريقةَ واحدةٌ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ إبطالِ كَونِه حَيّاً بحَياةٍ توجَدُ لا في مَحَلٍّ : ما قَدَّمناه في إبطالِ
ص: 266
كَونِ الحياةِ التي يَحيا بها معدومةً (1) مِن الوَجهَينِ معاً، المُتضمَّنَينِ باعتبارِ تأثيرِ الحياةِ ، و أنّه يَقتَضي وجودَها في المَحَلِّ .
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ : فهو أنّ القولَ ذلكَ يوجِبُ أن يَكونَ الذي عَلِمَ به مِن فِعلِه، و قد ثَبَتَ أنّ العِلمَ لا يَقَعُ عِلماً إلّا ممّن هو عالِمٌ قَبلَ إيجادِه، فلَو لَم يَكُن عالِماً إلّابعِلمٍ يُحدِثه و كانَ لا يُحدِثه إلّا و هو عالِمٌ ، لَتعلَّقَ كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه، و لَم يَصِحَّ لا كَونُه عالِماً و لا وجودُ علمٍ .
[و] هذه الجُملةُ مَبنيّةٌ علىٰ أصلَينِ :
أحَدُهما: أنّ العِلمَ يَجِبُ أن يَكونَ مِن فِعلِه.
و الآخَرُ: أنّ فِعلَ العِلمِ لا يَصِحُّ إلّامِن عالِمٍ .
و الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ : أنّه لَو لَم يَكُن هو فاعِلَ ذلكَ العِلمِ ، لَم يَخلُ فاعِلُه مِن أن يَكونَ قادراً لنفسِه، أو قادراً بقُدرةٍ .
و قد أبطَلنا كَونَه قادراً لنفسِه، بما دَلَّ علىٰ نَفيِ ثانٍ له تَعالىٰ (2).
و كَونُه قادراً بقُدرةٍ يَمنَعُ مِن فِعلِ العِلمِ لا في مَحَلٍّ ، و هو الوجهُ الذي يَتعلَّقُ معه بالقَديمِ تَعالىٰ (3)؛ لأنّ القُدرةَ لا يَقَعُ العِلمُ بها(4) إلّامُتولِّداً في مَحَلِّ القُدرةِ أو مُبتَدَأً
ص: 267
في مَحَلِّها؛ لأنّه لا جهةَ للنظَرِ، حَيثُ يَصِحُّ أن يُولَّدَ في غَيرِ مَحَلِّه(1).
و لَيسَ يَجوزُ أن يَعلَمَ تَعالىٰ بما يوجَدُ في المَحَلِّ ؛ لأنّ مِن حقِّ العِلمِ أن يوجَدَ في مَحَلِّه الحياةُ ، و يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، و قد شَرَحنا ذلكَ قَبلَ هذا المَوضِعِ ، فلَم يَبقَ بَعدَ ذلكَ إلّاأن يَكونَ العِلمُ مِن فِعلِه.
و الذي يَدُلُّ علَى الأصلِ الثاني: أنّ العِلمَ قد ثَبَتَ أنّه لا يَكونُ عِلماً لجنسِهِ (2)، و إنّما يَكونُ كذلكَ لَو وَقَعَ (3) مِنه علىٰ وَجهٍ ، و أنّ كُلَّ وَجهٍ يَقَعُ عَلَيه فيَكونُ عِلماً، يَقتَضي كَونَ فاعلِه(4) عالِماً.
و إنّما قُلنا: إنّه لَم َيكُن عِلماً لجنسِه [ل] أنّا قد نَجِدُ مِن جنسِه ما لَيسَ بعِلمٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ اعتقادَ كَونِ زيدٍ في الدارِ في وقتٍ مخصوصٍ تَقليداً، مِن جنسِ [العلم] بأنّه في الدارِ؟ بدَلالةِ أنّ ما يَنفي أحَدَهما يَنفي الآخَرَ، و لأنّ كُلَّ واحدٍ مِنهما يوجِبُ مِثلَ ما يُوجِبُه الآخرُ(5)، و لأنّهما (67) قد اشتَرَكا في تَعَلُّقٍ بما يَتَعَلَّقانِ به علىٰ أخَصِّ الوجوهِ . و كلُّ ذلكَ يوجِبُ التماثُلَ .
فإذاً لَم يَكُن عِلماً لجنسِه، و لَم يَجُز أن يَكونَ عِلماً لحُدوثِه، و لا لوجودِه، و لا لشيءٍ يُشاركُه التقليدُ فيه(6).
ص: 268
و لا أن يكونَ كذلك لعِلّةٍ (1)، و لا بالفاعلِ مَتىٰ لَم يَمتَنِعْ (2) بالفاعلِ أنّه يُحدِثُه على بعضِ الوجوهِ التي نَذكُرها؛ لأنّه كانَ [لا] يَمتَنِعُ أن يَقَعَ علىٰ بعضِ الوجوهِ التي نَذكُرُها. ثُمّ لا يَكونَ عِلماً؛ لعدمِ (3) ما يَدَّعيهِ مِن العِلّةِ ، أو لأنّ الفاعلَ أبىٰ (4) كَونَه عالِماً بالفِعلِ (5). أو وجودِ العِلّةِ مِن غَيرِ أن تَكونَ (6) علىٰ بعضِ ما نَذكُرُه. علىٰ أنّ العِلّةَ التي تُدَّعىٰ (7) مع التقليدِ الذي يوجَدُ(8) فينا لشيءٍ مخصوصٍ ، كحالِها مع العِلمِ الموجودِ فينا لغَيرِه؛ لعدمِ اختصاصِ أحَدِهما دونَ الآخَرِ، فلَيسَ بأن توجِبَ كَونَ أحَدِهما عِلماً أَولىٰ مِن الآخَرِ.
و إذا استَحالَ ذلكَ ، ثَبَتَ أنّه لا يَكونُ عِلماً إلّالحُدوثِه علىٰ بعضِ الوجوهِ .
و أمّا الوجوهُ التي إذا وَقَعَ عَلَيها الاعتقادُ كانَ عِلماً، فالذي ذَكَره أبو هاشمٍ و أبوعليٍّ (9) ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحَدُها: أن يَقَعَ العِلمُ مُتولِّداً عن النظَرِ(10).
و الأمرُ [الثاني]: أن يَقَعَ بأن نَذكُرَ كيفيّةَ النظَرِ؛ نَحوَ ما يَفعَلُه المُتنبِّهُ مِن نَومِه.
ص: 269
و الثالثُ : أن يَكونَ مِن فِعلِ العالِمِ بمُعتَقَدِه؛ نَحوَ ما يَفعَلُه القَديمُ تَعالىٰ فينا مِن العُلومِ الضروريّةِ (1).
و أضافَ مَن تَأخَّرَ عنهما(2) إلىٰ ذلك وَجهَينِ آخَرَينِ :
أحَدُهما: أن نَعلَمَ في الجُملةِ أنّ مِن حَقِّ الموصوفِ بصفةٍ ، أن يَكونَ بصفةٍ أُخرىٰ ، أو حُكمٍ آخَرَ، فمَتَى عَلِمنا(3) شيئاً يَستَحِقُّ الصفةَ الأُولىٰ علَى التفصيلِ ، فلا بُدَّ مِن أن نَفعَلَ (4) اعتقاداً لكَونِه علَى الصفةِ الثانيةِ و الحُكمِ ، فيَكونَ هذا الاعتقادُ عِلماً؛ لتَقدُّمِ العِلمِ الأوّلِ .
و مِثالُه: العِلمُ في الجُملةِ بقُبحِ الظُّلمِ مُفصَّلاً(5)، و أنّ مِن حَقِّ المُحدَثِ أن يَكونَ له مُحدِثٌ (6)، و أنّه مَتىٰ عَلِمنا(7) ظُلماً بعَينِه، و مُحدَثاً مُعيَّناً، فَعَلنا(8) العلمَ بقُبحِ الظلمِ مُفصَّلاً، و حاجَةَ المُحدَثِ إلَى المُحدِثِ مُفصَّلاً.
و الوجهُ الآخَرُ: أن يَكونَ الاعتقادُ عِلماً بوقوعِه مِن مُتذكِّرٍ كَونَه عالماً. وأُجريَ ذلكَ العِلمُ بالمعتَقَدِ مَجرَى(9) العِلمِ بالمُعتَقَدَ؛ كما أُجريَ الذِّكرُ [مَجرَى] النظَرِ.
و قد زِيدَ علىٰ ذِكرِ هذه الوجوهِ الخمسةِ وَجهٌ سادسٌ علىٰ مَذهَبٍ لأبي هاشمٍ
ص: 270
خاصّةً ، و هو: أن يَكونَ الاعتقادُ(1) عِلماً لأنّه اعتقادٌ لمَن هو عالِمٌ بالمعتَقَدِ، و إن كانَ لمّا فَعَلَه لَم يَكُن عالِماً بالمُعتَقَدِ(2).
و مِثالُه: أن يَعتَقِدَ تقليداً بكَونِ (3) زَيدٍ في الدارِ، ثُمّ يُشاهِدَه، فيَصيرَ الاعتقادُ أوّلاً عِلماً بِكَونِ (4) [المعتَقِدِ] الأوّلِ عالِماً(5).
فإن قيلَ : مِن أينَ أنّ الاعتقادَ لا يَكونُ عِلماً إلّالما حَصَرتُم مِن الوجوهِ؟
قُلنا: [مِن عدم تعقُّلِنا] لوجهٍ يُعقَلُ سِوىٰ ما ذَكَرناه، و لَو جَوَّزنا(6) وَجهاً واحداً، لَصحَّ أن يَبتَدِئَ أحَدُنا فيَفعَلَ العِلمَ مِن غَيرِ أن يوقِعَه علىٰ أحَدِ الوجوهِ التي ذَكَرناها.
و لا يَجوزُ أن تَكونَ (7) مُشاهَدةُ الأدلّةِ وَجهاً لكَونِ الاعتقادِ عِلماً؛ فإنّ أحَدَنا قد يُشاهِدُ الأدلّةَ التي علَى اللّٰهِ تَعالىٰ و أحوالِه، و لَو اعتَقَدَ ابتداءً في حالِ مُشاهَدتِها
كَونَه تَعالىٰ قادراً مَثَلاً، لَم يَكُن هذا الاعتقادُ عِلماً؛ لتَعلُّقِه بما يُدرِكُه المعتَقِدُ؛ لأنّ الصغيرَ و المجنونَ يُدرِكانِ و لا يَعلَمانِ ، و لأنّه قد يُدرِكُ المُلتَبِسَ و يَعتَقِدُه و لا يَكونُ عالِماً.
ص: 271
و لَيسَ يُمكنُ أن يُقالَ : إنّ الإدراكَ يُؤَثِّرُ (68) في كَونِ الاعتقادِ عِلماً، بشَرطِ كمالِ العقلِ .
لأنّ : هذا جَعلٌ للشيءِ شَرطاً في نفسِه؛ إذ مِن كمالِ العقلِ العِلمُ بالمُدرَكاتِ .
و إنّما قُلنا: إنّ الاعتقادَ إذا وَقَعَ علىٰ أحدِ هذه الوجوهِ كانَ عِلماً؛ مِن حيثُ اقتَضىٰ بوُقوعِه علىٰ كُلِّ وَجهٍ منها سُكونَ النفسِ إلىٰ مُعتَقَدِه.
و الكلامُ في «تفصيلِ الوجوهِ التي ذَكَرنا(1) أنّ الاعتقادَ عَلَيها يَكونُ عِلماً، و تمييزِ(2) بعضِها مِن بعضٍ ، و الردِّ علىٰ مَن ذَهَب فيها إلَى التداخُلِ » يَطولُ ، و فيما ذَكَرناه كفايةٌ .
و قد ثَبَتَ بجُملةِ ما أَورَدناه أنّ العِلمَ لا يَقَعُ إلّامِن عالِمٍ ؛ لأنّ ما يَفعَلُه عن النظَرِ لا بُدَّ أن يَكونَ فاعلُه عالِماً بالدليلِ علَى الوَجهِ الذي يَدُلُّ . و المُتذكِّرُ للنظَرِ و الاستدلالِ هو عالِمٌ ؛ لأنّ الذِّكرَ للشيءِ هو العِلمُ به. و العالِمُ بالمعتَقَدِ الأمرُ فيه أوضَحُ ، و كذلك العالِمُ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، بأنّ مَن كانَ علىٰ صفةٍ فلا بُدّ أن يكونَ على أُخرىٰ ، و كذلك المُتذكِّرُ لِكَونِه عالِماً. فصَحَّ ما أرَدناه و قَصَدنا بالكلامِ إليه.
***
و اعلَم أنّ الكلامَ في أنّه تَعالىٰ عالِمٌ بعلمٍ مُحدَثٍ ، و قادرٌ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، يَدخُلُ فيه ثَلاثُ مَسائلَ :
أُولاهنّ أن يُقالَ : لا يَعلَمُ شيئاً إلّابعِلمٍ مُحدَثٍ ، و لا يَقدِرُ إلّابقُدرةٍ مُحدَثةٍ .
و المسألةُ الثانيةُ أن يُقالَ : إنّه يَعلَمُ بعضَ المعلوماتِ لنفسِه، و بعضَها بعِلمٍ
ص: 272
مُحدَثٍ ، و كذلكَ في القُدرةِ .
و المسألةُ الثالثةُ أن يُقالَ : إنّه يَعلَمُ بعضَ ما يَعلَمُه لنفسِه بعِلمٍ مُحدَثٍ ، حتّىٰ يَكونَ عالماً به مِن الوَجهَينِ ، و كذلك في القُدرةِ .
و هذه المسائلُ لا يُمكِنُ كُلُّها في الحَياةِ ؛ لأنّها ممّا تَتعلَّقُ (1) بغَيرِها، كتَعلُّقِ (2) العِلمِ و القُدرةِ .
و قد تَقدَّمَ الجوابُ عن المسألةِ الأُولى في العِلمِ و القُدرةِ .(3)
فأمّا المسألةُ الثانيةُ فالجوابُ عنها: أنّه(4) إذا بَطَلَ كَونُه تَعالىٰ عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ
- علىٰ ما سَنَذكُرُه(5) - مُضافاً إلىٰ ما بيّنّاه مِن إبطالِ كَونِه عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ (6) أو معدومٍ (7)، وجبَ أن يَكونَ عالِماً لنفسِه. و مِن حقِّ العالِمِ لنفسِه أن يَعلَمَ جميعَ المعلوماتِ ، و لا يَصِحُّ أن يَكونَ فيها ما لا يَجِبُ كَونُه عالِماً به.
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّ تَعلُّقَه بالمعلوماتِ تَعلُّقُ العالِمينَ ، لا تَعلُّقُ العلومِ (8) و العالِمِ (9)؛ مِن(10) صحّةِ كَونِه عالِماً بكُلِّ معلومٍ بغَيرِ(11) اختصاصٍ . و إذا كانَ عالِماً
ص: 273
لنفسِه، وجبَ في كُلِّ ما صَحَّ أن يَعلَمَه ثُبوتُ كَونِه عالِماً به؛ لأنّ صفةَ النفسِ متىٰ صَحَّت وجبَت.
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ تَعلُّقَه تَعلُّقُ العالمينَ أشياءُ :
مِنها: أنّ الأفعالَ المُحكَمةَ إنّما صَحَّت مِنه لأجلِ هذا التعلُّقِ ، و هذا الحُكمُ يَختَصُّ العالِمَ دونَ العِلمِ ؛ لاستحالةِ الفِعلِ المُحكَمِ مِن العلمِ .
و مِنها: أنّه لأجلِ هذا التعلُّقِ يَجِبُ كَونُه حَيّاً، و تَعلُّقُ العِلمِ بمعلومِه لا يَجِبُ فيه ذلكَ ، بل يَستحيلُ فيه.
و منها: أنّه لو تَعلَّقَ تَعلُّقَ العُلومِ ، لَوجبَ كَونُه مِن جنسِ العِلمِ ؛ لأنّ العُلومَ إنّما تَتَماثَلُ (1) بالمُشارَكةِ في التعلُّقِ بالمعلومِ الواحدِ، علَى الوَجهِ الواحدِ، في الوقتِ الواحدِ.
و منها: أنّه قد وَقَعَت مِنه تَعالىٰ أفعالٌ كثيرةٌ تَدُلُّ (2) علىٰ كَونِه عالِماً بمعلوماتٍ كثيرةٍ ، و العِلمُ لا يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ؛ فثَبَتَ أنّ تَعلُّقَه تَعالىٰ يُخالِفُ تَعلُّقَ العُلومِ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المعلوماتِ لا اختصاصَ فيها، و أنّ كُلَّ عالِمٍ يَصِحُّ أن يَعلَمَ كُلَّ معلومٍ ، فظاهرٌ؛ لأنّه لا معلومَ يُشارُ إليه إلّايَصِحُّ أن يَعلَمَه كُلُّ حَيٍّ ، كما أنّه لا مُدرَكَ إلّا و يَصِحُّ أن يُدرِكَه كُلُّ مُدرِكٍ ؛ و [لا] مُرادَ إلّاو يَصِحُّ أن يُريدَه كُلُّ مُريدٍ. و إنّما جازَ الاشتراكُ (69) في المعلومات(3) و لم يَجُز في المقدوراتِ ؛ لأنّ العالِمَ يَعلَمُ
ص: 274
الشيءَ علىٰ ما هو عَلَيه، و لا يَصيرُ علىٰ بعضِ الصفاتِ كالعالِمِ (1) و القادرِ بجَعلِ الشيءِ علىٰ صفةٍ ، فلهذا لَم يَصِحَّ فيه الاشتراكُ .
و إذا ثَبَتَت(2) الجُملةُ التي ذكرناها، و كانَ تَعالىٰ عالِماً، وجبَ لنفسِه أن يَعلَمَ الجميعَ ؛ لأنّ الصحّةَ لا تُفارِقُ الوجوبَ في صفاتِ النفسِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَدَّعِيَ في المعلوماتِ ما لا يَصِحُّ أن يَعلَمَه؛ لِما بيّنّا،(3) و لأنّ ما(4) لَم يَصِحَّ أن يَعلَمَه لنفسِه، لَم يَصِحَّ أن يَعلَمَه أيضاً بعِلمٍ مُحدَثٍ . و لَيسَ هو بأن يَعلَمَ بعضَ المعلوماتِ لنفسِه بأَولى مِن سائرِها، مع صحّةِ كَونِه(5) عالِماً بالجميعِ ، و عدمِ (6) الاختصاصِ بَينَها و بَينَ بعضِها دونَ بعضٍ . و إذا وجبَ كَونُه عالِماً بنفسِه لشيءٍ مِنها، فإنّما وجبَ مِن حَيثُ صَحَّ أن يَكونَ معلوماً له، و حالُ الكُلِّ (7) في هذه القضيّةِ واحدةٌ ، فيَجِبُ أن يَكونَ عالِماً بجميعِ المعلوماتِ لنفسِه. و إذا وجبَ ذلكَ لَم يَبقَ ما يُقالُ : إنّه يَعلَمُه بعِلمٍ مُحدَثٍ .
و أمّا الجوابُ عن هذه المسألةِ (8) إذا سُئلنا عنها في كَونِه تَعالىٰ قادراً: فهو أنّه قد ثَبَتَ أنّ تَعلُّقَه بمقدوراتِه تَعلُّقُ القادرينَ لا تَعلُّقُ القُدَرِ؛ للوجوهِ التي ذَكَرناها في أنّ تَعلُّقَه بالمعلوماتِ يُخالِفُ تَعلُّقَ العُلومِ (9)، سِوَى الوَجهِ الواحدِ الذي اعتَمَدنا فيه
ص: 275
علىٰ وُجوبِ كَونِه مِن جنسِ العِلمِ ؛ لأنّ ذلكَ لا يَتَأتّى في القُدرةِ ؛ لأنّه تَعالىٰ لا يَتعلَّقُ بنَفسِ ما تَتعلَّقُ (1) به القُدَرُ.
و إذا ثَبَتَ ذلك، وجبَ في كُلِّ ما صَحَّ أن يَكونَ مقدوراً له، كَونُه قادراً عَلَيه؛ مِن حَيثُ كانَ قادراً للنفسِ ، و كانَت صفةُ النفسِ متىٰ صَحَّت وجبَت، و إذا كانَ قادراً علَى الكُلِّ لنفسِه، لَم يَبقَ ما يُقالُ : إنّه يَقدِرُ عليه بقُدرةٍ مُحدَثةٍ .
و إنّما خَصَّصنا الكلامَ في المقدوراتِ ، و قُلنا: يَجِبُ أن يَكونَ قادراً علىٰ كُلِّ ما صَحَّ أن يَكونَ مقدوراً له، و لَم نَقُل مِثلَ ذلك في المعلوماتِ ؛ لأنّ في المقدوراتِ ما يَستَحيلُ كَونُه تَعالىٰ قادراً عَلَيه مِن حَيثُ كانَ مقدوراً لغَيرِه، و لَيسَ كذلكَ المعلوماتُ ؛ لأنّ الاختصاصَ لا يَتأتّىٰ فيها.
و ما قَدَّمناه مِن قَبلُ (2) - مِن أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ (3) الفِعلُ بها إلّاإذا كانَت في مَحَلٍّ ؛ مِن حَيثُ كانَ مِن حُكمِها استعمالُ مَحَلِّها في الفِعلِ أو سببِه - يُبطِلُ كَونَه قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ لا في مَحَلٍّ علىٰ كُلِّ حالٍ .
فأمّا الجَوابُ عن المسألةِ الثالثةِ : فهو(4) أنّه لَو كانَ عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ بعضَ ما يَعلَمُه لنفسِه، فوجبَ أن يَكونَ ذلكَ العِلمُ موجوداً لا في مَحَلٍّ حتّىٰ يَصِحَّ اختصاصُه به دونَ غَيرِه، و لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ العِلمَ في غَيرِ مَحَلٍّ إلّاهو تَعالىٰ ،
فَيَجِبُ أن يَكونَ قادراً على ضِدِّه في الجنسِ ، و ذلكَ يَقتَضي كَونَه قادراً علَى
ص: 276
الجهلِ أن يَفعَلَه لا في محلٍّ ، و لَو قَدَرَ عَلَيه لَصَحَّ أن يَفعَلَه، و لَو فَعَلَه لَم يَخلُ حالُه مِن وجوهٍ (1):
إمّا أن يوجِبَ كَونَه تَعالىٰ جاهلاً و يَخرُجَ عن كَونِه عالِماً!
أو تَجتَمِعَ (2) له الصفَتانِ .
أو يوجِبَ كونَ غَيرِه جاهلاً.
أو يَكونَ جَهلاً لا يَجهَلُ به أحَدٌ(3).
و كلُّ ذلك مُخِلٌّ .
لأنّ الأوّلَ يَقتضي خُروجَه تَعالىٰ عن صفتِه الذاتيّةِ مع صحّتِها عَلَيه، و ذلكَ يَستَحيلُ ، كاستحالةِ وجودِ ما يَنفي ذاتَه و يُخرِجُه عن الوجودِ؛ مِن حَيثُ كانَ موجوداً لنفسِه.
و اجتماعُ الصفتَينِ له تَعالىٰ مَعلومٌ استحالتُه.
و إيجابُ الجَهلِ كَونَ غَيرِه جاهلاً باطلٌ ؛ لأنّه(4) إذا وُجِدَ علَى الوَجهِ الذي توجَدُ(5) عَلَيه إرادةُ القَديمِ تَعالىٰ ، فلا يَجوزُ أن يوجِبَ الحالَ لغَيرِه.
و وجودُ جَهلٍ (70) لا يَتعلَّقُ بأحَدٍ، يَقتَضي [وجودَ] جنسِه.
و كُلُّ قولٍ يؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه و فصّلناه(6) مِن الوجوهِ (7) فهو فاسِدٌ.
ص: 277
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ ذلكَ العِلمَ الموجودَ لا في مَحَلٍّ يَجِبُ أن يَكونَ مِن فِعلِه ؟
قُلنا: لأنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ العِلمَ في غَيرِ مَحَلٍّ ؛ لِما تَقدَّمَ (1) مِن أنّ العِلمَ : إمّا أن يُفعَلَ ابتداءً في مَحَلِّ القُدرةِ ، أو مُتولِّداً عن سببٍ [في محل القدرة؛ لأنّه] لا جهةَ [للنظر]،(2) فيُولِّدُه(3) في غَيرِ مَحَلِّهِ . علىٰ أنّ غَيرَه لَو صَحَّ أن يَفعَلَه بالقُدرةِ في غَيرِ مَحَلٍّ ، لَوجبَ كَونُه قادراً علىٰ ضِدِّه الذي يُنافيهِ ، و لو فَعَلَه لَأدّىٰ إلَى الفَسادِ الذي ذَكَرناه، فلَيسَ يَختَلِفُ الحُكمُ المقصودُ علىٰ كُلِّ حالٍ .
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ لِلعِلمِ (4) ضِدّاً.
قُلنا: قد عَلِمنا استحالةَ اجتماعِ : اعتقادِ كَونِ الشيءِ علىٰ صفةٍ في بعضِ
الأحوالِ ، و اعتقادِ أنّه لَيسَ عَلَيها في تلكَ الأحوالِ ؛ لا لوَجهٍ معقولٍ سِوَى التضادِّ، فيَجِبُ تَضادُّهما و تَنافيهِما علَى الحَيِّ ، و هذا واجبٌ في كُلِّ اعتقادَينِ جَرَيا هذا المَجرىٰ . فظَهَرَ بذلكَ أنّ الاعتقادَ المُتَعلِّقَ (5) بالعَكسِ مِن مُتعلَّقِ العِلمِ ، يَجِبُ أن يُضادَّه و يُنافِيَه.
ص: 278
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ما أَنكَرتُم أنّ اجتماعَ هذَينِ الاعتقادَينِ إنّما تَعذَّرَ لا للتضادِّ، لكِن لِما يَجري مَجرَى الداعي؛ و هو العِلمُ باستحالةِ كَونِ الذاتِ على صفةٍ ، و أنْ لا تَكونَ عَلَيها؟ و يَجري امتناعُ ذلكَ - و إن لَم يَكُن للتضادِّ - مَجرَى(1) اعتقادِ الضِّدَّينِ و إرادةِ الضِّدَّينِ ، في أنّ اجتماعَهما يَتعذَّرُ لِما يَرجِعُ إلَى الداعي.
و ذلكَ : أنّ كُلَّ شَيئَينِ (2) تَعَلَّقا بغَيرِهما، و عَلِمنا أنّ أحَدَهما قد تَعَلَّق بالعكسِ مِن مُتَعَلَّقِ الآخَرِ، فلا بُدَّ مِن الحُكمِ بتَضادِّهما، و لذلكَ حَكَمنا بتَضادِّ الإرادةِ و الكَراهةِ ، و القُدرةِ و العَجزِ، لَو ثَبَتَ أنّ ذلكَ معنىً ، و بذلكَ فَرَّقنا بَينَ إرادةِ الضِّدَّينِ ، و الإرادةِ و الكَراهةِ إذا تَعَلَّقَتا بالشيءِ الواحدِ علَى الوَجهِ الواحدِ.
علىٰ أنّ العِلمَ الذي أشاروا إليه، و ادَّعَوا [أنّه] يَمنَعُ مِن اجتِماعِ هذَينِ الاعتقادَينِ علىٰ سَبيلِ الداعي؛ و هو العِلمُ بأنّ الذاتَ لا يَجوزُ أن تَكونَ (3) علىٰ صفةٍ و أن لا تَكونَ عَلَيها، لا يَخلو مِن أن يَكونَ مُضادّاً للاعتقادِ المُتعلِّقِ بالعكسِ مِن مُتعلَّقِه، أو غَيرَ مُضادٍّ له، و إنّما لا يَجتَمِعُ معه لِداعٍ آخَرَ.
فإن كانَ الأوّلُ ، فما(4) يَقتَضي في هذَينِ الاعتقادَينِ التَّضادَّ، و إن تَعَذَّرَ اجتماعُهما، لَم يَكُن الداعي(5) يَقتَضي مِثلَه في الاعتقادَينِ اللَّذَينِ ذَكَرناهما.
ص: 279
و إن كانَ الثاني، وجبَ إثباتُ ما لا يَتَناهىٰ مِن الاعتقاداتِ .
و لَيسَ [يَجِبُ ] هذا(1) ممّا قُلناه(2) في اعتقادِ الضِّدَّينِ و إرادةِ الضِّدَّينِ ، [من] أنّ الصارِفَ عنهما هو العِلمُ بتَضادِّ مُتعلَّقِهما؛ لأنّا قَد نَنتَهي إلَى اعتقادَينِ نَحكُمُ باستحالةِ اجتماعِهما للتضادِّ لا لِداعٍ آخَرَ، و هما: اعتقادُ تَضادِّ الضِّدَّينِ ، و اعتقادُ أنّهما غَيرُ مُتَضادَّينِ . و لا يُمكِنُ مَن خالَفَنا مِثلُ ذلكَ ؛ لأنّه لا يَقِفُ في بابِ الدَّواعي علىٰ حَدٍّ، فلَزِمَه إثباتُ ما لا يَتَناهىٰ دونَنا.
علىٰ أنّ الجَهلَ لَو ثَبَتَ تَعذُّرُ اجتماعِه مع العِلمِ المُتعلِّقِ بعكسِه لا للتضادِّ، كانَ
كما ذَكَروا لَم يُخِلَّ بما أرَدناه؛ و ذلكَ : أنّ القَديمَ تَعالىٰ إذا كانَ قادراً علَى العِلمِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً علَى الجَهلِ ؛ لأنّ مِن حَقِّ القادرِ علىٰ نفسِه(3) أن يَقدِرَ علىٰ كُلِّ جنسٍ يُقدَرُ عَلَيه بالقُدرةِ ؛ لأنّ حالَه في المقدوراتِ أزيَدُ مِن أحوالِ القُدَرِ - علىٰ ما سنُبَيِّنُه مِن بعدُ(4) -، فكانَ (71) يَجِبُ علىٰ هذا أن يَكونَ قادراً علىٰ فِعلِ الجَهلِ علَى الوَجهِ الذي فَعَلَ عَلَيه العِلمَ ؛ و إن لَم يَكُن ضِدّاً، و لَأدّىٰ صحّةُ وجودِه إلىٰ وجوهِ الفَسادِ الذي قَدَّمناه.
فإن قيلَ : بأيِّ شيءٍ تُنكِرونَ أن يَكونَ لِذلكَ (5) العِلمِ ضِدٌّ في الجنسِ ، و إن لم يَكُن ضِدّاً مُنافياً علَى الحقيقةِ؟
قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ لِعِلمِنا(6) ضِدّاً في الحقيقةِ مُنافياً، فإذا ثَبَتَ ذلكَ [الذي] فيه تبيانٌ
ص: 280
لذلكَ العِلمِ الذي هو مِن جنسِه، [وَجَبَ ] أن يَشتَرِكا(1) فيه.
و أيضاً فإنّ تجويزَ ذلكَ يؤَدّي إلىٰ تَجويزِه في الألوانِ (2)، [و] أن يَكونَ له ضِدٌّ في الجنسِ ، و إن لَم يَكُن مُنافياً، و هذا يوجِبُ أن يَكونَ في الجَواهرِ ما يَستَحيلُ انتقالُه مِن جهتِه.
و أيضاً فإنّ التضادَّ في الجنسِ متىٰ لَم يَبتَنِ (3) علَى التضادِّ الحقيقيِّ ، لَم يُعقَلْ و لَم يَصِحَّ إثباتُه، و هذا يُبطِلُ أن يَكونَ لبعضِ المَعاني ضِدٌّ في الجنسِ ، و لا يَكونُ ضِدّاً علَى الحقيقةِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ القادرَ علَى الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ قادراً على ضِدِّه، يأتي مِن الكتابِ في مَوضِعِه إن شاءَ اللّٰهُ تَعالىٰ .(4)
فإن قيلَ : مِن أينَ إذا كانَ للعِلمِ ضِدٌّ، و كانَ قادراً علىٰ (5) ضِدِّه، أنّه يَصِحُّ مِنه إيجادُه(6) لا في مَحَلٍّ (7)؛ لأنّ الذي يَقتَضيه كَونُه قادراً علَى الشيءِ ، أن يَكونَ قادراً علىٰ ضِدِّه، و لا يَقتَضي ذلكَ صحّةَ إيجادِه ضِدَّه على كُلِّ وَجهٍ صَحَّ إيجادُه(8)
ص: 281
عَلَيه؛ أوَ لَيسَ أحَدُكم قادراً علىٰ أن يَبتَدِئَ الجَهلَ ، و لا يَقدِرُ علىٰ فِعلٍ ابتَدَأَ به لا مِن الجَهلِ؟
قُلنا: إذا ثَبَتَ أنّ العِلمَ [له] ضِدٌّ يُنافيهِ ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ القادرُ عَلَيه قادراً علىٰ أن يَفعَلَه علَى الوَجهِ الذي يُنافيهِ . و إذا كانَ العِلمُ مَوجوداً لا في مَحَلٍّ ، وجبَ فيما
يُضادُّه و يُنافيهِ أن يوجَدَ علىٰ هذا الوجهِ . و لذلكَ لمّا كان أحَدُنا يَصِحُّ أن يَفعَلَ العِلمَ في قلبِه، و كانَ قادراً على الجَهلِ الذي هو ضِدُّه، صَحَّ أن يَفعَلَه في قلبِه، علَى الوجهِ الذي يُنافيهِ عَلَيه العِلمُ .
و ممّا(1) يَكشِفُ عن ذلكَ : أنّ الطريقَ الذي يُعلم [به أنّ ] القادِرَ عَلَى الشيءِ قادرٌ علىٰ ضِدِّه، إنّما يَظهَرُ في المُنافي دونَ المُتَضادِّ في الجنسِ ، و إنّا نَحمِلُ ما لا يَتَنافىٰ في وجوبِ كَونِه قادراً عَلَيه علَى المُتَنافي. فالأَصلُ في كَونِ القادرِ قادراً، أن يَقدِرَ على الضِّدَّينِ المُتَنافِيَينِ ، و ما عَدا ذلك فَرعٌ له و تابِعٌ .
و إنّما قُلنا:(2) إنّ العِلمَ لا يُبتَدأُ علىٰ بعضِ الأحوالِ ، علىٰ حَدِّ ما يُبتَدَأُ الجَهلُ ؛ لأنّ العِلمَ لَم يَكُن عِلماً لجنسِه(3)، و إنّما يَكونُ كذلكَ لِوُقوعِه علىٰ وجوهٍ مخصوصةٍ يَجِبُ أن تُراعىٰ . و الجَهلُ لَيسَ يُراعىٰ فيه مِن الوجوهِ ما يُراعىٰ في العِلمِ ، فلذلكَ جازَ ابتداؤه علىٰ كلِّ حالٍ .
و بَعدُ، فإنّ العِلمَ لا يُضادُّ الجَهلَ مِن حَيثُ كانَ عِلماً، و إنّما يُضادُّه مِن حَيثُ
ص: 282
كانَ اعتقاداً للشيءِ علىٰ ما هو به. و يَصِحُّ مِن القادرِ ابتداءُ هذا(1) الاعتقادِ الذي يَرجِعُ التضادُّ في الحقيقةِ إليه علىٰ كُلِّ حالٍ ، كما يَصِحُّ أنْ يَبتَدِئَ (2) بالجَهلِ .
فإن قيلَ : ألا كانَ هذا الجَهلُ مقدوراً له، و يَكونُ ما هو عَلَيه في كَونِه عالِماً لنفسِه كالمانعِ مِن وجودِه ؟
قُلنا: هذا يَبطُلُ مِن وجوهٍ أربعةٍ :
أوّلُها: أنّ ما أحالَ (3) وجودَ الشيءِ علىٰ كُلِّ وجهٍ ، يُحيلُ كَونَه مقدوراً؛ لأنّ كَونَه مقدوراً لا بُدَّ معه مِن صحّةِ وجودِه علىٰ (4) وجهٍ ما، و كُلُّ شَيءٍ يَتعذَّرُ لمانعٍ فلا بُدَّ من صحّةِ زَوالِه علىٰ بعضِ الوجوهِ ، و لولا صحّةُ (72) هذه الجُملةِ لَالتَبَسَ المُتعذِّرُ(5) بالمُستَحيلِ .
ثانيها: أن يَكونَ عالِماً لنفسِه، لَيسَ بأن يَمنَعَ مِن فِعلِ الجَهلِ ، أَولىٰ مِن أن يُقالَ :
إنّ كَونَه قادراً لنفسِه عَلَيه(6) يَقتَضي صحّتَه؛ لأنّ المَنعَ لا يَجوزُ علَى القادرِ لنفسِه.
و ثالثُها: أنّ ما يَستَحيلُ وجودُه علىٰ كُلِّ حالٍ ، لا يَكونُ ضِدّاً لغَيرِه في الحقيقةِ ، و قد بيّنّا أنّ لذلكَ (7) العِلمِ ضِدَّاً علَى التحقيقِ .(8)
ص: 283
و رابعُها: أنّ هذا القولَ يوجِبُ أنّ في الأجناسِ ما يَستَحيلُ عَلَيه الوجودُ؛ لأنّ
ذلكَ الجَهلَ إذا كانَ إنّما يَمنَعُ مِن وجودِه كَونُه تَعالىٰ عالِماً لنفسِه، و القَديمُ تَعالىٰ يَستَحيلُ خُروجُه عن هذه الصفةِ ، فيَجِبُ علىٰ هذا استحالةُ وجودِ ذلك الجَهلِ . و يُحالُ أن تَكونَ ذاتٌ معدومةٌ يَستَحيلُ عَلَيها الوجودُ علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ لِما قد بُيِّنَ في مَواضِعَ كَثيرةٍ .
فإن قيلَ : ما أنكَرتُم مِن صحّةِ وجودِ ذلك الجَهلِ ، و إن لم يَجهَلْ به أحَدٌ، و يَمنَعُ مِن تَعلُّقِه به تَعالىٰ كَونُه عالِماً لنفسِه، و مِن تَعلُّقِه بغَيرِه وجودُه علىٰ غَيرِ الوَجهِ الّذي معه يَثبُتُ التعلُّقُ؟
قُلنا: الجَهلُ لنفسِه يوجِبُ كَونَ الجاهلِ جاهلاً، فما(1) يَمنَعُ مِن إيجابِه يَمنَعُ مِن وجودِه، كما أنّ ما مَنَعَ مِن كَونِ الميِّتِ عالِماً يُحيلُ وجودَ العِلمِ في قَلبِه، و ما مَنَعَ مِن كَونِ الجَوهرِ كائناً ببعضِ الأكوانِ يُحيِلُ وجودَه.
علىٰ أنّ تَعلُّقَ الجَهلِ بغَيرِه في رُجوعِه إلىٰ ذاتِه، كإيجابِه كَونَ الجاهلِ جاهلاً، فلَو جازَ وجودُه مِن غَيرِ أن يَجهَلَ (2) به جاهلٌ ، لَجازَ وجودُه غَيرَ مُتعلِّقٍ بما يَتعلَّقُ به، و هذا يؤَدّي إلىٰ فَسادِ وجودِه و قَلبِ جنسِه.
فإن قيلَ : ألَيسَ قد جازَ عندَكم وجودُ عِلمٍ لا معلومَ [يتعلَّق] به ؟ فألّا جازَ في الجَهلِ بما(3) ألزَمناكُموه(4)؟
ص: 284
قيل: الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ أنّ العِلمَ و إن لَم يَتعلَّقْ في بعضِ المَواضعِ بمعلومٍ ، فلَيسَ (1) يَخرُجُ مِن أن يوجِبَ الصفةَ المخصوصةَ بالغَيرِ، و بذلكَ يَظهَرُ حُكمُ صفتِه النفسِيّةِ ، و يَكونُ لوجودِه(2) مَزيّةٌ علىٰ عدمِه.
و الجَهلُ إذا لَم يوجِبْ كَونَ أحَدٍ جاهلاً لَم يَتعلَّقْ بمجهولٍ ، و إذا لَم يَتعلَّقْ بِمُتعلَّقٍ ، و لا أَوجَبَ صفتَه بموصوفٍ ، لَم يَكُن لوجودِه مَزيّةٌ علىٰ عدمِه.
فإن قيلَ : ألَيسَ قد أجازَ عندَكُم بعضٌ (3) خُروجَ كَونِه تَعالىٰ قادراً علَى المقدورِ عندَ وجودِه، و إن كان قادراً لنفسِه؛ مِن حَيثُ أحالَ وجودُ المقدورِ كَونَه قادراً بقَلبِه(4)؟ فألَّا(5) جازَ خُروجُه عندَ وجودِ الجَهلِ مِن كَونِه عالِماً؛ لِاستحالةِ كَونِه عالِماً مع وجودِ هذا الجَهلِ؟
قُلنا: لَيسَ يَخرُجُ القَديمُ تَعالىٰ عندَ وجودِ مقدورِه مِن كَونِه قادراً، و لا يَزولُ التعلُّقُ أيضاً متىٰ كانَ المقدورُ ممّا تَجوزُ عَلَيه الإعادةُ ؛ لأنّه علىٰ هذا لا يَصِحُّ مِنه
إيجادُه في الثالثِ ، إن لَم يَجُز في الثاني. كما أنّ القُدرةَ تَتعلَّقُ (6) بإيجادِه في المقدورِ في العاشرِ، و إن لَم يَجُز لها(7) أن توجِدَ في الثاني. و مَتىٰ نَقَصَ
ص: 285
وَقتُ المقدورِ في العاشرِ، فلا بُدَّ مِن القولِ بأنّ التعلُّقَ قد زالَ . غَيرَ أنّ الصفةَ التي [له] تَعالىٰ لَم يَزَل [عَلَيها] مِن حَيثُ كانَت(1) له بكَونِه قادراً علَى المقدوراتِ كُلِّها صفةٌ واحِدةٌ .
و بهذا يَسقُطُ الاعتراضُ عمّن ذَهَبَ إلَى المَذهَبِ الذي سُئلَ عَلَيه السؤالُ الذي أَورَدناه، يَقولُ :(2)
وجودُ المقدورِ مُحيلٌ لكونِهِ مقدُوراً في نفسِه، و لهذا استَحالَ كَونُه تَعالىٰ قادراً عَلَيه. و كَونُ الشيءِ مَجهولاً بجَهلٍ لا يُحيلُ كَونَه مَعلوماً في نفسِه؛ ألا تَرىٰ أنّ غَيرَ هذا الجاهلِ يَصِحُّ أن يَعلَمَه ؟ (73) فلَو خَرَجَ [عن] كَونِه عالِماً، لَأدّىٰ إلى خُروجِه عَمّا يَستَحِقُّه لنفسِه مع صحّتِه.
علىٰ أنّه قد حَصَلَ ما يؤَثِّرُ في كَونِه عالِماً؛ مِنْ صحّةِ (3) كَونِ الشيءِ معلوماً في نفسِه ثانيةً ، و ما يؤَثِّرُ في كَونِه جاهلاً مِن وجودِ الجَهلِ ، فلَيسَ قَولُ مَن قالَ : إنّ كَونَه تَعالىٰ عالِماً يَجِبُ لِما عَلَيه في ذاتِه بِشَرطِ أن لا يَطرَأَ عَلَيه هذا الجَهلُ ، بأَولى مِن قولِ القائلِ : إنّ الجَهلَ إنّما يوجِبُ كَونَه جاهلاً، بشرطِ أن لا يَكونَ الواجبُ لِكَونِه عالِماً حاصلاً، و هذا يوجِبُ إمّا انتفاءَ تأثيرِ الأمرَينِ ، أو اجتماعَ التأثيرَينِ ، و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ.
فإن قيلَ : ألا جازَ وجودُ الجَهلِ الذي ذَكَرتُموه، و استحالةُ قولِ مَن قالَ : إنّه يوجِبُ كَونَه جاهلاً، أو يَكونُ غَيرُه كذلكَ ، أو لا يوجِبُ شيئاً مِن ذلكَ ، كما جازَ(4)
ص: 286
الجوابُ بالنفيِ و الإثباتِ عن سؤالِ مَن سأَلَ فقالَ : لَو فَعَلَ الظُّلمَ هَل كانَ يَدُلُّ علىٰ جَهلِه و حاجتِه ؟ و إثباتُ الموجِبِ و المَنعُ مِن الموجَبِ نَقضٌ . و لَيسَ كذلكَ العِلمُ ؛ لأنّه لا يوجِبُ كَونَ فاعلِه جاهلاً و لا مُحتاجاً. و لا يُدَلُّ علىٰ ذلكَ مِن حالِ فاعِلِه لجنسِه، فالتقديرُ لوجودِه و الامتناعُ مِن القولِ بأنّه يَدُلُّ أو لا يَدُلُّ ، لا يَكونُ نَقضاً و لا امتناعاً مِنَ المُوجَبِ مع ثُبوتِ المُوجِبِ .
و ممّا يُجابُ به عن ذلك أن يُقالَ : إنّما جازَ أن نَمتَنِعَ مِن الجوابِ في بابِ الظُّلمِ بأنّه يَدُلُّ أو لا يَدُلُّ ؛ لصحّةِ أُصولٍ تَقرَّرَت بالأدلّةِ :
منها: أنّه قادرٌ علَى الظُّلمِ كقُدرَتِه علَى العَدلِ .
و منها: أنّه عالِمٌ غَنيٌّ .
و منها: أنّ القَبيحَ فيما بَينَنا لا يَختارُه إلّا: جاهِلٌ بقُبحِه، أو مُعتَقِدٌ للحاجةِ (1) إليه.
فإذا كانَ الجوابُ بالإثباتِ أو بالنفيِ يَنقُضُ بعضَ هذه الأُصولِ المُقرَّرةِ ، و كذلكَ إن نَفَينا كَونَه قادراً علَى الظُّلمِ هَرَباً مِن لُزومِ عُهدةِ هذا السؤالِ ، وجبَ الامتناعُ مِن الجوابِ بما يَنقُضُ المَعلومَ (2) بالأدلّةِ . و لَم يَثبُتْ للسائل بدَليلٍ صحيحٍ أنّه قادرٌ علىٰ فِعلٍ يَفعَلُه لا في مَحَلٍّ فيُجوِّزَ وجودَه، و يَمنَعَ ممّا يؤَدّي إليه؛ لأنّا علَى اعتبارِ ذلكَ و تأمُّلِهِ ، و لهذا الاعتبارِ و لِما يؤَدّي إليه يُحكَمُ بفَسادِه.
و لو ساغَ (3) مِثلُ هذا الاعتراضِ ، لَساغَ لكُلِّ مُبطِلٍ أن يَتمسَّكَ بالباطلِ و يَمتَنِعَ
ص: 287
ممّا(1) يؤَدّي إليه، فيَقولَ : «إنّه تَعالىٰ جسمٌ »، فإذا ألزَمناه أن يَكونَ مُحدَثاً، امتَنَعَ مِن ذلكَ و قالَ : «دَلالَةُ قِدَمِه تُوَقّيني مِن ذلكَ ، فأنا أُثبِتُه جسماً، و أمتَنِعُ مِن حُدوثِه؛ قياساً علَى امتناعِكم في الظُّلمِ ». و هذا ظاهِرُ الفَسادِ؛ لِما ذَكَرناه.
و ممّا يَدُلُّ (2) علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ بعِلمٍ مُحدَثٍ : أنّ العِلمَ يَمنَعُ مِن قَبيلِ ضِدِّه؛ لِما عَلَيه في ذاتِه، كما أنّ إيجابَه للحالةِ المخصوصةِ راجعٌ أيضاً إلىٰ ذاتِه، و وجودَه غَيرُ مانعٍ مِن ضِدِّه. فوجودُه غَيرُ موجِبٍ للحالِ التي تَحصُلُ (3) للعالِمِ به في إيجابِ خُروجِه عمّا هو عَلَيه في ذاتِه. و كَونُه تَعالىٰ عالِماً بذاتِه لِجَميعِ المعلوماتِ ، يَقتضِي استحالةَ وجودِ ضِدِّ هذا العِلمِ . و هذا يَقتَضي كَونَ ذلكَ العِلمِ غَيرَ مانعٍ مِن قبيلِ ضِدِّه، و قد بَيَّنّا فَسادَ ذلك.(4)
و علىٰ مِثلِ هذه الطريقةِ اعتَمَدنا فيما مَضىٰ مِنَ الكتابِ علىٰ أنّ القَديمَ لا ضِدَّ له.(5)
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَقدِرُ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ علىٰ بعضِ ما يَقدِرُ عَلَيه لنفسِه: فهو أنّ ذلكَ يَقتَضي أنّ وجودَ تلكَ القُدرةِ كقُدرتِه في جميعِ الأحكامِ المعقولةِ ، و مِثلُ ذلكَ معلومٌ فَسادُه.
و الذي يَدُلُّ علىٰ ما ذَكَرناه: هو أنّه لا يُمكِنُ أن يُقالَ : مع وجودِها يَصِحُّ حُدوثُ
ص: 288
مقدورِها؛ لأنّه مِن حَيثُ كانَ (74) قادراً لنفسِه يَجِبُ أن يَقدِرَ علىٰ كُلِّ ما يَصِحُّ أن
يَكونَ مقدوراً له، و مقدورُ هذه القُدرةِ يَصِحُّ كَونُه مقدوراً له، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً عليه. و لا يَكونُ لحُدوثِ هذه القُدرةِ تأثيرٌ في صحّةِ وجودِه.
و لا يَصِحُّ أن يقالَ : إنّما يَمنَعُ وجودُها مِن وجودِ ضِدِّها؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّه لا ضِدَّ لها، و لهذا لَم نَعتَمِدْ في نَفيِ القُدرةِ المُحدَثةِ هاهنا علىٰ ما اعتَمَدنا عليه في نَفيِ العِلمِ ؛ مِن اعتبارِ القُدرةِ علىٰ ضِدِّه. علىٰ أنّه لَو ثَبَتَ للقُدرةِ ضِدٌّ لَكانَ وجودُه مُمتَنِعاً، لا لِمَكانِها بل لكَونِه قادراً لذاتِه.
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّها تَتعلَّقُ مع الوجودِ؛ لأنّه: لا يَصِحُّ أن تَتعلَّقَ و لا تأثيرَ لها في صحّةِ وجودِ المقدورِ.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ فَسادِ ذلكَ : أنّ فيه إيجاباً لِكَونِ المقدورِ الواحدِ مقدوراً مِن وَجهَينِ ، و ذلك يَبطُلُ بما يَبطُلُ به كَونُ المقدورِ مِن الواحدِ مقدوراً بقُدرتَينِ .
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَقدِرُ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ : ما تَقدَّمَ مِن اعتبارِ(1) حُكمِ القُدرةِ ،(2)و أنّ الفِعلَ لا يَصِحُّ بها إلّابَعدَ استعمالِ مَحَلِّها في الفِعلِ أو سببِه، و ذلكَ يَمنَعُ مِن وجودِها لا في مَحَلٍّ ، و هو الوَجهُ الذي تعلَّقت [به] بالقَديمِ تَعالىٰ لَو تَعلَّقت عَلَيه.
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَصِحُّ أن يَحيا بحَياةٍ مُحدَثةٍ و إن كانَ حَيّاً لنفسِه: فهو ما تَقدَّمَ مِن اعتبارِ حُكمِ الحَياةِ ، و أنّ وجودَها في غَيرِ مَحَلٍّ لا يَصِحُّ ، فلا معنىٰ لإعادتِه.(3)
***
ص: 289
[الدليل الأوّل](1)
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّه كانَ يَجِبُ في هذه المَعاني القَديمةِ أن تَكونَ (2) مِثلَه، و أن تَستَحِقَّ مِثلَ ما يَستَحِقُّه تَعالىٰ مِن الصفاتِ الراجعةِ إلىٰ ذاتِه. و أنّه يَستَحِقُّ هو تَعالىٰ مِثلَ ما تَستَحِقُّه هي مِن الصفاتِ الراجعةِ إلىٰ ذَواتِها، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ في نفسِه علىٰ صفة العِلمِ و القُدرةِ و الحَياةِ ، فيَكونَ عِلماً عالِماً، و قُدرةً قادراً. و كذلكَ تَكونُ هذه الصفاتُ علىٰ مِثلِ ما هو عَلَيه، فتَكونَ عالمةً قادرةً ، و أن تَكونَ
لبعضِها صفةُ بعضٍ ؛ لاشتراكِ الكُلِّ في القِدَمِ المُستَحَقِّ للنفسِ ، و يَقتضي ذلكَ الاستغناءَ بمعنىً واحدٍ مِنها عن جميعِها. و هذا إن جازَ جازَ الاستغناءُ بذاتِه عن جميعِ المعاني.
أوّلُها: أنّه تَعالىٰ مُخالِفٌ لغَيرِه.
و ثانيها: أنّه إنّما يُخالِفُ ما يُخالِفُه بكَونِه قَديماً.
ص: 290
و ثالثُها: أنّ ما شارَكَه في هذه الصفةِ يَجِبُ أن يَكونَ مِثلاً له و مُشارِكاً في سائرِ صفاتِ نفسِه، و أنّه يَستَحيلُ علَى الذاتَينِ أن يَتَّفِقا مِن وَجهٍ و يَختَلِفا مِن آخَرَ.
و رابعُها: كيفيّةُ لُزومِ ما ذَكَرناه مِنَ الكَلامِ لهم.
فأمّا الكلامُ على الأصلِ الأوّلِ ، فإنّه تَعالىٰ مُخالِفٌ لغَيرِه ظاهرٌ.(1) [و] معلومٌ (2) أنّ كُلَّ ذاتَينِ لا بُدَّ فيهما(3) مِن أحَدِ أمرَينِ : إمّا أن يَكونَ كُلُّ واحدةٍ (4) مِنهما تَسُدُّ(5) مَسَدّ الأُخرىٰ فيما يَرجِعُ إليها، أو لا يَكونَ كذلكَ . و الأوّلُ : هو الحُكمُ الذي يُعَبَّرُ عنه ب «التماثُلِ ». و الثاني: هو الذي نُسَمّيهِ : «المُخالَفَةَ ».
و قد ثَبَتَ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يَجِبُ له مِن الصفاتِ - كَكَونِه(6) قَديماً و عالِماً و قادراً و حَيّاً - ما لا يَجِبُ لغَيرِه، و يَستَحيلُ عَلَيه مِن الصفاتِ - كالتحيُّزِ و الحُلولِ [و] أن يَكونَ في جهةٍ إلىٰ غَيرِ ذلكَ - ما(7) لا يَستَحيلُ علىٰ غَيرِه. فيَجِبُ أن يَكونَ مُخالِفاً لغَيرِه؛ لأنّه لَيسَ معنَى الخِلافِ أكثَرَ ممّا ذَكَرناه.
و أمّا (75) الكلامُ علَى الأصلِ الثاني، فهو أنّه إذا ثَبَتَ كَونُه تَعالىٰ مُخالِفاً لغَيرِه،
ص: 291
لَم يَخلُ مِن أن يُخالِفَه بكَونِه ذاتاً، أو لوجودِ معنىً و إن لَم توجَدْ له صفةٌ ، أو لاختصاصِه بصفةٍ .(1)
و إنّما قُلنا ذلكَ لأنّه لا بُدَّ ممّا ذَكَرناه؛ مِن حَيثُ لا يَصِحُّ أن يُخالِفَ ما يُخالِفُه لا لِوَجهٍ ؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي أنّه لَيسَ بأن يَكونَ مُخالِفاً أَولىٰ مِن أن يَكونَ مُماثِلاً.
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لَم يُخالِفْ بكَونهِ ذاتاً: أنّ مُخالِفَه أيضاً ذاتٌ ، و لَيسَ يَجوزُ
أن يُخالِفَه و يَتميَّزَ مِنه بما(2) يَشتَرِكانِ فيه.
و لا يَجوزُ أن يُخالِفَه لوجودِ معنىً ؛ لأنّ الكلامَ في ذلك المعنى كالكلامِ فيه، في أنّه لا بُدَّ أن يَكونَ مُخالِفاً لغَيرِه أو مُماثِلاً، فكانَ (3) يَجِبُ مِن إثباتِ المَعاني ما لا يَتَناهىٰ .
و أيضاً فكانَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَه مُخالِفاً لِما لَيسَ بقَديمٍ ، إلّامَن عَلِمَ ذلكَ المَعنَى الذي أُسنِدَ الخِلافُ إليه؛ لأنّ ما(4) يؤَثِّرُ في الخِلافِ يَجري مَجرىٰ ما يؤَثِّرُ في الحُسنِ و القُبحِ (5) و الوُجوبِ ، فكما أنّه لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ كَونَ الشيءِ حَسَناً أو قَبيحاً أو واجباً، إلّامَن عَلِمَ الوَجهَ المؤَثِّرَ في ذلكَ إمّا علىٰ جُملةٍ أو تَفصيلٍ ، فكذلكَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَ كَونَ الشيءِ مُخالِفاً إلّامَن عَلِمَ المؤَثِّرَ في ذلكَ . و قد عَلِمنا فَسادَ ذلكَ ، و أنّ أحَدَنا يَعلَمُ مُخالَفةَ الذاتِ لغَيرِها، مِن غَيرِ أن يَعلَمَ معنىً آخَرَ.
فلَم يَبقَ إلّاأنّه إنّما يُخالِفُ لاختصاصِه بصفةٍ .
و لَم تَخلُ تلكَ الصفةُ مِن أحَدِ أُمورٍ:
ص: 292
إمّا أن تَكونَ (1) من صِفاتِ الأفعالِ .
و إمّا أن تَكونَ مِن الصفاتِ الراجعةِ إلى المَعاني الواجبةِ عنها؛ نَحوَ كَونِه مُريداً أو كارِهاً.
و إمّا أن تَكونَ مِن الصفاتِ التي تُستَحَقُّ (2) لا للنفسِ و لا للعِلَلِ ؛(3) نَحوَ كَونِه مُدرِكاً.
و إمّا أن تَكونَ ممّا يرجِعُ إلَى النفيِ ؛ نَحوَ كَونِه غَنيّاً و واحِداً.
و إمّا أن تَكونَ مِن الصفاتِ التي تَختَصُّه و تَجِبُ له في كُلِّ حالٍ ؛ نَحوَ كَونِه موجوداً قادراً عالِماً حَيّاً، علَى الوَجهِ الذي استَحقَّها عَلَيه مِن الوجوبِ ؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يُخالِفُ مِن حَيثُ كانَ إلهاً؛ لأنّ المُستَفادَ بهذه الصفةِ كَونُه قادراً على النِّعَمِ المخصوصةِ التي يَستَحِقُّ مِن أجلِها العبادةَ ، و هذا يَدخُلُ فيما قُلناه مِن كَونِه قادراً.(4)
و الّذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يُخالِفُ ما خالَفَه بصفاتِ الأفعالِ : أنّ الدليلَ قد دَلَّ على أنّه لا حالَ للفاعلِ بكَونِه فاعلاً، و ما لا يوجِبُ حالاً للذاتِ ، لا يَجوزُ أن يؤَثِّرَ في الخِلافِ علىٰ ما ذَكَرناه.
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا حالَ للفاعلِ بكَونِه فاعلاً:
[1.] [أنّه كانَ يجبُ أن يَستحيلَ الفعلُ ](5) للضِدَّينِ في مَحَلَّينِ في حالٍ واحدةٍ ،
ص: 293
كاللَّونَينِ (1) و السَّوادِ و البَياضِ مِنه تَعالىٰ . كما يَستَحيلُ وجودُ العِلمِ في جُزءٍ [مِن أجزائِهِ و الجَهلِ في جُزءٍ ](2) آخَرَ في حالٍ واحدةٍ ؛ لاقتضاءِ ذلكَ كَونَه على صفتَينِ مُتَضادّتَينِ .
[2.] و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَستَحِيلَ أن يَفعَلَ الفاعلُ في غَيرِه؛ لأنّ ما يوجِبُ الحالَ للذاتِ لا يُجيزُ(3) غَيرَها.
[3.] و [كانَ ] يَصِحُّ أيضاً أن يُعلَمَ الفاعلُ فاعلاً و إن لَم يُعلَم فِعلُه، لا علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تَفصيلٍ ، كما أنّ المُريدَ و العالِمَ لمّا كانَ لهما حالانِ ، جازَ أن يُعلَمَ العالِمُ عالِماً و المُريدُ مُريداً و إن [لَم](4) يُعلَمِ العِلمُ و لا الإرادةُ علَى الجُملةِ و التفصيلِ .
علىٰ أنّ القولَ بأنّ الفاعلَ مُخالِفٌ بكَونِه فاعلاً باطلٌ ، لَو سَلَّمنا أنّ له بذلكَ حالاً؛ مِن حَيثُ يؤَدّي إلىٰ تَجدُّدِ كَونِه مُخالِفاً؛ لأنّ الفِعلَ مُتجدِّدٌ، و قد عَلِمنا أنّ الخِلافَ و الوِفاقَ (76) لا يَتجدَّدُ في الذَّواتِ .
علىٰ أنّ ذلكَ يوجِبُ أن يَكونَ ما يَستَحيلُ عَلَيه الفِعلُ مِنَ الأعراضِ و غَيرِها غَيرَ مُوافِقٍ و لا مُخالِفٍ ، و يؤَدّي إلىٰ أن تَكونَ (5) مُخالَفةُ الشيءِ لغَيرِه [راجعةً ] إلىٰ جُملةِ الفاعلِ دونَ أجزائه، و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ.
و بَعدُ فقَد دَلَّتِ الأدلّةُ علىٰ جَوازِ خُلُوِّ الفاعلِ مِن فِعلِه عندَ عدمِ (6) الدَّواعي المُلجِئةِ ، فيَجِبُ جَوازُ خُلُوِّه مِن أن يَكونَ مُوافِقاً أو مُخالِفاً لغَيرِه.
ص: 294
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ ما قُلناه مِن «أنّ ما به يَقَعُ الخِلافُ لا يَتجدَّدُ»، بما يَقولُه(1)، مِن «أنّ الجَوهرَ يُخالِفُ غَيرَه بتحيُّزِه، و هو مُتجدِّدٌ، و الخِلافُ غَيرُ مُتجدِّدٍ».
و ذلكَ : أنّا إنّما أنكَرنا أن يَكونَ الخِلافُ مقصوراً على الصفةِ المُتجدِّدةِ ، و ما يَقولُه في تَحيُّزِ الجَوهرِ بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّ خِلافَه لغَيرِه لَيسَ مقصوراً علَى التحَيُّزِ، بل يُخالِفُ أيضاً بكَونِه جَوهراً. و لَيسَ يَمتَنِعُ أن تؤَثِّرَ الصفتانِ معاً في الخِلافِ ، و يَثبُتَ بثُبوتِ كُلِّ واحدةٍ منهما. و لا يَقِفُ حُكمُه علَى اجتماعِهما؛ مِن حَيثُ كانَت كُلُّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ تَنوبُ في التأثيرِ مَنابَ الأُخرىٰ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يُخالِفُ غَيرَه بالصفاتِ المُستَحَقّةِ عَن العِلَلِ (2)؛ نَحوَ كَونِه مُريداً و كارهاً: فهو ما تَقدَّمَ ؛ مِن أنّ الخِلافَ غَيرُ مُتجدِّدٍ، و هذه الصفاتُ مُتجدِّدةٌ .
و أيضاً: فإنّه قد يُشارِكُه في الصفاتِ و في كيفيّةِ استحقاقِها مَن لَيسَ مِثلاً له؛ نَحوَ مُشارَكةِ أحَدِنا له في كَونِه مُريداً لِما يُريدُه علَى الوَجهِ الذي أرادَه.
علىٰ أنّ الخِلافَ لَو كانَ واقعاً بصفاتِ المَعاني، لَاستحالَ في الأعراضِ أن تَكونَ مُخالِفةً بعضُها لبعضٍ ؛ لاستحالةِ ذلكَ فيها.
و قولُهم: «إنّ الأعراضَ خِلافٌ ، فلا يَجوزُ أن تَكونَ مُختلِفةً في نُفوسِها، كما أنّ ما به تَحرَّكَ الجسمُ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُتحرِّكاً» تَعلُّقٌ بعبارةٍ لا يُجدي شَيئاً؛ لأنّ الأعراضَ تُشارِكُ الأجسامَ في معنَى الاختلافِ و الاتِّفاقِ ، و لَيسَ تُشارِكُ (3)
ص: 295
الحركةُ المُتحرِّكَ (1) فيما كانَ له مُتحرِّكاً.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ صِفاتِ العِلَلِ لا يَقَعُ بها الاختلافُ : أنّ القولَ بذلك يؤَدّي إلىٰ كَونِ الذاتِ مُخالِفةً لغَيرِها و موافِقةً لها، إذا تَعَلَّقَ بها مَعنَيانِ مُختَلِفانِ و مَعنَيانِ مُتَماثِلانِ ، و ذلكَ يَقتَضي أن لَو وَجَدنا ما يَنفيهما أن يَنتَفيا مِن حَيثُ كانا مِثلَينِ ، و لا يَنتَفيا مِن حَيثُ كانا مُختَلِفَينِ . و فَسادُ ذلكَ يَقتَضي فَسادَ ما أدّىٰ إليه.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ بُطلانِ ذلكَ : أنّه يؤَدّي إلىٰ كَونِ الجَوهرِ مُخالِفاً لنفسِه إذا اسوَدَّ بَعدَ بَياضٍ ؛ لأنّه إنّما يُخالِفُ لكَونِه أسوَدَ ما كانَ أبيَضَ . فيَجِبُ إذا اجتَمَعَ له الوَصفانِ في وَقتَينِ ، أن يَكونَ في أحَدِ الوَقتَينِ مُخالِفاً لنفسِه في الوَقتِ الآخَرِ. و يَجِبُ أيضاً متىٰ حَصَلَ فيه السَّوادُ و الحُموضةُ في وَقتٍ واحدٍ، أن يَكونَ مُختَلِفاً في نفسِه؛ مِن حَيثُ حَصَلَ علَى الصفتَينِ اللّتَينِ بحُصولِ الذاتَينِ عَلَيهما يَختَلِفانِ .
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ القَديمُ تَعالىٰ مُختَلِفاً في نفسِه، مِن حَيثُ استَحَقَّ صفاتٍ مُختَلِفةً لنفسِه؛ لأنّ المُخالِفَ عندَنا لَم يَكُن مُخالِفاً لغَيرِه مِن حَيثُ اختَصَّ بصفةٍ تُخالِفُ صفةَ مُخالِفِه، و إنّما يُخالِفُه(2) لاختصاصِه بصفةٍ لَيسَ مُخالِفُه عَلَيها.(3) فما قُلناه لا يَتَأتّىٰ في الذاتِ الواحدةِ ؛ لأنّها مُحالٌ أن تَكونَ علىٰ صفةٍ لَيسَت هي عَلَيها.
ص: 296
و يَلزَمُ مَن رَجَعَ بالخِلافِ إلى استحقاقِ الصفاتِ (77) المُختَلِفةِ ، أن تَكونَ الذاتُ الواحِدةُ مُختَلِفةً ؛ لحُصولِها علىٰ ما لَو حَصَلَت عليه الذاتانِ لَاختَلَفَتا.
و الذي يُبيِّنُ أنّه لا يَجوزُ أن يُخالِفَ بما يَستَحِقُّه لا لنفسِه و لا لمعنىً ؛ كنَحوِ كَونِه مُدرِكاً، فما ذَكَرناه، مِن أنّ الخِلافَ إذا كانَ لا يَتجدّدُ بل هو مُستَمِرٌّ، فمُحالٌ كَونُ مُقتَضيهِ مُتجدِّداً، و كَونُه مُدرِكاً مُتجدِّدٌ(1).
و لأنّا نُشارِكُه في هذه الصفةِ و كيفيّةِ استحقاقِها، و إن لَم نَكُن(2) مُماثِلينَ له.
فأمّا ما يُفيدُ النفيَ (3)؛ مِثلُ كَونِه غَنيّاً و واحِداً: فلا يَجوزُ أن يَكونَ مُؤَثِّراً في الخِلافِ ؛ لأنّ المؤَثِّرَ في ذلكَ يَجِبُ فيه الاختصاصُ ، و النفيُ لا يَختَصُّ ، و لهذا يَشتَرِكُ فيه المُختَلِفانِ .
فلَم يَبقَ بَعدَ ما أبطَلناه إلّاأن يَكونَ مُخالِفاً بالصفاتِ التي يَستَحِقُّها علىٰ سَبيلِ الوجوبِ ؛ نَحوَ كَونِه قَديماً عالِماً قادراً حَيّاً.
و لَيسَ يَخلو مِن أن يُخالِفَ ما يُخالِفُه بمَجموعِها(4)، أو بكُلِّ واحدةٍ منها. و ما اقتَضىٰ كَونَه مُخالِفاً بمَجموعِها(5)، يَقتَضي كَونَه مُخالِفاً بكُلِّ واحدةٍ مِنها؛ لأنّ استحقاقَه لكُلِّ واحدةٍ علىٰ حَدِّ استحقاقِه للجَميعِ ، فلَو خالَفَ بالجَميعِ ، لَم يَكُن ذلكَ إلّالوجوبِها له. و هذا قائمٌ في كُلِّ واحدةٍ .
ص: 297
و بمِثلِ ذلك يُعلَمُ أنّه لا يَجوزُ أن يُخالِفَ بواحدةٍ دونَ غَيرِها؛ لِتَساوي الكُلِّ ، و استحالةِ كَونِ بعضِه مؤَثِّراً دونَ بعضٍ ؛ و لأنّه لا يَجوزُ أن يَستَحِقَّ بعضَها إلّامَن(1)استَحَقَّ سائرَها، علىٰ ما سَنَذكُرُه.
فإن قيلَ : كيفَ يُخالِفُ بهذه(2) الأحوالِ التي ذَكَرتُم، و أحَدُنا(3) يَستَحِقُّ هذه الأحوالَ ، و يُشارِكُ القَديمَ تَعالىٰ فيها أجمَعَ ؛ و مِن شأنِ ما خالَفَ به الشيءُ غَيرَه أن لا يُشارِكَه فيه المُخالِفُ؟
و لَيسَ لكُم أن تَقولوا: إنّنا(4) لا نشاركه في كَونِه قَديماً؛ لأنّكم أوّلاً قد سَوَّيتُم في الخِلافِ بَينَ كَونِه قَديماً و سائرِ الصفاتِ . و لأنّ ما يَرجِعُ إلى الإثباتِ في هذه الصفةِ هو الوجودُ، و نَحنُ مُشارِكونَ فيه، و ما يُفيدُ النفيَ مِن أنّه لا ابتداءَ لوجودِه، فإنّه لا(5) اعتبارَ به في الخِلافِ .
قُلنا: إنّ القَديمَ و إن استَحَقَّ مِن هذه الصفاتِ ما يَستَحِقُّها غَيرُه، فقَد استَحَقَّها علىٰ خِلافِ الوَجهِ الذي استَحَقَّها كُلُّ مُستَحِقٍّ عَلَيه. و لا فَصلَ بَينَ أن يُخالِفَ غَيرَه و يَتميَّزَ مِنه باستحقاقِ صفاتٍ علىٰ وجوهٍ يَستَحيلُ (6) استحقاقُ غَيرِه لها علىٰ تلكَ
ص: 298
الوجوهِ ، و بَينَ أن يَتميَّزَ بصفةٍ (1) لا يُشارِكُه فيها؛ لأنّه متىٰ بانَ مِن غَيرِه بصفةٍ ، كانَ وجهُ إبانَتِه و مُخالَفتِه أنّه اختَصَّ (2) لذاتِه بما لَم يُشارِكْه فيه، فكذلكَ يَجِبُ إذا اختَصَّ لذاتِه بأن يَستَحِقَّ (3) صفاتٍ علىٰ وجوهٍ يَستَحيلُ في كُلِّ مُستَحِقٍّ أن يَستَحِقَّها عليها، أن يَحصُلَ الإبانةُ و التميُّزُ.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا لَم يُخالِف بنفسِ الصفاتِ ، كيفَ يُخالِفُ بكيفيّةِ
استِحقاقِها، و الخِلافُ في الذواتِ [لا بدّ](4) أن يَعودَ إلى الصفاتِ؟(5)
و ذلكَ : أنّه يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الخِلافَ في الحقيقةِ يَحصُلُ بهذه الصفاتِ مِن حيثُ استُحِقَّت علىٰ هذه الوجوهِ المخصوصةِ ، فلَم يَعُدِ الخِلافُ إلّاإلى الصفاتِ .
و أمّا كونُه قَديماً، و أنّ معناه أنّه لا ابتداءَ لوجودِه: فإنّ ذلكَ و إن كانَ لفظُه لفظَ النفيِ ، فلَيسَ بنَفيٍ علَى الحقيقةِ ، بل يَقتَضي استمرارَ الوجودِ في كُلِّ حالٍ فيما [لَم] يَزَلْ .
فأمّا أبو هاشمٍ ، (78) فإنّه لهذا المعنىٰ أثبَتَ له تَعالىٰ صفةً ذاتيّةً ، تَقتَضي(6) كَونَه علىٰ هذه الأحوالِ ، و جَعَلَ الخِلافَ مُستَنِداً إليها. و كانَ يَقولُ :
إذا لم يَصِحَّ أن يُخالِفَ الشيءُ غَيرَه بما يُشارِكُه فيه، لَم يَجُز أن يُخالِفَ
ص: 299
القَديمُ تَعالىٰ مَن(1) خالَفَه بهذه الصفاتِ ؛ لوقوعِ الاشتراكِ فيها. و كذلك لا يَجوزُ أن يُخالِفَ [بجهةِ ] استِحقاقِها(2)؛ لأنّ معنىٰ ذلكَ يَقولُ إلَى النفيِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ قولَنا: «لا أوّلَ لوُجودِه، و إنّه لا يَحتاجُ في وجودِه إلىٰ موجِدٍ، [و] إنّ العدمَ يَستَحيلُ عَلَيه»، كُلُّه نفيٌ؟ و بالنفيِ لا تَختَلِفُ (3) الذواتُ . و أمّا جهةُ استحقاقِ الصفةِ ، فالمَرجِعُ فيه عندَ التحقيقِ إلَى النفيِ ؛ لأنّ معناه أنّه يَستَغني في استحقاقِها عن عِلّةٍ و فاعلٍ .
و يُمكِنُ أن يُقالَ : لَو خالَفَ تَعالىٰ غَيرَه بكَونِه قادراً علىٰ ما قَدَرَ عليه، مِن حَيثُ لَم يَصِحَّ أن يُشارِكَه في هذه الصفةِ (4)، لَوجبَ في زَيدٍ إذا كانَ قادراً علىٰ ما لَم يَصِحَّ أن يَقدِرَ عليه عَمرٌو أن يَكونَ مُخالِفاً له، و كانَ يَنبَغي أن تؤَثِّرَ هذه الصفةُ في الخِلافِ فينا كما أثَّرَت فيه تَعالىٰ .
علىٰ أنّ ما [به] تُخالِفُ (5) الذاتُ غَيرَها، لا يَجوزُ أن يَكونَ مشروطاً و لا مُتعلِّقاً في الثُّبوتِ أو الصحّةِ بغَيرِه. و كونُ القادرِ قادراً يَترتَّبُ علىٰ كَونِه موجوداً و حَيّاً.
و ممّا يُقالُ في نُصرةِ طريقةِ أبي هاشِمٍ : إنّ كُلَّ ذاتٍ فلا بُدَّ أن تَختَصَّ بصفةٍ ، لَو كانَت مَرئيَّةً لَرُئيَت(6) عليها، و لَفُصِلَ عندَ الإدراكِ بَينَها و بَينَ ما خالَفَها لأجل تلكَ الصفةِ . و هذا الحُكمُ واجبٌ في كُلِّ ذاتٍ ؛ سَواءً كانَت مَرئيّةً ، أو ممّا يَستَحيلُ عليه
ص: 300
الرؤيةُ ؛ لأنّ الأصلَ في اختلافِ الذواتِ و تَماثُلِها هو الإدراكُ ، و ما عدا الذواتِ المُدرَكاتِ محمولٌ في ذلكَ علَى المُدرَكاتِ .
و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، و لَم يَجُز أن يَكونَ القَديمُ (1) تَعالىٰ لَو كانَ مُدرَكاً يُدرَكُ
مِن حَيثُ كانَ موجوداً أو عالِماً أو حَيّاً أو قادراً؛ لأنّ غَيرَه يُشارِكُه في هذه الصفاتِ ، فلا يَجوزُ(2) أن يَكونَ مُدرَكاً عليها. و لا يُمكِنُ أن يُجعَلَ الإدراكُ مُتعلّقاً بكيفيّةِ الصفةِ دونَ نَفسِ الصفةِ ؛ لأنّ ذلكَ [لا](3) يُعقَلُ . فثَبَتَ أنّه لا بُدَّ مِن صفةٍ ، بها يُخالِفُ غَيرَه، لو أُدرِكَ (4) لَأُدرِكَ عليها.
و ممّا يَجِبُ أن يُعتَمَدَ أيضاً في ذلك:(5) أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ تَعالىٰ موجوداً لِذاتِه؛(6)لوجوبِ مُماثَلةِ ما شارَكَه في الوجودِ له، و قد عُلِمَ أنّ (7) مُخالِفَه يُشارِكُه في الوجودِ.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ عالِماً قادراً حَيّاً لذاتِه؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي كَونَه موجوداً لِما هو عليه في ذاتِه، و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّ المؤَثِّرَ في وجودِه كَونُه قادراً، مع أنّ كَونَه قادراً مشروطٌ بالوجودِ(8) و مُفتَقِرٌ إليه. و في هذا تَعلُّقُ كُلِّ واحِدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه و افتقارُه إليه، فوجبَ إثباتُ صفةٍ ذاتيّةٍ غَيرِ هذه الصفاتِ ، تَستَنِدُ هذه الصفاتُ إليها.
ص: 301
و أمّا الكَلامُ علَى الأصلِ الثالثِ - و هو أنّ ما شارَكَه في هذه الصفةِ ، يَجِبُ أن يَكونَ مِثلاً له، و مُستَحِقّاً لكُلِّ ما يَستَحِقُّه لنفسِه -: فهو [أنّه] إذا ثَبَتَ بما ذَكَرناه أنّه مُخالِفٌ لغَيرِه [بكَونِه](1) قَديماً و ما جَرىٰ مَجراه، أو بالصفةِ التي اقتَضَت فيه هذه الصفاتِ ، وجبَ فيما شارَكَه في كَونِه قديماً أن يَكونَ مِثلاً له؛ لأنّ ما تُخالِفُ (2) به الذاتُ غَيرَها، فمَتىٰ شارَكَها فيه مُشارِكٌ كانَ مِثلاً لها؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ و الجَوهرَ لمّا خالَفا ما خالَفَهما (79) بهاتَينِ الصفتَينِ ، كانَ ما شارَكَهما فيها مِثلاً لهما؟ و كذلك إن كانَ الخِلافُ في التحقيقِ يَرجِعُ إلى الصفةِ الذاتيّةِ التي تَقتَضي(3) هذه الصفاتِ ، يَجِبُ فيما شارَكَه في هذه الصفات أن يَكونَ (4) في ذاتِه علىٰ مِثلِ تلكَ الصفةِ ، فيَكونَ مِثلاً له.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ما أنكَرتُم أن تَكونَ صفةُ الوجودِ تَختَلِفُ في الذواتِ ، فلا نَمنَعُ أن يُشارِكَ القَديمُ في كَونِه قَديماً ما لَيسَ بمِثلٍ له، إذا لَم يَعُدِ الاتّفاقُ إلىٰ صفةٍ مُتَماثِلةٍ؟
و ذلك: أنّ الجِهاتِ التي يُعلَمُ منها اختلافُ الصفاتِ ، مفقودةٌ في صفةِ الوجودِ؛ لأنّ الصفتَينِ إنّما نَعلَمُ اختلافَهما بالإدراكِ ، أو بما يَجرِي مَجراه؛ نَحو الفَصلِ
ص: 302
بَينَ كَونِ أحَدِنا مُريداً و ناظراً و مُعتَقِداً، أو نَعلَمُ اختلافَهما باختلافِ أحكامِهما؛ كعِلمِنا بمُخالَفةِ كَونِ القادرِ قادراً لكَونِه حَيّاً؛ لِاختلافِ الأحكامِ . و هذا كُلُّه
مفقودٌ في صفةِ الوجودِ، فيَجِبُ أن تَكونَ واحِدةً ؛ لأنّها لو كانَت كذلكَ لَم تَرِد علىٰ هذه الحالِ .
و أيضاً: فإنّ حُكمَ صفةِ الوجودِ هو ظُهورُ حُكمِ صفةِ النفسِ ، و هذا حُكمٌ واحِدٌ غَيرُ مُختَلِفٍ ، و تَتَّفِقُ (1) فيه الذواتُ الموجودةُ ، فيَجِبُ أن تَكونَ صفةً واحدةً .(2)
(80) و أمّا(3) الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الاشتراكَ في صفةٍ مِن صفاتِ النفسِ يَقتَضي الاشتراكَ في سائرِ الصفاتِ النفسيّةِ ، و أنّه لا يَجوزُ أن يَشتَرِكا في صفةٍ ذاتيّةٍ و يَفتَرِقا في أُخرىٰ حتّىٰ يَكونا مُختَلِفَينِ مِن وَجهٍ ، مُتَماثِلَينِ مِن آخَرَ؛ فوجوهٌ :
مِنها: أنّ المُقتَضيَ للصفةِ كالموجِبِ لها، فإذا كانَ ما أَوجَبَ صفةً أو صفاتٍ متىٰ حَصَلَ مِثلُه أوجَبَ ذلكَ . و كذلكَ المُقتَضي للصفاتِ ؛ فكما أنّ إثباتَ «ما تُشارِكُه(4)
ص: 303
العِلّةُ فيما هي عليه في ذاتِها، ثُمّ لا يوجِبُ ما توجِبُه(1)» نَقضٌ لإيجابها، كذلكَ إثباتُ «ما يُشارِكُ الذاتَ فيما هي عليه، ثُمّ لا يَستَحِقُّ ما تَستَحِقُّه» نَقضٌ لاقتضائها و إيجابِها. إنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلىٰ أنّ الذاتَينِ يَتَّفِقانِ بنفسِ ما يَختَلِفانِ ، و إلىٰ أنّ الخِلافَ نفسَه وِفاقٌ ، و ذلكَ مُتَناقِضٌ .
و إنّما قُلنا ذلكَ لأنّ الذاتَ إذا اختَصَّت بصفتَينِ لِذاتِها، وَجبَ أن تُخالِفَ مُخالِفَها بكُلِّ واحدةٍ مِنهما مِن حَيثُ كانَتا ذاتيّتَين(2)؛ إذ الخِلافُ موقوفٌ علىٰ صفةٍ للذاتِ . و لَيسَ هي بأن تُخالِفَ ما خالَفَها بإحدَى الصفتَينِ بأَولىٰ مِن أن تُخالِفَه [بالصِّفةِ ] الأُخرىٰ ، فمَتىٰ شارَكَها مُشارِكٌ في إحدَى الصفتَينِ ، وجبَ أن يَكونَ
مُماثِلاً مِن حَيثُ يَجِبُ أن يَكونَ مُخالِفاً؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ كُلَّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ إذا كانَتا ذاتيّتَينِ لا بُدَّ مِن أن تؤَثِّرَ في المُخالَفةِ .
و لَيسَ هذا مِن قولِنا في الشيءِ : «إنّه يَصِحُّ أن يَكونَ مَعلوماً مَجهولاً مِن وَجهَينِ ، و كذلكَ يَكونُ مُراداً مكروهاً» علىٰ هذا الوَجهِ [مِن] سَبيلٍ (3).
لأنّ الخِلافَ و الوِفاقَ يَرجِعُ إلىٰ أمرٍ واحدٍ و هو الذاتُ ، و العِلمُ يَتعلَّقُ بالشيءِ علىٰ وجهٍ و الجَهلُ علىٰ وَجهٍ آخَرَ، و كذلكَ الإرادةُ و الكَراهةُ . و لَيسَ يَجِبُ إذا كانَ معلوماً مِن وَجهٍ ، أن يَكونَ معلوماً مِن كُلِّ وَجهٍ . و قد بيّنّا أنّه إذا خالَفَ بصفةٍ ذاتيّةٍ ، و كانت هُناكَ أُخرىٰ تَجري مَجراها، فلا بُدَّ مِن أن يُخالِفَ (4) أيضاً بها.
ص: 304
و مِنها: أنّ هاتَينِ الذاتَينِ لَو كانَتا(1) مُدرَكَتَينِ ، لَوجبَ : التِباسُ إحداهما بالأُخرىٰ مِن حَيثُ التماثُلِ (2)، و أن يَفصِلَ المُدرِكُ بَينَهما، و لا يَلتَبِسا(3) عليه مِن حَيثُ التَّخالُفِ . و ذلكَ يَتَنافىٰ و يَتَناقَضُ .
و مِنها: أنّ الذاتَينِ لَو تَماثَلَتا مِن وَجهٍ و اختَلَفَتا مِن آخَرَ، لَوجبَ : إذا كانَتا مُحدَثَتَينِ و طَرَأَ ضِدٌّ عليهما أن يَنفِيَهما مِن وَجهٍ دونَ وَجهٍ ، و إن كانَتا قَديمَتَينِ أن يُذكَرَ(4) ذلكَ فيهما بالتقديرِ، فيُقالَ : «كانَ يَجِبُ لَو قُدِّرَ ضِدٌّ لهما أن يَنتَفِيا مِن وَجهٍ دونَ آخَرَ» و يَصِحُّ هذا التقديرُ و إنِ استَحالَ أن يَكونَ للقَديمِ ؛ لأنّه يُثمِرُ عِلماً بأنّ الشيئَينِ لا يَختَلِفانِ مِن وَجهٍ و يَتَّفِقانِ مِن آخَرَ. و كُلُّ تَقديرٍ يَجري هذا المَجرىٰ فهو صحيحٌ .
و مِنها: أنّ الذاتَ إنّما تُخالِفُ غَيرَها بالصفةِ التي تَدخُلُ بها في أن تَكونَ ذاتاً، و لَيسَ تَستَحِقُّ علىٰ هذا الوَجهِ إلّاصفةً واحدةً (5)، و ما عَدا هذه الصفاتِ ممّا يُقالُ : إنّه رُبَّما أثَّرَ في الخِلافِ ، فمُقتَضىً عن هذه الصفةِ و موجَبٌ عنها. و إذا ثَبَتَ ذلكَ فيَجِبُ فيما يُماثِلُ الذاتَ أن يُشارِكَه(6) في الصفةِ الذاتيّةِ و يُشارِكَه في مُقتَضاها؛ لأنّ
ص: 305
المُشارَكةَ في المُقتَضي توجِبُ المشارَكةَ في المُقتَضىٰ ، فلا يَصِحُّ علىٰ هذا أن يَكونَ مِثلَينِ مِن وَجهٍ ، مُختَلِفَينِ مِن وَجهٍ آخَرَ.
و يَجِبُ (81) علىٰ هذه الجُملةِ أن لَو كانَ له تَعالىٰ عِلمٌ قَديمٌ - و هو تَعالىٰ إنّما استَحَقَّ كَونَه قَديماً لِما هو عليه في ذاتِه -، أن يَكونَ ذلكَ العِلمُ القَديمُ مِن حيثُ
شارَكَه في القِدَمِ مُشارِكاً له في تلكَ الصفةِ الذاتيّةِ في جَميعِ ما تَقتَضيهِ (1)، و هي كالعِلّةِ فيه، و ذلكَ يؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه.
و إنّما قُلنا: إنّ الذاتَ لا تَختَصُّ بأكثَرَ مِن صفةٍ واحدةٍ في نفسِها مِن حَيثُ كانَ الطريقُ إلى إثباتِ صفةٍ للذاتِ ، هو(2) أنّ الذاتَ لأجلِها تَكونُ ذاتاً، و يَصِحُّ العِلمُ بها و الخَبَرُ عنها، و تَميُّزُها مِن غَيرِها. و هذه الأحكامُ تَتِمُّ بالصفةِ الواحدةِ ، فلا وَجهَ لإثباتِ ما دَلَّ عليها؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ إثباتِ الذاتِ ما لا طَريقَ [إلَى] العِلمِ به، و ذلكَ (3)يُفضي(4) إلَى الجَهالاتِ .
و مِنها: أنّ القولَ بخِلافِ ما ذَكَرناه يؤَدّي إلىٰ تَجويزِ ثانٍ له عاجِزٍ، و إن كانَ مُشارِكاً في القِدَمِ ؛ لأنّه لا فَرقَ بَينَ [إثباتِ قادرَينِ أحَدُهما قَديمٌ و الآخَرُ مُحدَثٌ و بَينَ ](5) إثباتِ قَديمَينِ أحَدُهما قادرٌ و الآخَرُ عاجِزٌ.
و لا اعتصامَ مِن ذلكَ إلّابما سَلَكناه مِن الطريقِ .
ص: 306
[الأصل الرابع: في بيان لزوم ما تقدّم من الكلام لهم](1)
فأمّا الكلامُ في صحّةِ ما ألزمناهُم إيّاه، مِن استحقاقِه تَعالىٰ لكُلِّ ما تَستَحِقُّه هذه المَعاني(2) مِن الصفاتِ الذاتيّةِ ، و استحقاقِ هذه المَعاني جميعَ ما يَستَحِقُّه مِن الصفاتِ ، و أن يَكونَ لبعضِها حُكمُ بعضٍ حتّىٰ يُغنِيَ وجودُ أحَدِها عن جميعِها:
فواضِحٌ لا إشكالَ فيه؛ لأنّ الكُلَّ إذا اشتَرَكَ في القِدَمِ الذي هو الصفةُ النفسيّةُ ، أو المُقتَضىٰ عن الصفةِ النفسيّةِ ، وجبَ ما ذَكَرناه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الاشتراكَ في بعضِ هذه الصفاتِ يَقتَضي الاشتراكَ في صفةِ النفسِ .
و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : كيفَ يَصِحُّ ما ألزَمتُموهُ ؛ مِن كَونِ العِلمِ عالِماً، و القُدرةِ قادرةً [فيَتَّحِدانِ ](3)؛ للاشتراكِ في القِدَمِ ، و لَم يَثبُتْ أنّه تَعالىٰ عالِمٌ قادرٌ لنفسِه. فيَكونَ ما شارَكَه [متّحداً معه](4) في ذلكَ ، بل الكلامُ مَبنِيٌّ علىٰ أنّه مُستَحِقٌّ لأجلِ المَعاني، و المُشارَكةُ في صفةِ النفسِ لا توجِبُ المُشارَكةَ في صِفاتِ العِلَلِ (5)؟ و كيفَ يَلزَمُ أن تَكونَ ذاتُه تَعالىٰ بصفةِ العِلمِ و القُدرةِ ، و أن يَكونا بهذه الصفةِ لنفسِهما(6)، و إنّما يَتِمُّ ذلكَ في الحَياةِ دونَهما؛ لأنّ الحَياةَ حَياةٌ لنفسِها؟
و ذلكَ : أنّ القَديمَ تَعالىٰ لَو كانَ عالِماً أو قادراً لمعنىً علىٰ ما يَدَّعونَ ، لَوجبَ أن
ص: 307
يَكونَ في نفسِه علىٰ ما يُصَحِّحُ كَونَه كذلكَ . كما أنّ الجَوهرَ و إن كانَ مُتحرِّكاً لمعنىً ، فصحّةُ كَونِه مُتحرِّكاً يَرجِعُ إلىٰ ما هو عليه في نفسِه. و العِلمُ و القُدرةُ
يُشارِكانِه - علىٰ قولِهم - في القِدَمِ ، فيَجِبُ أن يُشارِكاه في صحّةِ كَونِه عالِماً قادراً. و متىٰ صَحَّ ذلك فيهما وجبَ لهما؛ لأنّ العِلمَ لَو صَحَّ كَونُه عالِماً لَم يَحصُلْ بهذهِ [الصِّفة] إلّالِصحّةِ [ما](1) هو عليهِ في ذاتِه، لِاستحالةِ استحقاقِه لها لعِلّةٍ أو بالفاعلِ .
و هذا يَقتَضي كَونَ العِلمِ عالِماً لَم يَحصُلْ بهذه [الصِّفة] إلّالِصحَّتِهِ (2) في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ ما هو عليه في ذاتِه حاصِلٌ في كُلِّ حالٍ . و كذلكَ القولُ في القُدرةِ و مِن وَجهٍ آخَرَ، و هو: أنّ ذاتَه تَعالىٰ يَجِبُ أن تَكونَ عِلماً مِن حَيثُ شارَكَها العِلمُ في القِدَمِ . و إذا وَجَبَ فيه تَعالىٰ أن يَكونَ عالِماً مع أنّ ذاتَه عِلمٌ أو بصفةِ العِلمِ ، وجبَ أن يَكونَ العِلمُ أيضاً عالِماً؛ لأنّ ما يُحيلُ أحَدَ الأمرَينِ يُحيلُ الآخَرَ، و ما يُصحِّحُ أحَدَهما يُصحِّحُ الآخَرَ.
و أمّا القُدرةُ و إن لم تَكُن قُدرةً علَى الإطلاقِ لنفسِها، فهي قُدرةٌ علىٰ مقدوراتٍ مخصوصةٍ لنفسِها. و بهذه الإضافةِ تَبِينُ مِن غَيرِها، فما كانَ مِثلاً لها و (82) مُشارِكاً لها في القِدَمِ - و هو صفةٌ نَفسيّهٌ (3) - يَجِبُ أن يُشارِكَها في التعلُّقِ المخصوصِ . و العِلمُ و إن لَم يَكُن عِلماً لنفسِه، فإنّه اعتقادٌ لمُعتَقَدٍ مخصوصٍ لنفسِه، فَيَجِبُ فيه مِثلُ ما ذَكَرناه في القُدرةِ . و كُلُّ ذلكَ واضِحٌ .
ص: 308
[الدليل الثاني: علىٰ بطلان المعاني القديمة](1)
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ تَعالىٰ عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ - و كذلكَ (2) القولُ في قادرٍ [و] حَيٍّ - وجوبُ هذه الأحوالِ له في كُلِّ حالٍ . و الصفةُ إذا وجبَت استَغنَت عن عِلّةٍ (3)؛ لأنّ وجوبَها لَو لَم يُغنِ عن العِلّةِ ، لَكانَ وجوبُها عن العِلّةِ لا يُغني عن عِلّةٍ ثانيةٍ ، و لأَدّىٰ ذلكَ إلىٰ أنّ التعليلَ لا يَنقَطِعُ و لا يَتَناهىٰ .
و إذا عَلِمنا أنّ وجوبَ الصفةِ عندَ العِلّةِ يُغني عن أُخرىٰ مِن حَيثُ الوجوبِ ، قَضَينا في كُلِّ صفةٍ عَلِمنا وجوبَها في كُلٍّ حالٍ - و إن لم نَعلَم أمراً سِواها - بأنّها مُستَغنِيةٌ عن عِلّةٍ .
و يُبيِّنُ ذلكَ : أنّ السوادَ لمّا وجبَ كَونُه سَواداً في كُلِّ حالٍ ، و كذلكَ الجَوهرُ و نَفسُ العِلّةِ الموجِبةِ للصفةِ ، استَغنى كُلُّ (4) ذلكَ بوجوبِه عن العِلَلِ ؛ ألا تَرى أنّ هذه الصفاتِ لَو لَم تَكُن واجبةً ، بل كانَت ثَبَتَت مع جَوازِ أن لا تَثبُتَ ، لَوجبَ أن تَحتاجَ (5)إلىٰ معنىً أو فاعلٍ ، و هذا يُبيِّنُ صحّةَ ما ذَكَرناه مِن أنّ الوجوبَ يَمنَعُ مِن التعليلِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ الصفةَ إنّما استَغنَت - متىٰ وجبَت عن العِلّةِ - عن علّةٍ ثانيةٍ ، لأجلِ أنّ العِلّةَ تؤثِّرُ في الصفةِ و توجِبُها، فلا حاجةَ إلىٰ أمرٍ آخَرَ. و لَم يَثبُتْ لكُم أنّ «كَونَه تَعالىٰ عالِماً» يَقتَضيهِ ما هو عليه في ذاتِه، فيَستَغنيَ عن عِلّةٍ .
و ذلكَ : أنّ العِلّةَ لَو أنّها ممّا يَجوزُ أن توجَدَ تارةً فتوجِبَ الصفةَ ، و أُخرىٰ فلا توجِبَها، لَكانَتِ الصفةُ الواجبةُ عنها لا تَستَغني عن أمرٍ آخَرَ. فثَبَتَ بذلكَ أنّ
ص: 309
وجوبَ الصفةِ عنها(1) هو المُغني عن عِلّةٍ أُخرىٰ ؛ لأنّ العِلّةَ أَوجَبَتِ الصفةَ دَلالةً علىٰ نَفيِ المعنىٰ ، و الصفةُ لَو وجبَت عن معنىً قَديمٍ لَكانَ حالُها في الوجوبِ كحالِها إذا وجبَت عن الذاتِ ؛ و ذلك أنّا متىٰ عَلِمنا وجوبَ الصفةِ مِن غَيرِ أن نَعلَمَ أمراً زائداً علَى الذاتِ ، عَلِمنا بذلكَ نفيَ المعنىٰ ، و أنّ الصفةَ تَجِبُ لِما(2) الذاتُ عليه، كما أنّا إذا عَلِمنا وجوبَ الصفةِ عن(3) معنىً مِن المَعاني - و إن لم نَكُن(4) نَعلَمُ سِواه - نَقَعُ (5) علىٰ أنّه لا موجِبَ سِواه.
علىٰ أنّ التشكّكَ في هذا البابِ ، و تَجويزَنا «أن تَكونَ الصفاتُ الواجبةُ التي نَعلَمُ وجودَها مِن غَيرِ أن نَعلَمَ معنىً سِواها، تَجِبُ (6) لمعنىً قَديمٍ »، يؤَدّي إلىٰ نفيِ صِفاتِ الذاتِ جُملةً ؛ لأنّا لا نَأمَنُ «في كُلِّ صفةٍ وجبَت للذواتِ ؛ مِن نَحوِ كَونِ الجَوهرِ جَوهراً و السوادِ سَواداً، و صِفاتِ العِلَلِ الموجِباتِ نفسَها» أن تَكونَ ذلك لِمَعانٍ قَديمةٍ . و هذا يَقتضي رَفعَ صفاتِ الذاتِ .
و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ السوادَ أو العِلمَ أو ما أشبَهَهما مِن المَعاني، إنّما وجبَ أن يَكونَ علىٰ ما هو عليه لغَيرِ علّةٍ ، لاستحالةِ قيامِ المَعاني [به](7) لا لوجوبِ الصفةِ له.
ص: 310
[و] ذلكَ : أنّ فيما تَجِبُ (1) له الصفاتُ النفسيّةُ ، ما لا يَستَحيلُ فيه قيامُ المَعاني به؛ نَحوُ كَونِ الجَوهرِ جَوهراً و مُتحيِّزاً، و مع ذلكَ فأثبَتنا صفاتِه الواجباتَ نفسيّةً ؛ لوجوبِها، لا لاستحالةِ قيامِ المَعاني بها.(2)
على أنّ المفهومَ مِن قيامِ المَعاني هو الحُلولُ ، و الباري تَعالىٰ يَستَحيلُ [عليه] ذلكَ ، و لئن جازَ ارتكابُه فيه تَعالىٰ ، لَيَجُوزَنَّ مِثلُه في قيامِ المَعاني بالمَعاني؛ فلَيسَ أحَدُهما بأبعَدَ مِن الآخَرِ.
(83) دليلٌ آخَرُ: و أحَدُ ما يَدُلُّ علىٰ ذلكَ - و إن كانَ يُقارِبُ ما تَقدَّمَ -: أنّ المُراعىٰ في المُقتَضي للصفةِ ، الاشتراكُ في كيفيّةِ استحقاقِها؛ سَواءٌ اختَلَفَت الصفةُ
أو اتَّفَقَت؛ ألا تَرىٰ أنّ المُحدَثاتِ لمّا اشتَرَكَت كُلُّها في كيفيّةِ الوجودِ، احتاجَ جَميعُها إلىٰ فاعلٍ ، فاشتَرَكَت كُلُّها في المُقتَضي ؟ و القَديمُ تَعالىٰ لمّا لَم يُشارِكْها في كيفيّةِ هذه الصفةِ ، استَغنىٰ مِن موجِدٍ، و كانَ موجوداً لذاتِه. و لمّا كانَ تَعالىٰ مُشارِكاً للمُريدينَ مِنَّا في استحقاقِ كَونِه مُريداً، و أنّه يُريدُ مع جَوازِ أن لا يَكونَ مُريداً، كانَ كذلكَ مُريداً بإرادةٍ كالواحِدِ مِنّا.
و إنّما قُلنا: إنّه لا اعتبارَ باختلافِ الصفةِ و اتّفاقِها، مع الاتّفاقِ في وَجهِ الاستحقاقِ و كيفيّتِه.
لأنّا(3) وَجَدناه تَعالىٰ لمّا استَحَقَّ كَونَه موجوداً على الحَدِّ و الوَجهِ الذي يَستَحِقُّ
ص: 311
السوادُ عليه كَونَه سواداً، و الجَوهرُ كَونَه جَوهراً، استَحَقَّ ذلك لِما هو عليه في ذاتِه، كما استَحَقَّ السوادُ و الجَوهرُ ذلكَ علىٰ هذا الوجهِ . و لمّا استَحَقَّ كَونَه مُريداً علَى الحَدِّ الذي يَستَحِقُّ الجَوهرُ عليه كَونَه مُتحرِّكاً، استَحَقَّ ذلكَ لِمعنىً ، و هذه قضيّةٌ عامّةٌ في جَميعِ الصفاتِ المُستَحَقّةِ ؛ لَو تُؤُمِّلَت و قوبِلَ بَينَ وجوهِ استحقاقِها.
و إذا ثَبَتَت(1) هذه الجُملةُ التي ذَكَرناها، و وَجَدناه تَعالىٰ يَستَحِقُّ كَونَه عالِماً و قادِراً و حَيّاً: علَى الوجهِ الذي يَستَحِقُّ عليه كَونَه قَديماً، و علَى الوجهِ الذي يَستَحِقُّ السوادُ عليه كَونَه سَواداً، أو الجوهرُ كَونَه جَوهراً، وجبَ أن يَستَغنيَ عن المَعاني، و أن يكونَ مُستَحِقّاً لهذه الصفاتِ لِما هو عليه في ذاتِه، كما ثَبَتَ ذلكَ فيما شارَكَه في كيفيّةِ استحقاقِ صفتِه.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ ، أنّه لَو كانَ تَعالىٰ عالِماً بِ [عِلمٍ ] قديم(2)، لَوجبَ أن يَكونَ عِلمُه مِن جنسِ عُلومِنا؛ مِن حَيثُ تَعلَّقَ بما يَتعلَّقُ به عِلمُ أحَدِنا علىٰ وَجهِه و في وَقتِه علىٰ سبيلِ التفصيلِ ، و هذا يَقتَضي قِدَمَ عُلومِنا و حُدوثَ عِلمِه!
فإن قيلَ : دُلّوا على أنّ المُشارَكةَ في التعلُّقِ الذي ذَكَرتُم تَقتَضي(3) التماثُلَ .
قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلكَ أنّ العِلمَ إنّما يَبينُ مِن غَيرِه بهذا التعلُّقِ المخصوصِ ، و هو أخَصُّ صفاتِ ذاتِه، و لهذا وجبَ فيما شارَكَه في ذلكَ أن يَسُدَّ مَسَدَّه؛
ص: 312
حتّىٰ أنّ أحَدَنا متىٰ صَحَّ مِنه الفِعلُ المُحكَمُ بعِلمٍ مخصوصٍ ، فمعلومٌ أنّ ذلكَ يَصِحُّ مِنه بكُلِّ ما شارَكَ العِلمَ الذي ذَكَرناه في صفتِه و تَعلُّقِه.
و لأنّهما(1) أيضاً يوجِبانِ صفتَينِ مُتَماثِلتَينِ ، و تَماثُلُ المُوجَبِ يَدُلُّ علىٰ تَماثُلِ المُوجِبِ .
و لأنّهما أيضاً يَنتَفيانِ بضِدٍّ واحِدٍ؛ ألا تَرىٰ أنّا لَو قَدَّرنا حُصولَ هذَينِ العِلمَينِ لِعالِمٍ واحدٍ، و وُجِدَ الجَهلُ المُتعلِّقُ بالعكسِ مِن مُتعلَّقِهما، لَوجبَ انتفاؤهما معاً به ؟ و الشيءُ الواحِدُ لا يَجوزُ أن يَنفِيَ شَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرَ مُتَضادَّينِ ، و إنّما يَنفي المِثلَينِ أو الضِّدَّينِ . و إذا لم يَجُز أن يَكونَ هذانِ العِلمانِ ضِدَّينِ ، وجبَ أن يَكونا مِثلَينِ .
فإن قيلَ : و مِن أينَ صحّةُ ما ذَكَرتُم مِن أنّهما يوجِبانِ صفتَينِ مُتَماثِلتَينِ؟
قلنا: لأنّ هاتَينِ الصفتَينِ لَو اختَلَفَتا، لَم يَكُن إلَى اختلافِهما طريقٌ إلّااختلافُ حُكمِهما، و كانَ الحَيُّ يَفصِلُ بَينَهما كما يَفصِلُ بَينَ صفاتِه المُختَلِفةِ ، ككَونِه مُريداً و مُعتَقِداً. و لا شُبهةَ في أنّ حُكمَهما غَيرُ مُختَلِفٍ ، و لذلكَ [فإنّ ] أحَدَنا يَجِدُ نفسَه إذا كانَ عالِماً بأحَدِ هذَينِ العِلمَينِ علىٰ مِثلِ ما يَجِدُ غَيرَ نفسِه إذا كانَ عالِماً بالعِلمِ الآخَرِ، و لا نَجِدُ مِثلَ ذلكَ (84) إذا كانَ مُريداً و غَيرُه مُعتَقِداً.
فإن قيلَ : ألا اعتَبَرتُم في تَماثُلِ هذَينِ العِلمَينِ أن يَتعلَّقا بعالِمٍ (2) واحِدٍ؟
قُلنا: لَو كانَ لِمِثلِ ذلكَ اعتبارٌ، لَوجبَ أنْ لا يَتَماثَلَ السوادانِ مع تَغايُرِ مَحَلِّهما،
ص: 313
و قد عَلِمنا أن لا فَرقَ في وُجوبِ تَماثُلِهما بَينَ أن يَكونَ مَحَلُّهما واحِداً أو مُتَغايِراً؛ ألا تَرىٰ أنّ الالتباسَ علَى المُدرِكِ الذي كانَ طريقاً لنا إلىٰ تَماثُلِ السوادَينِ حاصِلٌ في الوَجهَينِ؟ لأنّ السوادَينِ يَلتَبِسانِ و المَحَلُّ واحِدٌ. و إذا ثَبَتَ أنّ تَغايُرَ المَحَلَّينِ لا يؤَثِّرُ في التماثُلِ ، ثَبَتَ ذلكَ في تَغايُرِ العالِمَينِ ؛ لأنّ حُكمَ القَوابلِ (1) مع المَعاني المُختَصّةِ بها، حُكمُ المَحالِّ مع المعاني المُختَصّةِ بها.
علىٰ أنّ العلِمَينِ إذا لَم يَتعلَّقا بعالِمٍ واحِدٍ، فإنّما افتَرَقَا في كيفيّةِ الوجودِ، و مِثلُ ذلكَ لا يُؤثِّرُ على الحقيقةِ في الاختلافِ ، بَل يَجري مَجرىٰ أن يَكونا موجودَينِ في وقتَينِ . و معلومٌ أنّ ذلك لا يَقتَضي اختلافَهما؛ لأنّه لَو اقتَضاه لوَجبَ أن يَكونَ الشيءُ مُخالِفاً لنفسِه إذا لَم يُوجَدْ في وقتٍ و وُجِدَ في غَيرِه. علىٰ أنّ الأجناسَ المُختَلِفةَ قد تَشتَرِكُ في كيفيّةِ الوجودِ، و لا يوجِبُ ذلكَ تَماثُلَها.
فوجبَ صحّةُ ما ذَكَرناه مِن تَماثُلِ هذَينِ العِلمَينِ ، و إن تَعلَّقا بعالِمَينِ .
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ صحّةِ ما ادَّعَيتُموه في جُملةِ كلامِكُم؛ مِن أنّ الشيءَ الواحِدَ لا يَنفي شَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرَ مُتَضادَّينِ؟
قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلكَ : أنّ مِن حَقِّ ما يُنافي غَيرَه أن يَخلُفَه علىٰ مَحَلِّهِ ، و علَى الجُملةِ التي يَتعلَّقُ بِها، و تَحصُلَ (2) له صفةٌ بالعكسِ مِن صفةِ ما نافاه، فلَو نَفَى الشيءُ الواحدُ ذاتَينِ مُختَلِفتَينِ ، لَوجبَ أن تَكونَ صفتُه بالعكسِ [مِن] صفةِ كُلِّ واحِدٍ منهما، و هذا يَقتَضي كَونَ الذّاتِ علىٰ صفتَينِ مُختَلِفتَينِ للنفسِ ، و ذلكَ
ص: 314
لا يَجوزُ في الذواتِ المُختَلِفةِ ؛ لِما دَلَّلنا عليه في صَدرِ هذا الكتابِ عندَ الكلامِ علىٰ أنّ الجَوهَرَ لا يَكونُ مُتحيِّزاً بالفاعلِ .(1)
و ممّا يَدُلُّ أيضاً على ذلك: أنّ الشيءَ الواحِدَ لَو نَفَى المُختَلِفَينِ ، لَوجبَ أن يَنفيَ كُلَّ مُختَلِفَينِ حَصَلا في مَحَلِّه؛ لأنّه لَيسَ له ببعضِ ما خالَفه مِن الاختصاصِ ما لَيسَ له بغيرِه؛ ألا تَرىٰ أنّ الشيءَ الواحدَ لمّا نَفَى المِثلَينِ علَى الجَمعِ ، و الضِّدَّينِ علَى البَدَلِ ، نَفىٰ كُلَّ مِثلَينِ و كُلَّ ضِدَّينِ و لَو نَفىٰ كُلَّ ما يُخالِفُه لَأدّىٰ إلى أنّ السوادَ يَنفي البياضَ و الحَلاوةَ (2) عن المَحَلِّ ، و قد عَلِمنا فَسادَ ذلك.
و ممّا يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ السوادَ إذا عَلِمنا أنّه لا يُضادُّ البياضَ و الطَّعمَ ، و أنّه [إنّما] يُضادُّ البياضَ و الحُمرةَ ، و يُضادُّ بياضَتَينِ (3) و حُمرتَينِ ، فيَجِبُ أن نقضِيَ (4) أنّه(5) إنّما (لا) يُضادُّ(6) البياضَ و الطَّعمَ لأجلِ أنّهما مُختَلِفانِ لَيسا بضِدَّينِ ، و نَحكُمَ بأنّ كُلَّ مُختَلِفَينِ لَيسا بضِدَّينِ يَجرِيانِ هذا المجرى في أنّ شيئاً واحداً لا يَجوزُ أن يَنفِيَهما.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : هذا الّذي ذَكَرتُم يَقتَضي أنّ ذاتَه تَعالىٰ مُماثِلةٌ لِعُلومِنا؛ مِن حَيثُ المُشارَكةِ في التعلُّقِ المخصوصِ .
و ذلكَ : أنّ تَعلُّقَه تَعالىٰ بالمعلوماتِ ، يُخالِفُ تَعلُّقَ العُلومِ ؛ لأنّ تَعلُّقَه تَعلُّقُ العالِمينَ . و إنّما كانَ يَلزَمُ ذلكَ لَو كانَ التعلُّقُ واحداً؛ ألا تَرىٰ أنّ العِلمَ و الإرادةَ معاً
ص: 315
قد يَتعلَّقانِ بحُدوثِ الشيءِ و لا يَتَماثَلانِ ؛ لاختلافِ التعلُّقِ؟
و لَيسَ له أن يَقولَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ عِلمُه مِن حَيثُ كانَ قَديماً يُخالِفُ عُلومَنا، أو مِن حَيثُ يَتعلَّقُ بمعلوماتٍ كثيرةٍ علَى التفصيلِ ، و إن شارَكَ عُلومَنا في التعلُّقِ الذي (85) ذَكَرتُم ؟!
و ذلكَ : أنّ هذا اعتراضٌ علَى الدليلِ (1)، لمّا اقتضى الدليلُ نفسُه فَسادَه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ اشتراكَ العِلمَينِ في التعَلُّقِ المخصوصِ يَقتَضي تَماثُلَهما، و ذلك يَقتَضي
استحالةَ قِدَمِ عِلمِه أو تَعلُّقِه بمعلوماتٍ كثيرةٍ ، كما يَقتَضي استحالةَ ذلكَ في عُلومِنا التي هي مِثلُ ذلكَ العِلمِ .
على أنّ هذا يَقتَضي كَونَ عِلمِه مُماثِلاً لعُلومِنا و مُخالِفاً، و ذلكَ مُحالٌ .
و لا فرقَ بَينَ هذا الاعتراضِ ، و بَينَ َمن قالَ مِن المُشَبِّهةِ إذا أَلزَمناه(2) أن يَكونَ مِثلاً لنا إذا كانَ جَوهراً أو جسماً: إنّه و إن كانَ جسماً، فمِن حَيثُ كانَ قَديماً لا يَكونُ مِثلاً لنا.
و الطريقُ إلىٰ إبطالِ ذلكَ هو ما ذَكَرناه.
تَعالىٰ . و إثباتُ معنىً لا طريقَ إلىٰ إثباتِه يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ .
فوجبَ لهذه الجُملةِ القَطعُ علىٰ أنّه لا يَجوزُ كَونُه عالِماً بعِلمٍ ، بل لِما هو عليه في ذاتِه.
و هذا الكَلامُ يَشتَمِلُ علىٰ مَوضِعَينِ ، لا بُدَّ مِن الدَّلالةِ عليهما:
أوّلُهما: أنّه لا طريقَ إلىٰ إثباتِ العِلمِ سوىٰ ما ذَكَرناه.(1)
و الثاني: أنّ إثباتَ معنىً لا دليلَ عليه لا يَصِحُّ .
فأمّا الدليلُ على الأوّلِ : فهو أنّه لَيسَ يَجوزُ أن يَدُلَّ علَى الشيءِ إلّاما له تَعلُّقٌ به، و إذا لَم يَدُلَّ إلّاما ذَكَرناه علىٰ إثباتِ العِلمِ (2)، فلَيسَ [بَعَده](3)إلّاأن يُقالَ : إنّ الدالَّ علَى العِلمِ كَونُه عالِماً، أو صحّةُ وقوعِ الفِعلِ المُحكَمِ ؛ لأنّ غَيرَ ما ذَكَرناه مِن الصفاتِ و الأحكامِ لا تَعلُّقَ لها بالعِلمِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ كَونِه عالِماً لا يَدُلُّ علَى العِلمِ ؛ لأنّ (4) الصفةَ بمُجرَّدِها إذا اقتَضَتِ المعنىٰ ، لَوجبَ أن تَكونَ كُلُّ صفةٍ مُعَلَّلةً بمعنىً ، و يَقتَضي كذلكَ وجودَ ما لا يَتَناهىٰ مِنَ المَعاني.
و أيضاً: فإنّ الصفةَ يَنقسِمُ في العقلِ استحقَاقُها إلَى المعنىٰ و إلىٰ غَيرِه؛ فكيفَ يُقالُ : إنّها لِمُجرَّدِها تَقتَضي المعنىٰ؟
ص: 317
و علىٰ هذا يَجِبُ أن يُكتفىٰ في إثباتِ الأكوانِ بإثباتِ صفةِ الجَوهرِ و تَنقُّلِه في الجِهاتِ ، مِن غَيرِ أن نُبيِّنَ كَونَه مُسَتَحِقّاً لذلكَ علىٰ وَجهٍ مخصوصٍ .
و أيضاً لَو كانَ كَونُه عالِماً يَقتَضي وجودَ العِلمِ - و قد ثَبَتَ أنّ العِلمَ يَقتضي كَونَ
الذاتِ عالِمةً - لَوجبَ أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ مِن الأمرَينِ مُقتَضِياً لصاحِبِه.
و أمّا الذي له قُلنا: «إنّ الفِعلَ المُحكَمَ لا يَدُلُّ علَى العِلمِ »، فهو أنّ الفِعلَ المُحكَمَ إنّما يَقَعُ في الشاهِدِ مِن الجُملةِ دونَ أبعاضِها، فيَجِبُ [أن يَدُلَّ ] علىٰ أمرٍ تَختَصُّ (1)به الجُملةُ ، و لَيسَ واقعاً(2) مِن العِلمِ و لا مِن مَحَلِّ العِلمِ فيَدُلَّ عليهِ ، و إذا كانَ وجودُ العِلمِ مقصوراً علىٰ بعضِ الجُملةِ ، لَم يَكُنِ الفِعلُ دالاًّ عليه.
و أيضاً: فإنّ الفِعلَ (3) دالٌّ علىٰ أنّ مَن صَحَّ مِنه يَختَصُّ بمُفارَقةٍ لَيسَت لِمَن تَعذَّرَ مِنه، و المُفارَقاتُ : قد تَكونُ للمَعاني، و قد تَكونُ لغَيرِها؛ فكَيفَ يُجعَلُ (4) ما يَقتَضي المُفارَقةَ المُطلقةَ مُقتَضياً لكيفيّةٍ فيها؟
و أيضاً: فإنّ الفِعلَ المُحكَمَ إذا كانَ دالاًّ علىٰ كَونِ مَن صَحَّ مِنه عالِماً، لَم يَجُز أن يَدُلَّ مع ذلكَ على العِلمِ ؛ لأنّ الدليلَ إنّما يَدُلُّ علىٰ أمرَينِ مُختَلِفَينِ مِن وَجهَينِ . و إذا كانَ وجهُه واحِداً، لَم يَجُز أن يَدُلَّ إلّاعلىٰ أمرٍ واحِدٍ. و لذلِكَ [يَدُلُّ ] الفِعلُ بمُجرَّدِه علىٰ أنّ فاعِلَه قادرٌ، و بإحكامه له يَدُلُّ علىٰ أنّه عالِمٌ .
و أمّا الدليلُ علَى الأصلِ (86) الثاني: فهو أنّ القولَ بخِلافِ ذلكَ يؤَدّي: إلىٰ كُلِّ
ص: 318
جَهالةٍ ، و إلىٰ أن يُجَوَّزَ أن يَكونَ في الجسمِ مَعانٍ كثيرةٌ سِوىٰ ما عَقَلناه بالدليلِ ، و إلىٰ أنْ لا يُنفىٰ بالعِلَلِ و لا بالأسبابِ و لا بالتَّضادِّ بَينَ المُتَضادّاتِ ، و فَسادُ ذلكَ ظاهرٌ.
و لَيسَ هذا ممّا عِبْنَاهُ علَى البَغدادييّنَ ، لمّا استَدلّوا علىٰ نَفيِ قَديمٍ ثانٍ ، بأنّه لَو كانَ موجوداً لَكانَ في الفِعلِ دَلالةٌ عليه، و إنّما لمّا لَم يَكُن في الفِعلِ ما يَدُلُّ علىٰ ثانٍ ، وجبَ نَفيُه.
و الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ : أنّ الفِعلَ يَقَعُ باختيارِ الفاعِلِ ، و قد يَجوزُ أن لا يَختارَه، فلا يَدُلَّ عليه، و لا يَجِبُ أن يُحكَمَ بنَفيِ العالِمِ (1) مِن حَيثُ انتَفَى الفِعلُ . و العِلمُ موجِبٌ لكَونِ الذاتِ عالِمةً ، و إثباتُه إنّما يَكونُ بما يَصدُرُ عنه مِن الصفةِ أو الحُكمِ ، فلا يَجوزُ أن يَنفَكَّ ممّا يَدُلُّ علىٰ إثباتِه؛ لأنّه لا يَتعلَّقُ باختيارِ مُختارٍ. فمَتىٰ فَقَدنا ما يَدُلُّ عليه وجبَ القضاءُ بنَفيِه.
و قد تَرتَّب هذا الدليلُ علىٰ وَجهٍ آخَرَ(2)، فيُقالُ : قد ثَبَتَ أنّ تَجدُّدَ الصفةِ مع جَوازِ
أن لا تَتجدَّدَ و الحالُ واحدةٌ ، دَلالةٌ علىٰ إثباتِ المعنىٰ . و لَيسَ يجوزُ ثُبوتُ المعنىٰ مع نَقيضِ الشرطِ في الدَّلالةِ عليه؛ لأنّ ذلكَ يَقدَحُ في كَونِه شرطاً في الدَّلالةِ .
يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ وجوبَ وقوعِ تَصرُّفِ الإنسانِ بحَسَبِ قَصدِه و دَواعيهِ ، [و] وجوبَ انتفائه بحَسَبِ كَراهَتِه و صَوارِفِه، لمّا دَلَّ علَى احتياجِه إليه، لَم يَجُز أن نُثبِتَ (3) مُحدِثاً لفِعلٍ يَجِبُ وقوعُه عندَ كَراهَتِه، و انتفاؤه عندَ قَصدِه. و إنّما لَم يَجُز ذلكَ مِن حَيثُ كانَ ما ذَكَرناه شرطاً في الدَّلالةِ ، فلَم يُمكِنْ ثُبوتُ المَدلولِ مع نَقيضِه. و إذا وجبَ كَونُه تَعالىٰ عالِماً في كُلِّ حالٍ ، ثَبَتَ أنّه لَم يَكُن كذلكَ بمعنىً .
ص: 319
و لَيسَ هذا الذي ذَكَرناهُ مَنعاً مِن إثباتِ المدلولِ مع فَقدِ الدَّلالةِ ، و إنّما مَنَعنا مِن إثباتِ المدلولِ مع نقيضِ الشرطِ في الدَّلالةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا نُثبِتُ تَصرُّفَنا مُحتاجاً إلينا، و مُحدَثاً بنا؛ مِن حَيثُ وَقَعَ بحَسَبِ قُصودِنا، و انتَفىٰ بحَسَبِ صَوارِفِنا و كَراهَتِنا؟ و لا يَمتَنِعُ إثباتُ فِعلٍ لا يَتأتّىٰ هذا المعنىٰ فيه، و هو فِعلُ الساهي، إذا كانَ بدليلٍ آخَرَ.
و لا يَجوزُ قياساً علىٰ ذلكَ أن يَثبُتَ الفِعلُ لمَن يَجِبُ انتفاؤه و صَوارِفُه. و الفَرقُ بَينَ (1) الأمرَينِ هو ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ ذلكَ إثباتُ المدلولِ مع نقيضِ الشرط في الدَّلالةِ .
و هذه الدَّلالةُ (2) علَى الوجهَينِ اللَّذَينِ رَتَّبناهما(3) معاً، تَدُلُّ (4) علىٰ أنّه تعالى لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ، و لا حَيّاً بحَياةٍ ، و لا قَديماً بقِدَمٍ .
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ علىٰ هذه الأحوالِ لمَعانٍ قَديمةٍ ، أنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلىٰ إثباتِ ذاتَينِ ، بل ذَواتٍ يَستَحيلُ (5) وجودُ كُلِّ واحدةٍ مِنها دونَ الأُخرى، و ذلكَ محالٌ ؛ لأنّه يَقتضي تَجويزَ مَعانٍ زائدةٍ علىٰ ما قد عَقَلناه، و نَدَّعي أنّ بعضَها يُفارِق بعضَها.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على أنّه تعالى لا يَجوزُ أن يَكونَ عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ أنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلىٰ أحَدِ أُمورٍ كُلُّها فاسدةٌ :
ص: 320
مِنها: أن يَكونَ عالِماً بمعلومٍ واحدٍ، أو معلوماتٍ مُنحَصِرةٍ .
و مِنها: أن يَكونَ عالِماً بمعلومٍ لا نِهايةَ له.(1)
و مِنها: أن يكونَ عِلمُه مُتعلِّقاً بمعلوماتٍ لا تَتَناهىٰ علىٰ سَبيل التفصيلِ .
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ فَسادِ القِسمِ الأخيرِ.
قُلنا: قد ثَبَتَ أنّه لا مَعلوماتٌ إلّاو يَصِحُّ أن يُعلَمَ أحدُها(2) دونَ الآخَرِ، و إن لَم يُعلَمِ الآخَرُ. و هذا الحُكمُ معلومٌ في أكثرِ المعلوماتِ باضطرارٍ؛ كالعِلمِ بزَيدٍ و عَمرٍو و ما أشبَهَهما (87) مِن المعلوماتِ . كما نَعلَمُ ضرورةً في أكثرِ الأجسامِ أنّنا نُجوِّزُ أن نُحَرِّكَ بعضَها مع سُكونِ بعضٍ ، و ما لا يُعلَمُ ذلك فيه مِنَ المعلوماتِ باضطرارٍ، و يَشتَبِهُ أمرُه، نَحمِلُه بالاستدلالِ علىٰ ما عَلِمناه في الحُكمِ ؛ لأنّا إذا تَأمَّلنا حالَ العِلمِ المُتعلِّقِ بأحَدِ المعلومَينِ ، فوَجَدناه مُخالِفاً للمُتعلَّقِ ، وجبَ أن نَحكُمَ بأنّ العِلمَ الواحدَ لَو تَعلَّقَ بمَعلومَينِ علَى التفصيلِ ، لَكانَ مُختَلِفاً(3) في نفسِه؛ لاختصاصِه بصفتَينِ اقتَضَتا اختلافَ العِلمَينِ .
و لَيسَ يَلزَمُ علىٰ هذا أن تَكونَ (4) القُدرةُ مُختَلِفةً في نفسِها؛ لِتعلُّقِها بمقدوراتٍ كثيرةٍ .
و ذلكَ : أنّه لا شيءَ مِن القُدَرِ يَختَصُّ بمقدورٍ واحدٍ، بل الجَميعُ يَتعلَّقُ بالكثيرِ مِنَ المقدوراتِ ، فلَم يَقتَضِ ذلكَ في القُدَرِ اختلافاً، و إن ثَبَتَ بعضُها بصفةِ ما خالَفَه. و قد ثَبَتَ أنّ في العُلومِ ما يَختَصُّ بمعلومٍ واحدٍ، و أنّه يُخالِفُ ما تَعلَّقَ
ص: 321
بمعلومٍ آخَرَ، فافتَرَقَ الأمرانِ .
و ممّا يَدُلُّ علىٰ فَسادِ تَعلُّقِ العِلمِ الواحِدِ بأكثَرَ مِن المعلومِ الواحدِ علَى التفصيلِ :(1) أنّه لَو تَعلَّقَ بمعلومَينِ ، لَوجبَ إذا طَرَأَ جَهلٌ يَتعلَّقُ بأحَدِ المعلومَينِ دونَ الآخَرِ، أن يَنتَفِيَ مِن وَجهٍ دونَ آخَرَ، و ذلك باطلٌ .
فإن قيلَ : هذا يَلزَمُكُم في القُدرةِ ؛ إذ(2) قد يَطرَأُ العَجزُ عليها(3) مع تَعلُّقِه بأحَدِ مَقدوراتِها. و لَئِن جازَ لَكُم أن تَدَّعوا أنّ العَجزَ لا يَتعلَّقُ إلّابجَميعِ ما تَتعلَّقُ به القُدرةُ ، قيلَ : الجَهلُ الذي قَدَّرتُموه مِثلُه، و يَبطُلُ استدلالُكُم.
قُلنا: القُدرةُ لَو اختَصَّت بمقدورٍ واحدٍ بَطَلَ حُكمُها، و لَكانَ مَن أَوجَبَت له حالَ القادرِ، لا يَجِدُ فَرقاً بَينَه و بَينَ المُضطَرِّ، فلا بُدَّ مِن أن تَتعلَّقَ بالكَثيرِ مِن المقدورِ. و العَجزُ إذا كانَ ضِدّاً لها، فحُكمُه في التعلُّقِ حُكمُها. و هذا لا يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ في العِلمِ حَتّىٰ يُقالَ : إنّه لا يَتميَّزُ مِن غَيرِه مَتىٰ تَعلَّقَ بمعلومٍ واحدٍ، و إنّه واجبٌ فيه التعلُّقُ بأكثَرَ مِن معلومٍ ! فإذَن لا يَجِبُ في الجَهلِ المُضادِّ له أن يَتعلَّقَ بأكثَرَ مِن
مجهولٍ واحدٍ، و صَحَّ التقديرُ الذي ذَكَرناه و استقامَ الاستدلالُ .
و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّ العِلمَ لَو تَعلَّقَ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ مُفَصَّلاً، لَم يَقِفْ علىٰ عددٍ محصورٍ، و لا حَدٍّ مُعيَّنٍ ، و كانَ يَجِبُ أن يَتعلَّقَ بما لا يَتَناهى مِن المعلوماتِ ؛ لأنّه لا حاصِرَ و لا مُخصِّصَ . و هذا يَقتَضي أن يَكونَ كُلُّ عالِمٍ مِنّا عالِماً بكُلِّ شيءٍ ، و يَجِبُ أن يَكونَ الصبيُّ الصغيرُ عالِماً بجميعِ ما يَعلَمُهُ القَديمُ تَعالىٰ . و إذا عَلِمنا استحالةَ ذلكَ في عُلومِنا، عَلِمنا استحالتَه في كُلِّ عالِمٍ ؛ لأنّه إنّما
ص: 322
وجبَ لِعُلومِنا هذا الحُكمُ مع اختلافِها؛ لكَونِها عُلوماً... يَرجِعُ (1) إلىٰ أنّها مِن قَبيلِ الاعتقاداتِ . و لا يُمكِنُ أن يُعلَّقَ ذلكَ بالحُدوثِ ؛ لأنّ الحُدوثَ لا تأثيرَ له في التعلُّقِ . علىٰ أنّ ما بيّنّاه مِن قبلُ ، مِن كَونِ ما يَتعلَّقُ بمعلومَينِ مِن العلومِ مُختَلِفاً في نفسِه، يَقتَضي علىٰ كُلِّ عِلمٍ بهذا الحُكمِ .
و لأنّه لو جازَ في الغائبِ إثباتُ عِلمٍ يَتعلَّقُ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ على التفصيلِ ، لَوجبَ أن يَكونَ مِثلاً لِعُلومِنا و مُخالِفاً لها، و ذلكَ مُحالٌ .
و ممّا قِيلَ في ذلكَ أيضاً: أنّه لو جازَ في الغائبِ إثباتُ عِلمٍ واحدٍ بصفةِ عِلمَينِ مِن عُلُومِنا مُختَلِفَينِ ، جازَ إثباتُه بصفةِ العِلمِ و القُدرةِ ؛ لأنّ اختلافَ العِلمَينِ بالمعلومَينِ في الشاهدِ، كاختلافِ العِلمِ و القُدرةِ ، و هذا يؤدّيهم إلى الاستغناءِ بالعِلمِ عن سائرِ المعاني الّتي يُثبِتونَها.(2)
فأمّا القِسمانِ اللذانِ ذَكَرناهما في (88) صَدرِ الدليلِ فظاهرا(3) الفَسادِ؛ لأنّ وجودَ ما لا يَتَناهىٰ قد بيّنّا - فيما مَضى مِنَ البابِ - فَسادَه(4) [و] استحالتَه(5)، و دلَّلنا علىٰ أنّ ما حَصَرَه الوجودُ لا يَكونُ إلّامُتَناهِياً.
و أمّا كونُه تَعالىٰ عالِماً بمعلومٍ واحدٍ، أو معلوماتٍ مُنحَصِرةٍ ففاسِدٌ أيضاً؛ لأنّه قد فَعَلَ أفعالاً مُحكَمةً تَدُلُّ (6) علىٰ أنّه عالِمٌ بها أجمَعَ ، و خَلَقَ فينا العُلومَ الضروريّةَ ، و تلكَ
ص: 323
الاعتقاداتُ لا تَكونُ (1) عُلوماً إلّامِن فِعلِ العالِمِ بمُتعلَّقاتِها، و هذا يَدُلُّ علىٰ أنّه(2)تَعالىٰ عالِمٌ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ.
و الذي يُبطِلُ كَونَه عالِماً بمحصوراتٍ : أنّ ما عَدا تلكَ المعلوماتِ لا تَخلو مِن أن
تَكونَ : يَصِحُّ أن يَعلَمَها، أو لا يَصِحُّ . فإن لَم يَصِحَّ أن يَعلَمَها، بَطَلَ كَونُها معلوماتٍ في نفوسِها؛ لأنّ المعلومَ في نفسِه لا يَختَصُّ في صحّةِ (3) كَونِه مَعلوماً بعالِمٍ دونَ عالِمٍ .
و إن صَحَّ أن يَعلَم ما عَدا تلكَ المعلوماتِ ، لَم يَخلُ مِن أن: يَعلَمَها لنفسِه، أو بعِلمٍ معدومٍ ، أو قَديمٍ ، أو مُحدَثٍ .
فإن كانَ يَعلَمُها لِنَفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ عالِماً بكُلِّ المعلومات لِنفسِه؛ لأنّ ما هو عليه في ذاتِه: لَيسَ بأن يَقتَضيَ كَونَه عالِماً ببعضِ ما يَصِحُّ أن يَعلَمَه، بأولىٰ مِن أن يَقتَضيَ كَونَه عالِماً بالكُلِّ ؛ ألا تَرىٰ أنّ القُدرةَ لمّا كانت لِما هي عليه تَتعلَّقُ (4)بالمقدورِ، وجبَ تَعلُّقُها بكُلِّ ما يَصِحُّ أن تَتعلَّقَ [به]؟
و لا يَجوزُ أن يَعلَم ذلكَ بعلِمٍ معدومٍ ؛ لِما مَضىٰ في الكتابِ (5).
و لا بعُلومٍ قَديمةٍ ؛ لأنّه يوجِبُ وجودَ ما لا يَتَناهى، مِن حَيثُ كانَت المعلوماتُ لا تَتَناهى.
ص: 324
و لا يَجوزُ أن يَعلَمَ ذلك بعُلومٍ مُحدَثةٍ ؛ لأنّه يوجِبُ (1) أيضاً وجودَ ما لا يَتَناهى مِنَ العُلومِ المُحْدَثةِ .
و لأنّ تلكَ العلومَ يَجِبُ أن تَكونَ مِن فِعلِه، و لَيسَ يَجوزُ أن تَقَعَ مُتولِّدةً عن النظَرِ؛ لأنّ النظَرَ لا يَكونُ إلّافي دليلٍ . و لَيسَ [علىٰ ] ما يَحدُثُ في المُستَقبَلِ دليلٌ عَقلِيٌّ ؛ لفَقدِ التعلُّقِ الذي لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُراعىً فيما تَدُلُّ (2) عليه الأدلّةُ .
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يَقَعُ عِلماً، لعِلمِه بأنّه كانَ ناظراً؛ لأنّ ذلكَ مَبنيٌّ علىٰ أنّه بالنظَرِ يَحصُلُ العِلمُ بالحَوادثِ المُستَقبَلةِ ، و قد بيّنّا أنّ ذلكَ لا يُمكِنُ أن يَكونَ عليه دليلٌ عَقلِيٌّ .
فلَم يَبقَ وَجهٌ يَجوزُ أن يَكونَ جهةً لوقوعِ العِلمِ عِلماً، إلّاكَونَ الفاعلِ عالِماً بالمُعتَقَدِ، و ذلكَ ممّا الكلامُ مفروضٌ علَى انتفائه؛ لأنّا [إنّما نَتكلَّمُ علىٰ أنّه لا يَعلَمُ ](3) باقيَ المعلُوماتِ إلّابعِلمٍ مُحدَثٍ . و هذه جُملةٌ كافيةٌ .
دليل آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالى لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ
قَديمةٍ أنّ قُدرتَه كانَ يَجِبُ أن تَكونَ موجودةً لا في مَحَلٍّ حتّى تَتعلَّقَ به؛ لأنّ وجودَها فيه يَستحيلُ ، و وجودَها في مَحَلٍّ لا حَياةَ فيه كذلكَ ، و وجودُها(4)
ص: 325
في مَحَلٍّ مع الحياةِ يَقتَضي تعلُّقَها بمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، علىٰ ما تَقدَّمَ في الكتابِ . و قد بيّنّا أنّ مِن حُكمِ القُدرةِ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ صحّةِ الفِعلِ بها، استعمالَ مَحَلِّها في الفِعلِ . و دَلَّلنا علىٰ أنّ الفِعلَ لا يَصِحُّ أن يَقَعَ بها إلّابأن يُبتَدَأ هو أو ما [هو] سببُه في مَحَلِّها، و متى وُجِدَت لا في مَحَلٍّ ، بَطَلَ حُكمُها، و لَم يَصِحَّ الفِعلُ بها.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أيضاً، أنّا قد بيّنّا - فيما تَقدَّمَ مِن الكتابِ - أنّ قُدَرَنا مع اختلافِها لا يَصِحُّ أن يُفعَلَ بها الأجسامُ و الألوانُ و ما أشبَهَهما مِن الأجناسِ المخصوصةِ ، و بيّنّا أنّ اختلافَ القُدَرِ (89) لا يقتضِي اختلافَ المقدوراتِ ، و أنّ مِن حَقِّ كُلِّ قُدرةٍ أن يُقدَرَ بها علىٰ كُلِّ جنسٍ يُقدَرُ بغَيرِها(1) عليه، و أنّ هذا الحُكمَ يَجِبُ في القُدَرِ مِن حَيثُ كانَت قُدَراً و يَصِحُّ الفِعلُ بها. و هذا يَقتَضي تَعَذُّرَ الأجسامِ و الألوانِ عليه تَعالىٰ ، لو كانَ قادراً بقدرةٍ . و في عِلمِنا أنّه تَعالىٰ هو الفاعلُ لها دَلالةٌ علىٰ نفيِ كَونِه قادراً بقُدرةٍ .
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علَى استحالةِ كَونِه حَيّاً بحياةٍ قَديمةٍ : ما قد بيّنّاه مِن اعتبارِ حُكمِ الحَياةِ و تأثيرِها في المَحَلِّ ، و أنّ وجودَها في غَيرِ مَحَلٍّ مُستحيلٌ . و الحَياةُ القَديمةُ لَو كانَت ثابتةً لم يَجُز حُلولُها المَحَلَّ ، و إنّما كانَت توجَدُ لا في مَحَلٍّ ، و ذلك باطِلٌ بما ذَكَرناه.
***
ص: 326
[1.] مِنها: قولُهم: لَو كانَ عالِماً لذاتِه، وَجَب(1) أن تَكونَ (2) ذاتُه عِلماً، و إذا(3)لَم يَكُن عالِماً لذاتِه فهو عالِمٌ بعِلمٍ .
[2.] و مِنها: أنّ كونَه عالِماً أو(4) قادراً إذا رَجَع إلىٰ ذاتِه، وجبَ أن يَكونَ قادراً علىٰ كُلِّ ما يَعلَمُه.
[3.] و مِنها: أنّ الفعلَ المُحكَمَ يَدُلُّ علَى العِلمِ ، كما يَدُلُّ علىٰ كَونِ الفاعلِ عالِماً.
[4.] و مِنها: أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ لا يَخلو مِن أن يَكونَ عِلماً بذاتِه، [أو عِلماً بعِلمِه، و لَو كانَ عِلماً بذاتِه](5) لَكانَ (6) الجَهلُ بأنّه عالِمٌ جَهلاً بذاتِه، و لَوجبَ في كُلِّ مَن عَلِمَ ذاتَه أن يَعلَمَه عالِماً. و فَسادُ ذلكَ يَقتَضي أنّه عِلمٌ بعِلمِه.
[5.] و مِنها: أنّ قولَهم: إنّ وَصْفَنا العالِمَ بأنّه عالِمٌ اشتقاقٌ مِنَ العِلمِ ، فلا سَبيلَ إلىٰ نفيِه مع إثباتِ العالِمِ عالماً.
ص: 327
[6.] و مِنها: أنّ وَصفَنا العالِمَ بأنّه عالِمٌ إثباتٌ ، و إذا لَم يَكُن إثباتاً لذاتِه، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ إثباتاً لعِلمِه.
[7.] و مِنها: أنّه قد يَحسُنُ أن يأمُرَ أحَدُنا [غيرَه] بأن يَعلَمَ و يَمدَحَه على ذلكَ ، و لا يَجوزُ أن يَتعلَّقَ الأمرُ و المَدحُ إلّالمعنىً يَفعَلُه، و إذا صَحَّ ذلكَ فينا حُمِلَ الغائبُ عليه. علىٰ أنّ مُتعلَّقَ الأمرِ - إذا كانَ - هو المعنىٰ ، و كذلكَ (1) الخبر(2)و الدَّلالةُ .
أنّه إنّما(3) كانَ يَلزَمُنا أن تَكونَ (4) ذاتُه عِلماً، لَو جَعَلنا كَونَه عالِماً موجَباً عن الذاتِ علَى التحقيقِ ؛ و كَما توجِبُ (5) العِلّةُ المعلولَ . و هذا لم نُرِدْهُ (6) و لا هو مفهومٌ مِن كلامِنا.
و(7) معنىٰ قولِنا: «إنّه تَعالىٰ عالِمٌ لنفسِه»، أنّه اختَصَّ بهذه الصفةِ علىٰ وَجهٍ بانَ بها مِن سائرِ العالِمينَ ، و أنّه استَغنىٰ فيها عن معنىً . و إضافةُ الصفةِ إلَى النفسِ لَيسَ يُفيدُ التعليلَ ، و إنّما يُفيدُ غايةَ التَخصيص و التميُّزِ. و الأصلُ في ذلكَ قَولُ أهلِ اللُّغةِ : «فَعَلَ زَيدٌ كذا بنفسِه» إذا أرادوا التأكيدَ في الاختصاصِ .
ص: 328
على أنّ السوادَ لمّا كانَ سَواداً(1) لنفسِه، كانَت نفسُه سَواداً، فكذلكَ (2) يَجِبُ في العالِمِ لنفسِه أن تَكونَ (3) ذاتُه عالِمةً ، و هكذا نقول [في القدرةِ و الحياةِ ](4).
أنّ وَصفَه بأنّه «عالِمٌ » و «قادِرٌ»، و إن رَجَعَ إلىٰ ذاتٍ واحدةٍ ، فالفائدةُ فيه مُختَلِفةٌ ، و إذا اختَلَفَت وجبَ أن يُراعىٰ ما يَصِحُّ فيه.
و قولُنا: «موجودةٌ » و «قُدرةٌ » يَرجِعُ إلىٰ ذاتٍ واحدةٍ ، فإن(5) تَعلَّقَت موجِبةً [فقد تَعلَّقَت مِن حَيثُ ](6) كانَت قُدرةً ، و لَم تَتعلَّقْ مِن حَيثُ كانَت موجودةً ؛ لاختلافِ
الفائدةِ . و الحَيُّ منّا قادِرٌ(7) علىٰ كُلِّ ما كانَ عالِماً به.
[1.] أنّا قد بيّنّا فيما تَقدَّمَ أنّ الفِعلَ المُحكَمَ لا يَدُلُّ علَى العِلمِ (8)، و أنّه إنّما(9) يَدُلُّ علىٰ كَونِ فاعلِه مُفارِقاً لِما يَتعذَّرُ ذلكَ مِنه. و أنّ المُفارَقاتِ قد تَختَلِفُ فتَكونُ تارةً للمَعاني، و تارةً لغَيرِها. فإذا عَلِمنا في أحَدِنا أنّ المُفارَقةَ إنّما حَصَلَت له عن معنىً
ص: 329
بدليلٍ يَختَصُّه(1)، لَم يَجِبْ أن يَثبُتَ المعنىٰ في كُلِّ مَوضعٍ حَصَلَت فيه المُفارَقةُ ؛ لأنّ اشتراكَ المَوصوفَينِ في الصفةِ لا يَمتَنِعُ ، و إن استَحَقَّها أحدُهما لعِلّةٍ و الآخَرُ لا لعِلّةٍ ، بَعدَ أن يَختَلِفا في كيفيّةِ الاستحقاقِ ، و لهذا كانَ المَوجودُ مِنّا مَوجوداً بفاعلٍ ، و هو تَعالىٰ موجودٌ لِنفسِه.
[2.] على أنّ مَن أَوجَبَ عليه القولَ بأنّه تَعالىٰ عالِمٌ بعِلمٍ ، قياساً علَى العالِمِ مِنّا، مِن حَيثُ شارَكَه في مُطلَقِ الصفةِ ، مِن غَيرِ مُراعاةٍ لكيفيّةِ الاستحقاقِ ، و لا الوَجهِ الذي مِنه ثَبَتَ العِلمُ لأحَدِنا، يَلزَمُه أن يَكونَ عِلمُه تَعالىٰ مُحدَثاً و غَيراً له، و أن يَكونَ له عِلمٌ مُفرَدٌ بكُلِّ معلومٍ ، كما أنّ كُلَّ ذلكَ واجِبٌ في العالِمِ مِنّا، و يَلزَمُه أن يَكونَ مُشارِكاً للعالِمِ مِنّا في الجسميّةِ و البِنيةِ ، و سائِرِ ما لا يَكونُ عالِماً(2) إلّامع حُصولِه. و متَى امتَنَعَ مِن التزامِ ذلكَ بوَجهٍ ، حَصَلَ بعَينِه العِلّةُ في الامتناعِ عن كونِه عالِماً بعِلمٍ ، و حَملِه على أحوالِ العالِمينَ مِنّا.
أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ ، هو عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ ، و لَيسَ يَتعلَّقُ بمُجرَّدِ الذاتِ ، و لا بمعنىً فيها، علىٰ ما بَنَوا عليه السؤالَ .
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ العالِمَ بكَونِه عالِماً حالٌ (3)، ثُمّ دُلُّوا علىٰ أنّ العِلمَ بأنّه عالِمٌ يَتعلَّقُ بكَونِه عليها.
قُلنا: الدليلُ علَى الفصلِ الأوّلِ : أنّ الفِعلَ المُحكَمَ إذا صَحَّ مِن زَيدٍ و تَعذَّرَ علىٰ
ص: 330
عَمرٍو، فلا بُدَّ مِن كَونِه دالاًّ علَى اختصاصِ مَن صَحَّ [مِنه] بأمرٍ فارَقَ به مَن تَعذَّرَ عليه. و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ ذلكَ الأمرُ مُختَصّاً بِمَن(1) صَحَّ مِنه الفِعلُ ، و هو الجُملةُ دون أبعاضِها، فيَجِبُ علىٰ هذا أن يَكونَ الفِعلُ المُحكَمُ دالاًّ على اختصاصِ الجُملةِ بحالٍ .
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الفِعلَ دالٌّ علىٰ أنّ العِلمَ الذي به كانَ أحَدُنا عالِماً(2)، و إنّ
المُفارَقةَ إلىٰ ذلكَ تَرجِعُ (3)؛ لأنّا قد بَيّنّا فَسادَ ذلكَ مِن قَبلُ مِن وجوهٍ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّا قد عَلِمنا امتناعَ وجودِ عِلمٍ في جُزءٍ مِن قَلبِ زيدٍ، و وجودِ جَهلٍ يُضادُّ ذلكَ العِلمَ في جُزءٍ آخَرَ مِن قَلبِه في حالةٍ واحدةٍ ، فلَو لَم يَكُنِ العِلمُ يوجِبُ للجُملةِ (4) حالاً، لَما وجبَ ذلكَ . كما لَم يَستَحِلْ وجودُ السوادِ و البياضِ في جُزءَينِ مِن قَلبِه، لمّا لَم يُوجِبا للجُملةِ حالتَين مُتَضادّتين(5).
فأمّا الذي يُدَلُّ به علَى القِسم الثاني(6) - و هو أنّ العِلمَ (7) بأنّه عالِمٌ يَتعلَّقُ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ - فهو(8) أنّ أحَدَنا يَجِدُ نفسَه مُعتَقِداً باضطرارٍ، و يَتأمَّلُ حالَه في سُكونِ نَفسِه إلى المُعتَقَدِ، فيَعلَمُ أنّه عالِمٌ . و ما يَجِدُ نَفسَه عليه هو ما يَختَصُّ به مِن الحالِ الراجعةِ إليه.
ص: 331
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ ذلكَ يَتعلَّقُ بالعِلمِ الحالِّ في قَلبِه.
علىٰ أنّ (1) حُكمَ ذلكَ العِلمِ مِن حَيثُ حَلَّ قَلَبَه، حُكمُ سائرِ المَعاني الحالّةِ ؛ مِن سَوادٍ و بَياضٍ و غَيرِهما، و إن خالَفَ العِلمُ هذه المَعانِيَ مِن حَيثُ كانَ موجِباً للجُملةِ حالاً.
فثَبَتَ بذلكَ أنّ عِلمَه تَعلَّقَ بما هو عليه مِنَ الحالِ ، و هذا يَقتَضي أنّ معلومَ العِلمِ بأنّ العالِمَ عالِمٌ في كُلِّ مَوضِعٍ ، كَونُه علىٰ هذه الحالِ المخصوصةِ ؛ لأنّ معلومَ العِلمِ لا يَختَلِفُ باختلافِ (91) العالِمينَ .
و ممّا يَدُلُّ على ذلك: أنّ العِلمَ يَتعلَّقُ بالمعلومِ علىٰ حَدِّ تَعَلُّقِ الدَّلالةِ ، و قد بَيَّنّا(2)أنّ الفِعلَ المُحكَمَ إنّما يَدُلُّ علىٰ كَونِ مَن صَحَّ مِنه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ ، و أنّه(3) لا يَدُلُّ علَى العِلمِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ العِلمُ بأنّه عالِمٌ مُطابِقاً(4) لهذا الوجهِ ؛ لوُقوعِ العِلمِ مَوقِعَ الدَّلالةِ في هذا البابِ .
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ ، لا يَخلو مِن أن يَكونَ : مُتعلِّقاً بعِلمِه، أو مُتعلِّقاً بأنّه على حالٍ مخصوصةٍ ، أو مُتعلِّقاً بمُجرَّدِ ذاتِه.(5)
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ مُتعلِّقاً بعِلمِه؛ لِما تَقدَّمَ (6) مِن أنّا نَستَدِلُّ و نَتوصَّلُ إلىٰ كونِه عالِماً بالفِعلِ المُحكَمِ الذي يَقَعُ مِن الجُملةِ دونَ أبعاضِها، فيَجِبُ أن يَكونَ
ص: 332
دالاًّ علَى اختصاصِ الجُملةِ بما لَيسَ لِمَن يَتَعذَّرُ(1) ذلكَ عليه. و لَيسَ الفِعلُ واقعاً مِن العِلمِ ، و لا مِن مَحَلِّهِ ، و لا تَعلُّقَ بَينَه و بَينَ الفِعلِ المُحكَمِ الذي به يُستَدَلُّ و مِن جهتِه يُعلَمُ . و إذا لَم يَدُلَّ الفِعلُ علَى العِلمِ ، فكذلكَ العِلمُ بأنّه عالِمٌ لا يَتعلَّقُ بالعلمِ ؛ لوجوبِ تَطابُقِ الأمرَينِ .
و أيضاً: فكيفَ يكونُ العِلمُ بأنّه عالِمٌ مُتعلِّقاً بالعِلمِ ، و قد يَعلمُهُ (2) عالِماً مَن لا يَعلَمُ عِلمَه؛ لا علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تفصيلٍ ، كالنظّامِ (3)، و جَميعِ مَن نَفَى الأعراضَ؟
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : مِثلُ هذا يَلزَمُكُم إذا قُلتُم: إنّ العِلمَ بأنّ الأسوَدَ أسوَدُ عِلمٌ بسَوادِه.
ص: 333
و ذلكَ : أنّ السواد مُدرَكٌ ، و كُلُّ مَن شاهَدَ الأسوَدَ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُدرِكاً لسَوادِه، و عالِماً به علىٰ جهةِ الجُملةِ . و نُفاةُ الأَعراضِ يَعلَمونَ السوادَ علَى الجُملةِ ، و إنّما يَجهَلونَ كَونَه غَيراً لِلمَحَلِّ ، و هذا يَرجِعُ إلى التفصيلِ . و مِثلُ هذا لا يُمكِنُ [في] العِلمِ ؛ لأنّه غَيرُ مُدرَكٍ . فلا وَجهَ يوجِبُ القولَ بأنّ مَن عَلِمَ العالِمَ عالِماً، لا بُدَّ مِن أن يَعلَمَ عِلمَه على جُملةٍ ، لا(1) على تفصيلٍ .
على أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ لو كانَ مُتعلَّقُه العِلمَ الذي به كانَ [العالِمُ ] عالِماً، لاستَحالَ أن يُعلَمَ عالِماً مَن لا عِلمَ له يَعلَمُ به الأشياءَ . و كانَ يَجِبُ استحالةُ العِلمِ بالقَديمِ تَعالىٰ عالِماً، و في صحّةِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ فَسادِ هذا القولِ .
و ليسَ يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ يَتعلَّقُ بما له كانَ عالِماً، فمتىٰ عُلِم أحَدُنا عالِماً تَعلَّقَ العِلمُ بعِلمِه. و إذا عُلِمَ القَديمُ تَعالىٰ عالِماً كانَ العِلمُ مُتعلِّقاً بذاتِه.
لأنّ هذا يوجِبُ أنّ مدلولَ الدَّلالةِ يَختَلِفُ ، و هذا يؤَدّي مِن الفَسادِ إلىٰ ما لا خَفاءَ به.
فإن قيلَ : و لِمَ أنكَرتُم أن يَكونَ مُتعلَّقُ العِلمِ بأنّ العالِمَ عالِمٌ ، هو أنّ له معلوماً، و العِلمِ بأنّه قادرٌ(2) أنّ له مقدوراً؟
قُلنا: هذا يَبطُلُ بالعِلمِ بأنّه حَيٌّ موجودٌ؛ لأنّ هاتَينِ الصفتَينِ لا تَعلُّقَ لهما فيُقالَ فيهما ما قيلَ في عالمٍ و قادرٍ.
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ العِلمَ بأنّه حَيٌّ موجودٌ عِلمٌ بذاتِه؛ لأنّه قَد يَعلَمُ ذاتَه مَن
ص: 334
لا يَعلَمُه(1) كذلكَ .
فلاُ بدَّ مِن الرجوعِ إلىٰ أنّ ذلكَ عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ ، بانَ (2) بها ممّن لَيسَ كذلك.
و إذا صَحَّ ما ذَكَرناه في كونِه حَيّاً موجوداً، صَحَّ في كونِه عالِماً و قادِراً؛ لأنّا قد دَلَّلنا على أنّ له بهذه الصفاتِ كُلِّها أحوالاً. و إذا صَحَّ تَعلُّقُ العِلمِ بكَونِ الذاتِ علىٰ بعضِها، صَحَّ العِلمُ بكونِه علَى الجميعِ ؛ لأنّ مَن خالَفَ في الأحوالِ و تَعلُّقِ العِلمِ ب [كَونِ ] الذاتِ عليها، خالَفَ (3) في البعضِ و الكُلِّ .
علىٰ أنّ «العِلمَ بأنّه عالِمٌ » لَو لَم يَكُن عِلماً(4) باختصاصِه (92) بحالٍ ، لَم يَكُنِ المعلومُ بأن يَكونَ معلوماً له أَولى مِن غَيرِه، و كذلكَ المقدورُ. و لا كُنَّا بأن نَعلَمَه(5)معلوماً له أَولى مِن أن نَعلَمَه معلوماً لغَيرِه؛ [إذ](6) كانَ الرُّجوعُ في ذلكَ إنّما هو إلى ذاتِ العالِمِ و المعلومِ .
علىٰ أنّ القولَ بذلكَ يوجِبُ إذا عَلِمناهُ تَعالىٰ عالِماً بكُلِّ المعلوماتِ علَى التفصيلِ ، أن نَكونَ (7) عالِمينَ بمعلوماتٍ لا نِهايةَ لها علىٰ هذا الوجهِ ، و ذلكَ مُحالٌ .
علىٰ أنّا قد نَعلَمُ المقدوراتِ و المعلوماتِ ، و لا نَعلَمُه عالِماً قادراً، فكيفَ يَكونُ العِلمُ بالمعلومِ و المقدورِ عِلماً بأنّه عالِمٌ قادرٌ؟
ص: 335
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : قد أسقَطتُم الإضافةَ المراعاةَ ؛ لأنّا إنّما قُلنا: إنّ العِلمَ بأنّه عالِمٌ ، عِلمٌ بأنّ له معلوماً، و كذلكَ في المقدورِ.
و ذلكَ : أنّ هذه الإضافةَ بقَولِهم له لا تُعقَلُ (1) إذا لَم يَرجِعْ إلّاإلىٰ وجودِ ذاتِه و ذاتِ المعلومِ ، و إنّما يكونُ لها فائدةٌ إذا أثبَتوا صفةً أو حالاً، و لهذا قيلَ : إنّه لو ثَبَتَ فيه تَعالىٰ أنّه عالِمٌ بعِلمٍ ، لَوجبَ أن يَكونَ «العِلمُ بأنّه عالِمٌ بهذا العِلمِ » عِلماً باختصاصِه لأجلِ هذا العِلمِ بما لَم يَحصُل لغَيرِه؛ لأنّا إن لَم نَرجِعْ إلّاإلىٰ وجودِ العِلمِ و وجودِ ذاتِه تَعالىٰ ، بَطَلَ الاِختصاصُ ، و أنّه بهذا العِلمِ عالِمٌ دونَ غيرِه.
على أنّ من أجرىٰ بهذا الكلامِ إلىٰ إبطالِ تَعلُّقِ العِلمِ بالذاتِ علَى الأحوالِ ، لا يَجِدُ حيلةً إذا قيلَ له: قد تَعلَمُ السوادَ سواداً و موجوداً(2) و مُحدَثاً و باقياً و حَيّاً، و قد عَلِمنا اختلافَ هذه العلومِ ، و أنّ بعضَها لا يَسُدُّ مَسَدَّ بعضٍ .
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّها عُلومٌ بمُجرَّدِ ذاتِه أنّها ذاتٌ ، و لا أنّها عُلومٌ بمتعلَّقِ (3) هذه الصفاتِ .
لأَنَّه لا تَعلُّقَ لها، فيَجِبُ أن تَكونَ (4) عُلوماً ب [كَونِ ] الذاتِ علىٰ هذه الأحوالِ .
و إذا صَحَّ ذلك في السوادِ و الجَوهرِ و غَيرِها مِن الذواتِ ، صَحَّ في القَديمِ
تَعالىٰ ، و في كُلِّ المَعلوماتِ المُختَصّةِ بالأحوالِ و الصفاتِ .
و لا يَجوزُ أن يَكونَ «العِلمُ بأنّ العالِمَ عالِمٌ » عِلماً بمُجرَّدِ ذاتِه؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ القولَ بأنّ كُلَّ مَن عَلِمَ ذاتَه فقَد عَلِمَه عالِماً، و يوجِبُ أنّ الجَهلَ بأنّه عالِمٌ جَهلٌ بذاتِه.
ص: 336
و كانَ يجِبُ أن لا تَختَلِفَ (1) العُلومُ المُتعلِّقةُ بأنّه عالِمٌ قادرٌ حَيٌّ ؛ لأنّ التعلُّقَ على هذا القولِ لا يَختَلِفُ .
و كانَ يَجِبُ أن يَسُدَّ بعضُها مَسَدَّ بعضٍ .
و كُلُّ ذلك ظاهرُ الفَسادِ.
فثَبَتَ صحّةُ ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ العِلمَ بذلك مُتعلِّقٌ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ .
[1.] أنّ مِن شأنِ الوَصفِ المُشتَقِّ مِن حادثٍ مِن الحَوادثِ أن(2) لا يُخبِرَ به(3) و لا يَعلَمَه إلّامَن عَلِم ذلكَ الأمرَ الذي هو مُشتَقٌّ مِنه؛ إمّا علىٰ جُملةٍ أو تفصيلٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ وَصفَ الفاعلِ بأنّه فاعلٌ ، لمّا كانَ مُشتَقّاً مِن الفِعلِ ، لَم يَجُز أن يَعلَمَه و يُجريَ هذا الوَصفَ إلّامَن عَلِمَ الفعلَ علَى الجُملةِ أو علَى التفصيلِ . و كذلك وَصفُ الأسوَدِ بأنّه أسوَدُ لمّا كانَ مُشتَقّاً مِن السوادِ. و قد عَلِمنا أنّه قد يَعلَمُ العالِمَ عالِماً مَن لا يَعلَمُ العِلمَ علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تَفصيلٍ ، بل قد يَعلَمُ ذلكَ مَن يَنفِي العُلومَ ، بل كُلَّ المعاني!
[2.] علىٰ أنّ الوَصفَ المُشتَقَّ هو إفادةُ المعنَى المُشتَقِّ مِنه، حتّىٰ تَكونَ حقيقتُه إفادةَ ذلكَ دونَ غَيرِه، علىٰ حدِّ ما ذَكَرناه في الأسوَدِ و الفاعِلِ ، و قد بيّنّا(4) أنّ حقيقةَ كَونِ العالِمِ عالِماً و فائدتَه لَيسَت وجودَ العِلمِ ، بل الفائدةُ كَونُه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ لأجلِها صَحَّ منه المُحكَمُ مِن الفِعلِ .
ص: 337
[3.] على أنّ مِن حَقِّ الوَصفِ المُشتَقِّ مِن غَيرِه (93) أن يَتقدَّمَه العِلمُ بما هو مُشتَقٌّ مِنه، ثُمّ يَتبَعَه(1) الوَصفُ المُشتَقُّ بذلكَ علىٰ سائرِ الأوصافِ المُشتَقّةِ ؛ كقَولِنا:
«أسوَدُ» و «فاعلٌ » و غَيرِهما. فكانَ (2) يَجِبُ أن يَعلَمَ العِلمَ أوّلاً، ثُمّ يَعلَمَ أنّه عالِمٌ و يَصِفَه بذلكَ ، و هذا عَكسُ الأمرِ؛ لأنّا نَعلَمُ أوّلاً كَونَه عالِماً ثُمّ نَستَدِلُّ علَى العِلمِ ، على ما تَقدَّمَ ذِكرُه.
[4.] و بَعدُ، فمَن رَجَعَ في اشتقاقِ «عالِم» مِن «عِلم» إلىٰ ظاهرِ اللُّغةِ ، يَلزَمُه أن يَكونَ كُلُّ مَوجودٍ مَوجوداً(3) بوجودٍ؛ لأنّ اسمَ «المَوجود» عندَهم مُشتَقٌّ من «الوجود»، و ما نَقولُه في ذلكَ يُقالُ له في «العِلم».
علىٰ أنّ لقَولِهم: «عالِمٌ مُشتَقٌّ مِن العِلمِ » معنىً صحيحاً؛ لأنّهم يُريدونَ هاهنا
بالعِلمِ المُفارَقةَ التي عَقَلوها(4)، و دَلَّ الدليلُ عليها، و هي التي تَتبَعُها(5) أجزاءُ الوَصفِ ؛ لأنّهم لا يَعرِفونَ المعنَى الحالَّ في القَلبِ و لا يَعقِلونَه و لا يَظهَرُ لهم؛ فكَيفَ يَشتَقّونَ ، و يَجعَلونَ الوَصفَ بالعِلمِ تابعاً له ؟
و كذلكَ القولُ في المُتحرِّكِ ؛ و الحركةُ عندَهم عبارةٌ عن المُفارَقةِ ، و الحالِ المعقولةِ دونَ الذاتِ الحالّةِ في الجَوهرِ المعلومةِ بالدليلِ .
و علىٰ هذا يَجري مَجرىٰ قولِهم: «إنّ المَوجودَ مُشتَقٌّ مِنَ الوُجودِ»، و إنّما يَعنونَ المُفارَقةَ بَينَ الثابِتِ و المُنتَفي، و لهذا يَقولونَ : «فلانٌ لا عِلمَ له بكذا»، و «لا قُدرَةَ
ص: 338
له عليه»، و «له عِلمٌ بكذا»، و إنّما يَعنونَ إثباتَ المُفارَقةِ ، و الحالِ دونَ الذاتِ .
و نَحنُ لا نُنكِرُ حُصولَ هذا المعنىٰ و هذه الفائدةِ في كُلِّ عالِمٍ اُجرِيَ عليه هذا الوصفُ و استَحَقَّه.
[1.] أنّ المَعانيَ لا يَصِحُّ (1) التوصُّلُ إليها بإطلاقِ العباراتِ ، بل الواجِبُ أن تَثبُتَ (2)المَعاني بالأدلّةِ ، ثُمّ تُجرَى العِباراتُ . و المَرجِعُ في أنّ «وَصفَ العالِمِ بأنّه عالِمٌ إثباتٌ » إلىٰ أهلِ اللُّغةِ ، و لا حُجّةَ في قولِهم(3) متىٰ لَم يَصدُرْ عن عِلمٍ ؛ فإن كانوا عَلِموا معنىً أثبَتوه ضَرورةً ، فكانَ (4) يَجِبُ أن نُشارِكَهم فيه، و إن كانوا(5) أثبَتوه بدَليلٍ ، فيَجِبُ أن تُذكَرَ تِلك الطريقةُ الدالّةُ ، و لا نَعتَمِدُ علىٰ عبارتِهم التي لا حُجّةَ فيها.
[2.] علىٰ أنّ الإثباتَ في أصلِ اللُّغةِ هو «الإيجادُ»، و لهذا يُسَمّونَ الموجودَ بأنّه «ثابِتٌ »، و المَعدومَ بأنّه «مُنتَفٍ ». و هو يَجري عندَهم - في أنّه عبارةٌ عمّا يَكونُ الشيءُ به ثابتاً - مَجرَى التحريكِ الذي يَكونُ به الشيءُ مُتحرِّكاً، و التسويدِ الذي يَكونُ (6) الشيءُ به أسوَدَ، ثُمّ تُجُوِّزَ(7) باستعمالِه في الخَبَرِ عن ثُبوتِ الشيءِ
ص: 339
و وُجودِه(1)، كما استَعملوا قولَهم: «نَفيٌ » في الخَبرِ عن انتفاءِ الشيءِ ، و علىٰ هذا يَقولونَ : «هؤلاءِ نُفاةُ الأعراضِ ، و هؤلاءِ مُثبِتوها».
و إذا كانَ قَولُنا: «عالِمٌ » ليسَ بإيجادٍ، و لا خَبَرٍ عن إيجادٍ، لَم يَكُن إثباتاً.
[3.] و ليسَ يَمتَنِعُ أن يَكونَ قَولُنا: «عالِمٌ » إثباتاً(2) - مِن طريقِ المعنىٰ - لذاتِ العالِمِ ؛ مِن حَيثُ عَلِمنا بالدليلِ أنّه لا يَكونُ علىٰ هذه الصفةِ إلّاو هو موجودٌ، إلّاأنّه
لا يَلزَمُ علىٰ ذلك أن يَكونَ قَولُنا: «لَيسَ بعالِمٍ » نفياً لذاتِه مِن طريقِ المعنىٰ ؛ لأنّه لا يَمتَنِعُ وجودُه و إن لم يَكُن عالِماً، ففارَقَ الأوَّلَ .
[4.] علىٰ أنّا إن تابَعنا أهلَ اللُّغةِ في أنّ هذا الوَصفَ إثباتٌ ، و صَحَّحنا هذه الحكايةَ عَنهم، جازَ أن نَحمِلَ ذلكَ علىٰ أنّه إثباتٌ لكَونِ الذاتِ علَى الحالِ المخصوصةِ ، و النفيُ لِكَونِه(3) عالِماً يَكونُ نفياً لحُصولِه علىٰ هذه الحالِ .
[5.] علىٰ أنّ مَن حَكَوا عنه مِن أهلِ اللُّغةِ في «عالِمٍ » أنّه إثباتٌ ، يَقولُ في قولِنا:
«عِلمٌ » و «سَوادٌ» و «قُدرةٌ » مِثلَ ذلك، فيَجِبُ أن يُثبِتوا علىٰ هذا مَعانِيَ لا تَتَناهىٰ ، و قد بُيِّنَ في غَيرِ موضِعٍ أنّه لا مُعتَبَرَ برُتبةِ الألفاظِ و صُوَرِها.
(94)
[1.] أنّ التوصُّلَ (4) بالأمرِ إلىٰ إثباتِ معنىً إذا كانَ صحيحاً، وجبَ أن يَختَصَّ بمَن يَصِحُّ أن يؤمَرَ، و القَديمُ تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يؤمَرَ بأن يَعلَمَ ، فيَجِبُ أن لا يَكونَ عالِماً
ص: 340
بعِلمٍ ؛ لأنّ الطريقةَ التي أثبَتوا بها العِلمَ لا تَتَأتّىٰ (1) فيه.
و لَيسَ لهم أن يَقولُوا: معنَى الأمرِ يَصِحُّ فيه تَعالى، و إن امتَنَعَ مِن اللفظِ لأجلِ اعتبارِ الرُّتبةِ ؛ لأنّا قد نَسألُه و نَدعوه، و في الدُّعاءِ و السؤالِ معنَى الأمرِ.
و ذلكَ : أنّه لا يَجوزُ أن نَسألَه أن يَعلَمَ ؛ لأنّ السؤالَ لا يَحسُنُ في أمرٍ حاصلٍ واجِبٍ ، و إنّما يَحسُنُ فيما لَيسَ بحاصلٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَحسُنُ أن نأمُرَ(2) غَيرَنا بأن يَعلَمَ (3) وجودَ نفسِه و ما أشبَهَ ذلكَ ممّا نَعلَمُ (4) كَونَه عالِماً به ؟
[2.] علىٰ أنّ أمرَنا غَيرَنا بأن يَعلَمَ ، كما يَدُلُّ علىٰ أنّه عالِمٌ بعِلمٍ ، فهو أيضاً يَدُلُّ علىٰ أنّ عِلمَه فِعلُه و حادثٌ مِن جهتِه، فيَجِبُ أن يُثبِتوا مِثلَ ذلكَ في كُلِّ عالِمٍ !
[3.] علىٰ أنّ الأمرَ إذا كانَ لا يَتعلَّقُ إلّابالأحداثِ ، فأمرُ المأمورِ أن يَعلَمَ مَبنيٌّ علىٰ أنّه عالِمٌ بعِلمٍ يُحدِثُه، فيَجِبُ علىٰ هذا أن لا نَأمُرَ بأن يَعلَمَ (5) إلّامَن عَلِمناه عالِماً بعِلمٍ حادثٍ . و كَيفَ يَكونُ الأمرُ دَلالةً علَى العِلمِ و مُتوصَّلاً به إلىٰ إثباتِه، و مِن شرطِ حُسنِه(6) تَقدُّمُ العِلمِ بأنّ المأمورَ عالِمٌ بعِلمٍ؟!
[4.] و قد أَجَببُ عن هذه الشُّبهةِ بأنّ الأمرَ أو الإرادةَ لا يَجِبُ تَعلُّقُها بذاتٍ حادثةٍ ، بَل يَكفي في حُسنِ الأمرِ أن نَعلَمَ أنّ هُناكَ حالاً مُتجدِّدةً يَتَناوَلُها(7)
ص: 341
الأمرُ، و لهذا نأمُرُ نُفاةَ الأعراضِ بالحركةِ و الضربِ ، و إن لَم يُثبِتوا المَعانيَ فيما ذَكَرناه كتَجدُّدِ الذاتِ . و علىٰ هذا لا يَكونُ حُسنُ الأمرِ دَلالةً علَى العِلمِ في شاهدٍ و لا غائبٍ .
فأمّا المَدحُ فهو علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: يَجري مَجرَى الثوابِ .
و الآخَرُ: يَتضمَّنُ الإعظامَ و لا يَجري مَجرَى الثوابِ .
و الأوّلُ : لا يَتعلَّقُ إلّابما يَفعَلُه الممدوحُ ، و علىٰ هذا الوَجهِ لا يُمدَحُ أحَدُنا بأنّه عالِمٌ ، إلّابَعدَ أنْ يُعلَم أنّه فَعَلَ العِلمَ .
و الوجهُ الثاني: لا يَجِبُ أن يَتعلَّقَ بالأفعالِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا نَمدَحُ العاقِلَ بأنّه عاقِلٌ و إن لَم يَكُن عاقلاً بفِعلِه، و نَمدَحُه تَعالىٰ بأنّه عالِمٌ و إن لَم يَكُن فاعلاً لشَيءٍ كانَ به عالِماً؟!
فأمّا حَملُ الخَبَرِ عن كَونِه عالِماً علَى الأمرِ فباطلٌ ؛ لأنّ الأمرَ لا يَتعلَّقُ إلّابالأحداثِ ، و الخَبَرُ يَتَناوَلُ الحادِثَ و غَيرَ الحادِثِ . و الخَبَرُ عن كَونِ العالِمِ عالِماً إنّما يَتعلَّقُ باختصاصِه بحالٍ ، و يَجرِي الخَبَرُ إذا كانَ صِدقاً في تَعلُّقِه مَجرَى الدَّلالةِ .
و العِلمُ لا يَجري مَجرَى الأمرِ، و هو إن كانَ ، يَحتاجُ إلى الإرادةِ ، كما يَحتاجُ الأمرُ إليها، فبَينَهما فَصلٌ : مِن حيثُ كانَ الأمرُ يَحتاجُ إلى إرادةِ المأمورِ به، و الخَبَرُ يحتاجُ إلى إرادةٍ تَتعلَّقُ (1) بكَونِه خَبَراً، و لا تَتعلَّقُ بالمُخبَرِ عنه. و هذا بَيِّنٌ لِمَن تَأمَّلَه.
ص: 342
قد دَلّلنا(1) علىٰ وُجوبِ هذه الصفاتِ له تَعالىٰ ، و رُجوعِها إلىٰ ذاتِه(2)، و الصفاتُ الذاتيّةُ لا يَجوزُ خُروجُ الموصوفِ عنها؛ لأنّ المُقتَضيَ لها لَيسَ بأن يَقتَضيَها في حالٍ بأَولىٰ مِن أن يَقتَضيَها في كُلِّ حالٍ .
على أنّ الصفةَ الذاتيّةَ لَو حَصَلَت في حالٍ دونَ أُخرىٰ ، لَوجبَ أن تَكونَ (3) الذاتُ في الحالِ التي حَصَلَت لها تِلكَ (95) الصفةُ ، مُخالِفةً لنفسِها في الحالِ التي
[لَم] تَحصُلْ (4) لها تلك الصفةُ ؛ لأنّ ما لا يَستَحِقُّ الصفةَ الذاتيّةَ [إنّما كانَ ] مُخالِفاً لِما يَستَحِقُّها مِن حَيثُ نَفيِ الاستِحقاقِ ، لا مِن حَيثُ كانَ غَيراً له؛ لأنّ الغَيريّةَ تَثبُتُ بالمُماثلةِ و المُخالَفةِ .
و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه، و كانَ كَونُه موجوداً تَقتَضيهِ (5) صفةُ ذاتِه، وجبَ في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُعلَّقَ بشرطٍ كما يُعلَّقُ غَيرُه به. و ما عَدا الوجودِ(6)مِن صفاتِه المُقتَضاةِ عن ذاتِه، لا يتعلّقُ حُصولُه إلّابالوجودِ، لا الشرطِ في
ص: 343
مُقتَضىٰ (1) صفةِ الذاتِ . و قد بيّنّا أنّ الوجودَ واجِبٌ في كُلِّ حالٍ ، فَيَجِبُ أن يَكونَ كونُه قادِراً عالِماً حيّاً، واجباً في كُلِّ حالٍ .
علىٰ أنّ العِلمَ بصحّةِ نَقلِ الجَوهرِ في الجِهاتِ مع تَحيُّزِه ضَروريٌّ ، و ما أدّىٰ إلَى المَنعِ مِن ذلكَ يَجِبُ القَضاءُ بفَسادِه. و في تَجويزِ خُروجِه عن كَونِه قادِراً ما يُؤدّي إلىٰ ذلكَ ؛ لأنّ غَيرَه من القادِرينَ لا شُبهةَ في صحّةِ خُروجِهم مِن كَونِهم قادِرينَ ، فلَو لَم يَجِبْ كَونُه قادِراً في كُلِّ حالٍ ، ما صَحَّ تَنقُّلُ الجَوهرِ في الجِهاتِ - إذا كان مُتحيِّزاً - في كُلِّ حالٍ .
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الجواهرَ تَنتَهي بها الحالُ إلىٰ وجوبِ عدمِها، فلا يَحصُلُ التحيُّزُ المُصَحِّحُ لِلتنقُّلِ .
و ذلكَ : أنّ ما تَعَدّىٰ وجودُه الوَقتَ الواحدَ لَم تَنحَصِرْ أوقاتُ صحّةِ وجودِه؛ لأنّه لا مُقتَضيَ للحَصرِ، و الجَوهرُ يوجَدُ [في] الأوقاتِ الكثيرةِ ، فلا يُمكِنُ أن يُدّعىٰ وجوبُ عدمِه.
و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه مِن وُجوبِ كَونِه قادراً في كُلِّ حالٍ ، وجبَ كَونُه حَيّاً موجوداً؛ لِتَعلُّقِ تلكَ الصفةِ بهاتَينِ الصفتَينِ .
و يُمكِنُ أن يُقالَ في استحالةِ خُروجِه مِن كَونِه عالِماً مِثلُ ما قُلناه في كَونِه قادراً؛ لأنّ العِلمَ بصحّةِ وقوعِ الحركةِ مُترتِّبةً في كُلِّ حالٍ يُشارُ إليها، كالعِلمِ بصحّةِ تَنقُّلِ الجَواهرِ إذا كانَت مُتحيِّزةً ، فيَجِبُ القَضاءُ باستحالةِ خُروجِه مِن كَونِه عالِماً بمِثلِ ما ذَكَرناه.
ص: 344
فإن قيلَ : ألّاجَوَّزتُم كَونَه جاهلاً ببعضِ المعلوماتِ ممّا لَم يَكُن قَطُّ عالِماً به ؟ و كذلكَ [أن] يَكونَ (1) عاجزاً عن بَعضِ الأُمورِ ممّا لَم يَكُن قادراً عليه ؟ و هذا لا يَفسُدُ بما ذَكَرتُموه.
قُلنا: لَيسَ يَخلُو ذلكَ الأمرُ الذي ادُّعيَ أنّه عاجِزٌ عنه، مِن أن يَكونَ : ممّا يَصِحُّ
كَونُه مقدوراً له، أو ممّا(2) لا يَصِحُّ ذلكَ فيه:
فإن كانَ الأوّلَ : وجبَ كونُه قادراً عليه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه مِن حَيثُ كان قادراً لنفسِه، [وَجَبَ ] أن يَكونَ قادراً على كُلِّ ما صَحَّ كَونُه مقدوراً له، و أنّ صفةَ النفسِ تَجِبُ عندَ الصحّةِ ، فلَو جازَ عليه العَجزُ مع ذلكَ ، لَوجبَ أن يَكونَ قادراً علَى الشيءِ عاجِزاً عنه في حالٍ واحدةٍ .
و إن كانَ ذلكَ ممّا لا يَصِحُّ كَونُه قادراً عليه فما لا يَصِحُّ القُدرةُ عليه لا يَصِحُّ العَجزُ عنه؛ ألا تَرىٰ أنّا لا نَصِفُ أحَدَنا بأنّه عاجزٌ عن الجمعِ بين الضِّدَّينِ ، و لا عاجِزٌ عن مقدورِ غَيرِه ؟ و لهذا لَم نَصِفِ الأعراضَ و المعدوماتِ بأنّها عاجزةٌ ؛ مِن حَيثُ استَحالَ كَونُها قادرةً .
و القولُ في كَونِه جاهلاً يَجري علىٰ هذا؛ لأنّه إن كانَ ذلك الأمرُ ممّا يَصِحُّ كَونُه معلوماً لَه، وجبَ أن يَكونَ عالِماً به؛ لِما بيّنّاه مِن كَونِه عالِماً لِما هو عليه في نفسِه، و أنّ ما صَحَّ أن يَعلَمَه(3) يَجِبُ أن يَعلَمَه، و إذا وجبَ أن يَعلَمَه لَم يَجُز الجَهلُ عليه.
ص: 345
و إن كانَ ما(1) لا يَصِحُّ أن يَكونَ معلوماً، لَم يَجُز أن يَكونَ مجهولاً؛ لأنّ ما لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ لا يَصِحُّ أن يُجهَلَ ، على النحوِ الذي ذَكَرناه في صفةِ القادرِ، و بيّنّا أنّه يؤَدّي (96) إليه.
علىٰ أنّه لو جازَ عليه - تَعالىٰ عن ذلكَ عُلُوّاً كَبيراً - الجَهلُ ببعضِ المعلوماتِ :
لَم يَخلُ [من] أن يَكونَ جاهلاً به لنفسِه(2)؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَ شيئاً مِن المعلوماتِ ، و لا يَصِحَّ مِنه المُحكَمُ مِن الفِعلِ و لا العلومُ .
و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ جاهلاً بكُلِّ ما يَصِحُّ أن يُجهَلَ علىٰ كُلِّ وَجهٍ يَصِحُّ أن يُجهَلَ عليه.
و كانَ يَجِبُ أن يَكونَ مُعتَقِداً كَونَ الحُمرةِ سَواداً حُموضةً ، و هذا جَهلٌ ، مع كَونِه مُعتَقدِاً لأنّ الحُموضةَ تُضادُّ السوادَ، و هذا جَهلٌ ثاني(3)، و قد عَلِمنا استحالةَ اعتقادِ ذلكَ .
و كانَ يَجِبُ أن يَعتَقِدَ في البَقاءِ أنّه باقٍ ؛ لأنّ ذلك جَهلٌ ، و يَعتَقِدَ فيه أنّه لَيسَ بباقٍ ، و ذلك أيضاً جَهلٌ ! و هذا يَقتَضي كَونَه علىٰ صفتَينِ مُتَضادَّتَينِ .
و لا يَجوزُ أن يَكونَ جاهلاً بجَهلٍ قَديمٍ ؛ لِما بَيّنّاه في فَسادِ كَونِه عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ (4)، و لا بجَهلٍ مُحدَثٍ مع كَونِه عالِماً بنفسِهِ ؛ لأنّه يَقتَضي أن يكونَ جاهلاً بنَفسِ ما يَعلَمُه، و ذلكَ مُحالٌ .
ص: 346
ص: 347
ص: 348
اعلَمْ أنّ الحاجةَ إنّما تَتَعلَّقُ باجتلابِ المَنافعِ أو دَفعِ المَضارِّ. و «المَنافِعُ » هي اللَّذّاتُ و السُّرورُ و ما أدّىٰ إليهما أو إلىٰ أحَدِهما، إذا لَم يُعَقِّبْ ضَرراً يوفي علىٰ ذلكَ . و «المَضارُّ» هي الآلامُ أو الغُمومُ و ما يُؤَدّي إليهما أو إلىٰ أحَدِهما، إذا لَم يُعَقّبْ نَفعاً أعظَمَ منه. و «المُلتَذُّ» إنّما يَكونُ مُلتَذّاً بإدراكِ ما يَشتَهيه، و «الآلِمُ » يَكونُ (1) آلِماً بإدراكِ ما يَنفِرُ عنه.
و «المَسرورُ» إنّما يُسَرُّ بأن يَعلَمَ أو يَعتَقِدَ أو يَظُنَّ وصولَ نفعٍ إليه، أو اندفاعَ ضررٍ عنه، و أنّ (2) ذلكَ سَيَكونُ . و «المُغتَمُّ » يوصَفُ بذلكَ إذا عَلِمَ أو اعتَقَدَ أو ظَنَّ وصولَ ضررٍ إليه، أو فَوتَ نفعٍ حاصلٍ ، و أنّ ذلكَ سَيَكونُ .
فمَن لا يَجوزُ عليه الشَّهوَةُ و النِّفارُ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُلتَذّاً و لا آلِماً، و مَن لا يَجوزُ عليه اللَّذّةُ و الألمُ لا يَجوزُ عليه المَنافِعُ و المَضارُّ، و ما يَجري مَجراها
ص: 349
مِن السُّرورِ و الغَمِّ . و مَن لا يَجوزُ عليه المَنافِعُ و المَضارُّ، انتَفَتِ الحاجةُ عنه و كان غَنيّاً؛ لأنّ الغَنيَّ هو الحَيُّ الذي(1) لَيسَ بمُحتاجٍ .
و الذي يَدُلُّ على أنّ الشَّهوَةَ لا تَجوزُ علَى القَديمِ تَعالىٰ ، أنّها لَو جازَت، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ مُشتَهِياً بنفسِه، أو بشَهوةٍ قَديمةٍ ، أو مُحدَثةٍ .
فلو كانَ كذلكَ لنفسِه أو لمعنىً قَديمٍ ، لَوجبَ أن يَكونَ مُلجَأً(2) إلىٰ خَلقِ المُشتَهىٰ ، فكانَ يَجِبُ مِن ذلكَ أن يَكونَ فاعلاً لِأزيَدَ مِن كُلِّ قَدرٍ فَعَلَه. و يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ فاعلاً قَبلَ أن فَعَلَ ، و كانَت أفعالُه مِن المُشتَهَياتِ لا تَستَقِرُّ(3) علىٰ قَدرٍ بعَينِه، و لا وَقتٍ بعَينِه.
و لَو كانَ مُشتَهِياً بشَهوةٍ مُحدَثةٍ ، لَوجبَ أن تَكونَ (4) [شَهوَتُه](5) مِن فِعلِه، و أن يكونَ في حُكمِ المُلجَإ إلىٰ فِعلِها و فِعلِ (6) المُشَتهىٰ جميعاً.
و ليسَ يَجوزُ أن يَكونَ نافِراً؛ [إذ](7) لا يَخلو لَو جازَ ذلكَ مِن أن يَستَحِقَّ تلك الصفةَ لنفسِه، أو لمعنىً قديمٍ ، أو لمعنىً مُحدَثٍ .
ص: 350
و لا يَجوزُ أن يَكونَ نافِراً لنفسِه؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ نافِراً عن جميعِ
المُدرَكاتِ ، و كان يَجِبُ أن لا يَخلُقَ مِنها شيئاً، و قَد عَلِمنا خِلافَ ذلك.
و أن(1) يَجوزَ أن يَكونَ [نِفارُه] مِن جنسِ ما فينا مِن النِّفارِ؛ لأنّ تَعلُّقَها واحِدٌ، و ذلكَ يَقتَضي التَّماثُلَ ، و المِثلانِ لا يَكونُ أحَدُهما قَديماً و الآخَرُ مُحدَثاً.
علىٰ أنّا قَد بيّنّا أنّه لا يَجوزُ إثباتُ قَديمٍ تُخالِفُ صفتُه صفةَ اللّٰهِ تَعالىٰ ، في بابِ الرَّدِّ علىٰ أصحابِ الصفاتِ (2)، و فيه إفسادٌ لهذا القولِ .
و لا يَجوزُ أن يَكونَ نافِراً بنِفارٍ مُحدَثٍ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَصِحَّ مِنه فِعلُ ضِدِّه؛ لأنّ القادرَ على الشيءِ ، يَجِبُ أن يَكونَ قادراً (97) علىٰ جِنسِ ضِدِّه، إذا كانَ له ضِدٌّ. و هذا يَرُدُّنا إلىٰ كَونِه مُشتَهياً، و قد بيّنّا فَسادَ ذلكَ .(3)
فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّه لَو كانَ مُشتَهياً لنفسِه أو بشَهوَةٍ قَديمةٍ ، لَكانَ في حُكمِ المُلجَإ(4) إلىٰ فِعلِ المُشتَهىٰ ؛ [و لَو كانَ مُشتَهياً بشَهوَةٍ مُحدَثةٍ ، لَكانَ كالمُلجَإ إلىٰ فِعلِها و فِعلِ المُشتَهىٰ ](5) معاً؟
قُلنا: الدليلُ علَى الأوّلِ أنّا نَعلَمُ ضَرورةً في أحَدِنا، أنّه مَتىٰ عَلِمَ أنّ له في بَعضِ الأفعالِ نَفعاً عظيماً حاضراً خالصاً مِن وجوهِ المَضارِّ، فإنّه مُلجَأٌ(6) إلىٰ فِعلِه، و لهذا
ص: 351
يَكونُ هذا الفِعلُ - مَتىٰ كانَ بهذه الصفةِ - واجِبَ الوقوعِ ، و لَخَرَجَ مِن أن يَكونَ ممّا يُستَحَقُّ عليه المَدحُ أو الذَّمُّ . و إنّما كانَ فاعلُ هذا الفِعلِ مُلجأً إليه، مِن حَيثُ عَلِمَ النَّفعَ الحاضرَ العظيمَ الخالصَ ؛ بدَلالةِ أنّ دَواعِيَه مَتىٰ تَعزُبُ (1) حتّىٰ يَعتَقِدَ أنّ عليه فيه ضَرَراً عظيماً، خَرَجَ مِن أن يَكونَ مُلجَأً. و هذا يَقتَضي ما ذَكَرناه؛ مِن حُصولِ الإلجاءِ عندَ تَكامُلِ ما ذَكَرناه. [و لا فَرقَ بَينَ مَن نَفىٰ كَونَ الفاعلِ عندَ تَكامُلِ ما ذَكَرناه](2) مُلجَأً، و بَينَ مَن نَفىٰ كَونَ المُعتَقِدِ في الفِعلِ الضَّرَرَ العظيمَ الخالصَ الحاضرَ مُلجَأً إلىٰ تَركِه و الهَرَبِ مِنه.
فأمّا الدليلُ علىٰ أنّه لَو كانَ مُشتَهِياً بشَهوَةٍ مُحدَثةٍ ، لَكانَ كالمُلجَإ إلى فِعلِها و فِعلِ المُشتَهىٰ معاً، فواضحٌ أيضاً؛ لأنّه لا فَرقَ عند العقلاءِ بَينَ أن يَعلَموا في الفِعلِ نفسِه النَّفعَ العظيمَ الخالصَ (3)، و بَينَ أن يَعلَموا أنّه يوصِلُ إلىٰ نَفعٍ بهذه الصفةِ مع انتفاءِ سائرِ(4) المَضارِّ في بابِ الإلجاءِ . و لهذا يَكونُ أحَدُنا مُلجَأً إلىٰ فِعلِ تَحريكِ إصبَعِه علىٰ وَجهٍ لا مَشقّةَ فيه علىٰ وَجهٍ و لا سببٍ (5)، مَتىٰ عَلِمَ أنّه يَنالُ بذلكَ المَنافِعَ
ص: 352
العظيمةَ الخالصةَ ، و يَستَولي به علَى المَنازِلِ السَّنيّةِ و المَمالِكِ الواسِعةِ .
فقَد ثَبَتَ أنّه لا فَرقَ بَينَ الأمرَينِ (1) مِن الوَجهِ الذي هو المقصودُ، و إن كانَ في أحَدِهما يَكونُ مُلجَأً إلىٰ فِعلِ المُشتَهىٰ ، و في الآخَرِ يَكونُ مُلجَأً إلىٰ فِعلِ الشَّهوَةِ و المُشتَهىٰ معاً.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ مَن عَلِمَ أنّ بتَحَرُّكِ (2) إصبَعِهِ يَنالُ المَنافِعَ العَظيمةَ ، إنّما يَكونُ مُلجَأً إلىٰ ذلكَ ؛ لأنّه في الحالِ مُشتَهٍ (3) لتلكَ المَنافعِ ، فلهذا كانَ مُلجَأً إلَى التوصُّلِ إليها. و هذا بخِلافِ مَن فَرَضناه أنّه غَيرُ مُشتَهٍ لشيءٍ و لا مُحتاجٍ إليه.
و ذلكَ أنّه لا فَرقَ فيما ذَكَرنا حالَه: بَينَ أن يَكونَ في الحالِ مُشتَهياً، و بَينَ أن لا يَكونَ كذلكَ ؛ لأنّا نَعلَمُ أنّ العاقلَ المُميِّزَ مِنّا إذا فَرَضنا أنّه غَيرُ مُشتَهٍ ، لَو خُيِّرَ(4) بينَ أن تُفعَلَ (5) له الشَّهَواتُ و يُعطَى المُشتَهَياتِ حتّىٰ تَحصُلَ (6) له المَنافعُ الخالصةُ العظيمةُ ، الخالِصةُ مِن وجوه الضَّرَرِ كُلِّه، و بَينَ أن لا يُفعَلَ ذلكَ له، لَكانَ لا مَحالةَ كالمُلجَإ إلَى اختيارِ ذلكَ ، و إن كانَ في الحالِ غَيرَ مُحتاجٍ إليه.
و لهذا لَو عَلِمَ المَريضُ المُدنِفُ الذي لا شَهوةَ [له] في الأطعمةِ ، أنّه «مَتىٰ حَرَّكَ إصبَعَه علىٰ وَجهٍ لا يَشُقُّ (7)، لَعادَت شَهَواتُه، و لَنالَ ما يَشتَهيهِ علىٰ ألَذِّ الوجوهِ
ص: 353
و أنفَعِها، و أبعَدِها مِن الضَّرَرِ»، لَكانَ مُلجَأً إلىٰ تحريكِ إصبَعِه. و كذلكَ الشيخُ الهَرِمُ الذي فَقَدَ شَهَواتِ الباهِ (1)، إذا فَرَضنا حالَه هذا الفرضَ . و هذا يُبيِّنُ أنّ فَقْدَ الشَّهوَةِ في الحالِ لا تأثيرَ له فيما قَصَدناه.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا استُدِلَّ به علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُشتَهِياً و لا نافِراً: أنّه لَو صَحَّ ذلكَ عليه، لَكانَ في الفِعلِ - إمّا بنفسِه، أو بواسطةٍ - دَلالةٌ عليه؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ إثباتِ ذاتِه و أوصافِه هو: الفِعلُ ، أو ما يَقتَضيه الفِعلُ . و هذا الأصلُ قد دَلَّلنا علىٰ صحّتِه في بابِ نفيِ المائيّةِ مِن هذا الكتابِ (2)، و إذا لَم يَكُن في الفِعلِ دَلالةٌ علىٰ كَونِه مُشتَهِياً و لا نافِراً، وجبَ الحُكمُ باستحالةِ ذلكَ عليه.
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لَيسَ في الفِعلِ - لا بنفسِه، و لا بواسطةٍ - دَلالةٌ علىٰ ذلكَ : أنّا إذا اعتَبرنا صفاتِ الأفعالِ ، لَم نَجِدْ فيها ما يَستَنِدُ إلىٰ كَونِه مُشتَهِياً، حتّىٰ لَولا كَونُه كذلكَ لَم يَصِحَّ ، و قد تَقدَّمَ بيانُ ما يَدُلُّ عليه مُجرَّدُ صحّةِ الفعلِ (3)(98) و وقوعِه علىٰ بعضِ الوجوهِ ؛ مِثلُ كَونِه خَبَراً أو أمراً. و لَيسَ لكُلِّ ذلكَ تَعلُّقٌ بكَونِه مُشتَهِياً؛ لأمرَينِ :
أحَدُهما: أنّ كَونَه حَيّاً لَيسَ بأن يَقتَضيَ كَونَه مُشتَهِياً، أولىٰ مِن أن يَقتَضيَ كَونَه
نافِراً، و مَتَى(4) اقتَضَى الأمرَينِ وجبَ حُصولُه علىٰ صفتَينِ مُتَضادَّتَينِ .
ص: 354
و الأمرُ الآخَرُ: أنّه كانَ يَجِبُ مِثلُ ذلكَ فينا؛ لأنّ مِثلَ المُقتَضي للصفةِ لا بُدَّ مِن أن يَقتَضيَ تلكَ الصفةَ ، و هذا يَقتَضي استغناءَنا عن الشَّهوَةِ ، و يَقتَضي استحالةَ كَونِ أحدِنا نافِراً مع كَونِه حَيّاً، و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَقتَضيَ كَونَه مُشتَهِياً لجميعِ المُشتَهَياتِ ؛ لأنّه لَيسَ البعضُ مِن ذلكَ بأَولىٰ مِن البعضِ ، و تَعلُّقُ (1)(100) الجميعِ بكونِه حَيّاً تَعلُّقٌ واحِدٌ.
و فَسادُ جميعِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ صحّةِ ما ذَكَرناه؛ مِن أنّه لا دَلالةَ في الفِعلِ و لا فيما يَرجِعُ إليه علىٰ كَونِه مُشتَهِياً، و أنّ ما هذه(2) حالُه يَجِبُ نفيُه عنه تَعالىٰ ، على ما تَقدَّمَ به القولُ .
دليلٌ آخَرُ: و قد استَدَلَّ أبو هاشمٍ علىٰ ذلكَ (3)، بأنّ الشَّهوَةَ مِن حَقِّها أن تَتعلَّقَ (4)بما إذا نالَه المُشتَهي خالصاً ممّا لا يَشتَهيهِ ، اغتَذىٰ جسمُه و زادَ و صَلُحَ عليه، و كذلكَ النِّفارُ لا يَتعلَّقُ إلّابما إذا نالَه النافِرُ، فَسَدَ به جسمُه و تَناقَصَ . و إذا استحالَ علَى اللّٰهِ تَعالَى الصَّلاحُ و الفَسادُ - اللَّذانِ هما حُكمُ الشَّهوَةِ و النِّفارِ - مِن حَيثُ لَم يَكُن جسماً، استَحالَتِ الشَّهوَةُ عليه و النِّفارُ معاً.
و الذي يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ الشَّهَواتِ مع اختِلافِ أجناسِها لا تَتعلَّقُ إلّابما يَصِحُّ أن يَغتَذيَ به جسمُ المُشتهي و يَزدادَ عليه، و المُشتَهونَ على
ص: 355
اختِلافِ أحوالِهم يَجري أمرُهم علىٰ هذه الطريقةِ . و لذلكَ يَتَناوَلُ كُلُّ نَوعٍ مِن الحَيَوانِ ما يَغتَذي به و يَنتَفِعُ بنَيلِه، و إن أضَرَّ تَناوُلُه بغَيرِه،(1) ممّن(2) لا شَهوَةَ له فيه.
أوّلُها: أن يُقالَ : كيفَ يَصِحُّ ما ذَكَرتُم(3)، و قد يَشتَهي الإنسانُ ما يَضُرُّه تَناوُلُه؛ كمُشتَهي الطينِ و ما جَرىٰ مَجراه، و العَليلِ الذي يَشتَهي كثيراً مِن الأغذِيَةِ المُضِرّةِ به، و قد يَنتَفِعُ الإنسانُ بما يَنفِرُ عنه مِن الأدوِيَةِ الكَريهةِ؟
و ثانيها: أن يُقالَ : إنَّ تَعلُّقَ (4) الشَّهوَةِ و النِّفارِ بزيادةِ الجسمِ و نُقصانِه، و الزيادةُ إنّما هي جَواهرُ يَبتَدئُ اللّٰهُ تَعالىٰ فِعلَها عندَ إدراكِ المُشتَهي، و هو قادرٌ علىٰ أن يَفعَلَها مِن دونِ إدراكِ المُشتَهي، بل عندَ إدراكِه ما يَنفِرُ عنه. و إنّما كانَ يَصِحُّ ما
ذَكَرتُم لَو كانَت: الزيادةُ موجَبةً عن الشَّهوَةِ ، و النُّقصانُ موجَباً عن النِّفارِ. و إذا كانَ هذا فاسداً(5)، فلا مَعنىٰ لِكَلامِكُم.
و هذا مِن أقوَى (101) الأسئلةِ علىٰ هذا [الدليلِ ](6).
ص: 356
و ثالثُها: أن يُقالَ : كونُ المُشتَهي مُشتَهِياً حالٌ يَرجِعُ إلى الجُملةِ ، و الزيادةُ التي ذَكَرتُموها لا تَعلُّقَ لها بالجُملةِ ؛(1) فكيفَ تَتعلَّقُ (2) بما يَرجِعُ إليها؟
و رابُعها: أن يُقالَ : قد نَجِدُ أحَدَنا يَشتَهي إدراكَ الأصواتِ و الأَراييحِ ، و إن كانَ متىٰ أدرَكَ ذلكَ لَم يَصلُحْ عليه جسمُه و لا اغتَذىٰ به علَى الحَدِّ الذي يَحصُلُ في المأكولاتِ و المشروباتِ ، و هذا يُبطِلُ قَضيّتَكم.
و الجَواب عن السؤالِ الأوّلِ : أنّا شَرَطنا فيما يَشتَهيه أن يَتناوَلَه(3) خالصاً ممّا لا يَشتَهيه، و لَيسَ بمُمتَنِعٍ علىٰ هذا أن يَكونَ إنّما يَستَضِرُّ في بعضِ الأوقاتِ بتَناوُلِ ما يَشتَهيه؛ مِن حَيثُ يُخالِطُه آخَرُ [ممّا لا](4) تَتعلَّقُ (5) شَهوَتُه به،(6) و لا سَبيلَ إلىٰ تَمَيُّزِه(7) عمّا يَشتَهيه، فلذلكَ يَستَضِرُّ بالطينِ و ما جَرىٰ مَجراه.
و أقوىٰ مِن ذلكَ أن يُقالَ : لَيسَ يَمتَنِعُ أن يَكونَ [الاستضرارُ بتَناوُلِ ](8) بعضِ المُشتَهَياتِ مِن حَيثُ العاقبةِ -؛ إمّا بأن تَفسُدَ المَعدةُ أو بعضُ الأعضاءِ الّتي لا يُثمِرُ الانتفاعُ بالمأكولاتِ إلّابصَلاحِها، و هذا ظاهرٌ في مَضَرّةِ الطينِ ، فإنّه - فيما يُقالُ -
ص: 357
يورِثُ الحَصاةَ و السَّدَرَ، و إلّافهو مِن حَيثُ كانَ مُشتَهىً (1) نافِعٌ ، فتَصيرُ(2)المَضَرّةُ التي تَحصُلُ في العاقبةِ غامرةً (3) للصلاحِ و الانتفاعِ ، اللذَينِ يَحصُلانِ مِن حيثُ الإدراكِ و الحُكمِ الغالبِ ، فلهذا ظَهَرَت مَضَرّةُ بعضِ المُشتَهَياتِ .
و بهذا بعَينِه يُجابُ عن الانتفاعِ بالأدوِيَةِ ، مع أنّ النفسَ تَنفِرُ عنها؛ لأنّ الدَّواءَ إنّما يَنفَعُ في العاقبةِ ؛ بأن يُزيلَ فُضولاً عن المَعِدةِ ، و يَفتَحَ مَجاريَ و أوراداً لا يَتِمُّ صَلاحُ الجسمِ و انتفاعُه إلّابها، فمِن هذا الوَجهِ كانَ نافعاً، [و] مِن حَيثُ أدرَكَ بعضَ النِّفارِ فهو مُفسِدٌ ضارٌّ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن أدمَنَ تَناوُلَ الأدويةِ ، نُهِكَ جسمُه، و ضَعُفَت قُوّتُه، و فَسَدَ عليه غايةَ الفَسادِ؟
و الجَوابُ عن السؤالِ الثاني: أنّ الزيادةَ في جسمِ مَن أدرَكَ ما يَشتَهيه و يَلتَذُّه، و إن كانَت مِن فِعلِ اللّٰهِ تَعالىٰ و غَيرَ موجَبةٍ عن الشَّهوةِ ، فلها تَعلُّقٌ بالشَّهوةِ ؛ لأنّها لا
تَصِحُّ علىٰ طريقِ الاغتذاءِ إلّاعندَ الشَّهوةِ (4)، و إن كانَت ممّا يَجوزُ أن يَحصُلَ مع فَقدِ الشَّهوةِ لا علىٰ سَبيلِ الاغتذاءِ . كما أنّ كَونَ الاعتقادِ عِلماً له تعلُّقٌ بالنظَرِ، و إن صَحَّ حُصولُه عِلماً مِن غَير نظَرٍ. و لَم يَمنَعْ ذلكَ مِن أن يَكونَ للنظَرِ تأثيرٌ في العِلمِ .
و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، فكُلُّ مَن لا تَصِحُّ (5) عليه الزيادةُ ، لا يَصِحُّ عليه ما يُصَحِّحُ هذه الزيادةَ ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن استَحالَ عليه موجَبُ أمرٍ مِن الأُمورِ، فلا بُدَّ مِن
ص: 358
استحالةِ ذلك الأمرِ المُوجِبِ عليه ؟ و القولُ [في] المُصَحِّحِ (1) كالقولِ في الموجِبِ في هذا البابِ . و لهذا كانَ مَن يَستحيلُ وقوعُ الفِعلِ مِنه، يَستَحيلُ اختصاصُ القُدرةِ به، كاستحالتِها علىٰ مَن يَستَحيلُ كَونُه قادِراً، و إن كانَت في أحَدِ الأمرَينِ موجِبةً و في الآخَرِ مُصَحِّحةً .
و الجَوابُ عن الثالثِ : أنّ الصلاحَ الذي يَتبَعُ إدراكَ المُشتَهىٰ يَتعلَّقُ بالجُملةِ ؛ لأنّها هي المُنتَفِعةُ به، فهو يَجري مَجرى كَونِه فائدةً في رجوعِه إليها.
و الجَوابُ عن الرابعِ : أنّ إدراكَ الأراييحِ و الأصواتِ لا بُدَّ مِن تَعلُّقِ الصلاحِ و الانتفاعِ به، و إن لَم تَظهَر الحالُ فيه ظُهورَها في المأكولِ و المَشروبِ ، و لهذا نَجِدُ مَن نالَ (2) «مِنَ الأصواتِ المُطرِبةِ ، و الروائحِ الطيّبةِ ، و الصُّوَرِ المونِقةِ ، ما يَشتَهيه(3)علَى الاستمرارِ، يَصلُحُ عليه و يَنتَفِعُ به، حتّىٰ رُبَّما كانَ (102) ذلكَ أبلَغَ في زيادةِ قُوّتِه و نَشاطِه مِنَ المأكولِ و المشروبِ ، و لَيسَ هذا ظاهراً(4). و لَيسَ إذا خَفِيَ تأثيرُ ذلكَ في بعضِ المَواضِعِ ، وجبَ أن نَنفيَ تأثيرَه. كما لا يَجِبُ مِثلُه في نفيِ تأثيرِ المأكولاتِ ؛ فإنّ تأثيرَها أيضاً يَخفىٰ في بعضِ المواضِعِ ، و يَظهَرُ في آخَرَ.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا استُدِلَّ به(5) علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُشتَهِياً مُحتاجاً، السَّمعُ و الإجماعُ .
ص: 359
و قيل: إنّ دليلَ صحّةِ السَّمعِ لا يَفتَقِرُ إلىٰ نَفيِ كَونِه مُحتاجاً، و إنّما يَفتَقِرُ إلىٰ أنّه لا يَفعَلُ القبحَ .(1) و قد يُمكِنُ مَعرفةُ ذلكَ مع تجويزِ الشَّهوةِ عليه؛ لأنّ مَن يَشتَهي أمراً، [و] يَتمكَّنُ مِن الوُصولِ إليه بالقَبيحِ و الحَسَنِ معاً، لا يَجوزُ أن يَختارَ القَبيحَ علَى الحَسَنِ . فلَو جازَت عليه تَعالَى الشَّهوَةُ و الحاجةُ ، لَكانَ لا شيءَ يَفعَلُه مِن
القَبيحِ لأجلِ الشَّهوَةِ ، إلّاو هو قادرٌ علىٰ أمثالِه مِن الحَسَنِ ، حتّىٰ (2) يَقومَ في تَناوُلِ الشَّهوَةِ له مَقامَه. و لا يَجوزُ علىٰ هذا أن يَختارَ شيئاً مِن القَبائحِ . و هذا القَدرُ كافٍ في صحّةِ مَعرفةِ السَّمعِ .
ص: 360
اعلمْ أنّ الخِلافَ في هذا البابِ رُبَّما تعلَّقَ بالعبارةِ (1)؛ لأنّ مَن نَفى عنه شَبَهَ الأجسامِ و الجَواهرِ علَى التحقيقِ ، فأجرىٰ (2) عليه الوَصفَ بالجسمِ أو الجَوهرِ مِن حَيثُ كانَ قائماً بنفسِه، فهو غَيرُ مُشَبِّهٍ في الحقيقةِ ، و خِلافُه يَؤولُ إلَى العبارةِ .
و المُشَبِّهُ هو الذي يُخالِفُ في المعنىٰ ، و يُثبِتُه بصفةِ الجسمِ المؤلَّفِ ، أو بصفةِ الجَوهرِ المُتَحيِّزِ.
و نَحنُ نُقدِّمُ الكلامَ في المعنىٰ ؛ لأنّه أهَمُّ ، و نَعودُ إلَى العبارةِ .(3)
ص: 361
الذي يَدُلُّ (1) علَى استحالةِ كَونِه تَعالىٰ بصفةِ الجَواهرِ و الأجسامِ : أنّ الجَواهرَ مُتماثِلةٌ ، فلَو كانَ جَوهراً لَوجبَ كَونُه مُماثِلاً(2) لها و مِن جِنسِها، و ذلكَ يَقتَضي استحالةَ قِدَمِه مِن حيثُ استَحالَ قِدَمُ الجَواهرِ و الأجسامِ ، أو كونَ الأجسامِ قَديمةً مِن حَيثُ وجبَ له القِدَمُ . و كُلُّ ذلكَ مُستَحيلٌ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ تَماثُلِ الجَواهرِ: أنّا نُدرِكُ الجَوهرَينِ (3) أو الجسمَينِ المُنتَفِيَي(4)اللَّونِ ، فيَلتَبِسُ أحَدُهما علينا بالآخَرِ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن أدرَكَهما ثُمّ أعرَضَ عنهما و أدرَكَهما مِن بَعدُ، يُجَوِّزُ في كُلِّ واحدٍ مِنهما أن يَكونَ هو الآخَرَ، بأن نُقِلَ إلىٰ مَكانِه ؟ وَ لَم يَلتَبِسْ عليه الإدراكُ إلّالاشتراكِهما في صفةٍ تَناوَلَها الإدراكُ ، و رُبَّما يَتَناوَلُ الإدراكُ مِن الصفاتِ ما يَرجِعُ إلَى الذواتِ ، و إذا كانا مُشتَرِكَينِ فيما يَرجِعُ إلىٰ ذَواتِهما فهما مُتَماثلانِ ؛ لأنّ ذلكَ هو المُستَفادُ بالتماثُلِ .
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّهما لَم يَلتَبِسا إلّاللاشتراكِ في صفةٍ ، و قد عَلِمتُم أنّ الشيئَينِ رُبَّما اشتَبَها لغَيرِ ذلك. ثُمَّ دُلّوا علىٰ أنّ تلكَ الصفةَ ممّا تَناوَلَها الإدراكُ . ثُمّ علىٰ أنّ
الإدراكَ يَتَناوَلُ أخَصَّ صِفاتِ الذواتِ . و بَعدُ، فيَلزَمُكم علىٰ هذا الدليلِ أن يَكونَ الجسمُ الأبيَضُ مُخالِفاً للأسوَدِ؛ لأنّه لا يَلتَبِسُ به.(5)
ص: 362
قُلنا: الوجوهُ التي يَقَعُ فيها الاِلتباسُ معقولةٌ ، و هي: المُجاوَرةُ ، كالتباسِ خِضابِ اللِّحيةِ بالشَّعرِ. أو الحُلولُ ، كما التَبَسَ علىٰ قَومٍ فظَنّوا أنّ صفةَ المَحَلِّ للحالِّ ، حتّى اعتَقَدوا أنّ السوادَ حَيِّزٌ! و كُلُّ هذا مُنتَفٍ في التباسِ الجسمَينِ أحَدِهما بالآخَرِ؛ لأنّه لا حُلولَ بَينَهما و لا مُجاوَرةَ ، بل الالتباسُ يَحصُلُ بَينَهما مع العِلمِ بتَغايُرِهما، فدَلَّ علىٰ أنّ وَجهَ الالتباسِ ما ذَكَرناه(1).
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الصفةَ التي اقتَضَت التباسَهما ممّا تَناوَلَها(2) الإدراكُ : أنّ الأمرَ لَو كانَ بخِلافِ ذلكَ لَما التَبَسا علَى الإدراكِ ، و في التباسِهما عليه دَلالةٌ علىٰ تَعلُّقِ الإدراكِ (103) بما التَبَسا لأجلِه، و أنّ المُشارَكةَ فيما لا يَتعلَّقُ الإدراكُ به لا تَقتَضي الاشتباهَ علَى المُدرِكِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ لا يَشتَبِهُ (3) [مع] البياضِ ، و يَلتَبِسُ به عندَ المُدرِكِ و إنِ اشتَرَكا في الوجودِ؛ مِن حيثُ كانَ الإدراكُ لا يَتعلَّقُ بالوجودِ؟
و لأنّ الصفةَ التي تَقتَضي التباسَ الجسمَينِ أو الجَوهَرينِ المُدرَكَينِ على المُدرِكِ لا بُدَّ أن تَكونَ صفةً عَلِمَها المُدرِكُ . و ما يَعلَمُه في حالِ الإدراكِ مِن صِفات الجَوهرِ هو: الوجودُ، و كَونُه في جهةٍ و تَحيُّزُه. و قد مَضىٰ أنّ المُشارَكةَ في الوجودِ لا تَقتضي(4) الالتباسَ . و لَيسَ يَشتَرِكُ الجَوهرانِ في أن يَكونا في جهةٍ واحدةٍ فيَلتَبِسا مِن هذا الوَجهِ ، فلَم يَبقَ إلّاأنّهما التَبَسا مِن حَيثُ اشتَرَكا في التحَيُّزِ،
ص: 363
و ممّا يُدرَكانِ على هذه الصفةِ .(1)
و أيضاً: فمَتىٰ صَحَّ أنْ يَلتَبِسا لأجلِ صفةٍ لَم يَتَناوَلْها الإدراكُ ، لَم يَكُن بعضُ الصفاتِ التي(2) لا تَدخُلُ تَحتَ الإدراكِ بأن تَقتَضيَ (3) اللَّبسَ أولىٰ مِن بعضٍ ، و هذا يوجِبُ أن تَكونَ المُشارَكةُ في سائرِ الصفاتِ تَقتَضي(4) الالتباسَ .
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الإدراكَ يَتعلَّقُ بأخَصِّ صفاتِ الذواتِ : أنّه لا يَخلو مِن أن يَتعلَّقَ بالصفةِ الراجعةِ إلَى الفاعلِ ، أو الراجعةِ إلَى العِلَلِ ، و(5) الراجعةِ إلَى الذاتِ .
و الذي يَتعلَّقُ (6) بالفاعلِ و يَرجِعُ إليه مِنَ الصفاتِ هو الوجودُ. و لَو تَناوَلَه الإدراكُ لَاقتَضىٰ أن يَتعلَّقَ بكُلِّ موجودٍ؛ لأنّ مِن حَقِّ الإدراكِ إذا تَناوَلَ صفةً أن يَشيعَ في كُلِّ مُختَصٍّ بها؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا تَناوَلَ التحَيُّزَ شاعَ في كُلِّ مُتحيِّزٍ؟ و كذلكَ في كَونِ السَّوادِ [مُدرَكاً، دليلٌ ](7) علىٰ [تَناوُلِ الإدراكِ كُلَّ ] ما يَختَصُّ به. و فَسادُ كَونِ جميعِ الموجوداتِ مُدرَكةً ظاهرٌ.
علىٰ أنّ الإدراكَ لَو تَناوَلَ الوجودَ، لَم يَخلُ مِن أن يَتَعدّاه إلَى الذاتِ ، أو لا يتعدّاه.
فإن لَم يَتَعَدَّ(8) وجبَ أن لا يَحصُلَ الفَصلُ - بَينَ المُختَلِفَينِ - بالإدراكِ ؛ لأنّ
ص: 364
الإدراكَ لَم يَتَناوَلْ ما به اختَلَفا، و إنّما تَناوَلَ علىٰ هذا القولِ الوجودَ الذي هما يَشتَرِكانِ فيه، فكانَ يَجِبُ أن يَجرِيَ عندَ المُدرِكِ إدراكُ المُختَلِفَينِ مَجرىٰ إدراكِ المِثلَينِ ، و كانَ (1) يَجِبُ أيضاً أن لا يَفصِلَ بالإدراكِ بَينَ الكَبيرِ و الصغيرِ، و الطويلِ و القصيرِ.
فَلَم يَبقَ إلّاأنّه يَتعدّاه إلَى الصفةِ العائدةِ إلَى الذاتِ ، و هذا يَقتَضي أن يُفصَلَ بَينَ المُختَلِفَينِ بالإدراكِ مِن حَيثُ افتَرَقا في الصفةِ التي يَتعلَّقُ بها الإدراكُ ، و أن يَلتَبِسَ أحَدُهما علينا بالآخَرِ مِن حَيثُ اشتَرَكا في الوجودِ الذي يَتعلَّقُ به - علىٰ هذا القولِ أيضاً - الإدراكُ ، و ذلكَ باطلٌ .
فأمّا ما يَرجِعُ إلَى العِلَلِ مِن صفاتِ الجَوهرِ: فالذي يُمكِنُ أن يُدخِلَ شُبهةً في تَناوُلِ الإدراكِ له، كَونُه كائناً في جهةٍ ؛ مِن حَيثُ فُصِلَ بالإدراكِ - علىٰ بعضِ الوجوهِ - بَينَ الكائنَينِ في جهتَينِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الإدراكَ لا يَتَناوَلُ ذلكَ ، أنّه لَو تَناوَلَه لَفُصِّلَ بالإدراكِ بَينَ كُلِّ صفتَينِ ضِدَّينِ مِنه، و قد عَلِمنا أنّ ذلكَ لا يَستَمِرُّ؛ فإنّ أحَدَنا لَو أدرَكَ جَوهراً في بعضِ الجِهاتِ ، ثُمّ أعرَضَ عنه، جَوَّز أن يَكونَ انتَقَلَ إلىٰ أقرَبِ الأماكنِ إليه، و التَبَسَ عليه الأمرُ فيه، و لا يَلتَبِسُ أمرُه لَو اسوَدَّ بَعدَ بَياضٍ .
علىٰ أنّا إنّما نَطلُبُ صفةً تَناوَلَها الإدراكُ فاقتَضَى التِباسَ أحَدِ الجَوهرَينِ بالآخَرِ، و هذا لا يَصِحُّ في اختصاصِ الجَوهرِ بالمُحاذاةِ (2)؛ لأنّ الجَوهرَينِ لا يَصِحُّ اشتراكُهما في الكَونِ في جهةٍ واحدةٍ ، و أن يَستَحِقّا مِن هذا القَبيلِ صفتَينِ مُتَماثِلتَينِ .
ص: 365
علىٰ أنّ كَونَه في جهةٍ قد يَتَزايَدُ في أحَدِ الجَوهرَينِ دونَ (104) الآخَرِ، و لا يُفصَلُ (1) بَينَهما بالإدراكِ .
فعُلِمَ أنّ الإدراكَ إنّما يَتَناوَلُ الصفةَ الراجعةَ [إلَى الذاتِ ،](2) و هي التحيُّزُ.
و أمّا الجوابُ عن الاعتراضِ بالجسمَينِ اللذَينِ يَختَلِفُ لَوناهما، و أنّ أحَدَهما لا يَلتَبِسُ بالآخَرِ: فلَيسَ فيه أكثَرُ مِن إثباتِ المدلولِ مع ارتفاعِ الدليلِ ، و هذا غَيرُ مُمتَنِعٍ ؛ فإنّ الدليلَ غَيرُ موجِبٍ للمدلولِ ، و إنّما يَكشِفُ عنه، و لهذا يَدُلُّ علَى الحُكمِ الواحدِ الدليلانِ المُختَلِفانِ . و إنّما المُنكَرُ ثُبوتُ الدليلِ و ارتفاعُ المدلولِ .
علىٰ أنّ الالتباسَ هاهنا أيضاً حاصلٌ ؛ لأنّ المُدرِكَ لهذَينِ الجسمَينِ يُجَوِّزُ أن يَكونَ أحَدُهما هو الآخَرَ و إنّما تَغيَّرَ لَونُه، و قد يَلتَبِسان أيضاً لَمساً.
فالذي اعتَمَدناه صحيحٌ علىٰ كُلِّ حالٍ .
دليلٌ آخَرُ علىٰ تَماثُلِ الجَواهرِ: و يَدُلُّ علىٰ ذلك أيضاً: أنّ كُلَّ جَوهرٍ يُشارُ إليه، جنسٌ (3) يَحتَمِلُ جنسَ ما تَحتَمِلُه سائرُ الجَواهرِ مِن الأعراضِ . و احتمالُه لذلكَ يَرجِعُ إلىٰ ذلكَ ، فلَولا أنّها مُتَّفِقةٌ في الجنسِ ، لَم يَجِبْ ذلكَ ؛ لأنّ الذواتِ المُختَلِفةَ لا تَتَّفِقُ فيما يَرجِعُ إلىٰ ذَواتِها.
و قد يُستَدَلُّ بهذه الطريقةِ علىٰ وجهٍ آخَرَ، فيُقالُ : لَو اختَلَفَتِ الجَواهرُ لَم يَظهَر اختلافُها إلّابأن(4) يَحتَمِلَ بعضُها ما لا يَحتَمِلُه غَيرُه؛ لأنّ الوجودَ الذي(5) يَظهَرُ به(6)
ص: 366
اختلافُ (1) الذواتِ لا يَتَأتّىٰ فيه(2)؛ ألا تَرىٰ أنّه ممّا لا يوجِبُ الأحوالَ ، فيَظهَرَ اختلافُها باختلافِ ما يُوجِبُهُ (3) و لا يَتعلَّقُ (4) بغَيرِها، فيُراعىٰ في اختلافِها تَغايُرُ مُتعلَّقِها،(5) أو ما يَجري مَجرَى التغايُرِ.
و لَيسَ يُفصَلُ بَينَ الجَوهرَينِ بالإدراكِ ، فيوصَلُ (6) بذلكَ إلَى اختلافِهما، كما نَقولُ في السوادِ و البياضِ . و لَيسَ يُمكِنُ العِلمُ بأنّ بعضَها يَنتَفي بما لا يَنتَفي به بعضٌ آخَرُ، فيَكونَ ذلكَ طريقاً إلَى الاختلافِ . فلَم يَبقَ إلّاما ذَكَرناه مِن احتمالِ الأعراضِ ، و هي مُشتَرَكةٌ (7) فيها(8)، فيَجِبُ تَماثُلُها.
فإن قيلَ : ألا اختَلَفَت مِن حَيثُ لَم يَصِحَّ أن يَحُلَّ كُلَّ واحدٍ منها عَينُ (9) ما يَحِلُّ الآخَرَ، كما اختَلَفَتِ القُدَرُ، لِتَعلُّقِ كُلِّ واحدةٍ بعَينٍ لا تَتَعلَّقُ (10) بها الأُخرىٰ ، و إن صَحَّ
ص: 367
أن تَفعَلَ (1) بها مِثلَ ما تَفعَلُ (2) الأُخرىٰ؟
قُلنا: الفرقُ بينَ الأمرَينِ (3): أنّ الجَوهرَينِ لَو صَحَّ أن يَحُلَّ كُلَّ واحدٍ مِنهما عَينُ (4)ما يَحُلُّ الآخَرَ، لَكانَت(5) حالُه فيما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه كحالِه(6) الآنَ (7). و إنّما لَم يَصِحَّ أن
يَحُلَّهُ نفسُ ما يَحُلُّ غَيرَه، لِشيءٍ يَرجِعُ إلىٰ الحالِّ لا إليه، و إلّافهو في نَفسِه علىٰ ما كانَ يَكونُ عليه لَو صَحَّ أن يَحُلَّهُ . و إذا كانَ لَو قَدَّرنا أنّه يَحُلُّه(8) ما يَحُلُّ غَيرَه - مَثَلاً - لِتَحيُّزِه، و هو الآنَ فيما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه علىٰ تلكَ الصفةِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ مُماثِلاً له.
و لَيسَ كذلكَ القُدرَتانِ ؛ لأنّه لَو صَحَّ أن يُفعَلَ بكُلِّ واحدةٍ عَينُ (9) ما يَصِحُّ بالأُخرىٰ ، لَكانَت كُلُّ واحدةٍ في نفسِها بخِلافِ ما هي عليه الآنَ .
و قد بيّنّا أنّ الجَوهرَ إنّما يَحتَمِلُ جميعَ الأعراضِ لِتحيُّزِه، و لا حُكمَ للتحيُّزِ مع بعضِ الأعراضِ دونَ بعضٍ ، و إنّما امتَنَعَ أن يوجَدَ فيه عَينُ (10) ما يوجَدُ(11) في غَيرِه
ص: 368
لا لأمرٍ يَرجِعُ إليه، بل الأمرُ إلىٰ ذلكَ الحالِّ . فافتَرَقَ الأمرانِ .
و بمِثلِ هذا نُجِيبُ (1) مَن اعتَرَضَ دليلَنا، بأنّ بعضَ الجواهرِ لا يَحتَمِلُ العِلمَ و الإرادةَ و القدرةَ (2)، و ذلك لاختلافِ (3) الجَواهرِ، فنَقولُ :
إنّما امتَنَعَ حُلولُ العِلمِ و الإرادةِ و القُدرةِ في الجَوهرِ المُنفَرِدِ لِحاجةِ هذه المَعاني إلىٰ أغيارِها، فلِشيءٍ يَرجِعُ إليها لَم تَحُلَّ (4) الجُزءَ المُنفرِدَ(5)، لا إلى المَحَلِّ ؛ ألا تَرىٰ أنّ المَحَلَّ علَى الصفةِ التي حُكمُها مع جَميعِ الأعراضِ واحدٌ؟ و لهذا (105) لو جُعِلَ ذلك الأمرُ في تَضاعِيفِ القَلبِ لَجازَ(6) أن يَحُلَّه العِلمُ (7) و الإرادةُ . و لَو كانَ لا يَحتَمِلُ هذه المَعانيَ لشيءٍ يَرجِعُ إلى ذاتِهِ (8)، لَكانَ لا يَصِحُّ حُلولُها فيه علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ ، و يَجري ذلكَ مَجرَى الأعراضِ .
وَ ممّا يُبَيِّنُ أنّه لا اعتبارَ في تَماثُلِ الجَوهرَينِ ، بأن يَصِحَّ أن يَحُلَّ (9) أحَدَهما نَفسُ ما يَحُلُّ الآخَرَ، أنّ ذلكَ يَقتَضي كَونَ الجَوهرَينِ مُتَماثِلَينِ مُختَلِفَينِ معاً؛ لأنّه إذا لَم يَصِحَّ
ص: 369
أن يَحُلَّ (1) كُلَّ واحدٍ عَينُ (2) ما يَحُلُّ الآخَرَ مِن الأكوانِ ، يَجِبُ أن يَكونا مُختَلِفَينِ (3). و إذا حَلَّ أحدَهُما نَفسُ ما يَحُلُّ الآخَرَ مِن التأليفِ ، يَجِبُ أن يَكونا مُتَماثِلَينِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فيَجِبُ علىٰ هذا أن تَكونَ (4) الأعراضُ كُلُّها مُتَماثِلةً ؛ لأنّ كُلَّ مَحلٍّ احتَمَلَ بعضَها فهو يَحتَمِلُ الجميعَ .
و ذلك: أنّ الأعراضَ لا يَقتَضي احتِمالُ المَحَلِّ لها اشتراكَها(5) في صفةٍ ذاتيّةٍ ، و قد بيّنّا أنّ الجواهرَ إذا اشتَرَكَت(6) في احتمالِ الأعراضِ ، فإنّ ذلكَ يَرجِعُ إلىٰ صفةٍ
ذاتيّةٍ يَشتَرِكُ الجميعُ فيها.
علىٰ أنّ لنا طُرُقاً(7) نَتوصَّلُ بها إلى اختلافِ الأعراضِ ؛ مِثلُ الفَصلِ بَينَهما بالإدراكِ ، و نَحوُ اختلافِ ما يَجِبُ عنها مِن الأحوالِ ، و نَحوُ تَغايُرِ التعلُّقِ ، و نَحوُ أن لا تَنتَفيَ (8) بضِدٍّ واحدٍ. و أمّا الجَواهرُ(9)، فقد بيّنّا أنّه لا طريقَ إلَى اختلافِها إلّا ما ذَكَرناه.
ص: 370
دليلٌ آخَرُ على تَماثُلِ الجَواهرِ: قد ثَبَتَ أنّ الجَواهرَ تُخالِفُ (1) الأعراضَ . و ثَبَتَ أنّ المُخالِفَ لِغَيرِه إنّما يُخالِفُه بصفةٍ تَرجِعُ إلىٰ ذاتِه. و أنّ صفاتِ العِلَلِ و الفاعلِ لا مَدخَلَ لها في هذا البابِ ؛ مِن حَيثُ تؤَدّي(2) إلىٰ تَحدُّد(3) المُخالَفةِ ، و اختصاصِها ببعضِ الأحوالِ دونَ بعضٍ .
فلَم يَبقَ بعدَ ذلك إلّاأنّ الجَواهرَ تخالِفُ الأعراضَ إمّا بالتحيُّزِ، أو ما اقتَضى فيها التحيُّزَ مِن كَونِها جَواهرَ؛ لأنّ ما عَدا هاتَينِ الصفتَينِ يَرجِعُ استحقاقُه إلىٰ عِلّةٍ أو فاعلٍ ، أو يَكونُ حُكماً مِن أحكامِ التحيُّزِ؛ مِثلُ احتمالِ الأعراضِ و امتناعِ التداخُل(4).
و بأيّ الأمرَينِ كانَ الخِلافُ ؛ مِن التحيُّزِ أو كونِها جَواهرَ، فقَد تَمَّ ما أرَدناه مِن تَماثُلِ جَميعِ الجواهرِ؛ لاشتراكِها في ذلك. و ما به تُخالِفُ (5) الذاتُ غَيرَها، به تُماثِلُ ما شارَكَها فيه. و إذا خالَفَتِ الجَواهرُ الأعراضَ بالتحيُّزِ أو بكونِها جَواهرَ أو بالأمرَينِ ، فيَجِبُ أن يَتَماثَلَ جميعُها؛ لاشتراكِها في هاتَينِ الصفتَينِ .
دليلٌ آخَرُ علىٰ أنّه لا يُشبِهُ الجَواهرَ و الأجسامَ : ما دَلَّ علىٰ حُدوثِ الجَواهرِ و الأجسامِ لا يَختَصُّ ، بَل هو شائعٌ في كُلِّ ما كانَ بهذه الصفةِ ، فلَو كانَ تَعالىٰ جَوهراً أو جسماً لَكانَ مُحدَثاً.
يُبيِّنُ هذه الجُملةَ : أنّه لَو كانَ كذلكَ لكانَ مُتَحيِّزاً، و كَونُه مُتَحيّزاً يَقتَضي كَونَه في جهةٍ ، مع جَوازِ كَونِه في غَيرِها، و ذلكَ يَقتَضي وجودَ مَعانٍ لا يَنفَكُّ مِنها
ص: 371
و لا تَبعُدُ مِنه(1)، و قد مَضَى الكلامُ في حُدوثِ جميعِ المَعاني،(2) و أنّ ما لَم يَتقدَّمِ المُحدَثَ فلا بُدَّ مِن كَونِه مُحدَثاً(3).
و لَيسَ لأحدٍ أن يُثبِتَه جَوهراً، و يَنفيَ كَونَه مُتَحيِّزاً؛ لأنّ ذلكَ خِلافٌ في العبارةِ التي كلامُنا الآنَ علىٰ غَيرِها(4).
و لا له أن يُثبِتَه مُتَحيِّزاً، و يَنفيَ كَونَه في جهةٍ ، أو يَنفيَ صحّةَ كَونِه في الجهاتِ علَى البَدَلِ ؛ لأنّ المُقتَضيَ لكَونِه في جهةٍ مّا هو التحيُّزُ، و متىٰ حَصَلَ فلا بُدَّ مِن حُصولِ مُقتَضاه.
فأمّا(5) صحّةُ كَونِه (106) في الجهاتِ علَى البَدَلِ ، فالتحيُّزُ أيضاً يَقتَضيهِ ؛ لأنّا عندَ
دُخولِ الذاتِ في كَونِها مُتحيِّزةً نَعلَمُ (6) صحّةَ ذلكَ فيها.
و لا يَصِحُّ أن يُشتَرَطَ ذلكَ (7) بكَونِه في الجهاتِ لِمَعانٍ مُحدَثةٍ ؛ لأنّ وجودَ المعنىٰ يوجِبُ كَونَه في جهةٍ مخصوصةٍ و يُحيلُ كَونَه في غَيرِها، فمُحالٌ أن يصحَّ (8) كَونَه في الجهاتِ الباقيةِ مع أنّه مُحيلٌ لذلكَ .
ص: 372
و لا يَصِحُّ أيضاً أن يُشتَرَطَ ذلكَ بصحّةِ (1) عدمِ ما به يَكونُ في الجهاتِ المُعيَّنةِ ؛ لأنّ ذلكَ لا يَرجِعُ إلى الجِسمِ ، و ما صَحَّحَ صفةَ الذاتِ يَجِبُ أن يَكونَ ما يَرجِعُ إليها.
دليلٌ آخَرُ علىٰ ذلكَ : لَو كانَ تَعالىٰ جسماً لَوجبَ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ؛ لأنّ مِن شأنِ الأجسامِ أن لا تَكونَ قادرةً [إلّا] علىٰ هذا الوَجهِ ، و قد مَضىٰ طَرَفٌ مِن الكلامِ في ذلكَ فيما سَلَفَ مِن الكتابِ . و لَو كانَ قادراً بقُدرةٍ ، لَما(2) تَأَتّىٰ (3) مِنه فِعلُ الجَواهرِ و الأجسامِ ؛ لأنّا قد دَلَّلنا مِن قَبلُ علىٰ أنّ القُدَرَ علَى اختلافِها لا يَصِحُّ فِعلُ الجَواهرِ و الأجسامِ بها(4). و في عِلمِنا بأنّه تَعالىٰ هو الفاعِلُ للأجسامِ دَلالةٌ علىٰ أنّه لَيسَ بجسمٍ .
دليلٌ آخَرُ: لَو كانَ تَعالىٰ جسماً، لَوجبَ - علىٰ ما بيّنّاه - أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ، و قد بيّنّا أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ الاختراعُ بها(5)، و أنّ الفِعلَ لا يَقَعُ بها في غَيرِ مَحَلِّها إلّابَعدَ أن يَكونَ بَينَه و بَينَ مَحَلِّها وُصلةٌ و مُماسّةٌ . و هذه الجُملةُ تَقتَضي(6) فيه تَعالىٰ لَو كانَ جسماً أن يَفعَلَ فيما ماسَّه، و لا يَصِحَّ أن يَفعَلَ في الأماكنِ المُتَباعِدةِ . و نَحنُ نَعلَمُ أنّه تَعالىٰ يَفعَلُ في داخِلِ البَيضةِ ، و في المَشرِقِ و المَغرِبِ في الحالةِ الواحدةِ مع فَقدِ المُماسّةِ و الاِتِّصالِ .
علىٰ أنّ فيما يَفعَلُه تَعالىٰ ما يُعلَمُ أنّه لا سببَ له يوَلِّدُه؛ مِثلُ الألوانِ و الأراييحِ
ص: 373
و الطُّعومِ . و إذ أحدَثَ ذلكَ في الأجسامِ مِن غَيرِ توليدٍ، و لَم يَكُن في مَحَلِّ القُدرةِ عليه، فهو المُختَرِعُ الذي لا يَكونُ مِن جِسمٍ .
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّه لَو كانَ تَعالىٰ جسماً، لَوجبَ كَونُه أشياءَ مؤتَلِفةً ؛ لأنّ الشيءَ الواحدَ لا يَكونُ جِسماً. و هذا يَقتَضي أن يَكونَ كُلُّ جُزءٍ مِنه قَديماً و مُستَحِقّاً لجميعِ ما يَستَحِقُّه مِن الصفاتِ التي أثبَتناها له؛ لأنّ مِن حقِّ صفةِ النفسِ أن يَختَصَّ بها الآحادُ دونَ الجميعِ . و هذا يَقتَضي إثباتَ قُدَماءَ (1) لهم مِثل صفتِه. و أدلَّةُ (2) التَّوحيدِ - التي يأتي بِعَونِ اللّٰهِ ذِكرُها(3) - تُبطِلُ (4) ذاكَ .
***
[2] فَصلٌ في أنّ احتمالَ الأعراضِ و الكَونَ (5) في الجهاتِ و الحركةَ و السُّكونَ و القُربَ و البُعدَ مُستَحيلٌ عليه
كُلُّ صفةٍ أو حُكمٍ رَجَعَ إلَى التحيُّزِ، يَجِبُ نَفيُه عمّن يَستَحيلُ عليه التحيُّزُ. و كُلُّ ما ذَكَرناه مِن الصفاتِ و الأحكامِ إنّما يُصَحِّحُها و يَقتَضيها التحيُّزُ، و قد بيّنّا أنّه تَعالىٰ يَستَحيلُ عليه التحيُّزُ(6)، فيَجِبُ استحالةُ هذه الأحكامِ عليه.
ص: 374
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ التحيُّزَ هو المُصَحِّحُ لهذه الأحكامِ .
قُلنا: أمّا احتمالُ الأعراضِ فراجعٌ إلَى التحيُّزِ؛ بدَلالةِ أنّ الجَواهرَ المعدومةَ لا تَحتَمِلُ (1) الأعراضَ ، و يَستحيلُ حُلولُها فيها. و لَيسَ يَخلُو المؤَثِّرُ في امتناعِ ذلكَ فيها مِن أن يَكونَ هو عدمَها و أنّها لَيسَت بموجودةٍ ، و(2) كَونَها غَيرَ مُتَحيِّزَةٍ .
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ امتناعُ ذلكَ مِن حَيثُ لَم تَكُن موجودةً ؛ لأنّها لَو دَخَلَت في الوجودِ، فلَم(3) يَحصُلْ لها التحيُّزُ، لَم تَحتَمِلِ (4) الأعراضَ ؛ ألا (107) تَرىٰ أنّ الأعراضَ مع وجودِها لا تَحتَمِلُ (5) الأعراضَ؟
فوَضَحَ أنّ المؤَثِّرَ هو انتفاءُ التحيُّزِ، و لهذا وجبَ عند التحيُّزِ احتمالُ الأعراضِ و وجودُ الكونِ . و جَرَى احتمالُ الأعراضِ في ثُبوتِه مع التحيُّزِ و انتفائِه مع فَقدِه، مَجرَى التعلُّقِ في الذواتِ المُتعلِّقةِ التي تَبطُلُ مع العدمِ و تَثبُتُ مع الوجودِ.
و أقوى ما يُسأَلُ عن هذا أن يُقالَ : فيَجِبُ بهذا الاعتبارِ أن تَقولوا(6): إنّ فَقدَ العِلمِ هو المؤثِّرُ في خُروجِ الحَيِّ مِن أن يَكونَ عالِماً؛ لأنّ الطريقةَ فيه كالطريقةِ
ص: 375
فيما ذَكَرتم، و يَجِبُ [علىٰ هذا] أن تَنفوا كَونَ مَن لَيسَ بذي عِلمٍ عالِماً(1). و كذلك القولُ في القُدرةِ و الحَياةِ .
و الجَوابُ عن ذلكَ : أنّ فَقدَ العِلمِ إنّما أثَّرَ في خُروجِ أحَدِنا مِن كَونِه عالِماً، بشَرطِ صحّةِ كَونِه عالِماً و غَيرَ عالِمٍ ، فيَجِبُ أن يُجعَلَ فَقدُه مؤَثِّراً فيمَن كانَ الشرطُ الذي ذَكَرناه تامّاً فيه(2).
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ في احتمالِ الأعراضِ شرطٌ تَفتَرِقُ به الذواتُ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ احتمالَ الأعراضِ لا يَصِحُّ إلّامع التحيُّزِ: أنّ المَرجِعَ بالحُلولِ و المُستفادَ به حُصولُ الحالِّ بحَيثُ المَحَلِّ ، و تَعلُّقُه به علىٰ حَدٍّ لو انتَقَلَ
المَحَلُّ لَكانَ الحالُّ كأنّه قد انتَقَلَ .
و لا يَصِحُّ أن يَكونَ المُستفادُ مِن الحُلولِ وجودَ الذاتِ بحَيثُ وُجِدَ غَيرُها؛ لأنّ الأعراضَ الكثيرةَ توجَدُ في المَحَلِّ الواحِدِ. و لَيسَ بعضُها حالاًّ في بعضٍ . و المَحَلُّ موجودٌ أيضاً بحَيثُ العَرَضِ و إن لَم يَكُن حالّاً فيه.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ المرادُ وجودَ الشيءِ بحيثُ وُجِدَ غَيرُه و تَعلُّقَه به، حتّىٰ أنّه مَتىٰ عُدِمَ ذلك عُدِمَ هذا؛ لأنّ الحَياةَ موجودةٌ فيه بحَيثُ العِلمُ موجودٌ، و لَو عُدِمَت لَعُدِمَ العِلمُ ، و مع ذلكَ فالعِلمُ حالٌّ في الحياةِ . فصَحَّ أنّ المعنىٰ في الحُلولِ ما ذَكَرناه.
و إذا كانَ لا يَتِمُّ كَونُ الحالِّ كأنّه المُنتَقِلُ بانتقالِ المَحَلِّ إلّامع تَحيُّزِ المَحَلِّ ، ثَبَتَ أنّ الحُلولَ لا يَصِحُّ إلّافي المُتحيِّزِ، و صَحَّ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يَستحيلُ عليه الحُلولُ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن مُتحيِّزاً.
ص: 376
فأمّا الكَونُ في الجِهاتِ : فلا شُبهةَ في أنّ التحيُّزَ يُصَحِّحُه؛ لأنّه إذا كان المُصَحِّحُ لاحتمالِ الأعراضِ هو التحيُّزَ، و كانَتِ (1) الصفةُ التي تَحصُلُ للكائنِ في جهةٍ موجَبةً عن الكَونِ الذي إنّما احتَمَلَه الجَوهرُ و سائرَ الأعراضِ لِتحيُّزِه، فقَد عادَ الأمرُ إلى أنّ التحيُّزَ يُصَحِّحُ ذلكَ بواسطةٍ ؛ فما استَحالَ تَحيُّزُه، استَحالَ كَونُه في الجهةِ ، و استَحالَ عليه أيضاً الحركةُ و السُّكونُ و القُربُ و البُعدُ؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ يَرجِعُ إلَى الكَونِ في الجهاتِ علىٰ وجوهٍ مخصوصةٍ .
علىٰ أنّه لَو صَحَّ كَونُه تَعالىٰ في جهةٍ مِنَ الجِهاتِ ، لم يَخلُ أن يَكونَ كذلكَ لِنفسِه، أو لِمعنىً .
و لا يَجوزُ أن يَكونَ عليها لنفسِه؛ لأنّه لَيسَ بأن يَختَصَّ بجهةٍ بأَولى مِن أن يختَصَّ بغيرِها، و هذا يُؤَدّي إلىٰ أن يَكونَ في جميعِ الجهاتِ ، و ذلك مُتَضادٌّ. و على هذا ألزَمنا مَن يَقولُ : إنّه تَعالىٰ مُريدٌ لنفسِه، أن يَكونَ مُريداً لسائرِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مُراداً. و إنّما يَختَصُّ الجَوهرُ أن يَكونَ في جهةٍ دونَ أُخرىٰ ، بأن يوجَدَ ما فيه اختصاصُه بتلكَ الجهةِ ، و هذا الاختصاصُ مفقودٌ فيمن يَكونُ كذلكَ لنفسِه.
علىٰ أنّه لَو اختَصَّ بالجهةِ لنفسِه - و ذلكَ لا يَحصُلُ [إلّا] مع التحيُّزِ؛ ألا تَرىٰ أنّ العَرَضَ يُدرَكُ في جهةِ الجَوهرِ، و لا يَحصُلُ له مِن الصفةِ ما يَحصُلُ للجَوهرِ؛ مِن
حَيثُ لَم يَكُن مُتَحيِّزاً؟ - فلَو كانَ لنفسِه في الجهاتِ ، لَوَجَبَ (2) في كُلِّ ما شارَكَه مِنَ الجَواهرِ في هذه الصفةِ العائدةِ إلَى النفسِ - أعني التحيُّزَ - أن يُشارِكَه في
ص: 377
الاختصاصِ بجهةٍ إذا كانَ يَختَصُّ بها لنفسِه.
فلَم يَبقَ إلّاأنّه كذلكَ لمعنىً . و لا يَجوزُ أن يَكونَ ذلكَ المعنىٰ (108) قَديماً - لِما تَقدَّمَ مِن كلامِنا في هذا الباب(1) - و لا مُحدَثاً؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَنفَكَّ منه، و ذلك يَقتَضي حُدوثَه و بُطلانَ قِدَمِه.
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَحتَمِلُ الأعراضَ ، و لا يَصِحُّ أن تَحُلَّه: أنّ المَعقولَ مِن الحالِّ وجودُه بحسَب(2) المَحَلِّ ، و قد دَلَّلنا علىٰ أنّه تَعالىٰ لا تَصِحُّ (3)عليه الجهاتُ .
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ [ذلك]: أنّه لو احتَمَلَ الأعراضَ ، لم يَخلُ مِن أن يرجِعَ احتمالُها إلىٰ كَونِه موجوداً، أو إلى كَونِه عالِماً واجِباً و ما أشبَهَ ذلكَ مِن الصفاتِ التي تَرجِعُ (4)فينا إلَى الجُملِ ، أو يَكونَ راجعاً(5) إلىٰ صفتهِ الذاتيّةِ التي بها يُخالَفُ .
و لا يَجوزُ رُجوعُ ذلكَ إلَى الوجودِ؛ لمشارَكةِ ما يَحُلُّه في الوجودِ له، فلَيسَ وُجودُه بأن يَقتضيَ حُلولَ ذلكَ فيه بأَولىٰ مِن أن يَكونَ وجودُ ذلكَ يَقتَضي حُلولَه هو فيه.
و لا يَجوزُ أن يَرجِعَ الاحتمالُ إلَى الصفاتِ الراجعةِ فينا إلَى الجُمَلِ ؛ لأنّ ذلك يوجِبُ
ص: 378
أن يكونَ كُلُّ ما اختَصَّ بهذه الصفاتِ مُحتَمِلاً للأعراضِ ، فكان(1) يَجِبُ فينا احتمالُ الأعراضِ ، و الاحتمالُ يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ ؛ فكيفَ (2) يَتعلَّقُ بصفةٍ تَرجِعُ (3) إلَى الجُملةِ؟
و لَيسَ يَجوزُ رُجوعُ ذلكَ إلىٰ صفتِه الذاتيّةِ التي بها يُخالَفُ ؛ لأنّه يَقتَضي أنّ المَحالَّ مُشارِكةٌ له في تلكَ الصفةِ ؛ مِن حَيثُ شارَكَته في مُقتَضىٰ صفةِ ذاتِه، و استَحَقَّتها علَى الوَجهِ الذي يَستَحِقُّها؛ ألَاتَرىٰ أنّ الاحتمالَ مع الوجودِ يكونُ واجباً فيها كما يَجِبُ فيه ؟ و لا يَلزَمُ علىٰ ذلكَ المُشارَكةُ في كَونِه عالِماً و حَيّاً؛ لأنّ الوَجهَ يَختَلِفُ فينا و فيه؛ مِن حَيثُ كانَ واجباً فيه تَعالىٰ و جائزاً فينا.
و ممّا يُمكِنُ أن يُقالَ في ذلك أيضاً: أنّ صحّةَ الحُلولِ هو حُكمٌ و لَيسَ بصفةٍ ، و ما عليه الذاتُ لا يَصِحُّ أن يوجِبَ حُكماً، و إنّما يوجِبُ صفةً ؛ ألا تَرىٰ أنّ جميعَ صفاتِ الذواتِ في الشاهدِ لا توجِبُ إلّاالصفاتِ دونَ الأحكامِ؟ و إنّما كانَت كذلكَ مِن حَيثُ كانَ ما اقتَضىٰ فيها الإيجابَ يَقتَضي أن تَكونَ (4)موجِبةً لصفاتٍ ؛ لأنّ المُقتَضيَ لإيجابِها هو أن يَتمَيَّزَ جنسٌ في الوجودِ مِن جنسٍ ،
و هذا يَحصُلُ بالصفاتِ دونَ الأحكامِ . فعُلِمَ بذلكَ أنّ صفاتِه الذاتيّةَ لا يَجوزُ أن تَقتضيَ (5) احتمالَ الأعراضِ .
***
ص: 379
ممّا يدُلُّ علَى استحالةِ ذلكَ : أنّه مؤَدٍّ إلىٰ تَعدُّدِ الفِعلِ في الغَربِ و الشَّرقِ في الحالةِ الواحدةِ عليه، و قد عَلِمنا خِلافَه.
و أيضاً: فلَو كانَ في جهةٍ ، لَم يَمتَنِعْ حُصولُ جَوهرٍ بحَيثُ هو؛ لأنّه لا وَجهَ يَمنَعُ مِن ذلكَ ؛ مِن تَضادٍّ و لا غَيرِه. و مَتىٰ حَصَلَ بحَيثُ هو، فلا بُدَّ مِن كَونِه حالاًّ فيه؛ لأنّ حالَه لا يَنفَصِلُ عن حالِ (1) سائرِ الأعراضِ الحالّةِ في ذلكَ الجَوهرِ. و سَنَدُلُّ (2)علَى استحالةِ كَونِه تَعالىٰ حالاًّ(3).
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ ما طريقُ إثباتِه الفِعلُ ، لا يَصِحُّ إثباتُه إلّاعلىٰ ما يَقتَضيهِ الفِعلُ مِن الصفاتِ ؛ إمّا بنفسِه أو بواسطةٍ ، فهذه الطريقُ قد بيّنّاها في بابِ نَفيِ المائيّةِ (4)، و قد عَلِمنا أنّ طريقَ إثباتِه تَعالىٰ هو الفِعلُ دونَ غَيرِه، فيَجِبُ إثباتُ صفاتِه مِن هذا الوَجهِ . و لَيسَ في الفِعلِ ما يَقتَضي كَونَه علىٰ صفةٍ سِوىٰ ما أثبَتناه له، و لا يَقتَضي كَونَه في جهةٍ علىٰ وَجهٍ مِنَ الوجوهِ ، فيَجِبُ نَفيُ ذلكَ .
و قد سَقَطَ بما أوردناه جَهالةُ مَن اعتَقَدَ أنّه تَعالىٰ فَوقَ العَرشِ و إن لم يَكُن مُتَحيِّزاً.
ص: 380
و قولُه تَعالىٰ : «اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ »(1) و في مَوضِعٍ آخَرَ: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ »،(2). في الأصل: «حميرد». راجع: التوحيد للماتريديّ ، ص 56؛ تصحيح اعتقادات الإماميّة، ص 75؛ شرح الاُصول الخمسة، ص 151؛ كنز الفوائد، ج 2، ص 105. و أمّا قوله: «ثُلّت» يعني: هُدمت. يقال: ثللتُ البيت أثلُّه: هدمته. و يقال: ثلّ اللّٰه عرشهم، أي هدم مُلكهم (الصحاح، ج 4، ص 1648). و قوله: «و أودوا» يعني: هلكوا (لسان العرب، ج 14، ص 25).(3) * المُرادُ به الاستيلاءُ ؛ كما يُقالُ : «استَوىٰ فُلانٌ علىٰ كذا» أي استَولىٰ عليه؛ قالَ الشاعرُ:
فلَمّا عَلَونا و استَوَينا عليهِمُ (4) *** تَرَكناهُمُ صَرعىٰ لنسرٍ(5) و كاسِرِ
(109) و قيلَ : إنّ العَرشَ هاهُنا المُلكُ ، و استُشهِدَ بقولِ الشاعرِ:
إذا ما بَنُو مَروانَ ثُلَّت عُروشُهُم(6) *** و أودوا كَما أودَت(7) إيادٌ و حِميَرُ(7)
و قيلَ : بل هو [عَرشُ ] اللّٰهِ ، الذي أخبَرَ اللّٰهُ تَعالىٰ بأنّ المَلائكةَ تَحمِلُه، و إنّما خَصَّه بالذِّكرِ مع استيلائه تَعالىٰ علىٰ كُلِّ شيءٍ ؛ مِن حَيثُ كانَ العَرشُ أعظَمَ شَيءٍ خَلَقَه. و إذا كانَ مُستَولياً علَى الأعظَمِ ، فبأن يَكونَ مُستَولياً علَى الأصغَرِ أَولىٰ ، كما
ص: 381
خَصَّ العالَمينَ بقَولِه تَعالىٰ : «رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ »(1) ؛ مِن حَيثُ كانوا أعظَمَ الخَلقِ و أشرَفَه، و إن كانَ رَبَّ كُلِّ شَيءٍ .
و قولُه: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ » * المُرادُ به: ثُمّ خَلَقَ العَرشَ و هو مُستَوٍ عليه، أي مُستَولٍ ، كما قالَ تَعالىٰ : «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ »(2) أي: حتّىٰ تُجاهِدوا و نَحنُ نَعلَمُ ذلكَ ، و مَجازُ هذا مشهورٌ في اللُّغةِ .
و قيلَ أيضاً: لا يَمتَنِعُ أن يُريدَ بقَولِه - جَلَّ و عَزَّ -: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ»(3) أي: ثُمّ يُدَبِّرُ الأمرَ و هو مُستَولٍ علَى العرشِ ؛ لأنّ التدبيرَ حادِثٌ ، فيَصِحُّ أن يُعَلَّقَ به لفظُ الاستقبالِ .
و قولُه تَعالىٰ : «أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ »(4) معناه: مَن في السَّماءِ عذابُه، و ملائكتُه الموَكَّلونَ بانتقامه(5).
و قولُه تَعالىٰ : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ »(6) و معناه: أنّه يَتقبَّلُه و يُجازي عليه، كما يَقولُ أحَدُنا [لتابعٍ له: «إنّ ](7) فُلاناً، واصلٌ إليّ ، و لاحِقٌ بي» و ما أشبَهَ ذلكَ . و معنىٰ ذِكرِ الصُّعودِ، ارتفاعُ قَدرِه و مَنزلتِه عندَه.
ص: 382
و معنىٰ قولِه: «إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ »(1) في الخبرِ عن الملائكةِ عليهم السلام: أنّه اصطَفاهم و اختارَهم، و عَلىٰ هذا سَمّاهم في القرآنِ : «المُقرَّبينَ »(2). في الأصل: «بينه»، و لعلّه تصحيف عمّا أثبتناه.(3) مِن قُربِ المَنزلةِ لا المَسافةِ .
و قيلَ : إنّه أرادَ: في مُلكِه؛ كما يُقالُ : «عندَ فُلانٍ مِن الأموالِ كَذا» و كما يُقالُ :
«عندَه مِن الرِّزقِ كَذا»، أي يَملِكُه.
و قيلَ : عندَ عَرشِه.
و قيلَ : الموضِعُ الذي لا يَملِكُ الحُكمَ فيه سِواه؛ كما يُقالُ : «عندَ مَلِكِ العَرَبِ خِصبٌ أو قَحطٌ» أي: في بِلادِه التي(4) يَملِكُ التصرُّفَ فيها. و هذه جُملةٌ بيِّنةٌ (4) علىٰ ما سِواها.
***
قد عَلِمنا أنّه لا جنسَ مِن أجناسِ الأعراضِ ممّا(5) عُلِمَ باضطرارٍ و استدلالٍ إلّاو
هو مُحدَثٌ ، فلَو أشبَهَ تَعالىٰ شيئاً منها لَاستحالَ كَونُه قَديماً، كما استَحالَ فيما هو مِن جنسِه.
ص: 383
و أيضاً: فقَد ثَبَتَ في كُلِّ عَرَضٍ يُشارُ إليه و يُعقَلُ ، استحالةُ كَونِ قَبيلِه قادراً عالِماً حَيّاً، فلَو كانَ مِن قبيلِ (1) بعضِ الأعراضِ ، لَاستَحالَت هذه الصفاتُ عليه، و قد عَلِمنا وجوبَها له.
و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ الأعراضَ علىٰ ضَربَينِ :
فضَربٌ يَستَحيلُ وجودُه إلّافي مَحَلٍّ .
و ضَربٌ يَستَغني عن المَحَلِّ ؛ كإرادتِه تَعالىٰ ، و كَراهَتِه، و الفَناءِ المُضادِّ للجَواهرِ.
و كَونُه مِن قَبيلِ الضَّربِ الأوّلِ ، يَقتَضي قِدَمَ الجَواهرِ(2) أو حُدوثَه؛ لوجوبِ حُدوثِ ما لا يَستَغني عنه مِن المَحَلِّ . و كِلا الأمرَينِ فاسدٌ.
و كَونُه مِن قَبيلِ الضَّربِ الثاني باطلٌ ؛ لأنّه إن كانَ مِن قَبيلِ الإرادةِ أو الكراهةِ ، استَحالَ عليه التفرُّدُ بالقِدَمِ ؛ لأنّه لا حَيَّ فيما لَم يَزَلْ سِواهُ ، فيوجِبَ له حالَ المُريدِ أو الكارهِ . و مُحالٌ وجودُ ما له صفةُ الإرادةِ مِن غَيرِ أن يوجَبَ [له](3) حالُ المُريدِ.
علىٰ أنّ كَونَه بصفةِ الإرادةِ و الكراهةِ يُحيلُ بقاءَه، كما يَستَحيلُ البقاءُ عليهما.
و هذا الوَجهُ أيضاً يُبطِلُ كَونَه بصفةٍ ، و يُبطلُه زائداً علىٰ ذلكَ : أنّه لَو كانَ بصفةٍ لَاستحالَ مع وجودِ الجَواهرِ، و لَوجبَ أن يَصِحَّ وجودُه بَدَلاً مِن وجودِ ضِدِّه؛ لأنّ هذا حُكمُ كُلِّ ضِدَّينِ . و ذلك يُحيلُ كَونَهما أو كَونَ أحَدِهما قَديماً. فبَطَلَ (110) أن يَكونَ مُشبِهاً لشَيءٍ (4) مِن الأعراضِ .
ص: 384
[و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ الأعراضَ ](1) علىٰ ضَربَينِ :
إمّا ما يَختَصُّ المَحَلَّ مِن حَيثُ أوجَبَ له حالاً، كالكَونِ . أو يَختَصُّه(2) و لا يوجِبُ حالاً، كالألوانِ و غَيرِها.
و الضَّربُ الثّاني: ما أَوجَبَ للحَيِّ حالاً؛ كالعِلمِ و الإرادةِ و ما أشبَهَهما.
و قد أبطَلنا أن يَكونَ علىٰ صِفةِ الضَّربِ الأوّلِ .
و كَونُه علىٰ صفةِ الثاني يَقتَضي صحّةَ مُنافاةِ ضِدِّ هذه المَعاني له علىٰ بَعضِ الوجوهِ ؛ لأنّ ما يُماثِلُ الشيءَ لا يَجوزُ أن يَستحيلَ عدمُه علىٰ كُلِّ حالٍ ، ممّا يَصِحُّ عدمُ ذلكَ الشيءِ به في الجنسِ . فيَقتَضي أيضاً ما قَدَّمناه مِن استحالةِ تَفرُّدِه بالقِدَمِ ؛ مِن حيثُ وجَبَ أن يَكونَ هُناكَ ما يوجِبُ له الحالَ المخصوصةَ .
فإن قيلَ : كُلُّ الذي ذَكَرتُموه إنّما يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ الأعراضَ المعقولةَ ؛ فمِن أينَ أنّه لا يُشبِهُ عَرَضاً لا تَعقِلونَه ؟ أوَلَيسَ قد قالَ بعضُكم: «إنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَكونَ في مقدورِ اللّٰهِ تَعالىٰ لَونٌ يُخالِفُ ما يُعقَلُ مِنَ الألوانِ »؟ فألَاجازَ قياساً علىٰ ذلكَ نَوعٌ يُخالِفُ هذه الأنواعَ؟!
قُلنا: إثباتُ ما لا يُعقَلُ و لا يَقتَضيهِ الدليلُ باطلٌ ؛ لأنّه يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ التي قد تَقدَّمَ ذِكرُها.
و لَيسَ إثباتُ لَونٍ يُخالِفُ هذه الألوانَ ، بجارٍ مَجرىٰ إثباتِ عَرَضٍ يُخالِفُ جَميعَ الأعراضِ المعقولةِ ؛ لأنّ مَن أجازَ ذلكَ أجازَه علىٰ وجهٍ معقولٍ ، و بأن يَحصُلَ للمَحَلِّ به هيئةٌ ، كما يَحصُلُ بالألوانِ المعقولةِ ، فلَم يَخرُجْ بقَولِه هذا
ص: 385
عمّا يُعقَلُ . و لَيسَ هذا بمَنزلةِ إثباتِ عَرَضٍ لا يُعقَلُ ، و لا يَجري مَجرَى المعقولِ مِن الأعراضِ في شيءٍ مِن الصفاتِ و الأحكامِ .
علىٰ أنّ ذلكَ لَو ساغَ ، و جازَ لِمُثبِتٍ أن يُثبِتَ ما يُخالِفُ الأعراضَ المعقولةَ ، لَاستَحالَ كَونُه تَعالىٰ مِن جنسِ ذلكَ ؛ لأنّه لا بُدَّ في ذلكَ الذي أُثبِتَ مِن أن يَكونَ ممّا إذا وُجِدَ كان مُحدَثاً؛ فكيفَ يُشبِهُ (1) القَديمَ؟
و لا يَسوغُ إثباتُ عَرَضٍ يُخالفُ ما نَعقِلُه(2) مِن الأعراضِ ، و يَستَحيلُ وجودُه علىٰ كُلِّ وجهٍ ؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ معرفةِ كَونِ الذاتِ معلومةً ، صحّةُ وجودِ ما هو مِن جنسِها، فما لَم يَصِحَّ ذلكَ عليه، لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ ؛ فكيفَ (3) يُثبَتُ؟
علىٰ أنّ الفِعلَ و ما يَقتَضيه الفِعلُ لا يَدُلُّ علىٰ كَونِه بصفةِ بعضِ الأعراضِ ، فيَجِبُ نَفيُ ذلكَ عنه علىٰ ما تَقدَّمَ .(4)
***
منها(1)، و لَيسَ بجارٍ مَجرَى الصفاتِ التي يَنفصِلُ بعضُها مِن بعضٍ . و إذا صَحَّ ذلك استحالَ عليه تَعالَى الحُلولُ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ حُلولُه غَيرَ مُنفَصِلٍ مِن وجودِه، و هذا يَقتَضي حُلولَه فيما لَم يَزَلْ ، و يوجِبُ قِدَمَ المَحالِّ .
و أيضاً: فمِن شأنِ ما حَلَّ المَحَلَّ أن يَتعلَّقَ وجودُه به و يَختَصَّ به، و لا بُدَّ مِن بُطلانِه ببُطلانِه؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ الحالَّ في بَعضِ المَحالِّ ، يَبطُلُ ببُطلانِ مَحَلِّه دونَ بُطلانِ ما لَم يَحُلَّه؛ للعِلّةِ (2) التي ذَكَرناها؟ و هذا يَقتَضي جَوازَ البُطلانِ عليه تَعالىٰ مَتىٰ بَطَلَت المَحالُّ . و في استحالةِ العدمِ (3) عليه دليلٌ علَى استحالةِ الحُلولِ .
و أيضاً: فلَو حَلَّ بَعضَ المَحالِّ ، لَم يَصِحَّ أن يَفعَلَ في الحالةِ الواحدةِ في المَشرِقِ و المَغرِبِ .
و ليسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : «إنّه يَحُلُّ جميعَ المَحالِّ » فِراراً مِن ذلكَ ؛ (111) لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ مِن جنسِ التأليفِ حَيثُ حَلَّ (4) المَحَلَّينِ ، و مِن حَيثُ حَلَّ أكثَرَ مِن ذلكَ يَجِبُ أن يُخالِفَه. و يَجرِي مَجرَى العِلمَينِ اللّذَينِ يَتعلَّقانِ بمعلومٍ واحدٍ علَى الشُّروطِ المُراعاةِ ، و يَتعلَّقُ أحَدُهما بمعلومٍ آخَرَ لا يَتعلَّقُ به صاحبُه، في أنّهما يَجِبُ أن يَكونا مُتَماثِلَينِ مُختَلِفَينِ .
و أيضاً: فلَيسَ يَصِحُّ حُلولُ ذاتٍ في مَحَلٍّ مِن غَيرِ أن يؤَثِّرَ ضَرباً مِن التأثيرِ، حتّىٰ يَكونَ لوجودِها(5) حالّةً مِن الحُكمِ ما لَيسَ لِفَقدِها؛ لأنّها لَو لَم تَكُن حالّةً ، ما زادَ علىٰ ذلكَ . و لا حُكمَ معقولاً يُمكِنُ أن يُشارَ إليه، فيُقالَ : إنّه يَحصُلُ
ص: 387
عند حُلولِ القديمِ سُبحانَه، و لَولاه ما حَصَلَ ؛ لأنّ سائرَ الأحكامِ المعقولةِ مُستَنِدةٌ إلىٰ جهاتٍ مخصوصةٍ ، لَيسَ مِنها كَونُه حالّاً، فيَجِبُ الفَصلُ باستحالةِ حُلولِ القَديمِ (1).
و أيضاً: فلَو صَحَّ عليه الحُلولُ ، لَم يَخلُ مِن: أن يَكونَ حالّاً فيما لَم يَزَلْ و في كُلِّ حالٍ ، و هذا يَقتَضي كَونَ الجَواهرِ قَديمةً ، أو يَكونَ حالّاً بَعدَ أن لَم يَكُن كذلكَ . ثُمّ لا يَخلُو مِن أن يَحُلَّ (2) مع جَوازِ أن لا يَحُلَّ ، أو يَكونَ حالّاً علىٰ سَبيلِ الوجوبِ مَتىٰ وُجِدَتِ المَحالُّ .
و في الوَجهِ الأوّلِ [يَلزم] كَونُه حالّاً(3) لمعنىً . و لا يَلزَمُ أن يَكونَ السوادُ حالاًّ لمعنىً ؛ لأنّ السوادَ يَحُلُّ المَحَلَّ لحُدوثِه، فيَستَغني عن أمرٍ سِواه، و لَيسَ كذلكَ القَديمُ و علىٰ قولِهم(4)؛ لأنّه وُجِدَ غَيرَ حالٍّ ثُمّ حَلَّ ، فلا بُدَّ مِن معنىً . كما أنّ السوادَ لَو صَحَّ أن يَحدُثَ و لا يَكونَ حالّاً ثُمّ يَحُلَّ ، أو يَحدُثَ غَيرَ حالٍّ ، لَاحتاجَ إلىٰ معنىً .
فإن قيلَ : فبأيِّ شيءٍ يَفسُدُ كَونُه حالاًّ لمعنىٰ؟
قُلنا: لَو حَلَّ لمعنىً لَوجبَ أن يَختَصَّ به ضَرباً مِن الاختصاصِ ؛ ليَصِحَّ أن يوجِبَ كَونَه حالاًّ. و لا يَخلو أن يكونَ اختصاصُ ذلكَ المعنىٰ به مِن حَيثُ حَلَّه أو جَاوَرَه(5)، أو مِن حَيثُ حَلَّ مَحَلَّه.
ص: 388
و لا يَجوزُ أن يَحُلَّه و لا(1) يُجاوِرَه؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ كَونَه مُتَحيِّزاً، و كَونُه كذلكَ يُحيلُ حُلولَه. علىٰ أنّا قد دَلَّلنا علَى استحالةِ كَونِه بهذه الصفةِ (2).
و لا يَجوزُ أن يَحُلَّ مَحَلَّه؛ لأنّه لَيسَ بأن يَقتَضيَ حُلولَه أَولىٰ مِن أن يَقتَضيَ حُلولَه كُلُّ ما يَصِحُّ حُلولُه في ذلكَ المَحَلِّ ممّا يَحُلُّه، و هذا يَقتَضي أن لا يَنحَصِرَ ما حَلَّ المَحَلَّ ؛ لأنّ ما يَصِحُّ حُلولُه فيه لا يَنحَصِرُ. و بهذا يَبطُلُ أن يَكونَ ذلكَ المعنىٰ موجوداً لا(3) في مَحَلٍّ .
علىٰ أنّ العِلّةَ الموجِبةَ للصفةِ (4) لا يَصِحُّ أن يُجعَلَ لها(5) مِثلُ تلكَ الصفةِ التي توجِبُها(6) لغَيرِها؛ ألا ترىٰ أنّ العِلمَ لمّا(7) أَوجَبَ كَونَ العالِمِ [عالِماً]، لَم يَجُز عليه أن يَكونَ بصفةِ العالِمِ؟ و كذلكَ سائِرُ العِلَلِ . و قد عَلِمنا أنّ المعنىٰ يَحُلُّ المَحَلَّ كحُلولِه تَعالىٰ ، لَو كانَ مِمّا يَحُلُّ المَحَلَّ ؛ فكيفَ (8) يَصِحُّ إيجابُه كَونَه حالاًّ؟
و بَعدُ، إذا اشتَرَكا في الحُلولِ ، فلَيسَ أحَدُهما بأن يوجِبَ [كَونَ ] صاحبِه حالاًّ بأَولىٰ مِنَ الآخَرِ، و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّ كُلَّ واحدٍ منهما عِلّةُ الآخَرِ في الحُلولِ ، و ذلك يوجِبُ [كَونَ الشيءِ ] عِلّةً لنفسِه!
ص: 389
فإن قيلَ : و بأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يَكونَ حالاًّ على سَبيلِ الوجوبِ (1)، إذا وُجِدَت المَحالُّ؟
قلنا: يَفسُدُ ذلكَ مِن حَيثُ إنّه لا يَخلُو مِن أن يكونَ المُقتَضي لوجوبِ حُلولِه وجودَ المَحلِّ ، أو صفةً هو عليها في نفسِه(2).
و لا يَجوزُ أن يَكونَ المَحَلُّ يَقتَضي ذلكَ ؛ لأنّ مِن شأنِ المَحَلِّ أن يُصحِّح(3)حُلولَ ما يَحِلُّ فيه و لا يوجِبُه(4)؛ لأنّه إنّما يَصِحُّ حُلولُ (112) الأشياءِ فيه لِكَونِه مُتَحيِّزاً، و هذه الصفةُ تُصَحِّحُ الحُلولَ و لا تُوجِبُه.
فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ المُقتَضي لذلكَ صفةً تَرجِعُ إليه - و إن جازَ أن يُقالَ : إنّ وجودَ المَحَلِّ شرطٌ في حُلولِه، كما نَقولُه في كَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً -، و الّذي يُفسِدُ ذلكَ أنّ
تلكَ الصفةَ المُقتَضيةَ لحلُولِه، لا بُدَّ مِن أن تَكونَ معقولةً (5)، و جميعُ صِفاتِه تعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَقتَضيَ ذلكَ .
أمّا كَونُه موجوداً قادراً عالِماً حَيّاً مُدرِكاً، فلَو اقتَضىٰ كَونَه حالاًّ لَاقتَضىٰ فينا مِثلَه و أَوجَبَه؛ لأنّا نُشارِكُ في هذه الصفاتِ أجمَعَ ، و مِثلُ المُقتَضي لا بُدّ مِن اقتضائِه حَيثُ حَصَلَ ؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَه تَعالىٰ حَيّاً، لمّا أوجَبَ (6) فيه كَونَه مُدرِكاً، بشَرطِ(7) وجودِ المُدرَكاتِ ، أوجَبَ ذلكَ فينا؟
ص: 390
و لَيسَ لأحدٍ أن يقولَ : إنّ هذه الصفاتِ تَقتَضي فيه تَعالَى الحُلولَ ؛ لصحَّتِه عليه، و لا تَقتَضيه فينا؛ لاستحالتِه علينا؛ مِن حَيثُ كُنّا أجساماً.
و ذلكَ : أنّ ما أحالَ الحُكمَ في بعضِ الذواتِ ، يُحيلُ اختصاصَها بما يُصَحِّحُه أو يوجِبُه. و لهذا كانَ العدمُ لمّا أحالَ كَونَ الجَوهرِ مُحتَمِلاً للأعراضِ ، أحالَ كَونَه مُتَحيِّزاً. و عدمُ القُدرةِ لمّا أحالَ صحّةَ الفِعلِ بها، أحالَ تَعلُّقَها. فلَو كانَ المُصحِّحُ أو الموجِبُ لكَونِه تَعالىٰ حالّاً بعضَ (1) هذه الصفاتِ ، لَوجبَ أن يَستحيلَ ذلكَ علىٰ ما يَستَحيلُ حُلولُه. و في حُصولِها لنا مع استحالةِ الحُلولِ علينا دَلالةٌ علىٰ بُطلانِ تأثيرِها في الحُلولِ .
و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ كَونَه قَديماً(2)، أو وجوبَ كَونِه مُستَحِقّاً لهذه الصفاتِ ، [هو المُقتَضي لحُلولِه]، و نَحنُ لا نُشارِكُه في كَونِه قَديماً، و لا في وجوبِ استحقاقِ الصفاتِ .
و ذلكَ : أنّ كَونَه قَديماً إنّما يَرجِعُ به إلىٰ وجودِه، و إن كانَ يَجِبُ فيه الاستغناءُ عن موجِدٍ، و وجوبُ الوجودِ له في كُلِّ حالٍ . فما يَرجِعُ مِن هذه الصفةِ إلى الإثباتِ نَحنُ نشارِكُ فيه، و ما يَرجِعُ إلَى النفيِ ، مِن الاستغناءِ عن موجِدٍ و ما يَجري مَجراه، لا اعتبارَ به و لا تأثيرَ لمِثلِه.
و لأنّ مِن شأنِ كُلِّ صفةٍ اقتَضَت حُكماً أن تَقتضيَه(3) في كُلِّ موصوفٍ ؛ كانَت
ص: 391
واجبةً فيه أو جائزةً ؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَ القادرِ قادراً لمّا اقتَضىٰ صحّةَ الفِعلِ مع ارتفاعِ الموانعِ ، اقتَضاه في كُلّ قادرٍ؛ وجبَ له ذلك(1) أو جازَ عليه ؟ و كذلكَ كَونُ الحَيِّ حَيّاً لا آفةَ به، لمّا اقتَضىٰ كَونَه مُدرِكاً بشرطِ وجودِ المُدرَكِ ، اقتَضاه في كُلِّ حَيٍّ ؛ وجبَ كَونُه كذلكَ أو لَم يَجِبْ .
و هذا هو الجوابُ عن قولِهم(2): «إنّما وجبَ كَونُه حالّاً عندَ وجودِ المَحَلِّ ؛ لوجوبِ كَونِه عالِماً قادراً حَيّاً».
فإن قيلَ : فبأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يَكونَ ما هو عليه في ذاتِه مِن الصفةِ التي يُخالِفُ (3)بها جميعَ الذواتِ ، هو المقتَضيَ لحُلولِه و المُصَحِّحَ ذلكَ عليه ؟
قُلنا: يَفسُدُ ذلكَ مِن جهةِ أنّ ما عليه الذاتُ متَى اقتَضىٰ حُكماً، وجبَ أن يَقتضِيَه مَتىٰ وُجِدَ. و لا يَجوزُ مع الوجودِ أن لا يَقتضِيَه؛ كالجَوهرِ لمّا اقتَضىٰ ما هو عليه في ذاتِه تَحيُّزَه، اقتَضاه مع الوجودِ، و لَم يَقِفْ علىٰ أمرٍ زائدٍ علَى الوجودِ. فلَو كانَ ما هو تَعالىٰ عليه في نفسِه يَقتَضي الحُلولَ ، لَاستَحالَ وجودُه و هو(4) غَيرُ حالٍّ ، و قد بيّنّا أنّ ذلكَ يَقتَضي قِدَمَ الجَوهرِ(5).
و أيضاً: فإنّ ما يَجِبُ للموصوفِ مِنَ الأحكامِ لِما هو عليه في ذاتِه، يَجِبُ أن
ص: 392
يَبِينَ به مِن غَيرِه، و لا يُشارِكَه فيه ما خالَفَه، أو لا يُشارِكَه في كيفيّةِ استحقاقِه، و لهذا لا يَصِحُّ أن يُشارِكَ الجَوهرَ في التحيُّزِ ما خالَفَه، و لا يُشارِكَ القَديمَ تَعالىٰ في كيفيّةِ كَونِه عالِماً و قادراً (113) ما خالَفَه. و قد عَلِمنا أنّه لَو صَحَّ الحُلولُ عليه لَكانَت حالُه كحالِ جميعِ ما يَحُلُّ المَحالَّ ، في أنّه مَتىٰ صَحَّ أن يَحُلَّ و وُجِدَ المَحَلُّ وجبَ حُلولُه. فلَو رَجَعَ صحّةُ حُلولِه إلىٰ ما هو عليه في ذاتِه، لَاستَحالَ أن يُشارِكَه في هذا الحُكمِ علَى الوَجهِ الذي استَحقَّه ما يُخالِفُه مِنَ الأعراضِ .
فإن قيلَ : ألا جازَ أن يَجِبَ كَونُه حالّاً في المَحَلِّ عندَ وجودِ المَحَلِّ لا لعِلّةٍ و لا لِبعضِ ما هو عليه مِن الصفاتِ ، كما أنّ العَرَضَ يَحُلُّ المَحَلَّ لا لعِلّةٍ و لا لشيءٍ هو عليه مِن صفاتِه ؟
قُلنا: إنّما يَصِحُّ ذلكَ في الأعراضِ ؛ لأنّ حُلولَها(1) في المَحَلِّ تابعٌ لحُدوثِها و كيفيَّةٌ لوجودِها، فجَرىٰ مَجرَى الأحكامِ التابعةِ للحُدوثِ - مِن حُسنٍ و قُبحٍ - في الاستغناءِ عن العللِ ، و [في] أنّها(2) ممّا لا يَرجِعُ إلَى الذاتِ . و لَيسَ كذلكَ حالُه تَعالىٰ لَو صَحَّ عليه الحُلولُ ؛ لأنّه كانَ يَحُلُّ المَحَلَّ بَعدَ أن لَم يَكُن حالّاً مع وجودِه في الحالَينِ . و كُلُّ صفةٍ وجبَت للموجودِ بَعدَ أن لَم تَكُن واجبةً ، و لَم نَقِفْ (3) علىٰ عِلّةٍ توجِبُها، فلا بُدَّ مِن أن يَقتَضيَها(4) ما(5) الذاتُ عليه، و إن تَعلَّقَ ذلكَ بشرطٍ، كما
ص: 393
يَقولونَه في كَونِه مُدرِكاً. و هذا واضحٌ لِمَن تأمَّلَه.
***
[6] فَصلٌ فيما يَتعلَّقُ بالعبارةِ (1) في هذا البابِ (2)
اعلَمْ أنّ كُلَّ لَفظةٍ (3) أفادَت معنىً مِن المَعاني، و عُلِمَ استحالةُ ذلك المعنىٰ في
ذاتٍ مِن الذواتِ ، لَم يَجُز إجراؤها عليه إلّاعلىٰ وجه اللَّقَبِ (4) دون الإفادةِ . و قد ثَبَتَ أنّ المعنَى المُستَفادَ مِن وَصفِنا الجسمَ بأنّه جسمٌ لا يَصِحُّ علَى اللّٰهِ تَعالىٰ (5)، و تَلقيبُه أيضاً به لا يَحسُنُ ، فيَجِبُ أن لا يوصَفَ بأنّه جسمٌ علىٰ وجهٍ مِنَ الوجوهِ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ معنَى الجسمِ لا يَجوزُ عليه(6) أنّهم وَضَعوا هذه اللَّفظةَ لِما جَمَعَ الطُّولَ و العَرْضَ و العُمقَ .
يُبيِّنُ (7) ذلكَ أنّهم يَصِفونَ ما زادَ ذَهابُه في جهةِ الطُّولِ و العَرْضِ [و العُمقِ ] بأنّه:
«أجسَمُ مِن غَيرِه». و لا يَصِفونَه بأنّه «أجسَمُ » متىٰ زادَ لونُه أو بعضُ صفاتِه. و هذه
ص: 394
اللَّفظةُ - يَعني لَفظَ «أفعَلُ » - تُنبِئُ (1) في موضوعِهم عن الزائدِ، و لا تَدخُلُ عندَهم إلّا بَينَ شَيئَينِ اشتَرَكا في صفةٍ فيها(2) التَّزايُدُ و المُبالَغةُ ، و استَعمَلوها في كُلِّ صفةٍ أمكَنَ فيها التَّزايُدُ، علَى الوَجهِ الذي ذَكَرنا. فدَلَّ قولُهم: «أجسَمُ » فيما زادَ طُولُه و عَرْضُه و عُمقُه، علىٰ أنّ قولَهم «جسمٌ » يُفيدُ الطُّولَ و العَرْضَ [و العُمقَ ].
و لا يَقدَحُ فيما ذَكَرناه قولُه تَعالىٰ : «أَ ذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ»(3) ، و أنّه أَدخَلَ لَفظةَ «أفعَلُ » فيما لَم يَشتَركا في الصفةِ ؛ و ذلكَ أنّ الكلامَ قَد يَخرُجُ كثيراً في لِسانِ العَرَبِ علىٰ حَسَبِ اعتيادِ المُخاطَبِ ، و إذا كانَ العامِلُ أعمالَ أهلِ النارِ و المؤْثِرُ لها علىٰ ما تَعقُبُه الجَنّةُ ، كأنّه قد اعتَقَدَ أنّ الذي عَمِلَ له خَيرٌ ممّا لَم يَعمَلْ له، جازَ أن يُقالَ [له]: الذي اعتَقَدتَه و عَمِلتَ له خَيرٌ، أم(4) كَذا و كَذا؟
و قد قيلَ في ذلك: إنّ لَفظةَ «أفعَلُ » تَقتَضي(5) ما ذَكَرناه إذا كانَت خَيراً، فأمّا إذا خَرَجَت مَخرَجَ التَّقريعِ و التَّهديدِ، جازَ أن يُرادَ بها خِلافُ ذلكَ علىٰ جهةِ المَجازِ.
فإن قيلَ : و مِن أينَ لَفظةُ «أجسَمُ » مِن كلامِ العَرَبِ الذين يُحتَجُّ بِلُغَتِهم ؟
قُلنا: لا شُبهةَ في ذلكَ علىٰ مَن تأمَّلَ خِطابَهم، و قد قالَ عامِرُ بنُ الطُّفَيلِ (6):
ص: 395
و قد عَلِمَ الحَيُّ مِن عامِرٍ *** بأنَّ لَنا ذِروَةَ الأَجسَمِ (1)
و الشاعرُ و إن لَم يَقصِدْ بقولِه هذا إلىٰ ما ذَكَرناه مِن معنَى الزائدِ في الطولِ و العَرْضِ و العُمقِ ، فقولُه شاهدٌ لنا علىٰ أنّ هذه اللَّفظةَ مُستَعمَلةٌ عندَهم، معروفةٌ في
خِطابِهم. و لَيسَ يُمكِنُ بَعدَ استعمالِها أن تَكونَ حقيقتُها (114) إلّاما ذَكَرناه؛ لأنّ ما عَداه لا شُبهةَ في أنّها لَم توضَعْ له، و إنّما استَعمَلَها الشاعِرُ تَشبيهاً بالحقيقةِ ؛ لأنّه جَعَلَ الزائدَ في الفَخرِ و المَجدِ كالزائدِ(2) في الطُّولِ و العَرْضِ و العُمقِ ، كما جَعَلَ الذِّروَةَ التي تُستَعمَلُ في أعلَى الجَبَلِ و ما أشبَهَه، مُستَعمَلةً في غَيرِه.
علىٰ أنّه لا شُبهةَ (3) في قولِهم(4): «جَسُمَ فهو جَسيمٌ (5)»(6)، و لا يُمكِنُ رَفعُ ذلكَ مِن استعمالِهم. و كُلُّ ما جاءَ مِنه «فَعيلٌ » صَحَّ مِنه «أفعَلُ »، علىٰ مُقتَضى لُغَتِهم، [و هذا] قياسٌ مُطَّرِدٌ، و لهذا يَقولونَ : «ظَريفٌ و أَظرَفُ »، و «كَرُمَ الرَّجُلُ فهو كَريمٌ و أكرَمُ ».
و يُمكِنُ أيضاً أن يُقالَ : لَفظةُ «فَعيل» تَقتَضي المُبالَغةَ عندَهم بغَيرِ شَكٍّ ، و قد وَجَدناهم يَقولونَ : «جَسيمٌ »(7) لِما زادَ ذَهابُه في الجهاتِ . فيَجِبُ أن يَكونَ قولُنا:
ص: 396
«جَسيمٌ »(1) موضوعاً لِما عند الزيادةِ فيه يُقالُ : «أجسَمُ (2)»؛ لأنّ حُكمَ الجَسيمِ في بابِ المُبالَغةِ حُكمُ أجسَمَ .
و هذه الجُملةُ التي ذَكَرناها، تُبطِلُ قولَ مَن ذَهَبَ في الجسمِ إلىٰ أنّه هو «القائمُ بنفسِه»؛ لأنّ هذه الصفةَ لا يَصِحُّ فيها التَّزايُدُ و التَّفاضُلُ ، و قد بيّنّا أنّ وَصفَ الجسمِ بأنّه جسمٌ يَدخُلُه التَّزايُدُ.
و تُبطِلُ (3) أيضاً قولَ مَن ذَهَبَ إلىٰ [أنّ ] وَصفَ الجسمِ بأنّه جسمٌ ، يُفيدُ: أنّه «مؤَلَّفٌ »، أو أنّه «موضوعٌ للجَوهرِ»؛ علىٰ ما يُحكىٰ عن الصّالِحيِّ (4)؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ لا يَصِحُّ فيه معنَى التَّزايُدِ. و إن كانَ لَو ثَبَتَ أنّه يُفيدُ المؤَلَّفَ أو الجَوهرَ، لَكانَ يَجِبُ مِن نَفيِه عنِ اللّٰهِ تَعالىٰ - مِن حَيثُ لَم يَكُن بهذه الصفةِ - مِثلُ ما يَجِبُ مِن نَفيِه إذا كان مُفيداً [لقيامِه بنفسِه]؛ لِما ذَكَرناه مِن أنّ مَن وَصَفَه تَعالىٰ بأنّه جسمٌ مِن حَيثُ كانَ قائماً بنفسِه، يَلزَمُه أن يَصِفَه بأنّه جَوهرٌ؛ لأنّه قائمٌ بنفسِه، و إنّما توصَفُ (5)جُملةُ الجسمِ بذلكَ ؛ لاختصاصِ كُلِّ جَوهرٍ مِنه بهذه الصفةِ .
و لَيسَ يَخلو أيضاً قولُه: «قائمٌ بنفسِه»، مِن أن يُريدَ به استغناءَه عن مَحَلٍّ و مكانٍ ، أو يُريدَ أنّه ممّا يَبقىٰ و يَدومُ وجودُه، و لا يُحَدِّدُه الفاعلُ في كُلِّ حالٍ .
ص: 397
فإن أرادَ الأوّلَ ، لَزِمَه أن يُسَمّيَ إرادةَ القَديمِ تَعالىٰ و كَراهتَه، و فَناءَ الجَواهرِ
بذلكَ ، و يُسَمّيَ المعدومَ أيضاً به.
و إن أرادَ الثانيَ ، لَزِمَه أن يَصِفَ جميعَ الأعراضِ الباقياتِ بأنّها «أجسامٌ ».
فإن قيلَ : و بأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يُسَمّىٰ بأنّه «جسمٌ » علىٰ جهةِ التَّلقيبِ؟
قُلنا: مِن حَيثُ (1) كانَ الوَجهُ في إجراءِ (2) الألقابِ هو ليُمكِنَ الإخبارُ عن الذواتِ في حال الغَيبةِ كما يُمكِنُ الإشارةُ إليها في حالِ الحُضورِ، فأُقِيمَ اللقَبُ مقامَ الإشارةِ ، فيَجِبُ أن لا يَحسُنَ استعمالُه إلّافيمَن يَصِحُّ عليه الغَيبةُ و الحُضورُ، و ذلك لا يَصِحُّ عليه تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ كانَ في كُلِّ حالٍ بمَنزلةِ الحاضرِ الذي لا تَتعذَّرُ(3) الإشارةُ إليه؛ لأنّ ذِكرَه و الإخبارَ عنه بصِفاتِه التي يَنفَرِدُ بها؛ نَحوَ كَونِه قَديماً عالِماً قادراً لنفسِه، يُمكِنُ في كُلِّ حالٍ و لا يَتعذَّرُ، فجَرىٰ مَجرَى الشاهدِ لَو كانَ ممّا يُمكِنُ الإشارةُ إليه في كُلِّ حالٍ ، و يَتعذَّرُ خُروجُه عن كَونِه مُشاهَداً، فكما أنّا لَو فَرَضنا ذلكَ ، لَقَبُحَ تلقيبُه و لَكانَ عَيباً، فكذلكَ تَلقيبُ القَديمِ تَعالىٰ .
و لا يَلزَمُ علىٰ ما ذَكَرناه في(4) الغَرَضِ باللقَبِ [نفسُ الكلام عند الإتيان] بكُنيةِ الشخصِ بَعدَ تَلقيبِه؛ لأنّ ذلكَ لَم يُفعَلْ للتعريفِ بل للتعظيمِ (5)، و كانَ المقصَدُ بالكُنيةِ في الأصلِ عندَ القومِ التفاؤلَ .
ص: 398
و لا يَلزَمُ عليه تَرادُفُ الألقابِ ؛ لأنّ الغَرَضَ في كَثرَةِ الألقابِ يَختَلِفُ ، و لَيسَ المَقصَدُ بالجميعِ إلَى التعريفِ ؛ بدَلالةِ استِقباحِهم تَلقيبَ الشخصِ بالألقابِ الكثيرةِ في الحالِ الواحدةِ ، إذا كانَ غَرَضُهم التعريفَ دونَ غَيرِه.
و لا يَلزَمُ عليه تَلقيبُ الحاضرِ، و إن كانَتِ الإشارةُ إليه (115) مُمكِنةً ؛ لأنّ حُضورَه لا يَمنَعُ مِن جَوازِ غَيبَتِه. و الحاجةِ مع الغَيبةِ إلَى الإخبارِ عنه.
[فإن قيلَ : أوَ لستُم تُخبِرونَ عن اللّٰهِ تَعالىٰ بصفاتِه التي يَنفَرِدُ بها؛ نَحوُ كَونِه قَديماً عالِماً قادراً لنفسِه، فلِمَ لا تُجيزونَ الإخبارَ عنه تَعالىٰ بلقَبٍ تُلقِّبونه به ؟ و ما الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ؟
قُلنا:] (1) إنّ لأوصافِه التي يَنفَرِدُ بها مِن المَزيّةِ في هذا البابِ ما لَيسَ لِلَّقَبِ ؛ لأنّ الاشتراكَ في الصفاتِ التي يَختَصُّ بها لا يَصِحُّ . و لو جَرىٰ عليه اللقَبُ لَصَحَّت مُشارَكتُه فيه، و كانَ يَحتاجُ عندَ المُشارَكةِ إلىٰ ضَمِّ ما يَبِينُ به مِنَ الأوصافِ إلَى اللقَبِ ؛ لِيَنفَعَ الإبانةَ و التعريفَ . فوَضَحَ بما ذَكَرناه أنّ اللقَبَ فيه تَعالىٰ لا معنىٰ له، و أنّ الإخبارَ عنه بما يَبِينُ به مِن الصفاتِ أَولىٰ .
عندَهم و «لاهٌ » واحدٌ؛ قالَ الأعشىٰ (1):
كحَلفَةٍ مِن أبي رِياحٍ *** يَسمَعُها لاهُهُ الكُبارُ(2)
و قيلَ أيضاً: إنّ أصلَ ذلكَ «إلهٌ » فأُدخِلَتِ الألِفُ و اللامُ للتعريفِ ، فصارَ: «الإلهُ »، فحُذِفَتِ الهمزةُ التي بَينَ اللامَينِ ، و أُلقِيَت حركتُها علَى اللامِ الأُولىٰ ، و كانَت ساكنةً ، ثُمّ سُكِّنَت هذه اللامُ و أُدغِمَت في اللامِ الثانيةِ .(3)
فأمّا تَسمِيَتُه تَعالىٰ ب: «شيءٍ »(4) فلَيسَ أيضاً بلَقَبٍ ؛ لأنّ هذه اللَّفظةَ و إن لَم تُفِدْ في المُسَمّىٰ بعضَ الصفاتِ التي يَتميَّزُ بها، فهي في الأصلِ ممّا وُضِعَ للفائدةِ ، و إنّما خَرَجَت عن بابِ التمييزِ مِن حَيثُ اشتراكِ جميعِ ما تُستَعمَلُ (5) فيه في فائدتِها؛ ألَا تَرىٰ أنّ جميعَ ما يُسمّىٰ [ب «شيءٍ »] يَصِحُّ أن يُعلَمَ و يُخبَرَ عنه ؟ فلَيسَ يَرجِعُ إلى غيره(6) [ما] لَم يُفِدْ. و اللقَبُ في نفسِه لا يُفيدُ؛ مِن حيثُ لَم يوضَعْ في الأصلِ للإفادةِ .
ص: 400
و الذي يُبَيِّنُ أنّ لَفظةَ «شَيءٍ » في الأصلِ مُفِيدةٌ مُفارِقةُ اللقَبِ (1)، أنّ تَبديلَها - و اللُّغةُ علىٰ ما هي عليه - لا يَصِحُّ ، و إن صَحَّ في الألقابِ - مع ثَباتِ اللُّغةِ - التبديلُ .
و لَيسَ قولُنا: «إنّه تَعالىٰ شيءٌ لا كالأشياءِ » كقولِنا: «إنّه جسمٌ لا كالأجسامِ »؛ لأنّ قولَنا: «شيءٌ » لا يُفيدُ التَّجنيسَ و لا التَّماثُلَ فيما يَقَعُ عليه، و قولَنا:
«جسمٌ » يُفيدُ التَّماثُلَ و التَّجنيسَ فيما يوصَفُ به. فإذا قلنا: إنّه «شيءٌ لا كالأشياءِ » لَم يَنقُضْ آخِرُ الكلامِ ما أثبَتناه بأوّلِه، و إذا قُلنا: «جسمٌ لا كالأجسامِ » فقد نَقَضنا بآخِرِ الكلامِ ما أثبَتناه في صَدرِه، و جَرىٰ مَجرىٰ قولِنا: «إنّه جِسمٌ و لَيسَ بجسمٍ »، و القائلُ بذلكَ لا يَجِدُ فَرقاً بَينَه و بَينَ مَن قالَ : «إنّه مؤلَّفٌ لا كالمؤلَّفِينَ »، و «إنسانٌ لا كالنّاسِ ».
فأمّا مَن أثبَتَ له تَعالىٰ عَيناً و وَجهاً و يَداً، و لَم يَرجِعْ بذلكَ إلىٰ ما تُفيدُه
هذه الألفاظُ مِن الجَوارحِ ، أو ما تُستَعمَلُ (2) لَفظةُ «اليَدِ» فيه مِنَ النِّعمةِ أو القُوّةِ ، و لَفظةُ «الوَجهِ » مِن الإخبارِ عن ذاتِ الشيءِ ، و لَفظةُ «العَينِ » مِن العِلمِ بالشيءِ ، و ادَّعىٰ في كُلِّ ذلكَ أنّه مِن صفاتِ ذاتِه، فإنّه لَيسَ يَخلو مِن أن يُشيرَ بقولِه: «إنّها صفاتُ ذاتِه» إلَى الصفاتِ التي بيّنّاها له تَعالىٰ بدليلِ الفِعلِ ، كنَحوِ كَونِه تَعالىٰ عالِماً قادراً قَديماً إلىٰ ما شاكَلَ ذلكَ ، أو يُشيرَ إلىٰ غَيرِ ذلكَ .
فإن أرادَ الثاني، فقَد أخطَأَ في المعنىٰ و العِبارةِ ، و سَمّىٰ ما لَيسَ بمعقولٍ بِاسمٍ غَيرِ موضوعٍ لِمِثلِه لَو كانَ معقولاً. و قد تَقدَّمَ أنّ إثباتَه تَعالىٰ علىٰ صفةٍ لا يَدُلُّ
ص: 401
عليها(1) الفِعلُ بنفسِه أو بواسطةٍ لا يَصِحُّ (2). و لَيسَ في الفعلِ ما يَقتَضي إثباتَه علىٰ أكثَرَ مِن صفاتِه التي أثبَتناها. و تَسميةُ الشيءِ و تَلقيبُه فَرعٌ علىٰ إثباتِه.
و إنْ أرادَ الأوّلَ ، فهو مُخطئٌ مِن طريقِ العِبارةِ ؛ لأنّ «اليَدَ» و «الوَجهَ » لَم يُستَعمَلا في حقيقةِ اللُّغةِ و لا مَجازِها و لا في شيءٍ مِن عُرفِ أهلِها في صفاتِ الحَيِّ ، فلا فَرقَ بَينَ مَن يُطلِقُ ذلكَ فيه تَعالىٰ علىٰ (116) هذا الوَجهِ و بَينَ مَن أطلَقَ أنّه جسمٌ و أرادَ بعضَ ما هو عليه مِن الصفاتِ الثابتةِ بدليلٍ .
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّا إنّما رَجَعنا في ذلكَ إلىٰ قولِه تَعالىٰ : «بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ »(3). في الأصل: «جوّزنا».(4) ، و «مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »(5) و ما أشبَهَ ذلكَ .
لأنّ خِطابَه تَعالىٰ لا يَجوزُ - و هو نازلٌ بلُغةِ العَرَبِ - أن يُحمَلَ علىٰ ما [لا] يُستَعمَلُ في لُغتِهم حقيقةً و لا مَجازاً؛ لأنّ تَجويزَ مِثلِ ذلكَ يوجِبُ الشَّكَّ في جميعِ مُرادِه بخِطابِه.
و لَيسَ هذا ممّا جَوَّزناه،(5) مِن خِطابِه لهم بالأسماءِ الشرعيّةِ التي أرادَ اللّٰهُ تَعالىٰ بها خِلافَ ما تَقتَضيهِ (6) اللُّغةُ ، في شيءٍ ؛ لأنّ ذلكَ إنّما ساغَ بَعدَ أن دَلَّ علىٰ مُرادِه بها، و صارَ ما قَرَّرَه و دَلَّ عليه مِن مُرادِه كالمُواضَعةِ المُبتَدأةِ الناقِلةِ عن طريقةِ اللُّغةِ .
و كُلُّ هذا غَيرُ ثابتٍ فيما ادَّعَوه.
علىٰ أنّهم إذا عَوَّلوا في ذلكَ علَى الظاهرِ، و لَم يَعتَبِروا المَعانيَ ، فيَجِبُ أن يَقولوا:
ص: 402
إنّ له أعيُناً؛ لِقوله(1) تَعالىٰ : «تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا»(2) ، و أَيدِياً(3)؛ لقولِه: «مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا»(4) ،
و كانَ يَنبَغي أيضاً أن يُثبِتوه نوراً؛ لقولِه تَعالىٰ : «اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ »(5) ، و يَدَّعوا(6) أنّ ذلكَ مِن صفاتِ ذاتِه، كما قالوا في غَيرِه.
فأمّا تأويلُ هذه الآياتِ المُتَشابهاتِ ، فقد بَيَّنه عُلَماءُ أهلِ التأويلِ ، و ذَكَروا أنّ معنىٰ قولِه تَعالىٰ : «بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ »(7) أي: نِعَمُه مبسوطةٌ ، و رِزقُه دارٌّ نازِلٌ ، كما تَقولُ العَرَبُ : «يَدُ فُلانٍ مبسوطةٌ » إذا أرادوا وَصفَه بِالجُودِ(8) و كَثرةِ العَطاءِ . و مِثلُه قولُه تَعالىٰ : «وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ»(9) . و هذا القولُ رَدٌّ علَى اليهودِ الذينَ ادَّعَوا أنّه قد أمسَكَ عنهم رِزقَه و حَبَسَ خَيرَه(10)، و لَم يُدَّعُوا أنّ له جارِحةً مقبوضةً .
و قيلَ : إنّ الوَجهَ في تَثنيةِ «اليَدَينِ »، أنّه أرادَ نِعمةَ الدُّنيا و الدِّينِ ، أو النِّعمةَ الظاهرةَ و الباطنةَ .
ص: 403
فأمّا قولُه تَعالىٰ : «لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »(1) ، فمَعناه: لِما خَلَقتُ أنا، و أكَّدَ بذِكرِ اليَدِ. و هذا كقَولِه تَعالىٰ : «ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ يَدٰاكَ »(2).
و قَولُه تَعالىٰ : «وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ »(3) أي: بمِلكِه و قُدرَتِه، كما قالَ تَعالىٰ : «مِمّٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ »(4) ، و قولِهم(5): «فُلانٌ يَطَأُ جارِيَتَه بمِلكِ اليَمينِ ». و إنّما يُضيفونَ كُلَّ ذلك إلَى اليَمينِ : تَفخيماً للأمرِ، و تأكيداً للمِلكِ ؛ لأنّ اليَمينَ أشرَفُ مِن غَيرِها و أقوىٰ حَظّاً.
و يَقرُبُ مِن ذلكَ في المعنىٰ قولُه تَعالىٰ : «وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ »(6) ؛ لأنّ فائدتَه أنّه يُصرِّفُها و يُدَبِّرُها كيفَ شاءَ .
و قولُه تَعالىٰ : «يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ »(7) معناه أنّه أقوىٰ مِنهم و أقهَرُ.
و قولُه تَعالىٰ : «تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا»(8) أنّها تَجري و نَحنُ نَعلَمُها، كما تَقولُ العَرَبُ :
«هذا الشيءُ بعَيني» أي: لا يَخفىٰ عَلَيَّ .
و أمّا قولُه تَعالىٰ : «وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ »(9) فالمُرادُ: أنّه يَبقىٰ رَبُّكَ ، و قَد يُعَبَّرُ عن الذاتِ بالوجهِ ؛ كقَولِهم: «فَعَلتُ هذا لوَجهِكَ »، و «هذا وَجهُ الصَّوابِ ».
و قولُه تَعالىٰ : «فِي جَنْبِ اَللّٰهِ »(10) أي في طاعَتِه و رِضاه؛ كما يُقالُ : «أَحتَمِلُ كُلَّ شيءٍ في جَنبِ فُلانٍ » أي في مَحبَّتِه.
و هذه جُملةٌ كافيةٌ ، و شَرحُها يَطولُ .
***
ص: 404
[الفصلُ الثالث](1)الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ
اعلَمْ أنّه لا كلامَ لنا في هذه المسألةِ مع المُشَبِّهةِ ؛ لأنّهم إذا قالوا: «إنّه يُدرَكُ بالحَواسِّ »، فقَد قاسوا قولَهم و ذَهَبوا إلىٰ ما يَقتَضيهِ ، و نَحنُ لا نُنكِرُ رؤيةَ الأجسامِ و لا لَمسَها، و إنّما كلامُنا الآنَ مع مَن نَفَى التشبيهَ عنه تَعالىٰ ، و أثبَتَ الرؤيةَ أو غَيرَها مِن ضُروبِ الإدراكِ ؛ لأنّ ما يُبنىٰ مِن ذلكَ علَى التشبيهِ قد أبطَلناه بإبطالِ التشبيهِ .
***
المُعتَمَدُ في هذا البابِ علىٰ أنّ الرائيَ مَتىٰ (2) حَصَلَ علَى الصفةِ التي لِكَونِه عليها
ص: 405
يَرَى المَرئيّاتِ ، و حَصَلَ المَرئيُّ بالصفةِ التي لِكَونِه عليها يَراهُ الراؤُونَ ، و ارتَفَعَتِ الموانعُ المعقولةُ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه رائياً له؛ و لهذا نَقولُ : إنّ الرؤيةَ إذا صَحَّت وَجَبَت، و إذا لَم تَجِبْ فهي مُستَحيلةٌ .
[1.] مِنها: أنّ أحَدَنا علَى الصفةِ التي لِكَونِه عليها يَرَى المَرئيّاتِ ، و يَدخُلُ (1) في ذلك الكلامُ في نفيِ : كونِ الإدراكِ معنىً ، و الحاسّةِ السادسةِ ، و ما أشبَهَ ذلكَ مِن ضُروبِ الشُّبَهِ .
[2.] و مِنها: أنّ المَوانعَ التي تَمنَعُ مِن الرؤيةِ مُرتَفِعةٌ عنه تَعالىٰ .
[3.] و مِنها: أنّه لَو كانَ مَرئيّاً في نفسِه، لَوَجَبَ (2) أن يَكونَ علَى الصفةِ التي لَو رُئيَ ،(3) لَم يُرَ إلّاعليها.
[4.] و مِنها: أنّ ما كانَت [هذه] سَبيلُه، فرؤيَتُه واجبةٌ ، و أنّ الرؤيةَ مَتىٰ صَحَّت وجبَت.
[5.] و مِنها: أنّنا غَيرُ رائينَ لَه تَعالىٰ .
و نَحنُ نَدُلُّ علىٰ ذلكَ أجمَعَ بعَونِ اللّٰهِ :
أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ صحّةِ الفَصلِ الأوّلِ : فهو أنّ الواحِدَ منّا إنّما يَرَى المَرئيّاتِ أجمَعَ ، لِكَونِه حَيّاً، بشرطِ وجودِ المَرئيِّ ، و ارتفاعِ الآفاتِ عنه و المَوانِعِ (4)، و قد
ص: 406
دَلَّلنا(1) علىٰ ذلكَ في بابِ الصفاتِ في هذا الكتابِ و شَرَحناه.(2) و هذا يَقتَضي صحّةَ ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ أحَدَنا مَتىٰ كانَ حَيّاً، لا آفَةَ به، فهو فيما يَرجِعُ عليه، علَى الصفة التي معها يُدرِكُ ، و إنِ اعتُبِرَ وجودُ المُدرَكِ و ارتفاعُ المَوانعِ .
فإن قيلَ : و أينَ أنتُم عمّا يَذهَبُ إليه خُصومُكم؛ مِن أنّ الرائيَ إنّما يَرىٰ برؤيةٍ توجَدُ في عَينِه، و أنّ ذلكَ [هو] المؤَثِّرُ في كَونِه رائياً دونَ ما ذَكَرتم ؟
قُلنا: الذي يَدُلُّ علىٰ فَسادِ كَونِ أحَدِنا رائياً لِمَعنىً ، أشياءُ :
منها: أنّه لَو كانَ كذلكَ ، لَوجبَ أن تَثبُتَ (3) فيه طريقةُ إثباتِ المعاني، و قد عَلِمنا خلافَ ذلك؛ لأنّ المُصَحِّحَ لهذه الصفةِ مَتىٰ ثَبَتَ و حَصَلَ الشَّرطُ، فلا بُدَّ مِن ثُبوتِ الصفةِ و الحالُ مُستَمِرّةٌ فيما ذَكَرناه غَيرُ مُختَلِفةٍ . و ما يَجري هذا المَجرىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مِن(4) المَعاني؛ لأنّ مِن شأنِ ما يجِبُ عنها أن يَحصُلَ تارةً و لا يَحصُلَ أُخرىٰ ، مع ثُبوتِ المُصَحِّحِ و الشَّرطِ.
و هذه الطريقةُ إنّما تَتوجَّهُ (5) علىٰ مَذهبِ أبي عَليٍّ (6) و مَن قالَ بقَولِه في أنّ البَصَرَ إذا كانَ صحيحاً و وُجِدَ المُدرَكُ ، فلا بُدَّ مِن وجودِ الرؤيةِ فيه(7)، و علَى البَغداديّينَ
ص: 407
الذين يَقولونَ : إنّ الرؤيةَ تَتولَّدُ عن الفَتحةِ (1) و ما أشبَهَها.
فأمّا مَن أثبَتَ الرؤيةَ ، و جَوَّزَ أن تَتَكامَلَ كُلُّ الشرائطِ التي ذَكَرناها، و مع ذلكَ لا تَحصُلُ (2)، فإنّ ذلكَ و إن لَم يَلزَمْه، فقَولُه يَفسُدُ بالوجوهِ المُتأخِّرةِ .
و مِنها: أنّه قد ثَبَتَ أنّ القَديمَ تَعالىٰ إنّما يَكونُ رائياً لِكَونِه حَيّاً بشرطِ وجودِ المُدرَكِ ، فيَجِبُ علىٰ هذا مَتىٰ حَصَلَ أحَدُنا حَيّاً، و وُجِدَ المُدرَكُ و ارتَفَعَتِ الموانِعُ و الآفاتُ ، أن يَكونَ رائياً(3)؛ لأنّ المُقتَضيَ لا يَجوزُ أن يَختَلِفَ اقتضاؤه [باختلافِ الموارد](4) و المَواضِعِ ، بَل لا بُدَّ مِن وجودِ المُقتَضىٰ مَتىٰ ثَبَتَ المُقتَضي
و تَكامَلَ الشَّرطُ؛ ألَاتَرىٰ أنّ الفِعلَ لمّا صَحَّ مِنه تَعالىٰ لِكَونِه قادراً، و المُحكَمَ لِكَونِه عالِماً، وجبَ مِثلُه في أحدِنا، و لم يُعتَبَرِ الاختلافُ فيما به كُنّا قادرينَ أو عالِمينَ ، و أنّه تعالىٰ كذلكَ بنَفسِه دونَنا(5)؟
و لا تَقدَحُ في ذلكَ حاجتُنا في الرؤيةِ إلَى الآلةِ دونَه تَعالىٰ ؛ و ذلكَ أنّ الآلةَ لَيسَت بموجِبةٍ لِكَونِ أحَدِنا رائياً، و إنّما هي شرطٌ في ذلكَ . و لَيسَ يَمتَنِعُ أن يُخَصَّ (6) الشَّرطُ بمَوضِعٍ دونَ آخَرَ بحَسَبِ قيامِ الدليلِ . و ما يَقتَضي أو يوجِبُ بخِلافِ ذلكَ ؛ (118) لأنّه حَيثُما حَصَلَ ، [وُجِدَ ما حَصَلَ ] مِن اقتضائه أو إيجابِه، و لا يَجوزُ اختلافُ الحالِ فيه.
ص: 408
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فلَعلَّ المؤَثِّرَ في كَونِه تَعالىٰ رائياً، هو ما يَستَحِقُّه عن الصفةِ النفسيّةِ ؛ و ذلكَ لأنّ ما عليه الذاتُ لا يَصِحُّ أن يَقتَضيَ صفةً بشرطِ ثُبوتِ أمرٍ مُنفَصِلٍ عنها؛ ألا تَرىٰ أنّ تَحيُّزَ الجَوهرِ لمّا كانَ مُقتَضىً عمّا هو عليه في ذاتِه، لَم يَجُز أن يَكونَ مشروطاً بوجودِ أمرٍ مُنفَصِلٍ ، بل كانَ موقوفاً علىٰ وجودِ الجَوهرِ؟ و إنّما كانَ كذلكَ مِن حَيثُ كانَ مُقتَضىً عمّا الذاتُ (1) عليه؛ ألا تَرىٰ أنّ مُنافاةَ الشيءِ لغيرِه، لمّا(2) لَم يَكُن مُقتَضىً عمّا عليه الذاتُ ، بل كانَ مُقتَضىً عمّا تَقتَضيهِ (3) صفةُ الذاتِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يَكونَ مشروطاً بأمرٍ مُنفَصِلٍ ، و هو(4) مُصادَفَتُه لوجودِ ما يُنافيهِ؟
و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ [و] وَجَدنا كَونَه مُدرِكاً مشروطاً بأمرٍ مُنفَصِلٍ ، لَم يَجُزْ أن يَكونَ مُقتَضىً عمّا عليه الذاتُ .
فإن قيلَ : و بأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يَكونَ مقتضىٰ [كونِهِ ] تَعالىٰ رائياً لوجودِ(5) معنىً؟
قُلنا: لأنّ ذلكَ المعنىٰ لا يَخلُو مِن أن يَكونَ موجوداً، أو معدوماً:
فإن كانَ موجوداً، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ قَديماً، أو مُحدَثاً.
و لا يَصِحُّ كَونُه معدوماً؛ لأنّ المعدومَ لا يَصِحُّ اختصاصُه بإيجابِ صفةٍ لِذاتٍ دونَ غَيرِها، و لأنّ العدمَ يُحيلُ إيجابَ المَعاني لأغيارِها.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ قَديماً؛ لِما دَلَّلنا به علىٰ فَسادِ وجودِ عِلمٍ قَديمٍ و قُدرةٍ (6).
ص: 409
و لا يَجوزُ أن يَكونَ مُحدَثاً؛ لأنّه لا يَخلو مِن: أن يَحُلَّه، أو يَحُلَّ غَيرَه، أو يُوجَدَ لا في مَحَلٍّ .
و لا يَجوزُ حُلولُه فيه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَحُلَّه شيءٌ مِن الأعراضِ (1).
و لا يَجوزُ أن يَحُلَّ غَيرَه؛ لأنّ ذلكَ المَحَلَّ لا بُدَّ مِن وجودِ الحَياةِ فيه، و لا بُدَّ مِن
أن يَكونَ حُكمُ ذلكَ الإدراكِ راجعاً إلىٰ مَن نُرجِعُ حُكمَ الحَياةِ إليه؛ لأنّ العَرَضَينِ (2)إذا وُجِدا علىٰ وَجهٍ ، و كانا ممّا يوجِبانِ (3) الصفةَ ، فإنّ أحَدَهُما يوجِبُ الصفةَ لِما يُوجِبُها له المعنَى الآخَرُ، و لهذا نَقطَعُ علىٰ أنّ جميعَ ما فينا مِنَ القُدَرِ و العُلومِ توجِبُ الصفاتِ لنا دونَ غَيرِنا.
و لا يَجوزُ وجودُ ذلكَ المعنىٰ في غَيرِ مَحَلٍّ ؛ لأنّ الإدراكَ لَو كانَ معنىً لَوجبَ أن يَكونَ له تأثيرٌ في المحلِّ . و يَجري في ذلكَ مَجرىٰ ما قُلناه في الحَياةِ ؛ و ما دَلَّلنا به علَى استحالةِ وجودِها لا في مَحَلٍّ ، يَدُلُّ في الإدراكِ علىٰ مِثلِه.
و مِنها: أنّ أحَدَنا لَو كانَ رائياً لمعنىً (4)، لَما امتَنَعَ أن يَرَى المَحجوبَ و الغائبَ ؛ لأنّ الحِجابَ و الغَيبةَ لا يُخرِجانِ (5) العَينَ مِن احتمالِها لوجودِ الرؤيةِ فيها.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فكيفَ لا يَلزَمُكُم مِثلُ ذلكَ ؛ بأن نَفَيتُم أن تَكونَ الرؤيةُ معنىٰ؟
ص: 410
و ذلكَ أنّ أحَدَنا لمّا كانَ [لا] يَرى المَرئيّاتِ إلّابحاسّةٍ صحيحةٍ علىٰ صفةٍ ، وجبَ اعتبارُ تكامُلِ ذلكَ ، و قد عَلِمنا أنّه لا يَرىٰ بحاسَّتِه إلّابأن يَنفَصِلَ منها شُعاعٌ علىٰ وجهٍ مخصوصٍ ؛(1) فما أثَّرَ في هذا الشُّعاعِ وجبَ أن يُخِلَّ بالرؤيةِ . و قد عَلِمنا أنّ الحِجابَ يَقطَعُه عن الاتّصالِ ، و كذلك البُعدُ يُفَرِّقُه و يُبَدِّدُه، و لهذا نَرَى القَريبَ دونَ البَعيدِ، و الظاهرَ دونَ المَحجوبِ . و ما قالَه الخَصمُ بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّه أَثبَتَ معنىً يوجِبُ كَونَه رائياً، فمتىٰ كانَ المَحَلُّ مُحتَمِلاً له، فلا بُدَّ مِن صحّةِ وجودِه؛ [سواءً ] كانَ المَرئِيُّ مَحجوباً أو ظاهراً، أو حاضراً أو غائباً.
و مِنها: أنّ الرؤيةَ لَو كانَت معنىً يَفعَلُه اللّٰهُ تَعالىٰ و هو مُختارٌ لأفعالِه، (119) غَيرُ مُلجَإٍ إليها، لَصَحَّ - مع كَونِ أحَدِنا حَيّاً، و صحّةِ حَواسِّه، و حُضورِ المَرئيِّ ، و ارتفاعِ المَوانِعِ - أن لا يَفعَلَه، أو يَفعَلَه لبعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ مع تَساويها في الأحكامِ ، و هذا يؤَدّي إلَى الشَّكِّ في المُشاهَداتِ ، و إلَى الجَهالاتِ التي سَنَشرَحُها فيما بَعدُ(2).
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ ما ذَكَرناه، بأن يَقولَ : إنّ مع الشُّروطِ التي ذَكَرتُم، لا بُدَّ مِن وجودِ الرؤيةِ ؛ إمّا(3) مِن حَيثُ احتَمَلَها المَحَلُّ و لا بُدَّ مِن وجوبِ ما احتَمَلَه(4)المَحَلُّ ، أو مِن حَيثُ أنّ الفَتحةَ (5) - أو بعضَ الأُمورِ التي شَرَطتُم - توَلِّدُ الرؤيةَ .
و ذلكَ أنّ غَرَضَنا يَتِمُّ مع التجاوُزِ عن إبطالِ هذه المَذاهِبِ ؛ لأنّا إنّما نُحاوِلُ
[إثباتَ ] أنّ أحَدَنا إذا كانَ حَيّاً صَحيحَ الحَواسِّ و ارتَفَعَتِ المَوانعُ [و]
ص: 411
وُجدَ(1) المَرئيُّ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه رائياً له. فإذا سَلَّم لنا ذلكَ ، لَم يَضُرَّنا أن يُسنَدَ إلىٰ وجودِ رؤيةٍ يَجِبُ وجودُها. و الذي نَقصدُ إلىٰ رَفعِه الآنَ أنّ الرؤيةَ لا يَجوزُ(2) أن تَكونَ ممّا يَصِحُّ ثُبوتُها و انتفاؤها معاً، مع الشُّروطِ التي ذَكَرناها. و إذا صَحَّ ذلكَ ، فقَد تَمَّ ما أرَدنا(3).
و لَعلَّنا أن نَتكلَّمَ علىٰ أنّ الرؤيةَ : لا تَكونُ مُتولِّدةً ، و لا ممّا يَجِبُ وجودُه عندَ احتمالِ المَحَلِّ لَو كانَت معنىً ، فيما يأتي مِنَ الكتابِ ، إن عَرَضَ ما يَقتَضيهِ ؛ بمَشيئةِ اللّٰهِ و عَونِه.
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ أحَدُنا يَحتاجُ في رؤيةِ القَديمِ تَعالىٰ إلىٰ حاسّةٍ سادسةٍ ، فلَيسَ يَجِبُ إذا كانَ صحيحَ (4) الحاسّةِ - علىٰ ما ذَكَرتُم - أن يَكونَ (5) علَى الصفةِ التي معها يَصِحُّ أن يَرى جميعَ المَرئيّاتِ؟
قُلنا: فلَيسَ يَخلو مِن أن يَكونَ يَرىٰ بتلكَ الحاسّةِ الرؤيةَ المعقولةَ التي تَحصُلُ بهذه العُيونِ ، أو أن يَرىٰ بها علىٰ طريقةٍ أُخرىٰ لا تُعقَلُ .
و الوجهُ الأوّلُ يَقتَضي أن نَراه بهذه العُيونِ ؛ لأنّ اختلافَ صفاتِ حاسّةِ الرؤيةِ لا يَمنَعُ مِن الاشتراكِ في الرؤيةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ العُيونَ قد تَختَلِفُ في السَّعةِ و الضِّيقِ ، و الزُّرقةِ و الكُحلِ ، و ما أشبَهَ ذلكَ مِن الصفاتِ ، مع اتّفاقِها في أنّ ما يَصِحُّ أن يُرىٰ
ص: 412
ببعضِها، يُرىٰ بسائرِها(1)، و جَرَت حاسّةُ الرؤيةِ مَجرَى القُدَرِ في أنّها و إن اختَلَفَت، فجنسُ ما يُفعَلُ بالجميعِ لا يَختَلِفُ .
و أمّا الوَجهُ الثاني فهو خارجٌ عمّا نَحنُ بسَبيلِه؛ لأنّ كلامَنا إنّما هو في نفيِ الرؤيةِ المعقولةِ عنه تعالى.
على أنّ ما لا يُعقَلُ (2) لا يَصِحُّ إثباتُه و لا الكلامُ عليه؛ لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ . و لا فَرقَ بَينَ مَن أثبَتَ رؤيةً علىٰ خِلافِ ما يُعقَلُ ، و بَينَ مَن أثبَتَ ذلكَ في العِلمِ و غَيرِه مِن الأجناسِ .
و ممّا يُقالُ علىٰ هذا الوَجهِ : إنّه لَو كان في المقدورِ حاسّةٌ سادسةٌ يُدرَكُ بها ما لا يُدرَكُ بهذه الحَواسِّ ، لَوجبَ أن نَجِدَ النقصَ لفَقدِ هذه الحاسّةِ ، و نُحِسَّ بالحالِ الداخلِ علينا لارتفاعِها، كما يَجِدُ الضَّريرُ ذلكَ عندَ فَقدِ حاسّةِ العينِ ، و الأكمَهُ الذي لَم يَرَ قَطُّ، و لَم يَعرِفْ كيفيّةَ الإدراكِ بهذه الحاسّةِ .
[3.] علىٰ أنّ الذاهبَ إلَى الحاسّةِ السادسةِ يَلزَمُهُ ما لا [مَفَرَّ] له مِنه؛(3) مِن تَجويزِ إدراكِ جميعِ الذواتِ الموجوداتِ بتلكَ الحاسّةِ ، و إدراكِ المعدوماتِ أيضاً. و يَلزَمُ
أيضاً تَجويزُ أن يَرىٰ بتلكَ الحاسّةِ الأشياءَ علىٰ خِلافِ ما هي عليه.
[فأمّا] الكَلامُ في الفَصلِ الثاني مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ :(4) (120) فهو أنّ المَوانِعَ
ص: 413
المعقولةَ المؤَثِّرةَ في الرؤيةِ هي القُربُ المُفرِطُ، و البُعدُ المُفرِطُ، و الحِجابُ ، و الرِّقّةُ (1)، و اللَّطافةُ (2)، و كَونُ المَرئيِّ في غَيرِ جهةِ مُحاذاةِ الرائي، أو كَونُ مَحَلِّه ببعضِ هذه الأوصافِ . و قد عَلِمنا أنّ جميعَ هذه المَوانِعِ لا تَجوزُ عليه تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن جسماً، و لا جَوهراً، و لا ممّا يَحُلُّ الأجسامَ و الجَواهرَ.
فإن قيلَ : دُلّوا أوّلاً علىٰ كَونِ ما ذَكَرتُموه مِن الوجوهِ مَوانِعَ ، ثُمّ بَيِّنوا جهةَ تأثيرِها في المَنعِ ، ثُمّ دُلّوا علىٰ أنّه لا مانِعَ سِواها(3).
قُلنا: لا شيءَ أبلَغُ في كَونِها مَوانِعَ ، مِن وجودِنا(4) الرؤيةَ تَصِحُّ عندَ ارتفاعِ جميعِها، و لا تَصِحُّ عندَ ثُبوتِ كُلِّ واحدٍ مِنها(5) علىٰ طريقةٍ واحدةٍ . و بهذه الطريقةِ و علىٰ هذا الوَجهِ مِنَ الاعتبارِ يُعلَمُ (6) المَوانِعُ مِنَ الأفعالِ . لكنّ هذه المَوانِعَ علىٰ ضربَينِ :
أحَدُهما: يَمنَعُ بمُجرَّدِه(7) كالحِجابِ ، و يَجوزُ أن يَلحَقَ بذلكَ القُربُ المُفرِطُ.
و الضربُ الآخَرُ: يَمنَعُ بشرطِ كَونِ المرئيّ (8) علىٰ بعضِ الصفاتِ ؛ كالرِّقّةِ و اللَّطافةِ ، و البُعدِ أيضاً علىٰ بعضِ الوجوهِ ، و كَونِ المَرئيِّ في خِلافِ جهةِ مُحاذاةِ الرائي(9)؛ لأنّ اللَّطافةَ و الرِّقّةَ إنّما يَمنَعانِ مِن ضَعفِ شُعاعِه و قِلّتِه، وَ لَو قَوِيَ الشُّعاعُ لَم يَمنَعا. و كذلكَ البُعدُ علىٰ بعضِ الوجوهِ . فأمّا كَونُ المَرئيِّ في خِلافِ
ص: 414
جهةِ (1) المُحاذاةِ ، فإنّما يَمنَعُ (2) مع فَقدِ الآلةِ التي تَجعَلُه(3) في حُكمِ المُقابِلِ ، كالمِرآةِ ، و إذا حَضَرَت فيه هذه الآلةُ لَم يَكُن ذلكَ منعاً.(4)
و تَجري المَوانِعُ مِن الرؤيةِ في هذه القِسمةِ مَجرَى المَوانِعِ مِنَ الأفعالِ ؛ لأنّها أيضاً تَنقَسِمُ إلىٰ ما يَمنَعُ الأفعالَ بنفسِه؛ كالعُلومِ الضَّروريّةِ و القَيدِ، و إلىٰ ما يَمنَعُ بشرطٍ؛ كالثِّقَلِ (5)؛ لأنّه يَمنَعُ بشرطِ قِلّةِ القُدَرِ، و لهذا قَد يُحَرِّكُ الجسمَ الثقيلَ مَن امتَنَعَ عليه تَحريكُه مَتىٰ (6) زِيدَ قُدَراً.
فأمّا الكلامُ في كيفيّةِ تأثيرِ هذه الأُمورِ التي ذَكَرناها في المَنع: فهو أنّ مِن شَرطِ صحّةِ البَصَرِ، و كَونِه آلةً في الرؤيةِ ، أن يَنفَصِلَ مِنه شُعاعٌ علىٰ سَمتٍ مخصوصٍ ، و له قَدرٌ و نِظامٌ مخصوصٌ ، فما أثَّرَ في ذلِكَ كانَ مَنعاً(7). و لهذا كانَ ما قَطَعَه أو التَبَسَ به أو
فَرَّقَه أو غَيَّرَ السَّمتَ الذي يَنفُذُ فيه، مؤثّراً فيه؛ فالقُربُ المُفرِطُ الذي يَصيرُ به القَريبُ مُماسّاً للعَينِ ، أو في حُكمِ المُماسِّ لها، يؤَثِّرُ؛ مِن حَيثُ يَمتَنِعُ معه خُروجُ الشُّعاعِ و نُفوذُه في سَمتِه. و الحِجابُ يَقطَعُه عن الاِتّصالِ . و البُعدُ يُفَرِّقُه عن نِظامِه و يُبَدِّدُه. و الرِّقّةُ و اللَّطافةُ يَقتَضيانِ التِباسَه. و كَونُ المَرئيِّ في غَيرِ جهةِ المُحاذاةِ مُخِلٌّ بسَمتِ الشُّعاعِ . فقَد بانَ جهةُ تأثيرِ هذه الأُمورِ.
ص: 415
فأمّا الدَّلالةُ علىٰ أنّه لا مانِعَ سِوىٰ ما عَدَّدناه: فهو أنّه لَيسَ يُعقَلُ سِوىٰ ما ذَكَرناه. و تَجويزُ مانِعٍ لا يُعقَلُ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ ، و إلىٰ أن يَجوزَ أن يَكونَ بحَضرَتِنا مِنَ الأشخاصِ ما له صفةُ ما نُشاهِدُه، و إن لَم نَرَه لِمانِعٍ غَيرِ معقولٍ . و هذا يَقتَضي الشَّكَّ في المُشاهَداتِ ، و ارتفاعَ الثِّقةِ بها، و التباسَ ما يَصِحُّ أن يُرىٰ بما لا يَصِحُّ ذلكَ عليه.
و يُمكنُ أن يُقالَ : إنّ المعدومَ مَرئيٌّ في نفسِه، و إن لَم نَرَه لمانعٍ غَيرِ معقولٍ .
و يؤَدّي أيضاً إلَى التباسِ ما يَجوزُ أن يَكونَ مقدوراً لنا بما يَستَحِيلُ ذلكَ فيه، فيُقالَ في كُلِّ أمرٍ تَعذَّرَ علينا - مِن الجَمعِ بَينَ الضِّدَّينِ ، و فِعلِ الأجسامِ ، و قَلبِ الأجناسِ ، إلىٰ غَيرِ ذلكَ -: إنّه إنّما امتَنَعَ لِمانِعٍ مجهولٍ . و كما يجب القَطعُ علىٰ أنّ كُلَّ ما تَعذَّرَ علينا فِعلُه مع ارتفاعِ المَوانِعِ المعقولةِ ، فهو غَيرُ مقدورٍ لنا و لا ممّا يَجوزُ أن نَكونَ قادرينَ عليه، فكذلك(1) ما لا نَراهُ مع السَّلامةِ و ارتفاعِ المَوانِعِ المعقولةِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : (121) ما أَنكَرتُم أن يَكونَ المانِعُ مِن رؤيَتِه تَعالىٰ ضَعفَ شُعاعِ أبصارِنا، و مَتىٰ قَوِيَ رَأَيناه، و هذا مانِعٌ معقولٌ؟
و ذلكَ أنّ ضَعفَ الشُّعاعِ إنّما يَمنَعُ علىٰ وَجهٍ معقولٍ ؛ و هو أن يَكونَ المَرئيُّ رَقيقاً أو بَعيداً أو لَطيفاً، و لهذا يَجري تَقويةُ الشُّعاعِ في هذا البابِ مَجرىٰ : تَغيُّرِ المَرئيِّ في نفسِه، و خُروجِه من الرِّقّةِ إلَى الكَثافةِ ، و مِن البُعدِ إلَى القُربِ . فالوَجهُ الذي يَصِحُّ أن يَكونَ ضَعفُ الشُّعاعِ مانِعاً معه لا يَصِحُّ علَى القَديمِ تَعالىٰ ، فلا يَصِحُّ أن يَثبُتَ مانِعاً مِن رؤيَتِه. و لا فَرقَ بَينَ أن نُثبِتَه مانِعاً مِن رؤيَتِه علىٰ وَجهٍ غَيرِ
ص: 416
معقولٍ ، و بَينَ أن نُثبِتَ مانعاً غَيرَ معقولٍ .
علىٰ أنّ قِلّةَ الشُّعاعِ لا يَخلو مِن أن تَكونَ مانِعةً مِن الرؤيةِ : بنفسِها، أو بشرطِ كَونِ المَرئيِّ علىٰ صفةٍ .
و قد عَلِمنا أنّها لا تَكونُ (1) مانِعةً بنفسِها؛ بدَلالةِ أنّ رؤيةَ الكَثيفِ و القَريبِ تَصِحُّ (2) معها، و لَو كانَت تَمنَعُ بنفسِها لَامتَنَعت معها رؤيةُ جميعِ المَرئيّاتِ .
فثَبَتَ أنّها مانِعةٌ بشرطِ كَونِ المَرئيِّ علىٰ صفةٍ ، فلا بُدَّ إن كانَ ضَعفُ الشُّعاعِ
مانِعاً مِن رؤيَتِه تَعالىٰ أن يَكونَ مشروطاً بصفةٍ هو تَعالىٰ عليها، و لا تَخلو(3) تلكَ الصفةُ مِن أن يَصِحَّ خُروجُه عنها، أو لا يَصِحَّ .
فإن صَحَّ خُروجُه عنها، فلَيسَ يُعلَمُ للّٰهِ تَعالىٰ صفةٌ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّها مانِعةٌ مع ضَعفِ الشُّعاعِ مِن رؤيَتِه، [و] يَصِحُّ خُروجُه عنها.
و إن كانَت(4) تلكَ الصفةُ لا يَصِحُّ خُروجُه عنها، فذلكَ يَقتَضي التِباسَ الجائزِ بالمُستَحيلِ ؛ لأنّ مِن حُكمِ المنع(5) أن يَصِحَّ زَوالُه؛ ليَنفَصِلَ حالُ ما يَمتَنِعُ للاستحالةِ ممّا(6) يَمتَنِعُ للمانِعِ .
علىٰ أنّه كيفَ يَصِحُّ أن يَكونَ المانعُ مِن رؤيَتِه صفةً هو عليها، [و] لا يَصِحُّ زَوالُها عنه ؟ و قد عَلِمنا أنّ ما هذه صفتُه، إمّا أن تَكونَ (7) مِن صفاتِ نفسِه، أو لِما هُو
ص: 417
عليه في نفسِه، و ما هو عليه مِن صفاتِه تَقتَضي صحّةَ إدراكِه إن كانَ ممّا يَجوزُ الإدراكُ عليه، و ما يُصَحِّحُ الرؤيةَ أو الإدراكَ كيفَ يَكونُ هو المانِعَ مِنه ؟!
فبَطَلَت هذه الشُّبهةُ .
[فأمّا] الكَلامُ في الفَصلِ الثالثِ مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ : فهو أنّه لَو كانَ مَرئيّاً(1) في نفسِه، لَكانَ في كُلِّ حالٍ حاصلاً علَى الصفةِ التي يَصِحُ رؤيَتُه معها.
و الّذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ الصفاتِ التي تَتَجدَّدُ(2) له تَعالىٰ ، لا يَجوزُ أن تَكونَ مؤَثِّرةً في صحّةِ إدراكِه؛ لأنّ الذي يَتجدَّدُ له مِن الصفاتِ هو كَونُه مُدرِكاً و مُريداً أو كارِهاً، و معلومٌ أنّه لا تأثيرَ لشيءٍ مِن ذلكَ في كَونِه مُدرَكاً.
علىٰ أنّ الإدراكَ لا يَتعلَّقُ بالذاتِ إلّاعلىٰ أخَصِّ أوصافِها، و ما هذا سَبيلُه لا يَجوزُ أن يَتجدَّدَ للقَديمِ (3) تَعالىٰ .
فوَضَحَ أنّه لَو كانَ مَرئِيّاً في نفسِه، لَوجبَ أن يَكونَ الآنَ علَى الصفةِ التي لَو رُئيَ (4) لَم يُرَ إلّالِكَونِه عليها.
فأمّا الكلامُ على الفَصلِ الرابِعِ مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ : فهو(5) أنّه لَو جازَ مع حُضورِ المَرئيِّ و ارتفاعِ المَوانعِ عن رؤيَتِه، و كَونِ الرائي علَى الصفةِ التي معها يُدرِكُ
ص: 418
المُدرَكاتِ ، أن تَكونَ الرؤيةُ غَيرَ واجبةٍ ، و كانَت مع الصحّةِ ممّا يَجوزُ أن يَحصُلَ و أن لا يَحصُلَ ، لَأدّى ذلكَ إلىٰ ما قد أكثَرَ أصحابُنا تَعدادَه مِن الجَهالاتِ ، و ارتفاعِ الثِّقةِ بالمُشاهَداتِ ، و كُنّا لا نَأمَنُ أن يَكونَ بحَضرَتِنا أنهارٌ جاريةٌ ، و قُصورٌ عاليةٌ ، و ألوانٌ رائعةٌ ، و نحنُ مع ذلكَ لا نُدرِكُها. و كُنّا لا نَثِقُ بكيفيّةِ ما نُدرِكُه؛ فيَجوزُ في الصغيرِ أن يَكونَ كبيراً، و القَصيرِ أن يَكونَ طويلاً، و الأمرَدِ (122) ذا لِحيةٍ ، و الشابِّ كَهْلاً، و الكَلامِ مِن الكَلامِ مُستَثنىً ، و الموجَبِ مَنفيّاً؛ بأن يَكونَ الإدراكُ تَناوَلَ بعضَ ذلكَ دونَ بعضٍ ! و هذا يُؤَدّي إلَى ارتفاعِ الثِّقةِ بالمُدرَكاتِ نَفياً
و إثباتاً، و مُخرِجٌ مِن كَمالِ العقلِ الذي لا بُدَّ مِن ثُبوتِ الثِّقةِ بالمُدرَكاتِ في النفيِ و الإثباتِ معه.
و بَعدُ، فإنّ القولَ بخِلافِ ما ذَكَرناه يؤَدّي إلَى التِباسِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً في نفسِه بما يَستَحِيلُ (1) الرؤيةُ عليه، و ذلكَ مؤَدٍّ إلَى التِباسِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مقدوراً له بما يَستَحِيلُ كَونُه بهذه الصفةِ .
و إنّما قُلنا ذلكَ ؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ تمييزِ المقدورِ مِن غَيرِه هو بأن ننظُرَ، فما(2)تَعَذَّرَ علىٰ أحَدِنا - مع كَونِه قادراً، و حُصولِ الدَّواعي و ارتفاعِ المَوانِعِ - قَضَينا عليه(3) أنّه يَستَحيلُ كَونُه مقدوراً له و مفعولاً مِن جهتِه، و ما تَعذَّرَ علىٰ خِلافِ هذه الوجوهِ لَم يُقضَ بذلكَ فيه.
و هذا بعَينِه هو الطريقُ إلىٰ تمييزِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً في نفسِه ممّا تَستَحيلُ الرؤيةُ عليه؛ لأنّا متىٰ لَم نَقضِ بأنّ ما لا نَراهُ - و نَحنُ علَى الصفةِ التي معها نَرَى
ص: 419
المَرئيّاتِ ، و المَوانِعُ المعقولةُ مُرتَفِعةٌ - غَيرُ مَرئيٍّ في نفسِه، التَبَسَ ما يَصِحُّ (1) رؤيَتُه بما يَستَحيلُ رؤيَتُه، و لَم نأمَنْ أن يَكونَ جميعُ الموجوداتِ - بَلِ المعدوماتُ التي لا شُبهةَ فيها - مَرئيّةً في نُفوسِها، و إن كُنّا الآنَ لا نَراها.
فإن قيلَ : كُلُّ الذي أَورَدتُموه مِن إلزامِ الجَهالاتِ ، إنّما يَلزَمُ لَو لَم نَكُن عالِمينَ ضَرورةً بانتفاءِ ما ذَكَرتُموه مِن المُدرَكاتِ ، و هذا العِلمُ قد حَصَّلَ الثِّقةَ بكيفيّةِ ما نُدرِكُه، و انتفاءِ ما لا نُدرِكُه. و إن كُنّا نُجَوِّزُ(2) قَبلَ حُصولِه فينا حُضورَ ما عَدَّدتُموه مِنَ المُدرَكاتِ ، و إن لَم نُدرِكْه و نَعلَمْه.
قُلنا: إنّ العِلمَ بانتفاءِ المُدرَكِ مِن حَضرَتِنا، مَتى كانَ طريقُه الإدراكَ ، مُستَنِدٌ إلَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ وجبَ أن نُدرِكَه. و لا يَجوزُ حُصولُه لِمَن جَوَّزَ كَونَ ذلكَ بحَضرَتِه و هو لا يُدرِكُه و لا يَعلَمُه؛ لأنّ العِلمَ الأوّلَ مُستَنِدٌ إلَى الثاني، و العِلمَ الثاني طريقٌ له، و لا يَصِحُّ حُصولُه مِن دونِه.
يُبَيِّنُ ذلك: أنّ الضَّريرَ و المُغمِضَ لمّا جَوَّزا أن يَكونَ (3) بحَضرَتِهما أجسامٌ كِثافٌ و هما لا يُدرِكانِها، لَم يَعلَما أنّه لا جِسمَ بحَضرَتِهما. و كذلكَ البَصيرُ لمّا جَوَّزَ أن يَكونَ بحَضرَتِه مَلَكٌ و جِنّيٌّ و ما أشبَهَهما مِنَ الأجسامِ اللِّطافِ ، لَم يَعلَمْ أنّ ذلكَ لَيسَ بحَضرَتِه.
فثَبَتَ أنّ العِلمَ بانتفاءِ المُدرَكِ مُستَنِدٌ إلَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ وجبَ إدراكُه
ص: 420
و العِلمُ به، و أنّ مَن جَوَّزَ خِلافَ ذلكَ لا يَثِقُ بانتفاءِ المُدرَكاتِ .
فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ دعواكم بأنّ العِلمَ بأنّه لا جسمَ بحَضرَتِنا مُستَنِدٌ إلىٰ أنّه لَو
كانَ أدرَكناه، و عندَكم أنّ الضَّريرَ مع أنّه مُجوِّزٌ لأن يَكونَ ذلكَ بحَضرَتِه و لا يُدرِكَه، يَجوزُ أن يَفعَلَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِه العِلمَ بأنّه لا جسمَ بحَضرَتِه ؟ و كذلكَ حُكمُ البَصيرِ في الأجسامِ اللِّطافِ ، و أنّه يَجوزُ أن يَفعَلَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِه العِلمَ بأنّه لا مَلَكَ و لا جِنّيَّ بَينَ يَدَيه.
و قد يَعلَمُ أيضاً الضَّريرُ بخبرٍ صادقٍ أنّه لا جسمَ بحَضرَتِه. و مَن غَمَّضَ عَينَيهِ يَعلَمُ أنّ مَلِكَ الرُّومِ لَم يَحضُرْه، و إن كانَ التجويزُ الذي ادَّعَيتُموه(1) أنّه مانِعٌ مِن العِلمِ ثابتاً في كُلِّ ذلكَ .
قُلنا: ما ادَّعَينا أنّ أحَدَ العِلمَينِ (2) مُستَنِدٌ إلَى الآخَرِ على كُلِّ حالٍ ، و إنّما قُلنا: إنّ العِلمَ (123) بانتفاءِ المُدرَكِ إذا كان عَن طريقِ (3) الإدراكِ ، فهو مُستَنِدٌ إلَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ وجبَ إدراكُه، فلَيسَ يَقدَحُ شيءٌ ممّا ذَكَرتَه فيما اعتَمَدناه؛ لأنّا و إن جَوَّزنا أن يُفعَلَ في قَلبِ الضَّريرِ العِلمُ بأنّه لا جسمَ بحَضرَتِه، و في البَصيرِ مِثلُ ذلكَ في الجِنّيِّ و المَلَكِ ، فإنّما يَجوزُ ذلكَ لا عن طريقِ الإدراكِ ، بَل علىٰ سَبيلِ الابتداءِ . و إذا لَم يَكُن هذا العِلمُ علىٰ هذا الوَجهِ مُستَنِداً إلَى الإدراكِ ، لَم يَمتَنِعْ حُصولُه لِمَن جَوَّزَ أن يَكونَ بحَضرَتِه ما لا يُدرِكُه، و مَن لَم يَكُن عالِماً بأنّ ما
ص: 421
بحَضرَتِه لا بُدَّ أن يُدرِكَه و يَعلَمَه(1).
و لَيسَ يَمتَنِعُ أن يكونَ أحَدُ العِلمَينِ أصلاً لِلآخَرِ مَتىٰ كانَ عن طريقٍ مخصُوصٍ (2)، و إن لَم يَكُن أصلاً له علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ كنَحوِ تَعلُّقِ عِلمِنا بأنّه تَعالىٰ حَيٌّ بعِلمِنا [بِ](3) أنّه قادرٌ، و عِلمِنا بإثباتِ ذاتِه تَعالىٰ بعِلمِنا بحُدوثِ الأجسامِ أو ما يَجرِي مَجراها(4) مِنَ الأعراضِ التي لا يَقدِرُ عليها سِواه؛ لأنّ تَعلُّقَ بعضِ هذه العُلومِ ببعضٍ و استنادَهُ إليه، مَتىٰ كانَ عن الاستدلالِ و الاكتسابِ كانَ كذلكَ ، و لَو كانَ ضَروريّاً لَم يَجِب ذلكَ فيه؛ ألا تَرىٰ أنّه جائزٌ أن يَفعَلَ تَعالىٰ فينا العِلمَ بأنّه حَيٌّ ضَرورةً ، و إن لَم نكُن عالِمينَ بأنّه قادرٌ. و كذلكَ يَفعَلُ فينا العِلمَ بذاتِه و صفاتِه قَبلَ العِلمِ بحُدوثِ الأجسامِ و ما يَجري مجراها ممّا يَدُلُّ عليه ؟! و إنّما العِلمُ الذي يَستَنِدُ إلىٰ غَيرِه علىٰ كُلِّ حالٍ ، هو العِلمُ بالحالِ و الذاتِ ؛ لأنّه لا يَجوزُ العِلمُ بحالِ الذاتِ علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ ، إلّابَعدَ تَقدُّمِ العِلمِ بها.
فأمّا عِلمُ الضَّريرِ [بخَبَرٍ صادقٍ ] أنّه [لا] جسمَ (5) بحَضرَتِه، فهو أيضاً خارِجٌ عمّا أثبَتناه؛ لأنّه إنّما يَعلَمُ ذلكَ مِن طريقِ الاستدلالِ لا الإدراكِ . و كذلك عِلمُ (6) مَن غَمَّضَ [عَينيه](7) بأنّه(8) لَيسَ بَينَ يَدَيه مَلِكُ الرُّومِ ؛ لأنّه أيضاً يَستَدِلُّ علَى انتفاءِ ذلكَ
ص: 422
مِن حَيثُ لَو كانَ لَتَفشَّى(1) الخَبرُ بورودِه، و لَتقدَّمَت لذلكَ مُقَدِّماتٌ لَم تَحصُلْ . و كُلُّ هذا خارجٌ عمّا مَنَعْنا منه.
فإن قيلَ : قد اعتَرَفتُم بجَوازِ فِعلِ العِلمِ بأنّ الشيءَ لَيسَ بحاضرٍ لِمَن يُجَوِّز حُضورَه و إن لَم يَعلَمْه، و ادَّعَيتُم أنّ ذلكَ إنّما يَسوغُ إذا لَم يَكُن العِلمُ حاصلاً عن طريقِ (2) الإدراكِ ، و بَقيَ الآنَ أن تَدُلّوا علىٰ أنّ العِلمَ الحاصلَ فينا بأنّه لا فِيلَ بحَضرَتِنا طريقُه الإدراكُ ، و أنّه لَيسَ بعِلمٍ مُبتَدَإٍ مِن غَيرِ طريقٍ ؛ لأنّه إذا جازَ أن يَكون مُبتَدأً عن غَيرِ طريقٍ ، جازَ حُصولُه مَع التجويزِ الذي ذَكَرناه.
قُلنا: الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ العِلمَ الحاصِلَ فينا بالمُدرَكاتِ - نفياً و إثباتاً - طريقُه الإدراكُ ، و أنّه لَيسَ مُبتَدَأً مِن غَيرِ طريقٍ ، أنّا وَجَدنا أوّلاً العِلمَ بالمُدرَكِ يَترتَّبُ علَى الإدراكِ و يُطابِقُه(3)؛ ألا تَرىٰ أنّا نَعلَمُ ما نُدرِكُه علَى الوَجهِ الذي يَتعلَّقُ الإدراكُ به دونَ غَيرِه ؟ فلَولا أنّه يَتعلَّقُ به، و الإدراكُ طريقٌ إليه، لَم تَجِبْ فيه هذه المُطابَقةُ ؛ ألا تَرىٰ أنّ العُلومَ التي تَحصُلُ (4) فينا لا عن طريقِ الإدراكِ [لا يَجِبُ تَعلُّقُها بالمُدرَكاتِ ]، و لا مُطابَقتُها له ؟ فعَلِمنا بذلكَ أنّ الإدراكَ طريقٌ إلَى العِلمِ بما نُدرِكُه.
ص: 423
و بمِثلِ هذا الاعتبارِ بعَينِه نعلمُ (1) أنّه طريقٌ إلىٰ نَفيِ ما نُدرِكُه؛ لأنّا(2) إذا أدرَكنا بَينَ أيدينا جسماً، عَلِمنا أنّه لا جسمَ يَجري مَجراه بحَضرَتِنا(3)، و إن لَم نَكُن عالِمينَ بذلكَ فيما لا يَجري (124) مَجراه؛ مِنَ المُتَناهي في اللَّطافةِ و الرِّقّةِ . و لهذا نَجِدُ كُلَّ واحدٍ مِن الأخفَشِ و الأعمَشِ (4) و مَن جَرىٰ مَجراهما في ضعفِ البَصَرِ و قِلّةِ الشُّعاعِ ، لا يَعلَمُ مِن انتفاءِ المُدرَكاتِ بحَضرَتِه ما يَعلَمُه القَوِيُّ البَصَرِ، و إنّما يَعلَمُ انتفاءَ ما يُدرِكُ أمثالَه.
فلَو لَم يَكُن الإدراكُ طريقاً إلَى الأمرَينِ (5)، لَما وجبَ فيهما مِن المُطابَقةِ للإدراكِ ما ذَكَرناه، و لَما امتَنَعَ أن نُدرِكَ شيئاً و نَعلَمَه علىٰ خِلافِ ما أدرَكناه عليه، و أن نُدرِكَه(6) مع كَمالِ العَقلِ و لا [نَثِقَ بما] نُدرِكُه. و كذلكَ كانَ لا يَمتَنِعُ أن نَعلَمَ (7) انتفاءَ ما لَو كانَ لَوجَب(8) أن نُدرِكَه، و أن لا نَعلَمَ انتفاءَ ما لو كانَ لوجب أن نُدرِكَه(9)، و أن لا نَعلَمَ انتفاءَ ما لَو كانَ لَأدرَكناه و عَلِمناه.
ص: 424
و في عِلمِنا بفَسادِ كُلِّ ذلكَ ، دليلٌ علىٰ أنّ الإدراكَ هو الطريقُ إلَى العِلمِ بالمُدرَكاتِ في النفيِ و الإثباتِ معاً، و أنّ ما قَدَحَ في طريقِ العِلمِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قادحاً في العِلمِ و مُخِلاًّ به.
و يُبيِّنُ ما ذَكَرناه في أنّ أحَدَ العلِمَينِ طريقٌ إلَى الآخَرِ، أنّ كُلَّ عاقلٍ يَفزَعُ إليه بعَينِه(1)؛ لأنّا لَو اعتَرَضنا كُلَّ واحدٍ مِن العُقلاءِ الصَّحِيحِي الأبصارِ، فقُلنا له: بَينَ يَدَيك فيلٌ ، لَما فَزِعَ (2)؛ إلىٰ أن يَقولَ : لَو كانَ لَرَأَيتُه(3). قيل: فذلكَ (4) الطريقُ بعَينِه.
فإن قيلَ : فأنتُم علىٰ هذا الكلامِ الذي قَدَّرتموه بَينَ أمرينِ :
إمّا أن تَقُولوا: إنّ جميعَ مُخالِفيكم في هذه المسألةِ لا يَعلَمونَ ابتداءً أنّه لا فِيَلةَ بحَضرَتِهم، و هذا ممّا قد عُلِمَ ضَرورةً بُطلانُه؛ لأنّكم تَعلَمونَ أنّهم عالِمونَ بذلكَ .
أو تقولوا: إنّهم يَعلَمُونَ مع التجويزِ الذي ذَكَرتُم أنّه يَمنَعُ (5) مِن العِلمِ ، فَيُنْقَضُ (6)ما أصَّلتمُوه!
ص: 425
قُلنا: لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُخالِفونا في هذا البابِ عالِمينَ بانتفاءِ ما ذُكِرَ في السؤالِ ، واثِقينَ بأنّه لَيسَ بحَضرَتِهم إلّاما قد أدرَكوه و عَلِموه، إلّاأنّهم مع ذلكَ غَيرُ مُجَوِّزينَ لحُضورِ ما ذَكَرناه مِن غَيرِ أن يُدرِكوه(1). و لا بُدّ مِن أن يَكونُوا عالِمينَ بأنّه لَو حَضَرَ لَأدرَكوه.
و لَيسَ تُخبِرُ بخِلافِ (2) ذلكَ عن نفسِه(3) جَماعةٌ لا يَجوزُ أن تُخبِرَ بخِلافِ ما هي عليه. بل لا نَجِدُ مَن يَبلُغُ إلىٰ هذا الحَدِّ في هذه المسألةِ ، إلّانَفَراً نُجَوِّزُ علىٰ مِثلِهم دَفعَ ما يَجِدونَه و الإخبارَ بخِلافِه، كما أنّهم يُخبِرونَ عن أنفُسِهم في باب الكَسبِ الّذي لا يَعقِلُه أحَدٌ بخِلافِ ما يَجِدونَه.
و لَيسَ يَمتَنِعُ مِثلُ هذا علىٰ مِثلِ [مَنْ ] قَلَّ عَددُه مِن أصحابِ المَذاهِبِ الباطلةِ ، و لا فَرقَ بَينَهُم في هذه الدعوَى الباطلةِ ، و بَينَ مَن خَبَّرَنا بأنّه يَعلَمُ حالَ الجسمِ و إن لَم يَعلَمْ ذاتَه، و يَعلَمُ المُدرَكاتِ و إن لَم يُدرِكْها، و لَم يُخبِرْهُ صادقٌ عنها، في أنّا نَعلَمُ كَذِبَه؛ مِن حيثُ ادّعاءِ حُصولِ الفَرعِ (4) و انتفاءِ الأصلِ . علىٰ أنّ هؤلاءِ إنّما يُجوِّزونَ حُضورَ ما لا يُدرِكونَه؛ بأن(5) يَحصُلَ في أبصارِهم ضِدُّ الإدراكِ الذي هو كالآفةِ للبَصَرِ، و المُخرِجِ له عن تَكامُلِ صحّتِه، و لَيسَ يُجوِّزونَ أن لا يُدرِكوه(6) و البَصَرُ خالٍ مِن الآفاتِ و ما جَرىٰ مجراها، فقَد آلَ الأمرُ إلىٰ ما قُلناه.
ص: 426
فإن قيلَ : ألَستُم تُجوِّزونَ أن يَخلُقَ اللّٰهُ تَعالىٰ مِثلَ مَن تَعرِفونَه مِن أولادِكم أو إخوانِكُم حَتّىٰ لا يُغادِرَ مِنه شيئاً؟ و مع هذا التجويزِ مَتىٰ غابَ عنكم أحَدٌ ممّن ذَكَرناه، ثُمّ شاهَدتُموه ثانياً، عَلِمتُم أنّه الذي شاهَدتُموه أوّلاً و لَم تَشُكُّوا فيه.
و كذلكَ أنتم مُجَوِّزونَ لِأَن يُقيمَ اللّٰهُ تَعالىٰ أهلَ القُبورِ مِن قُبورِهم، و أن يَقلِبَ (125) ماءَ دِجلةَ زَيتاً، و رَملَ عالِجَ ذهباً، و أنتمُ الآنَ قاطعونَ علىٰ أنّ شيئاً مِن ذلكَ لَم يَكُن، فلَم يَمنَعِ التجويزُ في جميعِ ما ذَكَرناه مِنَ العِلمِ و الثِّقةِ ، و هذا يَنقُضُ ما تَقدَّم مِن كلامِكم.
قُلنا: إنّا لم نَقُل: إنّ التجويزَ لشيءٍ يَمنَعُ مِن حُصولِ العِلمِ بخِلافِه(1)، و إنّما مَنَعنا
مِن حُصولِ العِلمِ الذي مِن شَأنِه أن يَحصُلَ فينا مِن طريقٍ مخصوصٍ (2) مع فَسادِ ذلك الطريقِ .
فأمّا العِلمُ بأنّ مَن نُشاهِدُه ثانياً هو الذي شاهَدناه أوّلاً، فهو عِلمٌ ضَروريٌّ يَحصُلُ بالعادةِ علىٰ سَبيلِ الابتداءِ ، مِن غَيرِ أن تكونَ (3) له طريقةٌ مخصوصةٌ يؤَثِّرُ فيها تَجويزُنا في المقدورِ أن يُخلَقَ مِثلُه. و قد دَلَّلنا(4) علىٰ أنّ العِلمَ بأنّه لا مُدرَكَ بحَضرَتِنا، يَستَنِدُ إلَى العِلمِ بأنّه مَتىٰ حَضَرَ أدرَكناه، و لَيسَ إذا ثَبَتَ في بعضِ العُلومِ أنّ لها طريقةً مخصوصةً ، وجبَ مِثلُ ذلك في جميعِها.
فأمّا قيامُ المَوتىٰ و انقلابُ الماءِ زَيتاً و ما أشبَهَهما، فخارجٌ عن هذا البابِ ؛ لأنّ
ص: 427
مَن يُجوِّزُ ذلكَ في المَقدورِ، و يَعلَمُ أنّه لَم يَكُن، إنّما يُعوِّلُ فيه علىٰ طريقةِ الاستدلالِ لا الضرورةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ كُلَّ المُوحِّدينَ يُجوِّزونَ ذلكَ ، و لا يَقطَعونَ علىٰ خِلافِه في أزمانِ الأنبياءِ عليهم السلام(1) و مَن لا يُجِيزُ ظُهورَ الأعلامِ إلّاعلىٰ نَبيٍّ ، يَمنَعُ مِنه في هذا الوقتِ ؛ مِن حَيثُ عُلِمَ بالدليلِ أنّه لا نَبِيَّ بَعدَ نَبيِّنا عليه السلام.(2) و مَن يُجيزُ(3) ظُهورَ الأعلامِ علىٰ غَيرِ نَبيٍّ ، مِن الشيعةِ و أصحابِ الحَديثِ (4)، يُجوِّزونَ ذلكَ في كُلِّ حالٍ . و لايُقطَعُ علىٰ أنّه لَم يَكُن. فأمّا المُلحِدونَ و أصحابُ الطبائِعِ ، فعندَهُم أنّ ذلكَ مُستَحيلٌ في كُلِّ حالٍ ؛ لأمرٍ يَرجِعُ إلَى الطبعِ أو ما أشبَهَه، و يُعوِّلونَ أيضاً فيه علىٰ ضَربٍ مِن الاستدلالِ ، و إن كانوا فيه مُخطِئينَ . فقد زالَ أن يَكونَ هذا العِلمُ ضَروريّاً(5) علىٰ كُلِّ حالٍ ، و بَطَلَ الاعتراضُ به علىٰ ما ذَكَرناه.
فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ ما ادَّعَيتموه مِن أنّ العِلمَ بأنّه لا مُدرَكَ بحَضرَتِنا، فَرعٌ علَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ أدرَكناه؛ و مِن حَقِّ الأصلِ مِن العُلومِ أن يَصِحَّ حُصولُه مِن غَيرِ حُصولِ الفَرعِ ، و أنتُم لا تُجيزونَ انفكاكَ أحَدِ هذَينِ العِلمَينِ مِن صاحبِه ؟
ص: 428
علىٰ أنّ البَهيمةَ تَعلَمُ أنّ العَلَفَ لَيسَ بحَضرَتِها، و إن لَم تَعلَمْ (1) أنّه لَو حَضَرَ لَرَأَتهُ .
قُلنا: إنّما يَصِحُّ حُصولُ العِلمِ الذي هو أصلٌ و إن لَم يَحصُلِ الفَرعُ ، مَتىٰ لَم يَجتَمِعْ - مع كَونِه أصلاً - أن يَكون طَريقاً إليه و مُقتَضِياً له. فأمّا إذا كانَ بهذه الصفةِ ، لَم يَصِحَّ أن يَفتَرِقا. و العِلمُ بأنّه لَو حَضَرَ المُدرَكُ لَأدرَكناه، طريقٌ إلَى العِلمِ بأنّه لَيسَ بحاضرٍ متىٰ لَم نُدرِكْه، فلا يَجوزُ انفكاكُه منه.
فأمّا البَهِيمةُ ، فلا بُدَّ مَتىٰ كانَت عالِمةً بانتفاءِ المُدرَكِ مِن بَينَ يَدَيها، أن تَكونَ عالمةً بأنّه لَو حَضَرَ لَأدرَكَته؛ لأنّ أحَدَ العِلمَينِ إذا كانَ أصلاً للآخَرِ لَم يَجُز حُصولُ الفَرعِ مِن دونِ أصلِه، و استبعادُ ذلكَ في البَهيمةِ لا مَعنىٰ له.
و يُقالُ (2) لِمَنِ ادَّعىٰ أنّه مُجوِّزٌ لحُضورِ الأجسامِ العِظامِ بَينَ يَدَيه، و إن لَم يُدرِكْها، مع السلامةِ و ارتفاعِ المَوانِعِ ، و عَوَّلَ في الثِّقةِ بما يُدرِكُه و انتفاءِ ما لا يُدرِكُه علىٰ حُصولِ العِلمِ في قَلبِه: ألَيسَ هذا العِلمُ الذي تَدَّعي حُصولَه لكَ غَيرَ واجبٍ ، بَل هو مُستَنِدٌ إلَى اختيارِ مُختارٍ؛ إن شاءَ فَعَلَه و إن لَم يَشَأ لَم يَفعَله ؟ و لا بُدَّ مِن الاعترافِ بذلكَ ؛ لأنّه لا سَبَبَ علىٰ مَذهبِه يوجِبُ حُصولَ هذا العِلمِ للعاقلِ في كُلِّ حالٍ .
فيُقالُ له: فمَن الّذي يُؤمِنُكَ مِن أن يَكونَ كَثيرٌ(3) مِن العُقلاءِ لَم يَعلَموا ذلكَ (4)؛ مِن حَيثُ لَم يُفعَل لهم هذا العِلمُ؟ و علىٰ هذا (126) فيَجِبُ أن تُصَدِّقَ مَن خَبَّرَكَ عن
ص: 429
نفسِه بأنّه لا يَعلَمُ أنّه لا فيلَ بحَضرَتِه.
فإن قال: يُؤْمِنُني(1) مِن ذلكَ أنّني باختيارِ نفسي و حالِ غَيري، قد عَلِمتُ أنّ هذا العِلمَ ممّا جَرَتِ العادةُ بحُصولِه للعُقلاءِ ، كسائرِ ما تَجرِي العاداتُ ، فلا أُجوِّزُ صِدقَ مَن خَبَّرَني بخِلافِه.
قيلَ له: أوّلُ ما في هذا أنّ العاداتِ لا يَجِبُ (2) أن تَتَساوىٰ فيها جميعُ البلادِ و الأقطارِ، و اختلافُ العاداتِ باختلافِ الأماكنِ ظاهرٌ؛ فأَجِزْ أن يَكونَ بأقاصي خُراسانَ و الصينِ عقلاءُ لا يَعلَمُونَ ما ذَكَرناه مع السلامةِ . كما أنّا كُلَّنا نُجيزُ أن يُخالِفَ (3) عادةُ مَن بَعُدَ عنّا لِعادَتِنا.
و بَعدُ، فإنّ العِلمَ بما ذَكَرناه نَجِدُ استِمرارَه في العقلاءِ بالشُّروطِ التي راعَيناها، علىٰ حَدٍّ لَو كان واجباً و غَيرَ مُستَنِدٍ إلَى اختيارِ مُختارٍ(4) لَم يَزِد عليه. فلَو جازَ أن نَدَّعيَ حُصولَه بالعادةِ ، لَجازَ حُصولُه في جميعِ ما جرىٰ مَجراه؛ مِن انتفاءِ السوادِ و البياضِ ، و إيجابِ العِلّةِ للمعلولِ ، و انتفاءِ الحَياةِ عندَ قَطعِ الرأسِ . و هذه طريقةٌ تؤَدّي إلىٰ خَلط العاداتِ بالواجباتِ ، و كُلُّ شيءٍ يَفصِلُ بَينَ واجبٍ و مُعتادٍ هو قائِمٌ في العِلمِ الذي ذَكَرناه.
فإن قيلَ : إن كان الشكُّ في المُشاهَداتِ ، و تَجويزُ حُضورِ ما لا نُدرِكُه و إن أدرَكنا أمثالَه، يلزَمُنا علىٰ ما نَذهَبُ (5) إليه بما في البابِ ، فهو أيضاً لازمٌ لكم مِن وَجهٍ آخَرَ؛
ص: 430
لأنّكم تَذهَبونَ إلىٰ أنّ الرائيَ يَحتاجُ في معنَى المَرئيّاتِ إلىٰ أن يَنبَثَّ مِن بَصَرِه شُعاعٌ يَتَّصِلُ بالمَرئيِّ أو بمَحَلِّه؛ أفرَأَيتُم لَو لَم يَنبَثَّ هذا الشُّعاعُ علَى الوَجهِ الذي تَدَّعونَه، ألَيسَ كانَتِ الرؤيةُ مُتصوَّرةً مع حُصولِ المَرئيِّ و السلامةِ مِن سائرِ الشُّروطِ؟ فما المؤمِنُ لكم مِن ذلكَ؟
ثُمّ ماذا الذي يُؤْمِنُكم أيضاً مِن أن [يُسَكِّرَ تعالىٰ ](1) طَرَفَ الشُّعاعِ ، أو يَعدِلَ به عن جهةِ المَرئيِّ و يَمنَعَه مِن الاتّصالِ به ؟ لأنّ الشُّعاعَ جسمٌ يَجوزُ عليه مِثلُ ذلكَ ، و هذا يؤَدّيكم إلىٰ تَجويزِ ما عَنَيتموه!
قُلنا: إنّ البَصَرَ مَتىٰ كان سَليماً صحيحاً، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ذا شُعاعٍ ، و لا بُدَّ مِن انبِثاثِه و نفُوذِه و اتّصالِه بالمَرئيّاتِ مع ارتفاعِ المَوانِعِ . فما أخرَجَ البَصَرَ مِن أن يَكونَ ذا شُعاعٍ يَنبَثُّ ، يُخرِجُه عن الصحّةِ . و لَيسَ يُحتاجُ في رؤيةِ المَرئيّاتِ إلَى اتّصالِ الشُّعاعِ بالمَرئيِّ علىٰ كُلِّ حالٍ . و يَكفي في إدراكِ المَرئيِّ أن يَنفَصِلَ الشُّعاعُ و يَكونَ بَينَه و بَينَ المَرئيِّ ضياءٌ ، و إن لَم يَتَّصِلْ نفسُ الشُّعاعِ بالمَرئيِّ ؛ ألا تَرىٰ أنّا حينَ نَفتَحُ أعيُنَنا نُدرِكُ الكَواكِبَ علىٰ بُعدِها؛ مِن حَيثُ اتَّصَلَ شُعاعُ أبصارِنا بشُعاعِ الكَواكِبِ؟ فَأَغنىٰ ذلكَ عنِ اتّصالِ شُعاعِنا بنَفسِ الكَواكِبِ . و لَيسَ يَجوزُ - مع بُعدِ المَسافةِ ، و استحالةِ الظفر(2) - أن يَكونَ شُعاعُ أبصارِنا في مِثلِ هذا الزمانِ القَصيرِ مُتَّصِلاً بالكَواكِبِ .
فلَو سَكَّرَ(3) اللّٰهُ تَعالىٰ طَرَفَ شُعاعِنا، و مَنَعَه مِن الاتّصالِ بالمَرئيِّ ، لَرَأَيناه علىٰ كُلِّ حالٍ إذا كانَ الضياءُ بَينَنا و بينَه. اللّهُمَّ إلّاأن يَحولَ بَينَنا و بينَه بظُلمةٍ ، فكانَ (4)
ص: 431
يَجِبُ أن نَرى تلكَ الظُّلمةَ الحائلةَ . و لَو عَدَلَ بطَرَفِ الشُّعاعِ عن جهةِ المَرئيِّ إلىٰ غَيرِه لَأَخَلَّ ذلكَ بفَتحةِ العَينِ ، و أَوجَبَ اختلافاً في النظَرِ، حتّىٰ يَصيرَ بمَنزلةِ الحَوَلِ الذي يُرى معه الشيءُ كأنّه شَيئانِ . و مَتىٰ لَم يَجِدِ الإنسانُ ذلكَ مِن نفسِه، و كان بَصَرُه صحيحاً، فلا بُدَّ مِن نفيِه بما شاهَدَه، و أن يَكونَ غَيرَ مُجوِّزٍ لشيءٍ ممّا سُئِلنا عنه.
فأمّا الكلامُ علَى الفَصلِ الخامِسِ مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ (127): فهو أنّا لَو كُنّا مُدرِكينَ لَه تَعالىٰ لَوجبَ أن نَعلَمَه؛ لأنّ مِن شأنِ العاقِلِ إذا أدرَكَ شيئاً مع ارتفاعِ اللَّبسِ أن يَعلَمَه، و لا يَجوزُ مع كَمالِ عَقلِه [أن] يُدرِكَه و لا يَعلَمَه. و اللَّبسُ الذي يَجوزُ أن يَعرِضَ في المُدرَكاتِ لا يَصِحُّ عليه تَعالىٰ ؛ لأنّه [ناشئٌ إمّا مِن] الحُلولِ ،
أو المُجاوَرةِ ، أو كَونِ المَرئيِّ نَظيراً لغَيرِه و شِبْهاً(1) له، و كُلُّ ذلك يَستَحيلُ عليه تَعالىٰ .
و [إذا ثَبَتَ أنّا لا يجب أن نَعلَمَه تَعالىٰ ؛ بدليل] نَفيِ العِلمِ عن نُفوسِنا بالشُّبَهِ ، و فينا مَن يَعتَقِدُ نَفيَه، و يَعتَقِدُه عَلىٰ ما لَيسَ هو عليه، فقَد ثَبَتَ أنّا غَيرُ مُدرِكينَ له. و هذه جُملةٌ كافيةٌ .
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يُرىٰ بالأبصارِ، أنّ مِن شَرطِ الرؤيةِ بالبَصَرِ أن يَكونَ المَرئيُّ مُقابِلاً أو في حُكمِ المُقابِلِ ، أو يَكونَ مَحَلُّه بهذه الصفةِ . و إذا استَحالَ عليه تَعالىٰ رؤيةُ
ص: 432
البَصَرِ مِن حَيثُ كانَ يَقتَضي كَونَه جَوهراً أو عَرَضاً، استحالَت رؤيَتُه بالبَصَرِ.
و الذي يَدُلُّ علىٰ [أنّ ] ما ذَكَرناه شَرطٌ: أنّ الرؤيةَ تَحصُلُ عندَ تَكامُلِه، و تَرتَفِعُ (1)عندَ اختِلالِه؛ ألا تَرىٰ أنّا لا نَرىٰ ما وَراءَنا و لا ما عن يَمينِنا و شِمالِنا مَتىٰ لَم نَنحَرِفْ (2) إليه، و نَرىٰ ما نُقابِلُه، علىٰ طريقةٍ واحدةٍ؟ فجَرَت هذه الشُّروطُ في الإدراكِ بالبَصَرِ مَجرىٰ نَفسِ البَصَرِ و صحّتِه، في أنّ ذلكَ شَرطٌ في صحّةِ إدراكِنا لِما نُدرِكُه.
و بَعدُ، فإنّه لَيسَ يَجوزُ حُصولُ الشيءِ علىٰ وجهٍ لَو(3) كانَ واجباً لَم يَزِدْ(4) عليه، ثُمّ لا يَكونَ واجباً؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي التأثيرَ الواجبَ المُعتادَ. و قد عَلِمنا أنّ الشُّروطَ التي ذَكَرناها، لَو كانَت واجبةً لم يَزِدِ الحالُ علىٰ ما ذَكَرناه. و لا [فَرقَ ] بينَ مَن ادَّعى تَعلُّقَ ذلكَ بالعادةِ ، و بَينَ مَن ادَّعاهُ في أمثالِه، مِنِ انتفاءِ الضِّدِّ بضِدِّه، و إيجابِ العِلّةِ لِمَعلولِها، إلىٰ سائرِ الأُمورِ الواجِبةِ .
و قولُ مَنِ اعتَرَضَ عَلىٰ هذا: بأنّا نُدرِكُ وُجوهَنا في المِرآةِ و إن لَم تَكُن مُقابِلةً لِحاسّةِ الرؤيةِ ؛ ليسَ بشيءٍ ؛ لأنّها و إن لَم تَكُن مُقابِلةً لعُيونِنا، فهي في حُكمِ المُقابِلةِ لها؛ لأنّ المِرآةَ تَجعَلُها(5) بهذه الصفةِ مِن حَيثُ تَعكِسُ الشُّعاعَ إليها، و تَصيرُ المِرآةُ علىٰ هذا الوَجهِ في أنّها آلةٌ للرؤيةِ بمَنزِلةِ العَينِ ، فمُقابَلَتُها في هذه الحالةِ تَجري مَجرىٰ مُقابَلةِ العَينِ نفسَها.
ص: 433
و أمّا سؤالُ مَن يَسألُ فيَقولُ : فيَجِبُ عَلىٰ هذا أن يَكونَ السوادُ - لَو قَدَّرنا أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ أحدَثَه في غَيرِ مَحَلٍّ - غَيرَ مَرئيٍّ ؛ لأنّ الشُّروطَ التي اعتَبَرتُموها لا تَصِحُّ فيه!
فالجوابُ عنه: أنّ مَنِ اعتَبَرَ في رؤيةِ المَرئيّاتِ ما ذَكَرناه مِن الشُّروطِ، و جَمَعَ بَينَ هذا القولِ و القَولِ برؤيةِ السوادِ لَو وُجِدَ لا في مَحَلٍّ ، يَقولُ : السوادُ مَتىٰ وُجِدَ في غَيرِ مَحَلٍّ ، لابُدَّ مِن أن يَكونَ بحَيثُ لَو وُجِدَ مَحَلٌّ لَكانَ ذلكَ المَحَلُّ في جهةٍ دونَ جهةٍ ، و هو علىٰ هذا كأنّه في جهةٍ ، و يَصيرُ في حُكمِ المُقابِلِ .
و أمّا اعتراضُ مَنِ اعتَرَضَ هذه الطريقةَ (1) بقَولِه: إذا جازَ أن يَرَى القَديمُ تَعالَى المَرئيّاتِ مِن غَيرِ مُقابَلةٍ ، و إن كانَ أحَدُنا يَحتاجُ في ذلكَ إلَى المُقابَلةِ ، فألا جازَ أن
يُرىٰ مِن غَيرِ مقابلةٍ ، و إن كانَتِ المَرئيّاتُ في الشاهدِ تَفتَقِرُ(2) إلَى المُقابَلةِ؟
فالجوابُ عنه: أنّ المُقابَلةَ و ما جَرىٰ مَجراها إنّما تَكونُ شرطاً في رؤيةِ ما يُرى بحاسّةٍ ، و كذلكَ هي(3) شرطٌ في رؤيةِ مَن يَرىٰ بحاسّةٍ . و عندَنا أنّ القَديمَ لا يَرىٰ بحاسّةٍ ، فيُراعىٰ فيه الشَّرطُ المخصوصُ بالحاسّةِ . و عندَكم أنّه تَعالىٰ يُرى بالحَواسِّ ، فلا بُدّ مِن أن تُثبِتُوا له شَرطَ المَرئيّاتِ بالحَواسِّ ، فافتَرَقَ الأَمرانِ .
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه [لا يُرىٰ بالأبصارِ، قولُه] تَعالىٰ «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ»(4) فنَفىٰ إدراكَ الأبصارِ - الذي هو رُؤيَتُها -
ص: 434
عنه علىٰ وجهِ التَّمَدُّحِ ، (128) فوجبَ القَطعُ علىٰ أنّ الرؤيةَ لا تَتَناوَلُه في حالٍ مِنَ الأحوالِ ؛ لأنّ ما تَمَدَّحَ تَعالى بنفيِه و إثباته(1) و لَم يَكُن مُتفضِّلاً(2) به، فلا يَكونُ إثباتُ المَنفيِّ مِنه أو نَفيُ المُثبَتِ إلّانَقصاً. و إذا كانَ النقصُ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ، وجبَ نَفيُ الرؤية(3) علىٰ جميعِ الأحوالِ .
فإن قيلَ : دُلّوا علَى الجُملةِ الّتي ادَّعَيتُم.
قُلنا:
[1.] أمّا(4) الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الآيةَ تَتضمَّنُ (5) نفيَ الرؤيةِ بالأبصارِ: فهو أنّ لَفظةَ «الإدراكِ » و إن كانَت مَتىٰ أُطلِقَت في اللُّغةِ احتَمَلَت أشياءَ كثيرةً ؛ كاللُّحوقِ و النُّصحِ و إدراكِ الحَرارةِ و الصَّوتِ و غَيرِ ذلكَ ، فإنّها إذا قُيِّدَت بنفْسِ البَصَرِ اختَصَّت و زالَ عنها الاحتمالُ ، و اختَصَّت بما يَكونُ البَصَرُ آلةً فيه، و هو الرُّؤيةُ دونَ غَيرِها.
و الّذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ أهلَ اللُّغةِ العَرَبيّةِ لا يَفصِلونَ بَينَ قولِ أحَدِهم:
«أدركتُ ببَصَري»، و «رَأَيتُ ببَصَري»، و «أَحسَستُ ببَصَري». و لأنّهم يَصِفونَ كُلَّ ما أطلَقوا عليه أنّه «مُدرَكٌ بالبَصَرِ» بأنّه «مَرئيٌّ بالبَصَرِ»، و هذا واضحٌ في تَساوي معنَى اللفظَينِ .
و بَعدُ، فلَو كانَتِ الرؤيةُ غَيرَ الإدراكِ لَوجبَ انفصالُهما، فلَو كانَ أحَدُنا لا يَعقِلُ
ص: 435
لنفسِه متىٰ أدرَكَ ببَصَرِه الشيءَ [ورَآه إلّا](1) حالةً واحدةً ، و استَحالَ أن يَكونَ مُدرِكاً له ببَصَرِه و هو غَيرُ راءٍ له، و أن يَكونَ رائياً له و هو غَيرُ مدرِكٍ له ببَصَرِه، دَلَّ على أنّ المعنىٰ في اللفظَينِ واحدٌ.
فإن قيلَ : ما أنكَرتُم أنّ الإدراكَ المَنفيَّ في الآيةِ ، إنّما هو الإحاطةُ التي لا تَجوزُ إلّا علَى الأجسامِ ، دونَ الرؤيةِ؟
قُلنا: هذا [التفسيرُ لمَعاني هذه](2) الألفاظِ يَبطُلُ مِن وُجوهٍ :
أوّلُها: ما قَدَّمناه مِن أنّ أهلَ اللُّغةِ الّذين إليهم نَرجِعُ في مَعاني هذه الألفاظِ، لا يُفَرِّقونَ بَينَ قولِ القائلِ : «أدرَكتُ ببَصَري» و «رَأَيتُ » و «أحسَستُ »؛ فمَن ادَّعىٰ أنّ الإدراكَ بمعنَى الإحاطةِ ، كمَنِ ادَّعىٰ ذلكَ في الرؤيةِ و الإحساسِ .
و ثانيها: أنّ الإدراكَ لا يُستَعمَلُ في مَوضِعٍ مِنَ المواضعِ بمعنَى الإحاطةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لا يَقولونَ : «أدرَكَ السُّورُ المَدينةَ »، و «أدرَكَ الجِرابُ الدَّقيقَ ». و إذا كانَ مع الإطلاقِ لا يُريدونَ بلَفظةِ «الإدراكِ » الإحاطةَ ، فأَحرىٰ أن لا يُريدوا ذلكَ مع التقييدِ بالبَصَرِ.
و ثالثُها: أنّ الذي نَفاه تَعالىٰ عن نفسِه مِن الإدراكِ في الآية الكريمةِ ، هو الذي أثبَتَه لها، و قد عَلِمنا أنّه لَم يُرِدْ بقَولِه تَعالىٰ : «وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ»(3) الإحاطةَ ، بل أرادَ الرؤيةَ ، فيَجِبُ أن يَكونَ ما نَفاه كذلكَ .
ص: 436
فإن قالوا: فلِمَ أَنكَرتُم أن يَكونَ الإدراكُ بالبَصَرِ رؤيةً مخصوصةً ، و هي المُتَناوِلةُ للمَرئيِّ مِن جميعِ جهاتِه(1)، و أن يَكونَ إنّما نَفىٰ هذه الرؤيةَ عن نفسِه دونَ الرؤيةِ المُطلَقةِ؟
قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ أهلَ اللُّغةِ لا يُفَرِّقونَ بَينَ معنىٰ قَولِهم: «أدرَكتُ ببَصَري»، و «رَأَيتُ ». و مَنِ ادَّعىٰ فَرقاً بَينَ الأمرَينِ [فهو] مُدَّعٍ لِما لَيسَ بمعروفٍ عندَهم، و هو بمَنزلةِ مَن عَكَسَ كذلكَ و ادَّعىٰ أنّ المُتَناوِلةَ للشَّيءِ مِن جميعِ جهاتِه هي الرؤيةُ ، و الإدراكُ بخِلافِها في هذا المعنىٰ .
علىٰ أنّ هذا القولَ يوجِبُ أن لا يوصَفَ أحَدٌ منّا بأنّه مُدرِكٌ لشيءٍ مِنَ الأجسامِ في الحالةِ الواحدةِ ؛ لأنّه لا يَراها مِن جميعِ جهاتِها. و كذلكَ كانَ يَجِبُ أن لا يوصَفَ بأنّه يَرَى السوادَ؛ لأنّه لا جِهاتَ له. و في عِلمِنا بخِلافِ ذلك دليلٌ علىٰ فَسادِ هذا القولِ .
فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ ما ادَّعَيتُموه مِن أنّ الإدراكَ إذا قُيِّدَ بالبَصَرِ، لَم يُفِدْ إلّاالرؤيةَ ، و نَحنُ نَجِدُهُم يَقولونَ : «أدرَكتُ حَرارةَ المِيلِ ببَصَري». و إذا صَحَّ هذا جازَ أن يَكونَ (129) النفيُ بالآيةِ هو هذا الضربَ مِن الإدراكِ؟(2)
قُلنا: أوَّلُ ما في هذا السؤالِ أنّا لا نَعرِفُ ما تَضمَّنَه مُستَعمَلاً في لُغة العَرَبِ ، و لا يَقدِرُ المُعتَرِضُ به أن يُنشِدَ فيه شِعراً لهم، أو يَرويَ به خَبَراً عنهم، فعلىٰ
ص: 437
مُعتَمَدِهم أن يُصَحِّحَ روايَتَه حتّىٰ يَلزَمَنا الكلامُ علىٰ مَعناه.
علىٰ أنّ ذلكَ لَو كانَ مُستَعمَلاً معروفاً، لَم يَقدَحْ فيما اعتَمَدناه؛ لأنّ الإدراكَ الحاصلَ بالبَصَرِ علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: يَختَصُّ البَصَرُ بأنّه آلةٌ فيه، و هو الرؤيةُ .
و الضربُ الآخَرُ: حُكمُ البَصَرِ فيه و كُلُّ مَحَلٍّ للحياةِ حُكمٌ واحدٌ، و هو إدراكُ الحَرارةِ و ما يَجري مَجراها.
فالإدراكُ مَتىٰ أُضيفَ إلَى البَصَرِ [و](1) أُطلِقَ ، لَم يُعقَلْ مِنه إلّاالرؤيةُ التي يَختَصُّ البَصَرُ بأنّه آلةٌ فيها، كما أنّ الإدراكَ إذا أُضيفَ إلَى الأنفِ (2) أو الأُذُنِ و أُطلِقَ ، لَم يُعقَلْ مِنه إلّاما تَختَصُّ هاتانِ الجارِحتان بكونِهما آلةً في إدراكِه. و ما سُئِلنا عنه بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّ القائلَ إذا قالَ : «أدرَكتُ حَرارةَ المِيلِ ببَصَري» فقَد عَلَّقَ الإدراكَ بالحَرارةِ التي لا يَكونُ البَصَرُ آلةً في إدراكِها مِن جهةِ الرؤيةِ ، و صارَ هذا التقييدُ مُزيلاً لِما يَقتَضيهِ ظاهرُ إضافةِ الإدراكِ إلَى البَصَرِ مَع الإطلاقِ ، و جَرىٰ مَجرى أن تَقولَ :
«أدرَكتُ حَرارةَ كذا بأنفي أو أُذُني» في أنّه يؤَيِّدُ ما يَقتَضيهِ ظاهِرُ تَعلُّقِ الإدراكِ بالأنفِ و الأُذُنِ مع الإطلاقِ .
علىٰ أنّ الآيةَ إذا اقتَضَت نَفيَ إدراكِ الأبصارِ عنه تَعالىٰ ، فيَجِبُ أن يُنفىٰ ذلكَ علىٰ كُلِّ وجهٍ يُضافُ إلَى البَصَرِ، فيُنفىٰ (3) أن يَكونَ مَرئيّاً بالبَصَرِ، و مُدرَكاً به علىٰ سَبيلِ إدراكِ الحَرارةِ و غَيرِها، و هذا بَيِّنٌ في سُقوطِ السؤالِ .
[2.] و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ عن نفسِه: فهو إجماعُ الأُمّةِ ؛
ص: 438
لأنّه لا خِلافَ بَينَها في ذلكَ ، و إنّما اختَلَفوا في كيفيّةِ تَمدُّحِه:
فقالَ قومٌ : إنّه تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ عن نفسِه، و الإدراكُ غَيرُ الرؤيةِ .
و قالَ آخَرونَ : إنّما تَمدَّحَ بنفيِ الرؤيةِ عنه في الدُّنيا دونَ الآخِرةِ .
و قالَ آخَرونَ : إنّه تَمدَّحَ بنفيِ إدراكِ هذه الحاسّةِ له، و إن صَحَّ أن يُرى بحاسّةٍ سادسةٍ .
و قالَ أهلُ الحَقِّ : إنّه تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ الذي هو الرؤيةُ عن نفسِه، علىٰ كُلِّ وجهٍ و في كُلِّ حالٍ .
و هذا إجماعٌ لا يَقدَحُ فيه خِلافُ مَن لَعلَّه أن يُخالِفَ فيه حادِثاً؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي أن لا يَستَقِرَّ إجماعٌ علىٰ شيءٍ مِن الأشياءِ .
علىٰ أنّ سياقَ الكلامِ ، و تَرتيبَ الآياتِ الثَّلاثِ إلىٰ قولِه تَعالىٰ : «وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ»(1). ما بين المعقوفين منّا، و هو لازم؛ لأنّ المستثنى - و هو ما يقع بعد أداة الاستثناء - لا بدّ و أن يكون اسماً.(2) ، يَقتَضي كَونَ جميعِ ما تَضمَّنَه الكلامُ مِن نفيٍ و إثباتٍ مَدحاً؛ لأنّ العادةَ لَم تَجرِ للعَرَبِ الذينَ خُوطِبنا بلِسانِهم، أن يَتمدَّحُوا بخِطابٍ علىٰ هذا النَّسَقِ ، و يُخَلّلوا(3) بَينَه و بَينَه(4) بما لا يَقتَضي المَدحَ و لا له مَدخَلٌ فيه!
[3.] فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ تَمدَّح(5) بما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، دونَ ما يَجوزُ(6) أن يَكونَ مُتَفضِّلاً به، فهو أنّ الإدراكَ لَيسَ بمعنىً - علىٰ ما دَلَّلنا عليه - فيَصِحَّ أن يُقالَ :
إنّه تَمدَّحَ بأن لا يَفعَلَه علىٰ سَبيلِ التفضُّلِ ، و لَم يَبقَ بَعدَ ذلكَ إلّا [أن](6) يَكونَ
ص: 439
التوجيهُ (1) أنّه في نفسِه علىٰ صفةٍ يَستَحيلُ معها إدراكُه. و ما تَقتَضيه ذاتُه لا يَصِحُّ تغيُّرُه، و لا خُروجُه تَعالىٰ عنه. فصَحَّ بذلكَ ما ذَهَبنا إليه مِن استحالةِ الرؤيةِ عليه علىٰ كُلِّ حالٍ .
و اعلم أنّ ما تَمدَّحَ القَديمُ تَعالىٰ بنفيِه و إثباتِه علىٰ ضَربينِ :
أحَدُهما: يَرجِعُ إلىٰ فِعلِه.
و الآخَرُ: إلىٰ ذاتِه.
فأمّا الضربُ الأوّلُ : فهو علىٰ قِسمَينِ :
أحدُهما: أن يَتمدَّحَ بالفِعلِ علىٰ سَبيلِ الإثباتِ .
و الآخَرُ: أن يَتمدَّحَ به علىٰ طريقِ النفيِ .
و القِسمُ الأوّلُ : علىٰ ضَربَينِ :
أحدُهما: يَقتَضي انتفاؤه (130) النقصَ و الذَّمَّ ، و هو التمدُّحُ بفِعلِ الواجبِ .
و الآخَرُ: لا يَقتَضي ذلكَ ، و هو كُلُّ ما كانَ مُتَفضِّلاً بفِعلِه؛ مِنَ الإحسانِ و الإنعامِ .
و أمّا القسمُ (2) الثاني مِن أقسامِ الفعلِ - و هو التمَدُّحُ بنفيِ الفِعلِ - فهو أيضاً علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: يَقتَضي إثباتُه النقصَ و الذَّمَّ ، و هو التمَدُّحُ بأن لا يَفعَلَ القَبائِحَ .
و الضربُ الثاني: لا يَقتَضي إثباتُه ذَمّاً، و هو التمَدُّحُ بأن لا يَفعَلَ ما يَكونُ مُتَفضِّلاً بأن لا يَفعَلَه؛ كنَحوِ تَمدُّحِه بأنّه لا يُعاقِبُ الكافرَ لَو تَمدَّحَ بذلكَ ؛ لأنّ إثباتَ
ص: 440
ذلكَ يَجري مَجرىٰ نفيِ ما يَتفضَّلُ بفِعلِه(1) مِن ضُروبِ الإحسانِ ، في أنّه لا يوجِبُ ذَمّاً؛ مِن حَيثُ كان للمُتَفضِّل أن لا يَتفضَّلَ و له أن يَتفضَّلَ ، و لا فَرقَ في ذلكَ بَينَ النفيِ و الإثباتِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : كيفَ يَصِحُّ أن يَتمدَّحَ بأنّه يَفعَلُ الإحسانَ ثُمّ لا يَفعَلُه ؟ و كذلكَ فكيفَ يَتمدَّحُ بأنّه لا يُعاقِبُ الكافِرَ ثُمّ يُعاقِبُه ؟ و كُلُّ ذلك يَقتَضي الذَّمَّ ، بخِلافِ ما قُلتُم!
و ذلكَ أنّ الوَعدَ بالتَّفَضُّلِ لا يُدخِلُه في أن يَكونَ واجباً؛ فمَتىٰ وَعَدَ بما يَجري مَجرَى التفضُّلِ - سواءً كانَ نفياً أو إثباتاً - كانَ له أن لا يَفعَلَه مِن حَيثُ كان تَفضُّلاً. و إنّما يَقبُحُ أن لا يَفعَلَه مِن وجهٍ آخَرَ؛ لأنّه يَكونُ كاذباً مع تَقدُّمِ الوَعدِ، و هذا خارجٌ عمّا نَحنُ بسَبيلِه.
علىٰ أنّا نَفرِضُ المِثالَ بحَيثُ لا يَشتَبِهُ ، فنَقولُ : مَتىٰ وَعَدَ بأنّه يَتفضَّلُ علىٰ زَيدٍ
بالإحسانِ ، جازَ أن لا يَتفضَّلَ علىٰ عَمرٍو بمِثلِ ذلكَ ، و لا يَكونُ مذموماً. و كذلكَ إذا وَعَدَ بأنّه لا يُعاقِبُ أحَداً مِنَ الكُفّارِ، جازَ أن يُعاقِبَ الجميعَ . و مِثلُ هذا لا يَجوزُ في الفعلِ الواجِبِ ؛ لا علىٰ طريقِ النفيِ و لا الإثباتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَجوزُ أن يَتمدَّحَ بأنّه يَفعَلُ بزَيدٍ ما استَحَقَّه مِن الثَّوابِ ، و لا يَفعَلُ مِثلَ ذلكَ بسائرِ المُستَحِقّينَ؟ فكذلكَ لا يَجوزُ أن يَتمدَّحَ بأنّه لا يَظلِمُ زَيداً و يَظلِمُ غَيرَه، فقَد تَمَّ غَرَضُنا علىٰ كُلِّ حالٍ في الفَرقِ بَينَ الأمرَينِ .
فأمّا [الضرب الثاني - و هو]
ما يَتمدَّحُ به تَعالىٰ فيما يَرجِعُ إلى ذاتِه - فهو على ضُروبٍ ثلاثةٍ :
تَمَدُّحٍ بإثباتٍ علَى الحَقيقةِ .
ص: 441
و تَمدُّحٍ بما يَجري مَجرَى الإثباتِ .
و تَمدُّحٍ بما جَرىٰ مَجرَى النفيِ .
و علىٰ كُلِّ الوُجوهِ لا يَجوزُ انتِفاءُ المُثبَتِ ، و لا إثباتُ المَنفيِّ ، و لا تَغَيُّرُ الحالِ في ذلكَ . فالإثباتُ الحَقيقيُّ كالوصفِ له بأنّه موجودٌ باقٍ ، [و ما يَجري مَجرَى الإثباتِ كنَحوِ تَمدُّحِه تَعالىٰ بأنّه عالم قادر حيّ سميع بصير](1)، و ما يَجري مَجرَى النَّفيِ كنَحوِ تَمدُّحِه تَعالىٰ بأنّه «لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ »(2) ، و بنَفيِ الصاحِبةِ و الوَلَدِ.
و يَجري مَجرىٰ ذلكَ تَمدُّحُه بأنّه لا يُدرَكُ بالأبصارِ، فلا فَرقَ علىٰ ما ذَكَرناه بَينَ مَن جَوَّز أن يُرىٰ في الآخِرةِ ، و بَينَ مَن جَوَّزَ أن تَأخُذَه سِنةٌ أو نَومٌ ، أو يَتَّخِذَ وَلَداً في بعضِ الأحوالِ .
فإن قيلَ : كُلُّ شيءٍ أشَرتُم إليه - فيما يَقتَضي انتفاؤه و إثباتُه النقصَ له - معقولٌ يَقتَضي ذلكَ فيه، و لَيسَ في إثباتِ رؤيَتِه تَعالىٰ وَجهٌ معقولٌ يَقتَضِي النقصَ ؛ فكيفَ (3) يَصِحُّ التمَدُّحُ بنَفيِ الرؤيةِ؟ و كيفَ يَصِحُّ حَملُها علىٰ ما قد عُقِلَ وَجهُ التمَدُّحِ بنَفيِه ؟
قُلنا: إذا ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ مُتمدِّحٌ بالآيةِ ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ في نفيِ الرؤيةِ عنه وَجهٌ يَقتَضي المِدحةَ ؛ لأنّه تَعالىٰ لا يَتمدَّحُ بما لا وَجهَ له في المِدحةِ . فهذا القَدرُ كافٍ في عِلمِنا بأنّه لا بُدَّ مِن وَجهِ المِدحةِ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، و يَنتَظِمُ
ص: 442
معه الاستدلالُ بالآيةِ ، و إن لَم نَعلَمِ الوَجهَ بعَينِه علىٰ سَبيلِ التفصيلِ (1). كما أنّ العِلمَ بوَجهِ وجوبِ الشيءِ علَى الجُملةِ كافٍ في العِلمِ بوجوبِه، و غَيرُ مُخِلٍّ به، و إن كانَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ هناكَ وجهٌ للوجوبِ مُفصَّلٌ .
و الوَجهُ المُفصَّلُ في كَونِ نفيِ الرؤيةِ عنه تَعالىٰ مَدحاً، هو أنّ مِن شَأنِ ما يُرىٰ أن يَكونَ هو (131) أو مَحَلُّه في جهةٍ مِن الجِهاتِ ، و ذلكَ يَقتَضي حُدوثَه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : متىٰ عُلِمَ هذا الوَجهُ ، و أنّ المِدحةَ تَعلَّقَت به، استُغنيَ
عن الاستدلالِ بالآيةِ ، و خَرَجَت مِن أن تكونَ دليلاً.
و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا أنّ العِلمَ بتفصيلِ وَجهِ المِدحةِ غَيرُ واجبٍ ، و أنّ الاِستدلالَ بالآيةِ لا يَفتَقِرُ إليه، و أنّ العِلمَ بأنّه لا بُدَّ مِن وَجهٍ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ كافٍ ، فسَقَطَ هذا السؤالُ .
فقالَ بعضُهم: إنّه لَم يَتمدَّح بمُجرَّدِ نَفيِ الإدراكِ عنه، بَل بكَونِه يَرىٰ و لا يُرىٰ ؛ لأنّ ما عَداه مِن الذواتِ علىٰ ضُروبٍ :
مِنها: ما يُرىٰ و لا يَرىٰ ؛ كالألوانِ .
و مِنها: ما يُرىٰ و يَرىٰ ؛ كالإنسانِ و ما جَرىٰ مَجراه مِنَ الأحياءِ .
و لَيسَ مِنها ما يَرىٰ و لا يُرىٰ . فإذا اختَصَّ هو تَعالىٰ بذلكَ ، وجبَت له المِدحةُ .
و قال آخَرونَ (1): إنّه لَم يَتمدَّحْ تَعالىٰ بنفيِ الرؤيةِ عنه في الحقيقةِ ، و إنّما تَمدَّحَ بصفتِه الذاتيّةِ التي اقتَضَت له نَفيَ الإدراكِ عنه و إثباتَه فيه، كما أنّه تَعالىٰ لمّا تَمدَّحَ بنَفيِ الشبيهِ و الوَلَدِ و الصاحبةِ ، لَم يَتمدَّحْ بالنفيِ علَى الحقيقةِ ، و إنّما تَمدَّحَ بما اقتَضىٰ له مِن صفتِه الذاتيّةِ .
و قد اعتَرَضَ المُخالِفون [على] الوجهِ الأوّلِ : فقالوا: كيفَ يَصِحُّ أن يَتمدَّحَ بمجموعِ (2) أمرَينِ ؛ كُلُّ واحدٍ منهما بانفرادِه لا يَقتَضي(3) المَدحَ؟ و لَئن جازَ هذا لَيَجوزَنَّ أن يَتمدَّحَ بأنّه شيءٌ عالِمٌ ، أو ذاتٌ قادرةٌ ، فيُفيدَ المَدحَ بمجموعه، و إن كانَ الانفرادُ بخِلافِه(4).
و قد أُجيبَ عن هذا: أنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ في الصفةِ التي لا تَقتَضي مَدحاً علَى الانفرادِ، أن تَكونَ مؤَثِّرةً في المَدحِ عندَ الانضمامِ إلىٰ غَيرِها، أو وقوعِها علىٰ بعضِ [الوجوهِ ]؛ و مَثَّلوا ذلكَ بتَمدُّحِه تَعالىٰ بنَفيِ الشبيهِ و الوَلَدِ، و أنّه لَم يَكُن مَدحاً لمُجرَّدِ النفيِ ؛ مِن حَيثُ قد يَنتَفي ذلكَ عن ذَواتٍ كثيرةٍ غَيرِ ممدوحةٍ ، و إنّما كانَ مَدحاً مِن حَيثُ انتَفىٰ
ص: 444
مِن حَيٍّ له صفاتُ مَن يَجوزُ مِثلُ ذلكَ عليه في الشاهدِ. و مَثَّلوه أيضاً بمَدحِنا(1) له تَعالىٰ بأنّه «موجودٌ لَم يَزَلْ »؛ إذ(2) كانَ لا مَدحَ في مُجرَّدِ كَونِه موجوداً.
و قالوا: إن لَزِمَ علىٰ ما ذَكَرناه في التَمدُّحِ بنَفيِ الإدراكِ في الآيةِ ، أن نَتمدَّحَ بأنّه
شيءٌ عالِمٌ ، لَزِمَ المُخالِفَ مِثلُه إذا مَدَحَه بنفيِ السِّنةِ و النَّومِ و غَيرِ ذلكَ ممّا أَورَدناه.
و الذي يَجِبُ أن يُحَصَّلَ في هذا المَوضِعِ : أنّ الصفةَ المَنفيّةَ لا يَمتَنِعُ أن تَقتَضيَ المَدحَ بشرطٍ مَتىٰ لَم يَحصُل لَم يَكُن مَدحاً، بل لا بُدَّ في كُلِّ مَدحٍ تَعلَّقَ بالنفيِ دونَ الإثباتِ مِن أن يَكونَ مشروطاً، فلا بُدَّ في شرطِه أيضاً مِن أن يَكونَ إثباتاً. و لَيسَ ذلكَ واجِباً في المَدحِ بالإثباتِ ؛ ألَاتَرىٰ أنّا إذا مَدَحنا بنفيِ الجَهلِ و العَجزِ و الظُّلمِ ، فلا بُدَّ مِنِ اشتراطِ كَونِ مَن نَمدَحُه بذلكَ حَيّاً له صفاتٌ مخصوصةٌ ، و في الظُّلمِ لا بُدَّ أن يَكونَ قادراً عليه و له دَواعٍ إليه ؟
و قد استَقصَينا هذا الكلامَ في مسألةٍ أملَيناها مُتقدِّماً، و بَسَطنا الكلامَ فيها(3)، و بيّنّا أنّ النفيَ إنّما فارَقَ الإثباتَ في الافتقارِ إلى الشرطِ؛ مِن حَيثُ كانَ النفيُ أعمَّ مِنَ الإثباتِ ، فلعُمومِه يَتَناوَلُ المَمدوحَ و غَيرَ المَمدوحِ . و الإثباتُ أخَصُّ مِنه،
ص: 445
فيَستَغني عن الشرطِ؛ لأنّه لا يَتَناولُ إلّاالممدوحَ . و لهذه العِلّةِ وجبَ في الشرطِ المُراعىٰ في النفيِ أن يَكونَ أيضاً إثباتاً، (132) أو جارياً مَجرَى الإثباتِ . و مَن تأمَّلَ ما وَقَعَ التمَدُّحُ فيه بالنفيِ و الإثباتِ ، عَلِمَ أنّ الأمرَ فيه علىٰ ما ذَكَرنا.
فإن قيلَ : ظاهرُ الآيةِ إنّما يَقتَضي نَفيَ إدراكِ الأبصارِ عنه، و هذا ممّا لا يُخالِفُ فيه أحَدٌ، و إنّما الخِلافُ في إدراكِ المُبصِرينَ الذين لَم تَتناوَلْهم(1) الآيةُ .
قُلنا: لَيسَ يَخلو ذِكرُ الأبصارِ أو المُبصِرينَ (2)، فإن أُريدَت(3) به الرؤيةُ دونَ حاسّتِها، فذلكَ باطلٌ بما دَلَّلنا به مِن قَبلُ علىٰ أنّ الرؤيةَ لَيسَت بمعنىً (4).
و إن أُريدَت الحاسّةُ ، بَطَلَ أن تَكونَ الآيةُ موجِبةً لِمَدحِه تَعالىٰ ؛ لأنّ الحاسّةَ كما يَستَحيلُ أن تَرىٰ (5) هي القَديمَ تَعالىٰ ، فكذلكَ (6) يَستَحيلُ أن تَرىٰ غَيرَه مِن جَميعِ الموجوداتِ ، فلا اختصاصَ هاهُنا لِلقَديمِ تَعالىٰ بما لَيسَ لغَيرِه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يُراعيَ في ذلكَ كَونَه رائياً، و يَشتَرِطَ النَّفيَ به؛ لأنّ كُلَّ سَليمٍ مِنَ الأحياءِ يُشارِكُ في ذلكَ ؛ مِن حَيثُ كانَ البَصَرُ لا يَراه علَى الحقيقةِ ، و إن كانَ هو رائياً له.
علىٰ أنّ مَن تَلبَّسَ أدنىٰ تَلبُّسٍ (7) بالعربيّةِ ، لا يَعتَرِضُ بمِثلِ هذا الاعتراضِ ؛ لأنّهم
ص: 446
لا يُفرِّقونَ - إذا أرادوا النفيَ - بَينَ أن يُعلِّقوه بالآلةِ أو بذي الآلةِ ، و لهذا يَقولونَ : «يَدُ فلانٍ لا تَبطِشُ »، و «رِجلُه لا تَسعىٰ »، و «عَينُه لا تُبصِرُ»، و إنّما يُريدونَ أنّه في نَفسِه لا يَبطِشُ و لا يَسعىٰ و لا يُبصِرُ، فالمعنىٰ واحدٌ، و إن كانَ اللفظُ الأوّلُ الذي يُعلَّقُ
النفيُ فيه بالآلةِ (1) أفصَحَ و أبلَغَ .
فإن قيلَ : مِن أينَ لكم عُمومُ الآيةِ علىٰ وَجهٍ يَتضمَّنُ نفيَ إدراكِ البَعضِ (2)، كما يَتضمَّنُ نفيَ إدراكِ الكُلِّ . [و] ظاهرُ الآية إنّما يَقتَضي أنّ جميعَ المُبصِرينَ أيضاً(3)لا يُدرِكونَه - و هذا ممّا لا خِلافَ فيه - فما الذي يَدُلُّ مِنها علىٰ أنّ بعضَ المُبصِرينَ أيضاً لا يُدرِكونَه ؟(4)
قُلنا: قد أُجيبَ عن هذا السؤالِ بأنّ نَفيَ إدراكِ الكُلِّ يُقتَضي نَفيَ إدراكِ البَعضِ ، كما أنّ الإثباتَ يَقتَضي ذلكَ .
و لَيسَ هذا بمَرضيٍّ (5)؛ لأنّ الإثباتَ في هذا البابِ يُخالِفُ النفيَ ؛ لأنّ القائلَ إذا قالَ : «لا أُكَلِّمُ جميعَ الأحداثِ (6)» و «لا آكُلُ جميعَ هذا الطعامِ » مَتىٰ كَلَّمَ بعضَهم
ص: 447
و أكَلَ بعضَ الطعامِ ، لا يَكونُ كاذباً. و في الإثباتِ ، إذا قالَ : «أنا آكُلُ جميعَ الطعامِ » و «أُكَلِّمُ جميعَ الناسِ » متىٰ أَخَلَّ (1) بالبعضِ يَكونُ كاذِباً.
و الجَوابُ عن ذلكَ : هو أنّا قد بيّنّا(2) أنّه تَعالىٰ لَم يَتمدَّحْ في الآيةِ بانتفاءِ فِعلٍ أو إثباتِ فِعلٍ ، و إنّما تَمدَّحَ بما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، و هذا القَدرُ كافٍ في إسقاطِ هذا السؤالِ ؛ لأنّ تَمدُّحَه إذا كانَ راجعاً إلىٰ ما يَختَصُّ في ذاتِه، كانَ انتفاءُ إدراكِ البعضِ كانتفاءِ إدراكِ الكُلِّ .
و إنّما يَصِحُّ معنَى السُّؤالِ لَو كانَ الإدراكُ معنىً ، ثُمّ كانَ ممّا يَصِحُّ انتِفاؤه عَن بعضِ المُدرِكينَ دونَ بَعضهِم و حالُهم واحدةٌ ، و إذا كُنّا قد دَلَّلنا علىٰ فَسادِ كُلِّ ذلكَ (3)، فلا شُبهةَ في السؤالِ .
***
إن سألَ سائلٌ فقالَ : لَيسَ فيما تَقدَّمَ مِن كلامِكُم أكثَرُ مِن أنّه تَعالىٰ لا يُدرَكُ بالأبصارِ؛ فمِن أينَ أنّه لَيسَ بمُدرَكٍ في نفسِه(4)؟ و لعلَّ الأبصارَ و إن لَم يُدرَكْ بها،
ص: 448
فإنّه يُدرِكُ نفسَه.(1)
قيلَ له: لَو كانَ تَعالىٰ مرئيّاً في نفسِه، لَصَحَّ أن نَراهُ مَع حُصولِنا (133) علَى الصفةِ التي معها نَرَى المَرئيّاتِ (2) و زوالِ الآفاتِ و ارتفاعِ الموانعِ ؛ لأنّه لا مُنتَظَرَ بَعدَ ما ذَكَرناه في حُصولِ رؤيةِ ما يَصِحُّ رؤيتُه في نفسِه. و لو لا صحّةُ هذه الطريقةِ ، لالتَبَسَ ما يَستَحيلُ رؤيتُه بما يَصِحُّ رؤيتُه، و لَم نأمَنْ أن يَكونَ الطَّعمُ مَرئيّاً في نفسِه و إن كُنّا لا نَراهُ ، و نَرى السَّوادَ في مَحَلِّه. و كذلك كما لا نَأمَنُ أن تَكونَ المعدوماتُ مَرئيّةً في نُفوسِها، و إن كُنّا مع صحّةِ حَواسِّنا و تَكامُلِ شرائطِنا لا نَراها.
و هذا يؤَدّي إلَى التجاهُلِ .
و ممّا يُبَيِّنُ صحّةَ ما ذَكَرناه أنّ المَرئيَّ لا يَختَصُّ بصحّةِ رؤيتِه بعضُ الرائينَ دونَ بعضٍ ، بل كُلُّ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً لبعضِهم، صَحَّ أن يراه الجميعُ . كما أنّ المعلومَ لا يَختَصُّ في صحّةِ العِلمِ به بعالمٍ دونَ عالمٍ ، أو حَيٍّ دونَ آخَرَ. و كذلكَ المظنونُ و المُعتَقَدُ و المرادُ و المُشتَهىٰ . و إنّما وَجَب ذلك فيما عَدَّدناه مِن المعلوماتِ و المعتَقَداتِ و غيرِها؛ مِن حَيثُ كانَ التعلُّقُ الذي يَختَصُّ بها لا يؤَثِّرُ فيها، و إنّما يَتَناوَلُها علىٰ ما هي عليه، و كذلك المَرئيُّ ؛ لأنّه لا يَحصُلُ علىٰ صفةٍ بالرائي، و إنّما تَتَناوَلُه(3) الرؤيةُ علىٰ ما هو عليه مِن غَيرِ تأثيرٍ فيه. و فارَقَ تعلُّقُ سائرِ ما ذَكَرناه لِتَعلُّقِ القادرِ بالمقدورِ؛ مِن حَيثُ حُصولِ التأثيرِ في المقدورِ، و لهذا اختَصَّ المقدورَ، و زالَ الاختصاصُ في جميعِ ما ذكرناه. فلَو جازَ إثباتُ مَرئيٍّ يَختَصُّ بصحّةِ رؤيتِه بعضُ الرائينَ دونَ بعضٍ ، لَجازَ مِثلُ ذلك في المعلومِ و جَميعِ ما عَدَّدناه.
ص: 449
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أنّ كونَ الوَجهِ الذي له امتَنَعَت رؤيةُ القَديمِ علينا، حاجَتُنا في الرؤيةِ إلَى الحاسّةِ ، التي مِن شرطِها أن يَكونَ المَرئيُّ مُقابِلاً لها، أو في حُكمِ المقابِلِ ؛ و لمّا استَحالَتِ المُقابَلةُ عليه، تَعذَّرَت علينا رؤيتُه، و لَم يَمتَنِعْ مع ذلكَ أن يَرىٰ نفسَه؛ لأنّه يَستغني فيما يَراهُ عن الحواسِّ و عن شُروطِها!
قلنا: إذا ثَبَتَ أنّ رؤيَتَنا له لا تَصِحُّ (1) علىٰ كُلِّ حالٍ ، ثَبَتَ أنّه غَيرُ مَرئيٍّ في نفسِه.
كما أنّ كُلَّ شيءٍ لا يَصِحُّ أن نَعلَمَه علىٰ كُلِّ حالٍ ، يَجِبُ القطعُ علىٰ أنّه غَيرُ معلومٍ (2)في نفسِه.
و كيفَ يَصِحُّ إثباتُ مانِعٍ مِن رؤيتِه يَستَحيلُ ارتفاعُه ؟! أوَ لَيسَ هذا يَقتَضي التباسَ حالِ ما تَعذَّرَ لِمانعٍ (3) بحالِ ما تَعذَّر لاستحالةٍ؟
علىٰ أنّ هذا بعَينِه يوجِبُ الشكَّ في أنّه يَرَى المعدوماتِ ؛ لأنّه لقائلٍ أن يَقولَ :
إنّا إنّما لا نَراها لافتقارِنا إلَى الحَواسِّ ، و مِن شَرطِ ما نَراهُ أن يَكونَ موجوداً؛ لِيَصِحَّ مُقابَلَتُه، فالمُستَغني عن الحَواسِّ على هذا لا يَمتَنِعُ أن يُدرِكَ المعدوماتِ (4).
علىٰ أنّه غَيرُ مُسَلّمٍ أنّ المُقابَلةَ و ما في معناها شرطٌ في رؤيَتِنا المَرئيّاتِ ؛ لأنّ الشرطَ في إدراكِ ما يُدرَكُ بحاسّةٍ واحدةٍ ، يَجِبُ أن لا يَختَلِفَ و أن يَكونَ واحداً،(5)
ص: 450
فلَو جَعَلنا الشرطَ المُقابَلةَ و ما في معناها أو الاتّصالَ بالمَرئيِّ ، لَخرجَ العَرَضُ مِن أن يَكونَ مَرئيّاً. و إن جَعَلنا الشرطَ مُقابَلةَ المَحَلِّ أو الاتّصالَ بالمَحَلِّ ،
خَرَجَ الجَوهرُ مِن أن يَكونَ مَرئيّاً. فيَجِبُ أن يَكونَ الشرطُ ما لا يَختَلِفُ ، و هو حُصولُ قاعدةِ الشُّعاعِ ، بحيثُ لا ساتِرَ بَينَه و بَينَ المَرئيِّ ، و لا مكانَ يَجوزُ أن يَكونَ فيه ساترٌ.
و إنّما أوجَبنا أن يَكونَ الشرطُ لا يَختَلِفُ ؛ لأنّ الشرطَ في إدراكِ ما يُدرَكُ بكُلِّ حاسّةٍ (134) مِن باقي الحَواسِّ غَيرُ مُختَلِفٍ ؛ ألا تَرى أنّ الشرطَ في إدراكِ ما يُدرَكُ بالسمعِ واحدٌ؛ مِن حَيثُ رَجَعَ إلى طريق(1) واحدةٍ ، و حاسّةٍ واحدةٍ؟ فكذلك يَجِبُ (2) في الرؤيةِ .
و بَعدُ، فإنّ ما هو مِن تمامِ الآلةِ و كمالِها، يَجري مَجرىٰ نفسِ الآلةِ ، فإذا كانَتِ الآلةُ في إدراكِ المَرئيّاتِ واحدةً ، فكذلك(3) ما هو مِن تَمامِها يَجِبُ أن يَكونَ واحداً غَيرَ مُختَلِفٍ .
فإنِ اعتَرَضَ مُعتَرِضٌ - علىٰ ما قَدَّمناه مِن أنّ المَرئيّاتِ (4) لا يَقَعُ فيها اختصاصٌ (5) - بفَناءِ الأجسامِ ، و أنّا نُجوِّزُ(6) كَونَه تَعالىٰ رائياً له و إن استَحالَت رؤيتُه مِنّا.
فالجوابُ عنه: إنّما أوجَبنا أن يُرىٰ ما هو مَرئيٌّ في نفسِه، متىٰ كُنّا علَى الصفةِ
ص: 451
التي معها تُرَى(1) المَرئيّاتُ ، و الفناءُ لا يَلزَمُ علىٰ هذا الكلامِ ؛ لأنّ وجودَه يُضادُّنا، و يَستَحيلُ أن يوجَدَ معه، فَضلاً عن أن يَختَصَّ بصفةِ الرائينَ . و لَو لَم يَكُن كذلكَ ، و جازَ أن يوجَدَ معه، لَرَأَيناه. و إذا لَم يَكُن بُعدُ رؤيَتِنا للفَناءِ مِن حَيثُ اختصاصِ بَعضِ الرائينَ ببعضِ المَرئيّاتِ ، بل مِنَ الوجهِ الّذي ذَكَرناه، فلا اعتراضَ علىٰ كلامِنا.
و يُمكِنُ أن يُستَدَلَّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَرىٰ نفسَه، و إن استَحالَت رؤيتُه مِنّا(2) بالإجماعِ ؛ لأنّ الأُمّةَ بَينَ مَن جَوَّزَ عليه الرؤيةَ و لَم يَخُصَّها في بابِ الصحّةِ برأيٍ دونَ غَيرِه(3)، و بَينَ مَن أحالَها عليه علىٰ كُلِّ وجهٍ . فالقَولُ بأنّه يَرىٰ نفسَه مع استحالةِ رؤيَتِنا له، يَمنَعُ مِنه الإجماعُ ، و لَيسَ بقَولٍ (4) لأحَدٍ مِن المُسلِمينَ .
و نَفيُ الرؤيةِ علىٰ وَجهٍ يوجبُ التشبيهَ ، ممّا يَصِحُّ الاستدلالُ بالسّمعِ عليه؛ لأنّ الشكَّ في جَوازِ الرؤيةِ علىٰ هذا الوَجهِ ، يُسَلِّمُ معه المُسلِمُ بأنّه تَعالىٰ عالِمٌ بقُبحِ القَبيحِ ، و بأنّه غَنيٌّ (5) عنه، و كُلُّ ما سُلِّم - مع الشكِّ - فيه العِلمُ بما ذَكَرناه، صَحَّ أن يَثبُتَ بالسمعِ . و على هذا يَجوزُ أن يَكونَ السمعُ دليلاً علىٰ نفيِ شأنٍ له تَعالىٰ في القِدَمِ .
***
ص: 452
[3] فَصلٌ في أنّ الإدراكَ بسائرِ(1) الحَواسِّ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ
الأصلُ في نفيِ كَونِه تَعالىٰ مُدرَكاً بسائرِ الحَواسِّ ، ما ذَكَرناه في نَفيِ الرؤيةِ عَنه تعالى(2)؛ لأنّه لَو كانَ مُدرَكاً لنا(3) في الحَواسِّ ، لَوجبَ أن نُدرِكَه مع صحّةِ حَواسِّنا، و كَونِنا علَى الصفةِ التي نُدرِكُ معها المُدرَكاتِ و ارتفاعِ المَوانِعِ ؛ لأنّ ما هو مُدرَكٌ في نفسِه لا يَقِفُ إدراكُه علىٰ أكثَرَ ممّا ذَكَرناه. و قد بَيَّنّا أنّ ادّعاءَ (4) مانعٍ غَيرِ معقولٍ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ (5)، و إثباتَ مانعٍ لا يَجوزُ ارتفاعُه يؤَدّي أيضاً إلىٰ ذلك، و يوجِبُ الشكَّ في أنّ الموجوداتِ كُلَّها تُدرَكُ (6) بكُلِّ الحواسِّ ، بل المعدوماتِ .
و لا يَجوزُ أن يَكونَ هو تَعالىٰ يُدرِكُ نفسَه علىٰ حَدِّ إدراكِ الصَّوتِ و غَيرِه مِنَ المُدرَكاتِ بسائرِ(7) الحَواسِّ و إن لم يَجُزْ مِنّا إدراكُه؛ لِما بيّنّاه أيضاً مِن قَبلُ في بابِ الرؤيةِ ؛ مِن أنّ الإدراكَ لا يَقَعُ فيه اختصاصٌ (8)، و أنّه لَو كانَ مُدرَكاً في نفسِه، لَصَحَّ أن يُدرِكَه غَيرُه مِنَ المُدرِكينَ ، كما وجبَ مِثلُ ذلكَ في المعلوماتِ و غَيرِها.
ص: 453
و اعلَمْ أنّ الحَواسَّ خَمسٌ :(1) فأربَعٌ منها لا بُدَّ مِن اختصاصِها بضَربٍ مِن البِنيةِ يَزيدُ علىٰ بِنيةِ الحَياةِ ، و الحاسّةُ الأُخرى تَكفي فيها بِنيةُ الحَياةِ . فالأربَعُ : حاسّةُ السمعِ ، و الذَّوقِ ، و الشَّمِّ ، و الرؤيةِ . و الخامسةُ : كُلُّ مَحَلٍّ فيه(2) بِنيةُ حياةٍ .
ثُمّ هي(3) علىٰ ضَربَينِ :
فضَربٌ : يَختَصُّ بإدراكِ النوعِ الواحدِ دونَ ما خالَفَه، و هو حاسّةُ السمعِ و الشَّمِّ و الذَّوقِ ؛ لأنّ السمعَ يَختَصُّ الأصواتَ ، و الشَّمَّ يَختَصُّ الأراييحَ ، و الذَّوقَ يَختَصُّ الطُّعومَ .
و الضربُ الآخَرُ: يُدرَكُ به الأنواعُ المُختَلِفةُ ، كحاسّةِ الرؤيةِ ؛ لأنّه يُدرَكُ بها الجَواهرُ، و الحَرارةُ و البُرودةُ ، (135) و اللذّاتُ و الآلامُ ؛ و إنِ اختَلَفَت كيفيّةُ إدراكِ ذلكَ .
فأمّا كيفيّةُ الإدراكِ بهذه الحَواسِّ و شُروطُها: فهي في الأصلِ علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: يُدرَكُ معه المُدرَكُ مِن غَيرِ إدراكِ مَحَلِّه.
و الضربُ الآخَرُ: يُدرَكُ المُدرَكُ مع مَحَلِّه.(4)
فمثالُ الأوّلِ : إدراكُ الأصواتِ و إدراكُ الآلامِ و اللذّاتِ ؛ لأنّ الصَّوتَ عندَنا يُدرَكُ في مَحَلِّه مِن غَيرِ أن يُدرَكَ المَحَلُّ نفسُه.
ص: 454
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا نُفَرِّقُ بَينَ جهةِ الصَّوتِ التي حَدَثَ فيها مع السلامةِ ،
و لا نُفَرِّقُ بين جهةِ [المُدرَكاتِ ] كلِّها [إلّا بأن] تُدرَكَ بمباشَرةِ مَحَلِّها(1)، و انتقالِه إلىٰ حَواسِّنا - كالطُّعومِ و غَيرِها - حَتّىٰ نَعلَمَ الجهةَ التي حَدَثَ فيها، و انتَقَلَ مَحَلُّه إلينا مِنها.
و لأنّه لَو احتيجَ في إدراكِ الصَّوتِ إلَى انتقالِ مَحَلِّه، لَم يَمتَنِعْ أن يَسمَعَ الصَّوتَ بعضُ الحاضرينَ دونَ بَعضٍ ، مع اختصاصِهم بالقُربِ ، أو أن يَسمَعَه أحَدُهم علىٰ خِلافِ ما يَسمَعُهُ الآخَرُ. و كانَ يَجِبُ أن يَكونَ إدراكُهم له مُتأخِّراً عن حالِ وجودِه.
و كلُّ ذلكَ ظاهرُ الفَسادِ.
و الشرطُ في إدراكِ الصَّوتِ صحّةُ الأُذُنِ ، و ارتفاعُ السَّدِّ عنها أو ما جَرىٰ مَجراه.
فأمّا الألَمُ و اللذّةُ فيُدرَكانِ لِمَحَلِّ (2) الحَياةِ فيه، و لا يَتعلَّقُ الإدراكُ لهما بإدراكِ مَحَلِّهما، و إن كانَ في الأغلبِ قد يُعلَمُ مَحَلُّهما عند إدراكِهما(3) و يُفرَّقُ بَينَه و بَينَ غَيرِه.
و أمّا ما يُدرَكُ مع إدراكِ مَحَلِّه، فهو علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: يُدرَكُ و يُدرَكُ مَحَلُّه بحاسّةٍ واحدةٍ ؛ كالألوانِ و الحَرارةِ و البُرودةِ .
و الضربُ الثاني: يُدرَكُ الحالُّ مِن جهةٍ و المَحَلُّ مِن جهةٍ أُخرىٰ ؛ و ذلكَ نَحوُ(4) الأراييحِ و الطُّعومِ ؛ لأنّهما يُدرَكانِ بحاسّةِ الشَّمِّ و الذَّوقِ ، و يُدرَكُ مَحَلُّهما بحاسّةِ اللَّمسِ .
ص: 455
و الشرطُ في إدراكِ الألوانِ و الحَرارةِ و الأراييحِ و الطُّعومِ : أن يَكونَ مَحَلُّ الحَياةِ بحَيثُ لا ساتِرَ بَينَه و بَينَ المُدرَكِ ، و لا مكانَ يَجوزُ أن يَكونَ فيه ساتِرٌ.
فلَو كانَ القَديمُ تَعالىٰ مُدرَكاً علىٰ بعضِ هذه الوجوهِ ، لَوجبَ أن نُدرِكَه؛ لِما ذَكَرناه مِن تَكامُلِ الشرطِ، و كَونِه علَى الصفةِ التي نُدرِكُ عليها. و هذا واضحٌ لا إشكالَ فيه.
***
اعلَمْ أنّا لَو اطَّرَحنا ذِكرَ شُبَهِهم لضَعفِها و بُعدِها، لَاقتَضانا ذلكَ أن لا نَذكُرَ شيئاً منها، لكِنّا ذَكَرنا ما هو الأمثَلُ و الأشبَهُ بالإضافةِ (1) إلىٰ غَيرِه:
[1.] فممّا(2) تَعلَّقوا به أن قالوا: لمّا كان القولُ بصحّةِ رؤيتِه لا يوجبُ تَشبيهَه بغَيرِه، و لا تَجويرَه في حُكمِه، و لا تَكذيبَه في خَبَرِه، و لا قَلبَ حقيقتِه، وجبَ أن تَكونَ الرؤيةُ جائزةً عليه، و كانَ القَطعُ علىٰ ثُبوتِها موقوفاً علَى السمعِ .
[2.] و تَعلَّقوا أيضاً: بأنّه إذا ثَبَتَ كَونُه رائياً لغَيرِه، فيَجِبُ أن يَكونَ رائياً لنفسِه؛
لأنّ أحَدَنا مَتىٰ خَرَجَ مِن صحّةِ كَونِه رائياً لغَيرِه، خَرَجَ مِن كَونِه رائياً لنفسِه. و إذا صَحَّ أحَدُ الأمرَينِ صَحَّ الآخَرُ، فوجبَ أن يَثبُتا(3) معاً لكُلِّ مَن ثَبَتَ له أحَدُهما.
ص: 456
و أكَّدوا ذلك: بأنّه لمّا كانَ عالِماً بنفسِه، لَم يَجُز أن يَعلَمَ غَيرَه إلّاو يَعلَمَ نفسَه. و كذلكَ إذا كان رائياً لنفسِه و رأىٰ غَيرَه، وجبَ أن يَرىٰ نفسَه.
[3.] و تَعلَّقوا أيضاً: بأنّ الجسمَ و الجَوهرَ إنّما أُدرِكا مِن حَيثُ كانا قائِمَينِ بأنفُسِهما، و القَديمُ قائمٌ بنفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ مَرئِيّاً.
[4.] و تَعلَّقوا: بأنّ الجَوهرَ يَمتَنِعُ رؤيتُه مع العدمِ ، و يَصِحُّ مع الوجودِ، فيَجِبُ أن يَكونَ المُصَحِّحُ للرؤيةِ هو الوجودَ، و هو تَعالىٰ موجودٌ، فيَجِبُ (136) أن يَكونَ مَرئيّاً.
[5.] و تَعلَّقوا مِن طريقِ السمعِ : بقَولِه: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ * إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ »(1) قالوا: و النّظَرُ إذا عُدِّيَ ب «إلىٰ » اختَصَّ بالرؤيةِ ، و زالَ عنه الاحتمالُ .
و رُبَّما زادوا في ذلكَ بأن يكونَ مُتَعلِّقاً بالوَجهِ (2).
[6.] و تَعلَّقوا أيضاً: بقَولِه تَعالىٰ حِكايةً عن موسىٰ : «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »(3).
قالوا: و لَيسَ يَجوزُ أن يَسأَلَ مِثلُ موسىٰ رَبَّه ما يَستَحيلُ عليه. و أيضاً فلَو لَم تَكُن رؤيتُه(4) جائزةً لَما عَلَّقَها بأمرٍ جائزٍ مقدورٍ، و هو استقرارُ الجَبَلِ ، و لوجبَ أن يُعلِّقَها - لَو كانَت مُستَحيلةً - بما يَستَحيلُ .
[7.] و تَعلَّقوا: بما رَواه إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قَيسِ بنِ أبي حازمٍ ، عن جَريرٍ(5)، عن رَسولِ اللّٰهِ صلّى اللّٰه عليه و آله قالَ : «تَرَونَ رَبَّكُم كَما تَرَونَ القَمَرَ لَيلَةَ
ص: 457
البَدرِ؛ لا تضامون(1) في رؤيَتِه»(2).
أنّ القَدرَ الذي اعتَمَدوه، لَيسَ بأن يَدُلَّ علىٰ إثباتِ الرؤيةِ بأَولىٰ مِن أن يَدُلَّ علىٰ نفيِها؛ لأنّا نَعلَمُ أنّ نفيَ الرؤيةِ عنه، [و] القولَ باستِحالتِها عليه، لا يوجِبُ شيئاً ممّا عَدَّدوه؛ مِنَ التشبيهِ و التجويرِ(3) و التكذيبِ .
و بَعدُ، فإنّ ذلكَ أيضاً يوجِبُ عليهم القولَ بأنّه عالِمٌ لِذاتِه؛ لأنّ القولَ به لا يؤَدّي إلىٰ شيءٍ ممّا ذَكَروه. و يوجِبُ أيضاً إثباتَ كُلِّ ما عَلِمنا نفيَه، ممّا لَيسَ في إثباتِه تشبيهٌ و لا تجويرٌ(4) و لا تكذيبٌ ، و هو كثيرٌ.
علىٰ أنّا لا نُسَلِّمُ ما(5) اقتَرَحوه، بل نَقولُ : إنّ في إثباتِ الرؤيةِ ما يَقتَضي التشبيهَ ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ المَرئيَّ بالأبصارِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُقابِلاً أو في حُكمِ المُقابِلِ ، و ذلك يَقتَضي كَونَه جِسماً أو عَرَضاً، و هذا هو التشبيهُ . و يَقتَضي أيضاً تَكذيبَه في خَبَرِه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ قولَه تَعالىٰ : «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ»(6) [دالٌّ ] علىٰ نفيِ الرؤيةِ عنه.
فأمّا قَلبُ الحقيقةِ : فإنّ الرؤيةَ و إن كانَت لا تَقتَضيه، فنفيُها و الحُكمُ باستحالتِها لا يَقتَضيه [أيضاً]، فيَجِبُ نَفيُ الرؤيةِ لهذه العِلّةِ ، علىٰ ما ذَكَرناه. علىٰ أنّ الرؤيةَ و إن لَم تَقلِبْ حقيقةَ المَرئيِّ ، فإنّها تَدُلُّ علىٰ أنّها بصفةٍ مخصوصةٍ ، و لا بُدَّ
ص: 458
من نفيِها عمّن تَستَحيلُ تلك الصفةُ عليه. كما أنّ كَونَ القادرِ قادراً علَى الشيءِ لا يَقلِبُ (1) حقيقتَه، لكِن يَدُلُّ علىٰ أنّه معدومٌ يَصِحُّ حُدوثُه. فما استَحالَ عليه العدمُ و الحُدوثُ لا بُدَّ مِن نَفيِ كَونِ القادرِ قادراً عليه، و إن لم يَكُن ذلكَ قالِباً لحقيقتِه(2).
أنّ أحَدَنا إنّما يَرىٰ نفسَه إذا كانَ رائياً لغَيرِه؛ مِن حَيثُ كانَت نفسُه في أنّها يَصِحُّ أن تَكونَ مَرئيةً لغَيرِه؛ فإنّما يَجِبُ في كُلِّ مَن رأىٰ غَيرَه أن يَرىٰ نفسَه متىٰ كانت نفسُه يَصِحُّ أن تَكونَ مَرئيّةً . و لهذا لمّا لَم تُشارِكْ (3) نفسُه غَيرَه في صحّةِ أن تَكونَ مسموعةً ، جازَ أن يَسمَعَ أحَدُنا غَيرَه، و إن لَم يَصِحَّ أن يَسمَعَ نفسَه.
علىٰ أنّه لا فَرقَ بَينَ مَن جَعَلَ كَونَه رائياً لغَيرِه عِلّةً في كَونِه رائياً نفسَه،(4) و بَينَ مَن عَكَسَ ذلك فجَعَلَ كَونَ أحَدِنا رائياً لنفسِه هو العِلّةَ في كَونِه رائياً لغَيرِه، و هذا يَقضي بكَونِ (5) كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأمرَينِ عِلّةً لِصاحبِه(6).
علىٰ أن كَونَ (7) الرائي مِنّا رائياً، لا يَجوزُ أن يَقتَضيَ كَونَه مَرئيّاً؛ لأنّ كَونَه رائياً يَرجِعُ إلىٰ جُملتِه، و كَونَه مَرئيّاً يَرجِعُ إلىٰ كُلِّ جُزءٍ منه. و الصفةُ لا تَقتَضي أُخرىٰ
ص: 459
إلّا و الموصوفُ بهما واحدٌ؛ علىٰ ما دَلَّلنا عليه مِن قَبلُ .(1)
علىٰ أنّ أحَدَنا لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُحَرِّكاً لِغَيرِه، و لا يَصِحُّ أن يُحَرِّكَ نفسَه، و لَم يَلزَمْ أن يَكونَ تَعالىٰ مِن حَيثُ صَحَّ أن يُحرِّكَ غَيرَه يَصِحُّ أن يُحَرِّكَ نفسَه، و كذلك القولُ في الرؤيةِ .
و الذي ذَكَرناه يُسقِطُ حَملَه(2) الرؤيةَ علَى العِلمِ ؛ لأنّه إنّما عَلِمَ نفسَه كما عَلِمَ غَيرَه؛ لأنّه عالِمٌ لنفسِه، و ذاتُه (137) يَصِحُّ (3) أن تَكونَ معلومةً ، و لَيسَ [يَجري] ذلكَ في الرؤيةِ .
و يَلزَمُ علىٰ هذا الاعتلالِ أن يَكونَ سامِعاً ذاتَه كما كانَ سامِعاً غَيرَه.
أنّا لا نُسَلِّمُ أنّ الجَوهَرَ إنّما أُدرِكَ مِن حَيثُ كانَ قائماً بنفسِه؛ لأنّ المُستَفادَ بذلكَ استِغناؤُه عن المَحَلِّ و المكانِ . و قد يُدرِكُه ما لا يَعلَمُه كذلكَ مِن طريقِ الإدراكِ ، بل يَحتاجُ فيه إلَى الاستدلالِ . و إنّما أُدرِكَ الجَوهرُ مِن حَيثُ كانَ مُتحيِّزاً، و لهذا يَعلَمُه علىٰ هذه الصفةِ كُلُّ مَن أَدرَكَه.
علىٰ أنّ كَونَه مُستَغنياً عن المَحَلِّ و المكانِ نفيٌ ، و لا يَصِحُّ أن يَكونَ عِلّةً - في صحّةِ رؤيةِ الشيءِ - مِثلُ ذلكَ ، بل لا بُدَّ مِنِ استنادِ كَونِه مُدرَكاً إلىٰ صفةٍ يَختَصُّ بها.
و يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ المعدومُ مَرئيّاً؛ لاستغنائه عن المَحَلِّ .
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ العِلّةَ في رؤيتِه كَونُه موجوداً، و أن لا يَفتَقِرَ إلَى المَحَلِّ و المكانِ .
ص: 460
لأنّ : ذلكَ هو ضَمُّ ما لَيسَ بعِلّةٍ إلَى العِلّةِ ؛ مِن حَيثُ عُلِمَ أنّ الوجودَ لا تأثيرَ له في رؤيةِ المَرئيّاتِ ، فلا يَجوزُ أن(1) يُضَمَّ في الاعتلالِ إلىٰ غَيرِه.
أنّ العدمَ إنّما أخرَجَ الجَوهرَ مِن كَونِه مَرئِيّاً؛ لخُروجِه عن الصفةِ التي يَتَناوَلُه الإدراكُ عليها(2)، و إنّما أُدرِكَ مع الوجودِ بثُبوتِ هذه الصفةِ (3) له عندَ الوجودِ. و لَو كانَ الوجودُ هو العِلّةَ في رؤيتِه لَرَأَينا جميعَ الموجوداتِ .
علىٰ أنّا نَعلَمُ أنّ العدمَ يُحيلُ علَى الجَوهرِ الحركةَ ، و تَصِحُّ (4) عليه عندَ الوجودِ، و لا يَجِبُ أن يَكونَ المُصَحِّحُ لِكَونِه مُتحرِّكاً هو الوجودَ. و كذلكَ القولُ في الرؤيةِ .
أنّ الآيةَ التي تَعلَّقوا بها إنّما تَتضمَّنُ (5) ذِكرَ النظرِ دونَ الرؤيةِ ، و لَيسَ النظَرُ مُحتَمِلاً للرؤيةِ ، و لا هي ممّا يُستفادُ بهذه اللَّفظةِ في اللّغةِ .
و الذي يَدلُّ علىٰ ذلكَ : جَعلُهم الرؤيةَ غايةً للنظَرِ؛ فيَقولونَ : «ما زِلتُ أنظُرُ إليه حَتّىٰ رَأَيتُه»، و يَقولُ أحَدُهم لغَيرِه و قد شاهَدَ شيئاً ادّعىٰ صاحِبُه أنّه لَم يُشارِكْه في رؤيتِه: [انظُر إليه حتّىٰ تَراه].(6)
ص: 461
و الشيءُ لا يَكونُ غايةً لنفسِه، فلَولا أنّ النظَرَ غيرُ الرؤيةِ لَما ساغَ هذا الكلامُ .
و دَعوىٰ مَنِ ادَّعىٰ منهم أنّ ذلكَ و إنِ استُعمِلَ فعلىٰ سَبيلِ المَجازِ، لا يُلتَفَتُ إليها؛ لأنّه تَحكُّمٌ و اقتراحٌ بغَيرِ حُجّةٍ ، و الظاهرُ مِن الاستعمالِ الحقيقةُ ، و إنّما يُنتَقَلُ
إلَى المَجازِ بالأدلّةِ .
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : قولُهم: «نَظَرتُ إلَى الهِلالِ فَلم أرَه»، و «نَظَرتُ كَذا فما رَأَيتُه»، كما يَقولونَ : «أصغَيتُ إليه فلَم أسمَعْه» و «ذُقتُه فلَم أجِدْ له طَعماً». فلَو كانَ النظَرُ هو الرؤيةَ ، لَكانَ هذا الكلامُ يَتضمَّنُ النفيَ و الإثباتَ للشيءِ الواحدِ.
و يُقوِّي أيضاً ما ذَكَرناه: أنّا نَعلَمُ بالمُشاهَدةِ كَونَ الناظرِ ناظِراً إذا كانَ مُحَدِّقاً نَحوَ الشيءِ ، و لا نَعلَمُه رائياً له إذا كانَ المَرئيُّ خَفيّاً مُلتَبِساً، و لهذا يُحتاجُ في أنّه راءٍ (1) له إلَى الرُّجوعِ إلىٰ قولِه، و لا يُحتاجُ إلىٰ ذلكَ في كَونِه ناظراً، و لهذا يَقولونَ : «رَأَيتُه يَنظُرُ إلىٰ كَذا» و لا يَقولونَ : «رَأَيتُه يَرىٰ كَذا».
و يَدُلُّ أيضاً عليه: أنّ أهلَ اللُّغةِ جَعَلوا للنظَرِ أصنافاً مِن حَيثُ عَرَّفوه، و جَرىٰ في الحُكمِ مَجرىٰ ما يُشاهِدونَه، فقالوا: «نَظَرُ غَضبانَ » و «نَظَرُ راضٍ » و «نَظَرُ شَزَرٍ(2)» و «نَظَرُ مُتعةٍ » و «نَظَرُ بِغضةٍ » و لَم نَجِدْهم صَنَّفوا للرؤيةِ أصنافاً، و لا جَعَلوها ضُروباً، فيَجِبُ أن يَكونَ المُختَلِفُ الضُّروبِ عندَهم غَيرَ ما هو شيءٌ واحدٌ. و لهذا لا يُسمَعُ مِن أحَدٍ مِنهم: «رؤيةُ مُحِبٍّ » و «رؤيةُ راضٍ »، و لا أن يُبَدِّلوا لَفظةَ «النظَرِ» في المواضِعِ التي ذَكَرناها (138) بلَفظِ الرؤيةِ . فدَلَّ علىٰ أنّ الفائدةَ فيهما مختلفةٌ .
و «النظَرُ» عندَنا هو تَقليبُ الحَدَقةِ الصحيحةِ نَحوَ المَرئيِّ أو مكانِه طالباً لرؤيتِه،
ص: 462
و هذه الفائدةُ لا تَصِحُّ فيه تَعالىٰ ، فيَنبَغي أن تُنفىٰ (1) عن الآيةِ فائدةُ النظَرِ المُختَصّةِ بالغَيرِ، و يُحمَلَ ذلكَ علىٰ ما يَصِحُّ ؛ مِنَ «الانتظارِ» أو غَيرِه.
علىٰ أنّا لَو سَلَّمنا لهم أنّ النظَرَ يُفيدُ الرؤيةَ ، و أنّها إحدىٰ فوائدِه، لم يَسلَمِ استدلالُهم أيضاً بالآيةِ ؛ لأنّ لفظةَ (2) «النظَرِ» لها فوائِدُ كثيرةٌ ؛ مِن:
«الذِّكرِ» و «الاعتبارِ»، و «التعَطُّفِ »، و «الانتظارِ»؛ فما المُنكَرُ مِن أن يُريدَ بها في الآيةِ «الانتظارَ».
و لا شُبهةَ في أنّ «الانتظارَ» ممّا يُفادُ بهذه اللفظةِ ؛ قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنٰاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ »(3) . و يَقولُ القائلُ : «إنّما أنظُرُ إلَى اللّٰهِ و إليكَ » و لا يريدُ إلّا «الانتظارَ». و قالَ الشاعِرُ(4):
إنّي إليكِ لِما وَعَدتِ لَناظِرٌ *** نَظَرَ الفقيرِ إلَى الغَنيِّ المُوسِرِ(5)
و قالَ آخَرُ:
كُلُّ الخَلائقِ يَنظُرونَ سِجالَهُ *** نَظَرَ الحَجيجِ إلىٰ طُلوعِ هِلالِ (6)
و احتمالُ لفظةِ «النظَرِ» للانتظارِ، أوضَحُ مِن أن يُستَشهَدَ عليه و أظهَرُ.
ص: 463
و كُلُّ ما استُشهِدَ بأنّه ممّا عُدّيَ النظَرُ فيه ب «إلىٰ » [لَم] يُرَدْ(1) به الرؤيةُ ، و يَسقُطُ تَعلُّقُهم(2) بالتعديةِ .
فأمّا ضَمُّهم إلىٰ ذلكَ (3) ذِكرَ الوجوهِ : فأوّلُ ما نَقولُ لهم فيه: مِن أينَ لكم أنّ «النظَرَ» إذا قُرِنَ بالوجهِ ، و عُدّيَ ب «إلىٰ »، لَم يَحتَمِل إلّاالرؤيةَ؟ و ما الشاهِدُ علىٰ ذلك ؟ فلَيسَ هذا ممّا يُقبَلُ فيه مَحضُ الاقتراحِ . و مَتىٰ طَلَبوا علىٰ ذلكَ شاهداً معروفاً عَجَزوا عنه.
فأمّا استشهادُ بعضِهم علىٰ هذه الدَّعوىٰ بأنّهم يَقولونَ : «انظُرْ إليَّ بوَجهِكَ »، فخَلْفٌ مِن الكلامِ غَيرُ مُستَعمَلٍ و لا معروفٍ ، و إنّما المعروفُ : «أقبِلْ عَليَّ بوَجهِكَ » و «انظُرْ إليَّ بعَينِكَ » مِن حَيثُ كانَتِ العَينُ آلةً في الرؤيةِ .
علىٰ أنّ هذا لَو كانَ معروفاً، لَم يَكُن نَظيراً للآيةِ ؛ لأنّ «النظَرَ» في قولِهم: «انظُرْ إليَّ بوَجهِكَ » لَو صَحَّ ، مُعَلَّقٌ بالوَجهِ علىٰ حَدٍّ يَقتَضي كَونَه آلةً فيه، و الوَجهُ لَيسَ يَكونُ كالآلةِ إلّافي النظَرِ الذي هو الرؤيةُ . و الآيةُ أُضيفَ النظَرُ فيها إلَى الوجوهِ إضافةً لا يَقتَضي(4) كَونَها آلةً ، فجازَ أن يُحمَلَ على الانتظارِ؛ لأنّه لا مانعَ مِن ذلكَ كما مُنِعَ فيما أورَدوه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يقولَ : كيف يَصِحُّ أن تَكونَ (5) الوجوهُ مُنتَظِرةً؟
ص: 464
لأنّها كما لا تَكونُ مُنتَظِرةً ، كذلكَ لا يَصِحُّ أن تَكونَ رائيةً علَى الحقيقةِ ، فما لقائلِ ذلك إلّامِثلُ ما عليه. و هذا هو الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المُرادَ بالوجوهِ غَيرُ الجَوارِحِ . و قد استَقصَينا هذا الكلامَ في مسألةٍ كُنّا أملَيناها قَديماً، نَقَضنا بها كلامَ بعضِ مَن نَظَرَ طريقةَ الأشعَريِّ في هذه الآيةِ .(1)
علىٰ أنّ في أصحابِنا مَن أنشَدَ أبياتاً(2) تَتضمَّنُ تَعليقَ النظَرِ بالوجوهِ مع التعديةِ ب «إلىٰ »، و المرادُ بها الانتظارُ؛ فمِن ذلكَ قولُ الشاعرِ:
و يوماً بذِي قارٍ رأيتُ وجوهَهم *** إلَى المَوتِ مِن وَقْعِ السُّيوفِ نَواظِرا(3)
و قَولُ الآخَرِ:
وجوهٌ يَومَ بدرٍ ناظِراتٌ *** إلى الرَّحمٰنِ يأتي بالفَلاحِ (4)
فإن قيلَ : كما أنّ تعليقَ الإدراكِ بالبَصَرِ يَقتَضي أن يَكونَ [مُفيداً] الرؤيةَ دونَ سائرِ ما تَحتَمِلُه هذه اللفظةُ ، فكذلك(5) النظَرُ إذا عُلِّقَ بالوَجهِ ، يَجِبُ أن يَكونَ مُفيداً للرؤيةِ .
ص: 465
قُلنا: الفَرقُ بَينَ الأمرَين أنّ الإدراكَ إنّما وجبَ فيه، متىٰ عُلِّقَ بالبَصَرِ، أن يَكونَ محمولاً علَى الرؤيةِ ؛ مِن حَيثُ عُلِّقَ بما يَختَصُّ بكَونِه آلةً في الرؤيةِ دونَ غَيرِها، و لَيسَ كذلكَ الآيةُ ؛ لأنّ النظَرَ لَم يُعَلَّقْ فيها بما يَختَصُّ بكَونِه آلةً في الرؤيةِ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُنِ الوَجهُ آلةً في الرؤيةِ ، و لَيسَ مِن حَيثُ كانَت(1) العَينُ - و هي آلةُ الرؤيةِ - في الوجهِ تَلحَقُه هذه التسميةُ ، (139) كما لَم يَجِبْ أن يَكونَ آلةً في الشَّمِّ لِكَونِ آلةِ الشَّمِّ فيه.
و لأنّ «الوجوهَ » المذكورةَ فيها لَم يُرَدْ بها الجَوارِحُ ، و إنّما كُنّيَ بها عن الجُمَلِ (2).
و لأنّا لمّا ادَّعَينا ذلكَ في الإدراكِ استَشهَدنا عليه بالمُتَعارَفِ في الخِطابِ ، و لَيسَ في شيءٍ مِن الخِطابِ تعليقُ النظَرِ علَى الوجوهِ .
ثُمّ يُقالُ لهم: أَ يَجِبُ حَملُ النظَرِ المقرونِ بذِكرِ الوجوهِ علَى الرؤيةِ ، مَتىٰ أُريدَ بالوجوهِ الجَوارحُ ، أو إذا أُريدَ بذلكَ ذَوو الوجوهِ (3)؟
فإن قالوا: علَى الوَجهَينِ يَجِبُ أن يُحمَلَ علَى الرؤيةِ كما يروا(4)، و بَطَلَ استشهادُهُم بقَولِ القائلِ : «انظُرْ إليَّ بوَجهِكَ »، و بما نَقولُه في الإدراكِ إذا عُلِّقَ بالبَصَرِ؛ لأنّ كُلَّ ذلك إنّما هو في الوجوهِ التي هي الجَوارِحُ .
فإن قالوا: يَجِبُ حَملُ ذلكَ علَى الرؤيةِ متىٰ أُريدَ بالوجوهِ الجَوارِحُ .
قُلنا لهم: فدُلّوا علىٰ أنّ المُرادَ بالوجوهِ في الآيةِ الجَوارِحُ ؛ فإنّا لا نُسَلِّمُ ذلكَ
ص: 466
لهم، و نَقولُ : إنّ المرادَ بها ذَوو الوجوهِ ، و بهذا جَرَت عادةُ العَرَبِ ؛ لأنّهم يَقولونَ : هذا «وَجهُ الرأيِ »(1) و «وَجهُ الأمرِ». و قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ (26(1)
إِلاّٰ وَجْهَهُ »(2) ، «وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ »(3) ، و قالَ تَعالىٰ :
«وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ »(4) ، و قَولُه تَعالىٰ : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ * لِسَعْيِهٰا رٰاضِيَةٌ »(5) . و لا شُبهةَ في أنّ المُرادَ بكُلِّ ذلك الذَّواتُ دونَ غيرِها.
و قد قيل: إنّه إنّما جازَ أن يُعبَّرَ عن الجُملةِ بالوَجهِ ؛ مِن حَيثُ كانَ التمييزُ يَقَعُ بَينَ الجُمَلِ بالوجوهِ ، و المعرفةُ بها تَتعلَّقُ (6)، فأُجرِيَت مَجراها.
فإن قيلَ : كيفَ يَكونُ المُرادُ بالوجوهِ في الآية الجُمَلَ ، و قد وَصَفَها بصفةٍ لا تَليقُ إلّا بالأعضاءِ ، و هي النَّضارةُ؟
قُلنا: مِن شأنِ العربِ أن تَبنيَ الكلامَ تارةً علىٰ ألفاظِه، و أُخرىٰ علىٰ مَعانيه؛ و البناءُ علَى الألفاظِ أحسَنُ . و إذا كانَ تَعالىٰ قد كَنّىٰ عن الجُمَلِ بلفظِ الوجوهِ ، أجرَى(7) الوصفَ علَى اللفظِ، و النَّضارةُ مِن صفةِ الوجوهِ . كما قالَ تَعالىٰ : «وَ سْئَلِ
ص: 467
اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّٰا فِيهٰا»(1) ، و إنّما أراد أهلَها و لَم يَقُلْ : فيهم(2). و كذلكَ قولُه تَعالىٰ : «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا» ، فأجرَى الوَصفَ علَى اللفظِ، ثُمّ قالَ : «أَوْ هُمْ قٰائِلُونَ »(3). ما بين المعقوفين أضفناه من المصحف الشريف لمقتضىٰ السياق.(4) فعادَ إلَى المعنىٰ .
علىٰ أنّ البَسارةَ (5) أيضاً مِن صفاتِ الوجوهِ التي هي الجَوارحُ ، و كذلكَ النَّعمةُ ، و لَم يَقتَضِ ذلكَ (6) حَملَ قولِه تَعالىٰ : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ »(7) ، و قولِه: «[وُجُوهٌ ](7)يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ »(8) علَى الجَوارحِ التي تَليقُ بها هذه الصفاتُ (9).
علىٰ أنّه لا بُدَّ مِن حَملِ ذِكرِ الوجوهِ في الآيةِ [علىٰ أنّ ] المُرادَ به الجُمَلُ دونَ الجَوارحِ علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ الجَوارحَ لا يَصِحُّ (10) أن تَكونَ ناظرةً بمعنىٰ رائيةٍ ، و لا بمعنىٰ مُنتَظِرَةٍ ، و لا يَصِحُّ إضافةُ شيءٍ مِن فوائدِ هذه اللفظةِ إليها علَى الحقيقةِ .
فإن قالوا: لَو كانَ النظَرُ يَحتَمِلُ الانتظارَ، لَصَحَّ أن يُقالَ : «أنا مُنتَظِرٌ إلىٰ فُلانٍ »، كما يُقالُ : «أنا ناظِرٌ إليه»؛ لأنّ معناهما إذا كانَ واحداً،(11) فيَنبَغي أن لا يَختَلِفَ تَصرُّفُهما.
ص: 468
قيلَ لهم: لَو مَنَعَ هذا مِن أن يَكونَ النظَرُ يَحتَمِلُ الانتظارَ، لَمَنَعَ مِن احتمالِه
للرؤيةِ ، لأنّ الرؤيةَ لا تُعدّىٰ ب «إلىٰ » كما يُعَدَّى النظَرُ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لا يَقولونَ :
«رَأَيتُ [إلى](1) فُلانٍ » كما يَقولونَ : «نَظَرتُ إليه»؟
علىٰ أنّ ما هو معروفٌ ضَرورةً مِن اللُّغةِ ، لا يَقدَحُ (2) فيه الاستنباطُ و الاستخراجُ ، و أنّ [كونَ ] النظَرِ يَحتَمِلُ الانتظارَ، و يُعَبَّرُ به عنه، أظهَرُ(3) مِن أن يَبطُلَ بمِثلِ هذا الكلامِ .
علىٰ أنّ اللفظتَينِ و إنِ اتَّفَقَتا في المعنىٰ و الفائدةِ ، فغَيرُ مُنكَرٍ أن يَختَلِفَ تَصرُّفُهما، و لهذا نَظائرُ كثيرةٌ في اللُّغةِ ، و منه قولُهم: «فُلانٌ يُحِبُّ فُلاناً» معناه أنّه يُريدُ مَنافِعَه؛ لأنّ المَحَبّةَ هي الإرادةُ ، و لا يَسوغُ (140) أن يُبْدَلَ (4) - علىٰ هذا الوجهِ - لفظُ المحبّةِ بلفظِ الإرادةِ ، حتّىٰ يَقولَ : «فُلانٌ يُريدُ فُلاناً»، فصارَ في إحدَى اللفظَتَينِ مِن التعارُفِ ما لَيسَ في الأُخرىٰ ، و إن كانَ معناهما واحِداً.
و قد رُويَ هذا الوَجهُ (5) في الآيةِ ، عن جماعةٍ مِن الصَّحابةِ و التابعينَ مِن غيرِ طريقٍ (6).
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: متىٰ حَمَلناها علَى الانتظارِ، احتَجنا أن نُقَدِّرَ محذوفاً؛
ص: 469
لأنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُنتَظَراً في نفسِه، و إنّما مُنتَظَرٌ ثَوابُه و عَطاؤه. و إذا حَمَلناها علَى الرؤيةِ ، لَم نَحتَجْ إلىٰ تقديرِ محذوفٍ ، فتأويلُكم يَقتَضي كَونَ الآيةِ مَجازاً، و تأويلُنا لا يَقتَضي ذلكَ .
و الجوابُ عنه: أنّ العُدولَ عن ظاهرِ الكلامِ واجبٌ إذا اقتَضَى الدليلُ ذلك، و لمّا كانَ تَعالىٰ في نفسِه لا يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً و لا مُنتَظَراً، وجبَ أن نُقَدِّرَ ما يَصِحُّ ذلكَ فيه، و ما عَدَلنا كُلُّنا(1) عن ظاهرِه مِن القُرآنِ أكثَرُ مِن أن يُحصىٰ .
علىٰ أنّا لا نُسَلِّمُ أنّ ذلكَ مَجازٌ؛ لأنّ تَعارُفَ الخِطابِ في هذه اللفظةِ و استعمالَها في الغالِبِ مع الحَذفِ يَجعَلُ المَفهومَ منها هو الحقيقةَ ؛ لأنّهم يَقولونَ : «انتَظَرتُ زَيداً»، و «أنا مُنتَظِرٌ فُلاناً» فيَستَعمِلونَ لفظَ الانتظارِ مع حَذفِ ما يَتعلَّقُ بِه علَى الحقيقةِ مِن الأفعالِ ؛ لأنّ الانتظارَ لا يَصِحُّ علىٰ ذاتِ زيدٍ، و إنّما يَصِحُّ علىٰ أفعالِه. و جَرىٰ مَجرىٰ لفظِ المِلكِ في قولِهم: «فُلانٌ يَملِكُ (2) دارَه و عَبدَه»، في أنّه و إن تَعلَّقَ بمحذوفٍ (3) فهو الحقيقةُ بالعُرفِ ، و هذا الاستعمالُ مَع الحَذفِ أظهَرُ و أشهَرُ مِن قولِهم: «يَملِكُ التصرُّفَ في دارِه و عَبدِه».
أنّها ناظرةٌ إلى ثَوابِ رَبِّها؛ لأنّ الثَّوابَ ممّا يَصِحُّ (1) عليه الرؤيةُ ، فحُذِفَ ذِكرُ الثوابِ كما حُذِفَ في قولِه تَعالىٰ : «وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ اَلْغَفّٰارِ»(2) و قولِه: «وَ جٰاءَ رَبُّكَ »(3) و ما أشبَهَ ذلكَ .
و ليسَ يَمتَنِعُ أن يُريدَ تَعالىٰ بالآيةِ الوَجهَينِ معاً، فيُريدَ أنَّها تَنتَظِرُ(4) ثَوابَه، و تَنظُرُ إليه و تُعايِنُه مُستَبشِرةً به.
فإن قالوا: فكيفَ يوصَفُ أهلُ الجَنّةِ بالانتظارِ، و المُنتَظِرُ(5) لا يَكونُ مُنَعَّماً(6)خالصاً، بل لا بُدَّ أن يَكونَ مغموماً مُنتَقَصاً؟
قُلنا لهم: إنّما يَلحَقُ الغَمُّ و التنقيصُ المُنتَظِرَ مَتىٰ كانَ ما يَنتَظِرُه يَحتاجُ إليه في الحالِ ، و تَلحَقُه بفَقدِه(7) مَضَرّةٌ ، و هو غَيرُ قاطعٍ علَى الوصولِ إليه؛ فأمّا مَن يَنتَظِرُ شَيئاً هو غَيرُ مُحتاجٍ إليه في الحالِ ، و هو واثِقٌ بوصولِه(8) إليه عند حاجتِه، فهو غَيرُ مغمومٍ و لا مُنتَقَصٍ ، بل ذلكَ زائدٌ في سُرورِه و نَعيمِه.
ص: 471
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ مَن قَطَعَ علىٰ حُصولِ الشيءِ ، لا يوصَفُ بأنّه مُنتَظِرٌ له؛ و ذلكَ أنّ الانتظارَ هو تَوقُّعُ ما يُعلَمُ أو يُظَنُّ حُصولُه في المُستَقبَلِ ، و لا فَرقَ فيه بَينَ العِلمِ و الظنِّ . و كيفَ يَكونُ كذلكَ و قد حَمَلَ جَماعةٌ مِن الصَّحابةِ الآيةَ علىٰ الانتظارِ؟ و لَيسَ هُم ممّن يَخفىٰ عليه حقيقةُ الانتظارِ، و قد قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّٰهُ »(1). التعبير في هذهِ السطور فيه نوع من الضعف، و قد جاءت عبارة شبيهة به في نهاية المجلس الثالث من أمالي الشريف المرتضىٰ ، و هي عبارة تامّة من حيث المعنىٰ ، و هي كما يلي: «و هاهنا وجه غريب في الآية حُكي عن بعض المتأخّرين، لا يفتفر معتمِدُه إلى العدول عن الظاهر، أو إلىٰ تقدير محذوف، و لا يحتاج إلىٰ منازعتهم في أنّ النظر يَحتمل الرؤية أو لا يَحتملها، بل يصحّ الاعتماد عليه، سواء كان النظر المذكور في الآية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين». و قد جاء في هامش الأمالي أنّ صاحب هذا الوجه الجديد هو الصاحب بن عبّاد.(2) ، و إنّما أرادَ به الانتظارَ الذي يُصاحِبُ العِلمَ لا مَحالةَ .
و قد يُمكِنُ في الآيةِ - علىٰ تَسليمِ أنّ النظَرَ فيها هو الرؤيةُ - وَجهٌ آخَرُ لا يُفتَقَرُ فيه إلىٰ تقديرِ محذوفٍ يَتعلَّقُ بالرؤيةِ ، إذا حَمَلناه علَى الرؤيةِ ، و إن حَمَلنا النظَرَ في الآيةِ علَى الانتظارِ لَم نَحتَجْ أيضاً إلىٰ تقديرِ محذوفٍ (2)، و هو أن نَحمِلَ قولَه: «إِلىٰ رَبِّهٰا»(3) علىٰ أنّ المُرادَ به نِعمةُ رَبِّها؛ لأنّ الآلاءَ النِّعَمُ ، و في واحِدِها لُغاتٌ أربَعُ ؛ يُقالُ : «أَلْيٌ » مثل «رَمْيٌ »، و «إِلىً » مثل «مِعىً »، و «إِلْيٌ » مثل «حِسْيٌ »، [«و أُلْيٌ » مثلُ
«طُبْيٌ »](4)؛ قال أعشىٰ بَكرِ بنِ وائلٍ :
ص: 472
أبيَضُ لا يَرهَبُ الهُزالَ ، و لا *** يَقطَعُ رِحْماً، و لا يَخونُ إِلَى(1)
(141) أرادَ: لا يَخونُ نِعمةَ مَن أنعَمَ عليه.
و إنّما أسقَطَ التنوينَ مِن «إِلىٰ رَبِّهٰا» للإضافةِ ، و هذا وَجهٌ قاطعٌ (2).
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَطعَنَ علىٰ هذا الوجهِ أنّه مُبتَدَعٌ لَم يَسبِقْ إليه أحَدٌ مِن المُفسِّرينَ و أهلِ التأويلِ (3).
و ذلك: أنّ ما طريقُه الاستنباطُ و الاستخراجُ ، يَجوزُ أن يَقَعَ للمتأخِّرِ فيه ما لا يَقَعُ للمتقدِّمِ . و إنْ كانَ الوجهُ جائزاً صحيحاً، لَم يَضُرَّه أن لا يُسبَقَ إليه.
علىٰ أنّه غَيرُ مُسَلَّمٍ أنّه لَم يُسْبَقْ إليه؛ لأنّ التأويلَينِ المَرويَّينِ عن الصَّحابةِ و التابعينَ جميعاً يَجوزُ أن يُطابِقا هذا التأويلَ ؛ لأنّ مَن حَمَلَ الآيةَ علىٰ أنّ المُرادَ بها انتظارُ الثوابِ ، و مَن حَمَلَ المُرادَ بها(4) علىٰ نَظَرِ الثوابِ ، لَم يُفصِحْ بأنّ لفظةَ «إلَى» في الآيةِ هي اسمٌ أو حَرفٌ ، و جائزٌ علىٰ تأويلِه أن تَكونَ (5) اسماً، و إذا كانَت اسماً فهو التأويلُ الذي ذَكَرناه أخيراً بعَينِه.
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: كيفَ يَصِحُّ الجمعُ بَينَ قولِكم: «إنّ النظَرَ لا يَحتَمِلُ الرؤيةَ
ص: 473
جُملةً »، و بَينَ ما رَوَيتُموه مِن تأويلِ مَن حَمَلَ الآيةَ على رؤيةِ الثوابِ ؛ أوَ لَيسَ هذا يوجِبُ أنّ النظرَ يَحتَمِلُ الرؤيةَ؟
و ذلكَ أنّ النظَرَ و إن لَم يَحتَمِلِ الرؤيةَ علىٰ سَبيلِ الحقيقةِ ، فقد يُعَبَّرُ به عنها علىٰ سَبيلِ التجَوُّزِ؛ مِن حَيثُ كانَ طريقاً إليها، و العَرَبُ قد تُعَبِّرُ بالشيءِ عمّا يُقارِبُه، و يَكونُ طريقاً إليه، فلَيسَ فيما قُلناه اختلافٌ و لا تَناقضٌ بحَمدِ اللّٰهِ .
أنّ موسىٰ عليه السلام لَم يَسأَل الرؤيةَ لنفسِه، و لا علىٰ وَجهِ الشكِّ في جَوازِها عليه تَعالىٰ ، و إنّما سألَها لقَومِه؛ لأنّهم شَكّوا فيها و لَم يَقنَعوا ببيانِه عليه السلام، و أحَبّوا أن يَكونَ الجوابُ مِن قِبَلِ اللّٰه تَعالىٰ ، فسألَ علىٰ هذا الوجهِ لِيَرِدَ الجَوابُ فيه، فتَزولَ (1) الشُّبهةُ .
و الدليلُ علىٰ ذلكَ : قولُه تَعالىٰ : «يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَقٰالُوا أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً »(2). الأعراف (7):155.(3).
و قولُه تَعالىٰ : «وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً »(4).
و يُقوّي ذلكَ : قولُ موسىٰ لمّا أخَذَتهُم الرَّجفةُ : «أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا»(4) فلَولا أنّ السُّفَهاءَ [سألوا] في ذلكَ ما لَيسَ له و لِمَن حَضَرَ معه ممّن اختارَ، لَم يَكُن لهذا القولِ معنىً .
ص: 474
و إضافتُه السؤالَ إلىٰ نفسِه، بقَولِه: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »(1) - و إن كانَ السؤالُ مِن أجلِ قَومِه - غَيرُ مُنكَرٍ، كما أنّ الشافعَ (2) مِنّا في غَيرِه يَقولُ للمشفوعِ إليه: «افعَلْ بي كَذا» و «أعطِني كَذا» و إن كان السؤالُ لغَيرِه، و يَقولُ المشفوعُ (3) إليه أيضاً في جَوابِه:
«قد أجَبتُكَ و أعطَيتُك»، و هذا معروفٌ .
فإن قيلَ : كيفَ يَسأَلُ لقومِه ما عَلِمَ استحالتَه عليه ؟ و لئن جازَ ذلكَ لِيَجُوزَنَّ أن يَسألَه أن يَكونَ جسماً، و ذا وَلَدٍ و صاحبةٍ ، متىٰ (4) شَكَّ قَومُه في ذلكَ و أرادوا أن يَكونَ الجَوابُ صادراً مِن جهتِه تَعالىٰ .
قُلنا: بَينَ الأمرَينِ فَرقٌ واضحٌ ؛ لأنّه إنّما يَصِحُّ أن يَسأَلَ لقَومِه ما إذا وَرَدَ الجَوابُ عنه، صَحَّ أن يَستَدِلُّوا به، و يَقَعَ لهم العِلمُ عندَه. و هذا يَصِحُّ في الرؤيةِ ؛ لأنّ مع الجَهلِ بأنّ الرؤيةَ لا تَجوزُ عليه، يَصِحُّ (5) معرفةُ السمعِ . و لَيسَ كذلكَ كَونُه جسماً و ما أشبَهَه؛ لأنّ مع الشكِّ في ذلكَ لا يَصِحُّ معرفةُ السمعِ ، فلا يُنتَفَعُ بالجَوابِ الواردِ مِنه، و لا يَصِحُّ الاستدلالُ به.
و قد أجَبتُ (6) عن هذا السؤالِ بأنّ ذلكَ لا يَمتَنِعُ ، إذا عُلِمَ أنّ في ورودِ الجَوابِ عنه مصلحةً في الدِّينِ ، و بَعثاً علَى الاستدلالِ و النظَرِ.
ص: 475
فإن قيلَ : فإذا كانَ إنّما سألَ الرؤيةَ لقَومِه لا لنفسِه، فلِمَ تابَ [عن] ذلكَ؟ علىٰ أنّه إذا كانَ شاكّاً في جَوازِ الرؤيةِ - علىٰ ما أجابَ به بعضُ أهلِ التَّوحيدِ -؛ فإنّ (1) الشكَّ في ذلكَ لا يَقتَضي الجَهلَ به تَعالىٰ ، و لا يَمتَنِعُ أن (142) يَكونَ صغيراً(2).
قُلنا: قد ذَهَبَ قَومٌ مِمّن أجازَ الصغائرَ علَى الأنبياءِ في تَوبةِ مُوسىٰ ، إلىٰ أنّها وقعَت مِن مسألتِه لِما لَم يُؤذَنْ له فيه؛ لأنّه إذا لَم يُجَبْ إلىٰ مسألتِه فلا بُدَّ مِن أن يُنَفِّرَ
عنه ذلكَ مَن عَلِمَ هذا مِن حالِه.
و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ موسىٰ شاكّاً في جوازِ الرؤيةِ عليه تَعالىٰ ؛ لأنّ مِثلَ الأنبياءِ لا يَجوزُ أن يَجهَلَ مِثلَ هذا، و لأنّ فيه غايةَ التنفيرِ.
و أمّا [مَن] لَم يُجَوِّزْ(3) عليهم الصغائرَ، فإنّه يَجعَلُ تلفّظَه(4) [بذكر] التَّوبةِ علىٰ وَجهِ (5) الخُشوعِ و العِبادةِ ، و الانقطاعِ إلَى اللّٰهِ تَعالىٰ ، و الرجوعِ إليه، و إن لَم يَتعلَّقْ ذلكَ بذَنبٍ عَرَفَه مِن نفسِه.
و قد ذَكَرَ قَومٌ في هذه الآيةِ وَجهاً آخرَ: و هو أن يَكونَ موسىٰ إنّما سألَ أن يَظهَرَ له بابٌ يَعرِفُ اللّٰهَ تَعالىٰ عندَه(6) ضَرورةً ؛ كالآياتِ التي تَظهَرُ في الآخِرةِ ، و تَزولُ عنه بها مَشَقّةُ التكليفِ .
ص: 476
و الجَوابُ الأوّلُ أوضَحُ و أسلَمُ ؛ لأنّ الكلامَ علَى الوَجهِ الأوّلِ لا يَقتَضي محذوفاً، بل يَكونُ قولُه: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »(1) علىٰ ظاهرِه. و علَى الوَجهِ الثاني لا بُدَّ مِن إضمارِ ذِكرِ الآياتِ (2) التي تَقَعُ المعرفةُ عندَها ضَرورةً .
و قولُه: «أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ »(3) يَدُلُّ أيضاً علىٰ صحّةِ الجَوابِ الأوّلِ دونَ الثاني.
علىٰ أنّ موسىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ شاكّاً في أنّ معرفةَ اللّٰهِ تَعالىٰ ضَرورةً ، لا يَجوزُ أن تقعَ في دارِ التكليفِ ؛ لأنّه معلومٌ بأدلّةِ العُقولِ ؛ فكيف يَسألُ ذلكَ؟
فإن قيلَ : إنّه سألَ ذلكَ و لَم يَكُن هو شاكّاً فيه؛ فهو رُجوعٌ إلىٰ معنَى الجَوابِ الأوّلِ ، و لَأن يُجعَلَ سؤالُه لِقَومِه الرؤيةَ أَولىٰ ؛ لشهادةِ الظاهرِ و غَيرِه ممّا ذَكَرناه.
فأمّا تَعليقُه تَعالَى الرؤيةَ باستقرارِ الجَبَلِ فَجارٍ علىٰ مَنهَجِ كلامِ العَرَبِ ، في أنّهم إذا أرادوا تَبعيدَ الشيءِ و نَفيَه علىٰ كُلِّ حالٍ ، عَلَّقوه بما المعلومُ أنّه لا يَقَعُ ؛ سَواء كان جائزاً أو مُحالاً؛ لأنّهم يَقولونَ : «لا كَلَّمتُكَ ما لاحَ كوكبٌ ، و ما أضاءَ فَجرٌ»، و «هذا لا يَكونُ حَتّىٰ يَشيبَ الغُرابُ »، و إن كانَ ما عَلَّقوا به النفيَ جائزاً، و غَرَضُهم بالنفيِ غايةُ التبعيدِ.
علىٰ أنّ استقرارَ الجَبَلِ في حالِ جَعلِه إيّاه دَكّاً مُحالٌ ؛ لِما فيه مِنِ اجتماعِ الضِّدَّينِ ، فما تَعلَّقَ وجودُ الرؤيةِ إلّابأمرٍ مُحالٍ .
ص: 477
و قولُه تَعالىٰ : «فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ »(1) معناه؛ فلمّا عَرَّفَ مَن عندَ الجَبَلِ ، و أظهَرَ لهم مِنَ الآياتِ ما يَقتَضي أنّ الرؤيةَ لا تَجوزُ(2) عليه؛ لأنّ التَجلّيَ هو
التعريفُ و الإظهارُ؛ و مِنه قولُه تَعالىٰ : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ»(3) أرادَ به: لا يُعرِّفُكم وقتَها سِواه، و «تَجَلّىٰ » و «جَلَّىٰ » بمعنىً واحدٍ، كما يُقالُ : «تَصدَّقَ علىٰ فُلانٍ » و «صَدَّقَ »، و «تَحدَّثَ » و «حَدَّثَ ».
أنّ مِثلَ الكلامِ في الرُّؤيةِ - و هو أصلٌ مِن أصولِ الدِّينِ - طريقُه العِلمُ ؛ لا يُرجَعُ فيه إلىٰ أخبارِ الآحادِ التي أحسَنُ أحوالِها أن تَقتَضيَ الظنَّ .
هذا لو كانَ الخَبَرُ سَليماً مِنَ الطَّعنِ ، بريئاً مِنَ القَدْحِ ؛ فكيفَ و هو مطعونٌ عليه، مقدوحٌ في روايتِه؛ لأنّ راويه(4) قَيسُ بنُ أبي حازِمٍ (5)، و قد كانَ فَقَدَ عَقلَه في
ص: 478
آخِرِ عُمُرِه و اختَلَّ ، مع استمرارِه في روايةِ الأخبارِ، و قد يَجوزُ أن يَكونَ هذا الخبرُ ممّا رواه في حالِ التغيُّرِ.
علىٰ أنّ المشهورَ عنه الانحرافُ عن أميرِ المؤمنينَ و العَداوةُ له و الوَقيعةُ فيه، و هو الذي قالَ : «رَأَيتُ عَليَّ بنَ أبي [طالبٍ ] علىٰ مِنبَرِ الكوفةِ ، يَقولُ : اِنفِروا إلىٰ بَقيّةِ الأحزابِ ، فبُغضُه حَتَّى اليَومِ في قَلبي»!(1) إلىٰ غَيرِ ذلكَ مِن تَصريحِه بالبَغضاءِ و العَداوةِ ، و هذا ممّا يَقدَحُ في عَدالتِه.(2)
و لَو جازَ الإصغاءُ في الرؤيةِ إلىٰ أخبارِ الآحادِ، (143) لَوجبَ قَبولُ أخبارِ المُشَبِّهةِ (3)؛ فانّهم يَروونَ في ذلكَ ما هو أظهَرُ مِن أخبارِ الرؤيةِ و أشهَرُ(4).
علىٰ أنّ بإزاءِ هذا الخبرِ، مِن الأخبارِ الصحيحةِ السليمةِ ، المُتضمِّنةِ لنفيِ الرؤيةِ ؛ ما لا يُحصىٰ كَثرةً ، لَولا كَراهةُ التطويلِ لَذَكَرنا شطراً منها(5)، و هي مذكورةٌ في الكتبِ ، معروفةٌ في أماكنِها(6)، و في بعضِها ما يُعارِضُ هذا الخَبَرَ و يُسقِطُ.(7)
ص: 479
علىٰ أنّا لَو عَدَلنا عن كُلِّ ذلكَ ، لكَانَ للخبرِ وَجهٌ (1) صحيحٌ يَجوزُ أن يُحمَلَ عليه؛ لأنّ الرؤيةَ قَد تَكونُ بمعنَى العِلمِ ، و هذا ظاهرٌ في اللّغةِ ، و يَدُلُّ عليه قولُه تَعالىٰ :
«أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعٰادٍ»(2) ، و «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحٰابِ اَلْفِيلِ »(3) ، «أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ نُطْفَةٍ »(4).
و قال الشاعِرُ:
رَأَيتُ اللّٰهَ إذ سَمّىٰ نِزاراً *** و أسكَنَهم بِمكّةَ قاطِنينا(5)
وَ عَلى هذا يكونُ معنى الخَبَرِ: أنّكم تَعلَمونَ رَبَّكم ضَرورةً كما تَعلَمُونَ القَمَرَ، مِن غَيرِ مشقّةٍ و لا كَدِّ نَظَرٍ و استدلالٍ . و هذه بِشارةٌ لهم [بخلوص](6) نَعيمِهم، و زَوالِ الكَدَرِ و الشَّوبِ عنه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : لَو كانتِ الرؤيةُ في الخَبَرِ بمعنَى العِلمِ ، لَتَعدَّت إلىٰ مفعولَينِ ؛ لأنّ هذا هو حُكمُ العِلمِ عندَهم، و الرؤيةُ بالبصرِ لا(7) تَتَعدّىٰ إلّاإلىٰ مفعولٍ واحدٍ، فيَجِبُ أن يُحمَلُ الخَبَرُ مع فقدِ المفعولِ الثاني على الرؤيةِ بالبَصَرِ.
ص: 480
و ذلك أنّ العِلمَ عند أهلِ اللُّغةِ على ضَربَينِ :
عِلمُ يقينٍ و معرفةٍ ، و الضربُ الآخَرُ بمعنى الظنِّ .
فالذي هو بمعنى اليقينِ ، لا يَتعدّى إلىٰ أكثَرَ مِن مفعولٍ واحدٍ، و لهذا يَقولونَ :
«عَلِمتُ زَيداً»، إذا كانَ بمعنى عَرَفتُه و تَيقَّنتُه، و لا يأتون بمفعولٍ (1) ثانٍ . و إذا كانَ بمعنَى الظنّ ، يَحتاجُ إلَى المفعولِ الثاني؛ لأنّ الظنَّ لا بُدَّ فيه مِن مفعولٍ ثانٍ ، و هذا ممّا قد نَصَّ عليه القَومُ .
و قد قيلَ : لَيسَ يَمتَنِعُ أن يَكونَ المفعولُ الثاني في الخبرِ محذوفاً يَدُلُّ الكلامُ عليه، و إن لم يَكُن مُصَرَّحاً فيه.
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: يَجِبُ علىٰ هذا التأويلِ أن يُساويَ أهلُ النارِ أهلَ الجَنّةِ في هذه البِشارةِ ؛ لأنّ الجَميعَ يَعلَمونَ اللّٰهَ تَعالىٰ في الآخرةِ ضَرورةً .
و ذلكَ أنّ الخبرَ بزَوالِ اليَسيرِ مِن الأذىٰ (2) لِمَن نَعيمُه خالصٌ صافٍ يُعَدُّ بِشارةً ، و مِثلُ ذلك لا يُعَدُّ بِشارةً فيمَن هو في غايةِ المكروهِ و نِهايةِ الألَمِ و العذابِ .
و أيضاً: فإنّ عِلمَ أهلِ الجَنّةِ باللّٰهِ تَعالىٰ ضَرورةً يَزيدُ في نَعيمِهم و سُرورِهم؛ لأنّهم يَعلَمونَ بذلكَ أنّه يَقصِدُ بما يَفعَلُه بهم مِن النعيمِ ، التعظيمَ و التبجيلَ ، و أنّه يُديمُ ذلكَ و لا يَقطَعُه. و أهلُ النارِ إذا عَلِموه - جَلَّ و عَزَّ - ضَرورةً ، عَلِموا
ص: 481
قَصدَه إلىٰ إهانتِهم و الاستخفافِ بهم، و إدامةِ مكروهِهم و عذابِهم؛ فاختَلَفَ
العِلمانِ في بابِ المَنفعةِ و المَضَرّةِ ، و إنِ اتَّفقا في أنّهما ضَروريّانِ . و هذا بَيِّنٌ لا إشكالَ فيه.
ص: 482
الفهرس الإجمالي... 5
مقدّمة التحقيق... 7
منهجية البحث عند الشريف المرتضى... 8
علاقة الشريف المرتضى بالمعتزلة... 11
هذا الكتاب... 17
فهرسة أبحاث الكتاب... 21
عنوان الكتاب... 22
الوجه في تسميته ب «الملخّص»... 23
نسبة الكتاب إلىٰ مصنّفه... 24
تاريخ تأليف الكتاب... 25
جهود حول الكتاب... 27
مَن اقتنى الكتاب و اهتمّ به... 31
نسخة الكتاب... 34
العمل في الكتاب... 38
كلمة الشكر... 41
نماذج من تصاوير النسخة... 43
ص: 483
الملخّص في أُصول الدين
الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع
الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ... 53
الكلام على الدعوى الأُولىٰ ... 53
الكلام على الدعوى الثانية... 53
في الدلالة علىٰ أنّ القديم لا يجوز عليه العدم... 53
في الدلالة علىٰ أنّ القديم قديم لنفسه... 53
الدليل الأوّل... 53
الدليل الثاني... 55
في الدلالة علىٰ عدم انفكاك الصفة النفسيّة عن الموصوف... 56
دليل آخر علىٰ نفي جواز العدم عن القديم... 58
نفي الضدّ عن القديم... 58
الدليل الأوّل... 58
الدليل الثاني... 60
الكلامُ علَى الدعوَى الثالثةِ ... 61
عدم خلوّ الجسم من الكون في الجهات... 61
وجوب تحيّز الجوهر بذاته... 62
وجوب كون المتحيّز في جهةٍ ... 72
إبطال الشقّ الأوّل... 76
إبطال الشقّ الثاني... 80
الكلام على الدعوى الرابعة... 82
في بيان حقيقة العلم بأنّ عدم تقدّم الأجسام على...... 83
ذهاب ابن الراوندي إلى قِدَم الأجسام مع...... 86
بيان كيفيّة دلالة «عدم تقدّم المحدَث» على الحدوث... 87
ص: 484
عدم خلوّ الجوهر من الأكوان... 90
تناهي الحوادث الماضية و المستقبلة، و بيان الفرق بينها... 93
الفصل الثاني: في الدَّلالةِ علىٰ إثباتِ المُحدِثِ ... 99
البحث الأوّل: حاجة تصرّفاتنا إلينا، و تعلّقها بنا... 99
البحث الثاني: في حاجة تصرّفاتنا إلينا في حدوثها... 109
البحث الثالث: حاجة كل مُحدَث إلىٰ مُحدِث... 111
الباب الثاني: الكلام في الصفات
القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة
الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ... 117
الدليل الأوّل... 117
الدليل الثاني... 119
الدليل الثالث... 119
نفي أن يكون تأتّي الفعل للطبع لا لحال القادِر... 119
دلالة تعذّر الفعل على انتفاء القدرة، و شرط ذلك... 121
نفي أن يكون تعذّر الفعل ناشئاً من ثبوت حالٍ ... 122
كيفيّة دلالة صحّة الفعل على القدرة... 124
اختصاص دلالة حدوث الفعل على القدرة فقط، لا أكثر... 124
الدليل الأوّل... 125
الدليل الثاني... 125
الفصلُ الثاني: في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ... 127
نقل أدلّة أبي هاشم حول مقدار دلالة الفعل، و مناقشتها... 128
عدم قيام الاعتقاد و الظنّ مقام العلم في صحّة الفعل المحكم... 130
أدلّة إثبات أنّه تعالىٰ عالِم... 132
ص: 485
الدليل الأوّل... 132
الدليل الثاني... 133
الدليل الثالث... 134
الدليل الرابع... 134
الدليل الخامس... 134
الفصل الثالث: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ ... 137
عدم كون المفارقة ناشئة من حصول العلم و القدرة... 138
عدم صحّة إثبات صفة أُخرىٰ غير الحياة... 139
كيفيّة اقتضاء القدرة للوجود... 141
عدم استلزام الدليل على الحياة إثباتَ البِنية و التأليف للقديم... 142
عدم صحّة الاستدلال بالعجز على الحياة... 150
الفَصلُ الرابع: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ... 155
البحث الأوّل... 156
ألف. إثبات صفة الإدراك فينا... 156
ب. إثبات امتياز صفة الإدراك عن غيرها من الصفات... 156
أوّلاً: امتيار صفة الإدراك عن العلم... 157
1. إثبات العلم مع فَقْد الإدراك... 157
2. إثبات الإدراك مع فَقْد العلم... 158
عدم رجوع اختلاف حال المتألِّم و غيره إلىٰ اختلاف طرق العلم... 160
ثانياً: امتياز صفة الإدراك عن الحياة... 162
ثالثاً: امتياز صفة الإدراك عن القدرة... 163
رابعاً: امتياز صفة الإدراك عن الإرادة و الكراهة و الشهوة و النفرة... 164
البحث الثاني... 164
ألف. اقتضاء الحياة لصفة الإدراك بشروطه... 164
ص: 486
ب. عدم اقتضاء صحّة الحواسّ للإدراك... 167
البحث الثالث... 169
ألف. إثبات كونه تعالىٰ مُدْرِكاً عند وجود المدرَكات... 169
ب. نفي أن يكون للسميع و البصير حال زائدة علىٰ كونه حيّاً لا آفة به... 172
بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه شامٌّ و ذائقٌ ... 174
بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه آلِمٌ وَ مُلتذٌّ و مُحِسٌّ ... 175
الفصلُ الخامس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ موجودٌ... 179
إثبات أنّ العدم يَمنع من تعلُّق ما يتعلّق بغيره لنفسه... 179
الدليل الأوّل... 179
الدليل الثاني... 188
الفصلُ السادس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ ... 191
إبطال كونِ صانع العالَم محدَثاً... 193
أوّلاً: إبطال كونِ المحدَث قادراً لنفسه... 194
الدليل الأوّل... 194
الدليل الثاني... 196
الدليل الثالث... 196
ثانياً: إبطال كونِ صانِعِ العالَمِ قادراً بقُدرةٍ ... 196
الدليل الأوّل... 196
انحصار قدرتنا في الأفعال المباشرة و المتولّدة، دون المخترَعة... 198
عدم وقوع الجسم منّا، لا بصورة مباشرة و لا متولّدة... 199
الدليل الأوّل علىٰ عدم وقوع الجسم و الجوهر منّا متولّداً... 199
مناقشة موانع القدرة علىٰ فعل الأجسام و الجواهر... 201
المانع الأوّل و الثاني: فَقْدُ العلم و الآلة... 201
المانع الثالث: فَقْدُ البِنية... 203
ص: 487
المانع الرابع: عدم وجود الخلأ في العالَم... 203
أدلّة وجود الخلأ في العالَم... 204
الدليل الأوّل... 204
الدليل الثاني... 204
الدليل الثالث... 204
الدليل الرابع... 205
الدليل الخامس... 205
أدلّة عدم وجود الخلأ في العالَم و مناقشتها... 206
المانع الخامس: تعدُّد القُدرَ في الجارحة الواحدة... 210
الجواب الأوّل... 212
اختلاف أجناس القُدَر... 212
تغاير مقدور القُدَر... 213
اتّفاق مقدور القُدَر في الجنس... 214
الجواب الثاني... 214
الدليل الثاني علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً... 218
الدليل الثالث علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً... 219
الدليل الثاني علىٰ إبطال كون صانع العالم قادراً بقدرة... 221
إبطال أن يكون القادرُ الذي لا تجبُ له هذه الصفة قادراً بالفاعل... 222
ما يدلّ على نفي وجود قادر محدَث ليس بجوهر... 224
الفصلُ السابع: في بيانِ أحكامِ الصفاتِ الثبوتيّةِ الذاتيّةِ ... 227
1. فصلٌ في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُستَحِقَّ الصفاتِ التي ذَكَرناها يَجِبُ أن يَستَحِقَّها... 227
البحث الأوّل: في أنّه تعالىٰ قادر فيما لم يزل... 227
في بيان أنّ القدرة الممكنة لا تكون إلّابقدرة حادثة... 227
نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة وجود المقدور... 228
ص: 488
نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة الفعل في الوقت الثاني... 229
البحث الثاني: في بيان أنّه تعالىٰ حيّ و موجود فيما لم يزل... 230
البحث الثالث: في بيان أنّه تعالىٰ عالِم فيما لم يزل... 230
1. نفي أن يكون شرط تجدّد كونه عالِماً هو وجود المعلوم... 231
أدلّة صحّة تعلّق العلم بالمعدوم... 231
2. بيان حقيقة العلم الأزلي بالموجودات الحادثة... 233
في بيان أنّ العلم بوجود الشيء في المستقبل هو علمٌ بوجوده... 234
خلاصة رأي المصنّف حول العلم بأنّ الشيء سيوجد... 238
2. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَختَصُّ في ذاتِه بصفةٍ زائدةٍ على ما ذَكَرناه و...... 239
الدليل الأوّل علىٰ بطلان المائيّة... 239
الدليل الثاني... 242
إبطال استدلال ضرار علىٰ المائيّة... 243
3. فَصلٌ في تَرتيبِ العِلمِ بهذه الأحوالِ ... 244
1. القدرة... 244
2. الحياة و الوجود و القِدَم... 244
3. العلم... 244
4. الإِدراك... 245
5. الصفة الذاتيّة... 245
6. الإرادة و الكراهة... 245
7. الحكمة... 246
4. فَصلٌ في أحكامِ هذه الأحوالِ و ما تَقتَضيهِ و تؤَثِّرُه... 246
فَصلٌ استطراديّ : في ذِكرِ جُملةٍ مِن الاستدلالِ بالشاهدِ علَى الغائبِ ... 249
بيان قاعدة الاستدلال بالشاهد على الغائب... 249
الاستدلال علىٰ القاعدة... 249
ص: 489
أقسام الدلالة... 251
أقسام دلالة الدليل... 252
شرائط ما يصحّ الاستدلال عليه... 252
ما يسوغ التعليل به و ما لا يسوغ... 253
5. فَصلٌ في كيفيّةِ استحقاقِه تَعالىٰ ما تَقدَّم ذِكرُه مِن الصفاتِ و...... 254
أ. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ معدومةٍ ... 255
ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يعلم بِعلم معدوم... 255
ما يدلّ على أنّه تعالى لا يجوز أن يقدر بقدرة معدومة... 256
ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة معدومة... 257
ب. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ لا توصَفُ ... 258
ج. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ مُحدَثةٍ ... 263
الدليل الأوّل... 263
الدليل الثاني... 265
في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة مَحدَثة... 266
في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون عالماً بعلم محدَث... 267
في بيان الوجوه التي تجعل الاعتقاد علماً... 269
نفي أن يكون الإدراك مؤثّراً في كون الاعتقاد علماً... 271
مَسائِلُ تتعَلَّقُ بعِلمِ اللّٰهِ تَعالىٰ و قُدرتِه... 272
إثبات أنّ للعلم ضدّاً... 278
بطلان أن يكون تعذّر اجتماع اعتقادَين متعاكسَين بسبب الداعي...... 279
في بيان قدرة القادر على الشيء و ضدّه من الوجه الذي يتنافيان فيه... 281
الفرق بين ابتداء العلم و ابتداء الجهل... 282
نفي أن يكون الجهل مقدوراً له... 283
إبطال صحّة وجود الجهل بلا جاهل... 284
ص: 490
د. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّ هذه الأحوالَ لِمَعانٍ قَديمةٍ ... 290
الدليل الأوّل... 290
و هذا الكلامُ لا بُدَّ فيه مِن بَيانِ أُصولٍ ... 290
الأصل الأوّل: في أنّه تعالىٰ مخالفٌ لغيره... 291
الأصل الثاني: في أنّه تعالىٰ إنّما يخالِف ما يخالِفه بكونه قديماً... 291
بيان كيفيّة مخالفته تعالىٰ لغيره بواسطة صفاته الواجبة... 297
وجه مخالفته تعالىٰ لغيره، مع اشتراكه معه في الصفات... 298
أوّلاً: بيان المصنّف... 298
ثانياً: بيان أبي هاشم الجبّائي... 299
الأصل الثالث: في أنّ ماشاركه تعالىٰ في القِدَم يجب أن...... 302
في بيان عدم اختلاف صفة الوجود في الذوات... 302
الوجوه الدالّة علَى أنّ الاشتراكَ في صفةٍ مِن...... 303
الأصل الرابع: في بيان لزوم ما تقدّم من الكلام لهم... 307
الدليل الثاني: علىٰ بطلان المعاني القديمة... 309
استلزام تجويز المعاني القديمة نفي الصفات الذاتية... 310
الدليل الثالث... 311
الدليل الرابع... 312
في بيان أنّ المشاركة في تعلّق خاصّ تقتضي التماثل... 312
في بيان تماثُل علمه تعالىٰ و عِلمنا... 313
في بيان أنّ الشيء الواحد لا ينفي شيئَين مختلفَين غير متضادَّينٍ ... 314
الدليل الخامس... 316
الدليل السادس... 320
الدليل السابع... 320
الدليل الثامن... 325
ص: 491
الدليل التاسع... 326
الدليل العاشر... 326
6. فَصلٌ في الإشارةِ إلىٰ قَويِّ شُبَهِ أصحابِ الذات و الصفاتِ و الكلامِ عليها... 327
فقد تَعَلَّقَ هؤلاءِ بأشياءَ ... 327
الجوابُ عن الشُّبهةِ الأُولىٰ ... 328
الجوابُ عن الشُّبهةِ الثانيةِ ... 329
الجوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 329
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ ... 330
الجَوابُ عن الشبهةِ الخامسةِ ... 337
الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ ... 339
الجوابُ عن الشُّبهة السابعةِ ... 340
7. فَصلٌ في بَيانِ استحالةِ خُروجِه تَعالىٰ عن الصفاتِ الّتي ذَكَرناها...... 343
في بيان استحالة خروجه تعالى عن صفة العلم... 344
نفي كونه تعالىٰ جاهلاً ببعض المعلومات أو عاجزاً عن بعض المقدورات... 345
القسم الثاني: الصفات السلبيّة
الفَصلُ الأوّل: في نَفيِ الحاجَةِ عنه تَعالىٰ و إثباتِه غَنيّاً... 349
أدلّة نفي الشهوة و النِفار عنه تعالى... 350
الدليل الأوّل... 350
الدليل الثاني... 354
نفى دلالة الفعل علىٰ كونه تعالىٰ مشتهياً أو نافراً... 354
الدليل الثالث... 355
الدليل الرابع... 359
الفصلُ الثاني: في نَفي الجسميّةِ عنه تَعالىٰ ... 361
ص: 492
1. فصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ الأجسامَ و الجَواهرَ... 361
ادلّة نفي الجسميّة عنه تعالىٰ ... 362
2. فَصلٌ في أنّ احتمالَ الأعراضِ و الكَونَ في الجهاتِ و... مُستَحيلٌ عليه... 374
في بيان أنّ التحيّز يقتضي احتمال الأعراض... 375
في بيان أنّ التحيّز يقتضي الكون في الجهات... 377
في بيان استحالة حلول الأعراض فيه تعالىٰ ... 378
3. فَصلٌ في استحالةِ كَونِه تَعالىٰ في جهةٍ مِن غَيرِ أن يَكونَ شاغِلاً لها... 380
في بيان بطلان المعنى الظاهري لكونه تعالىٰ فوق العرش... 380
4. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ شَيئاً مِن الأعراضِ ... 383
نفي أن يُشبِهَ تعالىٰ عرضاً غيرَ معقول... 385
5. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَحُلَّ غَيرَه... 386
فساد كونه تعالىٰ حالاًّ لمعنىٰ ... 388
فساد اقتضاء الصفة الذاتيّة لحلوله تعالى... 392
في بيان أنّ حلوله تعالىٰ لو صحَّ ، لكان لصفةٍ ترجع إلىٰ نفسه، لا كالأعراض... 393
6. فَصلٌ فيما يَتعلَّقُ بالعبارةِ في هذا البابِ ... 394
البحث الأوّل: استحالة معنى الجسم عليه تعالى... 394
في بيان ورود لفظة «أجسَم» في كلام العرب... 395
في بيان بطلان بعض التعريفات المذكورة للجسم... 397
البحث الثاني: بطلان إطلاق لفظة «جسم» عليه تعالىٰ ، علىٰ نحو اللقب... 398
نفي أن يكون لفظ الجلالة لقباً... 399
نفيُ أن يكونَ لفظُ «شيء» لقباً... 400
حقيقة بعض الصفات الخَبَريّة... 401
تأويل بعض الآيات المتشابهات الدالّة على الصفات الخبريّة... 403
الفصلُ الثالث: الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ ... 405
ص: 493
تمهيد... 405
1. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ يَستَحيلُ رؤيَتُه... 405
و هذه الجُملةُ نَحتاجُ فيها إلىٰ بيانِ أشياءَ ... 406
أوّلاً: في أنّ الرائي إنّما يَرَى الوجود صفةً هو عليها... 406
أدلّة بطلان أن تكون الرؤية لمعنىٰ ... 407
في بطلان أن يُرىٰ تعالىٰ بحاسّة سادسة... 412
ثانياً: في بيان ارتفاع الموانع التي تمنع من الرؤية عنه تعالىٰ ... 413
ثالثاً: نفي أن يكون تعالىٰ مرئيّاً في نفسه... 418
رابعاً: في بيان أنّ الرؤية متىٰ صحّت وجبت... 418
في بيان أنّ العلم بانتفاء المدرَك مستند إلى العلم...... 420
في أنّ العلم الأوّل إنّما يستند إلى العلم الثاني فيما إذا كان...... 421
في بيان أنّ علمنا بالمدرَكات طريقُهُ الإدراك، و أنّه ليس مُبتدأً بلا طريق... 423
بيان حال المخالفين في المسألة... 425
في بيان أنّ بعض العلوم طريقها الضرورة...... 427
في بيان عدم انفكاك العلمَين المبحوث عنهما فيما سبق... 428
نفي أن يكون العلم بالمدرَكات ناشئاً من فعل العلم في القلب... 429
في بيان دور الشعاع الخارج من البصر في الرؤية... 430
خامساً: في أنّنا غير رائين له تعالىٰ ... 432
دليلٌ آخَرُ... 432
دليلٌ آخَرُ... 434
إبطال تفسير الإدراك المنفيّ في الآية بالإحاطة... 436
نفي أن يكون الإدراك بالبصر بمعنىٰ رؤية مخصوصة... 437
نفي أن يكون الإدراك المنفيّ بالآية معنىً خاصّاً غير الرؤية، و...... 437
أقسام ما تمدّح به تعالىٰ بنفيه و إثباته... 440
ص: 494
بيان وجهٍ إجمالي و آخر تفصيلي لصحّة التمدّح بنفي الرؤية... 442
بيان وجه تمدّحه تعالىٰ بنفي الإدراك، مع مشاركة غيره... له في ذلك... 443
بيان عدم الفرق بين نفي إدراك الأبصار أو المبصرين في محلّ بحثنا... 446
بيان دلالة الآية علىٰ نفي الإدراك عن بعض المدرِكين... 447
2. فَصلٌ في أنّه غَيرُ مَرئيٍّ في نَفسِه... 448
نفي إمكان أن يَرىٰ تعالىٰ نفسَه، مع استحالة رؤيتنا له... 450
3. فَصلٌ في أنّ الإدراكَ بسائرِ الحَواسِّ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ... 453
أقسام الحواسّ الخمس، و كيفيّة الإدراك بها، و شروط ذلك... 454
4. فَصلٌ في ذِكرِ أقوىٰ ما يَتعلَّقُ به المُخالِفُ بالرؤيةِ ، و الكلامِ عليه... 456
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الأُولى... 458
الجَوابُ عن الشُّبهة الثانية... 459
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 460
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ ... 461
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الخامسةِ ... 461
تأويل «النظر» الوارد في الآية: ب «الانتظار»... 463
نفي المعنى الظاهري للفظة «وجوه» الواردة في الآية... 464
بيان الفرق بين مدلول تعليق الإدراك بالبصر، و...... 465
بيان وجه وصف الوجوه بالنضارة في الآية... 467
عدم التلازم بين اتّحاد معنى اللفظين و بين اتّحاد تصرّفهما... 468
جواز التأويل مع اقتضاء الضرورة... 469
في بيان التأويل الثاني للآية... 470
بيان جواز اجتماع الانتظار مع السرور و النعمة... 471
بيان جواز اجتماع الانتظار مع القطع و العلم... 472
في بيان التأويل الثالث للآية... 472
ص: 495
جواز حمل النظر علىٰ الرؤية تجوّزاً... 473
و الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ ... 474
الفرق بين سؤال رؤيته تعالىٰ ، و سؤال أن يكون جسماً و ما شابه ذلك... 475
بيان الوجه في توبة موسىٰ عليه السلام... 476
بيان وجه تعليق الرؤية باستقرار الجبل... 477
و الجَوابُ عن الشُّبهَةِ السابعةِ ... 478
في بيان عدم حاجة الرؤية - بمعنىٰ العلم - إلىٰ مفعولَين... 480
فرق العلم الضروري عند أهل الجنّة و أهل النار... 481
ص: 496
سرشناسه : سیدمرتضی، علی بن حسین ، 355 - 436 ق.
عنوان و نام پديدآور : الملخص فی اصول الدین/ علی بن الحسین الموسوی علم الهدی ؛ تحقیق عده من المحققین؛ اشراف محمدحسین الدرایتی؛ [تهیه کننده] مرکز همایش های علمی و پژوهش های آزاد دارالحدیث.
مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی ، 1441ق. = 1398.
مشخصات ظاهری : 2ج.
فروست : الموتمرالدولی لذکری الفیه الشریف المرتضی. مولفات الشریف المرتضی ؛ 8.
شابک : دوره : 978-600-06-0396-0 ؛ ج.1 : 978-600-06-0397-7
وضعیت فهرست نویسی : فاپا
يادداشت : عربی.
موضوع : توحید
*Tawhid (Unity of God)
خدا -- صفات
God-- Attributes
شیعه امامیه -- عقاید
*Imamite Shi'ah -- Doctrines
عدل (اصول دین)
*Justice (Pillars of Islam)
شناسه افزوده : درایتی ، محمدحسین ، 1343 -
شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی
شناسه افزوده : Islamic Research foundation
شناسه افزوده : موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث . مرکز همایش های علمی و پژوهش های آزاد
رده بندی کنگره : BP217/4
رده بندی دیویی : 297/42
شماره کتابشناسی ملی : 5559722
اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
الملخّص في أُصول الدين الشريف المرتضى
عليّ بن الحسين الموسوي، علم الهدى
(355-436 ه)
المجلّد الثاني
تحقيق
عدّة من المحقّقين
مؤلّفات الشريف المرتضى / 9
ص: 3
ص: 4
تتمّة القسم الثاني: الصفات السلبيّة
الفصل الرابع: في الدلالة علىٰ أنّه تعالىٰ واحد لا ثاني له في القدم... 7
الفصل الخامس: في الردّ على الأديان المخالفة في صفاته تعالىٰ ... 37
الباب الثالث: الكلام في العدل... 67
الفصل الأوّل: في بيان ضروب الأفعال و أقسامها... 71
الفصل الثاني: في أنّه تعالىٰ قادر علىٰ القبيح، لكن لا يختاره... 103
الفصل الثالث: الكلام في الإرادة... 133
الفصل الرابع: الكلام في الكلام و أحواله و أحكامه... 217
الفصل الخامس: الكلام في المخلوق... 313
الفهارس العامّة... 367
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّه لَو شارَكَه مُشارِكٌ في القِدَمِ ، لَوجبَ أن يَكونَ مِثلاً له، و مُستَحِقّاً لجميعِ ما يَستَحِقُّه مِن الصفاتِ النفسيّةِ ، و ذلكَ يَقتَضي كَونَه قادراً لذاتِه، و الاشتراكُ في كَونِهما قادرَينِ لذاتِهما يَنقُضُ حُكمَ كَونِ القادرِ قادراً؛ لأنّ حُكمَ كُلِّ قادرٍ صحّةُ التمانُعِ بَينَه و بَينَ غَيرِه مِن القادرِينَ ، و إذا كانا قادرَينِ للنَفسِ (1) لَم يَجُز أن يَتَمانَعا؛ لأنّ أحَدَهما إذا أرادَ أن يَفعَلَ ضِدَّ ما يَفعَلُه الآخَرُ، لَم يَخلُ مِن أن يوجَدَ المُرادانِ ، أو أن يَرتَفِعا، أو يُوجَدَ أحَدُهما.
و في الأوّلِ وجودُ الضِّدَّينِ . (144)
و في الثاني وجودُ ضَعفِهما و تَناهي مَقدورِهما، و إخراجُهما مِن أن يَكونا قادرَينِ لأنفسِهما.
و في الثالثِ وجوب ضَعفِ الذي(2) لَم يُوجَدْ مُرادُه و تَناهي مقدورِه، و ذلكَ يَقتَضي كَونَه قادراً بقُدرةٍ ، و أنّه جسمٌ مُحدَثٌ .
ص: 9
فوجبَ نَفيُ ثانٍ في القِدَمِ ؛ لفَسادِ ما يُؤَدّي إليه.
و هذه الجُملةُ التي ذَكَرناها في الاستدلالِ ، لا تَثبُتُ (1) إلّابَعدَ بيانِ أشياءَ :
[1.] مِنها: أنّ القَديمَ قَديمٌ لنفسِه، و أنّ ما شارَكَه في كَونِه قديماً يَجِبُ أن يَكونَ مِثلَه و مُشارِكاً له في جميعِ صفاتِه النفسيّةِ .
و هذا ممّا قد مَضَى الكلامُ عليه في بابِ الصفاتِ مُستَقصىً (2).
[2.] و مِنها: أنّ التمانُعَ يَصِحُّ بَينَ كُلِّ قادرَينِ ، و أنّه مِن حُكمِ كَونِ القادرِ قادراً. و يدخُلُ في [ذلكَ ](3) أنّ مقدورَ كُلِّ واحدٍ مِنهما يَجِبُ أن يَكونَ غَيرَ مقدورِ صاحبِه، و أنّ القادرَ علَى الشيءِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قادراً علىٰ جنسِ ضِدِّه، إذا كانَ له ضِدٌّ.
[3. و مِنها: أنّ القادرَ لنفسِه يَجِبُ أن لا يَتَناهىٰ مقدورُه مِن الجنسِ الواحد في الوقتِ الواحدِ].(4)
[4.] و مِنها: أنّ الممنوعَ لا بُدَّ أن يَكونَ مُتَناهيَ المقدورِ.
[5.] و مِنها: أنّ المُتَناهِيَ المقدورِ لا يَكونُ إلّاقادراً بقُدرةٍ .
[6.] و مِنها: أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَكونُ إلّاجسماً، و الجسمَ لا يَكونُ إلّامُحدَثاً.
فأمّا الكلامُ في أنّ التمانُعَ يَصِحُّ بَينَ كُلِّ قادرَينِ فواضِحٌ ؛ لأنّ مُفارَقةَ حالِ القادرِ
ص: 10
الواحدِ في ذلكَ لِحالِ القادرَينِ مِن المعلومِ ضَرورةً ، و كُلُّ مَن عَلِمَ القادرَ قادراً، عَلِمَ صحّةَ مُمانَعتِه لِقادرٍ آخَرَ قَبلَ تَصفُّحِ أحوالِه. و صحّةُ التمانُعِ تَنفي(1) أن يَكونَ مقدورُهما واحِداً(2)، و تَقتضي(3) أنّ كُلَّ واحدٍ مِنهما قادرٌ(4) علىٰ ضِدِّ ما يَقدِرُ عليه صاحبُه.
علىٰ أنّ صحّةَ التمانُعِ بَينَ القادرَينِ تَفتقِرُ(5) إلىٰ أصلَينِ ، ما فيهما إلّاثابتٌ بالدليلِ الواضحِ :
أحدُهما: أنّ القادرَينِ لا يَجوزُ أن يَكونَ مقدورُهما واحداً، و أنّه لا بُدَّ مِن تَغايُرِ مقدورِهما.
و الثاني: أنّ القادرَ علَى الشيءِ قادرٌ علىٰ جنسِ ضِدِّه.
و هذانِ الأصلانِ مِن حَقِّهما أن يُذكَرا عند الكلامِ في أبوابِ العَدلِ ، إلّاأنّنا نَتكلَّمُ الآنَ علىٰ أنّ المقدورَ الواحدَ لا يَكونُ مقدوراً - علىٰ سَبيلِ الإحداثِ - لقادرَينِ ، و نؤَخِّرُ إبطالَ كَونِهما «مقدورَين علىٰ وَجهَين مُختَلِفَين لقادرٍ واحدٍ» إلَى الكلامِ في العَدلِ ؛ فإنّه(6) أخَصُّ به(7). و نُشيرُ إلىٰ جُملةٍ في أنّ القادرَ علَى الشيءِ قادرٌ علىٰ جنسِ ضِدِّه، و نؤَخِّرُ استقصاءَ ذلكَ إلىٰ مَوضِعِه(8).
ص: 11
و الذي يَدُلُّ علىٰ فَسادِ كَونِ المقدورِ الواحدِ لقادرَينِ : أنّه يؤَدّي إلىٰ إضافةِ الفعلِ (1) إلى مَن يَجِبُ نَفيُه عنه، أو نَفيُه عمّن يَجِبُ إضافتُه إليه؛ و في هذا إبطالُ الطريقِ إلَى العِلمِ بكَونِ الفاعلِ فاعلاً أو أنّه(2) لَيسَ بفاعلٍ .
و إنّما قُلنا ذلكَ ؛ مِن حَيثُ عَلِمنا أنّ مقدورَهما إذا كانَ واحداً، فيَجِبُ متىٰ وُجِدَ، أن يَكونَ فِعلاً لهما جميعاً؛ لأنّ (3) ما له يَصيرُ الفِعلُ فِعلاً لفاعلِه لَيسَ بأكثَرَ مِن وجودِه بَعدَ أن كانَ قادراً عليه، و هذا الحُكمُ حاصلٌ معهما له، فيَجِبُ أن يَكونَ فِعلاً لهما.
و إذا ثَبَتَ ذلكَ ، و نَحنُ نَعلَمُ أنّه يَصِحُّ مِن أحَدِهما أن تَدعوَه الدواعي إلىٰ فِعلِ ذلك المقدورِ فيُريدَ إيجادَه، مع كَونِ الآخَرِ كارهاً لإيجادِه مصروفاً مِن فِعلِه؛ لأنّ كَونَهما قادرَينِ يَقتَضي صحّةَ ذلكَ ، و إنّما يَستَحيلُ علَى الذاتِ الواحدةِ في الحالةِ الواحدةِ الاختلافُ في الدواعي و الإرادةِ و الكَراهةِ .
و إذا ثَبَتَت هذه الجُملةُ ، لَم تَخلُ حالُ ذلكَ المقدورِ مِن وَجهَينِ : إمّا أن يوجَدَ، أو لا يوجَدَ. و في وجودِه إثباتُ الفِعلِ لِمَن يَجِبُ نفيُه عنه؛ لأنّ غايةَ ما يَقتَضي (145) انتفاءَ (4) الفِعلِ مع التخليةِ هي الكَراهةُ و ثُبوتُ الصَّوارفِ . و في ارتفاع الفِعلِ نفيُه عمّن يَجِبُ إثباتُه له؛ مِن حَيثُ كانَ كَونُ المُريدِ مُريداً، و حُصولُ
ص: 12
الدواعي، مع التخليةِ (1) و زَوالِ المَوانعِ ، غايةَ ما يَقتَضي ثُبوتَ الفِعلِ .
و يَجِبُ علىٰ هذا الوجهِ أيضاً تَعذُّرُ الفِعلِ علَى القادرِ مِن غَيرِ مَنعٍ .
فيَجِبُ علىٰ هذا فَسادُ كَونِ المقدورِ الواحدِ مقدوراً لقادرَينِ ؛ لاستحالةِ (2) ما يؤَدّي إليه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ كلامَنا بما(3) يَقتَضي اتِّفاقَ القادرَينِ في الدواعي و الإرادةِ و الكَراهةِ ؛ لأنّا لَم نَبنِ الدليلَ إلّاعلىٰ صحّةِ اختلافِهما في ذلكَ ، و جَوازِه دونَ وجوبِه.
و لا له أن يَعتَرِضَه بمَن(4) يَكونُ مُضطَرّاً إلَى الإرادةِ ، و هو غَيرُ فاعلٍ لمُرادِها. أو بمُضطَرٍّ إلَى الكَراهةِ و هو مع كَراهَتِه فاعلٌ لِما تَناوَلَته(5)، إذا عَلِمَ أنّ له فيه نَفعاً و دَفعَ ضررٍ.
و ذلك أنّا إنّما شَرَطنا التخليةَ احترازاً مِن هذه الاعتراضاتِ ، فقُلنا: مِن حَقِّ المُريدِ مع التخليةِ أن يَفعَلَ ما أرادَه، [و] مِن حَقِّ الكارِهِ ، مع(6) التخليةِ [أن] لا يوجِدَ(7) ما كَرِهَه.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ مقدورَهما إذا كانَ واحداً ثُمّ وُجِدَ وجبَ أن يَكونَ
ص: 13
فِعلاً لهما معاً: أنّا(1) نَعلَمُ أنّهما لَو أحدَثاه جميعاً، لَم يَحصُلْ له مِن الحُكمِ إلّاما حَصَلَ له عندَ حُدوثِه مِن أحَدِهما؛ لأنّ الحُدوثَ لا يَتزايَدُ، فيَجِبُ مَتىٰ حَدَثَ أن يَكونَ فِعلاً لهما.
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ الحدثَ لا يَتزايدُ، و أنّ الذاتَ لا يَصِحُّ أن تَكونَ مُختَرَعةً مِن وَجهَينِ .
قُلنا: لَو ساغَ أن تَكونَ (2) للذاتِ في الوجودِ صفتانِ ، لَجازَ أن يَجعَلَ الذاتَ (3) بَعدَ إيجادِ أحَدِ القادرَينِ لها، القادرُ الآخَرُ علَى الصفةِ الأُخرىٰ ؛ لأنّه إذا جازَ أن تَحصُلَ هاتانِ الصفتانِ للذاتِ في الحالةِ الواحدةِ ، جازَ أن تَحصُلَ في حالَين، و هذا يَقتَضي صحّةَ إيجادِ الموجودِ مع عِلمِنا باستحالتِه؛ ألا تَرى أنّ وجودَ الشيءِ في أنّه مُحيلٌ للقُدرةِ عليه جارٍ مَجرى عدمِه في إحالةِ تَعلُّقِ الإدراكِ به ؟ و لهذا يَتعذَّرُ علىٰ أحَدِنا
إيجادُ ما أَوجَدَه، كما يَتعذَّرُ عليه إيجادُ مقدورِ غَيرِه.
و لَو ساغَ إيجادُ الموجودِ، لَم يَمتَنِعْ أن يَحمِلَ أحَدُنا الجسمَ الثقيلَ و يَنقُلَه مِن مكانٍ إلىٰ آخَرَ، ثُمّ يوجِدَ مِن حَملِه ثانياً ما أَوجَدَه أوّلاً، و هذا يَقتَضي أن يَجِدَ مِن نَفسِه مِن المَشَقّةِ ما وَجَدَها أوّلاً. و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يُفرِّقَ القادرُ مِنّا بَينَ أن يَفعَلَ في الجسمِ الثقيلِ مِن وَجهَينِ ، و بَينَ أن يَفعَلَ مِن وَجهٍ واحدٍ؛ و يَجِدَ مِن نفسِه
ص: 14
ذلكَ . و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَصِحَّ مِن غَيرِ هذا الفاعلِ ، أن يُبطِلَ فِعلَه في الثاني مِن حَيثُ هو باقٍ ، و أن لا يَصِحَّ إبطالُه مِن حَيثُ كانَ حادثاً. و فسادُ ذلكَ ظاهرٌ.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ الحَدَثَ لا يَتَزايَدُ، و أنّ الذاتَ لا تَحصُلُ لها صفتانِ بالحُدوثِ : أنّه لَو جازَ ذلكَ ، لَم يَمتَنِعْ أن يَحدُثَ علىٰ أحَدِ الوَجهَينِ دونَ الآخَرِ، و يَجريَ وَجهَا الحُدوثِ فيها مَجرىٰ فِعلَينِ . [و] أنّه مُحالٌ أن يُقالَ : إنّ لأحَدِ الوَجهَينِ تَعلُّقاً بالآخَرِ يَقتَضي أن لا يَحصُلَ إلّامعه؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ حاجتِه في كَونِه علىٰ كُلِّ واحدٍ مِن الوَجهَينِ إلىٰ كَونِه علَى الوَجهِ الآخَرِ. [و] إذا صَحَّ ما ذَكَرناه، و عَلِمنا أنّ مِن شَأنِ «ما يَصِحُّ أن يَحدُثَ » متىٰ لَم يَحدُثْ ، أن يَبقىٰ معدوماً، فهذا(1)يَقتَضي أن تَكونَ الذاتُ في الحالةِ الواحدةِ موجودةً معدومةً .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ بقاءَه معدوماً، موقوفاً على (146) أن لا يَحدُثَ مِن الوَجهَينِ جميعاً؛ لأنّه لا فَرقَ بَينَه و بَينَ مَن جَعَلَ وجودَه موقوفاً علىٰ حُدوثِه مِن الوَجهَينِ جميعاً.
و هذه الطريقةُ يُمكِنُ أن تُسلَكَ في ابتداءِ الاستدلالِ علَى استحالةِ كَونِ المقدورِ الواحدِ لِقادرَينِ ؛ بأن(2) يُقالَ : لَو ساغَ ذلكَ لَم يَمتَنِعْ أن يَفعَلَه أحَدُنا في وقتٍ آخَرَ، فَيَكونَ موجوداً معدوماً. و هذا الوَجهُ أبيَنُ و آكَدُ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ كَونُه معدوماً مِن الوجهِ الذي وُجِدَ عليه.
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ القادرَ علَى الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ قادراً على جنسِ
ص: 15
ضِدِّه: [فهو أنّ ](1) مِن حَقِّ القادرِ أن يَتصرَّفَ في الفِعلِ بحَسَبِ دَواعيهِ ؛ لِيُفارِقَ بذلك حالَ الممنوعِ و المُضطَرِّ، و مَتىٰ لَم يَكُن قادراً علىٰ جنسِ ضِدِّ مقدورِه، لَم
تكُن(2) أفعالُه واقعةً بحَسَبِ دَواعيهِ ، و ارتَفَعَتِ المُفارَقةُ بَينَه و بَينَ المُضطَرِّ.
و استقصاءُ هذا البابِ يأتي مِن بَعدُ بمَشيّةِ اللّٰهِ (3).
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ القادرَ لِنَفسِه يَجِبُ أن لا يَتَناهىٰ مقدوره مِن الجنسِ الواحدِ في الوقتِ الواحدِ: [فهو] أنّا قد بيّنّا فيما تَقدَّمَ عندَ الكلامِ في الصفاتِ ، أنّ تَعلُّقَه بالمقدوراتِ تَعلُّقُ القادرِينَ لا تَعلُّقُ القُدَرِ(4)، و القادرُ مِن حَيثُ كانَ قادراً لا يَنحَصِرُ ما يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ به؛ ألَاتَرىٰ أنّ أحَدَنا يَقدِرُ مِن الجنسِ الواحدِ و المَحَلِّ الواحدِ علىٰ أفعالٍ كثيرةٍ لا تَنحَصِرُ إلّابانحصارِ قُدَرِه ؟ فالانحِصارُ راجعٌ إلَى القُدَرِ دونَ تَعلُّقِ القادرِ. و إذا كانَ تَعالىٰ قادراً لنفسِه، وجبَ أن يَكونَ قادراً - ممّا ذَكَرناه - علىٰ ما لا يَتَناهى؛ إذ لا مُقتَضيَ للحَصرِ فيه.
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الممنوعَ يَجِبُ أن يَكونَ مُتَناهيَ المقدورِ: فهو أنّه إنّما يُمنَعُ بأن يَفعَلَ أكثَرَ ممّا في مقدورِه، و ما وُجِدَ ما يَزيدُ عليه لا بُدَّ أن يَكونَ مُتناهياً.
ص: 16
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ مَن يَتناهىٰ مقدورُه لا يَكونُ إلّاقادراً بقُدرةٍ : فهو أنّ المُقتَضيَ لِحَصرِ المقدوراتِ إنّما هو القُدَرُ؛ لأنّ القُدرةَ لَو تَعلَّقَت في الوقتِ الواحدِ و المَحَلِّ الواحدِ مِن الجنسِ الواحدِ بما لا يَنحَصِرُ، لَم يَتعذَّر علينا حَملُ الجِبالِ العظيمةِ ؛ بأن نَفعَلَ (1) في كُلِّ جُزءٍ منها بعَدَدِ أجزاءِ جميعِها، و لا تَفاضَلَ القادرونَ فيما يَصِحُّ أن يَحمِلوه، و لا افتَقَرَ بعضُهم - في الاستقلالِ بما يَحمِلُه - إلىٰ مُعاوَنةِ غَيرِه.
و أيضاً: فإذا كُنّا قد دَلَّلنا علىٰ أنّ القادرَ لنفسِه لا يَتَناهىٰ مقدورُه، فواجبٌ فيمَن تَناهى مقدورُه أن لا يكونَ قادراً إلّابقُدرةٍ ؛ لأنّ كَونَ القادرِ قادراً(2) لا يُستَحَقُّ [إلّا] مِن هذَينِ الوَجهَينِ .
و أمّا الكلامُ في أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَجوزُ أن يَكونَ إلّاجسماً: فقَد تَقدَّمَ ؛ حَيثُ دَلَّلنا علىٰ أنّها يَجِبُ (3) أن تَحُلَّ بعضَ القادرِ حَتّىٰ يَصِحَّ أن يَفعَلَ بها، و أنّ الفِعلَ لا يَصِحُّ أن يَقَعَ بها ابتداءً إلّافي مَحَلِّها.
و القولُ في حُدوثِ الأجسامِ أيضاً قد تَقدَّمَ (4).
فلَم يَبقَ مِن مُقَدَّماتِ الدليلِ (5) شيءٌ يَحتاجُ إلَى الدَّلالةِ عليه.
ص: 17
فإن قيلَ : ما ذَكَرتُموه مِن التمانُعِ مَبنيٌّ علَى اختلافِهما في الدواعي، و لَيسَ يَصِحُّ ذلك؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ منهما عالِمٌ بحُسنِ ما يَرومُه الآخَرُ، فلا يَجوزُ - و هذه حالُه - أن تَدعُوه(1) الدواعي إلىٰ ضِدِّه.
قُلنا: ألَم تُبْنَ (2) الدلائلُ إلّاعلىٰ صحّةِ التمانُعِ دونَ وقوعِه ؟ و يَكفي في ذلكَ صحّةُ اختلافِهما في الدواعي، و الذي(3) تَضمَّنَه السؤالُ إنّما يمنَعُ مِن ثُبوتِ اختلافِ دَواعيهما، و لا يَمنَعُ مِن صحّةِ ذلكَ و جَوازِه.
علىٰ أنّ العالِمَ (4) بحُسنِ الفِعلِ لا يَقتَضي أن يَفعَلَ ، بل يَجوزُ مع العِلمِ بحُسنِه أن لا يَختارَه؛ (147) لأنّ دَواعيَ الحُسنِ لَيسَ بموجِبٍ ، و علىٰ هذا لا يَمتَنِعُ أن يَعلَمَ كُلُّ واحدٍ مِنهما حُسنَ تَحريكِ الجسمِ و تَسكينِه، و يَدعُوَ أحَدَهما عِلمُه بحُسنِ تَحريكِه إلىٰ ذلكَ ، و يَدعُوَ الآخَرَ عِلمُه بحُسنِ تَحريكِه إلىٰ تَسكينِه.
و بمِثلِ هذا نُجيبُ مَنِ اعتَرَضَ بأنّ التمانُعَ لا يَنفَعُ ؛ مِن حَيثُ كانَ كُلُّ واحدٍ مِنهما يَعلَمُ أنّ الذي [يُريدُه الآخَرُ](5) حِكمةٌ و صَوابٌ ، فلا يُريدُ خِلافَه.
لأنّا لَم نَبنِ الكلامَ علىٰ وقوعِ التمانُعِ ، بَل علىٰ صحّتِه؛ و كيفَ يُبنَى الدليلُ
ص: 18
علىٰ وقوعِ التمانُعِ ؛ و هو لا يَصِحُّ إلّابَعدَ إثباتِ الثاني الذي يُقصَدُ إلىٰ نفيِه ؟
و لَيسَ يَجِبُ إذا بَنَينا الكلامَ علَى الصحّةِ أن نتَوقَّفَ عن القضاءِ بأنّ الممنوعَ ضَعيفٌ مِن حَيثُ لَم يَقَعِ التمانُعُ ؛ لأنّا إذا عَلِمنا أنّهما لَو تَمانَعا لَوقعَ فِعلُ أحدِهما، وجبَ أن نَقضيَ بضَعفِ مَن لَم يَقَعْ مُرادُه، و أنّ الذي مَنَعَه أقدَرُ مِنه، و إن لَم يَكُن هُناكَ تَمانُعٌ ؛ لأنّ التمانُعَ يَكشِفُ علىٰ سَبيلِ الدَّلالةِ عن قُوّةِ القَويِّ و ضَعفِ الضَّعيفِ ، و لَيسَ بموجِبٍ لذلكَ ؛ ألا تَرىٰ أنّا متىٰ عَلِمنا مِن حالِ زَيدٍ أنّه مَتىٰ مانَعَ الأسَدَ و دافَعَه غَلَبَه الأسَدُ و قَهَرَه، قَضَينا بضَعفِ زَيدٍ عن الأسَدِ و قُوّةِ الأسَدِ، و إن لَم يَكُن بَينَهما تَمانُعٌ؟ و كذلكَ مَتىٰ عَلِمنا مِن حالِ زَيدٍ أنّه لو رامَ الفِعلَ لَوقعَ مِنه، نَحكُمْ بأنّه قادرٌ عليه، كما يَجِبُ ذلكَ لَو وَقَعَ الفِعلُ مِنه.
و إنّما يُعلَمُ بتقديرِ التمانُعِ أنّ الأقدَرَ مِنهما كذلكَ في كُلِّ حالٍ ، مِن وَجهَينِ :
أحدُهما: أنّه إنّما يَكونُ أقدَرَ لِما هو عليه في ذاتِه، فاستمرارُه(1) في الأحوالِ [كُلِّها](2) واجبٌ .
و الوَجهُ الآخَرُ: أنّه إذا كانَ لا حالَ يُشارُ إليهما إلّاو قَدَّرنا التمانُعَ بَينَهما لِمَنعِ صاحبِه، فيَجِبُ أن يَكونَ أقدَرَ في جميعِ الأحوالِ .
ص: 19
و بما ذَكَرناه - مِن أنّ الدليلَ مَبنيٌّ علىٰ صحّةِ التمانُعِ و تَقديرِه، دونَ ثُبوتِه - يَسقُطُ اعتراضُ مَن اعتَرَضَ بأن يَقولَ : كيفَ يَصِحُّ أن يَمنَعَ الحَكيمُ مِن الحَسَنِ و يَقصِدَ إلىٰ ذلكَ ، و المَنعُ مِن الحَسَنِ لا يَكونُ إلّاقَبيحاً؟
لأنّ ذلكَ لَو كانَ قبيحاً - علىٰ ما ادَّعىٰ - لَم يَمنَعْ مِن التقديرِ؛ لأنّ القَديمَ تَعالىٰ يَصِحُّ مِنه فِعلُ القَبيحِ ، و إن كانَ لا يَفعَلُه.
فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ ما ذَكَرتُموه، و القَديمُ إنّما يُريدُ بإرادةٍ توجَدُ لا في مَحَلٍّ ، و إذا كانَ له ثانٍ في القِدَمِ (1)، وجبَ أن تَكونَ (2) تلكَ الإرادةُ مُتَعلِّقةً بهما جميعاً؛ لفَقدِ الاختصاصِ بهما، و هذا يَقتَضي أنّ كُلَّ واحدٍ منهما مريدٌ(3) لِما يُريدُ صاحِبُه ؟
قُلنا: لَيسَ يَجوزُ [أن يكونَ ] اتِّفاقُهما في الإرادةِ مانعاً ممّا رتَّبنا عليه الدليلَ ؛ لأنّ الإرادةَ إنّما تَدعو المُريدَ بها إلَى الفِعلِ مَتىٰ كانَت مِن فِعلِه(4)، و إذا كانَت مِن فِعلِ غَيرِه فيه لَم تؤَثِّرْ(5) في مقدورِه، و لَم تَكُنْ داعيةً (6) إليه.
ألا تَرىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ لَو خَلَقَ في قَلبِ المُشرِفِ علَى الجَنّةِ و النارِ، العالِمِ بما
ص: 20
فيهِما مِن النفعِ و الضررِ، إرادةَ دُخولِ النارِ و كَراهةَ دُخولِ الجَنّةِ ، لم يَقَعْ مِنه إلّا دُخولُ الجَنّةِ ، و لَم يَكُن لإرادتِه لِدُخولِ النارِ تأثيرٌ؛ مِن حَيثُ لَم تَكُن مِن فِعلِه و لا تابعةً لِدَواعيه ؟
فالقَديمانِ علىٰ هذا، و إنِ اتَّفَقا في الإرادةِ ، فيَجِبُ أن تكونَ (1) الدواعي لكُلِّ واحدٍ مِنهما إلىٰ فِعلِه هي الإرادةَ التي فَعَلَها هو دونَ صاحبِه، و إن كانَ مُريداً بالأُخرى، فيَصِحُّ التمانُعُ بالفِعلَينِ الضِّدَّينِ عَلىٰ هذا، و لا يَمنَعُ منه اتِّفاقُهما في الإرادةِ .
علىٰ أنّ أحَدَهما و إن أرادَ ما أرادَه صاحبُه، فهو يُريدُ بهذه الإرادةِ مقدورَه، و صاحبُه يريدُ بها (148) مقدورَ غَيرِه، و مَن أرادَ مَقدورَ غَيرِه لا حَظَّ لإرادتِه في إيجادِ ذلك المَقدورِ؛ لاستحالةِ وجودِه مِن جهتِه، و إنّما يُريدُ إرادتَه في مقدورِه(2)، فيَجِبُ علىٰ هذا أن تكونَ (3) إرادةُ كُلِّ واحدٍ مِنهما لِما(4) أرادَهُ مِن مقدورِه دونَ ما سِواه.
علىٰ أنّ أكثَرَ ما في السؤالِ أن يَكونَ قَدحاً في التمثيلِ بذِكرِ إرادةِ الحركةِ و إرادةِ السُّكونِ ، و القَدحُ في المِثالِ لا يَكونُ قَدحاً في المُستَدَلِّ عليه.
و لو عُدِلَ عن ذلكَ إلىٰ أن يُقالَ : لَو دَعا أحَدَهما الداعي(5) إلىٰ ضِدِّ ما دَعا الآخَرَ الداعي إليه، كيفَ كانت تَكونُ (6) الحالُ؟ لَصَحَّ الكلامُ .
ص: 21
و كذلكَ (1) لَو نَقَلنا التمانُعَ إلىٰ نَفسِ الإرادِة و الكَراهةِ ، فقُلنا: لَو رامَ أحَدُهما أن يَفعَلَ إرادةَ الشيءِ ، و رامَ الآخَرُ فِعلَ كَراهَتِه، لَصَحَّ أيضاً الكلامُ ؛ لأنّ التمانُعَ يَصِحُّ في كُلِّ فِعلَينِ ضِدَّينِ ، و لا اعتبارَ بالقَصدِ إليهما، و لا باختلافِ أجناسِهما.
فإن قيلَ : ما أنكَرتُم علىٰ مَن جَوَّزَ التمانُعَ بَينَهما، و أن يَمنَعَ أحدُهما صاحبَه، و امتَنَعَ [مِن](2) القولِ بأنّ المانعَ أقدَرُ، و القولِ بأنّه لَيسَ بأقدَرَ؟ كما امتَنَعتُم مِن القولِ بأنّ الظُّلمَ لَو وَقَعَ مِن القَديمِ تَعالىٰ لَكانَ دالاًّ علىٰ جهلِه و حاجتِه، و مِن القولِ بأنّه كانَ لا يَدُلُّ علىٰ ذلك!
قُلنا: إنّه لَيسَ (3) يَجوزُ إثباتُ الموجِبِ و المَنعُ مِن الموجَبِ ، كما لا يَجوزُ إثباتُ الموجَبِ و المَنعُ مِن موجِبِه. و المَنعُ إنّما يَصِحُّ مِن القادرِ؛ لكَونِه أقدَرَ، فهو حُكمُ هذه الصفةِ ؛ كما أنّ الفِعلَ إنّما يَصِحُّ مِنه؛ لكَونِه قادراً. و إثباتُه مانِعاً و الامتناعُ مِن كَونِه أقدَرَ، كإثباتِه فاعلاً و الامتناعِ مِن كَونِه قادراً، في أنّه نَقضٌ و نَفيٌ لِما ثَبَتَ .
و لَيسَ هذه حالَ الظُّلْمِ (4) المقدورِ وقوعُه؛ لأنّه لَيسَ بموجَبٍ عن الجهلِ و الحاجةِ ، و لا مِن حُكمِهما، و لَم يَصِحَّ الظُّلم لأجلهما، و إنّما صَحَّ مِن الفاعلِ لِكَونِه قادراً؛ سَواءٌ كانَ غَنيّاً أو مُحتاجاً، عالِماً أو جاهلاً. فافتَرَقَ الأمرانِ .
ص: 22
علىٰ أنّ الامتناعَ في الظُّلْمِ مِن القولِ بأنّه يَدُلُّ أو لا(1) يَدُلُّ ، إنّما ساغَ مِن حيثُ تَقدَّمَ العِلمُ بأنّه سُبحانَه عالِمٌ غَنِيٌّ ، و أنّ الظُّلْمَ دليلُ الحاجةِ أو الجهلِ ، فمنعنا(2) من إطلاقِ عبارةٍ تَقتَضي(3) نَقضَ ما عَلِمناهُ بالأدلّةِ . و لَيسَ كذلكَ القولُ في التمانُعِ ؛ لأنّه لَم يَتقدَّمْ أنّ معه تَعالىٰ ثانياً(4) على صفاتِه، حَتّىٰ يَمنَعَ مِن إطلاقِ ما يَقتَضي نفيَه.
و هذا لَو صَحَّ الاعتراضُ به في دليلِ التمانُعِ ، لَصَحَّ لقائلٍ أن يَقولَ في الجسمِ :
«إنّه لَم يَسبِقِ الحَوادِثَ ، غَيرَ أنّي لا أقولُ مع ذلكَ : إنّه مُحدَثٌ ، و لا أقولُ : إنّه قديمٌ ، كما لَم تَقولوا أنتُم في الظُّلْمِ كَذا و كَذا». و ساغَ أيضاً للمُشَبِّهةِ أن تُثبِتَه تَعالىٰ جسماً، و تَمنَعَ مِن القولِ بأنّه مُنفَكٌّ مِن الحَوادثِ أو لا مُنفَكٌّ مِنها. و هذا لَو صَحَّ لَفَسَدَ أكثَرُ الأدلّةِ .
فإن قيلَ : نَراكُم قد بَنَيتُم استدلالَكم(5) على أنّهما إذا تَمانَعا فَلَم يوجَد مُرادُهما
جميعاً وجبَ ضَعفُهما، و هذا غَيرُ صحيحٍ ، بَلِ الواجبُ أنّ مُرادَهما جميعاً لا يوجَدُ؛ مِن حَيثُ كانَ مقدورُهما لا يَتَناهىٰ . و علىٰ هذا لا يَكونُ مقدورُ أحدِهما بالوجودِ أَولىٰ مِن مقدورِ صاحبِه؛ فأيُّ ضَعفٍ يَلحَقُهما مَتىٰ لَم يُوجَدْ مُرادُهما؟ و هَل المَرجعُ بالضَّعفِ عندَ التحقيقِ إلّاإلىٰ تَناهِي المَقدورِ الذي لَم يَحصُلْ هاهنا،
ص: 23
بل الحاصلُ خِلافُه ؟ لأنّ سببَ ارتفاعِ مُرادِهما - علىٰ ما ذَكَرنا - هو أنّ مقدورَهما لا يَتَناهىٰ ، و إنّما لَحِقَ الضَّعفُ المُتَمانِعَينِ مِنّا إذا لَم يُوجَدْ مُرادُهما، مِن حَيثُ اقتَضىٰ ذلك تَناهيَ مَقدورِهما، و أنّ كُلَّ واحدٍ منهما لا يَقدِرُ علىٰ أكثَرَ مِن القَدرِ الذي أَوجَدَه، و هذا مُنتَفٍ في القادِرَينِ لأنفسِهما.
قُلنا: مِن شأنِ القادرِ أن يَصِحَّ مِنه (149) الفِعلُ إلّالِمَنعٍ (1) أو ما جَرىٰ مَجراه(2)مِن الوجوهِ المعقولةِ التي يَتعذَّرُ معها الفِعلُ . و إذا كانَ مُرادُ القادرَينِ لأنفُسِهما لَم يَقَعا، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ كُلُّ واحدٍ قد مَنَعَ صاحِبَه، و هذا مُستَحيلٌ ؛ علىٰ ما بُيِّنَ في السؤالِ . فلَم يَبقَ إلّاأنّه امتَنَعَ الفِعلُ علىٰ كُلِّ واحدٍ مِنهما مِن غَيرِ وَجهٍ معقولٍ يَقتَضي امتناعَ الفِعلِ ؛ لأنّه لا وَجهَ يُمكِنُ ذِكرُهُ (3) ممّا يَقتَضي تَعذُّرَ الفِعلِ عليهما. و ما أدّىٰ إلَى امتِناعِ الفِعلِ مِن غَيرِ مَنعٍ أو ما جَرىٰ مَجراه، يَقتَضي نَقضَ حقيقةِ القادرَينِ ، و ما أدّىٰ إلىٰ ذلكَ فمعلومٌ فَسادُه، و المُؤَدّي إليه(4) إثباتُ قادرَينِ لأنفُسِهما(5).
فإن قيلَ : دليلُكم هذا المُلقَّبُ ب «دليلِ التمانُعِ » مَبنيٌّ علىٰ أنّ مقدورَ كُلِّ واحدٍ مِن القَديمَينِ غَيرُ مقدورِ صاحبِه، و مِن مَذهَبِكم أنّ المُشتَرِكَينِ في صفةٍ
ص: 24
مِن صفاتِ النفسِ يَجِبُ أن يَكونا مُتَماثِلَينِ ، و يَستَحِقَّ كُلُّ واحدٍ مِن الصفاتِ النفسيّةِ ما يَستَحِقُّه الآخَرُ. و يَجِبُ علىٰ هذا إذا كانَ [كُلُّ واحدٍ مِن] القَديمَينِ قادراً علىٰ مقدوراتِه لنفسِه، أن يُشارِكَه نَظيرُه في ذلكَ ، فيَكونَ قادراً علىٰ هذه المقدوراتِ بعَينِها. و قَد جَعَلَ أكثَرُ الشُّيوخِ هذا المعنىٰ دليلاً مُفرَداً في نفيِ الثاني(1). و هذا مُتَناقِضٌ كما تَرَونَ ؛ لأنّكم تارةً توجِبونَ تَغايُرَ مقدورِهما، و تارةً توجِبونَ أنّ مقدُورَهما واحدٌ، و ظُهورُ تَنافِي الطريقَينِ يُغني عنِ الإكثارِ.
قُلنا: قد أُجيبَ عن هذا السؤالِ ، بأنّ تَنافيَ ما يُبنىٰ عليه هذانِ الدليلانِ في نفيِ الثاني، لا يَقتَضي فَسادَ الاستدلالِ بهما؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ منهما مَتى سَبَقَ
الناظِرُ إلىٰ أصلِه الذي يُبنىٰ عَليه، صَحَّ استدلالُه به، و إن لَم يَخطُر ببالِه الأصلُ الآخَرُ؛ لأنّ الناظِرَ متىٰ عَلِمَ أنّ كُلَّ قادرَينِ يَجِبُ صحّةُ التمانُعِ بَينَهما، و أن يَكونَ مقدورُهما مُتَغايِراً، صَحَّ استدلالُه بدليلِ التمانُعِ ، و إن لَم يَخطُرْ ببالِه أنّهما مَتىٰ كانا قادرَينِ للنفسِ ، فواجبٌ أن يَكونَ مقدورُهما واحداً. و كذلك إن كانَ قد سَبَقَ إلَى العِلمِ بأنّ مِن حَقِّ القادرَينِ لنفسِهما أن يَكونَ مقدورُهما واحداً، صَحَّ أن يَستَدِلَّ بالدليلِ الآخَرِ، و يَتَوصَّلَ به إلىٰ نَفيِ الثاني. و الكلامُ في هذا البابِ إنّما هو مَبنيٌّ علَى التقديرِ لأمرٍ مُحالٍ ، فلا يَمتَنِعُ أن يَتعلَّقَ الكلامُ فيه بالنفيِ و الإثباتِ معاً.
و أجوَدُ ما يُقالُ في الجوابِ عن السؤالِ : أنّا نُقَسِّمُ في الأصلِ الكلامَ ، فنَقولُ : لَو كانَ معه تَعالىٰ ثانٍ قادرٌ لنفسِه، لَم يَجُز(2) أن يَكونَ مقدورُهما واحداً؛ لِما دَلَّلنا به علَى
ص: 25
استحالةِ ذلكَ (1)، و لا يَجوزُ أن يَكونَ مُتغايِراً؛ لما بيّنّاه(2) في دليلِ التمانُعِ (3).
و يُمكِنُ أن يُقالَ أيضاً: إثباتُ قادرَينِ للنفسِ يؤَدّي إلىٰ أن يَكونَ مقدورُهما واحداً و مُتَغايراً معاً؛ لأنّ مِن حَيثُ كانا قادرَينِ يَجِبُ صحّةُ التمانُعِ بَينَهما، و أن يَكونَ مقدورُهما مُتَغايِراً، [و] مِن حَيثُ استَحَقّا هذه الصفةَ للنفسِ يَجِبُ أن يَكونَ مقدورُهما واحداً.
و ممّا يُقالُ في هذا البابِ أيضاً: إنّ صحّةَ التمانُعِ بَينَ القادرَينِ في(4) حُكمِ كَونِهما قادرَينِ علَى الشيءِ و علىٰ جنسِ ضِدِّه، و يَجري مَجرىٰ صحّةِ الفِعلِ مِن القادرِ. و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ المؤَثِّرُ في كَونِهما قادرَينِ يُحيلُ هذا الحُكمَ ؛ لأنّ المؤَثِّرَ في الصفةِ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُحيلاً لِحُكمِها(5). و قد عَلِمنا أنّ كَونَهما قادرَينِ للنفسِ يُحيلُ التمانُعَ بينَهما؛ لأنّ استنادَ (150) هذه الصفةِ فيهما إلى النفسِ تَقتَضي أن يَكونَ مقدورُهما واحداً، و ذلكَ مُحيلٌ (6) لِصحّةِ التمانُعِ . و قد بيّنّا أنّ صحّةَ التمانُعِ في(7) حُكمِ كَونِهما قادرَينِ علَى الشيءِ و جنسِ ضِدِّه، و هذا(8) يَقتَضي أنّ المؤَثِّرَ في الصفةِ هو المُحيلُ لِحُكمِها(9).
ص: 26
و لكَ أيضاً أن تَقولَ : إذا ثَبَتَ أنّ مِن حَقِّ كُلِّ قادرَينِ علَى الشيءِ و جنسِ ضِدِّه، صحّةَ وقوعِ التمانُعِ بَينَهما، و كُلُّ ما يَقتَضي رَفعَ هذا الحُكمِ يَجِبُ القَضاءُ بفَسادِه. و إثباتُ قادرَينِ للنفسِ يَقتَضي ذلكَ ؛ لأنّ التمانُعَ [بَينَهما مُحالٌ ]؛(1)
بدَلالةِ أنّه لا يَجوزُ أن يَتَمانَعا بقَدرٍ مِن الفِعلِ ، و في مقدورِهما زيادةٌ عليه؛ لأنّ المُمانعَ (2) لغَيرِه إذا عَلِمَ أنّ غَرَضَه لا يَتِمُّ بإيجادِ بعضٍ مِن المقدورِ، فلا بُدَّ مِن أن يَفعَلَ ما يَزيدُ علىٰ ذلك مَتىٰ كانَ قادراً عليه. و هذا يَقتَضي أن يَكونَ كُلُّ واحدٍ منهما مُمانِعاً لصاحبِه بكُلِّ ما في مَقدورِه، و ذلكَ يَستَحيلُ فيما لا يَتَناهىٰ . و كُلُّ هذا واضحٌ .
دليلٌ آخَرُ: و ممّا استُدِلَّ به علىٰ ذلكَ : أنّ في إثباتِ ثانٍ مُماثِلٍ له تَعالىٰ ما يَقتَضي تَعذُّرَ الفِعلِ علَى القادرِ، مِن غَيرِ وَجهٍ معقولٍ يَقتَضي تَعذُّرَه، و ذلكَ فاسدٌ، فيَجِبُ فَسادُ ما يؤَدّي إليه.
و إنّما قُلنا: إنّه يؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه؛ مِن حَيثُ إنّهما إذا كانا قادرَينِ لأنفُسِهما، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ كُلُّ واحدٍ مِنهما قادراً علَى الشيءِ و جنسِ ضِدِّه إذا كانَ له ضِدٌّ.
فلَو فَرَضنا أنّ أحَدَهما يُريدُ تَحريكَ جسمٍ ، و يُريدُ الآخَرُ تَسكينَه في حالٍ واحدٍ، لَوجبَ أن يَتعذَّرَ(3) علىٰ كُلِّ واحدٍ مِنهما الفِعلُ ؛ لغَيرِ مَنعٍ و لا ما جَرى مَجراه؛ لأنّه
ص: 27
لا يُمكِنُ أن يُقالَ : «إنّ أحَدَهما يَمنَعُ الآخَرَ» مع كَونِ كُلِّ واحدٍ مِنهما قادراً علىٰ ما لا نِهايةَ له. و إنّما يَصِحُّ أن يَمنَعَ أحَدُنا غَيرَه مِن الفِعلِ ، بأن يُوجِدَ أكثَرَ ممّا في مقدورِ الممنوعِ . و ما لا يَتَناهىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ غَيرُه أكثَرَ منه.
و لا يَصِحُّ القولُ بأنّ كُلَّ واحدٍ مانِعٌ للآخَرِ، علىٰ حَسَبِ ما نَقولُ (1) في المتجاذبَين مِنّا لِجسمٍ وَقَفَ فلَم يَتحرَّكْ إلى جهةِ أحدِهما؛ لأنّ ذلكَ إنّما صَحَّ أيضاً مع تَناهي المقدورِ، و إذا كانَ كُلُّ واحدٍ مِن القَديمَينِ يَقدِرُ علىٰ أكثَرَ مِن كُلِّ قَدرٍ يَخرُجُ إلَى الوجودِ، و لا يَنتَهي في ذلكَ إلىٰ حَدٍّ(2) إلّاو الزيادةُ عليه مُمكِنةٌ ، بَطَلَ أن يَكونَ كُلُّ واحدٍ مانِعاً لصاحبِه. فلَم يَبقَ إلّاما ذَكَرناه مِن تَعذُّرِ الفِعلِ لِغَيرِ وجهٍ مَعقولٍ يَقتَضي(3) تَعذُّرَه، و هذا يَنقُضُ حقيقةَ القادرِ.
فإن قيلَ : ألّاكانَ كَونُ كُلِّ واحدٍ منهما قادراً علىٰ ما لا نِهايةَ له هو وَجهُ التعَذُّرِ، أو لأنّ وجودَ مقدورِ أحدِهما لَيسَ بأَولىٰ مِن وجودِ مقدورِ الآخَرِ، أو لِتَساويهِما في كَونِهما قادرَينِ؟
قُلنا: لَيسَ يَجوزُ أن يُجعَلَ [كَونُ ] كُلِّ واحدٍ قادراً علىٰ (4) ما لا نِهايةَ له هو
ص: 28
المُقتضيَ لِتَعذُّرِ الفِعلِ ؛ لأنّ كَونَ القادرِ قادراً أو أَقدَرَ لا حَظَّ له في بابِ المَنعِ مِن
الفِعلِ ؛ ألَاتَرىٰ أنّ أحَدَنا لا يَمنَعُ غَيرَه مِن التصَرُّفِ بكَونِه أقدَرَ مِنه ؟ و إنّما يَمنَعُه بأن يَفعَلَ أكثَرَ ممّا يَقدِرُ عليه الممنوعُ ، و لهذا لا يَمتَنِعُ أن يَفعَلَ الأقدَرُ في يدِ الضعيفِ بعضَ مقدورِه مِن الحركةِ ، فلا يَكونَ بذلكَ مانعاً له مِن تَسكينِ يدِه، و لَو فَعَلَ فيها أكثَرَ مِن مقدورِه مِن الحركةِ لَمَنَعَه. فعُلِمَ بذلكَ أنّ المَنعَ يَتبَعُ الفِعلَ دونَ كَونِ القادرِ قادراً أو أقدَرَ.
و ممّا يُبيِّنُ ذلكَ : أنّ المَنعَ مِن الفِعلِ لا بُدَّ أن يَكونَ بَينَه و بَينَه تَنافٍ ، و إلّالَم يَكُن مَنعاً. (151) و كَونُ الأقدَرِ أقدَرَ أو قادراً علىٰ ما لا يَتَناهىٰ ، لا يُنافي وقوعَ الفِعلِ مِن غَيرِه؛ فكيفَ يَكونُ مَنعاً مِنه ؟
علىٰ أنّ مَن عَلَّقَ المَنعَ بكَونِ القادرِ قادراً علىٰ وجهٍ مِن الوجوهِ ، فقَد جَعَلَ المؤَثِّرَ في صحّةِ الفِعلِ هو المؤَثِّرَ في تَعذُّرِه و امتناعِه، و ذلكَ مُحالٌ .
و بمِثلِ هذا الطريقِ يُعلَمُ أنّ تَساويَ القادرَينِ في المقدورِ لا يوجِبُ تَعذُّرَ الفِعلِ .
فأمّا أنّ مقدُورَ أحَدِهما لَيسَ بالوجودِ أَولىٰ مِن مقدورِ الآخَرِ، فالذي(1) يُبطِلُ أن يَكونَ وَجهاً في تَعذُّرِ الفِعلِ : أنّ أحَدَ مَقدورَي(2) الساهي ليسَ بالوجودِ [أَولىٰ ](3) مِن الآخَرِ، ثُمّ لم يَكُن ذلكَ موجِباً لِتعذُّرِ الفِعلِ عليه.
فإن قيلَ : [إنّ ] القادرَينِ مِنّا لَو قَدَّرنا أن يَفعَلا(4) اختراعاً فيما نأىٰ عنهما مِن الأجسامِ ، و كانا مُتَساويَيِ (5) المقدورِ، و حاوَلَ أحَدُهما تَحريكَ جسمٍ في حالِ ما
ص: 29
يُحاوِلُ الآخَرُ تَسكينَه، لَكانَ الفِعلُ يَمتَنِعُ عليهما جميعاً مِن حَيثُ كانا مُتساويَيِ المَقدورِ، و أنّ مقدورَ أحَدِهما لا يكونُ بالوجودِ أولىٰ مِن مقدورِ الآخَرِ، فَقُولوا بمِثلِ ذلكَ في القَديمَينِ .
قُلنا: هذا تقديرٌ لأمرٍ قد عُلِمَت استحالَتُه؛ لأنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَجوزُ أن يَبتَدئَ بالفِعلِ فيما نأىٰ عنه. و تَجويزُ ذلك يَقتَضي قَلبَ جنسِ القُدرةِ ، علىٰ ما دَلَّلنا عليه فيما مَضىٰ مِن الكتابِ .
و لَو صَحَّ ذلكَ و لَم يَفسُدْ - مِن حَيثُ يُؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه مِن بُطلانِ حُكمِ القُدرةِ - لَكانَ لا يَمتَنِعُ أن نَجعَلَ الوَجهَ في فَسادِه ما راعَيناه في القادرَينِ لأنفُسِهما، فنَقولَ : إنّ ذلكَ إذا كانَ مؤَدّياً إلىٰ «تَعذُّرِ الفِعلِ علَى القادرَينِ مِن
غَيرِ منعٍ و لا ما جَرىٰ مَجراه» فيَجِبُ إحالتُه و المَنعُ مِن صحّةِ أن يَفعَلا عَلى هذا الوجهِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ :
أ لَيسَ الفِعلُ يَمتَنِعُ عليه تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ لِغَيرِ مَنعٍ و لا ما جَرى مَجراه ؟ فقولوا بمِثلِ ذلكَ في هذا المَوضِعِ .
و ذلكَ أنّ الفِعلَ إنّما استَحالَ وجودُه فيما لَم يَزَل لوَجهٍ معقولٍ ؛ و هو أنّ وجودَه في تلكَ الحالِ يَقتَضي كَونَ المُحدَثِ قَديماً، و يؤَدّي إلىٰ قَلبِ جنسِه. و إيجادُ الذاتِ فرعٌ علىٰ صحّةِ وجودِها في نَفسِها، و لَيسَ [مثلُ ] هذا المعنىٰ (1) في المَوضِعِ الذي ذَكَرناه.
ص: 30
و بهذا الجوابِ يَسقُطُ اعتراضُ مَن اعتَرَضَ بتَعذُّرِ إيجادِ المقدورِ المُختَصِّ بالعاشرِ في الوقتِ الثاني.
لأنّا قد بيّنّا أنّ هاهنا وجهاً معقولاً؛ و هو أنّ الوقتَ الثانيَ لَيسَ بوقتٍ للمُختَصِّ بالعاشرِ، فلا يَصِحُّ وجودُه في غَيرِ وقتِه. و مِثلُ هذا(1) غَيرُ موجودٍ في الضِّدَّينِ إذا أرادَهما القادرانِ لأنفُسِهما.
و اعلَمْ أنّ هذا الدليلَ يُداخِلُ «دليلَ التمانُعِ » الذي قَدَّمناه و يُشابِهُه، و لنا في «تمييزِ أحَدِهما و تخليصِه مِن صاحبِه مِنه، علىٰ وَجهٍ يَسلَمُ معه أن يَكونا دليلَينِ في هذه المسألة» نظرٌ. و لعلَّنا أن نَكشِفَه في غَيرِ هذا المَوضِعِ ، بمَشيّةِ اللّٰهِ .
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّ في تجويزِ ثانٍ قديمٍ أو إثباتِه، إثباتاً لذاتَينِ لا تَنفَصِلُ حالُهما مِن حالِ الذاتِ الواحدةِ ، و لا بُدَّ مِن الفَصلِ بَينَ الذاتِ و الذاتَينِ بصفةٍ أو حُكمٍ ، و إلّاأدّىٰ ذلكَ إلىٰ كُلِّ جهالةٍ . و ما القولُ بإثباتِ ذاتَينِ لا يَصِحُّ أن يَختَلِفا في شيءٍ مِن صفاتِهما و أحكامِهما حَتّىٰ يَكونا كالذاتِ الواحدةِ ، إلّاكالقولِ بإثباتِ ذاتٍ واحدةٍ تَختَلِفُ صفاتُها و تَتَغايَرُ أحكامُها، حتّىٰ تَكونَ بمَنزلةِ الذاتَينِ .
و فَسادُ أحَدِ الأمرَينِ كفَسادِ الآخَرِ.
بيانُ ما ذَكَرناه: أنّ اشتراكَهما في القِدَمِ يَقتَضي اشتراكَهما في جميعِ الصفاتِ الذاتيّةِ ، و فيما يَستَحِقّانِه أيضاً مِن (152) صفاتِ المَعاني؛ لأنّ الإرادةَ إنّما تَختَصُّ أحَدَهما بأن توجَدَ(2) لا في مَحَلٍّ ، و كذلكَ الكَراهةُ . و حالُهما مع كُلِّ واحدٍ
ص: 31
منهما في بابِ الاختصاصِ كحالِهما مع الآخَرِ، فيَجِبُ أن يُريدا جميعاً بالإرادةِ و يَكرَها بالكراهةِ .
و ما يَرجِعُ مِن الصفاتِ إلَى النفسِ بتوَسُّطِ غَيرِها(1)، ككَونِهما(2) مُدرِكَينِ
لِلمُدرَكاتِ ، يَجِبُ أيضاً أن يَشتَرِكا فيه. و الأحكامُ الراجعةُ إلىٰ هذه الصفاتِ يَجِبُ تَساويهِما فيها؛ لِتَساويهِما في الصفاتِ التي تَقتَضِيها.
[ج -] و يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ مقدورُهما واحداً؛ لِتَماثُلِهما، و أنّ أحَدهما إذا قَدَرَ علىٰ مقدوراتِه لِنفسِه، وجبَ فيمَن كانَ مِثلَه و مُشارِكاً له في صفاتهِ النفسيّةِ أن يَكونَ قادراً علىٰ مقدوراتِه، و إلّاأدّىٰ ذلكَ إلىٰ كَونِهما مُتَماثِلَينِ مُختَلِفَينِ .
فلا يَصِحُّ مع هذه الجُملةِ أن يَختَصَّ أحَدُهما بصفةٍ أو حُكمٍ بسببِ الآخَرِ. و في هذا ما تَقدَّمَ ؛ مِن أنّا لَو أثبَتناهما ذاتاً واحدةً ، لَم نَزِد(3) علىٰ ذلكَ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّهما يَختَلِفانِ في الدواعي؛ بأن يَكونَ عِلمُ أحَدِهما بحُسنِ بعضِ الأفعالِ يَدعوهُ إلىٰ فِعلِه و إيجادِه، و إن لَم يَدعُ عِلمُ الآخَرِ بذلكَ إلىٰ فِعلِه، فيَنفَصِلُ حالُهما علىٰ هذا مِن حالِ الذاتِ الواحدةِ .
و ذلكَ أنّ مقدورَهما إذا كانَ (4) واحداً، فأحَدُهما مَتىٰ فَعَلَ ما تَدعوهُ الدواعي إلىٰ
ص: 32
فِعلِه، فالآخَرُ فاعِلٌ له، فقَد آلَ الأمرُ إلىٰ أنّه لا تأثيرَ لِاختلافِ الدواعي؛ لأنّ اختلافَهما إنّما يؤَثِّرُ لَو صَحَّ أن يَفعَلَ أحَدُهما ما لا يَكونُ الآخَرُ له فاعلاً، فأمّا إذا كانَ ما يَفعَلُه الواحدُ هُوَ فِعلٌ للآخَرِ، فلا تأثيرَ لِاختلافِ الدواعي؛ لأنّهما لو اتَّفَقا في الدواعي لَم يَزِدِ الحالُ علىٰ هذا.
و بَعدُ، فإنّ ذلك يوجِبُ فَساداً آخَرَ؛ و هو أن يَكونَ الفِعلُ فِعلاً لِمَن لا داعِيَ له إليه مع العِلمِ بحالِه، و هذا ظاهِرُ البُطلانِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ طريقةَ الفَصلِ بَينَ كَونِهما ذاتاً واحدةً و ذاتَينِ ، أن يُفعَلَ العِلمُ الضروريُّ فينا بتَغايُرِهما، و أنّهما اثنانِ و إنِ استَوَيا في الصفاتِ كُلِّها.
و ذلكَ أنّ طريقَ إثباتِ القَديمِ إذا كانَ هو الدليلَ ، فيَجِبُ أن تَكونَ صفاتُه و أحكامُه معلومةً مِن هذا الطريقِ أيضاً، و لا بُدَّ أن يَكونَ في الأدلّةِ ما يَقتَضي الفَصلَ بَينَ كَونِه واحداً أو اثنينِ .
و مَتىٰ كانا اثنَينِ فلا بُدَّ أن يَكونا في أنفُسِهما علىٰ ما يَقتَضي تمييزَهما مِن الذاتِ الواحدةِ ، مِن غَيرِ أن يُرجَعَ في التمييزِ إلىٰ نَفسِ العِلمِ ؛ لأنّ العِلمَ إنّما يَتعلَّقُ بالشيءِ علىٰ ما هو عليه، إلّاأنّه(1) يَجعَلُه على ما هو عليه، فيَبقَى أن يَتميَّزا في نُفوسِهما بما هُما عليه مِن الصفاتِ و الأحكامِ ؛ حَتّىٰ يَتعلَّقَ العِلمُ بكَونِهما كذلكَ .
و متىٰ ساغَ التعلُّقُ في هذا المَوضِعِ بالعِلمِ في بابِ الأمرِ المُتميِّزِ(2)، ساغَ لِمُدَّعٍ أن
ص: 33
يَدَّعيَ (1) أنّ مع كُلِّ عِلّةٍ مؤَثِّرةٍ - كالعِلمِ و الحركةِ و ما أشبَهَهما - عِلّةً أُخرىٰ تؤَثِّرُ تأثيرَهما بعَينِه.
فإذا قيلَ له: لا حُكمَ لِما تَدَّعيه مِن العِلّةِ ، و لا فَرقَ بَينَ وجودِها و انتفائها، و لا يُمكِنُ أن تَزيدَ الحالُ لَو كانَت العِلّةُ واحدةً علىٰ ما هي عليه الآنَ ، فَزَعَ (2) إلىٰ ما سألَنا عنه، و قالَ : يُمكِنُ الفَصلُ بَينَ وجودِها و انتفائِها، و بَينَ أن تَكونَ (3) عِلّةً و عِلّتَينِ ؛ بأن يُفعَلَ فينا(4) العِلمُ الضروريُّ بذلكَ . و هذا طريقُ الجَهالاتِ .
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ الفَصلُ بَينَ أن يَكونَ القَديمُ واحداً، و بَينَ أن يَكونا اثنَينِ ، هو أنّهما إذا كانا اثنَينِ ، و تُوُهِّمَ خُروجُ أحَدِهما مِن كَونِه قادراً، يَصِحُّ مِنَ الآخَرِ الفِعلُ ، و إذا كانَ واحداً لَم يَصِحَّ ذلك ؟ و هذا حُكمٌ معقولٌ ، و فَرقٌ بَيِّنٌ في بابِ تمييزِ الواحدِ مِن الاثنَينِ .
قُلنا: هذا تقديرٌ لأمرٍ مُستَحيلٍ ؛ فكيفَ يُعلَّقُ به الفَصلُ (153) بَينَ الواحدِ و الاثنَينِ؟ و هذا الفَصلُ لا بُدَّ مِن ثُبوتِه و حُصولِه في كُلِّ حالٍ ؛ و كيفَ يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ ما لا بُدَّ مِن ثُبوتِه بما يَستَحيلُ ثُبوتُه ؟
و بَعدُ، فإنّ هذا الاعتراضَ يُمكِنُ في جميعِ العِلَلِ ؛ بأن يُقالَ : إنّ مع كُلِّ عِلّةٍ توجِبُ حالاً، عِلّةً أُخرىٰ تُؤَثِّرُ تأثيرَها.
ص: 34
فإذا قيلَ : لَو كانَ كذلكَ لَظَهَرَ للتأثيرِ أثَرٌ(1)، و لَكانَ هاهنا فَرقٌ بَينَ وجودِها و انتفائِها.
أمكَنَ أن يقالَ : الفَرقُ بين ثُبوتِ الثانيةِ و انتفائِها، هو أنّ مع العِلّتَينِ إذا تَوَهَّمنا خُروجَ واحدةٍ عن الإيجابِ ، لَم يَنتَفِ الحُكمُ و لا أخَلَّ ذلكَ به، و في الواحدةِ لا يَتِمُّ مِثلُ هذا، بَل مَتىٰ قَدَّرنا انتفاءَها فلا بُدَّ مِن انتفاءِ الحُكمِ .
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ نَفيِ ثانٍ قديمٍ أنّ في إثباتِه إثباتاً لِحَيَّينِ ، يَستَحِيلُ أن يُريدَ أحَدُهما ما يَكرَهُه الآخَرُ أو لا يُريدُه، بَل يوجِبُ استحالةَ كَونِ أحَدِهما مُريداً علىٰ وجهٍ مِن الوُجوهِ ، مِن غَيرِ أن يَكونَ الآخَرُ مُريداً.
و قَد(2) عُلِمَ في كُلِّ حَيَّينِ صحّةُ كَونِ أحَدِهما مُريداً و الآخَرِ كارهاً، أو غَيرَ مريدٍ،
[و] كُلُّ ما(3) أدّىٰ إلىٰ خِلافِ المعلومِ مِن ذلكَ يَجِبُ إبطالُه. و المؤَدّي إليه إثباتُ قَديمَينِ ؛ مِن حَيثُ كانَت الإرادةُ التي يُريدُ بها أحَدُهما لا تَختَصُّه(4) دونَ صاحبِه؛ و كيفَ تَختَصُّه دونَ الآخَرِ، و هي إنّما توجِبُ له حالَ المُريدِ، بأن توجَدَ لا في مَحَلٍّ؟ فتَعلُّقُها بأحَدِهما كتَعلُّقِها بالآخَرِ.
ص: 35
فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن تَكونَ القضيّةُ التي أطلَقتُموها غَيرَ واجبةٍ ، و أنّ الحَيَّينِ إنّما يَصِحُّ أن يَكونَ أحَدُهما مُريداً و الآخَرُ كارهاً إذا كانَ ما يُريدُه أحَدُهما يَختَصُّه دونَ الآخَرِ، فلا يَجِبُ ذلكَ فيمَن [هو](1) يُريدُ بإرادةٍ ، اختصاصُها به كاختصاصِها بغَيرِه ؟
قلنا: ما ذَكَرناه مِن صحّةِ كَونِ أحَدِ الحَيَّينِ مُريداً دونَ الآخر(2)، أصلٌ مُقَرَّرٌ في العُقولِ مُطلَقٌ فيها، فلا يَجوزُ الاعتراضُ عليه بالتقييدِ و التخصيصِ .
كما أنّه مِنَ المُقَرَّرِ فيها صحّةُ كَونِ أحَدِ الحَيَّينِ عالِماً و الآخَرِ غَيرَ عالِمٍ ، و كَونِ أحَدِ الموصوفَينِ علىٰ صفةٍ و إن لَم يَكُنِ الآخَرُ عليها؛ ألا تَرى أنّه سَبَقَ ما ذَكَرناه مِن العُلومِ في العُقولِ ، العِلمَ بكيفيَّةِ اختصاصِ المُريدِ بإرادتِه، و الموصوفِ بما يوجِبُ (3) له الصفةَ؟ و لَو كانَ مُقيَّداً بكيفيّة اختصاصِ المُريدِ بإرادتِه لَم يَكُن مُطلَقاً، و تَوَقَّفَ العِلمُ بما ذَكَرناه مِن القضيّةِ علىٰ هذا التَفصيلِ و التميّزِ(4)، و قد عُلِمَ خِلافُه.
و ما مِثالُ مَن قَسَّمَ هذا العِلمَ و فَصَّلَه، إلّاكمَن قَسَّمَ العِلمَ المُتقرِّرَ في العُقولِ :
بأنّ المَعلومَ لا يَخلو مِن أن يَكونَ موجوداً أو معدوماً، و الموجودَ لا يَخلو مِن أن يَكونَ قَديماً أو مُحدَثاً؛ كما نَقَلَتِ الكُلّابِيّةُ (5) و مَن وافَقَها. و لا طريقَ إلىٰ إفسادِ قولِ
ص: 36
الجَميعِ إلّابالرُّجوعِ إلىٰ ما ذَكَرناه، مِن اعتبارِ ما تَقَرَّرَ إطلاقُه في العُقولِ ، و المنعِ مِن نَقضِه و تخصيصِه.
علىٰ أنّه لا يَخلو الحَيّانِ مِن أن تَكونَ القضيّةُ التي ذَكَرناها إنّما وَجَبَت مِنهما لِكَونِهما حَيَّينِ - علىٰ ما ذَكَرناه - أو لأنّ إرادةَ كُلِّ واحدٍ منهما تختصُّه(1). و لا يَجوزُ أن يكونَ ذلكَ الوَجهَ الثانيَ ؛ لأنّ صحّةَ كَونِ أحَدِهما مُريداً لِما يَكرَهُه الآخَرُ أو لا يُريدُه، حُكمٌ يَرجِعُ إليهما، و يَجِبُ أن يَكونَ المؤثِّرُ فيه صفةً تَعودُ أيضاً إليهما. و وجودُ الإرادةِ في بعضِ أحدِهما دونَ الآخَرِ لَيسَ ممّا يَرجِعُ إلَى الجُملةِ ؛ فكيفَ يؤثِّرُ في حُكمٍ يَعودُ إليها؟ و إن كانَ ذلكَ إنّما وَجَبَ لِكَونِهما حَيَّينِ ، فهو الذي قَصَدناه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ المُصَحِّحَ لِما اعتَبرناه مِن القضيّةِ كَونَهما حَيَّينِ ، لكِن بشرطِ [أن] لا تَكونَ إرادتُهما موجودةً علىٰ وجهٍ لا تَختَصُّ (2) معه بأحَدِهما دونَ الآخَرِ. (154)
و ذلكَ أنّ هذا عندَ التحقيقِ يَقتَضي اشتراطَ الشيءِ بنفسِه؛ لأنّ مَعنىٰ ما ذَكَرناه مِن أنّ إرادتَهما لا تَكونُ بحيثُ لا تَختَصُّ ، لَيسَ بأكثَرَ مِن أنّ أحَدَهما يَصِحُّ أن يُريدَ ما لا يُرِيدُه الآخَرُ. و كأنّه يُشتَرَطُ الشيءُ بنفسِهِ (3).
ص: 37
و يُمكِنُ أن يُستَدَلَّ بالسمعِ علىٰ نَفيِ ثانٍ قديمٍ ؛ لأنّ تجويزَ ذلكَ و الشكَّ فيه لا يَمنَعُ مِن العِلمِ بأنّه عالِمٌ بقُبحِ القَبيحِ ، و بأنّه غَنيٌّ عنه، و هذا الأصلُ هو الذي لا يَصِحُّ معرفتُه بالسمعِ .
ص: 38
[الفصل الخامس] [في الردِّ على الأديان المخالفة في صفاته تعالىٰ ](1)
فأمّا القولُ بالاثنَينِ فقد دَخَلَ فَسادُه فيما مَضىٰ مِن كتابِنا؛ لأنّهم يُثبِتونَ قِدَمَ النُّورِ و الظُّلمةِ (1)، و هما جسمانِ ، و قد دَلَّلنا فيما تَقدَّمَ علىٰ حُدوثِ جميعِ الأجسامِ (2).
علىٰ أنّ إثباتَهم النُّورَ و الظُّلمةَ قَديمَينِ ، يَمنَعُ مِن اختلافِهما؛ لأنّا قد بيّنّا(3) فيما مَضىٰ أنّ القَديمَ قَديمٌ لنفسِه(4)، و أنّ المُشارِكَ له في هذه الصفةِ يَجِبُ أن يَكونَ مِثلاً له. و مِن قولِهم: إنّ النُّورَ و الظَّلمةَ مُختَلِفانِ ، و هذا تَناقُضٌ (5).
و بَعدُ، فإنّهم يَقولونَ : إنّ النُّورَ يَفعَلُ الخَيرَ بطَبعِه(6)، و الظُّلمةَ تَفعَلُ (7) الشَّرَّ بطَبعِها، و هذا ممّا قد عُلِمَ فَسادُه؛ مِن حَيثُ دَلَّ (8) الدليلُ علىٰ أنّ الفِعلَ لا يَقَعُ بالطَّبعِ ، و أنّ ما اقتَضىٰ بابَ الفِعلِ يَقتَضي كَونَه مُختاراً، فلا فَرقَ بَينَ مَن نَفاه و بَينَ مَن أثبَتَه علىٰ خِلافِ الوجهِ الذي يَقتَضي الدَّليلُ إثباتَه عليه.
علىٰ أنّهم يُثبِتونَ الفِعلَ مِن كُلِّ فاعلٍ بطَبعِه، و هذا معلومٌ ضَرورةً فَسادُه؛ لأنّه يوجِبُ دَفعَ الاختيارِ الذي نَعلَمُه مِن أنفُسِنا ضَرورةً .
ص: 40
و علىٰ قولِهم بالمِزاجِ بَينَ النُّورِ و الظُّلمةِ (1)، و أنّ العالَمَ مُشتَرَكٌ بَينَهما(2)، يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ كُلُّ جِسمٍ حَيّاً(3)، و لا شُبهةَ (4) في أنّ بَعضَ الأجسامِ بهذه الصفةِ دونَ بعضٍ . و قدِ استَقصَىٰ مَن تَقدَّمَ الكلامَ عليهم في المِزاجِ و كيفيّتِه و سببِه.
و أقوىٰ ما قيلَ لهم في ذلك(5): أنّ الأصلَينِ القائمَينِ ...(6) [في] ما لَم يَزَل عندَكُم، لَيسَ يَخلو إثباتُهما مِن أن يَكونَ لطَبعِهما، أو لوجودِ معنىً ، أو لاختيارِ مُختارٍ.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ ذلكَ لمعنىً ، و لا لِاختيارِ مُختارٍ؛ لأنّه يوجِبُ إثباتَ أصلٍ ثالثٍ (7)، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ للطَّبعِ (8)، و ما يَقتَضيهِ الطَّبعُ لا يَتغيَّرُ؛ فكيفَ حَصَلَ المِزاجُ بَينَهما، و طَبعُهما يَقتَضي التبايُنَ و التنافُرَ؟ و هذا يُبطِلُ القولَ بالمِزاجِ ؛ سَواءً أضافوه إلَى اختيارِ الظُّلمةِ أو النُّورِ، أو إلى الاتِّفاقِ . و الكلامُ في هذا الجنسِ يَطولُ ، و طريقةُ الكلامِ عليهم فيه معروفةٌ .
و بعدُ، فإنّ مَذهَبَهم يؤَدّي إلىٰ قُبحِ الأمرِ و النَّهيِ ، و المَدحِ و الذَّمِّ ، و معلومٌ حُسنُ ذلكَ في العُقولِ .
و إنّما قُلنا: إنّه يؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه؛ لأنّ الأمرَ بالحَسَنِ لا يَخلو عندَهم مِن أن يَكونَ متوجِّهاً إلَى النُّورِ، أو الظُّلمةِ .
ص: 41
فإن كانَ مُتَوجِّهاً إلَى النُّورِ، فهو مطبوعٌ (1) علَى الخَيرِ لا يَتمكَّنُ مِن الانفكاكِ عنه، و مَن هذه حالُه لا يَحسُنُ أمرُه، كما لا يَحسُنُ أمرُ مَن هَوىٰ مِن شاهقٍ (2)بالنُّزولِ و الهُوِيِّ .
و إن كانَ مُتَوجِّهاً إلَى الظُّلمةِ ، فهي مطبوعةٌ (3) علَى الشَّرِّ، لا تَقدِرُ على الخَيرِ؛ فكيفَ تؤمَرُ بما لا تَقدِرُ(4) عليه، و هي مطبوعةٌ (5) علىٰ خِلافِه ؟ و أمرُ العاجِزِ و مَن لَيسَ بقادرٍ قَبيحٌ في العُقولِ .
و كذلكَ القولُ في النَّهيِ (6) عن القَبيحِ إذا قَسَمناه هذه القِسمةَ ؛ لأنّه إن تَوَجَّهَ إلَى النُّورِ، فهو عندَهُم لا يَقدِرُ علَى القَبيحِ ، و لا يَتأتّىٰ مِنه؛ فكيفَ يُنهىٰ عنه ؟
و إن تَوجَّهَ إلَى الظُّلمةِ ، فهي مطبوعة(7) علَى القَبيحِ ، فكيفَ تُنهىٰ (8) عنه، و [هي] لا تَتمكَّنُ مِن الانفِكاكِ مِنه ؟
و إذا بَطَلَ الأمرُ و النَّهيُ ، بَطَلَ المَدحُ و الذَّمُّ ؛ لأنّ ما له يَقبُحُ الجَميعُ واحدٌ، و قد
أشرنا إليه.
و هذا الكَلامُ يَلزَمُ الدَّيْصانيّةَ (9) مِن وَجهٍ ؛ لأنّهم يُثبِتونَ (155) الظُّلمةَ مَواتاً غَيرَ
ص: 42
حَيّةٍ (1)، فقَد زادوا الإلزامَ قوّةً ، و يَجِبُ أن لا يَحسُنَ أمرُ الظُّلمةِ و لا نَهيُها؛ لأنّها مَواتٌ لا تَعقِلُ الأمرَ و النَّهيَ ، و لأنّها مطبوعةٌ .
و الذي دَعا هؤلاءِ إلىٰ إثباتِ أصلَينِ ، اعتقادُهم تَضادَّ الخَيرِ و الشَّرِّ، و اختلافَ أجناسِهما، و أنّهما إذا كانا كذلكَ لَم يَصِحَّ أن يَقَعا مِن فاعلٍ واحدٍ.(2)
و أنّ ما في هذا: أنّ الخَيرَ و الشَّرَّ لا يَتَضادّانِ و لا يَختَلِفانِ مِن حَيثُ كانا خَيراً و شَرّاً، و كذلك النفعُ و الضررُ، بل رُبَّما كانا مِن جنسٍ واحدٍ؛ ألَاتَرىٰ أنّ اللَّذّةَ مِن جنسِ الألَمِ؟ و لهذا يَألَمُ زَيدٌ بما يَلتَذُّ(3) به عَمرٌو، إذا(4) كانَ أحَدُهما مُشتَهياً و الآخَرُ نافراً. و كذلك الصِّدقُ مِن جنسِ الكَذِبِ ؛ لأنّ السامِعَ لهما لا يُميِّزُ بَينَهما، و يشتبهان(5) عليه عندَ إدراكِهما. بل نَفسُ ما يَكونُ صِدقاً يُمكِنُ أن يَقَعَ كَذِباً باختلافِ قَصدِ فاعلِه و المُخبِرِ به. و القَبيحُ أيضاً مِن جنسِ الحَسَنِ (6)؛ لأنّ لَطمةَ اليَتيمِ علىٰ سَبيلِ التأديبِ مِن جنسِ لَطمَتِه علىٰ سَبيلِ الظُّلمِ ، و قد استُقصِيَ ذلك في غَيرِ مَوضِعٍ ، فبَطَلَ ما ظَنّوه مِن تَضادِّ الخَيرِ و الشَّرِّ.
ص: 43
و لَو سُلِّمَ أنّ ذلكَ مُتَضادٌّ مُختَلِفٌ ، لَم يَكُن تَضادُّه بأقوىٰ مِن تَضادِّ الأكوانِ في الأماكنِ المُختَلِفَةِ ، و الإرادةِ و الكَراهةِ ، و العِلمِ و الجهلِ ، و قد عُلِمَ وقوعُ كُلِّ ذلكَ مِن فاعلٍ واحدٍ، [فوقوعُ الخَيرِ و الشَّرِّ مِن فاعلٍ واحدٍ](1) أولى.
علىٰ أنّ نَفسَ الخَيرِ قد يَتَضادُّ و تَختَلِفُ أجناسُه، و كذلكَ الشَّرُّ، و لَم يَجِبْ عندَهُم أن يُثبِتوا لِكُلِّ جنسٍ مِن الخَيرِ فاعلاً، بَل أضافوا كُلَّ الخَيرِ إلىٰ فاعلٍ واحدٍ.
و هذا يُبطِلُ أنّ تَضادَّ الأجناسِ و اختلافَهما يوجِبُ اختلافَ الفاعِلَينِ .
و لَيسَ لهم أن يقولوا: لَو وَقَعَ الخَيرُ و الشَّرُّ مِن فاعلٍ واحدٍ، لَوجبَ أن يَستَحِقَّ في الوقتِ الواحدِ المَدحَ و الذَّمَّ معاً.
و ذلكَ أنّ هذا جائزٌ عندَ مَن لَم يُثبِتِ الإحباطَ و التكفيرَ(2). و مَن يُثبِتُهما(3) يَقولُ :
إنِ استَوىٰ ما يَفعَلُه مِن الخَيرِ و الشَّرِّ في مقدارِ المُستَحَقِّ عليه، لَم يَستَحِقَّ ذَمّاً و لا مَدحاً؛ و إن زادَ أحَدُهما علَى الآخَرِ، ثَبَتَ له الزائدُ و بَطَلَ الآخَرُ، فلا يَكونُ مُستَحِقّاً للأمرَينِ معاً.
و ممّا يُنبئُ عن فَسادِ مَذاهِبِهم: أنّا وَجَدنا حَوادِثَ كثيرةً تَغُمُّ قوماً و تَسُرُّ آخَرينَ ، و تَنفَعُ قوماً و تَضُرُّ سِواهم، و تَكونُ (4) مِن وَجهٍ نَفعاً و مِن الآخَرِ ضَرَراً؛ ألَاتَرىٰ أنّ بعضَ الأطعمةِ تَنفَعُ الصَّحيحَ و تَضُرُّ العَليلَ ، و أخذُ المالِ علىٰ وَجهِ الغَصْبِ يَضُرُّ بالمأخوذِ منه و يَنفَعُ الآخِذَ؟ و هذا أكثَرُ مِن أن يُحصىٰ و يُحصَرَ. و قد قال الشاعرُ:
ص: 44
أعتَقَني سوءُ ما صَنَعتُ مِن الرِّ *** قِّ فَيا بَردَها علىٰ كَبِدي
فصِرتُ عَبداً لِلسوءِ فيكَ و ما *** أحسَنَ سوءٌ قَبلي إلىٰ أحَدِ(1)
فبَيَّنَ كما تَرى أنّه انتَفَعَ بالسُّوءِ مِن وجهٍ مِنَ (2) الوجوهِ .
فأمّا وقوعُ الضررِ بالأجسامِ النيِّرةِ ، و النفعِ بالأجسامِ المُظلِمةِ ، فهو الأظهَرُ مِن أن يَخفىٰ ؛ و ذلكَ أنّ سَوادَ الليلِ يُخفي المطلوبَ ظُلماً عن طالبِه، و بَياضَ النَّهارِ قد يَكونُ سبباً للظَّفَرِ به. و الرَّمَدُ(3) يَنتَفِعُ بالظُّلمةِ و يَستَضِرُّ بالضَّوءِ ، و بسَوادِ النَّقشِ تَتِمُّ الكِتابةُ و تُضبَطُ الأُمورُ و تُكتَبُ العُهودُ؛ و قد قالَ الشاعرُ:
و كَم لظَلامِ اللَّيلِ عندَكَ مِن يَدٍ *** تُخبِّرُ أنّ المانَويّةَ (4) تَكذِبُ
و قال أيضاً:
أزورُهم و سَوادُ اللَّيلِ يَشفَعُ لي *** و انثَني و بَياضُ الصُّبحِ يُغري بي(5)
و ممّا سُئلوا عنه أن قيلَ لهم: خَبِّرُونا عن «المُعتَذِرِ مِن جُرمِه»؛ مَن هو؟
فإن قالوا: النُّورُ، أضافوا [إليه] القَبيحَ !
و إن قالوا: الظُّلمةُ ، أضافوا إليها التَّوبةَ و هي حَسَنَةٌ !
ص: 45
و إن قالوا: المُسيءُ جُزءٌ مِن الظُّلمةِ و المُعتَذِرُ جُزءٌ مِن النُّورِ.
قُلنا: هذا باطلٌ ؛ لِما فَرَضناه(1) مِن اعتذارِ المُعتَذِرِ مِن جُرمِه و ممّا يَعلَمُ أنّه جَناه،
و هذا معلومٌ ضَرورةً .
علىٰ أنّ الفاعلَ هو جُملةُ الإنسانِ دونَ أجزائِه، فكيفَ يَصِحُّ إضافةُ الأفعالِ (156) إلىٰ أجزائِه ؟!
علىٰ أنّ اعتذارَ مَن لَم يَفعَلِ القَبِيحَ قَبيحٌ ، و النُّورُ لا يَقَعُ عندَهم مِنه القَبيحُ ، فيَجِبُ أن يَكونَ المُعتَذِرُ هو المُذنِبَ ، حتّىٰ يَكونَ الاعتذارُ حَسَناً.
و كذلكَ (2) يُسألونَ عنِ «العالِمِ بأنّه مسيءٌ »؛ مَن هو؟
فإن قالوا: النُّورُ، فذلِكَ يَقتَضي إضافةَ الإساءةِ (3) إليهِ !
و إن قالوا: الظُّلمةُ ، فالعِلمُ صفةُ مَدحٍ لا تَليقُ بالظُّلمةِ علىٰ مَذاهِبِهم!
و كذلكَ يُسأَلونَ عن القائلِ «بأنّه ظالِمٌ شِرّيرٌ»:
فإن كانَ النُّورَ، وجبَ أن يَكونَ كاذباً!
و إن(4) كانَتِ الظُّلمةَ ، فهي صادقةٌ في هذا الخبرِ، فيَجِبُ أن يُضافَ الصِّدقُ - و هو خيرٌ(5) - إليها!
و ما يُناقَضونَ به كثيرٌ، و فيما أشَرنا إليه كفايةٌ .
***
ص: 46
[2] [فَصلٌ ] [في](1) الكلامُ علَى المَجوسِ
فمنهم: مَن زَعَمَ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ و الشَّيطانَ معاً جسمانِ قَديمانِ .
و منهم مَن قالَ : إنّه تَعالىٰ جسمٌ ، و الشَّيطانُ لَيسَ بجسمٍ .
وَ الآخَرونَ قالوا: الشَّيطانُ جسمٌ ، و اللّٰهُ تَعالىٰ غَيرُ جسمٍ .
و أكثَرُهم يَذهَبُ إلىٰ أنّه تَعالىٰ قَديمٌ و الشَّيطانُ مُحدَثٌ ، و أنّه حَدَثَ عن فِكرةٍ (2).
و قولُهم في أنّ الألَمَ لا يَكونُ إلّاقَبيحاً، و اللَّذَّةَ لا تَكونُ إلّاحَسَنةً ، و أنّهما لا يَقَعانِ مِن فاعلٍ واحدٍ(3)، يُضاهي قولَ الثَّنَويّةِ . و هذا [هو] الّذي دَعاهم إلىٰ إثباتِ فاعلَينِ ؛ يَختَصُّ أحَدُهما بالخَيرِ و الآخَرُ بالشَّرِّ.
و قد مَضَى الكلامُ علىٰ مَن أثبَتَه جسماً في بابِ نَفيِ الشَّبيهِ (4).
و مَضىٰ أيضاً الكلامُ في حُدوثِ الأجسامِ (5)، و أنّ الجسمَ لا يَجوزُ أن يَكونَ
قديماً، فبَطَلَ قولُ مَن أثبَتَ الشَّيطانَ قَديماً مع أنّه جسمٌ .
ص: 47
و مَضَى الكلامُ - في الرَّدِّ علَى الثَّنَويّةِ - علىٰ مَن أثبَتَ فاعِلَينِ للخَيرِ و الشَّرِّ، و بيّنّا(1) أنّ الخَيرَ و الشَّرَّ لا يَختَلِفانِ و لا يَتَضادّانِ مِن حيثُ كانا خَيراً و شَرّاً، و أنّهما لَو اختَلَفا و تَضادّا لَصَحّا مِن فاعلٍ واحدٍ؛ كصحّةِ الأفعالِ مُتَضادّةً في الشاهدِ مِن الفاعلِ الواحدِ.
و الكلامُ في أنّ الآلامَ تَحسُنُ و تَقبُحُ ، و اللذّةُ ممّا يَقبُحُ و يَحسُنُ ، يَجيءُ فيما يأتي من الكتابِ (2).
و أمّا الكلامُ علىٰ مَن أثبَتَ مِنهم حُدوثَ الشَّيطانِ ، فهو أن يُقالَ له: لا يَخلو عندَكَ مِن أن يكونَ حادثاً لا مُحدِثَ له، أو يكونَ مُحدِثُه القَديمَ تَعالىٰ ، و حَدَثَ عن فِكرِه و شَكِّه؛ علىٰ ما تَهوَّسوا به.
و لا يَجوزُ أن يكونَ لا مُحدِثَ له؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ تَجويزِ مِثلِ ذلك في جميعِ الحَوادثِ مِن الأجسامِ و الأعراضِ ، و هذا يُبطِلُ إثباتَ القَديمِ تَعالىٰ و الشَّيطانِ (3) جميعاً.
علىٰ أنّا قد دَلَّلنا فيما سَلَفَ مِن الكِتابِ علىٰ أنّ المُحدَثَ يَحتاجُ إلىٰ المُحدِثِ مِن حَيثُ كانَ مُحدَثاً(4)، و لا يَصِحُّ مع ذلكَ إثباتُ مُحدَثٍ لا مُحدِثَ له.
و لا يَجوزُ أن يَكونَ القَديمُ (5) تَعالىٰ علىٰ مَذهَبِهم هو المُحدِثَ للشَّيطانِ ؛
ص: 48
لأنّه أصلُ المَضارِّ عِندَهُم، و إذا جازَ أن يُحدِثَه مع كَونِه ضرراً، جازَ أن يُحدِثَ سائرَ المَضارِّ، و يَستَغنيَ عن إثباتِ شَيطانٍ يَختَصُّ بفِعلِ ذلكَ (1).
و لَيسَ لهم أن يقولوا: فأنتم تَقولونَ : إنّه يَفعَلُ الشَّيطانَ و كُلَّ فاعلٍ للقبيحِ ، و إن لَم يَجُز أن يَفعَلَ نفسَ القَبيحِ ؛ فكيفَ ألزَمتُمونا ما يَلزَمُكم ؟
و ذلكَ أنّ الشَّيطانَ عندَهم مطبوعٌ علَى الشَّرِّ، و الخَيرُ مُستَحيلٌ فيه، فهو كالسببِ في المَضارِّ و الشُّرورِ، فخَلقُه يَجري مَجرىٰ ما هو سببٌ فيه. و عندَنا أنّ الشَّيطانَ و غَيرَه مِن فاعلِي القَبيحِ مُختارونَ للقَبيحِ ، قادِرونَ علَى الامتناعِ مِنه، فخَلقُهم و تَمكينُهم - مع تكليفِهم الامتناعَ مِن القَبيحِ الذي يَقدِرونَ علَى الامتناعِ منه - حَسَنٌ غَيرُ قَبيحٍ .
و لهذا(2) المعنىٰ قالَتِ المَجوسُ (3): إنّ الحَيّاتِ و العَقارِبَ و ما جَرىٰ مَجراهما
مِن فِعلِ الشَّيطانِ ، و إن لَم تَكُن ضرراً في نُفوسِها، لكِن مِن حَيثُ كانَت كالسببِ في الضررِ و الآلةِ فيه. و الشَّيطانُ يَجري عندَهم مَجراها؛ فكيفَ يَكونُ مِن فِعلِ الحَكيمِ (157) تَعالىٰ؟
فأمّا مَن أثبَتَ الشَّيطانَ مُتَوَلِّداً(4) عن الفِكرةِ : فالّذي يُبطِلُ (5) قَولَه، ما تَقدَّمَ مِن الدَّلالةِ علىٰ أنّ المُحدَثَ لا بُدَّ له مِن مُحدِثٍ قادرٍ مختارٍ(6).
و بَعدُ، فإذا كانَ تَعالىٰ هو المُحدِثَ لذلكَ الفِكرِ أو الشكِّ الذي حَدَثَ الشَّيطانُ
ص: 49
عنه؛ لأنّهم(1) إن أثبَتوه قَديماً، لَم يَجُز علىٰ مَذهَبِ مَن أفرَدَه تَعالىٰ بالقِدَمِ ، فيَجِبُ علىٰ هذا أن يَكونَ الشَّيطانُ مِن فِعلِه، و إن كان(2) بواسطةٍ ؛ لأنّ فاعلَ السببِ هو فاعلُ المُسَبَّبِ . و إذا جازَ أن يُحدِثَ ما يَتولَّدُ عنه الشَّيطانُ ، جازَ أن يُحدِثَ الشَّيطانَ و سائرَ المَضارِّ ابتداءً .
و بَعدُ، فإنّ مِن شأنِ ما يوجِبُ الضررَ، أن يَكونَ في حُكمِه عندَ العقلاءِ ، فالفِكرُ علىٰ هذا إذا كانَ موجِباً للضررِ، يَجِبُ أن يَكونَ في نفسِه له حُكمُ الضررِ، و لا فَرقَ بَينَه و بَينَ سائرِ المَضارِّ.
و ما ناقَضنا به الثَّنَويّةَ ، و بيّنّا به صحّةَ وقوعِ القَبيحِ (3) و الحَسَنِ مِن فاعلٍ واحدٍ، مِن المسائلِ التي ذَكَرناها - كمَن قَتَلَ ثُمّ نَدِمَ و غَيرِ ذلكَ (4) - يَصلُحُ أن يُناقَضَ به أيضاً هؤلاءِ ، فلا معنىٰ لإعادتِه.
***
اعلَمْ أنّ إبطالَ المَذهَبِ فَرعٌ علىٰ كَونِه معقولاً مُمكِناً اعتقادُه، و الظاهرُ مِن قولِ
ص: 50
النَّصارى في التثليثِ تَناقُضٌ ، لا يُمكِنُ أن يَعتَقِدَه علىٰ ظاهرِه عاقِلٌ . و لَو كانوا صَرَّحوا بالتثليثِ - كما صَرَّحَ غَيرُهم بالتثنيةِ - لَكانَ ما تَقدَّمَ مِن أدلّةِ التوحيدِ كافيةً للاحتجاجِ (1) عليهم.
و نَحنُ نَقسِمُ (2) ما يَحتَمِلُه قَولُهم قِسمةً لا زيادةَ عليها، فنَقولُ :
لا يَخلو مُرادُهم بقولِهم: «إنّه جَوهرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ »:
أنّ الواحدَ علَى الحقيقةِ ثلاثةٌ على الحقيقةِ .
أو يَكونُ معناه أنّه جُملةٌ واحدةٌ ذاتُ أجزاءٍ كثيرةٍ ، كما نقولُ في الإنسانِ : إنّه واحدٌ، و إن كانَ ذا أجزاءٍ كثيرةٍ .
أو يُريدونَ بذلكَ أنّه واحدٌ، و أنّ له عِلماً و قُدرةً و حَياةً (3)، كما قالت الكُلّابيّةُ .
أو يُريدونَ به [أنّه] ذاتٌ واحدةٌ يَختَصُّ بصفاتٍ ؛ مِثلُ كَونِه قادِراً و عالِماً و حَيّاً.
و القولُ الأوّلُ : مُتَنافٍ مُتَناقضٌ ، لا يجوزُ أن يَعتَقِدهُ عاقلٌ ؛ لأنّ في إثباتِ الواحدِ نفياً للزيادةِ عليه؛ مِن الثاني و الثالثِ و كُلِّ الأعدادِ، فإذا قُلنا: «ثَلاثةٌ » أثبَتنا ما نَفَيناه بعَينِه.
و القولُ الثاني: فاسِدٌ؛ لأنّه تَعالىٰ ذاتٌ واحدةٌ ، و الجُملةُ لا تَكونُ إلّاذواتٍ كثيرةً .
و ما أبطَلنا به أن يَكونَ جسماً مُؤلَّفاً، يُبطِلُ أن يَكونَ جُملةً ذاتَ أجزاءٍ .
علىٰ أنّ هذا القولَ لا يُشبِهُ ما نَقولُه في الإنسانِ : «إنّه واحدٌ و إن كانَ [مركّباً] مِن أجزاءٍ كثيرةٍ »، و العَشَرةِ «أنّها عَشَرةٌ واحدةٌ »؛ لأنّا نُثبِتُ أبعاضَ الإنسانِ مُتَغايرةً علَى
ص: 51
الحقيقةِ ، و كذلك آحادُ العَشَرةِ ، و نَقولُ : «إنّه إنسانٌ »؛ لِيُبِينَ (1) هذه الجُملةَ مِن سائرِ الجُمَلِ ، ثمّ نَقولُ : «واحدٌ»؛ ليُفِيدَ أنّه واحدٌ مِن هذه الجُملةِ (2)؛ لأنّه واحدٌ علَى الحقيقةِ . و كذلكَ القولُ في العَشَرةِ : إنّه وَصفٌ يُبِينُ هذه الجُملةَ مِن سائرِ جُمَلِ الأعدادِ، ثُمّ نَقولُ : «واحدٌ» تنبيهاً علىٰ أنّه مَرّةٌ واحدةٌ (3).
فيَجِبُ أن يَقولوا - إذا أرادوا مُساواتَنا -: إنّ الأقانيمَ مُتَغايِرةٌ ، و يَصِفونَها بالواحدةِ علىٰ سَبيلِ المَجازِ، أو أنّ مُرادَهم أنّها(4) جُملةٌ واحدةٌ . و يَلزَمُ أيضاً، أن يَصِفوا بذلكَ (5) كُلَّ معدودٍ بَلَغَ ثَلاثةً ، كما نَصِفُ نَحنُ بالعَشَرةِ كُلَّ معدودٍ بَلَغَ هذا المَبلغَ .
[و القول الثالث]
فأمّا ما يَفسُدُ به قولُهم إذا قَصَدوا إلىٰ معنَى الكُلّابيّةِ ، و وَصَفوا المَعانيَ التي بها كانَ علَى الصفاتِ بأنّها (158) أقانيمُ ، فهو الذي قَدَّمناه في الردِّ علىٰ مَن أثبَتَ هذه المَعانيَ (6).
علىٰ أنّه يَلزَمُهم أن يَتَجاوَزوا الثلاثةَ (7) إلىٰ أن يُثبِتوا مِن المَعاني مِثلَ ما أثبَتَه
ص: 52
الكُلّابيّةُ ؛ لأنّه تَعالىٰ قادرٌ و سَميعٌ و بَصيرٌ، فيَجِبُ أن يُثبِتوا له قُدرةً و سَمعاً و بَصَراً(1)، و يصفوا(2) الجميعَ بأنّه أقانيمُ ، و لا يَقتَصِروا علىٰ ثلاثةٍ .
فإن قالوا: هو قادرٌ لِذاتِه(3)؛ فيَجِبُ أن يَكونَ أيضاً حَيّاً لِذاتِه، و عالِماً لذاتِه،
و نستغني عن إثباتِ الرُّوحِ و العِلمِ الذي هو عندَهم الكلمةُ (4).
و إن قالوا: قُدرَتُه هي حَياتُه و عِلمُه.(5)
قُلنا: فاجعَلوا عِلمَه هو حياتَه(6)، و استَغنُوا بذلكَ عن أحَدِ الأقانيمِ . و لَم يُمكِنهم أن يَنفوا كَونَه قادراً؛ لأنّ ذلكَ يَجري مَجرىٰ نَفيِ كَونِه حَيّاً عالِماً، و في هذا إبطالُ الأقانيمِ .
علىٰ أنّه يَلزَمُهم - إذا كانَتِ الأقانيمُ عندَهم قَديمةً -، أن لا يَختَصَّها بعضُها مِن الصفاتِ بما لا يُشارِكُه فيه الكُلُّ ؛ لأنّا قد بيّنّا فيما مَضىٰ أنّ القَديمَ قَديمٌ لنفسِه، و أنّ ما شارَكَه في القِدَمِ يَجِبُ أن يَكونَ مُماثِلاً له، أو مُشارِكاً في جميعِ ما يَختَصُّ به لِذاتِه، و هذا يوجِبُ عليهم القولَ بأنّ الابنَ أبٌ و الأبَ ابنٌ ، و الأبَ روحٌ و الرُّوحَ أبٌ ، و يَلزَمُ أيضاً أن يَكونَ للابنِ ابنٌ و للرُّوحِ (7) روحٌ ، و يَلزَمُ للابنِ روحٌ و للرُّوحِ ابنٌ ، علَى الطريقةِ التي قَدَّمناها في اعتبارِ التماثُلِ و المُشارَكةِ فيما يَرجِعُ إلَى الذاتِ .
ص: 53
فأمّا القِسمُ الرابعُ :(1) و هو أن يُريدوا بقَولِهم: «جَوهرٌ واحدٌ» أنّه موصوفٌ ، و ب «الأقانيمِ الثلاثةِ » أنّه يَختَصُّ بكَونِه حَيّاً قديماً مُتَكلِّماً.
فأوّلُ ما فيه: أنّه يُخالفُ ما يُصَرِّحُ به النَّصارىٰ مِن مَذهَبِهم(2) في الجَوهرِ و الأقانيمِ ؛ ألَاتَرىٰ أنّ مِن مَذهَبِهم أنّ الابنَ يَتَّحِدُ بعيسىٰ (3)، فيَخُصّونَ الابنَ بالاتّحادِ(4)؟ و لَو كانَ القَديمُ عندَهم شيئاً واحداً، لَم يَكُن هذا القولُ صحيحاً؛ لأنّه كانَ يَقتَضي أنّ الذي اتَّحَدَ هو الذي لَم يَتَّحِدْ!
و إنّما فَزِعَ (5) مَن تأَخَّر منهم إلىٰ هذا التأويلِ ، لمّا رأىٰ فَسادَ غَيرِه و قُوّةَ الكلامِ عليه.
و مَن صارَ إلىٰ هذا القولِ فإنّما يُخالِفُ في العبارةِ دونَ المعنىٰ ، و هو مُخطئٌ علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ الشيءَ الواحدَ لا يَجوزُ وَصفُه بالأعدادِ الكثيرةِ ، إذا اختَصَّ بالصفاتِ الكثيرةِ ؛ يُبيِّنُ ذلكَ أنّ السوادَ لا يَصِحُّ وصفُه بأنّه مِن ثلاثةٍ مِن حيثُ كانَ موجوداً و سَواداً و مُحدَثاً، و كذلك الجَوهرُ مِن حيثُ كانَ جَوهراً و مُتحيِّزاً و موجوداً.
و يَلزَمُ على ذلك أن لا يَقتَصِروا في صفاتِه تَعالىٰ علىٰ ثلاثةٍ فَقَط، بل يُثبِتوا(6) له مِن الأقانيمِ بعَددِ أحوالِه و صفاتِه كُلِّها.
و يَلزَمُ أيضاً أن يَكونَ الواحدُ مِنّا علىٰ هذا التفسيرِ ذا أقانيمَ ؛ مِن حَيثُ كان
ص: 54
مُختَصّاً بصفاتٍ ؛ نَحوُ كَونِه حَيّاً و قادِراً و عالِماً.
فأمّا ما يَذهَبونَ مِن إثباتِهم المسيحَ «ابناً» له - تَعالىٰ عن ذلكَ عُلُوّاً كبيراً - فظاهرُ
البُطلانِ ؛ لأنّ حقيقةَ هذه اللفظةِ لا تَجوزُ عليه تَعالىٰ ، و لا مَجازَها.
أمّا حقيقتُها: فهي لِمَن خُلِقَ مِن ماءِ غَيرِه(1)، أو وُلِدَ علىٰ فِراشِه. و مَجازُها يُستَعمَلُ فيمَن يَصِحُّ أن يَكونَ له ولدٌ(2) [يجوز أن يُنسب] لِمَن أُضيفَ إليه؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يُضافُ إلَى الإنسانِ علىٰ طريقِ التَّبَنّي به بعضُ البهائمِ ؛ لمّا لَم يَكُن مِن جنسِها، و لا هي ممّا يَصِحُّ أن يَكونَ ولداً؟ و كذلكَ لا يُقالُ : «تَبنَّى الشابُّ شَيخاً كبيراً»؛ لَمّا لَم يُمكِنْ أن يَكونَ وَلَداً له. و معلومٌ أيضاً أنّ معنىٰ هذا المَجازِ لا يَليقُ به تَعالىٰ ؛ لأنّ مُخالَفتَه للأجسامِ أشَدُّ مِن مُخالَفةِ الإنسانِ للبهائمِ ، و لأنّ تَعذُّرَ كَونِ الوَلَدِ (159) له أشَدُّ مِن تَعذُّرِ كَونِ الشيخِ وَلَدَ الشابِّ . هذا لَو جازَ القياسُ علَى المَجازِ؛ فكيفَ و ذلكَ ممّا لا يُقاسُ عليه ؟!(3)
و هذا يُبطِلُ تفسيرَهم لهذا اللفظِ بمعنَى الكَرامةِ (4)؛ بأنّا قد بيّنّا أنّها لا تُستَعمَلُ أيضاً بمعنَى الكَرامةِ إلّافي مَوضِعٍ مخصوصٍ لا يَليقُ به تَعالىٰ .
علىٰ أنّ ذلكَ يَقتَضي كَونَه أباً في حالِ خَلقِ عيسى، وَ يُبطِلُ قولَهم: إنّه أبٌ فيما لَم يَزَلْ .
ص: 55
علىٰ أنّه لَو كانَ معنَى التبَنّي التعظيمَ و الكَرامةَ ، لَصَحَّ في كُلِّ مَن يُعَظِّمُه و يُكَرِّمُه أن يُتَبَنّىٰ ، و ذلكَ فاسِدٌ.
و بَعدُ، فقَد كانَ يَجِبُ أن لا يُخَصَّ عيسىٰ في هذا البابِ بما لَيسَ لغَيرِه مِن سائرِ الأنبياءِ ؛ لأنّ الكَرامةَ و التعظيمَ شامِلانِ للكُلِّ (1).
و بَعدُ، فإنّ أحَدَنا كما يَتَبَنّىٰ غيره(2) على جِهةِ الإكرامِ ، كذلكَ قد يؤاخيهِ علىٰ هذا الوَجهِ ، و علىٰ مَعنى التشبيه(3) بالأُخُوّةِ علَى الحقيقةِ ، فلا فَرقَ بَينَ مَن أثبَتَ للّٰهِ تَعالىٰ علىٰ هذا المعنَى ابناً(4) و بَينَ مَن أثبَتَ له أخاً.
فأمّا ادّعاؤهم أنّ في الإنجيلِ حِكايةً عن عيسىٰ : «إنّي ذاهبٌ إلىٰ أَبي»(5)، و أنّه أمَرَ الحَوارِيّينَ أن يَقولوا في صَلاتِهم: «يا أَبانا». فكُلُّ (6) ذلكَ ممّا لَم يَثبُتْ عندَنا فيَصِحَّ الاحتجاجُ به؛ لأنّ نَقلَ كُتُبِهم لَم يَرِدْ مَورِدَ الحُجّةِ و إيجابِ العَمَلِ . و لَو كانَ ثابتاً لَجازَ أن يَكونَ له وَجهٌ مِن المَجازِ صحيحٌ تَحتَمِلُه(7) تلكَ اللُّغةُ ، و يَكونَ المُرادُ بهذه اللفظةِ فيها ما يَليقُ به تَعالىٰ ؛ لأنّ اللُّغاتِ إذا اختَلَفَت لَم يُنكَرْ أن يُتَجوَّزَ ببعضِ
الألفاظِ في بعضِها علىٰ وَجهٍ لا يُستَعمَلُ في بابِ اللُّغاتِ .
ص: 56
و الذي يَلزَمُنا أن تُعلَمَ استحالةُ إيجادِ الوَلَدِ عليه بحَسَبِ قيامِ الدَّلالةِ ، و إن كانت لفظةٌ (1) كانَ ظاهرُها يُخالِفُ ذلكَ ، فهي(2) إذا صَحَّت، محمولةٌ علىٰ ما يُطابِقُ مدلولَ الدَّلالةِ .
فأمّا قياسُهم قولَهم في البُنُوّةِ علىٰ قولِه: «إنّ إبراهيمَ خَليلُه»: فبَعيدٌ مِن الصحّةِ ؛ لأنّ الخُلّةَ مأخوذةٌ مِن الاختصاصِ و الاصطفاءِ ، فمَن اختَصَّ مِنّا غَيرَه و اصطَفاه و أطلَعَه علىٰ أمرِه، وُصِفَ بأنّه «خَليلُه» علىٰ هذا المعنىٰ .
و يُقوّي ذلكَ أنّه مُقتَبَسٌ (3) مُشتَقٌّ مِن خَلّةِ الأُمورِ، فيَكونُ مِن حيثُ أُطلِعَ عليه و أُفشيَت الأسرارُ إليه، كأنّه جُعِلَ في خُلَلها.
و هذا المعنىٰ ثابِتٌ في إبراهيمَ ؛ لأنّه تَعالىٰ خَصَّه مِن كَرامتِه و رِسالتِه بما لَم يَخُصَّ به أحَداً مِن أهلِ زَمانِه. و هذا المَعنىٰ و إن كان موجوداً في جميعِ الأنبياءِ ، فغَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَصيرَ كاللَّقَبِ لإبراهيمَ ؛ مِن حَيثُ غُلِّبَ عليه و اختُصَّ به، كما خُصَّ مُوسى بأنّه «كَليمُ اللّٰهِ »، و إن كانَ تَعالىٰ قد كَلَّمَ الملائكةَ ، و البَيتَ الحَرامَ بأنّه «بَيتُ اللّٰهِ »، و ناقةَ صالِحٍ بأنّها «ناقةُ اللّٰهِ »، و [مِثلُ ] هذا كثيرٌ.
و قد قيلَ : إنّ وَصفَه بأنّه «خَليلُ اللّٰهِ » مأخوذٌ مِن المَحبّةِ ؛ لأنّه تَعالىٰ مُحِبٌّ له.
و قيل: إنّه مأخوذٌ مِن الخَلّةِ - بفَتحِ الخاءِ - التي هي الافتقارُ و الحاجةُ ، و مِنه قَولُ الشاعرِ(4):
ص: 57
فإن أتاه خَليلٌ يَومَ مَسغَبةٍ (1) *** يَقولُ : لا غائبٌ مالي و لا حَرِمُ (2)
و كأنّه عليه السلام لمّا ظَهَرَ مِن حاجتِه و انقطاعِه إلَى اللّٰهِ ما لَم يَظهَرْ مِن غَيرِه، و لمّا اختَلَّ فيه اختلالاً لَم يَنَلْ أحَداً قَبلَه؛ مِثلَ قَذفِه في النارِ، و امتحانِه بذَبحِ ابنِه، و البَراءةِ مِن أبيهِ (3)، وُصِفَ بذلكَ و صارَ كاللّقَبِ له.
فإن قيلَ : فما معنىٰ وَصفِكم أنتم له عليه السلام بأنّه «رُوحُ اللّٰهِ و كَلِمَتُه»؟
قُلنا: معنىٰ وَصفِه بأنّه «رُوحٌ »: أنّ الناسَ لَمُحيَونَ به في أديانِهم، كما يُحيَونَ في أجسادِهم بأرواحِهم، و هذا أحسَنُ تشبيهٍ و أبلَغُه.
و قيلَ أيضاً: إنّ اللّٰهَ تعالى لمّا أجرَى العادةَ بأن تُخلَقَ (4) الأرواحُ في نُطَفِ الرِّجالِ ، (160) إذا استَقَرَّت في أماكنِها مِن النِّساءِ ، و خَلَقَ في مَريَمَ رُوحاً وَ جَسَداً علىٰ خِلافِ مَجرَى العادةِ و بغَيرِ واسطةٍ ، جازَ أن يُقالَ : إنّه «رُوحُ اللّٰهِ ».
و قد سَمَّى اللّٰهُ تَعالَى القُرآنَ رُوحاً، و جِبريلَ رُوحاً، و لَم يَكُن في ذلكَ دليلٌ علىٰ جوازِ التسميةِ بالبُنُوّةِ ؛ فكيفَ يَصِحُّ التوَصُّلُ (5) بتَسميَةِ عيسىٰ بأنّه «رُوحُ اللّٰهِ »
ص: 58
إلىٰ جَوازِ وَصفِه بأنّه «ابنُ اللّٰهِ »؟ تَعالَى اللّٰهُ عَمّا يَقولُ المُبطِلونَ عُلُوّاً كبيراً.
و أمّا مَعنىٰ وَصفِه بأنّه «كَلِمةُ اللّٰهِ »: فهو مِن حَيثُ كانَ النّاسُ يَهتَدونَ به كما يَهتَدونَ بكلامِه تَعالىٰ ، و هذا كما سَمَّى اللّٰهُ تَعالىٰ كلامَه - مِن حَيثُ الاهتداءِ به و النَّجاةِ في الدينِ - نُوراً و شِفاءً .
و قيلَ : إنّ معنىٰ ذلكَ أنّه صارَ حَملاً مِن غَيرِ ذَكَرٍ؛ كأنّه قيلَ له: «كُن» فكانَ ؛ مِن
غَيرِ تَوسُّطِ جِماعٍ ، و لا خَلقٍ مِن نُطفةٍ .
و كُلُّ هذا لا يُشبِهُ قولَهم في البُنُوّةِ ؛ لأنّا قد بيّنّا(1) أنّ تلكَ اللفظةَ لا تَجوزُ علَى اللّٰهِ تَعالىٰ حقيقتُها و لا مَجازُها.
و أمّا ما يَذهَبونَ إليه في الاتّحاد: فمِنه ما يُعقَلُ و إن كانَ باطلاً، و مِنه ما لا يُعقَلُ .
و المعقولُ : هو تفسيرُهم لذلكَ بالحُلولِ ، أو المُجاوَرةِ ، أو الاتّفاقِ في المَشيّةِ ؛ حتّىٰ صارَ كُلُّ ما يَشاءُ أحَدُهما يَشاؤه الآخَرُ.
و الّذي لا يُعقَلُ : قولُهم: إنّ الذاتَينِ صارَت واحدةً ، و صارَ ما لَيسَ بإلهٍ إلهاً و ما كانَ مُحدَثاً قَديماً.
و قد مَضَى القولُ في [أنّ ] القَديمَ تَعالىٰ لا يَجوزُ عليه الحُلولُ و لا المُجاوَرةُ ، مُستَقصىً .(2)
فأمّا الاتّفاقُ في المَشيّةِ : فأوّلُ ما فيه أنّ مِن حَقِّ كُلِّ حَيَّينِ صحّةَ كَونِ أحَدِهما مُريداً لِما يَكرَهُه الآخَرُ أو لا يُريدُه، كما أنّ مِن حَقِّهما صحّةَ الاختلافِ في
ص: 59
الدواعي و الأفعالِ ، و لَولا ذلكَ لَما تَميَّزَ الحَيُّ الواحدُ مِن الحَيَّينِ . و هذا يُبطِلُ ما ادَّعَوه مِن وجوبِ اتّفاقِهما في المَشيّةِ .
علىٰ أنّ مِن حَقِّ المُريدِ للشيءِ أن يَكونَ عالِماً به، أو في حُكمِ العالِمِ .
و القَديمُ تَعالىٰ مِن حَيثُ كانَ عالِماً لنفسِه، يَعلَمُ كُلَّ ما يَكونُ في المُستَقبَلِ مِن المَصالحِ ، و يُريدُ مِن ذلكَ ما يَعلَمُه، و المَسيحُ عليه السلام يَعلَمُ بعِلمٍ ، و كما لا يَجِبُ (1) أن يَعلَمَ كُلَّ شيءٍ عَلِمَه القَديمُ (2) تَعالىٰ ، فكذلكَ لا يَجِبُ (3) أن يُريدَ كُلَّ ما يُريدُه(4).
علىٰ أنّ هذا القولَ يَقتَضي أنّه مُتَّحِدٌ بسائرِ الأنبياءِ ؛ لأنّ عيسىٰ إنّما تَجِبُ له المُوافَقةُ في المَشيّةِ مِن [حيثُ ] كانَ نَبيّاً، فلَيسَ هو بذلكَ أَولىٰ مِن غَيرِه مِن الأنبياءِ .
علىٰ أنّ عيسىٰ قد أرادَ الأكلَ و الشُّربَ و ما شاكَلَهما مِن المُباحاتِ ، و أرادَ الصغائرَ مِن الذُّنوبِ علىٰ رأيِ كثيرٍ مِن الناسِ (5). و القَديمُ تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يُريدَ شيئاً مِن ذلكَ .
ثُمّ (6) لا يَخلُو مَن أَوجَبَ اتّفاقَهم في الإرادةِ : أن يَجعَلَ إرادتَهما واحدةً ، أو أن
يُثبِتَ لهما إرادتَينِ مُتَغايِرتَينِ . و ما قَدَّمناه مِن الكلامِ يُفسِدُ الجميعَ .
ص: 60
و ممّا يُبطِلُ كَونَ إرادتِهما واحدةً خاصّةً : أنّ أحَدَنا إنّما يُريدُ بإرادةٍ توجَدُ في قَلبِه، و القَديمَ تَعالىٰ إنّما يُريدُ بإرادةٍ توجَدُ لا في مَحَلٍّ - علىٰ ما يُستَدَلُّ عليه مِن بَعدُ(1) -؛ فكيفَ يَجوزُ علىٰ هذا أن تَكونَ إرادتُهما واحدةً؟
و لَو جازَ أن يُريدَ - بإرادتِه تَعالَى الموجودةِ لا في مَحَلٍّ - عيسى(2)، لَم يَكُن بأن تَتعلَّقَ به أَولىٰ مِن أن تَتعلَّقَ (3) بغَيرِه مِن الأحياءِ ؛ لِفَقدِ الاختصاصِ . و هذا يَقتَضي أنّ جميعَ الأحياءِ (161) يُريدونَ بإرادتِه تَعالىٰ ، و ذلكَ يؤَدّي إلَى امتناعِ إرادةِ القَبيحِ علىٰ أحدِنا؛ لأنّ القَديمَ تَعالىٰ كانَ [كارهاً] لذلكَ القَبيحِ بكراهةٍ تَتعلَّقُ بهذا الحَيِّ ، فيؤَدّي إلىٰ كَونِه مُريداً للشيءِ كارهاً له في(4) الحالِ الواحدةِ .
علىٰ أنّ هذا يَقتَضي كَونَه مُتَّحِداً بجميعِ الأحياءِ ، و يَبطُلُ اختصاصُهم عيسىٰ بذلكَ (5).
و لَيسَ يجوزُ أن [يُريدَ] القَديمُ تَعالىٰ بإرادةِ عيسَى الموجودةِ في قَلبِه؛ لأنّه لا اختصاصَ لها به تَعالىٰ ، و لَو جازَ أن يُريدَ بما في قَلبِه، لَجازَ أن يَعلَمَ بما في قَلبِه مِن العُلومِ ، و كذلكَ القولُ في الجَهلِ و السهوِ و سائرِ المُتعلَّقاتِ ؛ لأنّ ما يَقتَضي تَعلُّقَ الكُلِّ أو يَمنَعُ مِنه(6) واحدٌ.
و يوجِبُ أيضاً أن يُريدَ بإرادةِ غَيرِ عيسىٰ مِن الأحياءِ ، و يَتعلَّقَ به ما يوجَدُ في قُلوبِهم. و هذا يَقتَضي كَونَه مُريداً للقَبيحِ إذا أرادَه بَعضُ الأحياءِ ، و يَمنَعُ مِن كَونِ
ص: 61
أحَدِنا مُريداً لِما غَيرُه كارهٌ (1) له، و عالِماً بما غَيرُه جاهلٌ به؛ لأنّ في تَجويزِ ذلك - مع تعلُّقِ ما في قُلوبِنا به تَعالىٰ - ما يوجِبُ كَونَه تَعالىٰ مُريداً كارهاً للشيءِ الواحدِ في الحالِ الواحدةِ ، و كذلكَ القَولُ في العِلمِ و الجَهلِ .
و يوجِبُ أيضاً ما قَدَّمناه مِن أنّ الاتّحادَ(2) الذي ادَّعَوه عامٌّ لجميعِ الأحياءِ ، غَيرُ مُختَصٍّ بعيسىٰ .
فأمّا قولُهم: «إنّ الذاتَينِ صارَتا واحدةً »، ممّا لا يُعقَلُ و لا يَصِحُّ أن يَعتَقِدَه عاقلٌ ؛ لأنّ الشيئَينِ (3) يَستَحِيلُ أن يَصيرا شيئاً واحداً - علىٰ قولِهم - بالحقيقةِ (4)، كما يَستَحيلُ في الشيءِ الواحدِ أن يَصيرَ شيئَينِ .
و أبعَدُ مِن ذلكَ [و] أشَدُّ استحالةً أن يَصيرَ المُحدَثُ قَديماً؛ لأنّ المعلومَ أنّ ما وُجِدَ بَعدَ أن لَم يَكُن، لا يَجوزُ أن يَصيرَ موجوداً لَم يَزَلْ ؛ لأنّه يؤَدّي إلى إثباتِه موجوداً معدوماً في حالٍ واحدٍ.
و ما ذَكَرناه مِن إبطالِ مَذاهبِهم في الاتّحاد(5)، يُبطِلُ ما يَذهَبونَ إليه في عِبادةِ المَسيحِ ؛ لأنّ ذلكَ مَبنيٌّ علىٰ قولِهم بالاتّحادِ، و قد أفسَدناه.
علىٰ أنّ العِبادةَ إنّما استَحقَّها القَديرُ(6) مِن حَيثُ كانَت نِعَمُه أُصولاً لِشُكرِ النِعَم؛ إذ
ص: 62
لَولا نِعمةُ اللّٰهِ لَم تَصِحَّ نِعمةُ مُنعِمٍ سِواه؛ لأنّه خَلَقَ المُنعِمينَ و مَلَّكُهم لِما(1) يُنعِمونَ به، و خَلَقَ الشهوةَ التي لَولاها لَم تَكُنِ النِّعمةُ نِعمةً ، و جَعَلَ ما به تَكونُ النِّعمةُ على الصفاتِ التي يَقَعُ الانتفاعُ بها، فصارَت جميعُ النِّعَمِ كأنّها نِعَمٌ منه؛ لِما ذَكَرناه.
و أيضاً: فإنّ نِعَمَه بَلَغَت قَدراً عظيماً لا يَجوزُ أن تُوازِيَه(2) نِعَمُ غَيرِه مِن المُنعِمينَ ، فلهذا استَحَقَّ العبادةَ دونَ غَيرِه مِن سائرِ المُنعِمينَ . و معلومٌ أنّ ذلكَ لا يَتَأتّىٰ مِن غَيرِه تَعالىٰ ؛ لأنّ غَيرَه مِن الفاعلينَ لا يَكونُ إلّاجسماً قادراً بقُدرةٍ ، و بالقُدرةِ لا تَصِحُّ الحَياةُ (3) و الشهَواتُ و الطُّعومُ و غَيرُ ذلكَ ؛ ممّا ذَكَرنا أنّ العبادةَ تُستَحَقُّ له.
و بَعدُ، فمِن المعلومِ أنّ عيسىٰ كانَ يَعبُدُ اللّٰهَ ، و يَدعو إلىٰ عِبادتِه؛ فكيفَ يَكونُ هو المعبودَ علَى الحقيقةِ؟ و كيفَ يَصِحُّ في المعبودِ أن يَعبُدَ نَفسَه ؟
و كُلُّ هذا ممّا(4) لا شُبهةَ علىٰ عاقلٍ فيه.
***
حُكِيَ عن بَعضِ هؤلاءِ القولُ بأنّ العالَمَ مخلوقٌ مِن هَيولىٰ قَديمةٍ .
و أكثَرُهم: يُثبِتُ العالَمَ مُحدَثاً علَى الحقيقةِ ، و يُثبِتُ له صانعاً حكيماً علىٰ
ص: 63
ما يَقولُه المُوَحِّدونَ ، (162) إلّاأنّهم يَذهَبونَ إلىٰ عِبادةِ الكَواكِبِ ، و تَعظيمِ أقدارِها.
و مِنهم مَن سَمّاها آلِهةً ، و أكثَرُهم يُسَمّيها مَلائكةً (1).
و الردُّ(2) علىٰ مَن أثبَتَ العالَمَ قَديماً، أو أثبَتَه مفعولاً مِن هَيولىٰ قَديمةٍ ؛ قد سَلَفَ فيما مَضىٰ مِن الكتابِ (3).
فأمّا إبطالُ قَولِهم في عِبادةِ الكَواكِبِ : فالأصلُ فيه أنّ العِبادةَ إذا كانَت إنّما تُستَحَقُّ بنِعَمٍ مخصوصةٍ - علىٰ ما ذَكَرنا في الردِّ علَى النَّصارىٰ (4) -، فمَن لَيسَ بحَيٍّ و لا قادرٍ كيفَ تَصِحُّ عِبادتُه ؟
و لَو كانتِ النُّجومُ أيضاً حَيّةً قادرةً ، لَم يَجُز أن تُنعِمَ (5) بما يُستَحَقُّ مِن أجلِه العِبادةُ ؛ لأنّ الجسمَ لا يَقدِرُ إلّابقُدرةٍ ، و القادِرُ بقُدرةٍ لا يَصِحُّ مِنه فِعلُ الأجسامِ و الحَياةِ و الشهَواتِ و سائرِ ما عَدَّدناه؛ مِمّا يَفعَلُه مُستَحِقُّ العِبادةِ .
و آكَدُ ما دَلَّ علىٰ أنّ الكَواكِبَ غَيرُ حَيّةٍ و لا قادرةٍ السمعُ ؛ فإنّ ذلكَ معلومٌ مِن دينِ نَبِيِّنا صلّى اللّٰه عليه و آله، و لا خِلافَ بَينَ الأُمَّةِ فيه(6)، و في أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ هو
ص: 64
الذي يُصرِّفُها و يُحرِّكُها، و أنّه لا تصريفَ لها في نُفوسِها.
و قَدِ استُدِلَّ (1) أيضاً علىٰ أنّها غَيرُ حَيّةٍ بأنّ (2) فَرطَ الحَرارةِ لا يَجوزُ أن يَثبُتَ مع الحَياةِ ، و أنّ ما كانَ في الحَرارةِ كالنارِ لا يَجوزُ أن يَكونَ حَيّاً؛ لأنّ حَرارةَ النارِ تُفرِّقُ البِنيةَ ، و بتفريقِها تَبطُلُ الحَياةُ . و قد عَلِمنا أنّ حَرارةَ الشمسِ أعظَمُ كثيراً مِن حَرارةِ النارِ؛ بدَلالةِ أنّها تؤَثِّرُ مع البُعدِ، و لا(3) تؤَثِّرُ النارُ مِن القُربِ . و إذا لَم تَثبُتِ الحَياةُ مع حَرارةِ النارِ، فأَولىٰ أن لا تَثبُتَ مع ما هو أشَدُّ حَرارةً مِنها.
و إذا لَم تَكُن حَيّةً ، فلَيسَت قادرةً ؛ و كيفَ تَكونُ النُّجومُ قادرةً ، مع أنّ تَصرُّفَها يَجري علىٰ طريقةٍ واحدةٍ مِن غَيرِ اختلافٍ؟ و مِن شأنِ القادِرِ أن يَختلِفَ (4) دواعيه، و لا يَجِبَ اتّفاقُها و وقوعُ أفعالِه علىٰ نَمَطٍ واحدٍ، و لَولا ما ذَكَرناه لَما انفَصَلَ المُسَخَّرُ مِنَ المُختارِ.
و لَو سُلِّمَ أنّها قادرةٌ ، لَم تَجُز عِبادتُها؛ لِما ذَكَرناه(5) مِن استحالةِ وقوعِ ما به يُستَحَقُّ العبادةُ من جِهَتِها.
علىٰ أنّها أجسامٌ ، و الجسمُ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ في غَيرِ مَحلِّ قُدرَتِه إلّابالمُماسّةِ ، و قد عُلِمَ أنّ الكَواكِبَ غَيرُ مُماسّةٍ لنا؛ فكَيفَ تَفعَلُ (6) فينا؟
ص: 65
و لَيسَ يَجوزُ أن يُجعَلَ مُماسَّتُها للهَواءِ الذي يُماسُّنا و اتّصالُ (1) شُعاعِها بنا يَقومُ مَقامَ المُماسّةِ لنا؛ و ذلكَ أنّ الشُّعاعَ و كذلكَ الهَواءَ جسمانِ لَطيفانِ ، و لا يَجوزُ أن يَكونا آلةً في فِعلِ الجسمِ في غَيرِه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : لَولا أنّها مُدبِّرةٌ للعالَمِ ، لَم يَجُز حُدوثُ كثيرٍ مِن الحادثاتِ فيه بحَسَبِ قُربِها و بُعدِها و حركاتِها.
و ذلكَ : أنّ هذا لَو صَحَّ - علىٰ ما فيه مِن الدعوىٰ -، لَم يَمتَنِعْ أن يَكونَ القَديمُ الحَكيمُ تَعالىٰ أجرَى العادةَ بأن يَحدُثَ (2) الحَوادثُ عندَ حركاتِ الكَواكِبِ المخصوصةِ ؛ لِما يَعلَمُه مِن المَصلَحةِ ، كما أنّه تَعالىٰ قد أجرَى العادةَ بأن يَحدُثَ الوَلَدُ عِندَ الوطءِ ، و لَم يَدُلَّ ذلكَ علىٰ أنّه مِن فِعلِ الواطِئِ .
***
اعلَمْ أنّ العِبادةَ إذا كانَت لا تُستَحَقُّ إلّابالنِّعَمِ المخصوصةِ ؛ لأنّها ضَربٌ مِن الشُّكرِ و كَيفيّةٌ له، و الشُّكرُ (163) لا يَكونُ إلّاعلَى النِّعَمِ ، فمِن المعلومِ أنّ ما لا تَصِحُّ مِنه النِّعمةُ لا يَستَحِقُّ العِبادةَ ، كما لا يَستَحِقُّ الشُّكرَ.
و لَيسَ يَجوزُ أن يُعبَدَ لِيُقرِّبَ إلَى اللّٰهِ تَعالىٰ ، علىٰ ما حُكِيَ عنهم(3)؛ لأنّ عِبادةَ
ص: 66
مَن لَيسَ بمُنعِمٍ تَقبُحُ ، كما يَقبُحُ شُكرُه، و القَبيحُ لا يُتقرَّبُ به إلَى اللّٰهِ تعالى، بَل هو أقوىٰ ما يُبَعِّدُ عنه. و لَو(1) جازَ أن يُعبَدَ(2) تَقرُّباً إليه.(3)
و لَيسَ جَعلُ الجسمِ قِبلةً و السُّجودُ [إليه] مِن العِبادةِ في شيءٍ ، فلذلكَ جَوَّزنا أن يُتَّخَذَ بعضُ الجَمادِ قِبلةً و يُصَلّىٰ إليه، إلّاأنّ ذلكَ و إن جازَ عقلاً، فالعِبادةُ به موقوفةٌ علَى السمعِ ، كما أنّ الصلاةَ إلىٰ جهةٍ مخصوصةٍ طريقُ (4) الشرعِ .
ص: 67
ص: 68
ص: 69
ص: 70
اعلَمْ أنّ غَرَضَنا في هذا البابِ ، أن نُثبِتَ أنّه تَعالىٰ لا يَفعَلُ القَبيحَ ، و لا ما يَجري مَجرَى القَبيحِ مِن الإخلالِ بالواجبِ ؛ لِيَصِحَّ أنّ أفعالَه كُلَّها حَسَنةٌ .
و الكلامُ في العَدلِ علىٰ هذا مَتىٰ تُؤُمِّلَ لَم يَخرُجْ عن الأفعالِ و ما يَتعلَّقُ بها(1) و يَرجِعُ إليها، و لهذا وجبَ أن نُبَيِّنَ ضُروبَ الأفعالِ و أقسامَها و أحكامَها؛ مِن(2)حُسنٍ و قُبحٍ و وُجوبٍ ، و يَتعلَّقُ بهذه الأحكامِ النَّفيُ و الإثباتُ .
و لمّا كانَ تنزيهُه تَعالىٰ عن القَبيحِ ، إنّما يَتِمُّ بأن يَكونَ قادراً علىٰ ما إذا فَعَلَه كانَ قبيحاً، وجبَ أن يُدَلَّ علىٰ ذلكَ ، و يُبَيَّنَ الوَجهُ الذي لأجلِه لَم يَختَرْ فِعَلَ القَبيحِ .
و كذلكَ أيضاً يَصِحُّ تنزيهُه عن إرادةِ القَبيحِ ، و الإخبارِ بالكَذِبِ ، بَعدَ أن نُبَيِّنَ أنّ إرادتَه و كلامَه مِن فِعلِه، و أنّهما لَيسا مِن صفاتِ ذاتِه علىٰ ما يَذهَبُ إليه المُخالِفُ .
و لا بُدَّ مِن بيانِ أنّ تَصرُّفَنا مُحدَثٌ مِن جِهتِنا؛ لأنّ ذلكَ متىٰ لَم يَثبُتْ لَم يَجِبْ إضافةُ القَبيحِ و الحَسَنِ فيما نَتصرَّفُ (3) فيه إلينا دونَه تَعالىٰ . و لَو أنّه كانَ مِن فِعلِه عَزَّ و جَلَّ لَم يَكُن إلّاحَسَناً، و لَانتَفىٰ عنه القَبيحُ .
ص: 71
و يَلحَقُ بذلكَ الكلامُ فيما عَدَّه المُخالِفونَ واجباً و لَيسَ بواجبٍ ؛ كالأصلَحِ و ما أشبَهَه.
و الكلامُ فيما نَفَوا وجوبَه و هو واجبٌ ؛ كاللُّطفِ و العِوَضِ ، و بِعثَةِ الأنبياءِ لِتَعريفِ المَصالِحِ ، و ما جَرىٰ مَجرىٰ ذلكَ .
و الكلامُ في حُسنِ التكليفِ و شَرائطِه و صفاتِ المُكلَّفِ ، يَلحَقُ أيضاً بذلكَ ؛ لأنّ فيه ما يَحسُنُ و فيه ما يَجِبُ . و قد ادَّعىٰ قومٌ قُبحَ التكليفِ في الأصلِ ، و ادَّعىٰ آخَرونَ وجوبَه علىٰ بعضِ الوُجوهِ ، فلا بُدَّ مِن تَمييزِ الصحيحِ مِن ذلكَ مِن الباطِلِ .
و نَحنُ نُفصِّلُ ذلكَ و نُرتِّبُه في أبوابِه إن شاءَ اللّٰهُ (1).
ص: 72
اعلَمْ أنّ الفِعلَ هو «ما وُجِدَ بَعدَ أنْ كانَ مقدوراً». و إن شِئتَ أن تَقولَ : هو «ما حَدَثَ عن قادرٍ»، و لهذا لا يَعلَمُه فِعلاً(1) إلّامَن عَلِمَ ما ذَكَرناه، و لا يَعلَمُ ما ذَكَرناه إلّا مَن عَلِمَه فِعلاً.
و إنّما لَم يُقتَصَرْ في حدِّه علىٰ أنّه «المُحدَثُ »، أو أنّه «كائنٌ بَعدَ أن لَم يَكُن»؛ لأنّ ذلكَ لا يُنبئُ عن تَعلُّقِه بالفاعلِ . و قد يَعلَمُه مُحدَثاً مَن لا يَعلَمُه فِعلاً؛ كأصحابِ الطبائعِ و غَيرِهم.
و الفِعلُ يَنقَسِمُ في الأصلِ إلىٰ قِسمَينِ :
أحَدُهما: لا صفةَ له زائدةً علىٰ حُدوثِه؛ كالكلامِ الذي يَقَعُ مِن الساهي و النائمِ . و هذا القِسمُ لا يوصَفُ بقُبحٍ و لا حُسنٍ .
ص: 73
و القِسمُ الآخَرُ: يَكونُ له صفةٌ زائدةٌ علىٰ حُدوثِه، و هو علىٰ قِسمَينِ :
أحَدُهما: أن يَكونَ فاعلُه مُلجَأً إليه، فيَخرُجُ مِن بابِ ما يُستَحَقُّ به المَدحُ أو الذَّمُّ .
و الآخَرُ: أن يَكونَ مُخَلًّى بَينَه و بَينَه.
و ما هو علىٰ ذلكَ علىٰ ضَربَينِ : قَبيحٍ ، و حَسَنٍ .
فما مِن حَقِّه (164) أن يَستَحِقَّ فاعلُه به الذَّمَّ علىٰ بَعضِ الوجوهِ ، هو القَبيحُ .
و ما مِن حَقِّه أن لا يَستَحِقَّ مَن فَعَلَه الذَّمَّ ، هو الحَسَنُ .
فأمّا القَبيحُ (1) فلَيسَ يَنقَسِمُ في هذا البابِ انقسامَ الحَسَنِ (2)، و إن كانَ يَنقَسِمُ علىٰ
وَجهٍ آخَرَ إلىٰ كُفرٍ و فِسقٍ ، و صغيرٍ و كبيرٍ؛ عندَ بعضِ الناسِ (3).
و أمّا الحَسَنُ فله أقسامٌ خَمسةٌ :
فأوّلُها: أن لا تَكونَ (4) له صفةٌ زائدةٌ علىٰ حُسنِه، و لا يَتعلَّقَ بفِعلِه ذَمٌّ و لا مَدحٌ ، و هذا هو «المُباحُ » في المعنىٰ ، و إن كانَ لا يُسمّىٰ بذلكَ إلّاإذا عَلِمَ فاعلُه أن لا يَتعلَّقَ بفِعلِه ذَمٌّ و لا مَدحٌ ، أو دَلَّ علىٰ ذلكَ مِن حالِه(5).
ص: 74
و ثانيها: أن يَحصُلَ للحُسنِ صفةٌ زائدةٌ ؛ يَستَحِقُّ (1) لكونه عليها مَن فَعَلَه المَدحَ ، و لا يَستَحِقُّ مَن(2) لا يَفعَلُه الذَّمَّ . و هذا هو الذي قد يوصَفُ بأنّه «نَدبٌ » و مُرَغَّبٌ فيه.
و ثالِثُها: ما هو بالصفةِ التي ذَكَرناها، و يَكونُ مع ذلكَ نَفعاً موصولاً إلىٰ غَيرِ فاعلِه علىٰ وَجهٍ مخصوصٍ ، فيوصَفُ بأنّه [«إحسانٌ و تفضُّلٌ »](3)
[و رابعها: ما يَستحِقُّ الذمَّ عليه مَتىٰ لم يَفعله بعينِه، و هو الذي يوصَف بأنّه]
«واجبٌ مُضَيَّقٌ »؛ و ذلكَ نَحوُ رَدِّ الوَديعةِ بعَينِها، و رَدِّ عَينِ ما تَناوَلَه الغَصبُ .
و خامسها: ما يَستَحِقُّ (4) الذَّمَّ مَتىٰ لَم يَفعَلهُ و لم يَفعَل ما يَقومُ مَقامَه. و هذا [هو «الواجبُ ](5) المُخَيَّرُ فيه؛ و ذلكَ نَحوُ قَضاءِ الدَّينِ الذي لا يَتعلَّقُ بدَراهِمَ مخصوصةٍ ، و مِثالُه في الشرعِ : الكفّاراتُ الثلاث(6) في الأَيمانِ .
فما كانَ يَختَصُّ كُلَّ شخصٍ في نَفسِه، مِن غَيرِ أن يَقومَ فِعلُ غَيرِه فيه مَقامَه، فهو الموصوفُ بأنّه مِن «فُروضِ الأعيانِ ».
و ما يَقومُ فِعلُ غَيرِه فيه مَقامَ فِعلِه، حتّىٰ يَكونَ أداءُ ذلكَ الغَيرِ له مُسقِطاً عن هذا
ص: 75
الفَرضِ ، فهو(1) الموصوفُ بأنّه مِن «فُروضِ الكِفاياتِ ».
و مِثالُ الأوّلِ : أكثَرُ [ما] في العِباداتِ ؛ مِن الصلاةِ و الصيامِ و غَيرِهما.
و مِثالُ الثاني: الصلاةُ علَى المَوتىٰ ، و مُواراتُهم، و الجِهادُ، و ما أشبَهَ ذلكَ .
***
اعلَمْ أنّ في الناسِ مَن استَبعَدَ ذلكَ ، و ادَّعىٰ أنّ خُلُوَّ الفِعلِ مِن القُبحِ (2) و الحُسنِ كخُلُوِّ الشيءِ مِن العدمِ أو الوجودِ. أو الموجودِ مِن القِدَمِ و الحُدوثِ .
و الأمرُ فيه واضحٌ ؛ لأنّ ما تَجرَّدَ حُدوثُه(3) لَو كانَ (4) قَبيحاً، لَكانَ المُقتَضي [لقُبحِه] مُجرَّدَ حُدوثِه، و هذا يوجِبُ قُبحَ كُلِّ مُحدَثٍ . و كذلك إن كانَ حَسَناً لِمُجرَّدِ حُدوثِه يَجِبُ حُسنُ كُلِّ مُحدَثٍ . و لَم يَكُنِ القَبيحُ بأن يَكونَ كذلكَ أَولىٰ مِن الحَسَنِ ، و لا الحَسَنُ بأن يَكونَ كذلكَ أَولىٰ مِن القَبيحِ ؛ للاشتراكِ في الحُدوثِ الذي جَعَلوه كالعِلّةِ .
ص: 76
و لَيسَ هذا ممّا ظَنُّوه في الوجُودِ و العدمِ ، و الحُدُوثِ و القِدَمِ ؛ لأنّ ذلك إثباتٌ و نفيٌ يَتَقابَلانِ ، و لا واسِطةَ بَينَ نفيِ الصفةِ و إثباتِها علىٰ سبيلِ التقابُلِ . و كَونُ الشيءِ حَسَناً أو قَبيحاً يُفيدُ كَونَه علىٰ حُكمَينِ ، و قد تَخلو الذاتُ الواحدةُ مِن الحُكمَينِ ، إذا خَلَت مِن أن تَكونَ واقعةً علىٰ ما يؤَثِّرُ في كُلِّ واحدٍ مِن الحُكمَينِ مِن الوجوهِ ، و إنِ استَحالَ خُلُوُّها مِن نفيِ الصفةِ و إثباتِها.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ألا حَكَمتُم فيما لا صفةَ له زائدةً علىٰ وجودِه بأنّه عَبَثٌ ؛ مِن حيثُ لا غَرَضَ فيه ؟
و ذلكَ : أنّ العَبَثَ هو «ما صُرِفَ مِنَ الأفعالِ عن الوجهِ الذي مِن حَقِّه أن يوقَعَ عليه»، و هذا لا يَتِمُّ إلّامع القَصدِ و ممّن هو قاصدٌ، و الساهي و النائمُ يَخرُجُ فِعلُهما عن هذا الوجهِ ؛ فكيفَ يَكونُ عَبَثاً؟
و أمّا مِثالُ ما يَخلو مِن القُبحِ (1) و الحُسنِ مِن الأفعالِ ، فهو ما تَقدَّمَ ذِكرُه(2)؛ مِن كلامِ الساهي و النائمِ ، و حركةِ أعضائِه التي لا تَتعدّىٰ علىٰ غَيرِه؛ لأنّ الكلامَ إنّما يَكونُ له حُكمٌ بالقَصدِ، فلهذا لا يَقَعُ مِن النائمِ (165) الخبرُ و لا الأمرُ و لا سائرُ أقسامِ الكلامِ ، و كذلكَ الحركةُ إنّما تَكونُ حَسَنةً (3) بأن يُجَرَّ بها نفعٌ أو يُدْفَعَ بها ضررٌ، مع ضَربٍ مِن القَصد.
فأمّا ما لا يَفتَقِرُ إلى القَصدِ أو الاعتقادِ في قُبحِه أو حُسنِه، فقَد يَقَعُ قَبيحاً أو حَسَناً مِن الساهي و النائمِ ؛ و ذلكَ نَحوُ: لَطمتِه لِغَيرِه، و انقلابِه علىٰ ما أفسَدَه مِن مَتاعِه؛ لأنّ حَقيِقةَ الظُّلمِ ثابتةٌ في ذلك. و لَو أنّه حَرَّكَ يَدَه علىٰ مَوضِعِ الجَرَبِ فالتَذَّ
ص: 77
بذلكَ صاحبُ الجَرَبِ لَكانَ فِعلُه حَسَناً؛ مِن حَيثُ كانَ نَفعاً، و إن لَم يَكُن مُنعِماً به عليه؛ لأنّ النعمةَ تَفتَقِرُ إلَى القَصدِ. إلّاأنّه لا يَستَحِقُّ علَى القَبيحِ ذَمّاً و لا علَى الحَسَنِ مَدحاً؛ لأنّ استحقاقَ ذلك مشروطٌ بالتمَكُّنِ مِن التحَرُّزِ و بالقَصدِ، و هما مفقودانِ في النائمِ .
***
قد بيّنّا(1) في حَدِّ القَبيحِ أنّه: «ما استَحَقَّ به فاعِلُه الذَّمَّ علىٰ بَعضِ الوُجوهِ .»
و إن شئتَ أن تَقولَ إذا أردتَ الشرحَ و البيانَ : «ما مِن حَقِّه إذا وَقَعَ مِن العالِمِ به، المُخَلّى بَينَه و بَينَه، أن يُستَحَقَّ (2) عليه الذَّمَّ ».
و قد يُضافُ إلىٰ ذلكَ : «إن لَم يُعلَمْ مانِعٌ »، احترازاً مِن الصغيرةِ عِندَ مَن ذَهَبَ إلى التَّحابُطِ(3).
و القبيحُ و إن وَقَعَ مِن الطِّفلِ و البَهيمةِ و لَم يَستَحِقّا به الذَّمَّ ، فإنّه ممّا لو وَقَعَ مِن العالِمِ به بصفتِه لاستُحِقَّ به، فلَم يَخرُجْ عمّا ذَكَرناه.
ص: 78
و العِلمُ بقُبحِ القَبائحِ (1): قد يَكونُ ضَروريّاً، و قد يَكونُ مُكتَسَباً.
و ما يُعلَمُ باكتسابٍ علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: مُكتَسَبٌ غَيرُ مُستَدَلٍّ عليه،
و الآخَرُ: مُستَدَلٌّ عليه.
فأمّا ما يُعلَمُ ضَرورةً ، فهو العِلمُ بالجُملةِ (2) المتَناوِلُ لِما اختَصَّ بصفةٍ ؛ مِثلُ العِلمِ بأنّ الظُّلمَ قبيحٌ ، و الأمرَ بالقَبيحِ و كُفرَ النِّعمةِ قَبيحانِ .
و المُكتَسَبُ الذي لا يُدَلُّ عليه، هو العِلمُ بأنّ الضرَرَ المخصوصَ المُعيَّنَ قَبيحٌ ؛ لأنّا مَتى عَلِمنا في فِعلِ زَيدٍ لعَمرٍو أنّه ظُلمٌ ، فلا بُدَّ أن نَفعَلَ (3) اعتقاداً لِقُبحِه؛ لِيَدخُلَ في الجُملةِ المُتقرِّرةِ في العَقلِ ، و يَكونَ ذلكَ الاعتقادُ عِلماً؛ لدُخولِه في الجُملةِ المعلومةِ و مُطابقتِه لها.
و قد يَصِحُّ أن يُعلَمَ (4) في الفِعلِ بعَينِه، أنّه على الصفةِ التي تَقرَّرَ في العَقلِ العِلمُ بقُبحِها، اختَصَّ بها: تارةً ضرورةً ، و تارةً باعتبارٍ و اكتسابٍ .
فمِثالُ الضرورةِ : أن يَسمَعَ رَجُلاً يَقولُ لغَيرِه: «اظلِم فُلاناً» و يَضطَرُّه(5) إلىٰ
قَصدِه، فنَحنُ [نَعلَمُ ] ضَرورةً أنّ قولَه أمرٌ بالقَبيحِ . و كذلكَ قد يَعلَمُ أحَدُنا في قَتلِه
ص: 79
لِمَن لا يَعلَمُه مُستَحِقّاً للقَتلِ أنّه بصفةِ القُبحِ (1).
و أمّا العِلمُ باعتبارٍ فهو أن يُشاهِدَ زَيداً يؤلِمُ عَمراً، فإذا اعتَبَرنا و عَلِمنا قُبحَه، كانَ (2) العِلمُ بالقَبيحِ المُعيَّنِ لا يَكونُ إلّامُكتَسَباً، كما أنّ العِلمَ بالجُملةِ لا يَكونُ إلّا ضَروريّاً.
فأمّا ما يُعلَمُ قُبحُه باستدلالٍ ، فمِثالُه الكَذِبُ الذي يُجَرُّ به النفعُ ، أو يُدفَعُ به الضررُ؛ لأنّ المعلومَ باضطرارٍ ما هو قُبحُ الكَذِبِ الذي لا يَقَعُ فيه جَلبُ (3) نفعٍ و لا دَفعُ ضَرَرٍ، فإذا اعتَبَرنا ما له قَبُحَ ذلك، و عَلِمنا أنّه إنّما قَبُحَ لكَونِه كَذباً، لا لِتَعرّيهِ مِن النفعِ و دَفعِ الضررِ؛ بدَلالةِ أنّه لَو قَبُحَ لِتَعرّيه لَجَرىٰ مَجرَى الصِّدقِ في أنّه يَجِبُ أن يَقبُحَ متىٰ كانَ كذلك، و كانَ يَجِبُ أن يَستَوِيا فيما له تُختارُ الأفعالُ ، و لَجازَ أن يَختارَ العاقِلُ العالِمُ بحالِهما(4) الكَذِبَ علَى الصِّدقِ ، مَتى تَوصَّلَ كُلُّ واحدٍ منهما مِن النفعِ إلىٰ مِثلِ ما يَتَوصَّلُ الآخَرُ إليه، كما جازَ أن يَختَارَ الصِّدقَ على الكَذِبِ . فلمّا لَم يَختَرْ ذلكَ ، عُلِمَ أنّ كَونَه كَذِباً هو وَجهُ قُبحِه، فيُحمَلُ عليه كُلُّ كَذِبٍ ، وَ يُحكَمُ بقُبحِ الجميعِ .
فأمّا (166) الكلامُ فيما له يَقبُحُ القَبيحُ ، فالأصلُ فيه أن نُبيِّنَ أنّ القَبيحَ إنّما يَختَصُّ بكَونِه كذلكَ لِصفةٍ فارَقَ (5) بها ما لَيسَ بقَبيحٍ ، ثُمّ نُبيِّنَ أنّه لا بُدَّ مِن وَجهٍ
ص: 80
يَقتَضي كَونَه علىٰ تِلك الصفةِ ، [و] نُبَيِّنَ ما تلكَ الوجوهُ .
الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ : أنّ القَبيحَ إذا كانَ ممّا يَستَحِقُّ به فاعلُه الذَّمَّ و لَيسَ له أن يَفعَلَه، و فارَقَ بذلك الحَسَنَ الذي لا يُستَحَقُّ به الذَّمُّ و لِفاعلِه أن يَفعَلَه، فلا بُدَّ مِن صفةٍ اختصَّ بها لأجلِها وَقَعَتِ المُفارَقةُ ، كما قُلنا فيمن صَحَّ مِنه الفِعلُ لمّا فارَقَ مَن تَعذَّرَ عليه(1).
يوضِحُ ذلكَ أنّ الجنسَ الواحدَ قد يَفتَرِقُ في كَونِه قَبيحاً و حَسَناً، فلَو لَم تَكُن للقبيح(2) صفةٌ فارَقَ بها ما هو مِن جنسِه، لَم يَكُن بالقُبحِ أَولىٰ مِنه.
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا بُدَّ مِن وَجهٍ : فهو أنّه إذا ثَبَتَ اختصاصُه بصفةٍ في كَونِه قَبيحاً، فلا بُدَّ مِن مُقتَضٍ لتلكَ الصفةِ ؛ لأنّه [لَو] لَم يَقتَضِها مُقتَضٍ لَم تَكُن(3)
بالثُّبوتِ أَولىٰ مِن الانتفاءِ ، و لا بأن يَختَصَّ بها(4) أَولىٰ مِن غَيرِها، و لهذا قلنا: إنّه لا بُدَّ مِن وَجهٍ يَجري مَجرَى العِلّةِ ، و إن لَم يَكُن عِلّةً علَى التحقيقِ ؛ لأنّ «العِلّةَ » هي المعنَى المُحدِثُ الموجِبُ للصفةِ لغَيرِه، و «الوَجهَ » ما يَجِبُ الحُكمُ لأجلِه و لَيسَ بمعنىٰ .
فأمّا «الشرطُ»: فهو ما يَقِفُ الصفةُ أو الحُكمُ عليه، ممّا لا يُمكِنُ كَونُه مُقتَضياً له.
و لهذا كانَ وجودُ الجَوهرِ شَرطاً في تَحيُّزِه لمّا وَقَفَ التحيُّزُ عليه، و كانَ وجودُ المُدرَكِ و ارتفاعُ المَوانِعِ شَرطاً في الإدراكِ لمّا وَقَفَ الإدراكُ عليه، و لَم يَجُز أنْ يَكونَ ذلكَ يَقتَضي كَونَ المُدرَكِ مُدرَكاً؛ لانفصالِه عنه.
ص: 81
وَ لَم يَبقَ الآنَ إلّاأن نُبَيِّنَ الوُجوهَ التي تُقَبِّحُ (1) القَبائحَ .
و القَبائحُ علىٰ ضَربَينِ : عَقليٌّ ، و سَمعيٌّ .
فالعَقليُّ : يَقبُحُ لِوجوه معلومةٍ علىٰ سَبيلِ التَفصيلِ ؛ نَحوُ كَونِ الظُّلمِ ظُلماً، و الكَذِبِ كَذِباً، و نَحوُ كَونِ الفِعلِ إرادةً للقَبيحِ (2)، و أمراً بالقَبيحِ ، و جهلاً و كُفراً بالنِّعمةِ ، و تَكليفاً لِما لا يُطاقُ ، إلىٰ ما شاكَلَ ذلكَ .
و السمعِيُّ : و إن لَم يُعلَمْ وَجهُ قُبحِه علَى التفصيلِ ، فمعلومٌ أنّه إنّما يَقبُحُ لِكَونِه مَفسَدةً ، و يَكونُ كذلكَ بأن يؤدّيَ إلَى الإقدامِ علَى القَبيحِ ، أو إلَى الانتهاءِ عن الواجبِ ؛ بأن(3) يَدعوَ إلَى القَبيحِ ، أو يَصرِفَ عن فِعلِ الواجبِ . إلّاالوَجهَ الذي يَختَصُّ به في نَفسِه.
و اعلَمْ أنّ القَبيحَ لا يَعلَمُه قَبيحاً، إلّامَن عَلِمَ [وجهَ ](4) قُبحِه إمّا علىٰ جُملةٍ أو علىٰ تَفصيلٍ .
يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّا قَد نَعلَمُ الفِعلَ و لا نَعلَمُه قَبيحاً، فمتى عَلِمنا أنّه ظُلمٌ أو كُفرٌ لنعمةٍ أو غَيرُ ذلكَ مِن وجوهِ القَبائحِ ، عَلِمنا قُبحَه لا مَحالةَ ، فثَبَتَ أنّ وَجهَ القُبحِ لا بُدَّ مِن أن يَعلَمَه مَن عَلِمَ قُبحَه.
و القولُ في القَبائحِ الشرعيّةِ كذلكَ ؛ لأنّ الحَكيمَ إذا نَهى عنها، دَلَّ نهيُه علىٰ أنّ لها وَجهَ قُبحٍ علَى الجُملةِ ، فمَن عَرَفَ قُبحَها بالنهيِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ عارفاً بأنّ
ص: 82
لها علَى الجُملةِ وجهَ قُبحٍ .
و لَيسَ يَجري القَبيحُ و وَجهُ قُبحِه فيما ذَكَرناه مَجرَى المُتَحرِّكِ ، في أنّه قَد يَعلَمُه مُتَحرِّكاً مَن لا يَعلَمُ (1) حركتَه؛ لا جُملةً و لا تَفصيلاً.
و ذلكَ أنّ العِلمَ بالحُكمِ إذا لَم يَسبِقِ العِلمَ بالوَجهِ المؤَثِّرِ فيه، فإنّما يُحتاجُ إلَى
الاستدلالِ علىٰ أنّ ذلكَ الوَجهَ هو العِلّةُ فيه، لا إلىٰ إثباتِه [في الجُملةِ ]. و إذا تَقدَّمَ العِلمُ بالصفةِ أو الحُكمِ ، جازَ أن تُطلَبَ (2) عِلّتُه بالاستدلالِ ؛ فمِثالُ الأوّلِ القَبائحُ ، و مِثالُ الثاني المُتَحرِّكُ و ما جَرىٰ مَجراه.
و لَو كانَ العِلمُ بالحركةِ مُطابِقاً(3) لِلعِلمِ بأنّه مُتَحرِّكٌ ، لَجَرى مَجرَى القَبيحِ في الحاجةِ إلى إثباتِه علّةً و مؤثّراً، لا إلىٰ إثباتِه (167) في الجُملةِ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المُقتَضيَ لِقُبحِ القَبائحِ هو ما ذَكَرناه مِن الوُجوهِ ، دونَ ما يَدَّعيهِ المُخالفُ ، فطَريقانِ :
أحَدُهما: أن يُبتدأ فيُدلّ [علىٰ ] أنّ الوجوهَ هي التي ذَكَرناها.
و الطريقُ الآخَرُ: أن يُقسَّم ما يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ في ذلكَ مِن الوجوهِ ، ثُمّ يُبيَّن(4)فَسادُ ما عَدا الذي نَذكُرُه مِنها.
و نحنُ نُبيِّنُ الأمرَينِ :
ص: 83
فأمّا(1) الطريقةُ الأُولىٰ : فالذي يَدُلُّ عليها أنّا قَد عَلِمنا أنّ العاقِلَ مَتىٰ عَلِمَ الفِعلَ ظُلماً، عَلِمَ قُبحَهُ و إن لَم يَعلَمْ شيئاً آخَرَ. و متىٰ عَلِمَه ضرراً مُستَحَقّاً أو مؤَدّياً إلىٰ نفعٍ أو دَفعِ ضررٍ، أو اعتَقَدَ بعضَ ذلكَ فيه، لَم يَعلَمْه قَبيحاً. فلَو [لا] أنّه قَبُحَ لِكونِه(2)ظُلماً، ما عُلِمَ قُبحُه عِندَ تَجرُّدِ عِلمِه بأنّه علىٰ هذه الصفةِ ، كما أنّه لَم يَقبُحْ لِحُدوثِه و لا وجودِه و لا لِتعلُّقِه بالفاعلِ ، [و] لَم يَعلَمهُ قَبيحاً مَن عَلِمَه كذلكَ .
و القولُ في بابِ القَبائحِ كالقولِ في الظُّلمِ ؛ لأنّ مَن عَرَفَ كونَ الفِعلِ كُفراً للنِّعمةِ وَجهاً(3) و تَكلِيفاً لِما لا يُطاقُ ، لا بُدَّ مِن أن يَعلَمَ قُبحَه إذا ارتَفَعَ اللَّبسُ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَدَّعِيَ أنّ الظُّلمَ إنّما قَبُحَ لِ «معنىٰ » يُصاحِبُ كَونَه ظُلماً و لا يَنفَكُّ مِنه.
و ذلكَ أنّه يؤَدّي إلىٰ كُلِّ جَهالةٍ ، أو إلىٰ أن يُجَوَّزَ في سائرِ العِللِ مِثلُه، حَتّىٰ يَسوغَ لِقائلٍ أن يَقولَ : إنّ الحركةَ لَيسَت هي الموجِبةَ لِكَونِ الجِسمِ مُتَحرِّكاً، لكِنَّ المُوجِبَ لذلكَ معنىً يُصاحِبُها و لا يَنفَكُّ منها(4)، و كذلكَ القولُ في جميعِ الموجِباتِ .
علىٰ أنّ «المعنَى» المُدَّعىٰ لا يَخلو مِن أحَدِ أمرَينِ : إمّا أن يَكونَ الظُّلمُ هو المُحتاجَ في وجودِه إليه، أو هو المُحتاجَ إلى الظُّلمِ .
ص: 84
و الأوّلُ يؤَدّي إلىٰ جَوازِ وُجودِ ذلك «المعنىٰ » عارياً مِن الظُّلمِ ، و كانَ لا يَمتَنِعُ وجودُه مع العَدلِ مؤَثِّراً في قُبحِه.
و إن كانَ الثاني، فلا بُدَّ مِن تَجويزِ وجودِ الظُّلمِ عارياً منه، و هذا يؤَدّي إلىٰ أن يَكونَ الظُّلمُ علىٰ بعضِ الوُجوهِ حسناً، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
فإن قالَ قائلٌ : كيفَ يَصِحُّ ما ادَّعَيتُموه؛ من أن يَكونَ كُلُّ عاقلٍ عَلِمَ الفِعلَ ظُلماً عَلِمَه قَبيحاً، و أنّ العِلمَ بقُبحِ ما له صفةُ الظُّلمِ ضَروريٌّ . و المُجبِرةُ تُخالِفُ ذلكَ و تُثبِتُ مِن أفعالِ اللّٰهِ تَعالىٰ ما هو عندَكم بصفةِ الظُّلمِ ، وَ تَنفي(1) كَونَه قَبيحاً، و كذلك عَبّادُ بنُ سَلْمانَ (2)؛ فإنّه يَنفِي الأعواضَ (3) عمّا يَفعَلُه القَديمُ تَعالىٰ مِن الأمراضِ (4)، و إن اعتَقَدَ حُسنَه(5)؟
و لَيسَ لكُم أن تَدَّعوا علينا القولَ بأنّه تَعالىٰ إنّما يُعذِّبُ أطفالَ المُشرِكينَ
ص: 85
بذُنوبِ آبائهم، أو مِن حَيثُ عَلِمَ أنّهم يَكفُرونَ ، فيَؤُولُ الأمرُ إلىٰ أنّ فِعلَه لَم تَثبُتْ له صفةُ الظُّلمِ .
لأنّا لا نَقولُ ذلكَ و لا نَعتَقِدُه، و عندَنا أنّه لا تأثيرَ لِذُنوبِ آبائهم في عِقابِهم، و أنّ تَعذيبَهم يَحسُنُ ابتداءً . علىٰ أنّا نُصرِّحُ بجَوازِ تعذيبِه لأطفالِ المُؤمنينَ ، بل للمؤمِنينَ أنفُسِهم، و أنّ اعتقادَنا حُسنُه، و كُلُّ ذلكَ عندَكم بصفة الظُّلمِ القَبيحِ .
قيلَ له: أمّا الجَوابُ السَّديدُ عن هذا السؤالِ ، فهو أنّ العِلمَ بقُبحِ ما له صفةُ الظُّلمِ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ التي ذَكَرناها، [و] وجوبِ حُصولِه لِجميعِ العقلاءِ ، مرتَّبٌ علىٰ صِفةِ الظُّلمِ المعقولةِ مِن الشاهدِ؛ لأنّه مَتىٰ لَم تُميَّزْ(1) تلكَ الصفةُ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، لَم يُعلَمْ قُبحُ ما اختَصَّ بها. و الظُّلمُ المعقولُ في الشاهدِ هو ما وَقَعَ مِنّا، و تَعلَّقَ بنا، و انتَفَت عنه الوجوهُ المذكورةُ ؛ مِن النفعِ و دَفعِ الضررِ و الاستحقاقِ . و كُلُّ عاقلٍ يَعلَمُ قُبحَ ما له هذه الصفاتُ بالضرورةِ (2)، (168) إلّاأنّ بَعضَهم ظنَّ أنّ لِحالِ الفاعلِ تأثيراً فيما له يَقبُحُ القَبيحُ ، فأثبَتَه قَبيحاً ممّن لَيسَ بمالِكٍ ، و غَيرَ قَبيحٍ مِن المالِكِ . و هذا غَيرُ مُمتَنِعٍ ؛ فإنّ العِلمَ (3) بعِلّةِ الحُكمِ و أنّها عِلّةٌ ، لَم يُفارِقِ (4) العِلمَ بالحُكمِ .
و العِلمُ بوَجهِ القُبحِ و إن كانَ عندَنا ضَروريّاً علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، فلا بُدَّ في العِلمِ بأنّه المؤَثِّرُ في القُبحِ مِن ضَربٍ مِن الاعتبارِ و الاستدلالِ . فخِلافُ المُجبِرةِ - علىٰ هذا - غَيرُ قادحٍ فيما ادَّعَيناه مِن العِلمِ الضروريِّ ، و إنّما يَتَناوَلُ ما يُعلَمُ بالاستدلالِ .
ص: 86
و إذا بَيَّنّا بما ذَكَرناه و نَذكُرُه، أنّه لا تأثيرَ لِحالِ الفاعلِ في قُبحِ القَبيحِ ، سَقَطَت شُبهَتُهم.
و قولُ عَبّادٍ يُضاهي قولَ المُجبِرةِ ، و إن خالَفَهُم في ضَربٍ مِنَ الاعتلالِ ؛ لأنّه اعتَلَّ في نفيِ العِوَضِ عمّا يَفعَلُه اللّٰهُ تَعالىٰ مِن الآلامِ ، بأنّه لَو عَوَّضَ عن فِعلِه لَجازَ أن يُثيبَ (1) علىٰ خِلافِه، و خِلافُه عندَ التحقيقِ يَرجِعُ إلىٰ «تَعليلِ ما له قُبحُ الظُّلمِ بخلافه(2)» و ما به(3) يَفسُدُ قولُ الكُلِّ واحدٌ.
و ممّا يُجابُ [به] عن هذا السؤالِ : هو أنّ المُظهِرَ لدَفعِ ما ذَكَرناه مِن العُلومِ بالقَبائحِ ، إذا اختَصَّت بالصفاتِ المُعيَّنةِ ، لا يَبلُغُ في الكَثرةِ إلىٰ حَدِّ «مَن لا يَجوزُ عليه مِن الجَماعاتِ دَفعُ ما يَعلَمُه باضطرارٍ، و إظهارُ خِلافِ ما يُبطِنُ » و مَن تَحقَّقَ هذا الخِلافَ منهم و تفصيلَه، متىٰ حَصَلوا كانوا آحاداً يَجوزُ عليهم الإخبارُ بما يَعلَمون خِلافَه. و ما استَقرَّ في العُقولِ كُلِّها لا يَقدَحُ فيه ما جَرىٰ هذا المَجرى؛ ألا تَرى أنّا لا نُصدِّقُ مَن أخبَرَنا عن نَفسِه بأنّه يَعتَقِدُ قُبحَ الإحسانِ الخالصِ ، أو لا يَعلَمُ ما يُشاهِدُه مع التفصيلِ [و] ارتفاعِ اللَّبسِ ؛ مِن حَيثُ استَقرَّ في العُقولِ خِلافُ قولِه ؟ و كذلك ما يَقولُه المُجبِرةُ ، إذا بَلَغَ منهم بالغٌ إلىٰ هذا التفصيلِ .
و ممّا يُجابُ به أيضاً عن ذلكَ ، هو أنّ القومَ لَم يَدفَعوا مِن فِعلِ كُلِّ فاعلٍ مُفارَقةَ الظُّلمِ للعَدلِ ، و الإحسانِ للإساءةِ ، لكنّهم اعتَقَدوا أنّ المَرجِعَ بهذا الفَرقِ إلى الشَّهوةِ و النِّفارِ، فأثبَتوا الحُكمَ المَعلومَ ثُبوتُه ضرورةً ، و خالَفوا فيما يَرجِعُ إليه هذا الحُكمُ ، و هذا ضَربٌ مِن التفصيلِ ، يَجوزُ دُخولُ الشُّبهةِ - علىٰ بُعدِها - فيه.
ص: 87
فإن قيلَ : و أيُّ شَيءٍ يُفسِدُ رَدَّهم ذلكَ إلَى الشَّهوةِ و النِّفارِ؟
قُلنا: بأشياءَ :
مِنها: أنّ إطعامَ العَسَلِ المحرورَ ظُلمٌ له و إساءةٌ إليه، و إطعامَه المرطوبَ إحسانٌ إليه، مع تَعلُّقِ شَهوَتِهما(1) جميعاً به؛ فلَو كانَ الفَرقُ بَينَ القَبيحِ و الحَسَنِ يَرجِعُ إلَى الشَّهوةِ و النِّفارِ، لَاستَوى هذانِ الفِعلانِ ، و قد عَلِمنا اختلافَهما في العُقولِ .
و أيضاً: لكُلِّ فاعلٍ [أن] يُفصِّلَ بَينَ تَصرُّفِه في مِلكِه، و تَصرُّفِه في مِلكِ غَيرِه، و
إن كانَ مُنتَفِعاً بالجميعِ و مُشتَهياً له علىٰ (2) حدٍّ واحدٍ.
و أيضاً: فإنّ ما يَرجِعُ إلَى الشَّهوةِ و النِّفارِ قد تَختَلِفُ أحوالُ العُقلاءِ فيه، و لا تَختَلِفُ (3) في الفَصلِ بَينَ الظُّلمِ و العَدلِ ، و الإحسانِ و الإساءةِ .
و أيضاً: فإنّ الشَّهوةَ و النِّفارَ يَختَصّانِ المُدرَكاتِ ، و الاستقباحُ يَتَعدّى إلىٰ غَيرِ المُدرَكاتِ .
و ممّا أُجيبَ به(4) عن هذا السؤالِ : أنّ الظُّلمَ المعلومَ قُبحُه في العُقولِ ، هو المعلومُ وقوعُه، و المُجبِرةُ لَم تَعلَمْ وقوعَ ما له صفةُ الظُّلمِ مِنه تَعالىٰ ، و إنّما اعتَقَدوا ذلكَ ، فلهذا جازَ أن يَجهَلوا قُبحَه و يَعتَقِدوا حُسنَه.
و هذا الجَوابُ لَيسَ بصحيحٍ ؛ لأنّه إذا كانَ المُستَقِرُّ في الجُملةِ قُبحَ ما له صفةُ
ص: 88
الظُّلمِ ، فلا بُدَّ لِمَن(1) اعتقَدَ في فِعلٍ مِن الأفعالِ أنّه(2) بصفةِ الظُّلمِ - و إن لَم يَكُن كذلكَ علَى الحقيقةِ - مِن أن يَعتَقِدَ قُبحَه. و لَيسَ يَفتقِرُ في هذا إلى أن يَكونَ عالِماً بوقوعِ (169) ذلكَ و صفتِه، بل الاعتقادُ يَكفي في وجوبِ حُصولِ الاعتقادِ بقُبحِه؛ ألَا تَرى أنّ الكَذِبَ العاريَ مِن النفعِ و دَفعِ الضررِ لمّا كانَ معلوماً قُبحُه، وجبَ فيمن اعتَقَد في بعضِ الأخبارِ الصِّدقِ أنّه بهذه الصفةِ ، أن يَكونَ مُعتَقِداً بقُبحِه ؟ و كذلكَ لَو اعتَقَدَ فيمن لَم يُوقِعْ خبراً أصلاً أنّه قد أوقَعَه كَذِباً، لَوجبَ أن يَتبَعَ ذلكَ اعتقادُه وقوعَ القَبيحِ مِن جهتِه، و لا يُراعىٰ في شيءٍ مِن ذلكَ أن يَكونَ عالِماً [بوقوعه]. و هكذا القولُ فيمن اعتَقَدَ في بعضِ الأفعالِ أنّه إحسانٌ و إن لَم يَكُن كذلكَ ،(3) و في بعضِ الفاعلينَ أنّه فاعلٌ لِما له صِفةُ (4) الإحسانِ و إن لَم يَكُن فاعلاً له.
و ممّا يوضِحُ ما ذَكَرناه: أنّ العِلمَ بأنّ ما لَم يَسبِقِ المُحدَثِ يَجِبُ أن يَكونَ مُحدَثاً، لمّا كانَ مُستَقِرّاً في العُقولِ - كاستقرارِ العِلمِ بقُبحِ ما له صفةُ الظُّلمِ علَى الجُملةِ - وجبَ فيمن اعتَقَدَ في ذاتٍ أنّها مُحدَثةٌ ، و أنّ ذاتاً أُخرىٰ لَم تَسبِقها(5) في الوُجودِ - و إن لم يكُن لاعتقادِه(6) أصلٌ - أن يَكونَ مُعتَقِداً حُدوثَ الجميعِ (7)، و لَم يؤَثِّرْ في وجوبِ هذا الاعتقادِ الثاني أنّ المُعتَقَدَ لا أصلَ له.
ص: 89
و ممّا أُجيبَ به عن ذلكَ : أنّ المُجبِرةَ لَم تَنفِ فيما يَفعَلُ القَديمُ تَعالىٰ - علىٰ مَذاهِبِهم - مِن الظُّلمِ في العِبادِ كَونَه قَبيحاً، و [لكنّها تنسبُ ](1) استحقاقَ الذَّمِّ به إلَى المُكتَسِبِ دونَ الخالقِ ، و هذا ممّا يَجوزُ أن تَدخُلَ (2) الشُّبهةُ في مِثلِه؛ لأنّ العِلمَ الضروريَّ إنّما يَتَناوَلُ قُبحَ ما له هذه الصفةُ علَى الجُملةِ ، و أنّ الذَّمَّ مُستَحَقٌّ بذلك، و لا يَتَناوَلُ أنّه يَقبُحُ مِن كُلِّ فاعلٍ ، بل ذلكَ مُستَدَلٌّ عليه.
و هذا غَيرُ مُستَقيمٍ أيضاً؛ لأنّ القَبيحَ إنّما يَقبُحُ في العُقولِ مِن فاعلٍ يَستَحِقُّ الذَّمَّ به. و لا بُدَّ مِن أن تَكونَ حالُ الفاعلِ معقولةً على الجُملةِ ؛ و هو مَن تَعلَّقَ به [الفعلُ ] و وَجَبَ وقوعُه بحَسَبِ قَصدِه و دَواعيهِ . و هذا التعلُّقُ بعَينِه قد اعتَقَدوه في القَديمِ تَعالىٰ علىٰ أبلَغِ الوجوهِ كُلِّها و آكَدِها؛ فكيفَ يَصِحُّ مع ذلكَ أن يَعتَقِدوا حُسنَه مِن جِهتِه ؟
علىٰ أنّ هذا(3) لا يَتَأتّىٰ فيما يَعتَقِدونَ أنّه تَعالَى انفَرَدَ به ممّا له صفةُ القَبيحِ ؛ كتعذيبِ الأطفالِ و ما جَرى مَجراه، و يَكفي الاعتراضُ بذلكَ إن صَحَّ الجَوابُ عن غَيرِه.
و ممّا أُجيبَ به عن ذلكَ : أنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ في العِلمِ الضروريِّ ، أن يَكونَ اللّٰهُ تَعالىٰ يُحدِثُه في العقلاءِ مَتىٰ خَلَوا مِن الشُّبهةِ ، فمَتى أَدخَلوها على نُفوسِهم لَم يَجُز إحداثُه فيهم. و على هذا يَجوزُ أن تَكونَ المُجبرِةُ صادقةً فيما تُخبِرُ بها عن نُفوسِها، و أنّ العِلمَ الضرورِيَّ بقُبحِ القَبائحِ حاصِلٌ لغيرِها ممّن خَلا مِن الشُّبهةِ .
ص: 90
و هذا ظاهرُ الفَسادِ؛ لأنّ مِن كمالِ العَقلِ عندَنا العِلمَ بقُبحِ القَبائحِ ، و حُسنِ الخُلُقِ ، و وجوبِ الواجبِ علَى الجُملةِ ؛ فمَن كانَ عاقلاً مِن المُجبِرةِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ عالِماً بذلك، و العِلمُ الضرورِيُّ لا يُنفى بالشُّبهةِ ، بل هُو مانعٌ منها؛ فكيفَ يَستَقِيمُ هذا الجَوابُ؟
فإن قيلَ : فكيفَ قولُكم في الخَوارجِ قد استَحسَنوا (170) قَتلَ (1) مَن خالَفَهم، و له علَى الحقيقةِ صفةُ الظُّلمِ ، و كذلكَ كثيرٌ مِن العَرَبِ في استحسانِ العادات(2) و غَصبِ الأموالِ؟
قُلنا: أمّا الخَوارِجُ فإنّهم اعتَقَدوا أنّ مُخالِفَهم يَكفُرُ بخِلافِهم، و يَستَحِقُّ القَتلَ ، فلهذا استَحسَنوا قَتلَه، و لَو اعتَقَدوا أنّه بصفةِ الظُّلمِ لَم يَجُز أن يَستَحسِنوه، و قد بيّنّا أنّ الاعتقاداتِ في هذا البابِ يَتبَعُ بعضُها بعضاً. و كذلكَ أيضاً مَن استَحسَنَ العادة و الغَلَبةَ علَى الأموالِ مِن العَرَبِ ، لا بُدَّ مِن أن يَعتَقِدوا(3) استحقاقَ ذلكَ ببعضِ
الأُمورِ؛ إمّا بالخِلافِ ، أو النَّفيِ ، أو الابتداءِ بالمُعاداةِ و الحَربِ ، أو غَيرِ ما ذَكَرناه. و كُلُّ هذا لا يَقدَحُ فيما قَرَّرناه مِن الأُصولِ .
و أمّا الطريقةُ الثانيةُ في أنّ القَبيحَ لا يَخلو مِن أن يَكونَ إنّما قَبُحَ لِما ذَكَرناه مِن الوجوهِ ، و هي المُبتَنيةُ علَى القِسمةِ ، فالذي يُبيِّنُ صحّتَها أنّ القَبيحَ لا يَخلو مِن أن يَكونَ إنّما قَبُحَ لجنسِه، أو لحُدوثِه علىٰ وَجهٍ سِوىٰ ما نَذكُرُه مِن الوجوهِ ،
ص: 91
أو لانتفائِه، أو لوجودِ معنىً ، أو لانتفاءِ معنىً ، أو لأحوالِ فاعلِه؛ نَحوُ كَونِه مُحدَثاً مَملوكاً مَربوباً، أو لأنّه نُهيَ عنه و تَجاوَزَ بفِعلِه ما حُدَّ له، أو لِما قَدَّمناه مِن وجوهِ القُبحِ ؛ نَحوُ كَونِه ظُلماً و كُفراً لنِعمةٍ و ما أشبَهَ ذلكَ (1).
و نحنُ نُبطِلُ ما عَدا ما ذَهَبنا إليه.
و الذي يُفسِدُ أن يَكونَ قَبيحاً لجنسِه: أنّ ذلك يَقتَضي قُبحَ كُلِّ ألَمٍ و ضررٍ، و قد عَلِمنا حُسنَ كثيرٍ مِن ذلك.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَدفَعَ تَجانُسَ الحَسَنِ و القَبيحِ مِن الضررِ، و يَدَّعِيَ أنّه لا يَكونُ إلّا مُختَلِفاً؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّ التماثُلَ بَينَ الذواتِ لا يَقَعُ بالقُبحِ و لا الحُسنِ ، و لا بِكُلِّ ما يَتجدَّدُ في حالِ الحُدوثِ ، و إنّما تَتَماثَلُ صِفاتُ (2) النفسِ التي تَحصُلُ (3)في العدمِ و الوجودِ.
و كيفَ يَدفَعُ مُماثَلةَ الحَسَنِ القَبيحَ (4)، و قد عَلِمنا أنّ المُدرِكَ الكَذِبَ لا يَفصِلُ بَينَه و بَينَ الصِّدقِ ، و يَشتَبِهانِ عليه كما يَشتَبِهُ عليهِ الجَوهَرانِ و السوادانِ؟
علىٰ أنّ نَفسَ الضررِ الذي يَقَعُ ظُلماً، فإن يَصِحَّ حُدوثُه عَدلاً - بأن يُقارِنَه بعضُ ما يُخرِجُ الفِعلَ مِن كَونِه ظُلماً - فكيفَ يَكونُ قَبيحاً لعَينِه أو جنسِه ؟
ص: 92
و بمِثلِ ذلكَ يَبطُلُ القولُ بأنّه قَبيحٌ لِوجودِه(1) و حُدوثِه؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ قُبحِ كُلِّ مُحدَثٍ موجودٍ. و لَو قَبُحَ لحُدوثِه علىٰ [وَجهٍ ] سِوى ما نَذكُرُه مِن الوجوهِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يَقَعَ علىٰ بعضِ الوجوهِ التي نَذكُرُها - نَحوِ كَونِه ظُلماً و كُفراً للنِّعمةِ إلىٰ ما شاكَلَ ذلكَ - و إن لَم يَحدُثْ علىٰ ذلكَ الوَجهِ (2) الذي أشارُوا إليه، فلا يَكونَ قَبيحاً.
و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
و لا يَجوزُ أن يَقبُحَ لانتفائِه؛ لأنّ قُبحَه يَختَصُّ حالَ الوجودِ، و يَمتَنِعُ مع العدمِ .
و لا يجوزُ أن يَقبُحَ لوجودِ معنىً ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ العِلمُ بقُبحِه يَتبَعُ
العِلمَ بتلكَ العلّةِ ؛ إمّا علىٰ جُملةٍ أو تفصيلٍ . و نَحنُ نَعلَمُ أنّه مَتى [عَلِمناه] عَلِمنا قُبحَه، و إن لَم نَعلَمْ معنىً مِن المَعاني و لا عِلّةً مِن العِلَلِ .
و لأنّه أيضاً كانَ لا يَمتَنِعُ أن يَنتَفيَ ذلكَ المعنى عمّا يَقَعُ ظُلماً أو كفراً للنِّعمةِ ، فلا يَكونَ قَبيحاً. أو يوجَدَ ذلكَ المعنىٰ في شُكرِ النِّعمةِ و الإحسانِ و مَعرِفَةِ اللّٰهِ تَعالىٰ ، فَيكونَ الجَميعُ قبيحاً.
و أيضاً فإنّ الطريقَ إلىٰ بيانِ العِلَلِ في الأحكامِ لا يَتَأتّىٰ في القَبيحِ ؛ لأنّا إنّما نُثبِتُ العِلّةَ بأن يَكونَ الحُكمُ المُعَلَّلُ يَثبُتُ و يَنتَفي، و الأحوالُ واحدةٌ في ثُبوتِه و انتفائِه، فيَمتَنِعَ تَعلُّقُه ببعضِ تلكَ الأحوالِ ، فيَفتَقِرُ إلىٰ تعليقهِ بأمرٍ مُنفَصِلٍ هو العلِّةُ .
ص: 93
و هذا يَتعذَّرُ في القَبيحِ ؛ لأنّ الحُكمَ الذي هو القُبحُ لا يُمكِنُ (1) ثُبوتُه (171) و انتفاؤه و الأحوالُ واحِدةٌ [فيهما](2).
و إذا لَم يَجُز أن يَقبُحَ القَبيحُ لمعنىً موجودٍ، فأحرىٰ أن لا يَكونَ كذلكَ لمعنىً معدومٍ .
و لأنّ كُلَّ معنىً معقولٍ قد يوجَدُ و لا يَخرُجُ الظُّلمُ مِن أن يَكونَ قَبيحاً.
و لأنّ المعدومَ لا يَختَصُّ في حالِ العدمِ ، و لا يَتعلَّقُ بغَيرِه، فلَو قَبُحَ له الفِعلُ مع عدمِ الاختصاصِ ، لَم يَكُن بذلكَ أحَقَّ مِن غَيرِه، و كانَ يَجِبُ قُبحُ جَميعِ الأفعالِ .
فأمّا ما يُبطِلُ أن تَكونَ (3) أحوالُ الفاعلِ مؤَثِّرةً في قُبحِ القَبيحِ ؛ نَحوُ كَونِه مُحدَثاً مملوكاً مربوباً، فهو أنّ الأمرَ لَو كانَ كذلكَ ، لَوجبَ أن تَكونَ أفعالُنا كُلُّها قَبيحةً ، و لا يَكونَ بعضُها بالقُبحِ أَولى مِن بعضٍ ؛ لأنّ المؤَثِّرَ في القُبحِ حاصلٌ ، و اختصاصَه بالكُلِّ اختصاصٌ واحدٌ.
و ممّا يُبطِلُ أيضاً ذلكَ : أنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَ قُبحَ الفِعلِ مِن زَيدٍ إلّا مَن عَلِمَ كَونَه مُحدَثاً مربوباً؛ لأنّ القَبيحَ لا يُعلَمُ قبيحاً إلّابَعدَ العِلمِ بما له صَحَّ جُملةً و تفصيلاً على ما تَقدَّمَ (4)، و هذا يَقتَضي أن لا تَعرِفَ (5) الدَّهريّةُ (6)
ص: 94
و مَن جَرىٰ مَجراها قُبحَ القَبائحِ .
و أيضاً: فإنّ كَونَ الفاعلِ مُحدَثاً مربوباً لا تَعلُّقَ له بالفِعلِ ، و ما يؤَثِّرُ في قُبحِ الفِعلِ و حُسنِه لا بُدَّ أن يَتعلَّقَ به ضَرباً مِن التعلُّقِ ؛ فكيفَ (1) يوجِبُ ذلكَ قُبحَ الفِعلِ و يؤَثِّرُ فيه، و قد يَحصُلُ قَبلَ وجودِ الفِعلِ (2) و بَعدَه، و يُساوي فيه الجَمادَ و المَواتَ ، و مِن شأنِ (3) وَجهِ القُبحِ أن يَتبَعَه القَبيحُ و لا يُفارِقَه ؟
و لا فَرقَ بَينَ مَن جَعَلَ كَونَ الفاعلِ مُحدَثاً وَجهاً لِقُبحِ الفِعلِ مع ما ذَكَرناه، و بَينَ مَن قالَ ذلكَ في كَونِه جسماً أو مَحَلّاً.
فأمّا ما يَدُلُّ علىٰ أنّ القَبيحَ لَم يَقبُحْ للنهيِ : فهو أنّ النهيَ لَو كانَ عِلّةً في قُبحِ الفِعلِ ، لَم يُخالِفْ فيه نَهيُنا لنَهيِه تعالى، و كانَ يَجِبُ أن يَكونَ نهيُنا موجِباً لقُبحِ ما يَتَناوَلُه، و هذا يَقتضي قُبحَ ما يَنهى عنه العِبادُ. و يُوجِبُ أيضاً أن يكونَ الشيءُ حَسَناً قبيحاً؛ بأن يأمُرَ به آمِرٌ و يَنهى عنه ناهٍ . و وجبَ أن يَقبُحَ الإيمانُ و شُكرُ النِّعمةِ و الإحسانُ ؛ [إذا] نهىٰ عنه [العبادُ](4)، و كُلُّ ذلكَ فاسدٌ.
و لَيسَ لهم أن يُفَرِّقوا بَينَ نَهيِه تَعالىٰ و نَهيِنا في اقتضاءِ قُبحِ الفِعلِ ، كما فَرَّقنا نَحنُ بَينَهما في الدَّلالةِ علىٰ قُبحِه.
و ذلكَ : أنّ العِلّةَ لجنسِها تؤَثِّرُ، و نَهيُنا مِن جنسِ نَهيِه تعالى، فيَجِبُ أن يَؤثِّرَ. ألَا
ص: 95
تَرى أنّ الكَونَ المخصوصَ مِن فعلِه، لمّا كانَ عِلّةً في كَونِ الكائنِ في جهةٍ مخصوصةٍ ، أثَّرَ ما يَفعَلُه مِن ذلك الجنسِ تأثيرَ ما يَفعَلُه تعالى، و لَم يَختَلِفا في بابِ التأثيرِ؟ و الدَّلالةُ لا تَدُلُّ لجنسِها، و إنّما تَدُلُّ (1) لوقوعِها علىٰ بعضِ الوجوهِ ، فلا يَمتَنِعُ أن يَكونَ نهيُه تَعالىٰ دالاًّ علَى القُبحِ دونَ نهيِنا؛ مِن حَيثُ كانَ النهيُ دَلالةَ الكَراهةِ ، و الحَكيمُ لا يَكرَهُ إلّاالقَبيحَ ، فلهذا فارَقَ نَهيُه في الدَّلالةِ لنَهيِ مَن لَيسَ بحكيمٍ مِنّا.
و لَيسَ لهم أن يَشتَرِطوا في إيجابِ النَهي(2) لِقُبحِ الفِعلِ صُدورَه مِن رَبٍّ مالكٍ .
و ذلكَ : أنّه قد يَكونُ رَبّاً مالِكاً، وَ لا يَنهى عن الفِعلِ ، فلا يَكونُ قَبيحاً، فيَجِبُ أن يَكونَ النهيُ هو المؤَثِّرَ.
علىٰ أنّ عِلّةَ الحُكمِ ما جاوَرَته، دونَ ما تَقدَّمَت عليه، و النهيُ أقرَبُ إلَى القُبحِ مِن كَونِه رَبّاً مالكاً، و لهذا كانَ وجودُ الحركةِ هو الموجِبُ لكَونِ المُتَحرِّكِ مُتَحرِّكاً دونَ وجودِه(3). و لَو جازَ أن يُشتَرَطَ ذلكَ في إيجابِ النهيِ مِنه، لَجازَ اشتراطُه في سائرِ العِلَلِ ؛ نَحوِ الحركةِ و العِلمِ و ما أشبَهَهما.
وَ أمّا ما يُسأَلُ عنه: مِن أنّ نَهيَ مالِكِ الدارِ عن دُخولِها يؤَثِّرُ في قُبحِ الدُّخولِ ؛ مِن حَيثُ كانَ مالكاً، دونَ نَهيِ مَن لَيسَ بمالِكٍ للدارِ.
فالجوابُ (4) عنه: (172) أنّ نَهيَ مالِكِ الدارِ إنّما أثَّرَ مِن حَيثُ دَلَّ مِن حالِه علىٰ أنّه غَيرُ راضٍ بالدُّخولِ ، و أنّه يَضُرُّ به، و نَهيُ غَيرِه لَيسَ له هذا الحَظُّ. و نَهيُ القَديمِ
ص: 96
تَعالىٰ عندَ مُخالِفينا بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّه يؤَثِّرُ عندَهم في القُبحِ و يُوجِبُه، و لَيسَ بدالٍّ علىٰ أمرٍ يوجِبُ ذلكَ الأمرُ قُبحَ الفِعلِ ، ففارَقَ إذنَ مالِكِ الدارِ.
و ما يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ القَبيحَ لَم يَقبُحْ (1) للنهيِ (2): أنّا قد بيّنّا(3) أنّ العِلمَ بقُبحِ القَبيحِ لا يُفارِقُه العِلمُ بوَجهِ القُبحِ ؛ إمّا على جُملةٍ أو تفصيلٍ ، فلَو قَبُحَتِ الأفعالُ للنهيِ لَكانَ مَن لا يَعرِفُ النهيَ و لا الناهِيَ ، مِن المُلحِدينَ و البَراهِمَةِ ، لا يَعرِفُ قُبحَ شيءٍ مِن القَبائحِ ، و لا يَفصِلُ بَينَ القَبيحِ و الحَسَنِ . و المعلومُ خِلافُ ذلكَ .
و لَو جازَ أن يُدَّعىٰ أنّ مَن ذَكَرناه غَيرُ عالِمٍ في الحقيقةِ بقُبحِ القَبائحِ و إنّما يَعتَقِدُ ذلكَ (4)، لَجازَ أن يُدَّعىٰ مِثلُه في العِلمِ بالفَرقِ بَينَ الأسوَدِ و الأبيَضِ و جميعِ المُدرَكاتِ ؛ لأنّ سُكونَ نفسِ العقلاءِ (5) إلَى الكُلِّ علىٰ أمرٍ واحدٍ، و لَجازَ أيضاً أن يُدَّعىٰ فيمن يَعرِفُ السمعَ و النهيَ مِثلُ ذلكَ .
و بَعدُ، فلَو لَم يَكُن هذا الاعتقادُ عِلماً، لَم يَكُن لعُمومِه سائرَ العقلاءِ وَجهٌ ؛ لأنّ مِن شأنِ الاعتقادِ الذي لَيسَ بعِلمٍ - و إنّما يَقَعُ عن شُبهةٍ و ما جَرى مَجراها - أن لا يَعُمَّ (6) العقلاءَ بأَسرِهم. و لا وَجهَ يَقتَضي عُمومَ ما ذَكَرناه مِن الاعتقادِ، إلّاأنّه مِن جُملةِ كمالِ العَقلِ (7).
ص: 97
و ليسَ لهم أن يقُولوا: إنّهم لاختلاطِهم بأهل السّمعِ اعتَقَدوا ذلكَ ؛ لأنّ جميعَ ما ذَكَرناه يُسقِطُه، و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يعتَقِدوا بالاختلاطِ بأهلِ السمعِ تحريمَ الزِّنىٰ ، و الخَمرِ، و جميعِ ما يُحرِّمُه أهلُ السمعِ .
و لا شيءَ أدَلَّ (1) علىٰ ما ذَكَرناه مِن أنّا نَجِدُ مَن يَعتَقِدُ تحريمَ القَبائحِ العقليّةِ و الشرعيّةِ ، مَتى شَكَّ في النبوّةِ ، خَرَجَ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ مِن اعتقادِ قُبحِ الشرعيّاتِ ، و لَم يَخرُجْ مِن الاعتقادِ بقُبحِ العقليّاتِ ، بل [بَقيَ علىٰ ](2) ما كانَ عليه. فلَو كانَ الشرعُ موجِباً للأمرَينِ أو طريقاً إليهما، لشَكَّك فيهما لمَكانِ الشكِّ فيه(3).
و بَيَّنَ ما ذَكَرناه أنّه يَجِبُ على هذا القولِ أن يَكونَ العِلمُ بقُبحِ الظُّلمِ و قُبحِ شُربِ الخَمرِ واقعاً مِن طريقٍ واحدٍ، و هذا يَقتَضي أن لا يَكونَ أحَدُهما أجلىٰ مِن الآخَرِ. كما أنّ الشَّخصَينِ مَتىٰ عُلِما بالإدراكِ علىٰ وَجهٍ واحدٍ، لا يَكونُ العِلمُ بأحَدِهما أجلى مِنَ الآخَرِ. و قد عَلِمَ كُلُّ عاقلٍ أنّ العِلمَ بقُبحِ الظُّلمِ أجلى مِن العِلمِ بِقُبحِ شُربِ الخَمرِ.
و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا قد عَلِمنا أنّ مَن دَعانا إلىٰ نُبوَّتِه و النظَرِ إلىٰ عِلمِه، و
خَوَّفَنا مِن الإعراضِ عن ذلكَ ، نَعلَمُ «وجوبَ النظَرِ فيما ادَّعاه علينا، و قُبحَ الإعراضِ » قَبلَ أن نَعلَمَ (4) النبوّةَ . و علىٰ هذا الوجهِ يَجِبُ النظَرُ في معرفةِ اللّٰهِ تَعالىٰ عندَ تَخويفِ الخاطرِ(5) و ما جَرى مَجراه؛ فكيفَ يُقالُ : إنّ العِلمَ بقُبحِ القَبائحِ يَقِفُ علَى السمعِ؟
ص: 98
و أيضاً: لَو كانَ النهيُ موجِباً لقُبحِ القَبائحِ ، لَوجبَ أن يَكونَ الأمرُ مؤَثِّراً في حُسنِ الحَسَنِ ، و هذا يَقتَضي أن لا يَحسُنَ مِنه تَعالىٰ شيءٌ مِن الأفعالِ ، كما لا يَقبُحُ منه شيءٌ . و لا إشكالَ في كُفرِ مَن التَزَمَ ذلك.
و لَيس له أن يقولَ : إنّ حُسنَ الفِعلِ يَكونُ للأمرِ و غَيرِه. (173)
لأنّه يَلزَمُ علىٰ ذلكَ أن يَكونَ القَبيحُ أيضاً للنهيِ و غَيرِه، و لا يَعصِمَهم في نفيِ القَبيحِ عن أفعالهِ تعالىٰ قولُهم: إنّه غَيرُ مَنهِيٍّ .
و لا له أن يقولَ : إنّ الفِعلَ يَحسُنُ مِنه تَعالىٰ لانتفاءِ النهيِ ، و ذلكَ وَجهٌ في حُسنِه كالأمرِ.
لأنّه لا فَرقَ بَينَ هذا القائلِ ، و بَينَ مَن قالَ : إنّ الفِعلَ يَقبُحُ لانتفاءِ الأمرِ كما يَقبُحُ للنهيِ (1)، و هذا يَقتَضي قُبحَ جميعِ أفعالِه تَعالىٰ .
و يَجِبُ أيضاً حُسنُ فِعلِ الطفلِ وَ النائمِ و البَهيمةِ لانتفاءِ النهيِ ، و لو حَسُنَت أفعالُهم لَم يَكُن لنا مَنعُهم عن كثيرٍ منها.
علىٰ أنّ انتفاءَ النهيِ لَو أَوجَبَ حُسنَ الفِعلِ ، لَم يكُن بالحُسنِ مِنَ النَّدبِ ؛ لأنّ تأثيرَه لا يَقتَضي هذه القِسمةَ .
و أيضاً: فيَجِبُ علىٰ هذا القولِ أن لا يَقبُحَ مِنه تَعالَى التفَرُّدُ بشيءٍ مِن القَبائحِ ؛ إذ كانَ غَيرَ مَنهيٍّ ، و هذا يَقتَضي تجويزَ الكَذِبِ عليه، و تصديقِ الكَذّابينَ ، و الأمرِ بالمَفاسِدِ، و النهيِ عن المَصالِحِ . و لا دِينَ يَبقى مع تجويزِ ذلكَ .
و أيضاً: فقُبحُ القَبيحِ يَرجِعُ إلَى الفِعلِ ، و النهيُ لا يَرجِعُ إليه؛ فكيفَ يَقتَضي قُبحَه ؟
و أيضاً: فإنّ النهيَ [له] أجزاءٌ كثيرةٌ ، و يَستَحيلُ في الجُملةِ أن يوجِبَ أمراً واحداً
ص: 99
لا [اختلافَ فيه؛ لأنّه(1)] يَرجِعُ إلَى الآحادِ دونَ الجُمَلِ .
و أيضاً: فإنّ النهيَ عن الفِعلِ يَختَصُّ حالَ عدمِه؛ فكيفَ يؤَثِّرُ في قُبحٍ لا يَحصُلُ إلّا في حالِ وجودِه ؟ و هذا يَقتَضي قُبحَ المعدومِ !
و أيضاً: فإنّ النهيَ حُروفٌ مُختَلِفةٌ ، و المُختَلِفُ مِن المعاني لا يوجِبُ حُكماً واحداً.
و أيضاً: فإنّ النهيَ قد يَحُلُ الضِّدَّ أو غَيرَ مَحَلِّ الفِعلِ ؛ فكيفَ [يؤَثِّرُ] فيه القُبحِ ، و لا تَعلُّقَ بَينَهما؟
و أيضاً: فلَو قَبُحَ الفِعلُ المَنهيُّ ، لَوجبَ أن يَكونَ المؤَثِّرُ هو الحَرفَ الآخِر؛ لأنّ ما تقضّى(2) مِن الحُروفِ لا يَجوزُ أن يَكونَ مؤَثِّراً. و لَو قَبُحَ للأخيرِ مِن الحُروفِ ، لَقَبُحَ لذلكَ و إن لَم يَتقدَّمْه باقي الحُروفِ .
و ليسَ لهُم أن يقولوا: إنّ النهيَ المُؤَثِّرَ هو القَديمُ الذي لَيسَ بحُروفٍ .
لأنّا نُبيِّنُ (3) فيما يأتي مِن الكتابِ بعَونِ اللّٰهِ ، أنّ الكلامَ لا يَجوزُ أن يَكونَ إلّا حُروفاً(4)، و بُطلانَ ما يَدَّعونَ مِن إثباتِ كلامٍ قَديمٍ لَيسَ بحروفٍ (5).
علىٰ أنّ هذا يَقتَضي أن لا يَكونَ لِقُبحِ الفِعلِ ابتداءٌ (6)، كما أنّ عليه [يكون النهي عنه] لا ابتداءَ له(7).
ص: 100
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ القَبيحَ لا يَقبُحُ للنهيِ (1): أنّ ذلكَ يَقتَضي أن لا يَقَعَ القَبيحُ ممّن لَيسَ بمَنهيٍّ كالصَّبيِّ و البَهيمةِ ، و يَجِبُ لَو حاوَلَ الصَّبِيُّ أن يَقتُلَ إماماً و نَبيّاً [أن] لا يُمنَعَ مِن ذلكَ ، و [أن] لا يَلزَمَنا أن نَدفَعَه عنه.
و إذا بَطَلَ كُلُّ قسمٍ عَلَّقوا به قُبحَ القَبائحِ ، أو أمكَنَ تَعلُّقُه به، صَحَّ ما ذَهَبنا إليه في وَجهِ القُبحِ ، و أنّ التأثيرَ هو له(2) دونَ غَيرِها؛ لأنّه إذا كانَ لا بُدَّ مِن أمرٍ، و بَطَلَ كُلُّ ما تَقتَضيهِ القِسمةُ إلّاأمراً واحداً(3)، فلا بُدَّ مِن تَعلُّقِ الحُكمِ به.
***
[ج] فَصلٌ في ذِكرِ أقسامِ (4) الأفعالِ الحَسَنةِ و أحكامِها و مَراتِبها
قد تَقدَّمَ مِن ذِكرِنا لِما يَنقَسِمُ إليه الفِعلُ الحَسَنُ ما يُغني عن(5) تَكرارِه(6).
و الطريقُ إلىٰ أنّ «ما يَحسُنُ مِن الأفعالِ ، أو تَكونُ له صفةُ النَّدبِ أو الواجبِ ، لا بُدَّ مِن اختصاصِه بصفةٍ » هو ما(7) سَلَكناه(8) في أنّ القَبيحَ يَختَصُّ (9)،
ص: 101
فلا(1) مَعنى (174) لإعادتِه.
و قد اختُلِفَ فيما له يَحسُنُ الحَسَنُ :
فذَهَبَ بعضُ الشُّيوخِ إلىٰ أنّه يَحسُنُ لوَجهٍ يَقَعُ عليه، كما نَقولُ ذلكَ في القَبيحِ ، غَيرَ أنّه يَقولُ : متَى اجتَمَعَ وَجهُ الحُسنِ و وَجهُ القُبحِ في الفِعلِ الواحدِ، كانَ الحُكمُ لوَجهِ القُبحِ (2).
و قالَ مَن تَأخَّرَ عن هؤلاءِ : إنّ الحَسَنَ لا يَجوزُ أن يَحسُنَ لوقوعِه علىٰ وَجهٍ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ متَى اجتَمَعَ فيه وَجهُ القُبحِ (3) و وَجهُ الحُسنِ ، أن يَكونَ حَسَناً قَبيحاً؛ لأنّ عِلّةَ الحُكمِ لا يَجوزُ ثُبوتُها مع انتفاءِ الحُكمِ ، و لا يَجوزُ تَغليبُ حُكمِ إحدَى العِلّتَينِ علَى الأُخرى؛ لأنّ ذلكَ يَنقُضُ كَونَها عِلّةً .
و يَجعَلُ مَن ذَهَبَ إلىٰ ما ذَكَرناه ما له يَحسُنُ الفِعلُ ثُبوتَ غَرَضٍ فيه، و انتفاءَ وجوهِ القُبحِ عنه.
و الأَولى أن يُقالَ : إنّ الحَسَن يَحسُنُ لوقوعِه علىٰ وَجهٍ هو المؤَثِّرُ في حُسنِه، لكنّه إنّما يؤَثِّرُ بشرطِ انتفاءِ وجوهِ القُبحِ ؛ لأنّ دُخولَ الشُّروطِ بالنفيِ و الإثباتِ مع ما في أحكامِ الأفعالِ غَيرُ مُنكَرٍ. و إنّما جَعَلنا الوَجهَ الذي يَقَعُ عليه الفِعلُ هو المُؤثِّرَ في حُسنِه؛ لأنّه هو الذي يَخُصُّه. و جَعَلنا النفيَ شَرطاً؛ لأنّه لا يَخُصُّ الفِعلَ ، و
ص: 102
جَرى ذلكَ مَجرى ما نَقولُه(1) في كَونِ الحَيِّ حَيّاً، و اقتضائه كَونَ المُدرَكِ مُدرَكاً بشرطِ انتفاءِ المَوانِعِ .
و العِلمُ بكَونِ الشيءِ حَسَناً و نَدباً و واجِباً، قد يَكونُ ضَروريّاً على الجُملةِ ، و يُعلَمُ فيما اختَصَّ بالصفةِ المذكورةِ المؤَثِّرةِ في كَونِه نَدباً أو واجِباً، أنّه كذلكَ بِاكتسابٍ . و هذا كعِلمِنا باضطرارٍ علَى الجُملةِ ، بأنّ (2) الإحسانَ الخالصَ له صفةُ النَّدبِ ، و أنّ رَدَّ الوَديعةِ واجبٌ ، و كذلكَ شُكرُ النِّعمةِ و قَضاءُ الدَّينِ . فمَتى عَلِمنا في الفِعلِ المُعيَّنِ أنّه بصفةِ الإحسانِ ، عَلِمنا حُسنَه و أنّ له صفةَ النَّدبِ باعتقادٍ نَفعَلُه(3) يُطابِقُ الجُملةَ المُتقرِّرةَ في العَقلِ . و كذلكَ متىٰ عَلِمنا في الفِعلِ أنّه(4)شُكرُ النِّعمةِ و رَدُّ الوديعةِ ، فَعَلنا اعتقاداً لوجوبِه، و يَكونُ ذلكَ الاعتقادُ عِلماً؛ لأجلِ الجُملةِ المُتقرِّرةِ في العَقلِ . و هذا قد تَقدَّمَ شَرحُه عندَ بيانِنا(5) الطريقَ إلىٰ معرفةِ القَبائحِ (6).
و ما يُعلَمُ بالسمعِ وجوبُه أو كَونُه نَدباً يَدخُلُ فيما ذَكَرناه، و يَجري مَجرى ما يُعلَمُ بالسمعِ قُبحُه؛ لأنّ الحَكيمَ إذا أَوجَبَ شيئاً، عُلِمَ أنّه لا بُدَّ مِن وَجهِ وجوبٍ علَى الجُملةِ ، فإن كانَ الفِعلُ ممّا إن كانَ واجِباً فلِوَجهٍ معيَّنٍ (7) يَجِبُ ، عُلِمَ ثُبوتُ
ص: 103
ذلكَ الوَجهِ فيه بإيجابِ الحُكمِ (1)، و عُلِمَ بوجوبِه(2) مُطابَقةُ ما في العَقلِ . و إن كانَ ممّا يَجِبُ لوجوهٍ شَتّىٰ (3)، عُلِمَ أنّه لا بُدَّ مِن ثُبوتِ بَعضِها فيه.
و قد قيلَ : إنّ في الواجبِ ما يُحمَلُ بالاستدلالِ علىٰ غَيرِه؛ كنَحوِ حَملِ «التَّوبةِ »
في الوجوبِ علَى «الاعتذارِ» فيما جَرىٰ مَجرىٰ ما ذَكَرناه في الكَذِبِ المُختَصِّ بنَفعٍ أو دَفعِ ضررٍ، إذا حُمِلَ في بابِ القُبحِ علَى الكَذِبِ العاري من ذلك.
و الطريقُ إلىٰ أنّ الواجبَ و جميعَ ضُروبِ الأفعالِ الحَسَنةِ ، لَم تَكُن(4) كذلكَ لجنسِها، أو(5) وجودِها، أو وجودِ معنىً ، أو عدمِ معنىً ، أو للأمرِ، أو لأحوالِ فاعلِها، و أنّها إنّما كانَت كذلكَ للوجوهِ (6) التي تُعلَّقُ عليها الأحكامُ ؛ نَحوِ كَونِها إحساناً [خالصاً و أنّها](7) شُكرُ النِّعمةِ إلىٰ ما شاكَلَ ذلك، هو ما بيّنّاه في بابِ الكلامِ في القَبائحِ (8)، فلا مَعنىٰ لإعادتِه.
و كذلكَ الكلامُ في أنّ مَن عَلِمَ وجوبَ الفِعلِ ، و كَونَه نَدباً، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ عالِماً بما له كانَ كذلكَ ؛ إمّا على جُملةٍ أو تفصيلٍ .
ص: 104
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ كَونَ القادرِ قادراً، إنّما (175) يَتعلَّقُ بإحداثِ (1) الأجناسِ ، و كَونُه قَبيحاً لا مَدخَلَ له فيما تَتعلَّقُ به القُدرةُ ؛ ألا تَرىٰ أنّه قد يَكونُ قَبيحاً لانتفاءِ أُمورٍ؛ إمّا مِن جهتِه أو جهةِ غَيرِه؛ نَحوِ الظُّلمِ الذي يَقبُحُ لِانتفاءِ [النفع](2)، و دَفعِ الضررِ و الاستحقاقِ؟ فمَن قَدَرَ علَى الجنسِ ، قَدَرَ أن يوجِدَه و إن خَلا ممّا ذَكَرناه؛ لأنّ خُلُوَّه لا يُغيِّرُ حالَ القادرِ؛ و كيفَ يُغيِّرُه و كَونُه ظُلماً لا تَعلُّقَ له بأحوالِ القادرِ زائداً(3) علىٰ كَونِه قادراً، حتّىٰ يَصِحَّ أن يُقالَ : إنّه تَعالىٰ لَيسَ علىٰ تلك الأحوالِ ، و إنّما المَرجِعُ به إلَى انتفاءِ أُمورٍ لا تَتعلَّقُ القُدرةُ بها؟
و أيضاً: قد ثَبَتَ أنّ القادرَ علَى الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ قادراً علىٰ جنسِ ضِدِّه إذا
ص: 105
كانَ له ضِدٌّ. و هو تَعالىٰ قادرٌ علىٰ أن يَفعَلَ فينا العِلمَ به تَعالىٰ و بصفاتِه، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً علىٰ ضِدِّ ذلك و هو الجَهلُ القَبيحُ . و كذلك هو قادرٌ علىٰ خَلقِ الشَّهَواتِ في أهلِ الجَنّةِ لِما يُدرِكونَه، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً علىٰ خَلقِ النِّفارِ بَدَلاً مِن ذلكَ ، و هو ظُلمٌ قَبيحٌ .
و أيضاً: فقَد ثَبَتَ أنّ القادرَ على الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ ممّن يَصِحُّ أن لا يَفعَلَه؛ لِيَخرُجَ مِن حُكمِ المُضطَرِّ و مَن لَيسَ بقادرٍ. و هو تَعالىٰ قادرٌ علىٰ إثابةِ المُطيعِ و
إعادتِه، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً علىٰ أن لا يَفعَلَ ذلكَ . و تَركُ فِعلِ الواجبِ كالقَبيحِ ، ممّا هَرَبَ مِنه المُخالفُ .
و أيضاً: فقَد ثَبَتَ كَونُه تَعالىٰ قادراً علىٰ تعذيبِ مُستَحِقِّ العذابِ ، كالكافرِ و غَيرِه، ما لَم يَتُبْ ، فإذا تابَ يَجِبُ أن يَكونَ علىٰ ما كانَ عليه؛ مِن كونِه قادراً علىٰ عِقابِه. و ما يَقَعُ بَعدَ التَّوبةِ هو الظُّلمُ القَبيحُ .
و إنّما قُلنا: إنّ التَّوبةَ لا تُخرِجُه(1) مِن كَونِه مقدوراً؛ لأنّها(2) لَو أخرَجَته مِن المقدورِ و أحالَت وجودَه، لَاشتَرَكَ كُلُّ القادرينَ في ذلكَ ، و لَجَرَتِ التَّوبةُ مَجرىٰ وجودِ المقدورِ، أو تَقضّي وَقتِه، أو وجودِ سببِه، أو تَقَضّي(3) وَقتِ سببِه.
و أيضاً: فإنّ القادرَ لنفسِه أَوكَدُ حالاً(4) فيما يَتعلَّقُ (5) به مِن القادرِ بقُدرةٍ ، و لهذا قَدَرَ [على] أجناسٍ [لا] يَقدِرُ عليها(6)، و لَم يَتَناهَ مقدورُه مِن الجنسِ الواحدِ
ص: 106
و بالوَقتِ و المَحَلِّ [الواحدِ، فوجبَ كَونُه قادراً علىٰ جميع المقدوراتِ التي كان القادرُ بقُدرَةٍ ](1) قادراً عليها؛ لأنّ حالَه [إن] لَم يَزِدْ في ذلكَ ، لَم يَنقُصْ ؛ سَواءٌ رَجَعَ كَونُه قويّاً(2) قادراً إلىٰ جنسٍ أو ضَربٍ أو وَجهٍ . و هذا يَقتَضي كَونَه قادراً علىٰ ما لَو وَقَعَ لَكانَ قَبيحاً؛ لأنّ القادرَ بقُدرةٍ يَقدِرُ علىٰ ذلكَ .
و أيضاً: فلَيسَ يَخلو القَبيحُ (3) مِن أن يَكونَ جنساً مُخالِفاً للحَسَنِ ، أو يَكونَ الجنسُ واحداً، و يَرجِعُ القَبيحُ إلى ضُروبِ الجِنسِ .
و الأوّلُ : يَقتَضي كَونَه تَعالىٰ قادراً عليه؛ لأنّه مِن حَيثُ كان قادراً لنفسِه، يَجِبُ أن يَقدِرَ علىٰ جميعِ الأجناسِ .
و إن كانَ الثانيَ : فمِن شأنِ القادرِ علَى الجنسِ أن يَقدِرَ علىٰ كُلِّ ضُروبِه و الوجوهِ التي يَقَعُ عليها، و أن لا يَقَعَ في ذلكَ اختصاصٌ بَينَ القادِرينَ ، و إن كانَ في القُدَرِ علَى الأجناسِ اختصاصٌ .
و كُلُّ ذلك يُصَحِّحُ كَونَه تَعالىٰ قادراً علىٰ ما لَو وَقَعَ لَكانَ قَبيحاً.
و أقوىٰ ما تَعلَّقَ به النَّظّامُ و مَن وافَقَه في نَفيِ كَونِه تَعالىٰ قادراً علَى القَبيحِ :
قولُهم: إنّ (4) إثباتَه قادراً علىٰ ذلكَ ، يَقتَضي جَوازَ وُقوعِه مِنه، فإذا عُلِمَ أنّه تَعالىٰ
ص: 107
لا يَفعَلُه، كانَ ذلكَ دَلالةً علىٰ أنّه لَيسَ بقادرٍ عليه. كما أنّ الجَمعَ بين الضِّدَّينِ لمّا لَم يَكُن مقدوراً، لَم يَجُز وقوعُه.
و قولُهم أيضاً: لَو كانَ الظُّلمُ في مقدورِه، لكُنّا مَتىٰ قَدَّرنا وقوعَه، لا يَخلو مِن أحَدِ أمرَينِ :
إمّا أن يَكونَ دالاًّ علىٰ كَونِه جاهلاً أو مُحتاجاً، أو لا يَكونَ دالاًّ على ذلك.
فإن دَلَّ علىٰ ما ذَكَرناه، (176) وَجب كَونُه تَعالىٰ علىٰ إحدىٰ هاتَينِ الصفتَينِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا متىٰ وَصَفناه بالقُدرةِ علىٰ أن يَدُلَّ علىٰ أنّ زَيداً في الدارِ، وجبَ أن يَكونَ زَيدٌ في الدارِ؟
و إن كانَ لا يَدلُّ الظُّلمُ مِنه علىٰ ما ذَكَرناه، وجبَ أن لا يَدُلَّ وقوعُ الظُّلمِ الواقعِ مِن أحَدِنا علىٰ أنّه جاهلٌ أو مُحتاجٌ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَمتَنِعَ مِن الجَوابِ عن ذلكَ بأنّه يَدُلُّ أو لا يَدُلُّ ؛ لأنّه نفيٌ و إثباتٌ بلا واسطةٍ بَينَهما.
و لا له أن يَقولَ : إنّ النفيَ و الإثباتَ هنا(1) لَم يَتَقابَلا، و يَرجِعا إلىٰ أمرٍ واحدٍ.
لأنّ الظُّلمَ المُقدَّرَ وقوعُه لا يَخلو لَو وَقَعَ و نَظَرَ ناظرٌ فيه، مِن أن(2) يُفضي نَظَرُه إلَى العِلمِ بأنّ فاعلَه محتاجٌ أو جاهلٌ ، أو لا يُفضيَ إلىٰ ذلكَ . فبانَ [أنّ ] النفيَ و الإثباتَ هاهنا مُتَقابِلان و راجعانِ إلىٰ ذاتٍ واحدةٍ .
[1.] أنّا لا نقولُ : إنّ القَبيحَ مِنه تَعالىٰ جائزٌ، و إن كانَ قادراً عليه؛ لأنّ لفظةَ
ص: 108
«الجَوازِ» حقيقةٌ في الشَّكِّ و إن استُعمِلَت في غَيرِه. و إذا عَلِمنا بالدليلِ القاطعِ أنّه تَعالىٰ لا يَفعَلُ القَبيحَ ، لَم نُطلِقْ (1) مِن الألفاظِ ما يَقتَضِي الشكَّ في ذلكَ ؛ - فإنّما استُعمِلَت لفظةُ «الجَواز» [في] الصحّةِ التي معناها نفيُ الاستحالةِ - لأنّه كانَ يؤَدّي إلىٰ صحّةِ إطلاقِ القولِ بأنّ اللّٰهَ تَعالىٰ يَجوزُ أن يكونَ عالِماً، و أنّ النبيَّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم يَجوزُ أن يَكذِبَ . و لِما ذَكَرناه أخيراً يَفسُدُ أن يَكونَ معنَى «الجوازِ» معنَى القُدرَةِ .
فأمّا إطلاقُ القَولِ بأنّ القَبيحَ «صَحَّ منه»، فإنّا نُجِيبُ السائلَ عن ذلكَ بأنّك إن أرَدتَ بالصحّةِ القُدرةَ ، فهو يَصِحُّ منه. و إن أرَدتَ الجَوازَ، فإنّا نَمنَعُ منه؛ لما تَقدَّمَ .
[2.] و لَيسَ يَجِبُ إذا عَلِمنا بالدليلِ في بَعضِ الأفعالِ أنّه لا يَقَعُ ، و امتَنَعنا مِن جَوازِ وقوعِه وَ الشكِّ في ذلكَ مِن حالِه، أن نَقضِيَ بأنّه غَيرُ مقدورٍ؛ لأنّ (2) هذا
يَقتَضي أن يَكونَ غَيرَ قادرٍ علىٰ ما عَلِمَ أنّه لا يَفعَلُه، و لَوجبَ أن تَكونَ الملائكةُ و الأنبياءُ لا يَقدِرونَ علَى المَعاصي؛ مِن حَيثُ عُلِمَ أنّهم لا يَفعَلونَها، و أن يكونَ المُلجَأُ(3) إلَى الفِعلِ لا يَقدِرُ على خِلافِه.
[3.] علىٰ أنّ كَونَ بعضِ الفاعلينَ ممّن لا يَفعَلُ أبَداً القَبيحَ و لا يَختارُ إيجادَه، لَو أوجَبَ كَونَه غَيرَ قادرٍ عليه، لَوجبَ مَتىٰ عَلِمنا أنّ أحَدَنا لا يَختارُ القَبيحَ في وقتٍ واحدٍ أو(4) أوقاتٍ قصيرةٍ ، أن لا يَكونَ قادراً عليه؛ لأنّ (5) ما اقتَضىٰ خُروجَ القادرِ مِن
ص: 109
كَونِه قادراً لا يَختَلِفُ ؛ طالَ وَقتُه أو قَصُرَ، كسائرِ ما تَقدَّمَ ذِكرُه مِن وجودِ المقدورِ و تَقَضّي وقتِه. و علىٰ هذا، صَحَّ كَونُ القادرِ قادراً علَى الضِّدَّينِ ، و إن لَم يَصِحَّ أن يَفعَلَهما معاً.
[4.] فأمّا ما اعتَرَضوا به مِن الجَمعِ بَينَ الضدَّينِ ، فإنّا لَم نَنفِ كَونَ ذلك مَقدوراً مِن حَيثُ لَم نُجِز وقوعَه، [بل] مِن حيثُ عُلِمَت استحالتُه في نَفسِه.
إنّ العِباراتِ قد تَدخُلُها الصحّةُ و الفَسادُ، و ما عُلِمَ بالأدلّةِ لا يَجوزُ أن يَدخُلَه الفَسادُ، فيَجِبُ فيما دَلَّت عليه الدَّلالةُ أن نَتَجَنَّبَ مِن العِباراتِ ما يَقتضي فَسادَه.
فلَو قُلنا: «إنّ وُقوعَ الظُّلمِ مِنه تَعالىٰ يَدُلُّ علىٰ جَهلِه أو حاجتِه»، لَوجبَ أن يَكونَ على إحدىٰ هاتَينِ الصفتَينِ ، و إن لَم يَفعَلِ الظُّلمَ . و ما عَلِمناه مِن كَونِه عالماً غَنيّاً يَمنَعُ مِن ذلكَ .
و إن قُلنا: «إنّه لا يَدُلُّ » نَقَضَ هذا القَولَ دَلالةُ الظُّلمِ في الشاهدِ علىٰ جَهلِ فاعلِه أو حاجتِه.
و إن قُلنا فِراراً مِن ذلكَ : «إنّه غَيرُ قادرٍ (177) علَى الظُّلمِ » نَقَضَ ما عَلِمناه بالأدلّةِ مِن كَونِه قادراً على ذلكَ .
فاقتَصَرنا علَى القولِ ب «أنّ الظُّلمَ لَو وَقَعَ مِنه لَكانَ ظالِماً، و لَاستَحَقَّ الذَمَّ »؛ لأنّ ذلكَ كالمُوجَبِ عن الظُّلمِ ، و لا يُؤدّي إطلاقُه إلىٰ نَقضِ الأدِلّةِ .
و لا بُدَّ لِمَن سُئلَ (1) عن ذلكَ مِن التَّعويلِ علىٰ مِثلِ جَوابِنا.
ص: 110
[و سبيل هذا السؤال سبيل مَن(1)] إذا سُئلَ عن المَلَك إذا فَعَلَ ما يَقدِرُ عليه مِن المعصيةِ ؛ هل يَكونُ خبرُه تَعالىٰ عن أنّه لا يَفعَلُها، صِدقاً و دَلالةً ، أو لا يَكونُ؟
فإن قيلَ : إنّه دَلالةٌ علىٰ أنّه لا يَفعَلُ ، فقَد(2) فَعَلَ .
و إن قُلنا: إنّه لا(3) يَكونُ دَلالةً ، كان(4) أيضاً فاسداً.
و كذلك إذا سُئلَ عن القَديمِ تَعالىٰ : لَو عَلِمَ (5) خِلافَ ما عُلِمَ أنّه يَفعَلُه، لَكانَ
يَخرُجُ مِن كَونِه عالِماً، أو يَكونُ علىٰ ما كانَ عليه مِن العِلمِ؟
أو سَألَ (6) عنِ الرسولِ عليه السلام: لَو خَبَّرَ أنّ بعضَ الدُّورِ لا تَدخُلُها امرأةٌ ، فقالَ (7): و لَو دَخَلَتها امرأةٌ ؛ لَكانَ دُخولُها مُكَذِّباً لخبرِه و مُبطِلاً لعِلمِه، أو موجِباً لكَونِ المرأةِ رَجُلاً؟
و لِهذه المسائلُ [نَظائرُ] كثيرةٌ ، و لا بُدَّ فيها(8) مِن جوابِنا، و الامتناعِ عن الجَوابِ بما يَنقُضُ المعلومَ . و هذا هو جوابُ أبي عَليٍّ (9).
و ممّا يوضِحُه و يَكشِفُ عن معناه، أنّ الأمرَ المُقدَّرَ يَنقَسِمُ علىٰ وَجهَينِ :
فمِنه ما يَكونُ الإخبارُ عنه بالتقديرِ مُفيداً فيه، [و مِنه ما يَكونُ ] في غَيرِه، فما
ص: 111
أفادَ في نفسِه صَحَّ الجَوابُ عنه بالنفيِ أو الإثباتِ ، و ما يُفيدُ في غَيرِه يَجِبُ أن يَتأمَّلَ حالَه، و يُجيبَ بما يُطابِقُ حالَه، و يَمتَنِعَ ممّا لا يُطابِقُ .
فمثالُ الأوّلِ - و هو المُفيدُ في نفسِه - أن يُقالَ : أتُجيزونَ وَصفَ زَيدٍ بالقُدرةِ «علىٰ أن يَفعَلَ اعتقاداً لأنّ السَّماءَ تَحتَه»، أو لا تُجيزُونَ ذلك ؟
فمِن جَوابِنا جَوازُه؛ لأنّ الاعتقادَ لا يُفيدُ في الغَيرِ أنّ مُعتَقَدَه علىٰ ما هو به.
و لَو قالَ بَدَلاً مِن ذلكَ : أفتَصِفونَه بالقُدرَةِ «علىٰ أن يَفعَلَ عِلماً بأنّ السَّماءَ تَحتَه»؟ لَامتَنَعنا؛ مِن حَيثُ كانَ العِلمُ يُفيدُ في المعلومِ [أن] يَقتَضيَ تَعلُّقَه بالشيءِ علىٰ ما هو به.
فأمّا القِسمةُ بالنفيِ و الإثباتِ ، فإنّما(1) تَصِحُّ (2) في الأُمورِ المعلومةِ الثابتةِ .
[و] أمّا(3) ما لَيسَ بثابتٍ ممّا يُقدَّرُ، فقَد يُقدَّرُ علىٰ وَجهٍ يَجري فيه مَجرَى الثابتِ المعلومِ .
و رُبَّما قُدِّرَ علىٰ وَجهٍ لا يَلحَقُ بالمعلومِ في صحّةِ القِسمةِ بالنفيِ و الإثباتِ ؛ لأنّ ما يُقدِّرُه يَختَلِفُ حالُه بحَسَبِ ما يُلحَقُ به و يُضَمُّ إليه مِن الكلام:
فالتقديرُ المُجرَّدُ(4) [الذي] يَجري مَجرَى الثابتِ المعلومِ ؛ كقَولِنا للكُلّابيِّ : لَو كانَ للّٰهِ تَعالىٰ عِلمٌ ، لَوجبَ أن يَكونَ موجوداً أو معدوماً، و إن كان موجوداً وجبَ أن يَكونَ قَديماً أو مُحدَثاً.
و إنّما لَحِقَ هذا المُقدَّرُ بالثابتِ ؛ مِن حَيثُ تَجرَّدَ عن أمرٍ تَغيَّرَ عن حالِه.
ص: 112
فأمّا إذا لَم يَتجرَّدِ التقديرُ، لَم يَمتَنِعْ أن يَكونَ النفيُ أو الإثباتُ فيه مُتعذِّراً؛ لِما ضَمَمناه إليه في الكلامِ ؛ ألَاتَرىٰ أنّا نَقولُ في الجَوهرِ الموجودِ: إنّه في كُلِّ حالٍ لا
يَخلو مِن: جَوازِ كَونِه في جهةٍ بَدَلاً مِن غَيرِها، أو أن يَكونَ ذلكَ غَيرَ جائزٍ عليه، فنوجِبُ إمّا النفيَ أو الإثباتَ ؛ لتقابُلِهما؟ و كذلكَ لَو قَدَّرنا في الجَوهرِ المعدومِ الوجودَ، لَكانَت هذه القِسمةُ صحيحةً فيه؛ لأنّا قَدَّرنا تقديراً مُجرَّداً خالياً ممّا يَمنَعُ مِن دُخولِ النفيِ و الإثباتِ .
فلَو قيلَ لنا: فلَو كانَ الجَوهرُ الموجودُ قَديماً، لَكانَت القِسمةُ التي ذَكَرتُموها تَصِحُّ فيه، لَامتَنَعنا؛ مِن حَيثُ إنّا مَتىٰ قُلنا: يَجوزُ كَونُه في كُلِّ حالٍ في جهةٍ بَدَلاً مِن الأُخرىٰ ، نَقَضَ ذلكَ كَونَه قديماً؛ لأنّ القَديمَ لا يجوزُ أن يَتردَّدَ فيما لَم يَزَلْ بَينَ صفتَينِ ضِدَّينِ ، و إن قُلنا: (178) لا يجوزُ، نَقَضَ ما عَلِمناه مِن أنّ التحيُّزَ يُصَحِّحُ كَونَ الجوهرِ في الجهةِ بَدَلاً مِنَ الأُخرى. و إنّما فارَقَ هذا التقديرُ لِما تَقدَّمَ ؛ مِن حيثُ تَجرَّدَ الأوّلُ ، و انضَمَّ إلى الثاني ما يَمنَعُ مِن الجوابِ فيه بالنفيِ و الإثباتِ . و علىٰ هذا يَصِحُّ ما قَدَّمناه مِن الامتناعِ مِن الجَوابِ في دَلالةِ الظُّلمِ ؛ لأنّه تقديرٌ بُنِيَ علىٰ ما لا يُمكِنُ معه النفيُ و لا الإثباتُ ، علىٰ ما تَقدَّمَ كشفُه.(1)
و قَد كانَ أبو هاشمٍ يَختَصُّ بجَوابٍ آخَرَ عن هذا السؤالِ ، فيَقولُ : لا يَجوزُ القولُ بأنّ الظُّلمَ لَو وَقَعَ مِنه تَعالىٰ لَدَلَّ علىٰ جَهلِه و حاجَتِه؛ لأنّ ذلكَ تعليقٌ للمُحالِ - الذي هو الجَهلُ و الحاجةُ - بالجائزِ(2) و هو وقوعُ الظُّلمِ . و لا يَجوزُ القولُ
ص: 113
بأنّه كانَ لا يَدُلُّ ؛ لأنّه تَعليقٌ للمُحالِ - و هو رَفعُ دَلالةِ الظُّلمِ متىٰ كان الأوّلُ مُستَحيلاً - بالجائزِ و(1) هو وُقوعُ الظُّلمِ .
و مِن شأنِ ما تَعلَّقَ بغَيرِه إذا كانَ القَصدُ به الإخبارَ لا الاعتبارَ و النفيَ ، أن يَكونَ له ثانٍ مَتىٰ كانَ الأوّلُ ، و إذا كانَ الثاني مُستَحيلاً كَونُه على كُلِّ حالٍ - وَقَعَ الأوّلُ أم لَم يَقَعْ - لَم يَجُز تعليقُه به علىٰ جهة الإخبارِ؛ لأنّ فائدةَ التضَمُّنِ و التعليقِ تَبطُلُ (2)، و لهذا لا يَصِحُّ قولُ القائلِ : «لَو دَخَلَ زيدٌ الدارَ لَصارَ السوادُ بياضاً». و تَعليقُ الشيءِ بغَيرِه علىٰ جهةِ الإخبارِ يُخالِفُ ذلكَ ؛ لأنّه يَصِحُّ القولُ للمُجبِرةِ بأنّ القَديمَ تَعالىٰ لَو فَعَلَ القَبيحَ لَكانَ جاهلاً أو مُحتاجاً؛ لأنّ الغَرَضَ بذلكَ نَفيُ فِعلِ القَبيحِ عنه كما انتَفَتِ الحاجةُ و الجَهلُ ، فقَد(3) تَعلَّقَ علىٰ هذا الوجهِ الفِعلُ (4) المُحالُ بالمُحالِ (5).
فنَقولُ : لَو جازَ وجودُ ما لا يَتَناهىٰ في الماضي لَجازَ في المُستَقبَلِ ، و أن يَبتدئَ
أحَدُنا فيَفعَلَ فِعلاً بَعدَ أن يَفعَلَ ما لا يَتَناهىٰ . و الغَرَضُ بذلك نَفيُ الأمرَينِ .
و كذلكَ يجوزُ على جهةِ النفيِ و التبعيدِ تضمينُ الجائزِ بالمُحالِ ، كقولِه تَعالىٰ :
«وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ»(6). في الأصل: «لغيره».(7) و كُلُّ ذلك مُفارِقٌ تعليقَ الشيءِ بغَيرِه(7) على جِهةِ الإخبارِ.
ص: 114
[الجواب الثالث: نفي دلالة وقوع الظلم منه تعالىٰ على الجهل و الحاجة](1)
و ممّا يُجابُ به عن السؤالِ أن نقولَ : لَو وَقَعَ الظُّلمُ مِنه تَعالىٰ ، لَما كانَ يَدُلُّ على جَهلٍ و لا حاجةٍ فيه تَعالىٰ ؛ لأنّ الظُّلمَ إنّما يَدُلُّ علىٰ أحَدِ الأمرَينِ مَتى عَلِمنا أنّ الغَنِيَّ العالِمَ لا يَختارُه، فإذا قَدَّرنا وقوعَه مِن عالِمٍ غَنِيٍّ ، فقَد أخرَجناه مِن كَونِه دالاًّ.
و جَرىٰ هذا القولُ مَجرىٰ مَن قالَ لنا: «لَو ظَهَرَتِ المُعجِزاتُ علىٰ يَدِ الكَذّابِينَ ؛ أ كانَت تَكونُ دَلالةً علىٰ صِدقِ مَن ظَهَرَت عليه»؟
فالجَوابُ : أنّها حينئذٍ لا تَدُلُّ علَى الصِّدقِ ؛ لأنّها(2) إنّما تَدُلُّ علىٰ ذلك مَتىٰ عَلِمنا مِن حالِها أنّها لا تَظهَرُ علَى الكَذّابِ ، فإذا قَدَّرنا ما يُخالِفُ ذلكَ ، فلا بُدَّ مِن الجَوابِ بأنّها لا تَدُلُّ ؛ لأنّ الجَوابَ إنّما يَكونُ بحَسَبِ السؤالِ .
فكذلكَ إنّما نَقولُ في المُحكَمِ مِن الأفعالِ : «إنّه دَلالةٌ علىٰ أنّ فاعِلَه عالِمٌ » مَتىٰ عَلِمنا أنّه لا يَظهَرُ مِن [غَيرِ](3) العالِمِ ، فلَو قالَ لَنا قائِلٌ : فلَو ظَهَرَ المُحكَمُ ممّن لَيسَ بعالِمٍ ، لَكانَ يَكونُ دَلالةً علىٰ عِلمِ فاعلِه ؟ لَكانَ الجَوابُ أنّه لا يَكونُ دَلالةً بهذا التقديرِ.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فيَجِبُ علىٰ هذا أن تنتَقِضَ (4) دَلالةُ الظُّلمِ علَى الجَهلِ و الحاجةِ !
ص: 115
لأنّ ذلكَ لا يَلزَمُ ؛ مِن حَيثُ أجَبنا بأنّه «لا يَدُلُّ » بتقديرٍ لَيسَ يَقتَضي إخراجَه عن كَونِه دَلالةً .
و إذا سُئلنا عنه سؤالاً مُطلَقاً غَيرَ مُقدَّرٍ بما يَنقُضُ دَلالتَه، قُلنا: إنّه دالٌّ ، كما أنّ مَن سُئلَ عن المُعجِزِ: هَل يَدُلُّ علىٰ صِدقِ مَن اختَصَّ به ؟ فلا بُدَّ مِن الجَوابِ بأنّه دالٌّ .
و إن كانَ إذا سُئل عن هذا الوَجهِ المُتَقدّمِ ، فقيلَ : فلَو ظَهَرَ علىٰ الكَذّابِ؟ لَكانَ (179) قد أجابَ (1) بأنّه لا يَدُلُّ ، و لَم يَنقُضْ ذلكَ دَلالةَ المُعجِزِ علَى الصِّدقِ . و هذا جَوابٌ أيضاً واضحٌ .
و إذا كُنّا قد ادَّعَينا في هذا الفَصلِ أنّه تَعالى قادرٌ علىٰ جَميعِ أجناسِ المَقدوراتِ ، فلا بُدَّ مِن الدَّلالةِ على ذلك.
***
لنا في هذا البابِ طَريقانِ :
أحدُهما: أن نُبدي(2) دَلالةً علىٰ أنّه تَعالىٰ قادِرٌ علىٰ كُلِّ الأجناسِ في الجُملةِ .
و الطريقُ الآخَرُ: أن نُبيِّنَ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ و التعيينِ ، أنّه تَعالىٰ قادرٌ علىٰ كُلِّ جنسٍ منها.
ص: 116
و الذي يُبيِّنُ الطريقةَ الأُولىٰ : أنّه قادِرٌ، و ما اقتَضىٰ تخصيصَ القادرِ ببَعضِ المقدوراتِ دونَ بعضٍ غَيرُ ثابتٍ فيه؛ لأنّ الذي يَقتَضي تَخصيصَ الأجناسِ هو القُدرةُ ، كما أنّ الذي يَقتَضي اختصاصَها في التعَلُّقِ بجُزءٍ واحدٍ و الوقتُ (1) و المَحَلُّ و الجنسُ واحدٌ، هو كونُها قُدرةً ، و إلّافالقادرُ مِن حَيثُ كان قادراً لا يَقتَضي الاختصاصَ بجنسٍ دونَ جنسٍ ، كما لا يَقتَضي الاختصاصَ بقُدَرٍ دونَ قُدَرٍ، و لهذا قَدَرَ القادِرُ مِنّا في الوقتِ و المَحَلِّ الواحدِ مِن الجنسِ الواحدِ علَى الأجزاءِ الكثيرةِ بحَسَبِ عَدَدِ قُدَرِه، و فارَقَ في ذلك القُدرةَ التي تَختَصُّ - علَى الشُّروطِ التي ذَكَرناها - بالجُزءِ الواحدِ.
و إذا ثَبَتَ أنّه لا مُقتَضيَ لذلكَ في الأقدارِ و الأعدادِ، وجبَ أن يَقدِرَ علىٰ كُلِّ جنسٍ ، كما وجبَ كَونُه قادراً علىٰ ما لا نِهايةَ له مِن الأعدادِ.
و الذي يُبيِّنُ صحّةَ هذه الطريقةِ : أنّ حالَ القادرِ لِنفسِه أقوىٰ مِن حالِ القادرِ بقُدرةٍ ، و لهذا قَدَرَ على ما لا يَتَنَاهىٰ مِن الجِنسِ الواحدِ و الوَقتُ (2) و المَحَلُّ واحدٌ، و قَدَرَ علىٰ أجناسٍ لا يَقدِرُ عليها القادِرُ منّا، و إذا كانَت له المَزيّةُ علينا، وجبَ أن يَكونَ قادراً علىٰ أجناسِ مقدوراتِنا.
يوضِحُ ذلكَ : أنّ القُدَرَ كُلَّها مُشتَرِكةٌ في التعَلُّقِ بأجناسٍ مخصوصةٍ ، و لا يَصِحُّ اختلافُ حالِها في ذلكَ ، و قد ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ قادرٌ علىٰ بعضِ الأجناسِ التي تَتعلَّقُ (3)بها القُدَرُ، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً على سائرِ الأجناسِ التي تَتعلَّقُ بها القُدَرُ؛
ص: 117
لأنّ حالَه تَعالىٰ إن لَم تَزِد علىٰ حالِها لم تَنقُصْ .
و أمّا الطريقةُ الثانيةُ : فالذي يُبيِّنُها أنّا قد عَلِمنا أنّ أجناسَ المقدوراتِ علىٰ ضَربَينِ :
أحدُهما: يَختَصُّ هو تَعالىٰ بالقُدرةِ عليه، و لا يَدخُلُ تَحتَ قُدَرِ العِبادِ. و هذا ممّا لا شُبهةَ فيه؛ لأنّه لَو لَم يَكُن مقدوراً له تَعالىٰ و العِبادُ لا يَقدِرونَ عليه، لَخَرَجَ مِن أن يَكونَ مقدوراً في نفسِه.
و الضربُ الآخَرُ: هو ما يَقدِرُ العِبادُ على جنسِه. و فيه الشُّبهةُ ، و نَحنُ نُبيِّنُ أنّه تَعالىٰ قادرٌ عليه جنساً.
أمّا الأكوانُ (1): فلا بُدَّ مِن كَونِه تَعالىٰ قادراً عليها؛ لِقُدرَتِه علَى الجَواهرِ المُضَمَّنةِ وجودَها.
[و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ :(2) ألا(3)] يَصِحُّ أن يوجِدَ الجَوهرَ(4) و يَفعَلَ بَعضُ القادرينَ مِنّا الكَونَ فيه ؟
و ذلكَ أنّ كلامَنا في أوّلِ جِسمٍ يَخلُقُه اللّٰهُ تَعالىٰ ، و هذا السؤالُ لا يَتأتّى فيه.
علىٰ أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ الكَونَ في غَيرِه إلّامُتَولِّداً عن
ص: 118
الاعتمادِ(1)، و الاعتمادُ إنّما يُولِّدُ الكَونَ في غَيرِ مَحَلِّه، بشَرطِ تَقدُّمِ مُماسّةِ مَحَلِّه لِمَحَلِّ الكَونِ ؛ بدَلالةِ أنّ المُماسّةَ لا بُدَّ منها حَتّىٰ يَتولَّدَ الكَونُ عن الاعتمادِ؛ فإمّا أن تَكونَ (2) شرطاً في وجودِ الكَونِ ، أو توليدِ الاعتمادِ. و لَو كانَت شرطاً في وجودِ الكَونِ لَما صَحَّ وجودُه في الجُزءِ المُنفَرِدِ، (180) فيَجِبُ أن تَكونَ شرطاً في كَونِ الاعتمادِ مُوَلِّداً، و قد عَلِمنا أنّ الاعتمادَ يَجوزُ عدمُه في الثاني مع حُصولِ مُسَبَّبِه.
فبَطَلَ أن تكونَ (3) مُماسّةُ مَحَلِّ الاعتمادِ لغَيرِه في حالِ التوليدِ هي الشَّرطَ، و ثَبَتَ أنّ المُماسّةَ يَجِبُ حُصولُها في الابتداءِ بَينَ مَحَلِّ الاعتمادِ و مَحَلِّ الكَونِ ، و هذا يَقتَضي مُماسّةَ الجَوهرِ الموجودِ للجَوهرِ المَعدومِ .
علىٰ أنّ مَن جَعَلَ الشيءَ علىٰ صفةٍ تَجِبُ عن عِلَّةٍ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه فاعلاً لتلكَ العِلّةِ ؛ لأنّ معلولَ العِلّةِ لا يَنفَصِلُ منها. فمَن أَوجَدَ الجَوهرَ في جهةٍ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ هو الفاعِلَ لِما به يَكونُ في تلكَ الجهةِ ، و هذا واضحٌ .
و إذا ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ قادرٌ علَى الكَونِ ، و كانَتِ (4) الأكوانُ مُتَضادّةً و مُتَماثِلةً ، و قد صَحَّ أنّ القادرَ علَى الشيءِ قادرٌ علىٰ مِثلِه و ضِدِّه في الجنسِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ تَعالىٰ قادراً علىٰ جَميعِ أجناسِ الأكوانِ .
ص: 119
فأمّا التأليفُ : فيَجِبُ كونُه تعالى(1) قادراً علىٰ جنسِه؛ مِن وَجهَينِ :
أحدُهما: أنّ أوّلَ حَيٍّ خَلَقَه اللّٰهُ تَعالىٰ ، لا بُدَّ أن يَكونَ تأليفُه مِن فِعلِه؛ لأنّه لا قادرَ سِواه.
و الوَجهُ الثاني: أنّه إذا قَدَرَ علَى الكَونِ و الكَونُ يُوَلِّدُ التأليفَ ، و مِن شأنِ القادرِ علَى السَّبَبِ أن يَكونَ قادراً علَى المُسَبَّبِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً علَى التأليفِ مِن حَيثُ قَدَرَ علىٰ سببِه.
و بهذا يُعلَمُ أنّه تَعالىٰ قادِرٌ علَى الألَمِ و اللَّذّةِ ؛ لأنّ الكَونَ يُوَلِّدُهما.
و أمّا الاعتماداتُ : فيَجِبُ أن يَكونَ تَعالىٰ قادراً عليها؛ لأنّها تُوَلِّدُ الأكوانَ ، و مِن حَقِّ القادرِ علَى الشيءِ علىٰ جهةِ الابتداءِ أن يَقدِرَ عليه علىٰ جهةِ التوليدِ. و كما أنّ مَن قَدَرَ علَى السببِ [يَجِبُ ] أن يَقدِرَ علَى المُسَبَّبِ ، فكذلك(2) يَجِبُ فيمن قَدَرَ علَى المُسَبَّبِ أن يَقدِرَ علَى السبَبِ .
و أيضاً: فإنّ الرُّطوبةَ مُضمَّنٌ وجودُها بوجودِ الاعتمادِ اللازمِ سِفلاً، فلا يَخلو أوّلُ حَيٍّ يَخلُقُه اللّٰهُ تَعالىٰ مِن ذلكَ ، فيَجِبُ أن يَكونَ هذا الاعتمادُ مقدوراً له.
و القادرُ علَى الاعتماد(3) يَجِبُ أن يَكونَ قادراً علَى الأصواتِ و الحُروفِ ؛ لأنّها تَتولَّدُ(4)عنه إذا كان علىٰ وَجهِ المصاكّةِ (5) و إذا قَدَرَ علَى الحُروفِ ، فهو قادرٌ علَى الكَلامِ ؛ لأنّ ذلكَ لَيسَ بأكثَرَ ممّا له نِظامٌ مخصوصٌ مِن الحُروفِ . و يَجِبُ أن يَكونَ قادراً
ص: 120
علىٰ جنسِ الكلامِ و نَوعِه؛ سَواءٌ قيلَ : إنّه مُتَضادٌّ(1)، أو لَم يُقَلْ ذلكَ فيه.
فأمّا الاعتقاداتُ و العُلومُ : فيَجِبُ كَونُه تَعالىٰ قادراً عليها؛ لأنّه المُختَصُّ بخَلقِ كمالِ العَقلِ ، و سائرِ العُلومِ الضروريّةِ فينا، و لأنّ مَعارِفَ أهلِ الآخرةِ - علىٰ ما سَنَدُلُّ عليه بمَشيّةِ اللّٰهِ (2) - لا تَكونُ إلّاضَروريّةً مِن فِعلِه تَعالىٰ .
و إذا ثَبَتَ كَونُه قادراً علىٰ هذه العُلومِ ، وجبَ أن يَكونَ قادراً علىٰ جنسِ الاعتقادِ؛ لأنّ كُلَّ مَن قَدَرَ علىٰ إيجادِ الشيءِ علىٰ وجهٍ زائدٍ علَى الوجودِ، كانَ قادراً على مُجَرَّدِ إيجادِه.
و يَجِبُ أن يكونَ قادراً علَى الجهلِ ؛ لأنّ القادرَ علَى الشيءِ قادرٌ علىٰ ضِدِّه.
و العُلومُ و إن كانَت أجناساً مُختَلِفةً ؛ مِن حَيثُ كانَ الاعتبارُ في تَماثُلِها التعَلُّقَ المخصوصَ ، فالكُلُّ نَوعٌ واحدٌ؛ لاشتراكِه في قَضيّةٍ واحدةٍ ، و مِن حَقِّ القادرِ علَى الشيءِ أن يَكونَ قادراً علىٰ نَوعِه، كما يَجِبُ ذلكَ في الجِنسِ و الضِّدِّ.
و إن كانَ السهوُ معنىً ، فيَجِبُ أن يَكونَ - جَلَّ و عَزَّ - قادراً عليه؛ لأمرَينِ :
أحَدُهما: أنّ العِبادَ لا يَجوزُ أن يَقدِروا عليه.
و الآخَرُ: لأنّه قادرٌ (181) على العِلمِ الذي هو ضِدُّه.
فأمّا الظنُّ : إن كانَ مِن جنسِ الاعتقادِ - كما ذَهَبَ إليه أبو هاشمٍ - فيَجِبُ أن يَكونَ مقدوراً له؛ مِن حَيثُ كانَ قادراً علَى الاعتقاداتِ .
و إن كانَ جنساً يُخالِفُ الاعتقادَ، وجبَ أن يَكونَ تَعالىٰ قادراً عليه؛ لأنّه علىٰ هذا المَذهَبِ ضِدُّ العِلمِ ، و القادرُ على الشيءِ قادِرٌ على ضِدِّه.
ص: 121
فأمّا النَّظَرُ: فيَجِبُ أن يَكونَ تَعالىٰ قادراً عليه؛ مِن حَيثُ كانَ قادراً علىٰ أن يُحدِثَ فينا العلومَ ، و في العُلومِ ما يَصِحُّ أن يَتولَّدَ عن النظَرِ، و مَن قَدَرَ علىٰ إيجادِ الشيءِ مُبتَدَأً، صَحَّ أن يوجِدَه مُتولِّداً، إذا كانَ ممّا يَصِحُّ أن يَقَعَ كذلكَ .
فأمّا الإرادة: فيَجِبُ أن تَكونَ مقدورةً له؛ لأنّ ما يَفعَلُه العالِمُ لا بُدَّ مِن أن يُريدَه، إذا لَم تَكُن إرادةٌ (1)، و لأنّ التكليفَ لا يَتِمُّ إلّابالإرادةِ ، و لأنّ الثوابَ لا يَكونُ كذلكَ إلّا بأن يَقصِدَ به وَجه التعظيمِ .
و إذا ثَبَتَ أنّه قادرٌ على الإرادةِ ، وجبَ أن يَكونَ قادراً علىٰ سائرِ أجناسِها؛ لأنّ مَن قَدَرَ علَى الشيءِ قَدَرَ علىٰ نَوعِه، علىٰ ما تَقدَّمَ .
و يَجِبُ أن يَكونَ قادراً علَى الكَراهةِ ؛ لأنّها ضِدُّها.
و أمّا التمَنّي: فإن كانَ قولاً، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً عليه؛ لأنّه قادرٌ على الكلامِ . و إن كان معنىً مخصوصاً في القَلبِ ، فالطريقُ إلىٰ كَونِه قادراً عليه السمعُ .
و النَّدَمُ : أصَحُّ المَذاهِبِ أنّه جنسٌ برأسِه سِوَى الاعتقادِ، و الطريقُ إلى كونِه مَقدوراً له تَعالىٰ هو السمعُ ، مَتى سَلَكنا هذه الطريقةَ دونَ التي تَقدَّمَت.
و ليس بمُنكَرٍ أن يُستَدَلَّ بالسّمعِ علىٰ ذلكَ ؛ لأنّه يُمكِنُ معرفةُ السمعِ مع الشكِّ في أنّ النَّدَمَ مقدورٌ له، و كذلكَ التمَنّي، إن كانَ جنساً غَيرَ القولِ (2).
***
ص: 122
[3] (184) فَصلٌ (1)[في الدَّلالةِ على أنّه لا يَختارُ فِعلَ القَبيحِ ]
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّه تَعالىٰ عالِمٌ بقُبحِ القَبيحِ ، و بأنّه غَنيٌّ عنه؛ لأنّه عالِمٌ بنفسِه - عَلى ما تَقدَّمَ (2) - فلا بُدَّ مِن كَونِه عالِماً بجميعِ المعلوماتِ ، و مِن جُملتِها فِعلُ القَبيحِ و أنّه تَعالىٰ غَنيٌّ عنه، و مَن كانَت هذه حالُه لا يَجوزُ أن يَختارَ القَبيحَ ؛ لأنّ عِلمَه بما ذَكَرناه صارِفٌ له عن فِعلِه.
يَدُلُّ على ذلك: أنّ أحَدَنا مَتَى استَغنىٰ عنِ الكَذِبِ ؛ بأن عَلِمَ أنّ ما يَصِلُ به إليه [يَصِلُ إليه](3) بعَينِه بالصِّدقِ ، و كانَ عالِماً بقُبحِ الكَذِبِ ، و بأنّه غَنِيٌّ عنه، لا يَجوزُ أن يَختارَهُ علَى الصِّدقِ .
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ أحَدَنا يَصِحُّ أن يَستَغنِيَ بالصِّدقِ عن الكَذِبِ ، مع أنّه لا يَنفَكُّ مِن الحاجةِ .
قلنا: قد يَستغني أحَدُنا عن الشيءِ علىٰ وَجهَينِ :
أحَدُهما: بأن يَكونَ ممّا لا يَنتَفِعُ به و لا يَدفَعُ به ضرراً.
ص: 123
و الوَجهُ الآخَرُ: أن يَكونَ له فيه نفعٌ يُمكِنُه الوُصولُ إليه بعَينِه بغَيرِه، و لهذا يَصِحُّ القولُ بأنّه يَستَغني بإحدىٰ يَدَيه في حَملِ الجسمِ الخَفيفِ عن الأُخرىٰ ، و
بإحدى عَينَيه في النظَرِ إلَى الجسمِ العَظيمِ عن الأُخرىٰ .
و هذا ثابتٌ فيما قَدَّرناه مِن الكَذِبِ و الصِّدقِ إذا تَساوَيا فيما يوصِلانِ إليه مِن النفعِ .
علىٰ أنّ هذا آكَدُ فيما نَحتاجُ إليه؛ لأنّ أحَدَنا إذا كانَ - مع أنّ الغِنىٰ لَم يَثبُتْ له بإطلاقٍ ، [و] مع أنّه لا يَنفَكُّ مِن الحاجةِ - لا يَجوزُ أن يَختارَ الكَذِبَ علَى الصِّدقِ ، و هذه حالُه(1)، فمَن يَكونُ مُستَغنياً علَى(2) الحَقيقةِ ، و لا تَجوزُ(3) الحاجةُ عليه، أَولىٰ بذلكَ .
فإن قيلَ : دُلّوا على أنّ مَن كانَت حالُه ما ذَكَرتُم لا يَختارُ القَبيحَ .
قلنا: العِلمُ بذلكَ ضَروريٌّ لا يَشتَبِهُ علىٰ عاقلٍ . و لا فرقَ بَينَ مَن جَوَّزَ أن يَختارَ العاقلُ الظُّلمَ و الكَذِبَ ، و هو مُستَغنٍ (4) عنهما بالصِّدقِ و العَدلِ ، و عالِمٌ بقُبحِهما، و أنّه غَنيٌّ عنهما، و بَينَ مَن جَوَّزَ أن يَختارَ ما فيه ضررٌ مِن الأفعالِ علىٰ ما لا ضررَ فيه، و أن يُقدِمَ علىٰ قَتلِ نَفسِه و الإضرارِ بها، مِن غَيرِ تصوُّرِ شيءٍ مِن المَنافعِ .
فإن قيلَ : فما الدليلُ علىٰ أنّ العِلّةَ في أنّه لا يَختارُ الكَذِبَ ما ذَكَرتم ؟
قُلنا: لأنّه مَتىٰ جَهِلَ قُبحَ الكَذِبِ جازَ أن يَختارَه، و كذلكَ لَو اعتَقَدَ(5) أنّ له فيه
ص: 124
نَفعاً زائداً جازَ أن يؤثِرَه علَى الصِّدقِ . و متىٰ عَلِمَ قُبحَه و غِناه عنه، لَم يَجُز أن يَختارَه. و إذا كانَتِ الحالُ هذه، لَم يُمكِنْ تَعلُّقُ أنّه لا يَختارُه بوَجهٍ آخَرَ هناكَ .
فيَجِبُ أن تَكونَ العِلّةُ ما ذَكَرناه؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ معرفةِ العِلَلِ ثابتٌ في هذا المَوضِعِ .
و اعلَم أنّ المُعتَبرَ في بابِ الدواعي، بما عليه الفاعِلُ دونَ ما الفِعلُ عليه في نفسِه، و لهذا اعتَبَرنا فيما يَصرِفُ عن الكَذِبِ عِلمَه بقُبحِه، و بأنّه غَنيٌّ عنه، و لَم نَقتَصِرْ علىٰ كَونِه مُستَغنياً.
و الذي يُبيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّه لَو كانَ مُستَغنياً علَى الحَقيقةِ ، و اعتَقَدَ حاجتَه إليه، جازَ أن يَختارَه. كما أنّه إذا كانَ قَبيحاً على الحَقيقةِ ، و اعتَقَدَ حُسنَه، جازَ أن يَختارَه. و كما شُرِطَ في بابِ القُبحِ عِلمُه بقُبحِه(1) كذلك يَجِبُ أن يُشتَرَطَ في بابِ (185) الغِنىٰ .
فإن قيل: ما أنكَرتُم أن يَكونَ مَن ذَكَرتُم حالَه مُلجَأً إلىٰ فِعلِ الصِّدقِ ، أو إلىٰ أن لا يَختارَ الكَذِبَ؟
قُلنا: الإلجاءُ إذا لَم يَكُن مِن بابِ النفعِ و تَعلُّقٍ بالدواعي، فهو موقوفٌ علَى
المَنافعِ و المَضارِّ، و بُلوغِها(2) أيضاً قَدراً مخصوصاً. و الحُسنُ لا تأثيرَ له في الإلجاءِ ؛ لأنّه قد يَثبُتُ و لا إلجاءَ .
ص: 125
و إذا صَحَّ ذلكَ ، [و] وَجَدنا(1) ما(2) في الكَذِبِ و الصِّدقِ مِن النفعِ يَتَساوَيانِ - علىٰ ما فَرَضناه -؛ فلَو كانَ مُلجَأً إلَى الصِّدقِ لَكانَ الكَذِبُ بمَنزلتِه؛ لِتَساويهِما في الداعي، و لَو كانَ مُلجَأً إلىٰ أن يَختارَ(3) الكَذِبَ لَكانَ الصِّدقُ بمَنزلتِه.
علىٰ أنّ مَن آثَرَ العَدلَ علَى الظُّلمِ ، و الصِّدقَ علَى الكَذِبِ مِنّا، يَستَحِقُّ المَدحَ علىٰ ذلكَ ، و لَو كانَ مُلجَأً لَم يَستَحِقَّ مَدحاً.
فإن قيلَ : ما أَنكَرتم أنّ مَن ذَكَرتم حالَه، إنّما لا يؤثِرُ الكَذِبَ علَى الصِّدقِ ؛ لأنّه يَعلَمُ أنّ العقلاءَ يَذُمّونَه علَى الكَذِبِ ، و تَسقُطُ(4) به مَنزلتُه بَينَهم، فلا يؤثِرُ ما فيه مَضَرَّتُه، أو لَاستَحَقَّ الذَّمَّ عليه، و هذا يَمنَعُ مِن تَساويهِما عندَه؛ لأنّهما لا يَتَساوَيانِ ؛ لِما ذَكَرناه ؟
قُلنا: إنّما بَنَينا كلامَنا علىٰ أنّهما إذا تَساوَيا فيما تُفعَلُ (5) له الأفعالُ مِن المَنافِعِ و دَفعِ المَضارِّ، و لَم يَكُن في أحَدِهما مِن ذلكَ إلّاما في الآخَرِ، لَم يَختَرِ الكَذِبَ .
فإن كانَ ممّن يَستَضِرُّ بِذَمِّ العقلاءِ ، أمكَنَ أن يَتَساويا عندَه مِن وَجهَينِ :
إمّا أن يَكونَ في القَبيحِ نفعٌ زائدٌ علىٰ ما في الصِّدقِ ، يَعدِلُ ما فيه مِن المَضَرّةِ ، أو(6) أن يَكونَ في الحَسَنِ قَصدُ مَشَقّةٍ بإزاءِ ما في القَبيحِ مِن المَضَرّةِ .
ص: 126
و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : إنّ الحالَ إذا كانَت هذه، جازَ أن يَختارَ الكَذِبَ ؛ لأنّا نَعلَمُ ضَرورةً أنّ مع التساوي لا يَجوزُ أن يَختارَ القَبيحَ ، و إنّما قَدَّرنا ما يُدخِلُهما(1) في التساوي، و لا يوجِبُ زيادةَ أحَدِهما علىٰ صاحبِه في النفعِ .
علىٰ أنّ مَن لا يَخطُرُ ببالِه ذَمُّ العقلاءِ ، و لا يَكونُ ممّن يَستَضِرُّ بذلكَ ، أو تَسقُطُ به مَنزلتُه، فإنّ هذا ممّا يُمكِنُ تَقديرُه بعِلمٍ أنّه لا يَفعَلُ القَبيحَ . فبَطَلَ أن تَكونَ العِلّةُ ما ذَكَروه.
و كَيفَ يَكونُ اعتِقادُه بأنّ (2) العقلاءَ يَذُمّونَه صارفاً، و هو لَو اعتَقَدَ حُسنَ الكَذِبِ جازَ أن يَختارَهُ علَى الصِّدقِ ، مع اعتقادِه أنّ العقلاءَ يَذُمّونَه ؟
فأمّا التعليلُ بأنّه امتَنَعَ مِن الكَذِبِ لاستحقاقِ الذَّمِّ ، فهو الذي أرَدناه؛ لأنّ ذلكَ هو حُكمُ القبيحِ (3)، و لا فَرقَ بَينَ أن يُعَلَّلَ امتناعُه بالقُبحِ ، أو بُحكمِ (4) القُبحِ الذي هو استحقاقُ الذَّمِّ . و هذا لا يَمنَعُ مِن حَملِ الغائبِ علَى الشاهدِ.
فإن قيلَ : ألا عَلَّلتم كَونَه غَيرَ مُختارٍ لِلكَذِبِ ، بأنّه لا داعيَ له إلىٰ فِعلِه، لا بما قُلتُموه ؟
قُلنا: أوّلُ ما في هذا السؤالِ أنّه لا يَمنَعُ مِن غَرَضِنا في هذه المسألةِ ، و حَملِ الغائبِ علَى الشاهدِ؛ لأنّه يَقتَضي أن يَكونَ تَعالىٰ لا يَختارُ القَبيحَ لِارتفاعِ الداعي
ص: 127
إليهِ ؛ إذ(1) كانَ الداعي إلَى القَبيحِ لا يَكونُ إلّاالحاجةَ (2) إليه، أو ما في معناها مِن اعتقادِ الحاجةِ ، أو الجَهلَ بالقُبحِ ، و هذا مُنتَفٍ عنه تَعالىٰ .
إلّا أنّ هذا و إن كانَ لا يَمنَعُ مِن الغَرَضِ ، فالتعليلُ بما ذَكَرناه أَولىٰ ؛ لأنّ النفعَ موجودٌ في الكَذِبِ ، و العِلمُ بالنفعِ داعٍ . و لَيسَ يُخرِجُه مِن كَونِه داعياً، ثُبوتُ مِثلِه مِن النفعِ في الصِّدقِ ، و إن كانَ الصارفُ الحاصلُ في الكَذِبِ قد غَلَبَ حُكمُه؛ لأنّ حُكمَ الصارفِ أقوىٰ .
و لَو جازَ أن يُعلَّلَ كَونُه غَيرَ مُختارٍ للكَذِبِ هاهنا بنَفيِ الداعي، جازَ أن يُعلَّلَ امتناعُ العاقلِ ممّا يَضُرُّه ضرراً مَحضاً بفَقدِ الداعي، و قد (186) عَلِمنا أنّ تَعليلَ ذلكَ بالصارفِ أَولىٰ .
و أيضاً: فإنّ تَجدُّدَ كَونِه غَيرَ مُختارٍ للكَذِبِ ، حُكمٌ يَتبَعُ ما ذَكَرناه مِن كَونِه عالِماً غَنيّاً، و عندَ تَجدُّدِه له يَتجدُّد، و «أن لا داعِيَ له» غَيرُ مُتَجدِّدٍ. و تعليقُ الحُكمِ بما يُجاوِرُه إذا أمكَنَ أَولىٰ مِن تعليقِه بما تَقدَّمَ عليه.
و الذي يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ الساهيَ يَجوزُ أن يَختارَ القَبيحَ ، مع أنّه لا داعِيَ له إليه، فكيفَ يَصِحُّ أن يُعلَّلَ كَونُه غَيرَ مُختارٍ للقَبيحِ بأنّه لا داعيَ إليه ؟
فإن قيل: لِمَ أوجَبتُم إذا لَم يَختَرْ تَعالىٰ بَعضَ القَبائحِ لقُبحه، أن لا يَختارَ جَميعَ القَبائحِ؟
و لَم تَقولوا: إنّه إذا فَعَلَ بَعضَ الحَسَنِ لِحُسنِه، يَجِبُ أن يَفعَلَ كُلَّ حَسَنٍ؟
ص: 128
قُلنا: يَجِبُ الرُّجوعُ في أحكامِ الدواعي إلَى الشاهدِ، و إلىٰ ما تَدُلُّ (1) عليه الأدلّةُ ، و لا نَحمِلُ (2) بعضاً على بعضٍ . و قَد عَلِمنا أنّ (3) مَن لَم يَفعَلْ قَبيحاً لعِلمِه بقُبحِه و غِناه عنه، لا يَجوزُ أن يَختارَ شيئاً مِن القَبائحِ [و] هذه(4) حالُه، و أنّ هذا حُكمٌ مُطَّرِدٌ في الجَميعِ . و لَيسَ كذلِكَ الحَسَنُ ؛ لأنّ أحَدَنا قَد يَفعَلُ فِعلاً حَسَناً لِحُسنِه، فلا يَجِبُ أن يَفعَلَ كُلَّ ما يُشارِكُه في الحُسنِ ، و لهذا قد يَتصدَّقُ بدِرهَمٍ مِن جُملةِ
دَراهِمَ ؛ لِكَونِه حَسَناً، و إن لَم يَجِبْ أن يَتصدَّقَ بكُلِّ دِرهَمٍ ، و لهذا نَقولُ (5): إنّ الدواعِيَ قد تَختَلِفُ أحكامُها؛ فبَعضُها يَدعو علىٰ سَبيلِ الجَوازِ، و هذا ممّا سَنَستَقصيهِ فيما يَجِيءُ مِن الكتابِ ، بمَشيّةِ اللّٰهِ .
فإن قيلَ : كما أنّ العالِمَ بقُبحِ القَبيحِ و غِناه عنه لا يَختارُه، فكذلكَ (6) لا يَجوزُ أن يَختارَ العاقلُ الفِعلَ الحَسَنَ إلّالنفعٍ أو دَفعِ ضررٍ، و هذا يوجِبُ أن لا يَفعَلَ تَعالَى الحَسَنَ كما لا يَفعَلُ القَبيحَ !
قُلنا: أوّل ما نَدفَعُ [به] هذا السؤالَ و نُبطِلُه، أنّا لمّا ادَّعَينا(7) أنّ العالِمَ بقُبحِ القَبيحِ و بأنّه غَنيٌّ عنه لا يَختارُه، رَجَعنا في ذلكَ إلى ضَرورةِ العُقولِ ، و حَمَلنا الغائبَ علَى الشاهدِ بالعِلّةِ الموجِبةِ للحُكمِ ، و لَيسَ هكذا ما سُئلنا عنه؛ لأنّ أحَدَنا لا يُمكِنُه أن
ص: 129
يَدَّعِيَ أنّ العِلمَ (1) بأنّ «أحَدَنا لا يَفعَلُ الحَسَنَ إلّاللنفعِ أو دَفعِ الضررِ» ضَروريٌّ .
و لَو كانَ الحُكمُ الذي ادَّعَوه معلوماً في الشاهدِ، لَما صَحَّ لهم رَدُّ الغائبِ إليه بعلّةِ الجَمعِ (2) [بَينَ ] الأمرَينِ ، كما فَعَلنا ذلكَ في عِلّةِ الامتناعِ مِن القَبيحِ ، فصَحَّ بُطلانُ الإلزامِ .
و ممّا يَدُلُّ علَى الفَرقِ بَينَ الأمرَينِ ، و أنّ الحَسَنَ قد يُفعَلُ لِحُسنِه: أنّه تَعالىٰ قد ثَبَتَ كَونُه مُحدِثاً للعالَمِ ، فلا يَخلو مِن أن يَكونَ ذلكَ قَبيحاً، أو حَسَناً، أو لَيسَ بقَبيحٍ و لا حَسَنٍ .
و لا يَجوزُ أن يَعرىٰ فِعلُه تَعالىٰ مِن القُبحِ و الحُسنِ ، مع كَونِه عالِماً غَيرَ ساهٍ .
و لا يَجوزُ أن يَكونَ قَبيحاً؛ لأنّا قد بيّنّا(3) أنّ الغَنيَّ العالِمَ بقُبحِ القَبيحِ ، و بأنّه غَنيٌّ عنه، لا يَجوزُ أن يَختارَه، و دَلَّلنا أيضاً فيما تَقدَّم علىٰ أنّه تَعالىٰ غَنيٌّ عالِمٌ (4).
فلَم يَبقَ إلّاأنّ ما فَعَلَه حَسَنٌ ، و أنّه فَعَلَه لِحُسنِه؛ لأنّه لا وَجهَ سِواه.
و هذه طريقةٌ كانَ يَعتَمِدُها أبو إسحاقَ (5) بنُ عَيّاشٍ (6).
دليلٌ آخَرُ: و قد استَدَلَّ أبو هاشمٍ (7) علىٰ ذلكَ بأنّا نَعلَمُ ضَرورةً أنّ مَن خُيِّرَ بَينَ
ص: 130
صِدقٍ و كَذِبٍ مُستَويَينِ فيما له تُفعَل الأفعالُ مِن المنافعِ ، و كُلِّ حُكمٍ ، إلّافي الحُسنِ و القُبحِ ، لا يَختارُ الكَذِبَ ، بل يَختارُ الصِّدقَ . فعُلِمَ (1) أنّما اختارَه لحُسنِه؛ لأنّ ما عَدا ذلكَ قد فَرَضنا أنّ الكَذِبَ يُشارِكُه فيه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ مَن ذَكَرتُم حالَه، إنّما يَختارُ الحَسَنَ لِحُسنِه و للنفعِ الذي فيه؛ فمِن أينَ أنّه يَفعَلُه لِحُسنِه فَقَط؛ حتّىٰ تَحمِلوا عليه القَديمَ تَعالى ؟
و ذلكَ أنّه [و إن] فَعَلَ الصِّدقَ للأمرَينِ ، [إلّا أنه يُمكنُ أن يَفعلَه لكلّ واحدٍ منهُما إذا انفردَ]؛(2) لأنّه(3) يُقدَّرُ لكُلِّ واحدٍ مِنهما تأثيرٌ في كَونِه داعياً، حتّى يَصِحَّ - لَو انفَرَدَ - أن يَختارَ(4) الفِعلَ لأجلِه.
يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّه لمّا صَحَّ مِن أحَدِنا أن يَختارَ الفِعلَ للنفعِ (5) و دَفعِ المَضارِّ، صَحَّ
ص: 131
أن يَختارَه لكُلِّ واحدٍ مِنَ الأمرَينِ إذا انفَرَدَ، و هذا يَقتَضي أنّ الفِعلَ لَو انفَرَدَ بالحُسنِ ، لَصَحَّ أن يُختارَ له كما اُختيرَ له و للنفعِ .
و ليسَ له أن يقولَ : كيفَ يَصِحُّ قولُكم: إنّ ما فَعَلَ المجموعَ أمرانِ (1) يُفعَلُ لكُلِّ واحدٍ منهما لَو انفَرَدَ؟ و نَحنُ نَعلَمُ أنّ الصِّدقَينِ (2) لَو تَساوَيا في النفعِ المُتَوصَّلِ بكُلِّ واحدٍ منهما إليه، و في الآخَرِ ضررٌ لَيسَ في الآخَرِ، لَكانَ مَن عَلِمَ ذلكَ مِن حالِهما يَختارُ الذي لا ضررَ فيه؛ للنفعِ و فَقدِ المَضَرّةِ ، و مع هذا فلَوِ انفَرَدَ الفِعلُ بأنّه لا ضررَ فيه، لَما كانَ ذلكَ داعياً إلىٰ فِعلِه.
و ذلكَ أنّ الضررَ الذي في الصِّدقِ لا يَخلو مِن وَجهَينِ :
إمّا أن يَكونَ مُعتَدّاً به، أو غَيرَ مُعتَدٍّ بمِثلِه.
فلَو كانَ الأوّلَ : أُدخِلَ الفِعلُ في أن يَكونَ قَبيحاً؛ لإمكانِ التوَصُّلِ إلَى النفعِ مِن غَيرِ ضررٍ، و هذا يَقتَضي أنّه يَختارُ الصِّدقَ الآخَرَ لحُسنِه.
و إن كانَ الضررُ غَيرَ مُعتَدٍّ به، فوجودُه كعدمِه.
دليلٌ آخَرُ: و قد استَدَلَّ أبو عليٍّ (3) [علىٰ ] أنّ الحَسَنَ قد يُفعَلُ لِحُسنِه بِمَن يُرشِدُ الضالَّ عن الطريقِ ، مِن غَيرِ تَصوُّرِ شيءٍ مِن المنافعِ الدِّينيّةِ و الدُّنيائيّةِ ، فيُعلَمُ أنّه إنّما أرشَدَه لِحُسنِ الإرشادِ.
و لَيسَ ما قَدَّرناه مِن فَقدِ تَصوُّرِ المَنافعِ مُستَبعَداً، إلّاأنّ المُرشِدَ قد يَكونُ دَهريّاً
ص: 132
فلا يَرجو [إلّا](1) الثوابَ و المَنافِعَ الدُنيائِيَّةَ التي هي شُكرُ المُرشِدِ أو مُكافأتُه. [و] قَد يَجوزُ أن لا يَخطُرَ شَيءٌ منها ببالِه؛ (193) بأن يَكونَ ممّن(2) لا يَعرِفُ الذي يُرشِدُه، و لا يَطمَعُ في مُلاقاتِه، و لا في مَعرفةِ أحَدٍ مِن الناسِ بما فَعَلَه فيَشكُرَه عليه، و يَكونُ ممّن لا يَرِقُّ قَلبُه عليه، فيَدفَعُ بخَلاصِه الضرَرَ عَن نفسِه. و كُلُّ هذا جائزٌ غَيرُ مُتعذِّرٍ.
دليلٌ آخَرُ: و قد استَدَلَّ أبو عَبدِ اللّٰهِ (3) علىٰ (4) ذلكَ بأنّ أحَدَنا يُفرِّقُ بَينَ المُحسِنِ و المُسيءِ بقَلبِه، و يَعزِمُ علىٰ شُكرِه، و قد وجبَ في عقلِه هذه التفرقةُ ، و لا يَجوزُ أن يَجِبَ عليه ما لا يَصِحُّ أن يَفعَلَه. و هذا المعنىٰ مِن حَيثُ كانَ باطناً في القَلبِ ، لا طريقَ لأحَدٍ إلَى العِلمِ به، فلا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه فَعَلَه ليُمدَحَ و يُعَظَّمَ
عليه، أو ليَدفَعَ به ضَرَرَ الذَّمِّ و الاستحقاقِ المُستَحَقَّينِ علَى الإخلالِ بالواجبِ .
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه إنّما فَعَلَه للثوابِ أو للخَلاصِ مِن العَذابِ ؛ لأنّ الفاعلَ لذلكَ قد يَكونُ دَهريّاً لا يُثبِتُ ثَواباً و لا عِقاباً.
و لا يُقالُ : إنّه فَعَله(5) لشِفاءِ غَيظِه بمَن أساءَ إليه؛ لأنّه يَجِبُ عليه؛ كانَ مُغتاظاً
ص: 133
علىٰ مَن أساءَ إليه، أو لَم يَكُن. فبانَ أنّه(1) إنّما فَعَله لحُسنِه و وجوبِه.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يُمكِنُ أن يُستَدَلَّ به علىٰ ذلكَ : أنّ قُبحَ الفِعلِ قد ثَبَتَ أنّه يَدعو إلىٰ أن لا يُفعَلَ ، فيَجِبُ أن يَكونَ حُسنُه داعياً إلىٰ فِعلِه؛ لأنّ كُلَّ حالٍ تَحصُلُ للفِعلِ [و] تَدعو إلىٰ أن لا يُفعَلَ لها، فضِدُّها(2) يَدعُو إلَى الفِعلِ ؛ بدَلالةِ أنّ الضرَرَ لمّا دَعا(3)إلىٰ أن لا يُفعَلَ (4) الفِعلُ ، دَعا النفعُ إلَى الفِعلِ .
***
ص: 134
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّها لَو تَعدَّت(1) في التعَلُّقِ طَرِيقةَ الحُدوثِ ، لَم تَقِفْ (2)علىٰ حَدٍّ في باب التعلُّقِ ؛ لأنّ كُلَّ شيءٍ تَعدّىٰ طريقةً واحدةً في تَعلُّقِه، لَم يَقِفْ علىٰ حَدٍّ، و تَعلَّقَ بكُلِّ وَجهٍ حتّىٰ بالماضي و القَديمِ ، كالاعتقادِ. و كُلُّ ما اختَصَّ تَعلُّقُه، لَم يَتَعدَّ(3) الطريقةَ الواحدةَ ، كالقُدرةِ .
و قد عَلِمنا استحالةَ تَعلُّقِ الإرادةِ بالأشياءِ علىٰ سائرِ وجوهِها، و مُساواتِها
ص: 135
في ذلكَ الاعتقادَ، و لا شُبهةَ في أنّ أحَدَنا يَجِدُ مِن نَفسِه تَعذُّرَ إرادةِ الماضي أن يَكونَ ماضياً، و القَديمِ أن يَكونَ قَديماً.
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا التمَنّي، و أنّه لا يَختَصُّ في التعلُّقِ بطريقةِ الحُدوثِ ، و مع ذلكَ لَم(1) يَمتَنِعْ كامتناعِ (2) تَعلُّقِ الاعتقادِ.
و ذلكَ أنّ الأقوىٰ في التمَنّي أنّه لَيسَ بمعنىً يَحُلُّ القَلبَ (3)، و إنّما يوصَفُ الإنسانُ بأنّه مُتمَنٍّ إذا لَحِقَه غَمٌّ و ضررٌ، أو فاته(4) سُرورٌ و لَذّةٌ ، فقالَ : «لَيتَ (5) كانَ كَذا و لَم يَكُن كَذا».(6)
و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قاصِداً بهذا القولِ إلى الإخبارِ؛ لأنّ التمَنّيَ مِن جنسِ الخبرِ، و لهذا لَم يوصَفِ النائمُ بذلكَ و إن أطلَقَ القولَ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن قاصداً.
وَ الذي يَدُلُّ على ذلك(7): أنّه يوصَفُ عندَ سَماعِ هذا القولِ مِنه، [بأنّه مُتمنٍّ ] و إن لَم يُعلَمْ علىٰ حالٍ (188) أُخرى، و لَو كانَ معنىً زائداً علىٰ ما ذَكَرناه، لَوجدناه مِن نُفوسِنا، كما نَجِدُ كَونَنا مُعتَقِدينَ و مُريدينَ إلىٰ غَيرِ ذلك.
ص: 136
و إذا كانَ التمَنّي خبراً، التَزَمنا أنّه يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ بسائرِ الوجوهِ (1)، كتَعلُّقِ
الاعتقادِ، و إن كانَ علىٰ بعضِها لا يُسمّىٰ مُريداً؛ لأمرٍ يَرجِعُ إلَى المُواضَعةِ .
و اختلافُ الأسماءِ لا يؤَثِّرُ في هذا البابِ .
علىٰ أنّا لَو سَلَّمنا أنّه جنسٌ (2) يَحُلُّ القَلبَ ، لأمكَنَ (3) أن تَصِحَّ (4) الدَّلالةُ (5) بأن نقولَ :
لَو تَعدَّتِ الإرادةُ في التعَلُّقِ طريقةَ الحُدوثِ ، حتّىٰ تَتعلَّقَ بأن لا يَكونَ الشيءُ ، لَجَرَت مَجرىٰ كُلِّ ما يَصِحُّ تَعلُّقُه بأن لا يَكونَ الشيءُ ، و كُلُّ شيءٍ هذه سبيلُه يَجوزُ تَعلُّقُه بالماضي؛ كالاعتقادِ و الظنِّ و التمَنّي(6).
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّها لا تَتعلَّقُ إلّاعلىٰ وجهِ الحُدوثِ أنّ الإرادةَ لا بُدَّ مِن أن تَكونَ مؤَثِّرةً في الفِعلِ ؛ إمّا تحقيقاً أو تقديراً. فالتحقيقُ ، نَحوُ ما تَعلَّقَ بأفعالِ المُريدِ. و المُقدَّرُ، ما يَتعلّقُ بفِعلِ غَيرِه مِن(7) إرادتِه؛ لأنّ المانعَ مِن تأثيرِها فيه انتفاءُ التعلُّقِ ، و لو تَعلَّقَ ذلك الفِعلُ بقُدرةِ المُريدِ لَأثَّرَت فيه إرادتُه. و الإرادةُ تَتميَّزُ(8) بتأثيرِها، فمُحالٌ أن يَثبُتَ شَيءٌ مِن نَوعِها مع فَقدِ هذا التأثيرِ، فلَو تَعلَّقَت
ص: 137
بأن لا يَكونَ الشيءُ ، لَم تَكُن مؤَثِّرةً فيه علىٰ وَجهٍ مِنَ الوجوهِ ؛ لأنّها لَم تؤَثِّرْ في المُرادِ إذا كانَ حادثاً؛ إمّا بأن يَصيرَ الفِعلُ واقعاً بها علىٰ وَجهٍ دونَ وَجهٍ ممّا يَتبَعُ الحُدوثَ ، كالخبرِ و غَيرِه، أو تؤَثِّرَ(1) في نَفسِ الحُدوثِ ؛ بأن يَشتَرِكَ (2) مُرادُها و ضِدُّه في داعٍ واحدٍ، فيؤثِرُ المريدُ بها أحدَهما علَى الآخَرِ.
و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه في الإرادةِ ، صَحَّ مِثلُه في الكَراهةِ ؛ لأنّ مِن شأنِ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَتعلَّقَ كُلُّ واحدٍ منهما بما تَعلَّقَ به الآخَرُ، علَى الوجهِ الذي تَعلَّقَ به بالعكسِ منه.
فإن قيلَ : ألَيسَ أحَدُنا قد يُريدُ مِن زيدٍ أن لا يَدخُلَ الدّار، و يُريدُ منه أن لا يَكفُرَ؟
قُلنا: أمّا مَن أرادَ مِن غَيرِه أن لا يَكفُرَ، فإنّما أرادَ الإيمانَ منه؛ بدَلالةِ أنّه يَجِدُ نفسَه مُريداً لذلك، و لَو لَم يَكُنِ الأمرُ علىٰ ما قُلنا، لَجازَ أن يُريدَ أحَدُنا مِن غَيرِه أن لا يَكفُرَ، مع أنّه لا يُريدُ وجودَ الإيمانِ منه. كما أنّه لا يَمتَنِعُ أن يَعلَمَ أنّه لا يَكفُرُ، و إن لَم يُرِد وجودَ الإيمانِ منه، و لا اعتبارَ بإطلاقِ اللفظِ في هذا البابِ ؛ لأنّه كما يُقالُ ذلكَ (3) علىٰ سَبيلِ المَجازِ، قد يُقالُ أيضاً: «هو قادرٌ علىٰ أن لا يَفعَلَ الشيءَ » و المُرادُ قُدرتُه على ضِدِّه.
و أمّا(4) قولُ مَن يُريدُ أن لا يَدخُلَ زيدٌ الدارَ، فمعناهُ أنّه كان [كارهاً] لدُخولِه، و هذا لا بُدَّ ممّن هذه حالُه أن يَكونَ كارهاً.
ص: 138
و لَو قيلَ هذا الوجهُ أيضاً في الأوّلِ لَجازَ.
***
اعلَمْ أنّ المُراعىٰ فيما يَصِحُّ أن يُرادَ أمرانِ :
أحدُهما: ما يَرجِعُ إلَى المُرادِ نفسِه.
و الآخَرُ: راجعٌ إلَى المُريدِ.
فالراجِعُ إلَى المُرادِ أن يَكونَ ممّا يَصِحُّ حُدوثُه مُستَقبَلاً، أو هو حادِثٌ في الحالِ . و إن جَمَعتَ الأمرَينِ في قولِكَ : «أن يكونَ الحُدوثُ غَيرَ مُستحيلٍ عليه»، جازَ.
و ما يَرجِعُ إلَى المُريدِ، هو أن لا يَكونَ ساهياً عنه؛ إمّا بأن يَكونَ عالِماً به أو مُعتَقِداً أو ظانّاً.
و الذي يَدُلُّ على الشرطِ الأوّلِ ، أنّا قد بيّنّا(1) أنّ الإرادةَ إنّما تَتعلَّقُ بالحُدوثِ ، فإذا امتَنَعَ وَجهُ (189) تَعلُّقِها، امتَنَعَ تَعلُّقُها.
و الذي يَدُلُّ على صحّةِ الشرطِ الثاني ظاهرٌ؛ لأنّ مِن المعلومِ أنّ الساهِيَ عن الشيءِ لا يَجوزُ أن يُريدَه.
ص: 139
و ما يَستَحيلُ أن يَحدُثَ علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: لَيسَ بمعلومٍ في نفسِه؛ كبَقاءِ الأجسامِ .
و الثاني: أن يكونَ معلوماً، و الحُدوثُ يَستَحيلُ عليه؛ إمّا علىٰ كُلِّ حالٍ ، و إمّا علىٰ بَعضِ الوجوهِ ، نَحوُ ما تَقضَّىٰ وقتُه مِنَ المقدوراتِ ، فإنّ حُدوثَه مُحالٌ علىٰ كُلِّ حالٍ ، و نَحوُ المَقدورِ الذي لَم يَحضُرْ وقتُه، فإنّ حُدوثَه يَجوزُ علىٰ وَجهٍ ، و مُمتَنِعٌ علىٰ آخَرَ، و نَحوُ الجَواهرِ و الأجناسِ الباقيةِ التي يَستَحيلُ حُدوثُها حالاً بَعدَ حالٍ ؛ مِن غَيرِ تَوسُّطِ عدمٍ . و الجميعُ يَمتَنِعُ تَعلُّقُ الإرادةِ به.
و غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يُرادَ ما يَمتَنِعُ حُدوثُه علىٰ بعضِ الوجوهِ و يَصِحُّ علىٰ آخَرَ، متىٰ تَعلَّقَتِ الإرادةُ بالوجهِ الذي يَصِحُّ حُدوثُه عليه؛ كتعلُّقِ الإرادةِ بحُدوثِ المقدورِ الذي لَم يَحضُر وقتَه، في الوقتِ الذي يَصِحُّ أن يوجَدَ فيه.
و ما أحَلنا تعلُّقَ الإرادةِ به ممّا ذَكَرناه، لا يَمتَنِعُ أن يَكونَ مُراداً إذا اعتَقَدَ المُريدُ
صحّةَ حُدوثِه، إلّاأنّ الإرادةَ هاهنا لا مُرادَ لها، و يَجري في ذلكَ مَجرَى العِلمِ المُتعلِّقِ بأنّه تَعالىٰ لا ثانيَ له، في أنّه لا معلومَ له.
و كانَ أبو هاشمٍ يَفصِلُ بَينَ ما لَيسَ بمعلومٍ في نَفسِه كالبَقاءِ ، و بَينَ المعلُومِ الذي لا يَجوزُ حُدوثُه علَى الوجهِ الذي يُرادُ، فيَجعَلُ الإرادةَ للأوّلِ غَيرَ مُتعلِّقةٍ و في الثاني مُتعلِّقةً .
و الصحيحُ أنّه لا فَرقَ بَينَ الأمرَينِ ؛ لتَساويهِما في استحالةِ الوَجهِ الذي تَتعلَّقُ عليه الإرادةُ .
و الفَرقُ بَينَ الإرادةِ و الاعتقادِ في هذا البابِ واضحٌ ؛ لأنّ الاعتقادَ إنّما صَحَّ أن يَكونَ مُتعلِّقاً بالمُعتَقَدِ علىٰ صِفةٍ - و إن استحالَت تلكَ الصفةُ في الاعتقادِ فيما
ص: 140
تَقَضّىٰ و فيما(1) أنّه سَيَحدُثُ - و لَم يَجُز ذلكَ في الإرادةِ ؛ لأنّ الاعتقادَ يَتعلَّقُ بمُتعلَّقهِ علىٰ وجوهٍ ، و لا يَختَصُّ وَجهاً مُعيَّناً، و الإرادةُ لا تتعدَّى الحُدوثَ .(2)
و الأَولى فيما يَستَحيلُ حُدوثُه أنّه إنّما لا يُرادُ لاستحالةِ الإرادةِ في نفسِها، لا لفَقدِ الداعي، بخِلافِ ما ذَهَبَ إليه قومٌ في ذلكَ ؛ لأنّ الوَجهَ الذي لا تَتعلَّقُ الإرادةُ إلّا عليه(3) إذا استَحالَ استَحالَ تَعلُّقُها. فأمّا ما سَها عنه أحَدُنا، أو اعتَقَد استحالةَ حُدوثِه جَهلاً، فإنّما لا يُريدُه لأجلِ الداعي.
و للجُملةِ التي ذَكَرناها صَحَّ أن تُرادَ(4) الإرادةُ ؛ لأنّ الشرطَ فيما يَصِحُّ أن يُرادَ حاصلٌ فيها؛ مِن صحّةِ الحُدوثِ ، و عِلمِ المُريدِ أو اعتقادِه لذلكَ ، و إنّما لا يَصِحُّ أن تُرادَ إذا غَمَضَت؛ لأنّ غُموضَها يَجري مَجرى سَهوِ المُريدِ عنها.
و لا فَرقَ بَينَ مَن فَرَّقَ بَينَ الإرادةِ و غيرِها فيما ذَكَرناه، و بَينَ مَن فَرَّقَ في ذلكَ بَينَ أفعالِ القُلوبِ و أفعالِ الجَوارحِ (5).
فأمّا ما يَجِبُ أن يُرادَ، فالوَجهُ فيه ما يَرجِعُ إلَى المُريدِ دونَ المُرادِ؛ لأنّ العالِمَ بما يَفعَلُه لا بُدَّ مِن أن يَكونَ [له] غَرَضٌ فيه حَتّىٰ يَفعَلَه، و إذا فَعَلَه لغَرَضٍ يَخُصُّه فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُريداً له، إذا لَم يَكُن ممنوعاً مِن فِعلِ الإرادةِ ؛ لأنّ ما دَعاه إلَى الفِعلِ يَدعوه إلىٰ إرادتِه، و ما ألجَأَه إليه يُلجِئُه إلىٰ إرادتِه، و ما صَرَفَه عنه يَصرِفُه عن
ص: 141
(190) إرادتِه، و لهذا قيلَ : إنّ الإرادةَ و المُرادَ كالشيءِ الواحدِ(1).
و الأمرُ في أنّ مَن ذَكَرنا حالَه لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُريداً واضحٌ ، و إنّما لا يَكونُ مُريداً إمّا بأن لا يَكونَ عالِماً بالفِعلِ ، أو في حُكمِ العالِمِ ، أو لا غَرَضَ [له] فيه، أو يَكونَ ممنوعاً عَن الإرادةِ . و لَو لَم يَجِبْ ما ذَكَرناه، لَم يَكُن مَن امتَنَعَ عليه الفِعلُ
ممنوعاً؛ لأنّه إنّما يَكونُ ممنوعاً بأن يُريدَه فلا يَقَعُ ، و لهذا لَم يَجُز أن يَكونَ ما يَفعَلُه أو يُريدُ ضِدَّه.
و ليسَ يلزَمُ علىٰ ما ذَكَرناه وُجوبُ إرادةِ الإرادةِ ؛ لأنّها لا تُفعَلُ لغَرَضٍ يَخُصُّها، بل إنّما تُفعَلُ لِما يُفعَلُ له المُرادُ، و لَو وَجَبَت إرادةُ الإرادةِ ، لَأَدّى ذلكَ إلىٰ ما لا نِهايةَ له مِن الإراداتِ .
و قد يَجِبُ أن يَكونَ المُريدُ مُريداً للإرادةِ علىٰ بَعضِ الوجوهِ ؛ مِثلُ مَن أرادَ مِن نفسِه أو غيرِه الفِعلَ علىٰ وَجهٍ لا يَحصُلُ عليه إلّابإرادةٍ ؛ كالخبرِ و الأمرِ و العِبادةِ و الذَّمِّ و المَدحِ .
فأمّا الكلامُ فيما يَحسُنُ و يَقبُحُ مِن الإراداتِ ، فكُلُّ (2) إرادةٍ تَعلَّقَت بمُرادٍ حَسَنٍ ، و انتَفَت وجوهُ القُبحِ عنها، فهي حَسَنةٌ .
و إنّما اشتَرَطنا حُسنَ المُرادِ؛ لأنّ إرادةَ القَبيحِ لا تَكونُ إلّاقَبيحةً ، و إرادةَ ما لَيسَ بحَسَنٍ و لا قَبيحٍ كذلكَ (3). و اشتَرَطنا انتفاءَ وجوهِ القُبحِ ؛ لأنّ المُرادَ قد يَكونُ حَسَناً و تَكونُ الإرادةُ قَبيحةً ؛ نَحوُ إرادةِ الفعلِ الحَسَنِ ممّن لا يُطيقُه، و إرادةِ القَديمِ تَعالىٰ
ص: 142
لَو تَقدَّمَت علَى المُرادِ، و إرادةِ ما لا صفةَ له زائدةً علىٰ حُسنِه مِن غَيرِنا(1) إذا لَم يَكُن للمُريدِ في ذلك نفعٌ و لا ما يَجري مَجراه.
و كُلُّ إرادةٍ أثَّرَت في كَونِ مُرادِها حَسَناً فهي حَسَنَةٌ ؛ لأنّها لا يَجوزُ أن يَكونَ الفِعلُ لأجلِها كانَ حَسَناً و هي قَبيحةٌ .
فأمّا إرادةُ المُستَحِقِّ للعِقابِ إنزالَ العُقوبةِ به(2)، فالأَولىٰ أن تَكونَ قَبيحةً ، على ما يَختارُه أبو هاشمٍ (3)؛ لأنّها مِن(4) المَضارِّ به. و قد أُلحِقَ بذلكَ إرادةُ العاصي مِن غَيرِه أن يَلومَه. و لَيسَ تجري إرادةُ العِقاب مِنّا مَجرىٰ إرادةِ الأمراضِ ؛ فإنّ الأمراضَ نفعٌ ؛ لِما فيها مِن الأعواضِ المُتَرقَّبةِ .
و هذه جُملةٌ كافيةٌ .
***
اعلَمْ أنّ الإرادةَ لا تؤَثِّرُ في حُدوثِ الأفعالِ ؛ لأنّ القُدرةَ هي المؤَثِّرةُ في ذلكَ ، و إنّما تؤَثِّرُ في الوجهِ الزائدِ علَى الحُدوثِ .
ص: 143
و مِن شَرطِ ما يؤَثِّرُ في صفةٍ له زائدةٍ علَى الحُدوثِ ، أن يَكونَ ممّا يَجوزُ أن يَقَعَ علىٰ ذلك الوَجهِ و يَجوزُ أن لا يَقَعَ . و إن كانَ قد يؤَثِّرُ فيما هذه حالُه أمرٌ سِوَى
الإرادةِ ، إلّاأنّها لا تؤَثِّرُ إلّافيما هذه حالُه. و لهذه الجُملة قُلنا: إنّ الإرادةَ لا تؤَثِّرُ في صفاتِ الأجناسِ و إن تَعلَّقَت بذلكَ ، و لا تؤَثِّرُ في كَونِ رَدِّ الوَديعةِ رَدّاً لها؛ لأنّ ذلكَ يَجِبُ لا مَحالةَ ؛ مِن حَيثُ كانَ تَقدُّمُ الإيداعِ يَقتَضي في هذا الردِّ(1) وجوبَ كَونِه رَدّاً للوَديعةِ ؛ أرادَ المُريدُ أن يَكونَ كذلكَ أو لَم يُرِد.
فأمّا ما يَجوزُ أن يَحصُلَ مِن الوجوهِ و يَجوزُ أن لا يَحصُلَ ، فقَد تؤَثِّرُ فيه الإرادةُ ؛ نَحوُ قَضاءِ الدَّينِ ؛ لأنّه كانَ يَجوزُ أن يَقَعَ هذا الفِعلُ مِن غَيرِ أن تَحصُلَ (2) له هذه الصفةُ ؛ لأنّ تَقدُّمَ الدَّينِ لا يَقتَضي في هذا الفِعلِ وقوعَه قَضاءً له لا مَحالةَ ، علىٰ ما ذَكَرنا في رَدِّ الوَديعةِ ، فلا بُدَّ مِن أمرٍ مُخَصِّصٍ و هو الإرادةُ ؛ لأنّ العِلمَ و سائرَ ما عَدا الإرادةَ قد (191) يَحصُلُ و لا(3) يَكونُ قَضاءَ الدَّينِ .
و كذلك القولُ في الخبرِ و الأمرِ، و الثوابِ و العِقاب، و علىٰ هذا صَحَّ القولُ بأنّ أحَدَنا لَو مُنِعَ مِن الإرادةِ ، لَم يَصِحَّ مِنه أن يُخبِرَ و أن يأمُرَ، و إن صَحَّ أن يَرُدَّ الوَديعةَ و أن يظلِمَ .
فأمّا ما لا تؤَثِّرُ(4) فيه الإرادةُ و إن كانَ وَجهاً زائداً علَى الحُدوثِ ، يَجوزُ أن يَحصُلَ و أن لا يَحصُلَ علىٰ سَواءٍ ، فكنَحوِ كَونِ الاعتقادِ عِلماً، و كونِ الشيءِ مُلتَذّاً
ص: 144
به؛ لأنّ المؤَثِّرَ في الأوّلِ كَونُ الفاعلِ عالِماً(1)، و في الثّاني الشَّهوَةُ . و فارَقَ هذا ما ذَكَرناه أوّلاً؛ لأنّ قَضاءَ الدَّينِ و ما شاكَلَه إنّما افتَقَر في التأثيرِ إلى كونِ الفاعِلِ مُريداً لمّا لَم يَجُز أن يؤَثِّرَ فيه كَونُه عالِماً و لا شَيءٌ مِن أحوالِه، و لمّا جازَ فيما ذَكَرناه أخيراً أن يؤَثِّرَ فيه سِوىٰ كَونِه مُريداً، لَم يَفتَقِر إليه.
و الإرادةُ لا تؤَثِّرُ في حُسنِ الشيءِ أو قُبحِه بلا واسطةٍ ، و إنّما تؤَثِّرُ في وقوعِه علىٰ بعضِ الوجوهِ ، و يُعتَبَرُ ذلكَ الوَجهُ ؛ فَرُبّما كانَ وَجهَ قُبحٍ ، و رُبّما كانَ وَجهَ حُسنٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ الخبرَ قد يَكونُ خبراً بالإرادةِ ، ثُمّ يُعتَبَرُ حالُ مُخبَرِه، فإن كانَ كَذِباً كانَ قبيحاً، لكَونِه كَذِباً، و إن كانَ صِدقاً و انتَفَت عنه وجوهُ القُبحِ كانَ حَسَناً، لكونِه كذلكَ؟ فالإرادةُ لَم تؤَثِّر علَى الحقيقةِ في القُبحِ و لا الحُسنِ ، و إنّما المؤَثِّرُ فيهما وجوهُ الأفعالِ .
و الذي يُبيِّنُ ذلكَ : أنّ الإرادةَ بعَينِها قد تَكونُ حاصلةً ، و يَكونُ الخبرُ تارةً قَبيحاً بأن لا يُطابِقَ المُخبَرَ، و تارةً حَسَناً بأن يُطابِقَهُ و تَنتَفيَ (2) وجوهُ القُبحِ .
و إنّما قيلَ : إنّ الإرادةَ تؤَثِّرُ في الحُسنِ و القُبحِ ، علىٰ معنىٰ أنّها تؤَثِّرُ فيه [بواسطةٍ ](3).
و علىٰ هذا الذي ذَكَرناه، لَم يَلزَمْ أن تَكونَ الإرادةُ و المُرادُ يَتعلَّقُ قُبحُ كُلِّ واحدٍ
منهما بصاحبِه؛ لأنّ قُبحَ الإرادةِ يَتعلَّقُ (4) بقُبحِ المُرادِ؛ لأنّها تَقبُحُ لِقُبحِ مُرادِها،
ص: 145
و المرادُ لَم يَقبُحْ لِقُبحِ إرادَتِه، بل للوجهِ الذي يَقَعُ عليه.
و كُلُّ فِعلٍ قَبُحَ لوقوعِه علىٰ وَجهٍ تؤَثِّرُه الإرادةُ ، كالصَّدقةِ المقصودِ بها الرياءُ و السُّمعةُ ، فهو و إرادتُه قَبيحانِ ؛ لأنّها إذا كانَت قَبيحةً و أثَّرَت في الفِعلِ وجبَ قُبحُه، و لَيسَ كذلكَ إذا كانَت قَبيحةً غَيرَ مؤَثِّرةٍ ؛ لأنّ مَن قَصَدَ برَدِّ الوَديعةِ الاختزاعَ (1)، تكونُ إرادتُه قَبيحةً و فِعلُه حَسَناً؛ لأنّها هاهنا مُنفَصِلةٌ مِن الفِعلِ و غَيرُ مؤَثِّرةٍ فيه.
و اعلَمْ أنّ الإرادةَ لا تؤَثِّرُ في كَونِ الكلامِ خبراً، و لا في سائرِ ما ذَكَرنا أنّه يَقَعُ علىٰ وَجهٍ دونَ الآخَرِ، و إنّما المؤَثِّرُ علَى التحقيقِ في ذلكَ كَونُ المُريدِ مُريداً، بخِلافِ ما ذَهَبَ إليه قومٌ من أنّ الإرادةَ هي المؤَثِّرةُ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّها لَو أثَّرَت في كَونِ الكلامِ خبراً، مع تأثيرِها في كَونِ المُريدِ مُريداً، لَوجبَ أن تَكونَ عِلّةً في معلولَينِ مُختَلِفَينِ .
و لأنّه لَو كانَ مُريداً بلا إرادةٍ ، لَصَحَّ أن يُخبِرَ و يَأمُرَ، كما لَو كانَ عالِماً بغَيرِ علمٍ ، يَصِحُّ منه المُحكَمُ مِن الفِعلِ . و لَو جازَ أن يَستَنِدَ كَونُ الكَلامِ خبراً إلَى الإرادةِ دونَ حالِ المُريدِ، لَجازَ استنادُ كَونِ الفِعلِ مُحكَماً إلَى العِلمِ دونَ حالِ العالِمِ .
و حالُ المُريدِ و إن أثَّرَت في الخبرِ، فلَيسَت عِلّةً علَى الحقيقةِ في كَونِه خبراً؛ لأنّ العِلّةَ لا تَكونُ إلّاذاتاً، و مِن شَرطِها أن تَختَصَّ بالمُعَلَّلِ . و كُلُّ هذا لا يَتَأتّىٰ في حالِ المُريدِ؛ ألا تَرىٰ أنّها تؤَثِّرُ في الموجودِ و المعدومِ مِن الحُروفِ؟ غَيرَ أنّها و إن
لَم تَكُن علَى الحَقيقةِ عِلّةً ، فهي مُشبِهةٌ بالعِلّةِ .
ص: 146
و اعلَمْ أنّه لا شُبهةَ في الإرادةِ ، إذا كانَت مُتعلِّقةً بفِعلِ غَيرِ المُريدِ بها، فإنّها لا تُؤَثِّرُ فيه؛ ألا تَرىٰ أنّ القَولَ الموجودَ مِن زَيدٍ، لا يَكونُ خبراً لأنّ (192) عَمْراً(1) أرادَ كَونَه خبراً؟ و لَو جازَ أن يؤَثِّرَ بَعضُ أحوالِ زَيدٍ في فِعلِ عمرٍو، لَم يَكُن بَعضٌ في ذلكَ أَولىٰ مِن بعضٍ ، [فَجازَ] أن يُؤَثِّرَ كونُه عالِماً و قادراً في فِعلِ غَيرِه!
و قد لَوَّحَ أبو هاشمٍ في بعضِ المَواضعِ (2) في [أنّ ] المُخبِرَ لا يَمتَنِعُ أن يَكونَ مُخبِراً بأن يَقصِدَ إلَى الخبرِ و إن كانَ الخبرُ مِن فِعلِ غَيرِه.
و الصحيحُ ما ذَكَره في «البَغداديّاتِ »(3) و غَيرِها مِن أنّ الخبرَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ
مِن فِعلِ المُخبِرِ(4).
و يَدُلُّ عليه ما ذَكَرنا مِن أنّ أحوالَ الحَيِّ لا تؤَثِّرُ(5) في فِعلِ غَيرِه. و ما ذَكَرناه قَديماً مِن أنّ [مَن] جَعَلَ الذاتَ علىٰ صفةٍ مِن الصفاتِ مِن غَيرِ تَوسُّطِ علّةٍ ، فلا بُدَّ مِن أن يكونَ [هو] المُحدِثَ لها.
و كانَ أبو هاشمٍ يَشتَرِطُ في تأثيرِ الإرادةِ في الخَبَرِ أن تَكونَ (6) مِن فِعلِ المُخبِرِ،
ص: 147
و يَقولُ : مَتىٰ كانت ضَروريّةً لَم تؤَثِّرْ. و غَيرُه يُجيزُ أن تؤَثِّرَ الإرادةُ أو حالُ المُريدِ، و إن كانَت ضَروريّةً و غَيرَ تابعةٍ لاختيارِه.
و الذي يُنصَرُ به القَولُ الأوّلُ : أنّ الخبرَ لمّا اعتُبِرَ في كَونِه خبراً نبأً(1)، أن تَكونَ (2)ذاتُه مِن فِعلِنا و اختيارِنا، وجبَ أيضاً أن يُعتَبَرَ فيما به صارَ خبراً مِن كَونِنا مُريدينَ أن يَتعلَّقَ باختيارِنا؛ ليَجريَ ما كانَ به خبراً في التعلُّقِ باختيارِنا مَجرىٰ ذاتِ الخَبَرِ، و حَتّىٰ يَصِحَّ أن نَفعَلَه(3) خبراً أو لا نَفعَلَه كذلكَ .
و ممّا يُنصَرُ به القولُ الثاني: أنّ المُعتَبَرَ في كَونِ الكَلامِ خبراً، [أن] يكونَ فاعلُه مُريداً، كما أنّ المُعتَبَرَ في كَونِ الفِعلِ مُحكَماً بكَونِه(4) عالِماً، و لا اعتبارَ بكيفيّةِ كَونِه عالِماً، فكما جازَ أن يؤَثِّرَ كَونُه عالِماً في(5) المُحكَمِ ، و إن كانَ العِلمُ مِن فِعلِ غَيرِه، كذلكَ يؤَثِّرُ كَونُه مُريداً. و كما جازَ أن يؤَثِّرَ كَونُه مُريداً بلا إرادةٍ أصلاً - لَو جازَ ذلك -؛ فلِمَ لا يَجوزُ أن يؤَثِّرَ كَونُه مُريداً، و إن كانَ عن إرادةٍ ضَروريّةٍ؟
و يُمكِنُ أن يُفرَّقَ بَينَ كَونِه عالِماً، و كَونِه مُريداً في هذا البابِ (6) بأنّ كَونَه عالِماً علىٰ سَبيلِ الوجوبِ ، بَل علىٰ وَجهِ التصحيحِ ، و كَونَه مُريداً بخِلافِ ذلكَ (7).
***
ص: 148
[4] [فَصلٌ (1)] [في أنّ للمريدِ منّا حالاً يختصّ بها، و يُفارقُ بها مَن ليس بمريد]
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّ أحَدَنا يَجِدُ نَفسَهُ مُريداً و قاصداً ضَرورةً ، كما يَعلَمُ نفسَه مُعتَقِداً و ظانّاً و مفكّراً(2) و لا شيءَ أوضَحُ ممّا يَجِدُه الإنسانُ مِن نفسِه، و لا شُبهةَ في مِثلِه، و إنّما تَعرِضُ الشُّبهةُ في تمييزِ هذه الحالِ مِن سائرِ أحوالِه.
و كما يَعلَمُ أحَدُنا ذلكَ مِن نفسِه ضَرورةً ، كذلكَ يَعلَمُه مِن غَيرِه؛ نَحوُ أن يَعلَمَه مُخاطِباً له بالكلامِ و مُوَجِّهاً إيّاه نَحوَه دونَ غَيرِه. و لَولا كَونُ ما ذَكَرناه معلوماً باضطرارٍ، لَما عُلِمَ تَعلُّقُ الفِعلِ بالفاعلِ ، و لا صَحَّ أيضاً أن تُقَرَّرَ(3)المُواضَعةُ علَى اللُّغاتِ ؛ لأنّ قَصدَ المُشيرِ و المُواضِعِ إذا لَم يَكُن معلوماً، فلا سَبيلَ إلىٰ تَقرُّرِ المُواضَعةِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ألّايَرجِعُ ما يَجِدونَه مِن ذلكَ إلَى الداعي و الاعتقادِ؟
ص: 149
لأنّه لَو رَجَعَ إلىٰ ما ذَكَرَه، لَم تَكُنِ (1) الحالُ فيما يَجِدُه مِن نَفسِه علىٰ ما ذَكَرناه؛ مِن قِبَلِ أنّ الداعيَ إنّما هو «اعتقادُ النفعِ و دَفعُ الضررِ»، و قد يَعتَقِدُ أحَدُنا في الشيءِ أنّه يَنفَعُه، و تارةً يَجِدُ نَفسَه مُريداً له، و أُخرىٰ أن لا يَجِدَها كذلكَ . فلَو كانَ الداعي هو الإرادةَ لَم يَحصُلْ هذا الفَرقُ ؛ لأنّ الداعيَ في الحالَينِ قائمٌ .
و لأنّ (2) الداعيَ قد يَدعوه إلىٰ كُلِّ شَيءٍ يَحضُرُه علىٰ وجهٍ تَتَساوىٰ (3) فيه أبعاضُ ذلكَ الشيءِ الحاضرِ، و مع هذا فيُريدُ أكلَ بعضٍ دونَ بعضٍ حتّىٰ يَتَناوَلَه بعَينِه، فيَجِبُ أن يَكونَ ما عَمَّ الكُلَّ مِن الداعي غَيرَ ما خَصَّ (4) [البعضَ ] مِن البَعضِ
و اقتَضىٰ تَناوُلَ الفِعلِ له.
و لأنّ عِلمَنا بحالِ المُخاطِبِ لنا و قَصدِه، يَسبِقُ العِلمَ بأنّ له داعياً إلى خِطابنا، و ما العِلمُ به أسبَقُ مِن غَيرِه، كيفَ يَكونُ هو ذلكَ الغَيرَ؟
و أمّا تمييزُ الحالِ التي ذَكَرناها مِن كَونِه مُشتَهياً فظاهرٌ: لأنّه قد يُريدُ ما يَضُرُّه عاجِلاً و ما لا يُدرِكُه أصلاً، و الشَّهوةُ لا تَتعلَّقُ إلّابالمُدرَكاتِ و ما يَنتَفِعُ به (194) المُدرِكُ .
و مُفارَقةُ هذه الحالِ لسائرِ أحوالِه؛ مِن كَونِه قادراً و مُدرِكاً و ناظراً، أوضَحُ مِن أن يُدَلَّ عليه.
و إذا ثَبَتتِ الحالُ ممّا ذَكَرناه، فالذي يَدُلُّ (5) علىٰ حُصولِها عن معنىً ، أنّ ما يَحصُلُ في حالٍ ، قد كانَ يَجوزُ أن لا يَحصُلَ فيها، و أحوالُ المُريدِ كُلُّها واحدةٌ لا تَختَلِفُ ، فلا بُدَّ مِن ثُبوتِ معنىً ، كما قُلناه في إثباتِ سائرِ الأعراضِ .
ص: 150
فإن قيلَ : كيفَ ادَّعَيتُم أنّه يُريدُ و لا يُريدُ؛ و الحالُ واحدةٌ ، مع أنّه يُريدُ عندَ الداعي، و لا يَجوزُ مع ثُبوتِ الداعي أن لا يُريدَ، و كذلكَ لا يَجوزُ مع انتفاءِ الدواعي أن يُريدَ؟
قُلنا: قد يَجوزُ أن يَكونَ غَيرَ مُريدٍ مع ثُبوتِ الداعي علىٰ بعضِ الوجوهِ ؛ نَحوُ مَن دَعاه الداعي إلَى القيامِ ، فأَخَّرَه و فَعَلَه بَعدَ زمانٍ مُتَراخٍ . و قد يَدعو أحَدَنا الداعي إلىٰ أفعالٍ متساويةٍ في تَناوُلِ الداعي لها، فيُريدُ بَعضَها و يؤثِرُه علىٰ بعضٍ [آخَرَ، بل و يُريدُ] أحَدَها بَدَلاً مِن غَيرِه. فثَبَتَ صحّةُ ما ذَكَرناه؛ مِن جَوازِ كَونِه مُريداً و أن لا يَكونَ كذلكَ ؛ و الحالُ واحدةٌ .
علىٰ أنّ هذا الكَلامَ لَو قَدَحَ في إثباتِ الإرادةِ ، لَقَدَحَ (1) في إثباتِ كُلِّ الأعراضِ ؛ لأنّه كما يَجِبُ أن نَكونَ (2) نُريدُ لمكانِ الداعي، كذا يَجِبُ أن نَتحرَّكَ مع قُوّةِ الدواعي و السلامةِ . و إذا صَحَّ مع ذلكَ أن يكونَ بحركةٍ جائزاً كجَوازِ ضِدِّه، صَحَّ أيضاً جَوازُ كَونِه مُريداً علىٰ هذا الحَدِّ.
و إذا ثَبَتَ أنّه مُريدٌ لمعنىً ، فلا بُدَّ مِن معنَى الاختصاصِ لِيوجِبَ الحالَ له، و هذا يَقتَضي كَونَه حالاًّ فيه؛ لأنّ المُجاوَرةَ لا تَصِحُّ إلّاعلَى الأعراضِ .
فأمّا العِلمُ بمَحَلِّ الإرادةِ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، فالطريقُ إليه السمعُ ، و إن كانَ الإنسانُ مِن حَيثُ يَجِدُ في ناحيةِ قَلبِه عندَ الإرادةِ و الفِكرِ ضَرباً مِن التَّعَبِ ، يَعلَمُ أنّ الإرادةَ و النظَرَ يَحُلّانِ هذه الناحيةَ . و العِلمُ بأنّ المَحَلَّ هو القَلبُ علَى التفصيلِ ، موقوفٌ علَى السمعِ .
ص: 151
دليلٌ آخَرُ علىٰ إثباتِ حالِ المُريدِ: قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا مُخبِرٌ و آمِرٌ. و لَولا كَونُه مُريداً، لَما وَقَعَ منه الخبرُ خبراً، و لا الأمرُ أمراً، و كذلكَ سائرُ [أنواعِ ] الخِطابِ . و إن كانَ الخبرُ يَحتاجُ إلىٰ أن يَكونَ فاعِلُه مُريداً لِكَونِه خبراً، و الأمرُ يَحتاجُ إلىٰ أن يَكونَ [فاعلُه] مُريداً للمأمورِ به. و هُما و إنِ اختَلَفا مِن هذا الوَجهِ ، فقَد اتَّفَقا فيما قَصَدناه مِن الدَّلالةِ علىٰ حالِ المُريدِ.
فإن قيلَ : ألا كانَ الخبرُ يُخالِفُ جنسُه ما لَيسَ بخبرٍ، و كذلكَ الأمرُ، فلا يَحتاجُ إلىٰ مؤَثّرٍ فيه مِن أحوالِ فاعلِه ؟ و إن لَم يَكُن مُخالِفاً، فألَا كانَ ما يَقَعُ خبراً غَيرَ ما لا يَقَعُ كذلكَ ، و إن كانَ مِثلَه و مِن جنسِه، فلا يَحتاجُ إلى كَونِ فاعلِه مُريداً، كما لا يَحتاجُ العَرَضُ المُختَصُّ ببعضِ المَحالِّ إلى قَصدِ فاعلِه في حُلولِه مَحَلَّه ؟
و إذا سُلِّمَ كُلُّ هذا، و أنّ الخبرَ بعَينِه يَجوزُ أن يَكونَ غَيرَ خبرٍ؛ مِن أينَ أنّه لا يَكونُ كذلكَ إلّابكَونِ فاعلِه علىٰ صفةٍ؟ ثُمّ ما الدليلُ علىٰ أنّ تلكَ الصفةَ هي كَونُه مُريداً؟ و ألَاكانَ كذلك لبعضِ ما عَدا ذلكَ مِن أحوالِه ؟
قُلنا: أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الجِنسَ واحدٌ، فهو التباسُهما علَى الإدراكِ كالتباسِ السوادَينِ . و كما قَضَينا بتَماثُلِ السوادَينِ ، كذلِكَ يَجِبُ أن نَقضيَ بتَماثُلِ ما جَرىٰ مَجراهُما.
و إنّما قُلنا: إنّهما يَشتَبِهانِ علَى الإدراكِ ؛ لأنّ مَن سَمِعَ قولَ القائلِ : «زَيدٌ قائمٌ » و هو يَقصِدُ به إلَى الإخبارِ عن زَيدٍ بعَينِه، لا يَفصِلُ بَينَه و بَينَ قولِه: «زَيدٌ قائمٌ » و هو غَيرُ مُخبِرٍ؛ بأن يَكونَ ساهياً أو حاكياً عن غَيرِه. و لقُوّةِ التباسِهما، كانَ مَن يُجوِّزُ
ص: 152
علَى الكلامِ الإعادةَ ، (195) مُجوِّزاً أن يَكونَ ما سَمِعَه ثانياً هو الذي سَمِعَه أوّلاً، و كذلكَ مَنِ اعتَقَدَ بَقاءَ الكلامِ .
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ نَفسَ ما يَقَعُ فيَكونُ خبراً، يَجوزُ أن يوجَدَ غَيرَ خبرٍ، فأشياءُ كثيرةٌ :
مِنها: أنّ الألفاظَ العربيّةَ إنّما تُفيدُها(1) المُواضَعةُ ، و التواضُعُ في الأصلِ إنّما حَصَلَ باختيارِ المُتَواضعِينَ . و قد كانَ يَجوزُ أن لا يَتَواضَعوا في هذه الصيغةِ المخصوصةِ أنّها للخبرِ، و لَو كانَ ذلكَ لَكانَت هذه الحُروفُ بعَينِها توجَدُ فلا تَكونُ خبراً.
و مِنها: أنّه لَو كانَ الخبرُ عن أحَدِ الزَّيدَينِ غَيرَ الآخَرِ، لَم يَمتَنِعْ أن يَفعَلَ أحَدُنا
اللفظَ الذي مِن حَقِّه أن يَكونَ خبراً عن زَيدِ بنِ عبدِ اللّٰهِ ، و يَقصِدَ به إلَى الإخبارِ عن زَيدِ بنِ خالدٍ، فيَكونَ مُخبِراً عن الأوّلِ دونَ الثاني الذي قَصَدَ به الإخبارَ عنه. و في فَسادِ ذلكَ دليلٌ علىٰ أنّ اللفظَ واحدٌ، و أنّه بالقَصدِ يَتوَجَّهُ إلَى المُخبَرِ عنه.
و مِنها: أنّ اللفظَ لَو كانَ مُتَغايِراً، لَوجبَ أن يَكونَ للقادرِ سَبيلٌ إلَى التمييزِ بَينَ ما يوجَدُ فيَكونُ خبراً عن زَيدٍ بعَينِه، و بَينَ ما يَكونُ خبراً عن غَيرِه. فلَمّا لَم يَكُن إلىٰ ذلكَ سَبيلٌ ، عُلِمَ أنّ اللفظَ واحدٌ.
و مِنها: أنّ ذلكَ يَقتَضي صحّةَ أن يَعلَمَ زَيداً مُخبِراً و إن لَم يَعلَمْ كَونَه مُريداً، إذا كانَ القَصدُ لا تأثيرَ له. و نَحنُ نَعلَمُ خِلافَ ذلكَ ، و يَقتَضي أن لا طريقَ لنا إلَى الفَصلِ بَينَ ما هو خبرٌ و بَينَ ما لَيسَ كذلكَ .
ص: 153
و مِنها: أنّ هذا القولَ يُبطِلُ التوَسُّعَ و التجَوُّزَ في الكلامِ ، و يُبطِلُ أيضاً التَّوريَةَ ؛ لأنّ التجَوُّزَ إنّما يَصِحُّ بأن يُستَعمَلَ اللفظُ المَوضوعُ لشيءٍ بعَينِه في غَيرِه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ التجَوُّزَ هو أن يُستَعمَلَ مِثلُ اللفظِ المَوضوعِ لشيءٍ في غَيرِه.
و ذلكَ أنّ اللفظَينِ إذا كانا مِثلَينِ ، فلا بُدَّ فيما يَصِحُّ علىٰ أحَدِهما مِن الأحكامِ أن يَصِحَّ علَى الآخَرِ، و إذا جازَ أن تُستَعمَلَ (1) مِثلُ هذه اللفظةِ في غَيرِ الخَبَرِ و الأمرِ، جازَ أيضاً استِعمالُها بعَينِها في ذلكَ علىٰ سَبيلِ التجَوُّزِ.
و مِنها: أنّ هذا القولَ يَقتَضي انحصارَ مَن يُقدَرُ علىٰ أن يُخبَرَ عنه في كُلِّ حالٍ ، و أنّه يَكونُ القويُّ في هذا البابِ بخِلافِ الضعيفِ .
و إنّما قُلنا ذلكَ ؛ لأنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ في الوقتِ الواحدِ، في المَحَلِّ الواحدِ، مِن الجنسِ الواحدِ بأكثَرَ مِن جزء(2) واحدٍ، و حُروفُ قولِ القائلِ : «زَيدٌ قائمٌ » مُماثِلةٌ لكُلِّ ما هذه صورَتُه مِن الكلامِ ، فيَجِبُ (3) أن يَكونَ أحَدُنا قادراً مِن عَدَدِ هذه الحُروفِ في كُلِّ وقتٍ علىٰ قَدرِ ما في لِسانِه مِن القُدَرِ. و في هذا ما قَدَّمناه مِن انحصارِ عَدَدِ مَن يَصِحُّ أن يُخبَرَ عنه، حتّىٰ لَو بَذَلَ مجهودَه في أن يُخبِرَ عن غَيرِهم لَما تأتّىٰ مِنه. و نَحنُ نَعلَمُ خِلافَ ذلكَ مِن كُلِّ قادرٍ.
و لا يَلزَمُ علىٰ ما ذَكَرناه أن تَكونَ إرادةُ الأخبارِ المُختَلِفةِ واحدةً ، و إلّاأدّىٰ إلَى
انحصارِ ما يُقدَرُ عليه مِن الأخبارِ.
و ذلكَ أنّ الإراداتِ التي «بها تَكونُ الأخبارُ أخباراً عن جَماعاتٍ مُتَغايِرةٍ »
ص: 154
مُختَلِفةٌ ، و القُدرةُ الواحدةُ تَتعلَّقُ (1) بما لا يَتَناهىٰ مِن المُختَلِفِ . و إنّما لا يَجوزُ ذلكَ في المُتَماثِلِ بالشُّروطِ التي ذَكَرناها. فبانَ أنّ الإراداتِ لا تُشبِهُ ما ألزَمناه في الحُروفِ المُتَماثِلةِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا جازَ لأحَدِنا(2) أن يَفعَلَ بالقُدرةِ الواحدةِ في كُلِّ مَحَلٍّ كَوناً في جهةٍ بعَينِها، و لَم يَجِبْ أن يُقالَ : إنّه كَونٌ واحدٌ(3) يَصِحُّ وجودُه في المَحالِّ علَى البَدَلِ بالإرادةِ ، فألَا جازَ مِثلُ ذلكَ في الألفاظِ؟
و ذلك: أنّ القُدرةَ الواحدةَ لا يَنحَصِرُ مُتعلَّقُها مِن المُتَماثِلِ إذا اختَلَفَ المحالُّ ، كما لا يَنحَصِرُ مُتعلَّقُها مِن المُختلِفِ و الوقتُ و المَحَلُّ واحدٌ. (196) و ليس كذلِكَ ما تَتعلَّقُ (4) به مِن المُتَماثِلِ في المَحَلِّ الواحدِ و الوقتِ الواحدِ؛ لأنّها لا تَتعلَّقُ بأكثَرَ مِن جُزءٍ واحدٍ علىٰ هذه الشُّروطِ. فلَولا أنّ اللفظَ الواحدَ يَصِحُّ أن يُخبَرَ به عن كُلِّ زَيدٍ علَى البَدَلِ ، لَانحَصَرَ ما يُقدَرُ عليه مِن الأخبارِ.
و لَيسَ له أن يَدَّعيَ : أنّ مَحالَّ الحُروف المُتَماثِلةِ مُتَغايرةٌ ؛ كما قُلنا في الأكوانِ .
و ذلكَ : أنّ مِن المعلومِ أنّ مَخرَجَ الزايِ كُلَّه مَخرَجٌ واحدٌ، و كذلكَ مَخارِجُ كُلِّ حرفٍ ، و لهذا مَتىٰ لَحِقَت بعضَ مَحالِّ هذه الحُروفِ آفةٌ ، أثَّرَ ذلكَ في كُلِّ حُروفِ ذلكَ المَخرَجِ .
و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، صَحَّ بصحّتِها ما قَصَدناه؛ مِن أنّ نفسَ ما وَقَعَ خبراً، قد كانَ يَجوزُ أن يَكونَ غَيرَ خبرٍ، فلا بُدَّ مِن أمرٍ له اختَصَّ بكَونِه خبراً(5). كما أنّ
ص: 155
الجَوهرَ لمّا اختَصَّ ببعضِ هذه الجهاتِ ، مع جوازِ كَونِه في غَيرِها، وجبَ أن لا يَختَصَّ بها إلّالأمرٍ مّا. و لا يَخلُقُ تُفنيدُ(1) هذا القولِ أيضاً أنّه يوجِبُ أن لا يَضطَرَّ أحَدُنا إلىٰ أنّ غَيرَه مريدٌ؛ لأنّ العِلمَ بأنّ الفاعلَ فاعلٌ لا يَكونُ إلّامُكتَسَباً بالأدلّةِ .
فأمّا المَذهَبُ الثاني: فالذي يُبَيِّنُ بُطلانَه، أنّ الإرادة إذا ثَبَتَ أنّها توجِبُ حالاً للمُريدِ، و أنّ إيجابَها للحالِ يَرجِعُ إلىٰ جنسِها و ما هي عليه في نفسِها، فيَجِبُ مَتىٰ وُجِدَ جنسُها مِن فِعلِ أيِّ (2) فاعلٍ كانَ ، أن توجِبَ (3) مِثلَ هذه الحالِ ؛ لأنّ موجَبَ
العِلَلِ لا يَتغيَّرُ بالفاعِلينَ ، علىٰ حَدِّ ما نَقولُه(4) في العِلمِ و الحركةِ و ما يوجِبُ حالاً لمَحَلٍّ أو جُملةٍ .
***
و مِنهم مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ إرادةَ أن يَكونَ (1) كَراهةٌ لئلّا يَكونَ ، و إرادةُ أن لا يَكونَ كَراهةٌ لأن يَكونَ .
و نَحنُ نُبيِّنُ فَسادَ ذلكَ :
أمّا تَميُّزُ الإرادةِ مِن الشَّهوةِ ، فبَيِّنٌ مِن وجوهٍ :
مِنها: أنّ الشَّهوةَ تَختَصُّ بالمُدرَكاتِ دونَ غَيرِها، و الإرادةَ تَتعلَّقُ بكُلِّ ما يُجوِّزُ المُريدُ حُدوثَه.
و مِنها: أنّ (2) المُرادَ قد يَكونُ ضرراً أو مؤَدّياً إليه، و المُشتَهىٰ لا يَكونُ إلّاممّا يُنتَفَعُ بتَناوُلِه.
و مِنها: أنّه قد يُريدُ ما لا يَصِحُّ وجودُه، إذا اعتَقَدَ صَحّةَ (3) ذلكَ فيه، و لا يَجوزُ مِثلُه في الشَّهوةِ .
و مِنها: أنّه قد يُريدُ فِعلَ غَيرِه، و لا يَجوزُ أن يَشتَهيَ ما يَنالُه غَيرُه.
و مِنها: أنّ ما يَنفي الشَّهوةَ مِن النِّفارِ، لا يَنفي الإرادةَ بل يُجامِعُها؛ لأنّه قد يَنفِرُ [عمّا يريدُ تناولَه من الدواءِ . و ما يُنافي الإرادةَ من الكراهةِ لا يُنافي الشهوةَ ؛ لأنّه قد](4) يَكرهُ في أيّامِ الصَّومِ تَناوُلَ المُشتَهىٰ مِن المأكولِ و المشروبِ .
و مِنها: أنّ الفِعلَ يَقَعُ علىٰ وَجهٍ بالإرادةِ دونَ الشَّهوةِ .
و منها: أنّ كَونَه مُلتَذّاً يَتبَع الشَّهوةَ دونَ الإرادةِ .
ص: 157
و منها: أنّ الإرادةَ نفسَها يَصِحُّ أن تُرادَ(1)، و لا يَصِحُّ مِن المُشتَهي [شَهوةُ ](2)الشَّهوةِ .
و مِنها: أنّه قد يُريدُ الشيءَ و يَكرَهُ مِثلَه، و لا يَصِحُّ أن يَشتَهيَ الشيءَ و يَنفِرَ عن مِثلِه.
و مِنها: أنّه قد يَجِدُ نَفسَه قَوِيَّ الشَّهوةِ تارةً ، و ضَعيفَها أُخرىٰ ، و حالُه في الإرادةِ
لا يَختَلِفُ .
و مِنها: أنّ ما دَعا إلَى الفِعلِ يَدعو إلَى الإرادةِ ، و ذلكَ لا يَتِمُّ في الشَّهوةِ .
و مِنها: أنّ الإرادةَ مقدورةٌ للعِبادِ، و الشَّهوةُ لا تَدخُلُ تَحتَ مقدورِهم.
و مِنها: أنّ إرادةَ القَبيحِ قَبيحةٌ ، و شَهوةُ القَبيحِ غَيرُ قَبيحةٍ .
و ما ذَكَرناه يُبطِلُ أن تَكونَ الكَراهةُ (3) هي نِفارَ الطبعِ .
علىٰ أنّ القولَ بأنّ إرادةَ كَونِ ما لا يَكونُ شَهوةً ، يوجِبُ أن يَجِدَ أحَدُنا مَتىٰ أرادَ الأُمورَ المُستَقبَلةَ ، الفَصلَ بَينَ حالِه مُريداً لِما المعلومُ أنّه (197) لا يَكونُ (4)، و حالِه إذا أرادَ ما المعلومُ أنّه يَكونُ ؛ لأنّ علىٰ أحَدِ الأمرَينِ حالُه حالُ المُشتَهي، و علَى الوَجهِ الآخَرِ حالُه حالُ المُريدِ. و في عِلمِنا بأنّه لا فَصلَ يَجِدُه الواحِدُ مِنّا في ذلكَ ، دَلالةٌ علىٰ فَسادِ قولِهم.
علىٰ أنّ الأمرَ لَو كانَ علىٰ ما ذَكَروا، لَم يَكُن لسؤالِ مَن يُريدُ الفِعلَ مِن غَيرِه:
ص: 158
«هَل فَعَلَه أم لا؟» معنىً ؛ لأنّه إذا تَبيَّن الفَصلَ مِن نَفسِه(1)، لَم يَكُن به إلَى السؤالِ حاجةٌ .
هذا إذا قالوا: إنّ إرادةَ ما لا يَكونُ شَهوةٌ علَى الحقيقةِ .
فأمّا إنِ اعتَرَفوا بمُخالَفتِها لجنسِ الشَّهوةِ ، و للمعنَى الذي يوجِبُ الالتذاذَ بالمُدرَكِ ، و سَمَّوها مع ذلكَ ، مَتىٰ تَعلَّقَت بما لا يَكونُ ، بأنّها شَهوةٌ ، فقَد خالَفوا في عبارةٍ ، و حينَئذٍ لا يَتِمُّ لَهم ما حاوَلوه مِن الفِرارِ عن القولِ بأنّه تَعالىٰ يُريدُ ما لا يَكونُ ؛ لأنّا لا نأبىٰ على هذا التفسيرِ أن يَكونَ تَعالىٰ مُشتَهياً.
فأمّا التَّمَنّي: فإن كانَ قولاً - علىٰ ما يَذهَبُ إليه أبو عَليٍّ (2) - فمُفارَقتُه للإرادةِ لا تَشكُلُ .
و إن كانَ معنىً في القَلبِ يُطابِقُ القولَ - علىٰ ما يَذهَبُ إليه أبو هاشمٍ (3) - فهو يُفارِقُ أيضاً الإرادةَ .
لأنّ التَّمَنّيَ يَتعلَّقُ بالماضي و بأن لا(4) يَكونَ علىٰ حَدِّ ما كانَ ، و الإرادةَ لا يَجوزُ ذلكَ فيها.
و لأنّ التَّمَنّيَ حالُه في سائرِ ما يَتعلَّقُ به علىٰ سَواءٍ ، في أنّه لا يؤَثِّرُ في شَيءٍ مِنه، و لا يَقتَضي وقوعَه علىٰ وَجهٍ ، و الإرادةَ بخِلافِ ذلك.
و للإرادةِ ضِدٌّ، و لا ضِدَّ للتَّمَنّي.
ص: 159
و لأنّه يَصِحُّ أن تُرادَ(1) الإرادةُ ، و لا يَصِحُّ أن يُتَمنَّى التَّمَنّي.
و ما ذَكَرناه مِن قَبلُ في مُفارَقةِ الشَّهوةِ للإرادةِ - مِن أنّ أحَدَنا لا يَجِدُ الفَرقَ بَينَ ما يُريدُه فيما المعلومُ أنّه يَكونُ ، و بَينَ ما المعلومُ أنّه لا يَكونُ - واضحٌ أيضاً في التَّمَنّي؛ لأنّ الفَصلَ علىٰ قولِهم بَينَ الحالَينِ واجبٌ ، و ما نَجِدُه.
و كانَ علىٰ هذا يَجِبُ أن يَستَحيلَ وصولُ مُتَمَنٍّ إلىٰ ما تَمَنّاهُ ؛ لأنّه لا يَكونُ علىٰ قولِهم مُتَمَنّياً إلّالِما لا يوجَدُ.
و يَجِبُ أن يكونَ الرَّسولُ - عليه السّلام - و سائِرُ المُؤمِنينَ لَم يُريدوا قَطُّ الإيمانَ مِن أبي لَهَبٍ و مَن جَرىٰ مَجراه مِن الكُفّارِ.
هذا إن خالَفوا في المعنىٰ ، و إن رَجَعَ الخِلافُ إلَى العِبارةِ ، صِرنا معهم إلىٰ ما تَقدَّمَ .
فأمّا ما يَفسُدُ به قولُ مَنِ ادّعىٰ أنّ الإرادةَ كَراهةٌ [لِضدِّه] فوجوهٌ :
مِنها: أنّ أحَدَنا يَفصِلُ بَينَ كَونِه مُريداً و كارِهاً، كما يَفصِلُ بَينَ كَونِه مُريداً و مُعتَقِداً، فلَو كانَت إرادةُ الشيءِ كَراهةً لضِدِّه، لَوجبَ أن يَجِدَ مِن نَفسِه الكَراهةَ للضِّدِّ مَتىٰ أرادَ ضِدَّه علىٰ كُلِّ حالٍ ، و ما يَجِدُ ذلكَ . و لهذا صَحَّ أن يُريدَ الضِّدَّينِ علَى البَدَلِ ؛ إمّا مِن نَفسِه أو غَيرِه؛ كنَحوِ إرادتِه مِن نَفسِه الصلاةَ في الجهتَينِ مِن المَسجِدِ و مِن غَيرِه، و إرادتِه و هو جالِسٌ في دارِه أن يَخرُجَ مِن البابَينِ علَى البَدَلِ .
و مِنها: أنّه كانَ يَجِبُ في القَديمِ تَعالىٰ أن يَكونَ غَيرَ مُريدٍ للنوافِلِ ؛ لأنّ إرادتَه
ص: 160
[لها] تَقتَضي(1) كراهةَ تُروكِها، و التُّروكُ حَسَنةٌ ، و كَراهةُ الحَسَنِ قَبيحةٌ .
و مِنها: أنّ أحَدَنا يُميِّزُ بَينَ كَونِه مريداً مِن غَيرِه القيامَ بالواجبِ ، و كَونِه مُريداً منه النوافِلَ ، و علىٰ هذا القولِ لا فَصلَ بَينَ الأمرَينِ .
و مِنها: أنّ هذا القولَ يؤَدّي [إلىٰ ] أن يَكونَ الضِّدّانِ مُرادَينِ في الحالِ الواحِدةِ ، بَل إلىٰ أنّ الإرادةَ الواحدةَ تَتَناوَلُ الضِّدَّينِ ، و هذا مُستَحيلٌ عندَهم؛ و غَيرُ جائزٍ علىٰ ما نَقولُه أيضاً مِن(2) أنّ إرادتَيِ الضِّدَّينِ لا تَتَضادّانِ (3)؛ لأنّه(4) لا يَصِحُّ لأمرٍ يَرجِعُ إلَى الدواعي. (198)
و(5) مِنها(6): أنّه يؤَدّي إلىٰ كَونِه مُريداً للشيءِ الواحدِ كارهاً له في الوقتِ الواحدِ علَى الوَجهِ الواحدِ؛ لأنّه إذا أرادَ شيئاً له (187) ضِدّانِ ، كالقُعودِ في الدارِ الذي له ضِدّانِ ؛ مِن الانتصابِ فيها و الخُروجِ منها، فإرادةُ القُعودِ كَراهةٌ للخُروجِ و الانتصابِ ، و كَراهةُ الخُروجِ إرادةٌ للانتصابِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ الانتصابُ مُراداً مكروهاً!
و إنّما قُلنا: إنّه يؤَدّي إلىٰ ذلكَ ؛ لأنّ كَراهةَ القُعودِ يَجِبُ أن تَكونَ إرادةَ الحركةِ يَمْنةً و يَسْرةً مع تَضادِّها. و كذلكَ مَتىٰ أرادَ الشيءَ الذي له ضِدّانِ ، يَجِبُ أن يَكرَهَ أحَدَهما، و كَراهَتُه له توجِبُ كَونَه مُريداً للضِّدِّ الآخَرِ، فيَجِبُ تَعذُّرُ الموجِبِ لا لِمُصَحِّحٍ .
ص: 161
و لنا في القَطعِ على أحَدِ الوَجهَينِ نظرٌ(1)؛ لَعلَّنا أن نَتَقَصّاه فيما بَعدُ بِمَشيّةِ اللّٰهِ .
و منها(2): أنّ هذا القولَ يؤَدّي إلىٰ تَعلُّقِ المعنَى الواحدِ علىٰ سبيلِ التفصيلِ بأمرَينِ ، و ذلكَ لا يَجوزُ.
و منها: أنّ الإرادةَ لَو تَعلَّقَت بأمرَينِ ، لَوجبَ أن تَتعلَّقَ (3) بهما علىٰ جهةٍ واحدةٍ ، حتّىٰ تَكونَ إرادةً لهما؛ لأنّ شِياعَ التعلُّقِ فيما يَتَعلَّقُ بغَيرِه، يَقتَضي أن يَشيعَ علىٰ حَدٍّ واحدٍ، فيَجِبُ إمّا أن تكونَ إرادةً لهما أو كراهةً لهما.
و منها: أنّه لَو جازَ أن تكونَ (4) إرادةُ الشيءِ كَراهةً لضِدِّه، لَجازَ أن يَكونَ العِلمُ بالشيءِ جهلاً بضِدّه(5)، و القُدرةُ علَى الشيءِ عَجزاً عن ضِدِّه؛ فما يَمتَنِعُ (6) مِن أحَدِ الأمرَينِ يَمتَنِعُ مِن الآخَرِ.
و منها: أنّ الإرادةَ للشيءِ لَو كانَت كَراهةً لضِدّه، لَتعلَّقَت بالأضدادِ؛ اعتَقَدَها المُريدُ أم لَم يَعتَقِدْها، و قد عَلِمتَ أنّ ذلكَ مُحالٌ .
فأمّا قَولُ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ إرادةَ الشيءِ كَراهةٌ لِأن لا يَكونَ : فأكثَرُ ما تَقدَّمَ
ص: 162
يُفسِدُه، و المُعتَمَدُ في ذلكَ علىٰ أنّا نَجِدُ نُفوسَنا مُريدينَ لِحُدوثِ الشيءِ مِن غَيرِ أن نَجِدَها كارهةً له علىٰ وجهٍ آخَرَ، فكانَ يَجِبُ علىٰ هذا أن لا يَجِدَ أحَدُنا الفَصلَ بَينَ كَونِه مُريداً و كارِهاً؛ لأنّه متىٰ كانَ علىٰ أحَدِ الأمرَينِ فهو علَى الآخَرِ، فكانَ يَجِبُ أن نَكونَ كارِهينَ ، لأن لا تَكونَ (1) النوافِلُ ، و أن لا نُميِّزَ بَينَ كَونِنا مُريدينَ مِن غَيرِنا الواجِبَ و النَّفْلَ ، و يؤَدّي إلىٰ أن نَكرَهَ (2) مِن الوجوهِ ما لا نَعلَمُه وَ لا نَعتَقِدُه، و
كانَ يَجِبُ فيما له ثلاثةُ وجوهٍ مُتَضادّةٍ مِن الأفعالِ ، متىٰ أرادَ كَونَه علَى الأوّلِ أن يَكرَهَ كَونَه علَى الثاني و الثالثِ ، و كَراهتُه لِأن يَكونَ علَى الثالثِ ، إرادةٌ لأِن يَكونَ علَى الثاني و الأوّلِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ الوَجهُ الثاني مُراداً مكروهاً.
علىٰ أنّ ما يُبطِلُ أن تَتعلَّقَ الإرادةُ أو الكراهةُ بأن لا يَكونَ الشيء، يُبطِلُ هذا القولَ .
***
اعلَمْ أنّ الإرادةَ قد تَتقدَّمُ المُرادَ و تُقارِنُه، و لا بُدَّ في الإرادةِ المؤَثّرةِ مِن أن تُقارِنَ المُرادَ لِتؤَثِّرَ فيه.
و لا إشكالَ في تَقدُّمِ الإرادةِ ؛ لأنّ أحَدَنا يَجِدُ نَفسَه مُريداً للفِعلِ و عازِماً عليه قَبلَ أن يَفعَلَه، و يُريدُ المُسَبَّبَ في حالِ السببِ .
ص: 163
و إنّما قُلنا: إنّها لا بُدَّ مِن أن تُقارِنَ المُرادَ لتؤَثِّرَ فيه، و أنّ تَقدُّمَها لا يَكفي في ذلكَ .
مِن حَيثُ يَقَعُ الفِعلُ علىٰ وَجهٍ قد كانَ يَجوزُ أن يَقَعَ علىٰ خِلافِه، فيَجِبُ أن يَكونَ ما له وَقَعَ علىٰ أحَدِ الوَجهَينِ مُصاحِباً؛ ليَختَصَّ مِن أجلِه بأحَدِهما. و لَو كانَ ما تَقدَّم مِن الإرادةِ هو المؤَثِّرَ في وقوعِه علىٰ أحَدِ الوَجهَينِ ، لَكانَ الفِعلُ في حالِ وقوعِه يَقَعُ علىٰ وَجهٍ لا يَجوزُ أن يَقَعَ علىٰ غَيرِه بَدَلاً منه، و المعلومُ خِلافُ ذلكَ .
و اعلَمْ أنّ ما تؤَثِّرُ فيه الإرادةُ ، قد يَكونُ فِعلاً، و قد يكونُ جُملةً مِن الأفعالِ .
و ما هو فِعلٌ واحدٌ يَنقَسِمُ إلىٰ : مُبتَدَإٍ، وَ مُتولِّدٍ.
فالمُبتَدأُ يَجِبُ مُقارَنةُ الإرادةِ له.
وَ المُتولِّدُ علىٰ ضَربَينِ : مُصاحِبٍ لسببِه، و مُتَراخٍ عنه.
فالمُصاحِبُ لسبِبه مِن المُتولِّدِ يَجِبُ أيضاً أن تُقارِنَه(1) الإرادةُ لتؤَثِّرَ فيه.
و المُتَراخي: يَجوزُ أن تُقارِنَ الإرادةُ لسببِه؛ لأنّه - عندَ وجودِ المُسَبَّبِ - في حُكمِ الموجودِ؛ مِن حَيثُ خَرَجَ عن مقدورِ فاعلِه.
فأمّا ما هو جُملةٌ مِن الأفعالِ يوجَدُ شيئاً فشيئاً، كالكلامِ الذي يَقَعُ خبراً و أمراً، فيَجِبُ أن تَكونَ (2) الإرادةُ المؤَثِّرةُ فيه مُقارِنةً لأوّلِ جُزءٍ منه؛ لأنّه لَيسَ يُمكِنُ أن تُقارِنَ جميعَه، و لا يَجوزُ أن تؤَثِّرَ(3) فيه و هي مُتَقدِّمةٌ له أو مُتأخِّرةٌ عنه؛ لما تَقدَّمَ .
فلَم يَبقَ في تأثيرِها في جميعِ الخبرِ إلّاأنّ تُقارِنَ أوّلَه، فتُؤثِّرَ(4) في جَميعِه؛ لأنّ
ص: 164
الحُكمَ يَرجِعُ إلىٰ جميعِ الخبرِ. و يَجري في هذا الكتابِ (1) مَجرَى اختصاصِ العِلمِ
بالحُلولِ في بَعضِ العالِمِ ، و إن كانَ تأثيرُه يَرجِعُ إلى الجُملةِ ؛ لمّا لَم يُمكِن أن يَحُلَّ الجُملةَ .
***
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّها لَو أَوجَبَتِ الفِعلَ ، لَم يَخلُ مِن أن توجِبَه(2) إيجابَ العِلّةِ للمعلولِ ، أو إيجابَ السببِ للمُسَبَّبِ .
و لا يَجوزُ أن تكونَ موجِبةً إيجابَ العِلَلِ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن تَختَصَّ (3)بمَحَلِّ الفِعلِ ضَرباً مِن الاختصاصِ ؛ لأنّ العِلَلَ علَى اختلافِها لا توجِبُ المعلولَ إلّا بَعدَ أن يَكونَ بَينَها و بَينَه اختصاصٌ في كيفيّةِ الوجودِ، و لهذا أَوجَبَت(4) العلومُ الحالّةُ في زَيدٍ كَونَه عالِماً، و لَم توجِبْ لِغَيرِه. و نَحنُ نَعلَمُ أنّ الإرادةَ تَختَصُّ (5) القَلبَ (6)، و الحركةَ توجَبُ في أطرافِ البَدَنِ ، فلا اختصاصَ بينَها وَ
ص: 165
بَينَ الحركةِ علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ .
و أيضاً: فلَو كانت عِلّةً لَما تَقدَّمَت معلولَها، و قد عَلِمنا تَقدُّمَ الإرادةِ للمُرادِ(1).
و أيضاً: فإنّ الإرادةَ تَتقدَّمُ المُرادَ، و تُعدَمُ في حالِ وجودِه؛ لأنّها لا تَبقىٰ ، و العِلّةُ لا توجِبُ المعلولَ و هي معدومةٌ ؛ لأنّ عدمَها يُخرِجُها عن الصفةِ التي توجِبُ [معها].
و لَيسَ يَجوزُ أن توجِبَ الإرادةُ الفِعلَ إيجابَ السببِ ؛ لأنّ : القُدرةَ علَى السببِ هي قُدرةٌ علَى المُسبَّبِ ، [وَ] لولا (199) ذلكَ لَصَحَّ أن يُفعَلَ السببُ و لا يوجَدَ المُسَبَّبُ ، مِن غَيرِ مَنعٍ (2) بأن لا يُعمِلَ الفاعلُ قُدرتَه فيه. و لَو فُعِلَ المُسبَّبُ بقُدرةٍ ثانيةٍ لَخرجَ مِن أن يَكونَ مُتولِّداً إلىٰ أن يَكونَ مُبتَدأً.
و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه مِن أنّ [القدرةَ علَى](3) السببِ قُدرةٌ علَى المُسبَّبِ ، فلَو كانتِ الإرادةُ موجِبةً ، لَأَوجَبَتِ الحركةَ في الجارحةِ (4) التي لا قُدرةَ فيها، و كانَ يَجِبُ مَتىٰ أرادَ العاجِزُ - الذي لا قُدرةَ في يَدِه - أن يُحرِّكَ يَدَه أن يَتَأتّىٰ ذلكَ ؛ لوجودِ السببِ و احتمالِ المَحَلِّ . و قد بيّنّا أنّ قُدرتَه علَى السببِ [قُدرةٌ علَى المُسبَّبِ ]. فلا(5) يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّما لَم تُوجَدِ الحركةُ لأنّه غَيرُ قادرٍ عليها.
ص: 166
و أيضاً: فلَو كانَت موجِبةً إيجابَ السببِ ، لأََوجَبَتِ المُرادَ في الثاني علىٰ كُلِّ
حالٍ ، و قد عَلِمنا أنّ المُرادَ قَد يَتأخَّرُ أوقاتاً كثيرةً .
و كانَ يَجِبُ أيضاً أن توجِبَ (1) فِعلَ الغَيرِ و إن كانَ عاجزاً، و الفِعلَ المُحكَم و إن لَم يَكُنِ الفاعلُ عالِماً به.
و ممّا استُدِلَّ به علىٰ ذلكَ : أنّا قد عَلِمنا أنّ الإرادةَ تَتعلَّقُ بفِعلِ غَيرِ المُريدِ، كما تَتعلَّقُ (2) بفِعلِه، و خِلافُ مَن خالَفَ في ذلكَ ظاهرُ الفَسادِ؛ لأنّا نَعلَم مِن أنفُسِنا ضَرورةً أنّ حالَنا فيما نُريدُه مِن نُفوسِنا لا يُخالِفُ حالَنا فيما نُريدُه مِن غَيرِنا، كما أنّ حالَ ما نَعلَمُه مِن مقدُورِنا [لا يُخالِفُ حالَ ما نَعلَمُه مِن مقدورِ] غَيرِنا. فإن جازَ أن يُقالَ فيما نُريدُه مِن الغَيرِ: إنّه تَمَنٍّ أو شهوةٌ ، جازَ ذلكَ فيما نُريدُه مِن أنفُسِنا؛ لارتفاعِ الفَرقِ . و إذا ثَبَتَ ذلكَ ، فلَو كانَتِ الإرادةُ موجِبةً ، لَأَوجَبَت فِعلَ الغَيرِ؛ لِتَعلُّقِها بالأمرَينِ علىٰ حَدٍّ واحدٍ.
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّها إنّما لَم تُوجِبْ فِعلَ الغَيرِ مِن حَيثُ لَم يَكُن مقدوراً للمُريدِ، و أنّ ذلكَ يَجري مَجرَى المَنعِ مِن التَّوليدِ(3).
لأنّا قد بيّنّا أنّ المُسَبَّبَ يَجِبُ أن يَكونَ مقدوراً للقادرِ علَى السببِ ؛ فما مَنَعَ مِن القُدرةِ علَى المُسبّبِ ، يَجِبُ أن يكونَ مانعاً مِن القُدرةِ علَى السببِ .
على أنّ ما لا يَجوزُ ارتفاعُه علىٰ وَجهٍ ، لا يَجوزُ أن يَكونَ منعاً، و مقدورُ زَيدٍ لا يَجوزُ أن يكونَ مقدورَ الغَيرِ؛ فكيفَ يُجعَلُ مَنعاً مِن تَوليد الإرادةِ (4)؟
ص: 167
و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الإرادةَ لا توجِبُ الأفعالَ إيجابَ الأسبابِ : أنّ مِن شَرطِ كُلِّ سببٍ تَولَّدَ في غَيرِ مَحَلِّه أن يَكونَ بَينَه و بَينَ ما تَولَّدَ فيه مُماسّةٌ له، أو مُماسّةٌ لما ماسَّه. و لهذا لَم يَصِحَّ مِن أحَدِنا أن يُوَلِّدَ باعتمادِ يَدهِ في غَيرِه الحركاتِ و الاعتماداتِ و الأصواتِ و ما جَرىٰ مَجراها، إلّامع الشرطِ الذي ذَكَرناه. و الأسبابُ مع اختلافِها مُتَّفِقةٌ في أنّها لا تُوَلِّدُ إلّا [مع] هذا الشرطَ، كما أنّ القُدَرَ مع اختلافِها مُتَّفِقةُ المَقدورِ في الجنس. و هذا الشرطُ لا يَصِحُّ حُصولُه بَينَ الإرادةِ و المُرادِ؛ لأنّها تَحُلُّ القَلبَ ، فكيفَ توجِبُ أفعالَ الجَوارحِ؟
و لَيسَ لأحَدٍ أن يقولَ : إنّها توجِبُ الأفعالَ التي تَظهَرُ في الجَوارحِ المُماسّةِ التي بَينَها و بَينَ هذه الجَوارِحِ .
و ذلكَ أنّ كُلَّ شيءٍ حَرَّكناه بالمُماسّةِ ، فلا بُدَّ مِن أن يُحَرِّكَ الجسمَ الذي يُماسُّه
به، و قد عَلِمنا أنّا نَبتَدئُ الحركةَ في الأطرافِ مِن غَيرِ تحريكِ ما يَتَّصِلُ بها.
و إنّما اشتَبَهَ علىٰ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّها مُوجِبةٌ ؛ مِن حَيثُ إرادةِ القادرِ المُتمكِّنِ مَتىٰ أرادَ الفِعلَ وُجِدَ لا مَحالةَ ، فتَوَهَّمَ أنّها مُوجِبةٌ .
و ليس ذلكَ بأن يَقتَضيَ أنّ الإرادةَ موجِبةٌ للمُرادِ، بأَولىٰ مِن أن يَقتضيَ أنّ المُرادَ يوجِبُها؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ مِنهما لا يوجَدُ إلّامع صاحبِه. و قد توجَدُ الإرادةُ و يُمنَعُ (1) المُرادُ، و كذلكَ قد يوجَدُ المُرادُ و يُمنَعُ مِن الإرادةِ ، فلا فَصلَ بَينَهما في الوَجهِ الذي اشتَبَهَ . بل لَو قيلَ : إنّ المُرادَ يوجِبُ الإرادةَ (200) كانَ أقربَ ؛ مِن حَيثُ كانَت الإرادةُ تابعةً له فيما له يُفعَلُ أو يُترَكُ .
ص: 168
و بَعدُ، فلَو قيل: إنّ الإرادةَ و المُرادَ جَميعاً مُوجَبانِ عن الدواعي، لَكانَ أقرَبَ ؛ لأنّهما معاً يَتبَعانِ الداعيَ ، و بحَسَبهِ يوجَدانِ ، و كُلُّ هذا واضحٌ .
و أمّا ما تَعلَّقَ به البَلخيُّ - في أنّ الإرادةَ موجِبةٌ مِن أنّ المُريدَ لِلحركةِ إلىٰ أقرَبِ الأماكنِ ، لا يَخلو مِن أمرَينِ : إمّا أن يَجوزَ عليه الانصرافُ إلىٰ ضِدِّها، أو لا يَجوزَ ذلكَ .
فإن جازَ عليه، لَم يَخلُّ الضِّدُّ الذي فَعَلَه مِن أن يَكونَ وَقَعَ بإرادةٍ ، أو بغَيرِ إرادةٍ .
فإن كانَ بإرادةٍ ، فيَجِبُ أن تَتقدَّمَ (1) الفِعلَ ، و هذا يَقتَضي كَونَه مُريداً للضِّدَّينِ .
و لا يَجوزُ أن يَقَعَ بغَيرِ إرادةٍ و علىٰ سَبيلِ السهوِ؛ لأنّ السهوَ لا بُدَّ مِن أن يَتقدَّمَه سببٌ ، و مُضادّةُ سببِ السهوِ لإرادةِ الحركةِ ، و استحالةُ اجتماعِه معها، كاستحالةِ اجتماعِ إرادةِ ضِدِّ الحركةِ مع إرادةِ الحركةِ .
فلَم يَبقَ إلّاأنّ الحركةَ يَجِبُ وجودُها في الثاني، و هذا معنَى الإيجابِ -.
فواضحُ البُطلانِ ؛ لأنّه بَنَى الكلامَ علىٰ أنّ وجودَ الإرادةِ مع المُرادِ لا يَصِحُّ ، و هذا هو الصحيحُ ، و قد دَلَّلنا فيما تَقدَّمَ عليه(2). و لَيسَ يَمتَنِعُ علىٰ هذا أن يُريدَ الحركةَ ، ثُمّ يَبدُوَ له فيَفعَلَ في الثاني السُّكونَ بإرادةٍ مُصاحِبةٍ له.
و ما ذَكَره في السهوِ أيضاً غَيرُ صحيحٍ ؛ لأنّه لَيسَ يجِبُ أن يَكونَ للسهوِ أسبابٌ متقدِّمةٌ ، و غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَسهُوَ في الثاني فيَفعَلَ ضِدَّ ما أرادَه في الأوّلِ .
***
ص: 169
الّذي يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّ أحَدَنا قد يَخرُجُ مِن كَونِه مُريداً للشيءِ ، مِن غَيرِ أن يَكونَ كارِهاً له. فلَو كانَت الإرادةُ تَبقىٰ ، لَم يَجُز أن تَفنىٰ (1) إلّابضِدٍّ أو ما جَرىٰ مَجراه، كسائرِ الأجناسِ الباقياتِ . و الأمرُ في أنّ أحَدَنا يَخرُجُ مِن كَونِه مُريداً(2) لا إلىٰ ضِدٍّ ظاهرٌ، فلا حاجةَ بنا إلَى الدَّلالةِ عليه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فلَعلَّه إنّما يَخرُجُ بخُروجِ المُرادِ مِن صحّةِ تَعلُّقِ الإرادةِ به.
و ذلكَ أنّه قد يَخرُجُ عن كَونِه مُريداً مع جَوازِ كَونِ ذلكَ الشيءِ مُراداً.
و لَيسَ له أن يَقولَ : فيَجِبُ إن كانَت لا تَبقىٰ ، أن لا يَدومَ كَونُ أحَدِنا مُريداً للشيءِ الواحدِ، و يَستَمِرَّ أوقاتاً مُتَّصِلةً .
و ذلكَ : أنّ استمرارَ كَونهِ مُريداً، لا يَمتَنِعُ و إن كانتِ الإرادةُ لا تَبقى؛ بأن يَفعَلَ إراداتٍ مُتماثِلةً فيَستَمِرَّ حالُه في كَونِه مُريداً؛ لأنّ الإرادةَ إذا كانَت تابعةً للدواعي، جازَ أن تُجَدَّدَ حالاً بعد حالٍ ما دامَ الدواعي ثابتةً (3).
ص: 170
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّها لا تَبقىٰ : أنّ في بَقائها صحّةَ كَونِ أحَدِنا مُريداً لِما يَعلَمُه ماضياً. و إنّما قُلنا ذلكَ ؛ لأنّها إذا تَعلَّقَت بفِعلٍ ثُمّ مَضىٰ ، فمُضيُّه لا يوجِبُ عدمَها؛ لأنّه لَيسَ بضِدٍّ و لا جارٍ مَجراه، فيَجِبُ أن تَكونَ (1) باقيةً (2) و مُتعلِّقةً بالماضي، و قد عَلِمنا فَسادَ ذلكَ .
***
[9] فَصلٌ في بيانِ مَعاني الأسماءِ المُختَلِفةِ التي تَجري علَى الإرادةِ و الكَراهةِ ، و تمييزِ(3) فَوائدِها
اعلَمْ أنّ الإرادةَ هي المحبّة؛ بدَلالةِ أنّ كُلَّ مَن أرادَ شيئاً فقد أحبَّه، و مَن أحبَّه فقَد أرادَه، و لَو اختَلَفَتا لَم يَجِبْ ما ذَكَرناه.
و أيضاً: فإنّ بالكَراهةِ الواحدةِ يَخرُجُ الإنسانُ مِن كَونِه مُحِبّاً و مُريداً للأمرِ الذي تَعلَّقَت الكَراهةُ به، و هذا أيضاً يَدُلُّ علىٰ أنّ معناهما واحدٌ.
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّما وجبَ ما ذَكَرتُم، مِن حَيثُ كانَ كُلُّ واحدٍ مِن الإرادةِ
ص: 171
و المَحبّةِ مُحتاجاً إلىٰ صاحِبِه.
لأنّ ذلك يؤَدّي إلَى ارتفاعِ (201) الطريقِ الموصِلِ إلىٰ أنّهما غَيرانِ ، و إلىٰ أن يَجوزَ وجودُ مَعانٍ زائدةٍ علىٰ ما عَقَلناه، و ذلك بابُ التجاهُلِ .
و لا يُمكِنُ أن يُجعَلَ أحَدُهما هو المُحتاجَ إلَى الآخَرِ؛ لأنّه يوجِبُ صحّةَ وجودِ المُحتاجِ إليه و إن لَم يوجَدِ المُحتاجُ ، كما نَقولُه في العِلمِ و الحَياةِ .
و أمّا التعَلُّقُ بقولِهم: «فلانٌ يُحِبُّ فُلاناً» و إن استحالَ أن يُقالَ : إنّه يُريدُه، و كذلكَ يُحِبُّ وَلَدَه و جارِيَتَه، و يُحِبُّ الدَّراهِمَ و اللَّحمَ ، و إن لَم تُستَعمَلِ الإرادةُ في كُلِّ ذلك، فواضِحُ البُطلانِ ؛ لأنّ إطلاقَ العباراتِ لا يؤَثِّرُ فيما تَدُلُّ (1) عليه الأدلّةُ ، و لا يُعتَرَضُ بها على الأدلّةِ بَل يَجِبُ العُدولُ عن ظاهرِها، و صَرفِها إلى ما يُطابِقُ الأدلّةَ .
و كما أنّ الإرادةَ لا تَتعلَّقُ بالذَّواتِ الباقياتِ ، فكذلكَ المَحبّةُ . و معنىٰ قَولِهم:
«أُحِبُّ زَيداً» أنّني أريدُ مَنافِعَه، و لا أُريدُ شيئاً مِن مَضارِّه، و حَذَفوا ذِكرَ المحبوبِ علَى الحقيقةِ ؛ اختِصاراً و تعويلاً علَى المعرفةِ به، فكأنّهم استَطالوا أن يَقولوا: «أُرِيدُ مَنافِعَه و لا أُريدُ مَضارَّه»، فأقاموا مَقامَ ذلكَ قَولَهم: «أُحِبُّه»، و هذه(2) عادتُهم في كثيرٍ مِن ألفاظِهِم المُختَصَرةِ .
ثُمّ تَعارَفوا الحَذفَ و استَحسَنوه مع لفظِ المَحبّةِ ، و لَم يَستَحسِنوه مع لفظِ الإرادةِ ، حَتّىٰ يَقولوا: «أُريدُ زيداً»؛ لأنّه لَيسَ يَمتَنِعُ أن يَخُصّوا بعضَ الألفاظِ بكيفيّةٍ في الاستعمالِ ، و لَم يَفعَلوا ذلكَ في كُلِّ ما جَرىٰ مَجراه و كانَ في معناه؛ ألا تَرى
ص: 172
أنّهم يُعَبِّرونَ بقَولِهم: «غائط» عن قَضاءِ الحاجةِ ، و لا يستَعمِلونَ ذلكَ في كُلِّ لفظٍ معناهُ معنىٰ قَولِهم: غائط؟
و الذي يُبَيِّنُ صحّة ما ذَكَرناه: أنّه لَو كانَ معنىٰ قولِهم: «أُحِبُّ زيداً» غيرَ ما ذَكَرناه، لَم يجِبْ فيمن أحَبَّه أن يَكونَ مُريداً لمَنافِعِه. و لأنّهم لَو أظهَروا المحذوفَ فقالوا:
«فُلانٌ يُحِبُّ مَنافِعَ فُلانٍ » لَكانَ أكشَفَ و أبلَغَ في مُرادِهم، فدَلَّ ذلكَ علىٰ أنّ المعنىٰ ما ذَكَرناه.
و أمّا قولُهم: «فُلانٌ يُحِبُّ وَلَدَه» فَجارٍ(1) على ما ذَكَرناه، و يَجوزُ أيضاً أن يُرادَ به أنّه يُريدُ النظَرَ إليهم، و تقريبَهم مِنه؛ لمكانِ سُرورِه بذلكَ .
و قولُهم: «فُلانٌ يُحِبُّ جارِيَتَه» معناه: يُريدُ الاستمتاعَ بها. و قال قومٌ : يَشتَهي الاستمتاعَ بها، و أنّه عَبَّرَ عن الشَّهوةِ بالمَحبّةِ مَجازاً(2).
و القولُ في اللَّحمِ يَجري في الوَجهَينِ مَجرىٰ ما ذَكَرناه في الجاريةِ .
و قولُهم: «يُحِبُّ الدَّراهِمَ » معناه: يُريدُ الانتفاعَ بها، أو جمعَها و ادِّخارَها.
و أمّا قولُهم: «فلانٌ يُحِبُّ اللّٰهَ تَعالىٰ » فمعناه: أنّه يُريدُ عِبادتَه و شُكرَه و تعظيمَ أوليائه.
و إذا صَحَّ في معنى «المَحبّةِ » ما ذَكَرناه، صَحَّ إجراؤها علَى القَديمِ تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ كانَ مُريداً.
فأمّا المَشيّةُ فهي الإرادةُ ؛ لأنّ كُلَّ مَن أرادَ شيئاً فقَد شاءَه، و كُلُّ مَن شاءَه فقَد أرادَه، و لا شُبهةَ في ذلك.
ص: 173
و الرِّضا هو الإرادةُ ، و لا يُسَمّىٰ بذلكَ إلّاإذا وُجِدَ المُرادُ. علىٰ (1) الحَدِّ الذي أُريدَ(2).
و عند أبي هاشمٍ أنّ الرِّضا بالفِعلِ يُخالِفُ الرِّضا عن الفاعلِ (3)؛ لأنّه إذا أُضيفَ إلَى الفِعلِ أفادَ ما ذَكَرناه. فإذا أُضيفَ إلَى الفاعلِ ، كقَولِنا: إنّه تَعالى راضٍ عن(4)المؤمِنِ ، أفادَ أنّه يَستَحِقُّ التعظيمَ و التبجيل و الثوابَ ؛ قال: «لهذا يُقالُ : إنّه تَعالىٰ راضٍ عمّن يَسخَطُ بَعضَ أفعالِه، كالصغائِر مِن الأنبياءِ عليهم السلام و المؤمِنينَ ، و لا يُقالُ : رَضيَ بفِعلِ زيدٍ، و في أفعالِه قَبائحُ ؛ لأنّه يوهِمُ الرِّضا بالجَميعِ ، لكِن يُقالُ :
يَرضىٰ عنه(5) بهذا الفِعلِ المُعَيَّنِ ، و إن كانَت له أفعالٌ أُخَرُ لا يَرضاها».
و أبو عَليٍّ يُخالِفُ في هذا و يَجعَلُ الرِّضا بالفِعلِ و الفاعِلِ واحداً غَيرَ مُختَلِفٍ (6)، و يَمنَعُ مِن كَونِه راضياً (202) ببعضِ أفعالِه و ساخِطاً بعضاً آخَرَ، و يَجعَلُ الرِّضا كمالَ وقوعِ المُرادِ، و يَعتَلُّ لقَولِه بأنّ خِلافَه لَو جازَ، لَم يَمتَنِعْ أن يُقالَ في أحَدِنا:
«إنّه يَرضىٰ ببَعضِ قَضاءِ اللّٰهِ دونَ بعضٍ ».
و هذا لَيسَ بشيءٍ ؛ لأنّ طريقةَ الرِّضا بقَضاءِ اللّٰهِ تَعالىٰ كلمةٌ واحدةٌ ، و هي تَشمُلُ (7) جميعَ أفعالِه، فمَن لَم يَرضَ بالجَميعِ لَم يَكُن علَى الحقيقةِ راضياً بالبعضِ ، و لا مُستَدِلاًّ علىٰ أنّه حِكمةٌ و صَوابٌ ؛ لأنّ الطريقَ يَشمُلُ الكُلَّ ، فما ذَكَره أبو هاشمٍ في هذا أَولىٰ .
ص: 174
و الدليلُ علىٰ أنّ الرِّضا هو الإرادةُ إذا وَقَعَ مُرادُها: فما تَقدَّمَ في الاستدلالِ علىٰ أنّ الإرادةَ هي المَحبّة.
فأمّا الإرادةُ فهي القَصدُ [لفِعلِ نفسِه(1)، و لا بُدَّ](2) في استحقاقِها هذا الاسمَ أن تَتعلَّقَ بفِعلِ المُريدِ، و تَكونَ (3) مُقارِنةً له أو كالمقارِنةِ ؛ بأن تَتقدَّمَ بزمانٍ قَصيرٍ. و يُسَمَّى اللّٰهُ تَعالىٰ بأنّه قاصِدٌ.
فأمّا العَزمُ : فهو إرادةُ المُريدِ لفِعلِ نَفسِه إذا تَقدَّمَته أو تَقدَّمَت سببَه. و لا يُسَمَّى اللّٰهُ تَعالىٰ بالعَزمِ ؛ مِن حَيثُ دَلَّ الدليلُ علىٰ أنّ إرادتَه تَعالىٰ لا تَتقدَّمُ مُرادَه، علىٰ ما سَنَذكُرُه(4).
و تَوطينُ النفسِ : هو العَزمُ بعَينِه، إلّاأنّه لا يَكادُ يُستَعمَلُ إلّافيما [كان] علَى الإنسانِ في فِعلِه مَشَقّةٌ .
و النيّةُ : اسمُ الإرادةِ إذا تَناوَلَت فِعلَ المُريدِ، و كانَت حالّةً في قَلبِه. و سَواءٌ كانَت مُتقدِّمةً (5) للفِعلِ أو مُقارِنةً له، فقَد شُرِطَ في ذلكَ أن تَكونَ ممّا يَقَعُ بها الفِعلُ علىٰ وَجهٍ دونَ وَجهٍ . و لا تُستَعمَلُ فيه تَعالىٰ كما لا يُستَعمَلُ «الضميرُ»؛ مِن حَيثُ اعتُبِرَ فيه الحُلولُ في القَلبِ .
فأمّا الاختيارُ: فتوصَفُ (6) به الإرادةُ ، إذا كانَت مُتناوِلةً لفِعلِ المُريدِ، و كانَت هي
ص: 175
أيضاً مِن فِعلِه، و قارَنَت المُرادَ أو كانَت كالمُقارِنةِ (1)؛ بأن تُقارِنَ (2) سببَه إن كانَ جُملةً .
و قد يُوصَفُ نفسُ الفِعلِ المُختارِ بأنّه اختيارٌ.
و الإيثارُ: هُو الاختيارُ بعَينِه، فالشرطُ فيهما واحدٌ.
و تُسَمَّى الإرادةُ بعَينِها وَلايةً (3) إذا تَناوَلَت الثوابَ و التعظيمَ و التبجِيلَ ، و لهذا يُقالُ : إنّه تَعالىٰ «وَليُّ المؤمِنينَ ».
و تُسَمَّى الإرادةُ خَلقاً عندَ أبي هاشمٍ ، إذا قارَنَت المُرادَ، أو كانَت في حُكمِ المُقارِنِ له(4).
و العَداوةُ : هي إرادةُ وصولِ المَضارِّ إلَى المُعادي.
و الغَضَبُ يَجري مَجراها فيما ذَكَرناه. و قد قيلَ : إنّه يَرجِعُ إلَى الكَراهةِ ، و يَجري مَجرَى السَّخَطِ.
و البُغضُ : هو إرادةُ وصولِ (5) المَضارِّ إلَى المَبغوضِ . و قد قيلَ : إنّه كَراهةُ وصولِ الخَيرِ إليه.
فأمّا السَّخَطُ: فهو الكَراهةُ ، و عندَ أبي هاشمٍ أنّ تعليقَه بالفِعلِ يُخالِفُ تعليقَه بالفاعلِ ، و أبو عَليٍّ يَجعَلُ الأمرَينِ واحداً(6)، علىٰ ما تَقدَّمَ في الرِّضا.
***
ص: 176
اعلَمْ أنّ الكلامَ في هذا الفَصلِ لا يَتِمُّ إلّابَعدَ الدَّلالةِ علىٰ أُمورٍ:
منها: أنّه تَعالىٰ مُريدٌ علَى الحقيقةِ .
و مِنها: أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ مُريداً لنفسِه.
و مِنها: أنّه لا يَجوزُ أن يُريدَ لا لنفسِه و لا لعِلّةٍ .
و مِنها: أنّه لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ معدومةٍ .
و مِنها: أنّه لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ قَديمةٍ .
[و مِنها: أنّه لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ مُحدَثةٍ تَحُلُّه](1).
و مِنها: أنّه لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ مُحدَثةٍ تَحُلُّ غَيرَه.
و في بَيانِ ذلكَ بالأدلّةِ ثُبوتُ أنّ إرادتَه مُحدَثةٌ موجودةٌ لا في مَحَلٍّ ، و نَحنُ نُبيِّنُ ذلكَ :
أمّا الّذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ مُريدٌ، فوجوهٌ :
مِنها: أنّ مِن حَقِّ العالِمِ بما يَفعَلُه إذا فَعَلَه لغَرَضٍ يَخُصُّه، و كانَ مُخَلّىً بَينَه و بَينَ
ص: 177
الإرادةِ ، أن يَكونَ مُريداً له؛ لأنّ ما يَدعوه إلَى الفِعلِ يَدعوه إلىٰ إرادتِه. و قد (203) ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ فَعَلَ العالَمَ لغَرَضٍ يَخُصُّ العالَمَ ، فالداعي إلىٰ خَلقِه يَدعو إلىٰ إرادةِ خَلقِه، و المَنعُ مِن الإرادةِ مُستَحيلٌ عليه تَعالىٰ .
و قد تَقدَّمَ (1) بيانُ هذه الطريقةِ ، و أنّ إرادةَ الإرادةِ لا تَلزَمُ (2) عليها.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فالإرادةُ إذا كانَت عَزماً، قَد تُفعَلُ (3) لغَرَضٍ يَخُصُّها؛ و هو لتَعجُّلِ السُّرورِ و التحَفُّظِ مِن السهوِ، فيَجِبُ أن تُشارِكَ المُرادَ في القضيّةِ التي ذَكَرتُم(4).
و ذلكَ أنّ الغَرَضَ في تَقديمِها يَتعلَّقُ أيضاً بمُرادِها المعزومِ علىٰ فِعلِه، و السُّرورُ يَرجِعُ إلَى النفعِ الذي يَتصوَّرهُ فيما عَزَمَ عليه. و التحَفُّظُ مِن السهوِ أيضاً لأجلِ الفِعلِ . فلا غَرَضَ في الإرادةِ يَخُصُّها.
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ أحَدُنا غَيرَ مُريدٍ للسببِ ، إذا كانَ غَرَضُه يَخُصُّ المُسبَّبَ مِن وَجهَينِ :
أحَدُهما: أنّ في السببِ غَرَضاً يَخُصُّه، و هو كَونُه وُصلةً إلَى المُسبَّبِ ؛ حتّىٰ لا يَصِحَّ مِن دونِه. و مِثلُ هذا لا يَتأتّىٰ في الإرادةِ .
و الوَجهُ الآخَرُ: أنّ السببَ في الجُملةِ ممّا يَصِحُّ أن يُفعَلَ لغَرَضٍ يَخُصُّه، إذا كانَ مِن فِعلِ الجَوارحِ (5)، و إن جازَ في بعضِ المَواضِعِ أن يَكونَ لا غَرَضَ يَخُصُّه. و الإرادةُ بخِلافِ ذلك؛ لأنّه لا غَرَضَ فيها يَخُصُّها في مَوضعٍ مِن المَواضِعِ .
ص: 178
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُريداً(1)، و هذا آكَدُ مِن حالِ
الممنوعِ مِن الإرادةِ .
و ذلكَ أنّ المُصَحِّحَ لِكَونِ أحَدِنا مُريداً؛ مِن كَونِه حَيّاً، ثابتٌ فيه تَعالىٰ .
و لَيسَ له أن يَجعَلَ الشرطَ في تصحيحِ كَونِ أحَدِنا حَيّاً لكَونِه مُريداً صحّةَ الزيادةِ و النُّقصانِ عليه، كما نَقولُه في كَونِه مُشتَهياً.
و ذلكَ أنّا إنّما شَرَطنا ذلكَ في تصحيحِ كَونِه حَيّاً لكَونِه مُشتَهياً؛ مِن حَيثُ لَم تَتعلَّقِ الشَّهوَةُ إلّابما إذا نالَه المُشتَهي صَلَحَ جسمُه به، و الإرادةُ بخِلافِ هذا؛ لأنّها تَتعلَّقُ بما لَيست(2) هذه حالَه، فلا فَرقَ بَينَ مَن شَرَطَ ذلكَ فيها، و بَينَ مَن شَرَطَ مِثلَه؛ في تصحيحِ كَونِه حَيّاً لكَونِه عالِماً.
و مِنها: أنّه تَعالىٰ مُخبِرٌ و آمِرٌ و مُخاطِبٌ ، و قد بيّنّا أنّ الكلامَ لا يَقَعُ علىٰ هذه الوجوهِ إلّالكَونِ فاعلِه مُريداً، فيَجِبُ أن يَكونَ كذلكَ .
و قد استَقصَينا هذه الطريقةَ ، و ما يُمِكنُ أن يَرِدَ(3) عليها(4).
فإن قيلَ : كيفَ تَستَدِلّونَ (5) بإخبارِه تَعالىٰ علىٰ أنّه مُريدٌ، و إنّما يُعلَمُ ذلكَ (6)الإخبارُ بَعدَ العلمِ بأنّه تَعالىٰ مُريدٌ؟
قُلنا: قد نَعلَمُ أنّه مُخبِرٌ و آمِرٌ قَبلَ أن نَعلَمَ أنّه مُريدٌ؛ لأنّ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ «للخبرِ
ص: 179
صيغةً تَخُصُّه، متَى استُعمِلَت في مَحَلٍّ (1) غَيرِه كانَت مجازاً، و كذلكَ الأمرُ» [يَقولُ ](2): متىٰ خاطَبَ تَعالىٰ بهذه الصيغةِ ، [فلا بدّ أن: يكونَ مُخبِراً و باعِثاً] إلىٰ بعضِ فوائدِها؛ لأنّ البَعثَ و الخِطابَ بما لا فائدَةَ له لا يَجوزُ عليه. فثَبَتَ كَونُه مُريداً علىٰ كُلِّ حالٍ .
علىٰ أنّه قَد يَصِحُّ أن نَعلَمَ بالإجماعِ و قولِ النبيِّ عليه السّلام أنّه مُخبِرٌ و آمِرٌ بهذه الألفاظِ، و إذا تَقدَّمَ العِلمُ بأنّ الخبرَ إنّما يَكونُ خبراً بالإرادةِ و كذلك الأمرُ، عَلِمنا أنّه مريدٌ.
و مِنها: أنّه تَعالىٰ قد خَلَقَ فينا الشَّهَواتِ المُتعلِّقةَ بالقَبائحِ ، و نِفارَ النفسِ عن المُحَسَّناتِ ، و مَكَّنَنا مِن فِعلِ المُشتَهىٰ ، و لَم يُغنِنا بالحَسَنِ عنه. و هذا ممّا يَصِحُّ أن يَكونَ لا غَرَضَ فيه، و يَصِحُّ أن يَكونَ الغَرَضُ فيه الإغراءَ بالقَبيحِ ، و يَصِحُّ أيضاً أن يَكونَ الغَرَضُ فيه التصريحَ (3) للثوابِ ؛ و هو الغَرَضُ دونَ ما تَقدَّمَ . فلَو لَم يَكُن مُريداً لهذا الوَجهِ دونَ غَيرِه، لَم يَتخصَّصْ فِعلُه لِما ذَكَرناه مِن خَلقِ الشَّهَواتِ و
غَيرِها بهذا الغَرَضِ دونَ غَيرِه؛ لأنّ كُلَّ فِعلٍ يَصِحُّ أن يَقَعَ علىٰ وجوهٍ ، فلا بُدَّ متَى اختَصَّ بأحَدِها مِن مُخَصِّصٍ .
و مِنها: أنّه تَعالىٰ لَو لَم يَقصِدْ بما يَفعَلُه بأهلِ النارِ العِقابَ المُستَحَقَّ لَكانَ ظُلماً، و لَم يَكُن عَدلاً، و كذلك (204) ما يَفعَلُه بأهلِ الجَنّةِ مِن الثوابِ لا بُدَّ مِن أن يَقصِدَ به وَجهَ التعظيمِ ، و يَقصِدَ به فِعلَ المُستَحَقِّ عليه؛ لأنّ ذلكَ ممّا لا يَتميَّزُ إلّابالقَصدِ، كما لا يَتميَّزُ قَضاءُ الدَّينِ بالدَّفعِ و الإعطاءِ ، و إنّما يَتميَّزُ بالقَصدِ.
ص: 180
فأمّا الكلامُ في أنّه تَعالىٰ لا يَكونُ مُريداً لنفسِه، فالدَّلالةُ عليه: أنّه لا شُبهةَ في كَونِه تَعالىٰ كارهاً؛ لدَلالةِ ما يَقَعُ مِنه مِن النهيِ و التهديدِ علىٰ ذلكَ ، كدَلالةِ الأمرِ و الخبرِ علىٰ كَونِه مُريداً. فلَو كانَ مُريداً لنفسِه، لَكانَ كارهاً لنفسِه؛ لأنّ المُقتَضيَ للأمرَينِ يَجِبُ أن يَكونَ واحداً. و هذا يَقتَضي كَونَه كارهاً للشيءِ علَى الوَجهِ الذي يُريدُه عليه؛ لوجوبِ شِياعِ الصفتَينِ في كُلِّ ما صَحَّتا فيه؛ مِن حَيثُ استَنَدَتا(1) إلَى النفسِ .
و لكَ أن تَقولَ : إذا كانَ مُريداً لنفسِه، و وجبَ أن يُريدَ كُلَّ ما يَصِحُّ كَونُه مُراداً، استَحالَ كَونُه كارهاً علىٰ كُلِّ حالٍ ، و إن لَم يَكُن للنفسِ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ ما تَقدَّمَ ؛ مِن كَونِه كارهاً للشيءِ مُريداً له.
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ المُراداتِ لا اختصاصَ لها بمُريدٍ دونَ آخَرَ، و أنّ كُلَّ شيءٍ صَحَّ أن يُريدَه بَعضُ المُريدينَ ، يَصِحُّ أن يُريده(2) سائِرُهم، و أنّ ما صَحَّ أن يُريدَه يَجِبُ أن يُريدَه إذا كانَ مُريداً لنفسِه.
قُلنا: المُصَحِّحُ لكَونِ الشيءِ مُراداً: أن يَكونَ ممّا يَصِحُّ حُدوثُه، و هذا المعنىٰ لا اختصاصَ له ببعضِ المُريدينَ دونَ بعضٍ ، فيَجِبُ أن يَصِحَّ مِن الجَميعِ أن يُريدوا كُلَّ ما اختَصَّ بهذه الصفةِ ، و الأمرُ في هذا ظاهرٌ؛ فإنّ الحَيَّ مِنّا كما يَصِحُّ أن يَعلَمَ كُلَّ معلومٍ ، و يَعتَقِدَ كُلَّ مُعتَقَدٍ، و يُدرِكَ كُلَّ مُدرَكٍ ، كذلكَ يَصِحُّ أن يُريدَ كُلَّ ما صَحَّ أن يَكونَ مُراداً. و لَو جازَ أن يُدَّعىٰ مُخالَفةُ بعضِ الأحياءِ لنا
ص: 181
في بابِ الإرادةِ ، لَجازَ مِثلُه في سائرِ ما ذَكَرناه. و إذا ثَبَتَ صحّةُ كونِه مُريداً لكُلِّ مُرادٍ، وجبَ متىٰ كانَ مُريداً لنفسِه أن يُريدَ الجَميعَ ؛ لأنّ صفةَ النفسِ متىٰ صَحَّت وجبَت.
و اعلَمْ أنّ كُلَّ حالٍ للحَيِّ لَم يَجِبْ أن تؤَثِّرَ فيما تَتعلَّقُ به(1)، و يَلزَمَها صحّةُ كَونِه
بها علىٰ صفةٍ ، لَم يَقَعْ فيها اختصاصٌ ؛ نَحوُ حالِ العالِمِ (2) و المُريدِ و المُدرِكِ . و كُلُّ حالٍ وجبَ أن تؤَثِّرَ(3) فيما تَتعلَّقُ به، و صَحَّ أن يَكونَ لأجلِها علىٰ صفةٍ ، اختَصَّت؛ نَحوُ كَونِ القادرِ قادراً؛ لأنّه(4) لا يَتعلَّقُ إلّابما يَصِحُّ حُدوثُه مِن جهتِه، و الحُدوثُ لا يَصِحُّ فيه الاشتراكُ . فلهذا اختَصَّتِ المقدوراتُ ، و لَم تَختَصَّ (5) المعلوماتُ و المُراداتُ و المُدرَكاتُ .
و لَيسَ يَطعَنُ علىٰ ما ذَكَرناه: أنّ كَونَ (6) المُريدِ مُريداً، قد يؤَثِّرُ علىٰ بعضِ الوُجوهِ ، و كذلك كَونُ العالِمِ عالِماً!
لأنّا قد احتَرَزنا مِن ذلكَ بوجوبِ صحّةِ التأثيرِ؛ لأنّ هذه الصفاتِ إن أثَّرَت فقَد تَحصُلُ و لا تؤَثِّرُ، و لَيسَ كذلكَ كَونُ القادرِ قادراً.
و لا يَطعَنُ أيضاً عليه قولُ مَن يَقولُ : إنّ الخَبرَ قد يَكونُ خَبراً(7)
ص: 182
لبعضِ (1) المُريدينَ و هو فاعلُه، و لا يَكونُ كذلكَ لغَيرِه، و هذا يَقتَضي اختصاصَ هذه الصفةِ و إلحاقَها بحالِ القادرِ!
و ذلكَ أنّ الاختصاصَ لَم يَقَعْ هاهنا فيما يَصِحُّ أن يُرادَ؛ لأنّ الفاعلَ للخَبرِ(2) و مَن لَم يَفعَلْه جميعاً مُريدانِ له، و إنّما اختَصَّ التأثيرُ بأحدهما(3). و هذا لا يَقدَحُ فيما قُلناه؛ لأنّا ادَّعَينا العُمومَ فيما يَصِحُّ أن يُرادَ و أنّه بخِلافِ المقدورِ، و لَم نَدَّعِ عُمومَ التأثيرِ، بل قد صَرَّحنا باختصاصِه.
و قد أُجيبَ عن هذا الِاعتراضِ بأنّ تأثيرَ كَونِ المُريدِ مُريداً في الخَبرِ و غَيرِه، إنّما اختَصَّ (205) و لَم يَقَع فيه اشتراكٌ ؛ لاختصاصِ (4) كَونِ القادرِ قادراً، فلَو(5) قَدَرَ قادرانِ علىٰ الذاتِ (6) التي تَكونُ خَبراً، لَصَحَّ أن يُؤَثِّرَ(7) في كَونِها خَبراً كَونُهما مُريدَينِ ، فقَد عادَ الاختصاصُ إلىٰ حالِ القادرِ لا إلىٰ حالِ المُريدِ.
و أُجيبَ بمثلِ ذلكَ عن كَونِ العالِمِ عالِماً، و تأثيرِه في الفِعلِ المُحكَمِ .
فإن قيلَ : كما أنّه لا اختصاصَ للمُراداتِ ببعضِ المُريدينَ ، كذلكَ لا اختصاصَ بالمُعَتَقداتِ ؛ فكُلُّ مَن صَحَّ أن يَكونَ مُعتَقِداً لشيءٍ ، صَحَّ أن يَكونَ مُعتَقِداً لسائرِ الأشياءِ علىٰ سائرِ وجوهِها، و عندَكم أنّه تَعالىٰ علىٰ صفةِ المُعتَقِدِ، و مع هذا فلَم تَلزَموا(8) أنّه مُعتَقِدٌ للأشياءِ علىٰ سائرِ وُجوهِها، حتّىٰ يَعتَقِدَها علىٰ ما هي به، و علىٰ
ص: 183
ما لَيسَ هي به(1)؛ فألَا جَوَّزتُم مِثلَ ذلكَ في كَونِه مُريداً؟
قُلنا: الفرقُ بين الأمرَينِ أنّه تعالى إذا ثَبَتَ كَونُه عالِماً لنفسِه، وجبَ أن يَعلَمَ كُلَّ معلومٍ علىٰ كُلِّ وَجهٍ ، و ذلكَ يُحيلُ كَونَه جاهلاً به. و كَونُه مُريداً للشيءِ لا يُنافي كَونَه مُريداً لغَيرِه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ كَونَه مُريداً لنفسِه، يَمنَعُ مِن كَونِه كارهاً، كما قُلناه في كَونِه عالماً؛ لأنّ بمِثلِ ما عَلِمنا أنّه مُريدٌ، عَلِمنا أنّه كارهٌ ، فلَيسَ لأحَدِ الأمرَينِ مَزِيّةٌ علَى الآخَرِ، فيَجِبُ أن يَكونَ مُريداً كارهاً، علىٰ ما تَقدَّمَ . و ثُبوتُ كَونِه عالِماً لنفسِه بأدلَّتِه يَقتَضي كَونَه عالِماً بكُلِّ معلومٍ ، و يَمنَعُ مِن كَونِه جاهلاً ببعضِها.
فإن قيلَ : ما أنكَرتُم أن يَكونَ «المعلومُ مِن حالِه أنّه لا(2) يَكونُ » يَصِحُّ أن يُريدَه تَعالىٰ ، و «المعلومُ حالُه أن لا يَكونَ » لا(3) يَصِحُّ أن يَكرَهَه. فهو مُريدٌ(4) كُلَّ ما يَكونُ ، و يَكرَهُ كُلَّ ما لا يَكونُ ، و لا يَلزَمُ كَونُه مُريداً كارهاً للشيءِ الواحدِ؟
قُلنا: قد يَجِدُ أحَدُنا نَفسَه فيما يُريدُه مِن الأشياءِ المُستَقبَلةِ علىٰ حالةٍ واحدةٍ ، و إن كانَ فيها المعلومُ أنّه يَكونُ و المعلومُ أنّه لا يَكونُ ، بل لا يَفْصِلُ حالَه(5) في الشيءِ الواحدِ إذا أرادَه تارةً و معلومٌ أنّه لا يَكونُ . فَلو كانَ الأمرُ علىٰ ما قَدَّرَه لَفَصَلَ بَينَ أحوالِه في ذلكَ ، كما يَفصِلُ بَينَ كَونِه مُعتَقِداً و مُريداً. و في ارتفاعِ الفَصلِ دَلالةٌ علىٰ أنّ الجنسَ المُوجِبَ للأمرَينِ واحدٌ.
ص: 184
علىٰ أنّا نَعلَمُ مِن النبيّ عليه السلام، أنّه كانَ يُريدُ الإيمانَ مِن أبي لَهَبٍ ، و إن عَلِمَ أنّه لا يؤمِنُ .
دَليلٌ آخَرُ علىٰ أنّه تَعالىٰ لَيسَ بمُريدٍ لنفسِه:
قد ثَبَتَ فيما هو خبرٌ و أمرٌ مِن الكلامِ ، صحّةُ وجودِهما مِن غَيرِ أن يَكونا كذلكَ ؛ علىٰ ما دَلَّلنا عليه مِن قَبلُ . و في كَونِه مُريداً لنفسِه ما يَمنَعُ مِن ذلكَ . فيَجِبُ القَضاءُ بفَسادِه.
و إنّما قُلنا: إنّه يَمنَعُ منه؛ لأنّه لا يَجوزُ أن يُريدَ فيما يوجِدُه مِن الحُروفِ كَونَه خَبَراً، ثُمّ لا يَكونُ كذلك. فلَو كانَ مُريداً لنفسِه، لَم يَجُز أن لا يُريدَ الإخبارَ بما يُخبِرُ به. و إذا لَم يَجُز أن لا يُريدَ ذلكَ ، لم يَجُز فيما يوجَدُ و يَكونُ خَبَراً أن لا يَكونَ كذلكَ .
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَجِبَ وجودُ(1) مقدوراتِه؛ مِن حَيثُ كانَ قادراً لنفسِه؛ و ذلكَ أنّ تأثيرَ كونِه قادراً في المقدوراتِ تأثيرُ التصحيحِ لا الإيجابِ . و لَيسَ كذلكَ
كَونُ المُريدِ مريداً؛ لأنّه يؤَثِّرُ علىٰ جهةِ الإيجابِ . و مع(2) ثُبوتِ المؤَثِّرِ لا بُدّ مِن ثُبوتِ التأثيرِ، و امتناعِ خِلافِه.
دليلٌ آخَرُ:
لَو كانَ تَعالىٰ مُريداً لنفسِه، لَوجب أن يُريدَ سائرَ المُراداتِ ، علىٰ ما تَقدَّمَ . و هذا يَقتَضي كَونَه مُريداً للقَبيحِ ، و هذه صفةُ نقصٍ . و لا فَرقَ في صفاتِ النقصِ بَينَ أن تَحصُلَ عن فِعلٍ أو عن غَيرِ فِعلٍ (3)؛ لأنّ ما تَقتَضيه مِن النقصِ يَرجِعُ إليها لا إلىٰ
ص: 185
مُوجِبِها؛ ألَاتَرىٰ أنّ كَونَ الجاهلِ جاهلاً (206) لمّا كانَ صفةَ نقصٍ ، لَم تَختَلِفْ في أن تَجِبَ عن عِلّةٍ أو للنفسِ؟
دليلٌ آخَرُ:
وَ ممّا استُدِلَّ به علىٰ أنّه تَعالىٰ لَيسَ بمُريدٍ في نفسِه، و أنّه لا بُدَّ مِن تَجَدُّدِ هذه الصفةِ له، أنّ خِطابَه تَعالىٰ إذا كانَ المؤَثِّرُ في تَوَجُّهِه إلىٰ جهةٍ دونَ أُخرىٰ ممّا كانَ يَجوزُ أن يَتَوجَّهَ إليها، هو كَونَه مريداً، و كانت هذه الصفةُ جاريةً مَجرَى العِلّةِ لهذا الحُكمِ ، فواجبٌ إذا كانَ خِطابُه مُتجدِّداً أن يَكونَ ما أثَّرَ(1) في كَونِه علىٰ بعضِ الوُجوهِ مُتجدِّداً؛ لأنّ العِلّةَ أو ما هو في مَعناها لا يَجوزُ أن تَتقدَّمَ ما تؤَثِّرُ فيه. و إذا تَجدَّدَ كَونُه مُريداً، بَطَلَ أن يَكونَ للنفسِ ، أو لا للنفسِ و لا لعِلّةٍ ، أو لعِلّةٍ قَديمةٍ .
و يَكونُ الاعتراضُ على هذه الطريقةِ بأن يُقالَ : حالُ المُريدِ لَيسَت عِلّةً على الحقيقةِ ، فيُحكَمَ لها بأحكامِ العِلَلِ ؛ مِن امتناعِ التقَدُّمِ علَى المَعلولِ ، و قد بيّنّا فيما تَقدَّمَ أنّها لَيسَت علّةً ؛ لوُجوهٍ (2)، فلا يَمتَنِعُ علىٰ هذا أن تَتقدَّمَ (3) حالُ المُريدِ لِما تؤَثِّرُ فيه و إن [لَم](4) يَجُز ذلكَ في العِلّةِ الحقيقيّةِ .
علىٰ أنّ مِثلَ العِلّةِ و ما هو مِن جنسِها لا بُدَّ مِن أن يَكونَ عِلّةً و مؤَثِّراً. و نَحنُ نَعلَمُ أنَّ مِثلَ حالِ المُريدِ المؤَثِّرةِ (5) في فِعلِه بالمُصاحَبةِ ، قد(6) يُريدُ زَيدٌ مِن عَمرٍو
ص: 186
فِعلاً مُعيَّناً يُريدُه عَمرٌو أيضاً مِن نفسِه، فتؤَثِّرُ إرادةُ عَمرٍو دونَ إرادةِ زَيدٍ، و هي مِن جنسِها. و كُلُّ هذا لا يَجوزُ في العِللِ ؛ فألا جازَ أن يُخالِفَ حالُ المُريدِ للعِلَلِ في جَوازِ التقَدُّمِ علَى المَعلولِ؟!
و بَعدُ، فإنّ كَونَ القَديمِ تَعالىٰ عالِماً، يؤَثِّرَ فيما يَفعَلُه مِن الاعتقادِ المُطابِقِ لِما يَعلَمُه، فيَصيرُ له عِلماً و إن كانَ مُتقدِّماً.
طريقةٌ أُخرى:
قد اعتَمَدَ كُلُّ الشُّيوخِ (1) في ذلكَ علىٰ أنّه لَو كانَ مُريداً لنفسِه، و المُراداتُ
لا اختصاصَ فيها - علىٰ ما تَقدَّمَ (2) -، لَوجبَ أن يُريدَ كُلَّ ما صَحَّ كَونُه مُراداً، و هذا يؤَدّي إلىٰ إرادةِ حُدوثِ ما لا يَتَناهىٰ مِن الجواهرِ و الأجناسِ ، و إلىٰ أن يُريدَ في كُلِّ وقتٍ مِن الأعدادِ أكثَرَ ممّا فَعَلَ ، و يُريدَ تقديمَ كُلِّ شيءٍ فَعَلَه علَى الوَقتِ الذي أَوجَدَه فيه.
و كانَ يَجِبُ أن يُريدَ الضِّدَّينِ علَى الوَجهِ الذي يَتَنافَيانِ عليه.
و يَجِبُ أيضاً متىٰ أرادَ أحَدُنا لنفسِه الأموالَ و الأولادَ أن يُريدَ مِثلَ ذلكَ له.
و هذا يَقتَضي وجودَ جميعِ ذلكَ حتّىٰ يَكونَ فاعلاً للضِّدَّينِ في وقتٍ واحدٍ، و فاعلاً لأكثَرَ مِمّا فَعَلَ و قَبلَ (3) أن فَعَلَ علىٰ وَجهٍ لا يَستَقِرُّ فيه عددٌ و لا وقتٌ ، و حتّىٰ يَجِبَ وصولُ كُلِّ مَن أرادَ مِنّا شيئاً إليه علىٰ كُلِّ حالٍ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .
فيَجِبُ أن نَقضيَ بفَسادِ ما أدّى إليه.
و إنّما قُلنا بوجوبِ وجودِ ذلكَ ؛ لأنّه مِن أفعالِه، و ما يُريدُه تَعالىٰ مِن نَفسِه فلا
ص: 187
بُدَّ مِن أن يوجَدَ؛ لاستحالةِ المَنعِ و ما جَرىٰ مَجراه عليه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّه يُريدُ الضِّدَّينِ ، و لا يَفعَلُهما معاً؛ لتَضادِّهما.
و ذلك أنّ هذا القولَ يَقتَضي أن لا يُفعَلَ كُلُّ واحدٍ منهما في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّه إذا كانَ مُريداً لهما في كُلِّ حالٍ ، و استحالَ اتّحادُهما جميعاً للتضادِّ، لَم يَجُز أن يَقَعَ أحَدُهما و حُكمُ الآخَرِ في أنّه مُرادٌ حُكمُه.
و لا يَجوزُ أن يُقالَ : إنّ أحَدَهما يوجَدُ؛ لكَونِه قادراً، و يَبطُلُ حُكمُ كونِه مُريداً؛ لأنّ كَونَ القادرِ قادراً لا يَكفي في وقوعِ الفِعلِ مع العِلمِ .
و إنّما لَم يُعتَمَدْ في هذه الطريقةِ علَى استحالةِ كَونِه مُريداً للضِّدَّينِ ؛ لأنّ إرادَتَي الضِّدَّينِ لا تَتَضادّانِ (1).
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ التضادَّ يَرجِعُ إلى ما عليه الذواتُ في أنفسِها، و لا تؤَثِّرُ(2) فيه الاعتقاداتُ . و قد عَلِمنا أنّ أحَدَنا لَو اعتَقَدَ في ضِدَّينِ أنّهما (207) لَيسَ كذلكَ ، لَصَحَّ أن يُريدَ حُدوثَهما معاً. فلَو تَضادَّتا لَما اجتَمَعَتا للحَيِّ في الحالِ الواحدةِ ، و هذا يُبَيِّنُ أنّ امتناعَ اجتماعِهما لغَيرِ التضادِّ.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلك: أنّ الشيءَ إذا كانَ مُتعلِّقاً بغَيرِه، إنّما يُضادُّ ضِدَّه متىٰ تَعلَّقَ بمُتعلَّقِه بالعكسِ منه؛ قِياساً علَى العِلمِ و القُدرةِ لَو ثَبَتَ لهما ضِدٌّ، و متىٰ تَغايَرَ مُتعلَّقُهما لَم يَتَضادّا، و هذا يَقتَضي أنّ إرادَتَيِ الضِّدَّينِ لا تَتَضادّانِ (3)؛ لِتَغايُرِ مُتعلَّقِهما.
و يَدُلُّ أيضاً عليه: أنّ إرادةَ الشيءِ تُنافي كَراهَتَه، و لا تُنافي كَراهَةَ ضِدِّه، بل هي
ص: 188
مُخالِفَةٌ لها. فلَو كانَت إرادة الضِّدَّينِ تَتَضادَّانِ (1)، لأَدّىٰ إلىٰ كَونِ الشيءِ الواحدِ نافياً لشَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرِ ضِدَّينِ ؛ لأنّه يوجِبُ أن تَكونَ إرادةُ الحركةِ يَمْنةً تُنافي إرادةَ الحركةِ يَسْرةً ، و تنافي كَراهةَ الحركةِ يَمْنةً (2)؛ و هُما يَخَتلِفانِ (3). و قد دَلَّلنا فيما تَقدَّمَ علىٰ أنّ الشيءَ الواحدَ لا يُنافي شَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرَ مُتَضادَّينِ (4).
و اعلَمْ : أنّ هذه الطريقةَ التي حَكَيناها في أنّه تَعالىٰ لَيسَ بمُريدٍ لنفسِه، إن أُورِدَت على سَبيلِ الإلزامِ للقومِ ، فلا مَحيصَ عنها؛ لأنّهم يَمنَعونَ أن يُريدَ مِن فِعلِ نفسِه و فِعلِ غَيرِه ما لا يوجَدُ.
و إن أُورِدَت علىٰ سَبيلِ الاستدلالِ ، أمكَنَ أن يُقالَ عليها(5): إنّه تَعالىٰ يُريدُ ذلكَ أجمَعَ ، و لا يَجِبُ وقوعُه و لا كَونُه علىٰ صفةِ نقصٍ ؛ لأنّ كُلَّ ذلك إنّما يَجِبُ في القادرِ إذا دَعاهُ الداعي إلَى الفِعلِ فلَم يوجَدْ، فأمّا إذا كانَ مُريداً علىٰ وَجهٍ لا يَتبَعُ دَواعِيَه، لَم يَجِبْ فيه ما يَجِبُ في غَيرِه، و لهذا أنّه لو خُلِقَت في المُشرِفِ علَى الجَنّةِ و النارِ إرادةُ دخولِ النارِ، لَكانَ لا يَدخُلُها و إن كانَ مُريداً؛ مِن حَيثُ لَم يَتبَع كَونُه مُريداً لدَواعيهِ . و كَونُه مُريداً لنفسِه، في أنّه لا يَتبَعُ الدواعي، آكَدُ بمَن فُعِلَت فيه الإرادةُ الضروريّةُ .
و ما ذُكِرَ في الضِّدَّينِ و أنّه يَقتَضي أن لا يَكونَ فاعلاً لكُلِّ واحدٍ مِنهما، يُمكِنُ أن يُقالَ فيه بفِعلِ أحَدِهما؛ لمكانِ الدواعي و إن كانَ مُريداً للأمرَينِ ؛ مِن حَيثُ كانَ لا اعتبارَ في وقوعِ الفِعلِ بكَونِه مُريداً إذا لَم يَتبَعِ الدواعِيَ .
ص: 189
فأمّا مَن طَعَنَ علىٰ هذه الطريقةِ بأن يَقولَ : إنّه يُريدُ الضِّدَّينِ ، لكِنّه يُريدُ كَونَ ما عَلِمَ أنّه يَكونُ ، و يُريدُ أن لا يَكونَ ما عَلِمَ أنّه لا يَكونُ .
فقَد مضىٰ في الكتابِ الجَوابُ عن شُبهَتِه البَعيدةِ (1).(2)
و قيلَ في ذلكَ : إنّ الإرادةَ لا تَتعلَّقُ بأن لا يَكونَ الشيءُ ، و إنّها لا تَتعدّىٰ في التعَلُّقِ طريقةً واحدةً . و قد مَضَى الكلامُ في هذا المعنىٰ مُستَقصىً (3).
و قيلَ أيضاً: إذا كانَ يَصِحُّ أن يُرادَ في الشيءِ أن لا يَكونَ ، فقَد صارَ ذلكَ وَجهاً
زائداً يَصِحُّ أن يُرادَ عليه، فيَجِبُ في المُريدِ لنفسِه أن يُريدَ في كُلِّ شيءٍ أن يَكونَ و أن لا يَكونَ . كما أنّه إذا كانَ عالِماً لنفسِه، عَلِمَ المعلوماتِ علىٰ كُلِّ وَجهٍ يَصِحُّ أن تُعلَمَ (4) عليه.
و قيلَ أيضاً: إذا كانَ «ما أرادَ أن لا يَكونَ » يَصِحُّ أن يُريدَ مُريدٌ أن يَكونَ ؛ فلِمَ صارَ تَعالىٰ بأن يُريدَ كَونَ أحَدِهما بأولىٰ (5) مِن أن يُريدَ أن لا يَكونَ؟ و كذلكَ القولُ في الآخَرِ.
و ليس تَجري الإرادةُ في هذا البابِ مَجرَى العِلمِ ، حتّى يُقالَ : إنّه لا يَصِحُّ أن يُريدَ كَونَ ما لا يَكونُ على الحقيقةِ ، كما لا يَصِحُّ ذلكَ في العِلمِ .
لأنّا قد بيّنّا أنّا قد نُريدُ ما نَعلَمُ أنّه لا يَكونُ ، و أنّ الإرادةَ بخِلافِ العِلمِ في هذا المعنىٰ . و لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما ذَكَرنا، لَوجبَ أن يَعلَمَ الإنسانُ (208) مِنّا «ما يَكونُ و
ص: 190
ما لا يَكونُ » بما يَتبيّنهُ في نفسِه مِن الفَصل [بين ما يُريدُه و ما لا يُريدُه](1).
[المقدمة الثالثة: إثبات أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يريد لا لنفسه و لا لعلّة(2)]
فأمّا الكلامُ في أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُريداً لا لنفسِه و لا لعِلّةٍ ، فهو أنّ الصفةَ التي يُقالُ إنّها «لا للنفسِ و لا لعِلّةٍ » لا بُدَّ مِن أن يَكونَ لها وَجهٌ تُستَحَقُّ مِنه، كما نَقولُه(3) في كَونِ الموجودِ مُحدَثاً و الحَيِّ مُدرِكاً، و مُحالٌ أن لا يُشيرَ في ذلكَ إلىٰ أمرٍ مِن الأُمورِ؛ لأنّه يُخرِجَ الصفةَ مِن أن تَكونَ مُعلَّلةً ، مع إمكانِ ذلكَ فيها. و إذا لَم يَجُز أن يَستَحِقَّ كَونَه تَعالىٰ مُريداً بالفاعلِ ، و لا لصفةٍ أُخرىٰ هو عليها، بَطَلَ أن يُقالَ : هو كذلكَ لا للنفسِ و لا لعِلّةٍ .
و إنّما قُلنا: إنّه لا يَستَحِقُّ كَونَه مُريداً لصفةٍ أُخرىٰ هو عليها(4)، كما نَقولُ في كَونِه مُدرِكاً؛ لأنّ سائرَ صفاتِه مِن كَونِه حَيّاً و موجوداً و عالِماً و قادراً، قد ثَبَتَت، و يَكونُ تارةً مُريداً و أُخرىٰ غَيرَ مُريدٍ.
و أيضاً: فلَو كانَ كَونُه حَيّاً أو بعضُ صفاتِه يَقتَضي كَونَه مُريداً، لَم يَكُن باقتضاءِ ذلكَ أَولىٰ مِن اقتضاءِ كَونِه(5) كارهاً؛ لأنّ حالَ هذه الصفةِ مع كَونِه مُريداً و كارِهاً
ص: 191
علىٰ سَواءٍ ، و في ذلكَ أحَدُ أمرَينِ :
إمّا أن يَكونَ مُريداً كارهاً علىٰ حَدٍّ واحدٍ.
أو(1) لا يَجِبُ له أحَدُ الأمرَينِ لِمَكانِ هذه الصفةِ ، و يَقِفُ علىٰ أمرٍ مُتجدِّدٍ.
و لا يُشبهُ ذلكَ ما نَقولُ في كَونِه حَيّاً و اقتضاءِ كَونِه مُدرِكاً؛ لأنّه لا ضِدَّ لكَونِه مُدرِكاً، فيُقالَ : إنّ كَونَه حَيّاً لَيسَ بأن يَقتَضيَ كَونَه مُدرِكاً بأَولىٰ مِن أن يَقتَضيَ ضِدَّه.
و أيضاً فلا يَخلو كَونُه مُريداً مِن أحَدِ أمرَينِ :
إمّا أن يَكونَ حاصلاً فيما لَم يَزَلْ ،
أو يَتجدَّدُ بَعدَ أن لَم يَكُن.
فإن كانَ الأوّلُ ، وجبَ أنْ يَكونَ للنفسِ ؛ لأنّ ذلكَ هو أمارةُ صفةِ النفسِ ، و قد أبطَلناه(2).
و إن تَجدَّدَ، وجبَ أن يَكونَ كذلكَ لمعنىً (3).
و لا يُمكِنُ أن يَتجدَّدَ و لا يَكونَ لمعنىً ، بأن يَكونَ مشروطاً كما نَقولُه في كَونِه مُدرِكاً؛ و ذلكَ أنّ المُرادَ قد يَكونُ معدوماً و موجوداً، و لا حالَ إلّاو يَصِحُّ أن يُرادَ به. و هذا يَقتَضي كَونَه مريداً(4) فيما لَم يَزَلْ إن كانَ مُريداً لا لعِلّةٍ ، و المُدركُ بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّه لا يَتعلَّقُ الإدراكُ إلّابالموجودِ، فشَرطُه(5) مُتجدِّدٌ.
و أيضاً: فلَو كانَ مُريداً لا لنفسِه و لا لعِلّةٍ ، لَوجبَ أن يُريدَ كُلَّ مرادٍ؛ لأنّه لا
ص: 192
مُخَصِّصَ لكَونِه(1) مُريداً لبعضِها دونَ بعضٍ . و كذلك كانَ يَجِبُ أن يكونَ كارهاً لكُلِّ ما يَصِحُّ أن يُكرَهَ . و في هذا ما تَقدَّمَ ؛ مِن كَونِه مُريداً للشيءِ الواحدِ، كارهاً له علىٰ وَجهٍ واحدٍ.
فأمّا الكلامُ في أنّه لا يُريدُ بإرادةٍ معدومةٍ ، فالذي يُفسِدُه وجوهٌ :
مِنها: أنّه كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ كارهاً بكَراهةٍ معدومةٍ ، و هذا يوجِبُ كَونَه مُريداً كارهاً للشيءِ الواحدِ علَى الوَجهِ الواحدِ!
و مِنها: ما تَقدَّمَ ؛ مِن أنّ عدمَ ما تَعلَّقَ بغَيرِه لنفسِه يُحيلُ تَعلُّقَه(2).
و مِنها: أنّ الإرادةَ لَو تَعلَّقَت في العدمِ ، لَوجبَ أن تُضادَّ ضِدَّها مِن الكَراهةِ . و تُنافِيَها في حالِ العدمِ ؛ حتّىٰ يَمتَنِعَ عدمُهما معاً. و قد عَلِمنا جَوازَ عدمِ الضِّدَّينِ .
بل كانَ يَجِبُ أن لا يَصِحَّ عدمُهما و لا وجودُهما، و لا وجودُ أحَدِهما مع عدمِ الأُخرىٰ ؛ لأنّهما علىٰ هذا القولِ مُتعلِّقانِ في جميعِ الحالاتِ . و فَسادُ خُروجِهما مِن الوجودِ و العدمِ معاً ظاهرٌ.
و مِنها: أنّه لَو كانَ مُريداً بإرادةٍ معدومةٍ ، لَكانَ مُريداً فيما لَم يَزَلْ علىٰ سَبيلِ
الوُجوبِ ؛ لأنّه لا ابتداءَ لعدمِ الإرادةِ . و قد ثَبَتَ أنّ ما يَجِبُ للذاتِ مِن الصفاتِ (209) فيما لَم يَزَلْ ، لا يَصِحُّ تعليلُه بغَيرِ الذاتِ .
و مِنها: أنّ ذلكَ يَقتَضي فيما يوجَدُ مِن جهتِه فيَكونُ خبراً، أن يَجِبَ كَونُه كذلكَ ، و لا يَصِحَّ خِلافُه. و قد بَيّنّا فَسادَ هذا فيما تَقدَّمَ (3).
ص: 193
و هذا الوَجهُ و الذي قَبلَه، يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يُريدُ بإرادةٍ قَديمةٍ .
فأمّا الكلامُ في أنّه لا يُريدُ بإرادةٍ قَديمةٍ ، فالذي يَدُلُّ عليه ما أشَرنا إليه مِن الوَجهَينِ ، و قد تَقدَّمَ في بابِ الكلامِ في الصفاتِ مِن هذا الكتابِ ؛ مِن إبطالِ قولِ مَن أثبَتَ عِلماً قَديماً أو قُدرةً قديمةً ، ما هو أو أكثَرُه مُبطِلٌ للإرادةِ القَديمةِ ، فلا مَعنىٰ لإعادَتِه(1).
و إذا صَحَّتِ الجُملةُ التي ذَكَرناها، صَحَّ أنّه تَعالىٰ يُريدُ بإرادةٍ مُحدَثةٍ .
و نَحنُ نُبطِلُ أنّه يُريدُ بإرادةٍ تَحُلُّه أو تَحُلُّ غَيرَه، لِتَثبُتَ أنّها موجودةٌ لا في مَحَلٍّ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ إرادَتَه تَعالىٰ لا تَحُلُّه: أنّا قد دَلَّلنا فيما تَقدَّمَ علىٰ أنّ التحيُّزَ هو المُصَحِّحُ لحُلولِ الأعراضِ (2)، و أنّ ما يَستَحيلُ تَحيُّزُه يَستَحيلُ حُلولُ الأعراضِ فيه. و بيّنّا أنّ حُلولَ الشيءِ في غَيرِه متىٰ لَم يَتحيَّزْ(3) بالتعلُّقِ لَم يُفهَم؛ فإنّ السوادَ مع أنّه موجودٌ تَحتَ الجَوهرِ، إنّما كانَ حالاًّ في الجَوهرِ دونَ أن يَكونَ الجَوهرُ حالاًّ في السوادِ؛ مِن حَيثُ كانَ الجَوهرُ مُتحيِّزاً و كانَ السوادُ غَيرَ مُتَحَيِّزٍ.
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يُريدُ بإرادةٍ تَحُلُّ غَيرَه: فهو أنّ ذلكَ المَحَلَّ لا
ص: 194
يَخلُو مِن أحَدِ أمرَينِ : إمّا أن تَكونَ فيه حَياةٌ ، أو لا حَياةَ فيه.
و لَيسَ يَجوزُ أن تَحُلَّ إرادَتُه تَعالىٰ في مَحَلٍّ غَيرِه [فيه] حَياةٌ ؛ لوجوهٍ :
مِنها: أنّ الإرادةَ إذا حَلَّت مَحَلَّ حياةٍ ، فيَجِبُ (1) أن تكونَ إرادةً لِمَن تِلكَ الحَياةُ حَياةٌ له؛ لأنّ كُلَّ عَرَضَينِ وُجِدا علىٰ وَجهٍ واحدٍ، و كانا ممّا يوجِبُ الصفةَ للغَيرِ، فإنّ أحَدَهما يوجِبُ الصفةَ لِما يوجِبُها الآخَرُ له. و لَولا صحّةُ هذه الطريقةِ لَم نَقطَعْ على أنّ كُلَّ ما حَلَّنا(2) مِن القُدَرِ مُتعلِّقٌ بنا؛ لأنّه كانَ لا يَمتَنِعُ علىٰ هذا أن يَكونَ بعضُ هذه القُدَرِ توجِبُ كَونَنا قادِرينَ دونَ بعضٍ .
و لَو كانَت الإرادةُ إرادةً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، مع أنّها إرادةٌ للقَديمِ تَعالىٰ ، لَوجبَ أن تكونَ إرادةً واحدةً لمُريدَينِ ، و هذا مُستحيلٌ ؛ لعِلمِنا بصحّةِ كَراهةِ كُلِّ واحدٍ مِنّا لنفسِ ما يُريدُه القَديمُ .
و مِنها: أنّه لَو أرادَ بإرادةٍ تَحُلُّ غَيرَه، لجازَ أن يَكرَهَ (3) بما يَحُلُّ أيضاً غيرَه، و هذا يوجِبُ كَونَه مُريداً كارهاً للشيءِ الواحدِ؛ لِما يوجِبُ في قَلبِ زَيدٍ مِن الإرادةِ ، و قَلبِ عَمرٍو مِن الكَراهةِ !
و مِنها: أنّه كانَ يَجِبُ مَتىٰ وُجِدَت قُدرةٌ في مَحَلِّ هذه الإرادةِ ، أن تَكونَ قُدرةً لهما معاً، [و] هذا يَقتَضي كَونَ المقدورِ الواحدِ لقادرَينِ ، و قد ثَبَتَ استحالةُ ذلكَ (4).
فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ إرادَتَه لا تَحُلُّ الجَمادَ(5) و ما لا حَياةَ فيه: فهو أنّ تأليفَ الجَمادِ كافتراقِه، فلَو حَلَّت الإرادةُ الجَمادَ، لَكانَ حُكمُها مقصوراً علىٰ مَحَلِّها؛ لأنّ كُلَّ
ص: 195
عَرَضٍ يُوجِبُ صفةً متىٰ صَحَّ وجودُه في الجَمادِ، فحُكمُه مقصورٌ علىٰ مَحَلِّه؛ كاللَّونِ . و هذا يوجِبُ أن يَكونَ مَحَلُّ الإرادةِ مِنّا هو المُريدَ و إنْ بُنيَ مع غيرِه؛ لأنّ كُلَّ عَرَضٍ أوجَبَ الصفةَ لمَحَلِّه، فإنّ حالَه(1) في إيجابِه للمَحَلِّ لا تَتغيَّرُ بأن يُجاوِرَ غَيرَه. و هذا يَقتَضي أن يكونَ مَحَلُّ الإرادةِ مِنّا مُريداً، و كذلكَ مَحَلُّ القُدرةِ ، و يوجِبُ أن تكونَ (2) جُملةُ (3) الحَيِّ قادرينَ كَثيرينَ ، و كانَ لا يَجِبُ وقوعُ تَصرُّفِها بحَسَبِ داعٍ واحدٍ و قَصدِ واحدٍ، و أن تَجريَ (4) مَجرى أحياءٍ ضُمَّ بعضُهم إلىٰ بعضٍ . و كانَ لا (210) يَمتَنِعُ أيضاً أن يَقَعَ التمانُعُ بَينَ أجزاءِ الجُملةِ مِن حيثُ كانَ عِدّةً مِن القادرينَ . و فَسادُ ذلكَ معلومٌ باضطرارٍ.
و أيضاً: فلَو جازَ حُلولُها في الجَمادِ، لَجازَ في اليَدِ، و هذا يَقتَضي صحّةَ أن يَفعَلَ بقُدَرِ أيدينا الإرادةَ فيها، و أن يَجوزَ أن يَجِدَ أحَدُنا كَونَه مُريداً في ناحيةِ يَدِه كما يَجِدُه مِن ناحيةِ صَدرِه. و بُطلانُ ذلكَ ظاهرٌ.
و أيضاً: لَو جازَ أن تَحُلَّ إرادَتُه تَعالَى الجَمادَ، لَم يَمتَنِعْ أن توجَدَ في مَحَلِّها الحَياةُ ؛ لأنّ وجودَ الحَياةِ إن لَم يُصَحِّح وجودَ(5) الإرادةِ لَم يَحُلَّ ذلكَ . و لأنّه لا تَنافيَ بَينَهما و لا ما يَجري مَجراه، فيُقالَ : إنّها تَنتَفي عندَ وجودِ الحَياةِ . و قد بيّنّا أنّ الإرادةَ حينَئذٍ لا تَختَصُّ (6) بالقَديمِ تَعالىٰ ، و أنّها يَجِبُ أن تَكونَ إرادةً لِمَن تِلكَ الحَياةُ حَياةٌ
ص: 196
له(1). و هذا مُستَحيلٌ ؛ لأنّ كُلَّ عَرَضٍ يوجِبُ لِذاتٍ مِن الذواتِ حالاً، فلَيسَ يُخرِجُه عن إيجابِه لها مُقارَنةُ ما يُقارِنُه مِن المَعاني.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّي أمنَعُ مِن وجودِ الحَياةِ مع هذه الإرادةِ ، و إن لَم يَكُن بَينَهما تَضادٌّ و لا [ما] يَجري مَجراه، كما مَنَعتم أنتم مِن وجودِ حَياةِ زَيدٍ و عَمرٍو مَعاً في مَوضِعِ الاتِّصالِ (2).
لأنّ حَياةَ زَيدٍ تَحتاجُ (3) إلى أن يَكونَ مَحَلُّها مُنفَصِلاً مِن غَيرِه، و كذلِكَ حَياةُ عَمرٍو. و هذا مَعنىٰ ما يَمضي في الكُتُبِ ؛ مِن أنّ حَياةَ زَيدٍ تَحتاجُ إلىٰ أن يَستَنِدَ مَحَلُّها بمُجاوَرةِ بعضٍ مِن أبعاضِ زَيدٍ دونَ غَيرِه، و كذلكَ حَياةُ عَمرٍو. و هذا يُبيِّنُ (4) الفَرقَ بَينَ الأمرَينِ ؛ لأنّ مَحَلَّ الإرادةِ الذي ادُّعِيَ يَحتَمِلُ [الحَياةَ ]، و لا تَنافيَ بَينَهما.
علىٰ أنّ هاتَينِ الحَياتَينِ إنّما(5) تَجري(6) مَجرَى التنافي؛ لأنّهما تَجعَلانِ مَحَلَّهما بعضاً لزَيدٍ و عَمرٍو، و ذلكَ يَتَنافىٰ ؛ لأنّ مِن شأنِ ما هو بعضٌ لأحَدِهما أن يُدرِكَ به، و إذا كانَ بعضاً له صَحَّ أن يَبتَدئَ فيه الفِعلَ بقُدرتِه، و إذا كانَ بعضاً للآخَرِ لَم يَصِحَّ أن يَفعَلَ فيه إلّاسببَ تَعدِّي الفِعلِ عن مَحَلِّ القُدرةِ . و نَظائرُ ذلكَ كثيرةٌ .
ص: 197
و بَعدُ، فمِن حَقِّ كُلِّ حَيَّينِ صحّةُ كَونِ أحَدِهما عالِماً و الآخَرِ جاهلاً، و حَياةُ زيدٍ تُصَحِّحُ كَونَه عالِماً جاهلاً علَى البَدَلِ ، و كذلكَ حَياةُ عَمرٍو تُصَحِّحُ ذلكَ فيه علَى البَدَلِ . فَلَو وُجِدَت حَياةُ زَيدٍ في مَوضِعِ الاتّصالِ ، صَحَّحَت كَونَ زَيدٍ عالِماً، و حَياةُ عمرٍو إذا وُجِدَت معها تُصَحِّحُ (1) كَونَ عَمرٍو جاهلاً. و العِلمُ الذي يوجَدُ في ذلك المَحَلِّ الذي فيه الحَياتانِ ، يَجِبُ أن يَكونَ عِلماً لهما؛ لأنّ وجودَه كوجودِ حَياةِ كُلِّ واحدٍ مِنهما. و كذلك الجَهلُ يَجِبُ أن يَكونَ جَهلاً لهما. و هذا يَقتَضي أن تَكونَ الحَياتانِ مُصَحِّحَتَينِ للضِّدَّينِ ، فمَنَعنا مِن وُجودِهما؛ لأنّهما تَجرِيانِ مَجرَى المُتَنافِيَينِ . و لَيسَ هذا في وجودِ الإرادةِ و الحياةِ في الجَمادِ.
و ممّا يُستَدَلُّ به على جَوازِ وجودِ الإرادةِ لا في مَحَلٍّ : أنّ العَرَضَ (2) إنّما تَجِبُ حاجتُه إلَى المَحَلِّ ، إذا لَم يَصِحَّ ظُهورُ حُكمِه إلّابه؛ لأنّ كَيفيّةَ وجودِ العلّةِ إنّما يَجِبُ أن تُعتَبَرَ بما يَرجِعُ إلَى الحُكمِ ، أو إلى الصفةِ المُوجَبةِ عنها. و الإرادةُ لا
تَختَصُّ المَحَلَّ و لا توجِبُ له حالاً؛ لأنّها(3) ممّا يوجِبُ الحالَ للجُملةِ . فلَو اختَصَّتِ المَحَلَّ مع ذلكَ ، لَوجبَ كَونُها علىٰ صفتَينِ مُختَلِفتَينِ للنفسِ . و ذلكَ مُحالٌ فيما له ضِدٌّ [يَنفيه](4).
فوجودُها علىٰ هذا في غَيرِ مَحَلٍّ جائزٌ متىٰ (5) لَم يؤَدِّ ذلكَ إلىٰ قَلبِ جنسِها أو
ص: 198
جنسِ غَيرِها؛ لأنّ حُكمَها الذي هو إيجابُ (1) كَونِه تَعالىٰ مُريداً، يَصِحُّ ظُهورُه و هي موجودةٌ لا في مَحَلٍّ ؛ لأنّ إيجابَها الحالَ يَرجِعُ إلى جنسِها، و اختصاصُها به تَعالىٰ دونَ غَيرِه يَثبُتُ بوجودِهما(2) على هذا الوجهِ . و إن لَم يَصِحَّ في إرادتِنا أن توجَدَ(3)في غَيرِ مَحَلٍّ ؛ مِن حَيثُ كانَ ذلكَ (211) يُزيلُ الاختصاصَ بنا، فاحتاجَت في أن تَختَصَّ بنا إلى حُلولِ بعضِنا؛ لأنّا قد بيّنّا أنّها تَحتاجُ إلَى المَحَلِّ مِن غَيرِ هذا الوَجهِ ؛ مِن حَيثُ كانَت لا توجِبُ له حالاً.
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا وجودُ عِلمٍ لا في مَحَلٍّ ، أو قُدرةٍ أو حَياةٍ ، أو وجودُ سَوادٍ أو كَونٍ أو صَوتٍ لا في مَحَلٍّ ؛ لأنّا قد بيّنّا في بابِ الصفاتِ أنّ وجودَ عِلمٍ لا في مَحَلٍّ يؤَدّي إلىٰ ما يَقتَضي قَلبَ الجنسِ ؛ إمّا فيه تَعالىٰ ، أو فيما يَفعَلُه، مِن ضِدِّ العِلمِ . و بيّنّا أيضاً استحالةَ وجودِ قُدرةٍ و حَياةٍ لا في مَحَلٍّ ؛ مِن حَيثُ كانَ لهما تأثيرٌ في المَحَلِّ .
فأمّا الكَونُ : فإنّه يوجِبُ حالاً للمَحَلِّ ، و وجودُه في غَيرِ مَحَلِّه(4) يؤَدّي إلىٰ قَلبِ جنسِه.
فأمّا السوادُ: فإنّه إنّما يُضادُّ ضِدَّه و يُنافيهِ علَى المَحَلِّ ، فوجودُه لا في مَحَلٍّ يَقتَضي وجودَه علىٰ وَجهٍ لا يُنافي معه ضِدَّه. و هذا يَقتَضي قَلبَ جنسِه؛ لأنّ مُنافاتَه لضِدِّه يَرجِعُ إلىٰ ما هو عليه.
ص: 199
و القولُ في الصَّوتِ و التأليفِ و كُلِّ ما اختَصَّ المَحَلَّ ، كالقَولِ في السوادِ.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : كيفَ توجَدُ إرادَتُه تَعالىٰ لا في مَحَلٍّ ، و لا اختصاصَ لها به تَعالىٰ؟
لانقطاعِها بذلكَ عن كُلِّ حَيٍّ سِواه. و جَرى هذا الاختصاصُ مَجرىٰ حُلولِها في قَلبِ أحَدِنا في بابِ الاختصاصِ به؛ لأنّ اختصاصَ العِلَلِ مُختَلِفٌ غَيرُ جارٍ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ ؛ لأنّ بعضَها يَختَصُّ بالحُلولِ في المَحَلِّ (1)، و بعضٌ آخَرُ يَختَصُّ بوجودِه في بعضِه، فلا يَمتَنِعُ أن يَدُلَّ الدليلُ علىٰ وَجهٍ آخَرَ؛ لأنّ مِثلَ ذلك موقوفٌ علَى الدليلِ .
فأمّا الاستبعادُ لأن يَكونَ عَرَضٌ يوجَدُ في غَيرِ محلٍّ ، فطَريفٌ (2)؛ لأنّ أحكامَ الأعراضِ إنّما تَثبُتُ بالأدلّةِ ، و لا يُقاسُ بعضُها علىٰ بعضٍ ، و [هكذا] كلُّ ما لا يُعلَمُ وجودُه باضطرارٍ.
و بَعدُ، فحُكمُ الأعراضِ مُختَلِفٌ : ففيها ما يَحتاجُ إلىٰ مَحَلٍّ واحدٍ،(3)و مِنها ما يَحتاجُ إلىٰ مَحَلَّينِ ، و مِنها ما يَختَصُّ الجُملةَ ، و مِنها ما يَختَصُّ المَحَلَّ ، و إنِ اشتَرَكَت في أنّها أعراضٌ . فكذلكَ لا يَمتَنِعُ أن يَكونَ فيها ما يوجَدُ لا في مَحَلٍّ .
***
ص: 200
[11] [فَصلٌ ] [فيما يجوز أن يريده تعالىٰ من فعله و فعل غيره] [و ما لا يريده، و ما يتّصل بذلك](1)
اعلَمْ أنّ جميعَ ما فَعَلَه تَعالىٰ لغرضٍ يَخُصُّه يَجِبُ أن يَكونَ مُريداً له. و قد بيّنّا أنّ الإرادةَ لا تَلزَمُ علىٰ هذا(2)؛ لأنّها لا تُفعَلُ لغرضٍ يَخُصُّها. و لأنّها مِن حَيثُ كانَت جهةً للفِعلِ حَلَّت مَحَلَّ الجُزءِ منه، فلا يَجِبُ أن يُجَدَّدَ لها إرادةٌ غَيرُ إرادةِ الفِعلِ .
و أحَدُنا لا يَجوزُ أن يُريدَ المُسَبَّبَ و يُريدَ السببَ ، إذا كانَ غرضُه يَختَصُّ السببَ .
و لا يَجوزُ مثلُ ذلكَ عليه؛ لأنّه لا يَفعَلُ المُسَبَّبَ عن السببِ ، إلّاو في كُلِّ واحدٍ منهما غرضٌ ؛ لأنّه تَعالىٰ قادرٌ علىٰ أن يَفعَلَ جنسَ المُتولِّدِ مُبتَدأً، و علىٰ أن يَفعَلَ السببَ و يَمنَعَ مِن المُسبَّبِ . فإذا جَمَعَ بَينَ الأمرَينِ ، فالغرضُ في كُلِّ واحدٍ منهما.
و يَجِبُ أن يَكونَ تَعالىٰ مُريداً لحُدوثِ كُلِّ جُزءٍ مِن أفعالِه(3)؛ لكَونِه عالِماً
ص: 201
بذلكَ علَى التفصيلِ .
فأمّا وجوهُ الأفعالِ ، فيَجِبُ أن يُنظَرَ فيها، فإن كانَ الوَجهُ يَقَعُ عليه كُلُّ جُزءٍ مِن الفِعلِ - كالنعمةِ و الثوابِ و ما جَرىٰ مَجراهما - وجبَ أن يُريدَ إحداثَ كُلِّ جُزءٍ علىٰ هذا الوَجهِ .
و إن كانَتِ الجُملةُ هي التي تَختَصُّ بالوقوعِ علىٰ ذلكَ الوَجهِ ؛ نَحوُ كَونِ الكلامِ خبراً، أرادَ فيها ذلكَ دونَ أجزائها.
و لا يَجوزُ أن يَكرَهَ تَعالىٰ شيئاً مِن أفعالِه؛ لأنّ كَراهةَ ذلكَ عَبَثٌ لا فائدةَ فيه.
و أحَدُنا إنّما يَحسُنُ منه أن يَكرَهَ بعضَ أفعالِه؛ لِيَصرِفَ نفسَه بذلكَ عن الفِعلِ ، و ليُوَطِّنَ نفسَه علىٰ أن لا يَفعَلَه، و كُلُّ ذلك لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ .
فأمّا (212) الذي يُريدُه مِن فِعلِ غَيرِه، فجُملَتُه أنّه يُريدُ تَعالىٰ مِن ذلكَ ما له تَعلُّقٌ بفِعلِه أو المُستَحَقِّ عليه، فجميعُ الطاعاتِ هو تَعالىٰ مُريدٌ لها؛ لأنّه أمَرَ بها و رَغَّبَ في فِعلِها.
و أمّا إلجاءُ غَيرِه: يَجِبُ أن يكونَ مُريداً له؛ لتعلُّقِه بفِعلِه الذي هو الإلجاءُ .
و يَجِبُ أن يَكونَ كارهاً للمعاصي؛ مِن حيثُ نَهىٰ عنها.
فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّه مُريدٌ لِما أمَرَ به.
قُلنا: قد بيّنّا أنّ ما يُوجَدُ فيَكونُ أمراً يَجوزُ وجودُه(1) فلا يَكونَ أمراً، و أنّ المؤثِّرَ
ص: 202
في كَونِه كذلكَ كَونُ فاعلِه مُريداً دونَ سائرِ أحوالِه. فلَيسَ يَخلُو مِن أن يَفتَقِرَ في كَونِه أمراً إلىٰ إرادةِ المأمورِ، أو إرادةِ كَونِه أمراً.
و الثاني يَبطُلُ بأنّه كانَ لا يَمتَنِعُ أن نأمُرَ بما نَكرَهُه(1)، و إن أرَدنا كَونَ اللفظِ أمراً به؛ و المعلومُ خِلافُ ذلكَ . و كانَ يَجِبُ أيضاً [أن] لا تَقِفَ صحّةُ الأمرِ علىٰ ما يَصِحُّ حُدوثُه، كما لا يَقِفُ الخبرُ علىٰ ما يَصِحُّ حُدوثُه. و في وقوفِه علىٰ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّه مُفتَقِرٌ إلىٰ إرادَةِ الحُدوثِ ، بخِلافِ الخبرِ.
و الكلامُ في النهيِ ، و افتقارِه إلىٰ كَراهةِ ما تَناوَلَه، يَجري علىٰ ما ذَكَرنا.
و أمّا ما يُريدُه لتعلُّقِه بالمُستَحَقِّ عليه، فنَحوُ ما يُريدُه مِن أكلِ أهلِ الجَنّةِ و تَنَعُّمِهم؛ لأنّ بذلكَ يَكمُلُ ثَوابُهم و يَعظُمُ سُرورُهم.
فأمّا المُباحاتُ مِن أفعالِ العِبادِ: فلا يَجوزُ أن يُريدَها(2)؛ لأنّ إرادَتَها عَبَثٌ ، و لا تَعلُّقَ لها بفِعلِه و لا بالمُستَحَقِّ عليه.
فإن قيلَ : فما الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يُريدُ المَعاصيَ و جَميعَ القبائح(3)، علىٰ ما ذهبَ إليه مُخالِفُكُم ؟
قُلنا: يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّ إرادةَ القَبيحِ قَبيحةٌ ؛ بدَلالةِ أنّ كُلَّ مَن عَلِمَها كذلكَ عَلِمَ قُبحَها إذا زالَ اللَّبسُ ، كما أنّ كُلَّ مَن عَلِمَ كَونَ الفِعلِ ظُلماً عَلِمَ قُبحَه إذا زالَ اللَّبسُ .
و لا اعتراضَ بخِلافِ المُجبِرةِ ؛ فإنّهم إنّما اعتَقَدوا أنّها تَحسُنُ مِن اللّٰهِ تَعالىٰ ؛
ص: 203
لجَهلِهم بوَجهِ قُبحِها في الشاهدِ، و ظَنِّهم أنّ القُبحَ (1) يَتعلَّقُ بأحوالِ فاعلِها(2) - نَحوُ كَونِه مُحدَثاً مربوباً - و للنهيِ ، كما اعتَقَدوا مِثلَ ذلكَ في الظُّلمِ .
و قد تَقدَّمَ إفسادُنا لهذه الطريقةِ (3)، و أنّ أحوالَ الفاعلِ لا تُؤَثِّرُ(4) في قُبحِ الفِعلِ و لا حُسنِه، و أنّ المُعتَبَرَ بالوجوهِ التي يَقَعُ (5) عليها الأفعالُ .
[و] كما أنّ خِلافَهم لَم يؤَثِّرْ في أنّ الظُّلمَ إنّما قَبُحَ لكَونِه بهذه الصفةِ ، فكذلكَ خِلافُهم في قُبحِ إرادةِ القَبيحِ ، و ما يَزولُ به اللَّبسُ عن الجميعِ واحدٌ.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً على قُبحِها: أنّ الأمرَ بالقَبيحِ قَبيحٌ بلا شُبهةٍ ، و المُدخِلُ للأمرِ في أن يَكونَ أمراً هو الإرادةُ ، و لَولاها لَم يَكُن أمراً. و كَونُه أمراً جهةُ القبح(6)، فما أثَّرَ فيه يَجِبُ لا محَالةَ قُبحُه.
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا قُبحُ القُدرةِ علَى القَبيحِ ؛ لأنّها لا تؤَثِّرُ في وَجهِ القُبحِ .
و لا يَلزَمُ أيضاً قُبحُ ما لَولاه لَم تحصُلِ الإرادةُ ؛ مِن العِلمِ و الاعتقادِ؛ لأنّ ذلكَ غَيرُ مؤَثِّرٍ في قُبحِ الإرادةِ .
و بمِثلِ ذلك نُجيبُ مَن ألزَمَ علىٰ ما ذَكَرناه قُبحَ كُلِّ ما [لا] يَتِمُّ الأمرُ و الخبرُ القَبيحانِ إلّابه؛ مِن اعتقادِ المُخبِرِ عنه و العِلمِ بالمُواضَعةِ و نَحوِها؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ لَم يؤَثِّرْ في جهةِ القُبحِ ، و فيما له كانَ القَبيحُ قَبيحاً.
ص: 204
و ممّا يَدلُّ أيضاً علىٰ أنّه لا يُريدُ المَعاصيَ و القَبائِح: أنّه قد ثَبَتَ بلا خِلافٍ نهيُه عن جميعِها، و تهديدُ مَن فَعَلَها. و النهيُ - علىٰ ما تَقدَّمَ (1) - يَقتَضي كَراهةَ المَنهيِّ عنه، و بذلكَ كانَ نَهياً - علَى الحَدِّ الذي بيّنّا في الأمرِ أنّه يَكونُ أمراً [لإرادةِ المأمورِ به](2) -. و إذا ثَبَتَ أنّه يَكرَهُها استَحالَ كَونُه مريداً لها.
و ممّا يُعتَمَدُ علىٰ طريقِ التأكيدِ للأدلّةِ (3) المُتقدِّمةِ : أنّه لَو جازَ أن يُريدَ القَبائحَ ، لَجازَ أن يُحِبَّها و يَرضاها؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ المَحَبّةَ و الرِّضا يَرجِعانِ إلىٰ معنَى الإرادةِ (4).
و لَيسَ بمُسلِمٍ مَن أطلقَ أنّ رَبَّه تَعالىٰ يَرضىٰ أن يُشتَمَ و يُفتَرىٰ عليه و يُكَذَّبَ أنبياؤه عليهم السلام.
(213) و قد وَرد(5) السمعُ مؤكِّداً لِما في العقلِ (6) في قولِه تَعالىٰ : «وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ»(7) ، «وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعٰالَمِينَ »(8) ، و قولِه: «كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً»(9) ، و قولِه - جَلَّ و عَزَّ -: «يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ»(10) و لا شيءَ أعسَرُ مِن الكُفرِ و ما أدّىٰ إلَى العذابِ الدائمِ .
ص: 205
و قولُه تَعالىٰ : «وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ »(1) يَدلُّ علىٰ أنّه قد أرادَ مِن الجميعِ العِبادةَ ، و إن كانَ فيهِم مَن لَم يُؤمِنْ ؛ لأنّ اللامَ في «لِيَعْبُدُونِ » هي لامُ الغرضِ ؛ بمنزلةِ قولِ القائلِ : «ما دَخَلتُ إليكَ إلّالِتُكرِمَني».
و مُقتَضىٰ ما وَرَدَ به السمعُ في هذا البابِ يطولُ .
و اعلَمْ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يُريدَ شيئاً مِن فِعلِ غَيرِ المُكَلَّفِ ؛ مِن البهائمِ و مَن جَرىٰ مَجراها مِن الإنسِ ؛ لأنّ إرادةَ ذلكَ عَبَثٌ ، و يَجري في القُبحِ مَجرىٰ إرادةِ المُباحِ . و لهذه أيضاً لا يَكرَهُه، و إن كانَ في جُملةِ أفعالِهم ما هو قَبيحٌ .
و قد قيلَ (2): إنّه مَتى عَلِمَ أنّ لُطفاً يَتعلَّقُ بهذه الكَراهةِ حَسُنَت(3)؛ و ذلكَ بأن يَعلَمَ تَعالىٰ أنّه مَتىٰ أعلَمَ بعضَ المُكَلَّفينَ أو جَميعَهم أنّه يَكرَهُ القَبائحَ مِن البَهائمِ ، صَلَحوا في التكليفِ .
و اعلَمْ أنّ جميعَ أفعالِه المُبتَدَأةِ إنّما يُريدُها في حالِ حُدوثِها. فأمّا المتولِّداتُ فعلىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: يوجَدُ مع السببِ ، و هذا لا شَكَّ في أنّ إرادَتَه تُقارِنُه.
و الضربُ الآخَرُ: لا يُقارِنُ السببَ ، و هو على ضَربَينِ :
مُتعَقِّبٌ لسببِه، و مُتَراخٍ عنه.
ص: 206
فالمُتَعقِّبُ الأولى فيه أن تُقارِنَ (1) الإرادةُ لسببِه؛ لأنّه كالموجودِ في تلكَ الحالِ ، فالإرادةُ كأنّها مُقارِنةٌ له، و يَجري مَجرىٰ مُقارَنةِ الإرادةِ لأوّلِ جُزءٍ مِن الخبرِ.
فأمّا المُتَراخي، فإنّه بتَراخيهِ و انفصالِه عن السببِ يَجري مَجرَى المُبتَدَإ، فلا بُدَّ مِن مُقارَنةِ الإرادةِ له لتؤَثِّرَ(2) فيه. و علىٰ هذا يَصِحُّ القولُ بأنّه تَعالىٰ لا يُريدُ فِعلَ الثوابِ ممَّن أطاعَ قَبلَ أحوالِ فِعلِ الثوابِ .
و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ تَعالىٰ غَيرَ مُعَرِّضٍ للثوابِ ، و أن لا يَكونَ لقولِنا:
«إنّه تَعالىٰ كَلَّفَ ليُثيبَ » معنىً .
و ذلكَ أنّ التعريضَ يَكفي فيه أن يُريدَ مِن المُكلَّفِ الطاعةَ التي يَستَحِقُّ بها الثوابَ ، مع العِلمِ بأنّه يُثيبُه إذا أطاعَ ، و جَعلُهُ علىٰ صفاتِ المُكلَّفينَ . و معنىٰ قولِنا:
«كَلَّفَه ليُثيبَه» أنّه جَعَلَه علىٰ صفاتِ المُكلَّفِ ليَفعَلَ (3) ما أرادَه مِنه مِن الطاعةِ التي يَستَحِقُّ بها الثوابَ .
فأمّا ما يُريدُه تَعالىٰ مِن المُكَلَّفينَ ، فإنّما يُريدُه قَبلَ حالِ الفِعلِ ؛ لأنّ المُقتَضيَ لكَونِه مُريداً لذلكَ كَونُه مُكلِّفا و آمِراً و ناصِباً للأدلّةِ ، و كُلُّ ذلكَ يَقتَضي تَقدُّمَ كَونِه مُريداً. و كذلكَ القولُ فيما يَكرَهُه مِن أفعالِ العِبادِ أنّه يَجِبُ تَقدُّمُه.
و قد قيلَ : إنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَكرَهَ تَعالىٰ مِنهم القَبيحَ في حالِ وجودِه، و كذلك
يُريدُ مِنهم الفِعلَ في حالِ وجودِه؛ إذا عَلِمَ أنّ فيه لُطفاً. و علىٰ هذا القولِ يَجوزُ
ص: 207
أيضاً أن تَتقدَّمَ (1) إرادَتُه تَعالىٰ لأفعالِ نفسِه علىٰ مُرادِها؛ إذا عَلِمَ أنّ في إخبارِ المُكلَّفِ بذلكَ مِن حالِها مَصلَحةً و لُطفاً.
و هذه جملةٌ كافيةٌ .
***
[1.] قالوا: لَو جازَ أن يَقَعَ مِن العِبادِ ما لا يُريدُه، لَدَلَّ ذلكَ علىٰ ضَعفِه، و علىٰ أنّه مقهورٌ مغلوبٌ ؛ قياساً علَى الشاهدِ في هذا البابِ .
[2.] و تَعلَّقُوا أيضاً بأنّه لَو جازَ أن يُريدَ مِن غَيرِه ما لا يَقَعُ ، لَجازَ أن يُريدَ مِن فِعلِ نفسِه ما لا يوجَدُ. و الذي يُفسِدُ الأمرَينِ واحدٌ.
[3.] و تَعلَّقوا بأنّه تَعالىٰ لَو كانَ كارهاً للمَعاصي، لَوجبَ أن يَكونَ مَن يَفعَلُها مُكرِهاً له؛ لأنّه مُرضٍ له بفِعلِ ما يَرضاه، و مُسخِطٌ له (214) بفِعلِ ما يَسخَطُه.
[4.] و تَعلَّقوا بأنّه تَعالىٰ لَو كانَ كارهاً للمَعاصي، لَكانَ آبِياً لها، و لَوجبَ أن يَكونَ العاصي فاعلاً للمعصيةِ ؛ شاءَها اللّٰهُ تَعالىٰ أم أباها. و هذه علامةُ الضَّعفِ .
[5.] و تَعلَّقوا بأنّه تَعالىٰ يُريدُ مِنّا جِهادَ المُشرِكينَ و قِتالَهم، و لا يَتِمُّ ذلكَ إلّا بوقوعِ المُقاتَلةِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ مُريداً لها؛ لأنّ ما لا يَتِمُّ المُرادُ إلّابه يَجِبُ أن يَكونَ مُراداً. و إذا أرادَ قِتالَهم المُسلِمينَ فقَد أرادَ المَعصيةَ .
ص: 208
[6.] و تَعلَّقوا: بقَولِه تَعالىٰ : «لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ »(1) . قالوا: و إطلاقُ هذا القولِ يَقتَضي أنّا لا نَشاءُ شيئاً إلّا و اللّٰهُ مُريدٌ له، و لَم يَخُصَّ كُفراً مِن إيمانٍ ، و لا حَسَناً مِن قَبيحٍ ، و لا [معصيةً مِن طاعةٍ ](2).
[7.] [و] تَعلَّقوا بإطلاقِ الأُمّةِ القولَ (3) بأنّ «ما شاءَ اللّٰهُ كانَ ، و ما لَم يَشَأ لَم يَكُن».
[8.] و تَعَلّقوا بأنّ مَن قالَ لغَيرِه: «و اللّٰهِ لأَُعطيَنَّكَ حَقَّكَ غَداً إن شاءَ اللّٰهُ » ثُمّ لَم يَفعَلْ ، لا خِلافَ أنّه لا يَكونُ حانِثاً. و لَو كانَ اللّٰهُ تَعالىٰ يُريدُ جَميعَ الطاعاتِ و الواجباتِ كما تَقُولونَ ، لَكانَ شائياً مِن هذا قَضاءَ الدَّينِ إذا كانَ مُتمكِّناً مِنه، و كانَ يَجِبُ كَونُه حانِثاً.
الكلامُ علىٰ ذلكَ : يُقالُ لهم فيما تَعلَّقوا به أوّلاً:
[1.] إنّكم لَم تَزيدُوا(4) علَى الدَّعوىٰ ، و ما تَرجِعونَ إليه مِن الشاهدِ في هذا البابِ غَيرُ مُسَلَّمٍ ؛ لا حُكماً و لا اعتلالاً؛ لأنّ لَيسَ كُلُّ مَن أرادَ في الشاهدِ مِن غَيرِه ما لَم يَقَعْ يَدُلُّ علىٰ ضَعفِه، و في المَوضِعِ الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ لَيسَ العِلّةُ أنّ مُرادَه لَم يَقَعْ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ ما ذَكَرناه: أنّ المَلِكَ مَتىٰ أرادَ مِن رَعيّتِه ما يَعودُ عليهم نَفعُه،
ص: 209
و لا يَتعلَّقُ بشيءٍ (1) مِن أفعالِه، أن يَفعَلوه طَوعاً و اختياراً؛ مِثلَ أن يُريدَ منهم الصلاةَ بالليلِ ، و التصَدُّقَ بشَيءٍ مِن أموالِهم، فإنّ ارتفاعَ ذلكَ لا يَدُلُّ علىٰ ضَعفِه و لا نَقصِه، و هذا معلومٌ ضَرورةً . و إنّما يَدُلُّ علىٰ ضَعفِه أو نَقصِه أن يُريدَ مِنهم ما يَعودُ عليه نَفعُه؛ مِثلَ أن يُحارِبوا عَدُوّاً قد أَظَلَّ عليه و خَشيَ غايةَ الضررِ منه، فهو مُستَضِرٌّ بارتفاعِ هذه المُحارَبةِ و المُدافَعةِ ، فيَدُلُّ (2) ذلكَ علىٰ ضَعفِه؛ مِن حَيثُ كانَ لا يَفي بدَفعِ ذلكَ بنفسِه(3). و لأنّه أيضاً مع تَوقُّعِ الضررِ و تَوقُّفِه، لا بُدَّ أن يُريدَ مِنهم علىٰ وَجهِ الإكراهِ أن يَنصُروه و يُدافِعوا عنه، و إذا لَم يَقَعْ ذلكَ دَلَّ علىٰ أنّ ما به يَكونونَ مُكرَهينَ ، لا يَتمكَّنُ مِنه و لا يَقدِرُ عليه، فيَدُلُّ علىٰ ضَعفِه، و نَقصِه.
و مَن حَمَلَ نَفسَه علىٰ «أنّ المَلِكَ القاهِرَ العَظيمَ السُّلطانَ ، متىٰ أرادَ مِنَ الذِّمِّيِّ المكفُوفِ الضعيفِ الاختلافَ إلىٰ مَساجِدِ المُسلِمينَ ، فوَقَعَ مِنه الاختلافُ إلَى البِيعةِ و الكَنيسةِ ، فإنّ المَلِكَ يَضعُفُ بذلكَ و يَلحَقُه نَقصٌ » قد خَرَجَ عن حَدِّ المُناظَرةِ إلَى المُعانَدةِ .
و متى قيلَ له: أَبِنْ لنا: أيُّ ضَعفٍ لَحِقَه ؟ و ما تُريدُه بهذه العِبارةِ؟ و أيُّ فَرقٍ بَينَ (4) طاعةِ هذا و معصيتِه، فيما يَرجِعُ إلىٰ أحوالِ المَلِكِ و التأثيرِ فيها؟ لَم يَحصُل إلّا علىٰ عبارةٍ . و كيفَ يَدُلُّ علىٰ ضَعفِ أحَدِنا ما لا تَعلُّقَ له به، و كَونُه ضَعيفاً يَرجِعُ إليه ؟
[2.] و لَو دَلَّ انتفاءُ مُرادِه علىٰ ضَعفِه، لَدَلَّ وقوعُ مُرادِه تَعالىٰ علىٰ قُوَّتِه.
ص: 210
[3.] علىٰ أنّ هذا القولَ يوجِبُ عليهم أن يَكونَ انتفاءُ وقوعِ ما أَمَرَ به يَدُلُّ علىٰ ضَعفِه، كما يَدُلُّ مِثلُ ذلكَ في الشاهدِ. و أيُّ فَرقٍ تَعاطَوه في الفَصلِ بَينَ الغائبِ و الشاهدِ في الأمرِ، أمكَنَ أن يُذكَرَ في الإرادةِ ؛ لأنّ [مُخالَفةَ أحَدِنا](1) للأمرِ في الشاهدِ [إنّما] تَدُلُّ (2) علَى الضَّعفِ مِن حَيثُ ضَمِنَتِ المُخالَفةَ في الإرادةِ ؛ لأنّ أحَدَنا لا (215) يأمُرُ إلّابما يُريدُه. و [لا يُمكنُهم ادّعاءُ ](3) أنَّ القَديمَ تَعالىٰ يأمُرُ بالشيءِ و إن لَم يَكُن مُريداً له؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الأمرَ لا يَكونُ أمراً إلّاو فاعلُه مُريدٌ للمأمورِ به(4)، و أنّه بذلك دَخَلَ في أن يَكونَ آمِراً، فلا فَرقَ بَينَ الغائبِ و الشاهدِ في هذا البابِ .
[4.] علىٰ أنّهم إن جَوَّزوا أن يأمُرَ أحَدُنا بما [لا](5) يُريدُه، قيلَ لهم: أفتَدُلُّ مُخالَفتُه في الأمرِ علىٰ ضَعفِه ؟
فإن التَزَموا ذلك لَزِمَهُم مِثلُه فيما يأمُرُ تَعالىٰ به. و إنِ امتَنَعوا مِن دَلالةِ المُخالَفةِ للأمرِ في الشاهدِ علَى الضَّعفِ ، امتَنَعَ عليهم مِثلُ ذلكَ في الإرادةِ ؛ لأنّ حُكمَ الشاهدِ لا يَختَلِفُ في الأمرَينِ ، بل الحالُ في المُخالَفةِ في الأمرِ أوضَحُ (6).
و إن أحالوا كَونَ أحَدِنا آمِراً في الشاهدِ بما لا يُريدُه، قيلَ لهم: فيَجِبُ أيضاً استحالةُ كَونِه تَعالىٰ آمِراً بما لا يُريدُ؛ لأنّ ما يُحيلُ ذلكَ في بعضِ الآمِرينَ ، يُحيلُه في كُلِّ آمِرٍ.
ص: 211
[5.] و بَعدُ، فإنّ النَبيَّ عليه السلام كانَ يُريدُ الإيمانَ مِن الكُفّارِ، و لَم يَدُلَّ انتفاؤه مِن جهتِهم علىٰ ضَعفِه و غَلَبَتِه و قَهرِه.
[6.] علىٰ أنّ هذا يوجِبُ عليهم أن يَكونَ (1) تَعالىٰ مِن حَيثُ أمَرَ الكُفّارَ بالإيمانِ ، و العُصاةَ بالطاعةِ ، أن يَكونَ آمِراً لهم بأن يَقهَروه و يَغلِبوه. و كذلكَ إذا كانَ تَعالىٰ قادراً علىٰ إقدارِهم علىٰ ذلكَ أن يَكونَ قادراً [علىٰ ] أن يُقدِرَهم علىٰ غَلَبَتِه و قَهرِه، و هذا أوضَحُ فَساداً مِن(2) أن نُكافِيَه(3).
أنّ الوَجهَ الذي مِن أجلِه قُلنا: إنّه متىٰ أرادَ مِن أفعالِه ما لا(4) يَقَعَ لَحِقَه النقصُ ، لا
يَتَأَتّىٰ فيما يُريدُه مِن أفعالِ غَيرِه أن يَفعَلَه(5) علىٰ سَبيلِ الاختيارِ؛ و ذلكَ أنّه متىٰ أرادَ شيئاً و دَعاهُ إليه الداعي، فلا بُدَّ مِن وقوعِه، إلّاأن يَعرِضَ ما لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ؛ مِن فَقدِ قُدرةٍ أو عِلمٍ أو آلةٍ و ما جَرى مَجرَى الآلةِ مِن الوَصلِ إلَى الفِعلِ ، أو لِمَنعِ مَن هو أقدَرُ. و إذا لَم يَجُز عليه تَعالىٰ أحَدُ هذه الأُمورِ التي لأجلِها لا يَقَعُ مراد أحدنا(6) مِن نفسِه، لَم يَجُز أن يُريدَ مِن فِعلِه ما لا يَكونُ .
و لهذا قُلنا: إنّه لَو أرادَ مِن غَيرِه شيئاً علىٰ سَبيلِ الإلجاءِ ، لَدَلَّ ارتفاعُه علىٰ فِعلِ ما يَدُلُّ عليه انتفاءُ ما يُريدُه مِن مقدورِ نفسِه؛ لتَعلُّقِ ذلك بفِعلِه؛ مِن حَيثُ كانَ مَن
ص: 212
قَصَدَ إلىٰ إلجاءِ غَيرِه إلَى الفِعلِ ، لا بُدَّ أن يَفعَلَ ما به يَصيرُ [فعلُ ](1) ذلكَ الغَيرِ مُلجأً إليه. فلَو لَم(2) يَقَعْ ما يُريدُه مِنه علىٰ سَبيلِ الإلجاءِ ، لَكانَ إنّما لا يَقَعُ ؛ لأنّه لَم يَفعَلْ ما يُلجِئُه به إليه. و إنّما لَم يَفعَلْ (3) ما يُلجِئُه إلَى الفِعلِ [الذي هو] مُرادُه لأحَدِ الوجوهِ المُتقدِّمةِ ؛ مِن(4) فَقدِ قُدرةٍ أو ما جَرىٰ مَجراها ممّا يَقتَضي النقصَ ، فلهذا جَرَى انتفاءُ مُرادِه مِن غَيرِه علىٰ سَبيلِ الإلجاءِ ، مَجرَى انتفاءِ مُرادِه مِن نَفسِه، و فارَقَ الأمرانِ جميعاً ما يُريدُه مِن غَيرِه علىٰ سَبيلِ الاختيارِ.
[1.] أنّ المُكرِهَ «مَن أكرَهَ غَيرَه علَى الفِعلِ »، و حَمَلَه علىٰ فِعلِه، و لَيسَ هو «مَن فَعَلَ ما كَرِهَه»، و لهذا لا يَكونونَ (5) الكُفّارُ مُكرِهينَ للنبيّ عليه السلام مِن حَيثُ فَعَلوا مِن الكُفرِ ما كَرِهَه، و لا مُكرِهينَ للمؤمِنينَ .
[2.] و العِباراتُ و الأسماءُ لا مَدخَلَ للقياسِ فيها، فلا يَجِبُ حَملُ مُكرِهٍ علىٰ مُسخِطٍ و مُرضٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لَم يُعَلِّقوا علىٰ «مَن أرادَ شيئاً مِن غَيرِه ففَعَلَه» وَصفاً(6)، كما عَلَّقوا (216) عَلىٰ مَن سَخِطَ شيئاً أو رَضِيَه. و لو حَمَلَ الحامِلُ
ص: 213
الكَراهيةَ في هذا البابِ على الإرادةِ لَكانَ أَولىٰ (1).
[3.] علىٰ أنّه يَلزَمُهم ما قَدَّمناه(2)؛ مِن كَونِه آمِراً للكُفّارِ بإِكراهِهِ إذا كانَ آمِراً لهم بالإيمانِ الذي يَكرَهُه علىٰ مَذاهبِهم.
أنّ الإباءَ ليسَ من الكَراهةِ في شيءٍ ، و إنّما المُرادُ به المَنعُ و الامتناعُ ، و لهذا تَمدَّحُ العَرَبُ الرَّجُلَ بأنّه أبِيُّ (3) الضَّيمِ ، و قالَ الشاعرُ:
و إنْ أرادُوا ظُلْمَنا أبَيناه *** ......................(4)
و لا مِدحةَ في كَراهةِ الظُّلمِ و نَفيِ الإرادةِ له؛ لأنّ الضعيفَ و العاجِزَ بهذه المَثابةِ ، و إنّما أرادوا بذلك المَنعَ .
و إنّما أشكَلَ أحَدُ الأمرَينِ بالآخَرِ؛ مِن حَيثُ كانَ مَن يأبَى(5) الشيءَ و يَمتَنِعُ منه أو يَمنَعُ ، لا بُدَّ مِن أنْ يَكونَ كارهاً. و القَديمُ تَعالىٰ و إن كَرِهَ المَعاصيَ ، فما مَنَعَ مِنها، فلا يوصَفُ بما يُفيدُ ذلكَ .
أنّ الذي(6) ذَكَرتُموه معلومٌ ضَرورةً خِلافُه؛ لأنّ النبيَّ عليه السلام كانَ يُريدُ
ص: 214
جِهادَ الكُفّارِ و إن لَم يُرِد وقوعَ المُنكرِ(1)، و أحَدُنا يُريدُ اغتسالَ الزاني مِن الجَنابةِ و إن لَم يُرِد ما يوجِبُ ذلكَ ، و كذلكَ يُريدُ إيقاعَ الحَدِّ بِمَن(2) يستَحِقُّه و إن لَم يُرِد ما يوجِبُ الحَدَّ. و إذا جازَ أن يَكونَ أحَدُنا يُريدُ المُسَبَّبَ إذا خَصَّه الغرضُ (3) علىٰ بعضِ الوجوهِ و إن لم يُرِد سببَه، فأَولىٰ أن لا تَجِبَ إرادتُه لِما لَيسَ بسببٍ ممّا يَحصُلُ عندَه مُرادُه.
[1.] أنّ قولَه تَعالىٰ : «وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ »(4) * راجعٌ إلى ما تَقدَّمَ مِن قولِه: «لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ »(5) ، فكأنّه تَعالىٰ قالَ : «و ما تَشاءُونَ الاستقامةَ إلّا أن يَشاءَ اللّٰهُ ». و إنّما وجبَ رَدُّه إلىٰ ذلكَ ؛ لأنّه غَيرُ مُستَقِلٍّ بنفسِه، و ما تَعلَّقَت به المَشيّةُ غَيرُ مُصرَّحٍ به، فإذا تَقدَّمَ ما يُمكِنُ تعليقُه به كانَ أَولىٰ .
[2.] علىٰ أنّ ذلكَ لو لَم يَجِبْ لَحَمَلنا الآيةَ علَى الطاعاتِ دونَ المَعاصي؛ للأدلّةِ المُتقدِّمةِ .
[1.] أنّ إجماعَ الأُمّةِ علىٰ إطلاقِ القولِ الذي ذَكَروه غَيرُ مُسَلَّمٍ ، و معلومٌ أنّ أهلَ العَدلِ لا يُطلِقونَ ذلكَ ، كما لا يُطلِقونَ «أنّ كُلَّ شيءٍ بقَضاءِ اللّٰهِ و قَدَرِه» و إنّما
ص: 215
يُطلِقُ ما جَرىٰ هذا المَجرَى العامّةُ ، و مَن لا يَعرِفُ ما يأتي و يَذَرُ.
[2.] و مَن أطلَقَ ذلكَ فهو يُطلِقُ (1) القولَ بأنّ كُلَّ شيءٍ بإذنِ اللّٰهِ و أمرِه، و أنّه لا مَردَّ [إلّا] إليه، فيَجِبُ أن يُحتَجَّ بذلكَ في أنّه لَم يأمُرِ الكُفّارَ بالإيمانِ ، و أنّ الكُفرَ ممّا أمَرَ به.
[3.] و مِنَ الظاهرِ علىٰ لِسانِ الأُمّةِ قولُهم: «نَستَغفِرُ اللّٰهَ مِن جَميعِ ما كَرِهَ اللّٰهُ (2)»، و الاستغفارُ لا يَكونُ إلّامِن الواقعِ ، و هذا يَقتضي أنّه تَعالىٰ قد كَرِهَ بعضَ ما وَقَعَ مِنهم.
و مِن دُعاءِ الأُمّةِ قولُها أيضاً: «اللّهُمّ انقُلنا ممّا تَكرَهُ إلىٰ ما تُحِبُّ ».
فإن قيلَ : فما المَعنىٰ في قولِهم: «ما شاءَ اللّٰهُ كانَ » إذا سَلَّمتُموه ؟
قُلنا: المُرادُ بذلكَ : «ما شاءَ مِن(3) أفعالِه كانَ ، و ما لَم يَشأْهُ مِن أفعالِه التي ليسَت بإرادةٍ لَم يَكُن»؛ لأنّ هذا القولَ لَيسَ بأكثَرَ مِن القُرآنِ الذي يَجوزُ تخصيصُه بالأدلّةِ .
و قد يَجوزُ حَملُهُ (4) أيضاً علىٰ «أنّ ما شاءَه و ألجَأَ إليه كانَ ، و ما لَم يَشَأْهُ و مَنَعَ منه لَم يَكُن».
علىٰ أنّهم (217) يَعدِلُون عن ظاهرِ هذا القَولِ علىٰ مَذاهِبِهم؛ لأنّهم يَذهَبونَ إلىٰ أنّه تَعالىٰ «يَشاءُ ما لا يَكونُ ، أن لا يَكونَ ». فقَد شاءَ علىٰ هذا ما لَم يَكُن، و تَرَكوا الظاهِرَ.
ص: 216
فإن قالوا: نَحمِلُه علىٰ أنّ ما شاءَ كَونَه [كانَ (1)].
قلنا: و نَحْمِلُه علىٰ ما شاءَه مِن أفعالِه.
[1.] أنّ مَشيّةَ اللّٰهِ تَعالىٰ لقَضاءِ الدَّينِ عندَنا مُتقدِّمةٌ ، و إنّما توجَدُ(2) عندَ الأمرِ مِنه تَعالىٰ بالقَضاءِ . و قولُه: «إن شاءَ اللّٰهُ » يَقتَضي إرادةً مُتجدِّدةً مُستَقبَلةً ، فلا يَلزَمُ علىٰ مَذهَبِنا أن يَكونَ حانِثاً. و لَو قالَ : «و اللّٰهِ لَأَقضيَنَّ الدَّينَ إن كانَ اللّٰهُ قد شاءَ ذلكَ » حَنَثَ مَتىٰ لَم يَقضِه.
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ في هذا التفصيلِ خِلافُ جميعِ الفُقَهاءِ ؛ لأنّهم لا نَصَّ عندَهم في ذلكَ .
[2.] و الغرضُ في تعقيبِ الأيمانِ و ما أشبَهَها(3) بذِكرِ المَشِيَّةِ ، هو قَطعُ لُزومِ الكلامِ ، و جَعلُه موقوفاً غَيرَ نافِذِ الحُكمِ ؛ فكأنّه بعُرفِ الشرعِ صارَ أمارةً علىٰ ما ذَكَرناه مِن زَوالِ حُكمِ اليَمينِ .
و الذي يُبيِّنُ ذلكَ ، أنّ المَشيّةَ قد تَدخُلُ في اليَمينِ علَى الماضي، و معلومٌ أنّ الشرطَ المُتجدِّدَ لا يَجوزُ أن يُعلَّقَ به أمرٌ ماضٍ (4)، و لهذا لا يُقالُ : «دَخَلَ زيدٌ الدارَ أمسِ إن كانَ كذا و كذا مُستَقبَلاً». فعُلِمَ أنّ المَشيّةَ لَم يُرَد بها الشرطُ، و إنّما تُفيدُ ما ذَكَرناه مِن التوقُّفِ ، و قَطعِ لُزومِ حُكمِ الكلامِ .
ص: 217
[3.] و قد حُكِيَ عن أبي عَليٍّ (1) أنّه كان يَقولُ : إنّ الحالِفَ علىٰ هذا الوَجهِ إنّما لَم يَحنَثْ ؛ لأنّه يُحتَمَلُ أن يُريدَ «إن شاءَ أن يُمَكِّنَني و لا يَمنَعَني، أو يَلطُفَ (2) لي في الفِعلِ »(3) و لا يَمتَنِعُ أن لا يَكونَ لُطفٌ في الفعلِ ، فلا يَحصُلَ الشرطُ، فلهذا لم يَكُن حانثاً. و لَو أنّه قالَ بَعدَ اليَمينِ : «إن كانَ اللّٰهُ قد شاءَ منّي نَفسَ الفِعلِ » الذي هو قَضاءُ الدَّينِ ، لَوجبَ أن يَكونَ حانِثاً إذا لَم يَقضِه. و كُلُّ هذا بَيِّنٌ .
ص: 218
و غَيرِهما مِن الحروفِ ، و قد يَنقَطِعُ علىٰ [وَجهٍ ] غَيرِ مُتميِّزٍ؛ كصَريرِ البابِ و ما أشبَهَه.
و قد تَحدُثُ (1) هذه الحُروفُ مُنفَصِلاً بعضُها مِن بَعضٍ ، و قد يَتَوالىٰ حُدوثُها فتوصَفُ (2) عندَ التوالي بأنّها مُنظَّمةٌ و مُتألِّفةٌ ؛ يُفادُ بذلكَ تقدُّمُ حُدوثِها و تأخُّرهُ .
و إذا كانَت هذه الجُملةُ مفصولةً (3). فالكلامُ : «ما انتَظَمَ مِن حَرفَينِ فصاعِداً مِن(4)هذهِ الحُروفِ المعقولةِ (5)». و لا بُدَّ مِنِ اشتراطِ وقوعِه ممّن تَصِحُّ منه أو مِن قَبيلِه الإفادةُ .
و إنّما شَرَطنا «الانتظامَ »؛ لأنّه لَو أتىٰ بحَرفٍ ثُمّ أتىٰ بَعدَه بزَمانٍ متأخِّرٍ(6) حَرفاً آخَرَ، لَم يوصَفْ فِعلُه بأنّه كلامٌ .
و ذَكَرنا «الحُروفَ المعقُولةَ »؛ لِما قَدَّمناه(7) مِن أنّ أصواتَ بعضِ الجَماداتِ رُبَّما تَقطَّعَت علىٰ وجهٍ يُلَبَّسُ بالحُروفِ ، إلّاأنّها لا تَتميَّزُ و تَنفَصِلُ فَصلَ الحُروفِ التي ذَكَرناها.
و قولُنا: «حَرفٌ » و إن كانَ [مِن] الأسماءِ المُشتَرَكةِ (8)، فرُبَّما عُبِّرَ به عن «طَرَفِ الشيءِ و جانِبِه»، و النحوِيّونَ يُعَبِّرونَ به عنِ «الداخِلِ علَى الجُمَلِ المُفيدةِ لِيُعيِّنَ (9)
ص: 220
فَوائدَها»، و يُشيرونَ بذلكَ إلىٰ ما هو عندَنا كلامٌ و مُركَّبٌ (218) مِن أكثَرَ مِن حَرفٍ واحدٍ، فمُرادُنا بهذه اللفظةِ هو «ما(1) نُشيرُ به إلى ما نَعقِلُه مِن النَّغمةِ أو الغُنّةِ (2)المسموعةِ المُتميِّزةِ ».
و إنّما اشتَرَطنا وقوعَ ذلك ممّن يَصِحُّ الإفادةُ مِنه أو مِن قَبيلِه؛ لئلّا يَلزَمَ أن
يَكونَ ما يُسمَعُ مِن بعضِ الطُّيورِ - مِن الحُروفِ المُنتَظِمةِ نِظامَ الكَلامِ ، كالبَبَّغاءِ و غَيرِها - كلاماً.
و ذَكَرنا القَبيلَ دونَ الشَّخصِ ؛ لأنّ ما يُسمَعُ مِن المَجنونِ أو المُبَرسَمِ (3) يوصَفُ بأنّه كلامٌ ، و إن لَم تَصِحَّ (4) منه الفائدةُ و هو علىٰ ما هو عليه، لكنّها تَصِحُّ (5) في القَبيلِ ، و لَيسَ كذلكَ الطائرُ(6).
و الذي يَدُلُّ علىٰ صحّةِ هذا الحَدِّ: أنّه متىٰ تَكامَلَت شُروطُه صَحَّ مع ذلك الوصفُ بالكلامِ ، و متى اختَلَّ بعضُ الشُّروطِ لَم يوصَفْ بذلكَ .
فإن قيلَ : يَلزَمُ علىٰ حَدِّكُم أن يَكونَ الأخرَسُ مُتَكلِّماً؛ لأنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَقَعَ منه حَرفانِ مُتَوالِيانِ مِن حُروفِ الشَّفَةِ ؛ نَحوُ «هم» و «بب».
قُلنا: قد أُجيبَ مِن(7) ذلكَ بأنِ احتُرِزَ في أصلِ الحَدِّ بأنّ الكلامَ «ما تَألَّفَ مِن
ص: 221
حَرفَينِ مُختَلِفَينِ فصاعداً».
و يُطعَنُ على هذا الجوابِ : أنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَقَعَ مِن الأخرَسِ حَرفانِ مُختَلِفانِ مِن حُروفِ الشَّفَةِ .
و الجَوابُ الصحيحُ : أنّه لا خِلافَ بَينَ أصحابِنا في أنّ الأخرَسَ و العاجِزَ و المَيِّتَ قد يَقَعُ مِنهم أقَلُّ قَليلِ الكلامِ ؛ نَحوُ أن يَفعَلَ أحَدُهم سببَ الكَلامِ ثُمّ تَفسُدَ آلَتُه في الثاني أو يَعجِزَ أو يَموتَ ، فيَكونُ ما يَتولَّدُ في الثاني كلاماً له، و هو مُتَولَّدُ المُتَكلِّمِ إذا كانَ الكلامُ فيما يَحُلُّ آلتَه التي يَفعَلُ الكلامَ بها. فإذا كانَ [صاحبُ ] الكلامِ مُتكلِّماً بما يَحُلُّ آلةَ الكَلامِ ، جازَ أن يَكونَ مُتكلِّماً بالكلامِ الكثيرِ، و بَعدَ الأوقاتِ الكَثيرةِ ؛ مِن حالِ مَوتِه أو عَجزِه أو سُكوتِه؛ و ذلكَ كمَن يَفعَلُ الكلامَ في الصَّدىٰ .
و علىٰ هذا لا يَمتَنِعُ أن يُقالَ في الأخرَسِ : إنّه مُتكلِّمٌ بالحَرفَينِ مِن حُرُوفِ الشَّفَةِ ؛ لأنّ الخَرَسَ لا يَمنَعُ مِن أقَلِّ قَليلِ الكلامِ علىٰ هذا الوَجهِ ، و لا بُدّ مِن تَقييدِ ذلكَ ليَرتَفِعَ به(1) الإبهامُ و اللَّبسُ .
و لا يَقدَحُ في حَدِّنا: قولُهم في الأمرِ: «قِ » و «عِ »؛ فإنّ ذلكَ كلامٌ و مفيدٌ، مع أنّه حَرفٌ واحدٌ.
و ذلكَ : أنّ المنطوقَ به في هذا القولِ حَرفانِ علَى الحقيقةِ ؛ لأنّ الغُنّةَ التي تَقِفُ عليها عندَ السَّكتِ هي حَرفٌ ، و إن لَم يَثبُتْ في الكتابةِ . و النُّطقُ بحَرفٍ واحدٍ لا يُمكِنُ ؛ لأنّه لا بُدَّ مِن الابتداءِ بمُتحرِّكٍ و الوقوفِ علىٰ ساكنٍ .
و هذا الجَوابُ يُغني عمّا أجابَ به أبو هاشمٍ عن ذلك؛ مِن قولِه: إنّ الأصلَ في هاتَينِ اللفظَتَينِ عند الأمرِ بهما «إوقِ » و «إوعِ »، و إنّما وَقَعَ الحَذفُ بضَربٍ مِن
ص: 222
التصرُّفِ (1)، و المحذوفُ مُقدَّرٌ في هذا الكلامِ مُرادٌ، فعادَ الأمرُ إلىٰ أنّ الحَرفَ الواحدَ لَم يُفِد.
و لا يَجوزُ أن يُحَدَّ الكلامُ بأنّه(2) «أصواتٌ مُقطَّعةٌ و حُروفٌ منظومةٌ »(3)؛ لأنّ الحُروفَ لا تَكونُ (4) حُروفاً إلّاو هي أصواتٌ مُقطَّعةٌ ، فذِكرُ الأصواتِ لا معنىٰ له. و لأنّ الكلامَ لا يُبَيَّنُ بكَونِه صَوتاً، و ذِكرُ ما لا يُبيَّنُ في الحَدِّ(5) يَجري مَجرىٰ أن يُذكرَ فيه كَونُه(6)عَرَضاً و مُدرَكاً.
و لا يَجوزُ أن يُشتَرَطَ في حَدِّ الكلامِ كَونُه مفيداً - علىٰ ما مضىٰ (7) في بعضِ كلامِ أبي هاشمٍ (8) -؛ لأنّ أهلَ اللُّغةِ قد قَسَّموا الكلامَ إلى مُهمَلٍ و مُستَعمَلٍ ، فلَم يَسلُبوا ما لا يُفيدُ مِنه اسمَ الكلامِ .
و لأنّ الكلامَ إنّما يُفيدُ بالمُواضَعةِ ، و لَيسَ لها تأثيرٌ في كَونِه كلاماً، كما لا تأثيرَ لها في كَونِه صَوتاً.
ص: 223
و لأنّهم يُسَمّونَ الهَذَيانَ الواقعَ مِن المجنونِ كلاماً مع ارتفاعِ الفائدةِ .
و لا يَجوزُ أن يُحَدَّ الكلامُ بأنّه «[ما] أفادَ مُرادَ المتكلِّمِ »؛ لأنّ ذلكَ يَنتَقِضُ بالإشارةِ و الكِتابةِ ، و العَقدِ بالأصابعِ . و يوجِبُ [أن يكونَ الكلامُ ] المُهمَلُ و كلامُ الهاذي(1) لا يوصَفانِ بأنّهما كلامٌ علَى الحَقيقةِ .
و لا يَجوزُ (219) أن يُحَدَّ الكلامُ بأنّه «ما يوجِبُ كَونَ المُتكلِّمِ متكلِّماً»؛ لأنّه إحالةٌ علىٰ مُبهَمٍ ، و السؤالُ بَعدُ باقٍ ، و متىٰ قيلَ : فهذا الذي يوجِبُ كَونَ المُتكلِّمِ مُتكلِّماً ما هو، و ما جنسُه ؟ لَم يكُن مِن البيانِ بُدٌّ.
و لا يَجوزُ أن يُحَدَّ بأنّه: «ما يَقومُ بذاتِ المُتكلِّمِ »؛ لأنّ ذلكَ إضافةٌ إلى المُتكلِّمِ ، و يَجِبُ أن يُعقَلَ أوّلاً ثُمّ يُضافَ .
[و] علىٰ ذلكَ يَنتَقِضُ بكُلِّ شيءٍ قامَ به؛ مِن العِلمِ و القُدرةِ و الحَياةِ .
و يَنتَقِضُ بالكلامِ الموجودِ في الصَّدىٰ .
و لأنّ الكلامَ في مَوضعٍ مِن المَواضعِ لا يَقومُ بذاتِ المُتكلّمِ ؛ لأنّه يَحُلُّ اللِّسانَ ، و لَيسَ اللِّسانُ هو المُتكلِّمَ .
فإن قيلَ : قد بَنَيتُم كلامَكُم علىٰ أنّ الكلامَ هو: «الصَّوتُ إذا وَقَعَ علىٰ بَعضِ
ص: 224
الوجوهِ »، و أبو عَليٍّ يُخالِفُ في ذلكَ ، و يَذهَبُ إلىٰ أنّ جنسَ الكلامِ يُخالِفُ جنسَ الصَّوتِ (1).
قُلنا: لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما ذَكَرَ أبو عَليٍّ ، و قد عَلِمنا مِن كُلِّ جنسَينِ لا تَعلُّقَ بَينَهما، صحّةَ وجودِ كُلِّ واحدٍ مع فَقدِ الآخَرِ، لَوجبَ أن يَصِحَّ وجودُ الكلامِ عارياً
مِن الأصواتِ المُقطَّعةِ ، أو وجودُ الأصواتِ المُقطَّعةِ عاريةً مِن الكلامِ . و في استحالةِ ذلكَ دليلٌ علىٰ أنّ الجنسَ واحدٌ.
و بهذه الطريقةِ يُعلَمُ أنّ المَحبّةَ هي الإرادةُ ، و أنّ الحركةَ [و] السُّكونَ مِن جنسِ الكونِ . و سَتَسمَعُ الكلامَ في ذلكَ في بابِ «الحِكايةِ و المَحكيِّ » بعَونِ اللّٰهِ (2).
فأمّا الردُّ علىٰ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ الكلامَ «معنىً في النفسِ »، فواضحٌ .
و الذي حَمَلَ القَومَ علىٰ إظهارِ هذا المَذهَبِ الذي لَيسَ بمعقولٍ ، هو ظُهورُ أدلّةِ أهلِ الحَقِّ علىٰ حُدوثِ الكلامِ المعقولِ ، فلَم يَتمكَّنوا مِن الجَمعِ بَينَ : القولِ بقِدَمِ القُرآنِ ، و القولِ بأنّه مِن جنسِ الأصواتِ المُقطَّعةِ ؛ لِتَناقُضِ ذلكَ و ظُهورِ فَسادِه. و لَم يَتمكَّنوا أن يَجعَلوا الكلامَ : في الشاهدِ يَرجِعُ إلىٰ صَوتٍ ، و في الغائبِ يُخالِفُ جنسَ الصَّوتِ ؛ لأنّ الحقائقَ لا تَختَلِفُ . فقالوا في كُلِّ كلامٍ : إنّه غَيرُ الصَّوتِ المسموعِ ، و إنّه معنىً في النفسِ .
و الذي يَدُلُّ على بُطلانِ هذا المَذهَبِ : أنّه لو كانَ الكلامُ معنىً في النفسِ ، زائداً
ص: 225
على المعاني المعقولةِ الموجودةِ في القُلوبِ ؛ مِن العِلمِ و الفِكرِ و الإرادةِ ، لَوجبَ أن يَكونَ إلىٰ مَعرفتِه طريقٌ ؛ مِن ضَرورةٍ أو دليلٍ . و لَو كانَ معلوماً ضَرورةً ، لَاشتَرَكَ (1) العقلاءُ في مَعرفتِه، و لَما حَسُنَ الخِلافُ فيه، و المعلومُ خِلافُ ذلكَ . و لَو كانَ عليه دليلٌ ، لَوجبَ أن يَكونَ مِن ناحيةِ حُكمٍ يَظهَرُ له يُتوصَّلُ به إلىٰ إثباتِه، كما يُتطرَّقُ بأحكامِ سائرِ الذواتِ إلىٰ إثباتِها. و معلومٌ أنّه لا حُكمَ له معقولٌ يُمكِنُ أن يُشارَ إليه في هذا البابِ .
علىٰ أنّه لا فَرقَ بَينَ هذا القائلِ ، و بَينَ مَن أثبَتَ الصَّوتَ «معنىً في النفسِ غَيرَ المَسموعِ المَعقولِ »، و كذلكَ سائرُ أجناسِ الأعراضِ .
فإن قيلَ : هذا الصَّوتُ المسموعُ طريقٌ إلى إثباتِ الكلامِ القائمِ في النفسِ .
قُلنا: لَيسَ يَخلو مِن أن يكونَ طريقاً إليه؛ بأن: يُعلَمَ عندَه، أو يُستَدَلَّ به عليه.
و الأوّلُ يَقتَضي أن يَعلَمَ كُلُّ مَن سَمِعَ الكلامَ الذي هو الصَّوتُ شيئاً آخَرَ عندَه و معه، و معلومٌ خلافُ ذلك.
و إن كانَ دليلاً عليه، فالكلامُ المسموعُ إنّما يَدُلُّ علىٰ ما لَولاه لَما حَدَثَ و هو القُدرةُ ، أو [ما](2) لَولاه لَما وَقَعَ علىٰ بعضِ الوجوهِ و هو العِلمُ و الإرادةُ . و لا دَلالةَ
بَعدَ ذلكَ علىٰ شيءٍ ؛ لنفيِ التعَلُّقِ .
ص: 226
فإن قيلَ : كُلُّ عاقلٍ يَجِدُ في ناحيةِ قَلبِه عندَ الكلامِ أمراً يُطابِقُه، و كذلكَ قد يَرىٰ في نَفسِه ما يُريدُ أن يَتكلَّمَ به قَبلَ وقوعِ الأصواتِ و ظُهورِها مِنه(1).
قُلنا: الأُمورُ التي يَجِدُها الإنسانُ مِن نَفسِه عندَ الكلامِ معقولةٌ ؛ و هي العِلمُ بكيفيّةِ ما يوقِعُه مِن الكلامِ ، أو الظنُّ له، أو إرادةُ ذلكَ ، أو الداعي إلىٰ فِعلِ الكلامِ ، أو الفِكرُ أو الرَّويّةُ في إيقاعِه و كيفيّةِ فِعلِه.
فإن (220) أُشيرَ إلىٰ بَعضِ ما ذَكَرناه بالكلامِ ، صَحَّ المعنىٰ ، و عادَ الخِلافُ إلَى العِبارةِ .
و إن أُريدَ غَيرُه، فلَيسَ يُعقَلُ سِوىٰ ما ذَكَرناه.
علىٰ أنّ أحَدَنا رُبَّما حَدَّثَ نَفسَه بما يُريدُ أن يَلفِظَ به؛ بأن(2) يَفعَلَ حُروفاً خَفيّةً داخلَ صدرِه و يُقَطِّعَها بالنَّفَسِ . و لا يَمتَنِعُ أن يَكونَ الجِنُّ و المَلائكةُ يَسمَعون(3)تلكَ الحُروفَ ، للُطفِ مَسالِكِهم مِنّا و إن لَم نَسمَعْها نَحنُ . و لهذا يَتعذَّرُ علىٰ مَن حُبِسَت أنفاسُه أن يُحَدِّثَ نفسَه كما يَتعذَّرُ عليه الكلامُ المسموعُ ، فهذا هو إدارةُ الكلامِ في النفسِ قَبلَ اللفظِ بها. و ما قَدَّمناه مِن الفِكرِ في إيقاعِه، و ما عَدا ذلكَ لَيسَ بمعقولٍ ، فعَلىٰ مَنِ ادّعاهُ أن يُثبِتَه.
علىٰ أنّ أحَدَنا قد يُحَدِّثُ نَفسَه ببِناءِ دارٍ، أو كَتْبِ رُقْعَةٍ ، فيَنظُرُ(4) أنّها مُصَوَّرةٌ في
ص: 227
نفسِه قَبلَ أن يَفعَلَها، و لا يَجِبُ لذلكَ أن يَكونَ البناءُ أو الكتابةُ معنىً في النفسِ غَيرَ الظاهرِ المعقولِ (1).
فأمّا لَغطُهم(2) بقَولِهم: «في نَفسي كلامٌ » فرَكيكٌ مِن الاحتجاجِ ؛ لأنّه تَوصُّلٌ إلىٰ إثباتِ المَعاني بالعِباراتِ ، و معلومٌ فَسادُ ذلكَ .
علىٰ أنّ المُطلِقَ لهذا القولِ لا يَخلو مِن أن يَكونَ مُطلِقاً له: علىٰ عِلمٍ بأنّ في النفسِ كلاماً، أو عن غَيرِ عِلمٍ . فإن كانَ عن غَيرِ عِلمٍ ، فلا اعتبارَ بقَولِه، و لا حُجّةَ في إطلاقِه. و إن كانَ عن عِلمٍ ، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ : ضَروريّاً، أو مُكتَسَباً بالأدلّةِ . و لَو كانَ ضَروريّاً، لَاشتَرَكنا فيه، و قد بيّنّا أنّا لا نَعلَمُ ما يَدَّعونَه(3). و إن كانَ مُستَدَلاًّ عليه، وجبَ إيرادُ ذلكَ الدليلِ الذي اقتَضىٰ لِمُطلِقِ هذه العِبارةِ العِلمَ (4)؛ فإنّ الحُجّةَ فيه دونَ غَيرِه.
و بَعدُ، فإنّ لقَولِهم: «في نفسي كلامٌ [سأقولُهُ (5)]» وَجهاً صحيحاً، و هو «أنّي عازمٌ
عليه و مُريدٌ له»، أو «عالِمٌ بأمرٍ أُريدُ إلقاءَه إليكَ »، و لهذا لَو بَدَّلوا هذه اللفظةَ ببعضِ ما ذَكَرناه لَقامَت مَقامَها.
علىٰ أنّهم يَقولونَ : «في نفسي سَفَري إلىٰ بلدٍ» و «رُكوبٌ إلىٰ فُلانٍ » و لا شيءَ
ص: 228
مِن الأفعالِ إلّاو يَحسُنُ استعمالُ (1) هذه اللفظةِ فيه علىٰ هذا الوَجهِ ، فوجبَ علىٰ مُقتَضَى استدلالِهم أن يَكونَ ذلكَ أجمَعَ ، مَعانيَ في النفسِ .
فأمّا قولُه تَعالىٰ : «يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ »(2). في الأصل: «دلّ »، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.(3) فإنّما يَقتَضي أنّ قولَهم لَيسَ في قُلوبِهم، و نَحنُ مُتَّفِقونَ علىٰ ذلكَ ، و لا دَلالةَ فيه علىٰ إثباتِ قولٍ لغَيرِهم في القَلبِ ، إلّامِن طريقِ دليلِ (3) الخِطابِ (4)، و لَيسَ بصحيحٍ (5).
علىٰ أنّ المَعنيَ بذلك «أنّهم يُنافِقونَ ، و يُظهِرونَ ما لا يَنطَوونَ علَى العِلمِ بصحّتِه».
فأمّا التعلُّقُ بقَولِهم في الساكِتِ : «إنّه مُتَكلِّمٌ »، فغَيرُ صحيحٍ ؛ لأنّ المُرادَ بذلكَ إمكانُ الكلامِ منه و تَأتّيهِ (6)، أو الإضافةُ [إليه](7) علىٰ طريقِ الحِرفةِ و الصِناعةِ ؛ كما يُقالُ في المُمسِكِ عَن كُلِّ الصِّناعاتِ : «إنّه صانِعٌ و نَجّارٌ»، و يوصَفُ بذلك في حالٍ هو فارغٌ مِن تلكَ الأحوالِ .
ص: 229
فإن قيلَ : الذي يَدُلُّ علىٰ إثباتِ واسطةٍ بَينَ الفِكرِ و العبارةِ ، أنّ أحَدَنا قد يُفَكِّرُ في الدَّلالةِ ثُمّ يَتعذَّرُ عليه العبارةُ عنها حتّىٰ يُدَبِّرَها(1) في نفسِه.
قُلنا: ما أُشيرَ إليه(2) لا يَخلُو: مِن أن يَكونَ فِكراً ثانياً؛ لتَقصيرٍ جَرىٰ في الأوّلِ ، أو(3)يَكونَ فِكراً في تلخيصِ العِبارةِ عن الدَّلالةِ ، أو فِكراً في استحضارِ ما عَلِمَه، و جَمعِ المُنتَشِرِ مِنه إلىٰ خاطرِهِ ، أو يَكونَ بذِكرِ كيفيّةِ استدلالِه، و التذَكُّرُ غَيرُ التفَكُّرِ، أو يَكونَ حَديثَ النفسِ ، الذي بيّنّا(4) أنّه كلامٌ خَفِيٌّ .
و ما عَدا ما ذَكَرناه لا يُعقَلُ و لا يُمكِنُ إثباتُه.
[1.] علىٰ أنّه لَو كانَ الكلامُ معنىً في النفسِ ، لَم يَمنَع مِنه الخَرَسُ و لا السُّكوتُ ، كما لا يَمنَعانِ مِن الإرادةِ و أفعالِ القلوبِ . و معلومٌ تَنافي وَصفِهم للأخرَسِ أو الساكِتِ بأنّه مُتَكلِّمٌ .
[2.] و كانَ أيضاً غَيرُ واجبٍ في هذه العِبارةِ المسموعةِ أن تُطابِقَه؛ لأنّه لا نِسبةَ بَينَهما و لا عُلقةَ ، فكانَ لا يَمتَنِعُ أن يَكونَ مُخبِراً بلِسانِه و إن كانَ آمِراً بقلبِه، و كذلكَ سائرُ أقسامِ الكلامِ .
[3.] و كانَ أيضاً لا يَمتَنِعُ انفصالُهما، فيَكونَ مُعَبِّراً لسائرِ ضُروبِ (221) الكلامِ ،
ص: 230
و إن لَم يَكُن في نفسِه كلامٌ ؛ لأنّه لا تَعلُّقَ بَينَهما يَقتَضي أن لا توجَدَ العِبارةُ إلّامع وجودِ ذلكَ المعنىٰ .
***
[2] فَصلٌ في ذِكرِ جُملةٍ مِن أحوالِ الكلامِ ، و جنسِه الذي هو الصَّوتُ ، و فَحوىٰ (1) أحكامِها
اعلَمْ أن الصَّوتَ عَرَضٌ لَيسَ بجسمٍ ، و لا صفةٍ للجسمِ ، و قد دَلَّلنا علىٰ ذلك في صَدرِ كتابِنا هذا؛ حَيثُ بيّنّا أنّ الجسمَ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُتحيِّزاً(2) بالفاعلِ (3).
و الأصواتُ فيها مُتَماثِلٌ و مُختَلِفٌ .
و منها عندَ أبي هاشمٍ مُتَضادٌّ. و يَعتَمِدُ في ذلكَ علىٰ طريقَتَينِ :
إحداهُما: أن نَحمِلَ الصَّوتَ علَى اللون؛ بعِلّةِ أنّ إدراكَ كُلِّ واحدٍ مِنهما مقصورٌ علىٰ حاسّةٍ واحدةٍ ، و نَقضِيَ بتَضادِّ مُختَلِفِه، كما قُضِيَ بذلك في سائرِ المُدرَكاتِ بحاسّةٍ واحدةٍ (4)؛ مِن الألوانِ و الطُّعومِ و الأراييحِ .
و الطريقةُ الثانيةُ : أنّ الصَّوتَ مُدرَكٌ ، فهو هَيئةٌ للمَحَلِّ ، و إذا أوجبَ (5) مُختَلِفُه
ص: 231
هَيئتَين، استَحالَ اجتماعُهما في المَحَلِّ الواحدِ في الوقتِ الواحدِ إلّاللتضادِّ(1).
و إنّما دَعاه إلى حَملِ الأصواتِ في التضادِّ علَى الألوانِ و ما أشبَهَها(2)؛ لأنّ ما يُتَوصَّلُ به إلَى التضادِّ في الذواتِ لا يُمكِنُ (3) فيها(4)؛ لأنّها ممّا لا يوجِبُ حالاً لحَيٍّ و لا مَحلٍّ ، فيُعلَمَ تَضادُّها بتَنافي المُوجَبِ عنها. و الصَّوتانِ المُختَلِفانِ ليسا ممّا يُعلَمُ و يُقطَعُ علىٰ أنّ مَحَلَّهما واحدٌ، فيُتَطرَّقَ إلىٰ تَضادِّهما بامتناعِ اجتماعِهما في المَحَلِّ الواحدِ، في الوقتِ الواحدِ؛ لأنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ تَغايُرُ مَحالِّ الحُروفِ ، و أن يَكونَ كُلُّ حَرفٍ يَحتاجُ إلى بِنيةٍ مخصوصةٍ .
و فيه نظرٌ. و الأقرَبُ التوقُّفُ في تَضادِّ المُختَلِفِ مِن الأصواتِ .
فأمّا الدليلُ علىٰ أنّ في الأصواتِ مُتَماثِلاً: فهو أنّا قد عَلِمنا اشتباهَ بعضِها ببعضٍ عَلىٰ حاسّةِ الإدراكِ ، و قد مَضىٰ أنّ الإدراكَ يَتعلَّقُ بأخَصِّ أوصافِ المُدرَكِ (5)، و أنّ المُلتَبِسَ علَى الإدراكِ إذا انتَفَتِ الوجوهُ المعقولةُ مُشتَبِهٌ مُتَماثِلٌ .
و بهذه الطريقةِ يُعلَمُ أنّ فيها مُختَلِفاً؛ مِن حَيثُ لَم تَشتَبِهْ (6) علَى الحاسّةِ .
و الصَّوتُ ممّا لا يَجوزُ وجودُه إلّافي مَحَلٍّ .
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ بعضَه قد ثَبَتَ بلا(7) شُبهةٍ أنّه يوجَدُ في المَحَلِّ ؛ بدَلالةِ
ص: 232
تَولُّدِه عنِ اعتمادِ الجسمِ و مُضادَّتِه لغَيرِه.
و لأنّ الصَّوتَ يَختَلِفُ باختلافِ حالِ مَحَلِّه؛ ألا تَرىٰ أنّ ما يَتولَّدُ مِن الصَّوتِ في الطَّستِ ، يُخالِفُ ما يَتولَّدُ في الحَجَرِ؛ لاختلافِ المَحالِّ؟ و إذا ثَبَتَ ذلكَ في البعضِ ، ثَبَتَ في الجميعِ ؛ لأنّ الكُلَّ مُتَّفِقٌ في أنّه لا يوجِبُ حالاً لمَحَلٍّ و لا جُملةٍ .
و إن شِئتَ أن تَحمِلَه بهذه العِلّةِ على الألوانِ جازَ لكَ ذلكَ .
و لَو صَحَّ أنّ (1) في الأصواتِ مُتضادّاً، لَكفى ذلكَ في الدَّلالةِ علَى افتقارِها إلَى المَحَلِّ ؛ لأنّ الدليلَ الدالَّ علىٰ أنّ اللَّونَ (2) يَفتَقِرُ إلَى المَحَلِّ ، و لا يوجَدُ إلّافيه، هو(3) اعتبارُ التضادِّ و التنافي علَى المَحَلِّ ، فتَكونُ الأصواتُ - لَو ظَهَرَ تَضادُّها - مُشارِكةً للألوانِ في الدَّلالةِ علَى الحاجةِ إلَى المَحَلِّ ، فيُستَغنىٰ بحَملِها عليها عن(4)شيءٍ مِن العِلَلِ .
إذا وُجِدَ مع الصَّوتِ ، فأمّا إذا وُجِدَ مكتوباً أو محفوظاً(1) فلَن يَحتاجَ إلىٰ ذلكَ (2).
و الذي يَدُلُّ على نَفيِ حاجتِه إلىٰ غَيرِ مَحَلِّه: أنّه ممّا لا يُوجِبُ حالاً لغَيرِه، فجَرىٰ مَجرَى اللَّونِ في أنّه لا يَحتاجُ إلىٰ سِوىٰ مَحَلِّه.
و لأنّ كُلَّ معنىً احتاجَ إلىٰ غَيرِ مَحَلِّه، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ ممّا يُوجِبُ حالاً للحَيِّ ؛ كالعِلمِ و الإرادةِ و الحَياةِ .
و كيفَ يَحتاجُ الصَّوتُ أو الكلامُ إلَى الحركةِ ، و هو ممّا يوجَدُ مع ضِدِّها؟ و مِن شأنِ المُحتاجِ إلىٰ غَيرِه أن لا يوجَدَ مع ضِدِّه.
و هذا الوَجهُ (222) قد اعتُرِضَ عليه بحاجةِ التأليفِ إلَى المجاوِرات(3) و إن وُجِدَ مع المُتَضادّاتِ منها.
و أُجيبَ عن هذا الاعتراضِ بأنّ التأليفَ لا يَحتاجُ إلىٰ المُجاوَرةِ (4)، و إنّما يَحتاجُ إلىٰ تَجاوُرِ المَحَلَّينِ ، و هذا الحُكمُ يَحصُلُ بما يُضادُّ مِن المُجاوِراتِ .
و هذا الجَوابُ يُمكِنُ أن يَتعلَّقَ [به] مَن قالَ : إنّ الصَّوتَ لا يَحتاجُ إلىٰ حركةٍ ؛ بأن يَقولَ : إنّه لا يَحتاجُ إلىٰ (5) الحركةِ ، لكنّه يَحتاجُ إلىٰ كَونِ الجِسمِ كائناً في المَكانِ
بَعد أن كانَ في غَيرِه بلا فَصلٍ . و هذا حُكمٌ معقولٌ يَحصُلُ عندَ المُتَضادِّ مِن الألوانِ (6)
ص: 234
و المُتَماثِلِ ، كما قيلَ في المُجاوِراتِ . و إنّما احتاجَ الصَّوتُ مِن فِعلِنا إلى الحركةِ ؛ لأنّها كالسببِ فيه؛ مِن حَيثُ كُنّا لا نَفعَلُه إلّامُتولِّداً عن الاعتمادِ علىٰ وَجهِ المصاكّة(1)، و الاعتمادُ مُوَلِّدُ الحركةِ ، فلهذا جَرَت(2) مَجرَى السببِ . و إن كانَ لا يَمتَنِعُ أن يَفعَلَه اللّٰهُ تَعالىٰ مِن غَيرِ حركةٍ مُبتَدأً، كما يَفعَلُه مِن غَيرِ تَولُّدٍ عن الاعتمادِ، و كما يَفعَلُ تَعالىٰ ما يَقَعُ مِنّا بآلةٍ مِن غَيرِ آلةٍ .
و ما ذَكَرناه(3) هو العِلّةُ في انقطاعِ طَنينِ الطَّستِ بتَسكينِه. و ليس(4) يَمتَنِعُ أن يوجَدَ القليلُ مِن الصَّوتِ مع السُّكونِ ، و هذا لا يَكونُ إلّاعندَ تَناهي الصَّوتِ و انقطاعِه، فأمّا أن يُوجَدَ مع السُّكونِ حالاً بَعدَ حالٍ ، فإنّه لا يُمكِنُ في فِعلِنا؛ لأنّ العِلّةَ [هي] التي ذَكَرناها.
و إنّما لم يَصِحَّ بها إيجادُ الكلامِ إلّافي مَحَلٍّ مَبنيٍّ بِنيةً مخصوصةً كاللسانِ ؛ لأنّ ذلكَ آلةٌ لنا في فِعلِ الكلامِ ، و مَن احتاجَ في(5) الجُملةِ في بعضِ الأفعالِ إلَى الآلاتِ ، لَم تَمتَنِعْ حاجتُه فيها(6) إلىٰ بِنيةٍ مخصوصةٍ ، و ذلكَ لا يَمنَعُ أن يَفعَلَه اللّٰهُ تَعالىٰ - المُستَغني في الأفعالِ عن(7) الآلاتِ - في كُلِّ مَحَلٍّ ، مِن غَيرِ اعتبارِ بِنيةٍ ؛ لأنّ الوَجهَ الذي احتيجَ فيه إلَى البِنيةِ لا يَتَأتّىٰ فيه تَعالىٰ .
ص: 235
و الأصواتُ مُدرَكةٌ بحاسّةِ السمعِ ، و هذا ممّا لا شُبهةَ فيه؛ لأنّا نَفصِلُ بَينَ المُختَلِفِ منها عندَ سَلامةِ الحاسّةِ و ارتفاعِ المَوانِعِ ، و لا نَفصِلُ (1) بَينَ الألوانِ (2)المُختَلِفةِ علىٰ هذا الوَجهِ ؛ لمّا لَم تَكُن(3) مُدرَكةً .
و هي مُدرَكةٌ في مَحالِّها؛ مِن غَيرِ حاجةٍ إلَى انتقالِ مَحالِّها؛ لِما فَرَّقنا - مع السلامةِ - بَينَ جهةِ الصَّوتِ و الكلامِ و مكانِهما، كما أنّا لا نَعرِفُ مِن أيِّ جهةٍ انتَقَلَ إلىٰ مَحَلِّ حياتِنا ما يُلاقيها مِنَ الأجسامِ التي تُدرَكُ منها الحَرارةُ و البُرودةُ .
و أيضاً: فقَد كانَ يَجِبُ علىٰ هذا أن يَجوزَ انتقالُ الكلامِ أو الصَّوتِ إلىٰ بعضِ الحاضِرينَ دونَ بعضٍ ، حتّىٰ يَكونوا مع القُربِ و السلامةِ يَسمَعُه بعضُهُم دونَ بعضٍ ، و أن يَجوزَ انتقالُ مَحَلِّ بعضِ الحُروفِ دونَ بعضٍ حتّىٰ يُدرَكَ الكلامُ مُختَلِفاً!
فأمّا العِلّةُ في أنّا نُشاهِدُ القَصّارَ مِن بُعدٍ يَضرِبُ الثَّوبَ علَى الحَجَرِ، ثُمّ نَسمَعُ الصَّوتَ بَعدَ مُهلَةٍ ، فيَسبِقُ (4) النظرُ السمعَ ، فهي أنّ الصَّوتَ يَتولَّدُ في الهواءِ ، و البُعدُ
ص: 236
المخصوصُ مانعٌ مِن(1) إدراكِه، فإذا تَولَّدَ فيما يَقربُ (2) مِنّا(3)، أدرَكناهُ في مَحَلِّه. و إن
لَم يَتَّصِل بحاسّةِ سَمعِنا، فالذي نُدرِكُه بَعدَ مُهلَةٍ هو غَيرُ الصَّوتِ الذي تَولَّد عن الصَّكّةِ (4) الأُولىٰ ؛ لأنّ ذلكَ إنّما لَم نُدرِكْه لِبُعدِه، فلمّا قَرُبَ بالتولُّدِ أدرَكناهُ . و كذلك أيضاً نُدرِكُ الصَّوتَ في جهةِ الرِّيحِ أقوىٰ ؛ لأنّه يَتولَّدُ فيها حالاً بَعدَ حالٍ ، فنَكونُ (5)إلىٰ إدراكِه أقرَبَ . و إذا كانتِ الرِّيحُ في خِلافِ جهتِه ضَعُفَ إدراكُه، و إنّما لَم نُدرِكْه إذا تَولَّدَ فيما نَبعُدُ عنه البُعدَ المخصوصَ المانعَ مِنَ الإدراكِ .
و لا يَجوزُ علَى الأصواتِ البَقاءُ ؛ لأنّها لَو بَقِيَت [لاستمرَّ(6)] إدراكُنا(7) لها مع السلامةِ و ارتفاعِ المَوانعِ ، كما يَستَمِرُّ إدراكُنا للألوانِ (8). و معلومٌ خِلافُ ذلكَ .
و لَو كانَ مُدرَكاً(9) علَى الاستمرارِ، لَم يَقَع عندَه فَهمُ الخِطابِ ؛ لأنّا كُنّا نُدرِكُ حُروفَ الكَلِمةِ مُجتَمِعةً ، فلا تَكونُ (10) الكلمةُ بأن تَكونَ «دارا» (223)، بأن تكونَ أَولى مِن «رادا».
ص: 237
و لَو كانَ الكَلامُ باقياً لَكانَ لا يَنتَفي إلّابفَسادِ مَحَلِّه؛ لأنّه لا ضِدَّ له مِن غَيرِ(1) نوعِه.
و الأصواتُ لا تَقَعُ مِن أفعالِ العِبادِ إلّامُتَولِّدةً .
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ تَعذُّرُ إيجادِها عليهم(2) إلّابتوسُّطِ الاعتمادِ و المصاكّة(3)، و لأنّ الأصواتَ تَقَعُ بحَسَبِ ذلك، فيَجبُ أن تكونَ ممّا لا يَقَعُ مِنّا إلّامُتولّدةً ، كالآلامِ .
و الكلامُ ممّا لا يُوجِبُ حالاً للمُتَكلِّمِ ؛ لأنّه لَو أوجَبَ حالاً له، لَوجبَ أن يَكونَ إلى إثباتِها طريقٌ ؛ مِن ضَرورةٍ أو استدلالٍ ، و(4) معلومٌ تَعذُّرُ ذلكَ .
و أيضاً: فكُلُّ معنىً أوجَبَ للحَيِّ حالاً، فإنّه يَصِحُّ العِلمُ بتلك الحَالِ ، مِن غَيرِ عِلمٍ بالمعنىٰ ، كما نَعلَمُ القادرَ قادراً، و العالِمَ و المُريدَ و الحَيَّ ، قَبلَ العِلمِ بالمَعاني الموجِبةِ لهذه الأحوالِ . و في تَعذُّرِ العِلمِ بأنّه مُتكلِّمٌ إلّابَعدَ العِلمِ بكلامِه، دَليلٌ على أنّه لا يُوجِبُ حالاً.
و أيضاً: فلَو كانَت هناكَ حالٌ ، لَكانَ العِلمُ بأنّه مُتكلِّمٌ موقوفاً عليها، و كانَ لا يَمتَنِعُ أن يَعلَمَه(5) مُتكلِّماً إذا لَم يَعلَمْه علىٰ تلكَ الحالِ مَن(6) لَم يَعلَمْ تَعلُّقَ الكلامِ
ص: 238
به، و وقوعَه بحَسَبِ أحوالِه، أو يَعلَمَ تَعلُّقَ الكلامِ به مَن لا يَعلَمُه مُتكلِّماً، إذا لَم يَعلَمْه علىٰ تِلكَ الحالِ . و فَسادُ ذلكَ ظاهرٌ.
و بَعدُ، فلا فَرقَ بَينَ مَن ادَّعىٰ في الكلامِ أنّه يوجِبُ حالاً، و بَينَ مَنِ ادَّعىٰ ذلكَ
في سائِرِ الأفعالِ ؛ كالضَّربِ و غَيرِه.
و أيضاً: فإنّ الكلامَ يوجَدُ في الصَّدَى(1)، فنَكونُ نَحنُ المُتكلِّمينَ به، و مِن شأنِ ما يَنفَصِلُ عن الحَيِّ أن لا يوجِبَ له حالاً. و لأنّ كُلَّ ما أَوجَبَ للحَيِّ حالاً، لا يَصِحُّ وجودُه في مَحَلٍّ لا حَياةَ له.
و أيضاً: فإنّ كلامَ زَيدٍ و عَمرٍو يَصِحُّ اجتماعُهما في مَحَلٍّ واحدٍ، و مِن شأنِ ما يوجِبُ للحَيِّ حالاً أن يَستَحيلَ وجودُ ما يَتعلَّقُ بالحَيَّينِ مِنه علىٰ وَجهٍ واحدٍ.
و أيضاً: فقَد كانَ يَجِبُ أن لا يَصِحَّ وجودُ الحَرفِ الواحدِ مِن أحَدِنا بَعدَ الموتِ ؛ لأنّ الموتَ يُحيلُ وجودَ ما يوجِبُ له الحالَ .
و أيضاً: فإنّ الإيجابَ يَرجِعُ إلَى الأجزاءِ و الأجناسِ دونَ الجُمَلِ ، فكانَ يَجِبُ في كُلِّ حَرفٍ أن يوجِبَ حالاً، و هذا يَقتَضي كَونَه مُتكلِّماً بالحَرفِ الواحدِ، و يَقتَضِي أيضاً في جنسِ الصَّوتِ أن يوجِبَ الحالَ ، حتّىٰ يَكونَ الصُّراخُ و التصفيقُ يوجِبانِ الأحوالَ للحَيِّ . و فَسادُ كُلِّ ذلكَ معلومٌ .
و لَو ثَبَتَ تَضادُّ الكلامِ ، لَتوصَّلنا بذلكَ أيضاً إلىٰ أنّه لا يُوجِبُ حالاً؛ مِن حَيثُ نَعلَمُ صحّةَ وجودِ حَرفَينِ ضِدَّينِ في آلَتَينِ لَو خُلِقَتا له(2)، فلَو أَوجَبَ حالاً لَأدّىٰ إلىٰ كَونِه علىٰ حَالَينِ مُتَضادَّينِ .
ص: 239
و الكَلامُ إنّما يَتعلَّقُ بالمَعاني و الفوائدِ بالمُواضَعةِ لا بجنسِه، و لا بشيءٍ مِن أحوالِه؛ لأنّه قَبلَ المُواضَعةِ لا اختصاصَ له، و إنّما يَختَصُّ معها، و لهذا جازَ في الاسمِ الواحدِ أن تَختَلِفَ (1) مُسَمَّياتُه بحَسَبِ اختلافِ اللُّغاتِ ، و جازَ أيضاً تبديلُ الاسماءِ مِن مُسَمّىً إلىٰ غَيرِه بحَسَبِ اختلافِ الدواعي.
و ابتداءُ اللُّغاتِ و أصلُها لا بُدّ أن يكونَ عن مُواضَعةٍ ، و لا يجوزُ أن يكونَ توقيفاً مِنَ اللّٰهِ تَعالىٰ .
و الوَجهُ في ذلكَ : أنّ المُواضِعَ لغَيرِه لا بُدَّ مِن أن يُعَرِّفَه قَصدَه ضَرورةً بالإشارةِ أو ما يَقومُ مَقامَها، و(2) التكليفُ يَمنَعُ مِن الاضطرارِ إلىٰ قَصدِه تعالى؛ لأنّه فَرعٌ علَى العِلمِ بذاتِه، و لهذا قُلنا: إنّ خطابَه تَعالىٰ إنّما يَحسُنُ بَعدَ تَقدُّمِ هذه المُواضَعةِ ؛ ليُفهِمَ مُرادَه بمطابَقةِ اللُّغةِ المُتقدِّمةِ ، و علىٰ هذا لا يَمتَنِعُ أن يُواضِعَنا تَعالىٰ علىٰ بَعضِ اللُّغاتِ مِن بَعدُ، إذا تَقدَّمَت لنا لُغهٌ ، يكونُ خِطابُه - جَلَّ وَ عَزَّ - لنا في المُواضَعةِ الثانيةِ بحَسَبِها.
و لَو قيلَ : «إنّ اللّٰهَ تَعالَى اضطَرَّ بعضَ (3) الأحياءِ ممّن لَم يُكَلِّفْه، إلىٰ قَصدِه و ذاتِه، ثُمّ واضَعَه في الابتداءِ علَى اللُّغةِ ، و واضَعَنا (224) ذلكَ الحَيُّ عليها» لَجازَ، و هذا يوجِبُ أن لا نَقطَعَ على أنّ أصلَ اللُّغاتِ المُواضَعةُ منّا؛ لجَوازِ
ص: 240
أن تَكونَ (1) جَرَت علىٰ هذا الوَجهِ .
و الكلامُ بَعدَ وقوعِ التواضُعِ عليه، لا يُفيدُ مِن أجلِ قِدَمِ المُواضَعةِ فَقَط، بل لا بُدَّ مِن أن يَقصِدَ المُتكلِّمُ به استعمالَه فيما(2) قَرَّرَته المُواضَعةُ ، و يَقصِدُ(3) ما يَكونُ مُتعلِّقاً بتمييزِ الصيغةِ التي مَتى أرَدنا مَثَلاً أن نأمُرَ أو نَنهىٰ ، قَصَدناها دونَ غَيرِها. و فائدةُ القَصدِ أن تَتعلَّقَ (4) تلكَ العِبارةُ بالمأمورِ، و تؤَثِّرَ في كَونِه أمراً به. فالمُواضَعةُ تَجري مَجرىٰ شَحذِ السِّكّينِ و تَقَوُّمِ (5) الآلاتِ ، و القَصدُ يَجري [مَجرَى](6) استعمالِ الآلاتِ بحَسَبِ ذلكَ الإعدادِ المُتقدِّمِ .
و الكلامُ علىٰ ضَربَينِ : مُهمَلٍ و مُستَعمَلٍ .
فالمُهمَلُ هو الذي لَم يوضَعْ في اللُّغةِ التي قيلَ : «إنّه مُهمَلٌ » فيها، لشيءٍ مِن المَعاني و الفَوائدِ.
و المُستَعمَلُ هو الذي وُضِعَ ليُفيدَ فائدةً ، أو(7) كانَ له معنىً . و هو علىٰ ضَربَينِ :
أحَدُهما: لا يُفيدُ إلّافائدةَ الإشارةِ ، و هُو الذي يُسَمَّى «اللَّقَبُ »(8)، و مِن شأنِه أن
ص: 241
يَجوزَ تَبديلُه و تغييرُه، و اللُّغةُ علىٰ ما هي عليه.
و الضربُ الآخَرُ: يَقتَضي إبانةً مخصوصةً ، و مِن شأنِه أن لا يَجوزَ فيه التبديلُ و التغييرُ إلّابتَبديلِ [أوضاعِ اللُّغةِ ]، و يَنقَسِمُ (1) إلىٰ أقسامٍ :
فمِنها: [أن يُفيدَ] إبانةَ موصوفٍ مِن موصوفٍ (2)؛ كقَولِنا: «عالِمٌ » و «قادرٌ» و «حَيٌّ ».
و مِنها: أن يُفيدَ إبانةَ نَوعٍ مِن نَوعٍ ؛ كقَولِنا: «كَونٌ » و «لَونٌ » و «اعتقادٌ».
و منها: أن يُفيدَ إبانةَ جنسٍ مِن جنسٍ ؛ كقَولِنا: «سَوادٌ» و «جَوهرٌ» و «تأليفٌ ».
و الكلامُ المفيدُ يَنقسِمُ إلىٰ حَقيقةٍ و مَجازٍ.
و الحَقيقةُ : ما اُفيدَ به ما وُضِعَ (3) في اللُّغةِ أو العُرفِ أو الشَّرعِ لإفادتِه.
و المَجازُ: ما استُعمِلَ فيما لَم يُوضَعْ له لُغةً أو عُرفاً أو شَرعاً.
و الكلامُ المُفيدُ كُلُّه يَرجِعُ إلىٰ معنَى الخبرِ؛ لأنّه لا يَخلو مِن أن يَكونَ لفظُه لفظَ الخبرِ، أو معناه كذلكَ . و متىٰ تَأَمَّلتَ ضُروبَ الكلامِ - التي طَوَّلَ الناسُ بذِكرِ أحكامِها - وَجَدتَها لا تَخرُجُ عمّا ذَكَرنا؛ لأنّ الجُحودَ و القَسَمَ و التشبيهَ و التمَنّيَ و التعَجُّبَ كُلَّه مِن بابِ الخبرِ المَحضِ .
فأمّا الأمرُ فيُفيدُ كَونَ الآمِرِ مُريداً للفِعلِ ، فمعناه معنَى الخبرِ.
و النهيُ يُفيدُ أنّه كارهٌ للفِعلِ ، فهو أيضاً راجِعٌ إلىٰ معنَى الخبرِ.
و السؤالُ و الطلَبُ و الدُّعاءُ يَجري هذا المَجرىٰ .
ص: 242
فأمّا العَرضُ ، فهو سؤالٌ عَلى الحَقيقةِ .
و النداءُ اختُلِفَ فيه، فقيلَ : معنىٰ «يا زَيدُ»: «أعني زَيداً»، و «أدعو زَيداً». و هذا يَكونُ علَى الحقيقةِ خبراً. و قيل: المُرادُ به: «أَقبِلْ يا زيدُ». و علىٰ هذا المعنىٰ يَدخُلُ في أقسامِ الأمرِ.
و أمّا التحضيضُ : فهو في معنَى الأمرِ؛ لأنّه يُنبئُ عن إرادةِ المُحضِّضِ للفِعلِ .
***
اعلَم أنّ المُتكلِّمَ (1) هو «مُوقِعُ الكلامِ - الذي قَدَّمنا بيانَ حَقيقتِه(2) - بحَسَب أحوالِه؛ مِن قصده(3) و إرادتِه، أو دَواعيهِ و اعتقاداتِه، أو غَيرِ ذلكَ مِن الأُمورِ الراجعةِ إليه». و يَجوزُ أن يُقالَ في ذلكَ حقيقةً أو تقديراً علَى التفسيرِ السالِفِ في هذا الكتابِ .
و لمّا كانَ وجبَ وقوعُه علىٰ هذا الوَجهِ ، يَجِبُ أن يَكونَ فِعلاً له و حادِثاً مِن جهتهِ ، [و] جازَ أن يُقالَ : إنّ حقيقةَ المُتكلِّمِ مَن فَعلَ الكلامَ ؛ انتهاءً إلىٰ غايةِ ما تَقتَضيه(4)
ص: 243
[فائدةُ هذهِ الصفةِ ](1) و لعِلمِنا بأنّ أهلَ اللُّغةِ لَو عَلِموا اقتضاءَ هذا التعَلُّقِ المخصوصِ للفِعليّةِ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، لَم يَضَعوا هذه اللفظةَ إلّالها.
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ أهلَ اللُّغةِ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ ؛ مَتىٰ عَلِموا أو اعتَقَدوا وقوعَ الكلامِ بحَسَبِ أحوالِ أحَدِنا، وَصَفوه بأنّه مُتكلِّمٌ ، و متىٰ لَم يَعلَموا أو يعتَقِدوا ذلكَ لَم يَصِفوه [به]. فجَرىٰ هذا الوصفُ في معناه مَجرىٰ وَصفِهم لأحَدِنا بأنّه ضاربٌ و مُحرِّكٌ و مُسَكِّنٌ ؛ فإنّهم يُجرونَ كُلَّ ذلكَ عندَ أهلِ (2) التعلُّقِ المخصوصِ المُقتَضي للفِعليّةِ .
و مَن (225) دَفَعَ ما ذَكَرناه في الكلامِ و إضافتِه إلَى المُتَكلِّمِ ، تَعذَّرَ عليه أن يُضيفَ شيئاً علىٰ سَبيلِ الفِعليّةِ ؛ لأنّ الطريقةَ واحدةٌ .
و ممّا يوضِحُ ما ذَكَرناه: أنّه لا مَعنىٰ يُشارُ إليه - سِوىٰ ما ذَكَرناه - إلّاو قد يَحصُلُ العِلمُ بكَونِ المُتكلِّمِ مُتكلِّماً بدونِه، أو(3) يَحصُلُ [العِلمُ ] بذلك المعنىٰ مِن دونِ العِلمِ بأنّه مُتكلِّمٌ ، و لا يَحصُلُ العِلمُ بكَونِه مُتكلِّماً لأحَدٍ مِن العالَمينَ إلّابَعدَ حُصولِ العِلمِ بوقوعِ الكلامِ بحَسَبِ أفعالِه. فثَبَتَ ما ذَكَرناه.
و لا يَلزَمُ على ما ذَكَرناه إضافةُ كلامِ النائمِ و الساهي إليهما، و إن لَم يَكُن واقعاً بحَسَبِ قُصودِهما و دَواعيهِما؛ مِن جهتَينِ :
أحَدُهما: أنّا لَم نَقتَصِرْ علىٰ ذِكرِ القُصودِ و الدواعي دونَ جُملةِ الأحوالِ ، و الكلامُ يَقَعُ مِن النائمِ و الساهي بحَسَبِ قُدَرِهما و لُغَتِهما، و اللَّثغةِ العارضةِ في
ص: 244
لِسانَيهما(1)، و غَيرِ ذلكَ مِن أحوالِهما.
و الوَجهُ الآخَرُ: أنّا قد احتَرَزنا بذِكرِ «التقديرِ» عن هذا السؤالِ ؛ لأنّ مِن المعلومِ أنّ كلامَ النائمِ لَو كانَ قاصداً لَوَقَعَ بحَسَبِ قَصدِه، و أنّه مُخالِفٌ لكلامِ غَيرِه.
و ممّا يَدُلُّ علىٰ ما قُلناه: أنّهم يُضيفونَ الكلامَ المسموعَ مِن المصروعِ إلَى الجِنّيِّ ؛ لمّا اعتَقَدوا تَعلُّقَه بقَصدِ الجِنّيِّ و إرادتِه، و إن كانَ ذلك الكلامُ مسموعاً مِن لِسانِ المصروعِ ، و حالاًّ مِن فيهِ ؛ بحَيثُ يَحُلُّ الكلامُ الذي يُضيفونَه إليه إذا كانَ سَليماً. و لا مُعتَبَرَ بخطائهم في هذا الاعتقادِ؛ لأنّا إنّما استَدلَلنا باستعمالِهم علىٰ وَجهٍ لا فَرقَ فيه بَينَ الصحيحِ و الخَطإ؛ لأنّ عباراتِهم تابعةٌ (2) لاعتقادِهم، و لا فَرقَ بَينَ أن تَكونَ الاعتقاداتُ عِلماً أو جهلاً؛ ألا تَرىٰ أنّا نَستَدِلُّ علىٰ أنّ لفظةَ «إلٰه» في لُغَتِهم موضوعةٌ لِمَن تَحِقُّ له العِبادةُ ، بوَصفِهم الأصنامَ بأنّها آلهةٌ ؛ لما اعتَقَدوا أنّ العِبادةَ تَحِقُّ لها؟ و إن كانَ هذا الاعتقادُ مِنهم في الأصنامِ باطلاً.
و لَيسَ لهم أن يُنكِروا إضافةَ أهلِ اللُّغةِ الذين يُحتَجُّ بهم، الكلامَ المسموعَ مِن المصروعِ إلى الجِنّيِّ ، و يَقولوا: إنّما يضيف ذلكَ النِّساءُ وَ جُهّالُ العامّةِ !
و ذلكَ أنّ كُلَّ مَن يضيف مِن أهل اللُّغةِ و غَيرِهم كلامَ أحَدِنا إليه، مَتَى اعتَقَدَ أنّ الجِنّيَّ يَقصِدُ إلَى الكلامِ المسموعِ مِن المصروعِ ، أضافه إلَى الجِنّيِّ دونَه. و لا شُبهةَ في أنّ هذه الإضافةَ تابعةٌ لهذا الاعتقادِ مِن كُلِّ أحدٍ، و إنّما نَنفي الإضافةَ بحَيثُ يَنتَفي الاعتقادُ.
و بَعدُ؛ فلَو كانَ هذا مِن خِطابِ العامّةِ الخارجِ عن مُقتَضَى اللُّغةِ ، لَوجبَ أن يَعُدَّ
ص: 245
أهلُ اللُّغةِ إضافةَ الكلامِ إلى الجِنّيِّ - ممّن اعتَقَدَ ما ذَكَرناه - مِن لَحنِ العامّةِ و خَطائِها، و يُنَصَّ عليه في الكُتُبِ الموضوعةِ لِلَحنِ العامّةِ ، كما نُصَّ علىٰ غَيرِه. و في العِلمِ ببُطلانِ ذلكَ دليلٌ علىٰ صحّةِ ما اعتَمَدناه.
فإن قيلَ : ما أنكَرتم أن تَكونَ إضافتُهم الكلامَ المسموعَ مِن المصروعِ إلَى الجِنّيِّ ، مِن حَيثُ اعتَقَدوا أنّ الجِنّيَّ قد سَلَكَه و خالَطَه، و أنّ الكلامَ حالٌّ في الجِنّيِّ دونَه، و يَعودُ الأمرُ إلى أنّ المُتكلِّمَ بالكلامِ مَن حَلَّهُ (1)؛ ألا تَرىٰ أنّهم إذا لَم يَعتَقِدوا سُلوكَ الجِنّيِّ له، و امتزِاجَه به، لَم يُضيفوا الكلامَ المسموعَ مِن المصروعِ إليه ؟
قُلنا: الكلامُ الذي يُسمَعُ مِن لِسانِ المصروعِ و يَحُلُّ آلةَ (2) كلامِه، علىٰ حَدِّ ما يُسمَعُ مِنه و يَحُلُّ لِسانَه إذا كانَ سَليماً. و الجِنّيُّ و إن كانَ سَلَكَه و خالَطَه - على اعتقادِ مَن اعتَقَدَ ذلكَ - فلَيسَ يَنتَهي إلىٰ أن تَصيرَ آلةُ المصروعِ و لِسانُه للجِنّيِّ دونَه، بل آلةُ كلامِه في أنّها تخَتَصُّه علىٰ ما كانَت عليه. و الكلامُ يُسمَعُ منها و يوجَدُ فيها علىٰ حدِّ ما (226) يُسمَعُ في حال صحّتِه. فلا وَجهَ لهذه الإضافةِ إلّاما ذَكَرناه؛ مِن اعتقادِهم أنّ الجِنّيَّ هو القاصِدُ إلىٰ ذلكَ الكلامِ دونَ المصروعِ .
و الذي يوضِحُ هذا و يَكشِفُه: أنّهم لا يَكادونَ يُضيفونَ إلَى الجِنّيِّ كُلَّ كلامٍ يُسمَعُ مِن لِسانِ المصروعِ ، فلَو(3) قَرَأَ أو تَكلَّمَ بما لا يَعتَقِدونَ أنّه مِن مقصودِ الجِنّيِّ ، لَم يُضِيفوه إلى الجِنّيِّ ، و إنّما يُضيفونَ إليه ما يَعتَقِدونَ أنّه لا يَكونُ مِن مقصودِ غَيرِ الجِنّيِّ ؛ مِثلَ أن يُخبِرَ بغَيبٍ ، أو يُخرِجَ سَرَقاً، أو يَدُلَّ علىٰ مكتومٍ ، و نَحوِ ذلكَ ممّا قد سَبَقَ إلىٰ نُفوسِهم أنّ غَيرَ الجِنّيِّ لا يَعرِفُه و لا يُخبِرُ بمِثلِه.
ص: 246
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ الكلامَ يُضافُ إلىٰ فاعلِه دونَ مَن لَيسَ بَينَه و بَينَه هذه العُلقةُ :
أنّ الكلامَ قد يوجَدُ في الصَّدىٰ ، و(1) قد عَلِمنا أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ كلاماً لمَحَلِّه، و لا لِما ذلكَ المَحَلُّ بعضٌ له، و لا يَجوزُ أيضاً أن يَكونَ كلاماً للقَديمِ تَعالىٰ ؛ لأنّه رُبَّما كانَ ذلكَ الكلامُ كَذِباً أو عَبَثاً، و هو تَعالىٰ مُنَزَّهٌ عن القَبيحِ . [فَيجبُ (2)] أن يَكونَ كلاماً لِمَن فَعَلَ أسبابَه، و وُجِدَ بحَسَبِ قَصدِه و دَواعيهِ .
و لَيسَ لهم أن يَمتَنِعوا مِن وجودِ الكلامِ في الصَّدىٰ ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الكلامَ هو هذه الأصواتُ المخصوصةُ . و لا شُبهةَ في وجودِ هذا الجنسِ في الصَّدىٰ ، و إنّما يَمتَنِعُ مِن ذلكَ مَن يَذهَبُ إلى أنّ الكلامَ معنىً في النفسِ غَيرِ الصَّوتِ المسموعِ ، و قد تَقدَّمَ فَسادُ هذا المَذهَبِ (3).
و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ إضافةَ الكلامِ إلَى المُتكلِّمِ تَقتَضي عُلقةً بَينَه و بَينَه، و فائدةً معقولةً . و الأقسامُ المعقولةُ في هذا البابِ إضافَتُه إليه مِن حَيثُ حَلَّهُ أو مِن حيثُ حَلَّ بعضَه، أو لأنّه أَوجَبَ له حالاً، أو مِن حَيثُ فَعَلَه و(4) وَقَعَ بحَسَبِ أحوالِه(5).
و لَيسَ يَجوزُ أن يوصَفَ به مِن حَيثُ حَلَّه؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي كَونَ اللِّسانِ - بَلِ البعضِ الذي حَلَّه الكلامُ مِنه - مُتكلِّماً دونَ الإنسانِ . و كذلك الصَّدىٰ . و لَوجبَ أن
ص: 247
يُوصَفَ «ما عُلِّقَ هذا الكلامُ عليه أو أُضيفَ إليه؛ مِن اللِّسانِ و الصَّدىٰ » بسائرِ(1)ضُروبِ الكلامِ (2) و أقسامِه، و تُعَلَّقَ أحكامُه عليه كُلُّها، حَتّىٰ يُقالَ : «إنّه آمِرٌ و مُخبِرٌ أو مُستَفهِمٌ »، و يُمدَحَ بالحَسَنِ ، و يُذَمَّ بالقَبيحِ . و معلومٌ فَسادُ ذلكَ لِكُلِّ عاقلٍ . كما أنّه معلومٌ أنّ مَحَلَّ الفِعلِ - مِن الضَّربِ و القَتلِ و ما أشبَهَهما - لا يوصَفُ بأنّه ضارِبٌ و قاتِلٌ ، وَ لا تُعَلَّقُ عليه الأحكامُ ؛ مِنَ المَدحِ و الذَّمِّ .
و بَعدُ، فهذا يَقتَضي أنّه لا مُتكلّمَ في العالَمِ [؛ لأنَّ الكلامَ اسمٌ لجملةٍ من الحروف، و(3)] لا يَكونُ حَرفاً واحداً، و هذا الاسمُ لا يَختَصُّ [بمحلّ واحد؛ و ذلك لحاجته] إلىٰ أبنيةٍ (4) مُختَلِفةٍ . و علىٰ هذا يَجِبُ أن يَكونَ قولُنا: «زيدٌ قائمٌ » لا مُتكلِّمَ به؛ لوجودِ هذه الجُملةِ في مَحالٍّ مُتَغايِرةٍ ، و استحالةِ كَونِها في مَحَلٍّ واحدٍ.
و هذا الوَجهُ يَقتَضي - زائداً على ما ذَكَرناه(5) - استحالةَ إضافةَ الكلامِ الَى القَديمِ تَعالىٰ ، و وَصفِه بأنّه متكلِّمٌ ؛ لاستحالةِ حُلولِ المَعاني فيه.
و لا يَجوزُ أن يكونَ الكلامُ كلاماً لِمَن [حَلَّ بعضَه(6)]؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي أيضاً كَونَ اللِّسانِ هو المُتكلِّمَ دونَ الإنسانِ ، و كذلك الصَّدى. و يوجِبُ أن يَكونَ تَعالىٰ غَيرَ مُتكلِّمٍ ؛ لاستحالةِ هذا المعنى فيه.
و قد أبطَلنا مِن قبلُ أن يَكونَ الكلامُ ممّا يوجِبُ حالاً.
ص: 248
فلَم يَبقَ إلّاأنّ المُتكَلِّمَ هو مَن فَعَلَ الكلامَ .
و مَن يَقولُ : إنّ الكلامَ يُضافُ إلَى المُتَكلِّمِ مَن حَيثُ «قامَ » به، إن لَم يُرِدْ بعضَ ما ذَكَرناه و أفسَدناه مِن الحُلولِ أو غَيرِه، لَم يَكُن قولُه معقولاً؛ لأنّ ما تُستَعمَلُ (1) فيه هذه
اللفظةُ ، مِن «الانتِصابِ »؛ كقولِهم: «قامَ السيفُ علَى الأُسطُوانةِ »، و «التدبيرِ»؛ كقولِهم: «قامَ البَلَدُ بالأميرِ»، لا يَجوزُ علَى الكلامِ .
و قولُهم: إنّ حَدَّ المُتكلِّمِ : «مَن له حُكمُ (227) كلامٍ »(2)، إحالةٌ علىٰ مُبهَمٍ . و السؤالُ معه باقٍ إذا قيلَ : و كيفَ صارَ الكلامُ له ؟ أبِأَنْ حَلَّه، أو حَلَّ بعضَه، أو أَوجَبَ له حالاً، أو فَعَلَه ؟ فلا بُدَّ مِن التفسيرِ.
و اعلَمْ أنّ قولَهم: «له كذا»(3) يَحتَمِلُ أُموراً:
مِنها: إضافةُ البَعضِ إلَى الكُلِّ ؛ كقَولِهم: «له يَدٌ و رِجلٌ ».
و بمعنَى المِلكِ ؛ كقَولِهم: «له دارٌ و غلامٌ ».
و بمعنَى الفِعليّةِ ؛ كقَولِهم: «له إحسانٌ و نِعمةٌ ».
و بمعنَى الحُلولِ ؛ [كقولِهم] «له طَعمٌ و رائحةٌ و لَونٌ ».
و ما يَحتَمِلُ أُموراً مُختَلِفةَ المَعاني، لا يَجوزُ أن يُحَدَّ به في المَوضِعِ الذي يُتَحرّىٰ فيه التشخيصُ و التمييزُ و كَشفُ الغرضِ .
***
ص: 249
اعلَمْ أنّه لا بُدّ مِن كونِه - جَلَّ (1) و عَزَّ - قادراً على الكلامِ ؛ لِما دَلَّلنا عليه مِن قَبلُ : مِن أنّ القادرَ لنفسِه يَجِبُ أن يَقدِرَ علىٰ فِعلِ كُلِّ جنسٍ تَتعلَّقُ به قُدَرُ العِبادِ(2). و لأنّه تَعالىٰ قادرٌ علىٰ أسبابِه؛ مِن الاعتماداتِ و المصاكّات(3)، و القادرُ علىٰ سببِ الشيءِ قادرٌ عليه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّا(4) نَمنَعُ مِن ذلكَ ؛ مِن حَيثُ ثَبَتَ أنّه مُتكلِّمٌ لنفسِه، أو بكلامٍ قَديمٍ ، كما تَمنَعونَ أنتُم مِن مِثلِ ذلك في العِلمِ و غيرِه.
و ذلكَ : لأنّ الذي أصَّلوه لَم يَثبُتْ ، بَل ثَبَتَ ما ذَكَرناه فتَذَكَّرْ(5) فَسادَه(6).
و لَو كانَ ثابتاً كما ظَنّوا، لَما مَنَعَ مِن قُدرتِه تَعالىٰ علَى الكلامِ ، و أن يَفعَلَه و يَكونَ مُتكلِّماً، مع أنّه مُتكلِّمٌ لِنفسِه؛ لأنّه لا تَنافيَ بَينَ ذلك و لا وَجهَ إحالةٍ ، كما بَيَّنّا أنّ في قُدرتِه علىٰ عِلمٍ أو قُدرةٍ أو حَياةٍ تُوجِبُ (7) له حالاً وَجهَ إحالةٍ ؛ مِن قَلبِ جنسٍ أو غَيرِه.
ص: 250
و إذا ثَبَتَ أنّه قادرٌ علَى الكلامِ ، فلَو فَعَلَه لَكانَ مُتكلِّماً به؛ لأنّ الحقيقةَ لا تَختَلِفُ ، و قد بيّنّا أنّ حقيقةَ المُتكلِّمِ مَن كانَ فاعلاً للكلامِ (1).
و الطريقُ إلىٰ إثباتِه تَعالىٰ مُتكلِّماً لَيسَ (2) أن يُعلَمَ وجودُ الكلامِ مِن فِعلِه، علىٰ حَدِّ ما نَقولُه في كَونِه مُحسِناً و مُنعِماً و رازِقاً و سائِرَ ما يُشتَقُّ مِن الفِعلِ .
و إنّما قُلنا ذلكَ لأنّ الفِعلَ الذي به نَتَطرَّقُ إلىٰ إثباتِ أحوالِه تَعالىٰ و صفاتِه، لا يَدُلُّ علىٰ كَونِه مُتكلِّماً؛ لأنّ الفِعلَ إنّما يَدُلُّ علَى اختصاصِ فاعلِه بالصفةِ التي لَولاها لَما صَحَّ وقوعُه مِنه، أو وقوعُه علىٰ بعضِ الوجوهِ . و لَيسَ للفِعلِ صفةٌ لَولا كَونُه مُتكلِّماً لَما حَصَلَت. و ما بيّنّاه أيضاً مِن أنّه لا حالَ للمُتكلِّمِ بكَونِه متكلّماً(3)، يُبطِلُ أن يكونَ الفِعلُ دَلالةً علىٰ ذلكَ .
و هذه الجُملةُ تَقتَضي أنّ كَلامَه تَعالىٰ إنّما يُعلَمُ كلاماً له مِن طَريقِ السمعِ ، و بأن يُخبِرَنا «نَبِيٌّ قد عُلِمَ صِدقُه بالمُعجِزِ» في بعضِ الكلامِ ، بأنّه مُضافٌ إليه تَعالىٰ ، و أنّه كلامٌ (4).
فإن قيلَ : فهذا النبيُّ مِن أينَ يَعلَمُ في ذلكَ الكلامِ أنّه كلامُه تَعالىٰ؟ فإن قلتُم: مِن
ص: 251
جهةِ المَلَكِ ، قيلَ لكم: و القولُ في المَلَكِ كالقولِ فيه.
و الجَوابُ عن ذلك: أنّ المَلَكَ أو النبِيَّ لا يَمتَنِعُ أن يَعلَمَ كلامَه تَعالىٰ ؛ بأن يَفعَلَ كلاماً يَتضمَّنُ أنّه كلامُه و مُضافٌ إليه، و يُقارِنَه مُعجِزٌ يَدُلُّ علىٰ أنّه إنّما فُعِلَ لمُطابَقتِه و تصديقِه، فيَعلَمُ بذلكَ أنّه كلامُه.
و غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَفعَلَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِه العِلمَ بأنّ ذلك الكلامَ لَيسَ بكلامٍ لأحَدٍ مِن المُحدَثينَ ، فيَعلَمَ بطريقِ القِسمةِ أنّه كلامُه. و هذا لا يَقتَضي اضطراراً إلىٰ ذاتِه فيُنافيَ التكليفَ ، كما يَقتَضي ذلكَ لَو قيلَ : إنّه اضطَرَّه إلىٰ أنّ ذلكَ الكلامَ كلامُه تَعالىٰ . و إن كُنّا قد بيّنّا أنّه لا يَمتَنِعُ في بعضِ الأحياءِ ممّن أُغني بالحَسَنِ عن القَبيحِ و لَم يُكلَّفْ ، أن يَكونَ مُضطرّاً إلى قَصدِه تَعالىٰ و ذاتِه(1).
و لَيسَ يجوزُ: أن يَستَدِلَّ المَلَكُ أو النبيُّ علىٰ كَلامِه تَعالىٰ ، بأن يَسمَعَه مِن شَجَرةٍ أو ما جَرىٰ مَجراها مِن الأجسامِ التي تُخالِفُ (2)(228) بِنيتُها بُنَى الأشياءِ (3) المُحتاجِ إليها في الكَلامِ .
و ذلك: أنّ هذا و إن دَلَّ على أنّ ذلكَ الكلامَ لَيسَ مِن كلامِ البَشَرِ، فهو غَيرُ كافٍ في إضافتِه إليه تَعالىٰ ؛ لأنّه لا يَمتَنِعُ عندَ السامِعِ له أن يَكونَ المُتكلِّمُ به بعضَ الملائكةِ أو الجِنِّ ، و يُسمَعَ مِن ناحيةِ الشَّجَرةِ ؛ لأنّه سَلَكَها و حَصَلَ (4)في خِلَلِها.
***
ص: 252
اعلَمْ أنّ إسنادَ الصفةِ إلَى النفسِ فَرعٌ علىٰ كَونِها معقولةً ثابتةً ، و قد بيّنّا أنّه لا
حالَ للمُتكلِّمِ بكَونِه مُتكلِّماً(1)؛ فكيفَ يُقالُ : إنّه كذلك لنفسِه ؟
و أيضاً: فقَد دَلَّلنا علىٰ أنّ المُتكلِّمَ هو مَن فَعَلَ الكلامَ (2)، و إذا قيلَ : إنّه مُتكلِّمٌ لنفسِه، كانَ هذا القولُ مُتناقِضاً؛ لأنّ القولَ بأنّه مُتكلِّمٌ يُفيدُ فِعلَ الكلامِ ، و القولَ بأنّه لنفسِه يَنقُضُ ذلك و يَقتَضي نفيَه، فجَرىٰ في التناقُضِ مَجرىٰ قولِنا: «إنّه مُحسِنٌ لنفسِه».
و أيضاً: فلَو كانَ مُتكلِّماً لنفسِه، و لا حالَ للمُتكلِّمِ مِن حَيثُ كانَ مُتكلِّماً، لَوجبَ أن تَكونَ (3) ذاتُه بصفةِ الكلامِ المسموعِ و مِن جنسِه. و هذا مُحالٌ ؛ لاقتضائه كَونَه مُحدَثاً.
ص: 253
و أيضاً: فهذا القولُ يوجِبُ أن يَكونَ [تعالىٰ ] بصفةِ الحُروفِ كُلِّها مع تَضادِّها، و وَجهُ استحالةِ ذلكَ ظاهرٌ.
و أيضاً: لَو كانَ مُتكلِّماً لنفسِه، لَوجبَ أن يَكونَ مُتكلِّماً بسائرِ أقسامِ الكلامِ و ضُروبِه؛ لأنّ ذلكَ ممّا يَصِحُّ مِن كُلِّ مُتكلِّمٍ لا آفةَ به أن يَتكلَّمَ به. و صفةُ النفسِ يَجِبُ شِياعُها في كُلِّ ما صَحَّت فيه، و هذا يَقتَضي كَونَه مُتكلِّماً بالصدقِ و الكَذِبِ ، و مُخبِراً عن كُلِّ ما يَصِحُّ الإخبارُ عنه علىٰ سائرِ الوجوهِ ، و في هذا مِن الاستحالةِ ما لا خَفاءَ به. مع أنّه يوجِبُ عدمَ الثقةِ بسائرِ الشرائعِ و الكُتُبِ . و دافِعٌ لقَولِه تَعالىٰ :
«مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنٰا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ »(1).
و لَيسَ لهم أن يَعتَصِمُوا مِن دُخولِ الكَذِبِ كَلامَه، بأن يقولُوا: قد ثَبَتَ أنّه صادقٌ لنفسِه، كصِدقِه(2) في قَولِه تَعالىٰ : «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ »(3) و «إِنّٰا خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ »(4) ، و ما شاكَلَ ذلكَ مِن الأخبارِ التي وُجِدَت مُخبَراتُها علىٰ ما اقتَضَته الأخبارُ. و إذا ثَبَتَ كَونُه تَعالىٰ صادقاً لنفسِه، امتَنَعَ الكَذِبُ عليه، كما يَقولونَه في امتناعِ كَونِه جاهلاً؛ مِن حَيثُ إنّه عالِمٌ لنفسِه.
و الجَوابُ عن ذلكَ أن يُقالَ لهم: و مِن أينَ لكم أنّه صادقٌ في هذا الإخبارِ و الخبرُ
ص: 254
لا يَكونُ خبراً لصورتِه و صيغتِه، علىٰ ما تَقدَّمَ في هذا الكتابِ (1).
و ما يؤمِنُكم أن تَكونَ (2) هذه الأخبارُ لَم يُقصَدْ بها إلَى السَّماواتِ و الأرضِ ، و لا إلىٰ خَلقِ الإنسانِ ، فلا تَكونَ صِدقاً(3). أو تكونَ مقصوداً بها غَيرُ السَّماواتِ و
الأرضِ و الإنسانِ ممّا يَخلُقُه، فتَكونَ كَذِباً؟ ألَاتَرىٰ أنّ القائلَ إذا قالَ : «محمّدٌ رسولُ اللّٰهِ » لا نَقطَعُ علىٰ أنّ قولَه صِدقٌ حتّىٰ نَعلَمَ أنّه قاصِدٌ به إلى النَّبيّ عليه السلام بعَينِه، و متى قَصَدَ غَيرَه كانَ كاذِباً؟
و لَيسَ يَجوزُ(4) أن يُرجَعَ في كَونِ هذه الأخبارِ صِدقاً، أو في أنّ الكَذِبَ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ، إلىٰ ما نَعلَمُه(5) مِن دينِ الرسولِ عليه السلام و إلىٰ إجماعِ الأُمّةِ .
و ذلكَ : أنّ نبوّةَ الرسولِ و إجماعَ الأُمّةِ فَرعٌ في كَونِهما حُجّةً علىٰ كَونِه تَعالىٰ صادقاً في إخبارِه، و أنّ الكَذِبَ لا يَجوزُ عليه؛ لأنّ مَن لا يؤمَنُ مِنه الكَذِبُ و لا شيءٌ مِن القَبائحِ ، لا يؤمَنُ أن يُصدِّقَ الكَذّابينَ بالمُعجِزاتِ ، و يُخبِرَنا عن صحّةِ إجماعِ الأُمّةِ ، و هو غَيرُ حُجّةٍ و لا دليلٍ .
ثُمّ يُقالُ لهم: أتَقولونَ : إنّ كَونَه صادقاً لنفسِه، يَقتَضي أن يَكونَ مُخبِراً عن كُلِّ شيءٍ علىٰ وَجهِ الصِّدقِ ؛ حتّىٰ لا يَبقىٰ ما يَصِحُّ أن يُخبَرَ عنه إلّاو قد أخبَرَ عنه بالصِّدقِ ، أو يَصِحُّ عندَكُم أن يَكونَ صادقاً في خبرٍ دونَ آخَرَ (229) مع كَونِه صادقاً لنفسِه ؟
ص: 255
فإن قالوا بالأوّلِ ، ظَهَرَت مُكابَرَتُهم لكُلِّ أحدٍ؛ لأنّ مِن المعلومِ أنّ هاهنا مُخبَراتٍ كثيرةٍ ما أخبَرَ القَديمُ تَعالىٰ عنها، و كيفَ يَصِحُّ هذا و هو يَقتَضي وجودَ أخبارٍ لا نِهايةَ لها؛ لأنّ المُخبَراتِ وجوهُها لا تَتَناهىٰ؟
علىٰ أنّ هذا الوجهَ يَقتَضي - مِن حيثُ كانَ عندَهم مُتكلِّماً لنفسِه - أن يَكونَ مُتكلِّماً بالصِّدقِ و الكَذِبِ ؛ لأنّه إذا وجبَ مِن حَيثُ كان صادقاً لنفسِه، أن يَكونَ مُخبِراً عن كُلِّ شيءٍ علىٰ وَجهِ الصِّدقِ (1)، لدُخولِ تلكَ الأخبارِ في بابِ الصِّدقِ ، لَزِمَ أن يَكونَ مُتكلِّماً بالكَذِبِ و الصِّدقِ ؛ لأنّه مُتكلِّمٌ لنفسِه، و الكَذِبُ داخلٌ تَحتَ الكلامِ كدُخولِ الصِّدقِ .
و إن جَوَّزُوا الاختصاصَ في أحدِ الأمرَينِ ، لَزِمَ مِثلُه في الآخَرِ.
و بَعدُ، فلَو وجبَ مِن حيثُ كانَ صادقاً لنفسِه، أن يَكونَ مُخبِراً عن كُلِّ شيءٍ علىٰ وَجهِ الصِّدقِ ، لَوجبَ مِن حيثُ كانَ آمِراً لنفسِه عندَهم، أن يَكونَ آمِراً بكُلِّ شيءٍ علىٰ كُلِّ وَجهٍ . و هذا يَقتَضي امتناعَ كَونِه ناهياً عن شيءٍ ، و يوجِبُ كَونَه آمراً ناهياً بكُلِّ ما يَصِحُّ أن يؤمَرَ به و يُنهىٰ عنه.
و إذا بَطَلَ أن يَكونَ كَونُه صادقاً لنفسِه يقتَضِي إخبارَه عن كُلِّ شيءٍ ، و جازَ أن تَبقىٰ مُخبَراتٌ لَم يُخبِرْ عنها، لَزِمَ ما قَدَّمناه؛ مِن أن يَكونَ كاذباً في تلكَ ؛ لأنّه لَم
يُخبِرْ عنها بالصِّدقِ ، فيُنافيَ كَونَه كاذباً فيها(2). كما أنّه لمّا كانَ آمِراً بأشياءَ مُعيَّنةٍ ، لَم يَمنَع ذلكَ مِن كَونِه ناهياً عمّا سِواها.
ص: 256
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ فَسادِ قولِهم: «إنّه مُتكلِّمٌ [لنفسِه]»: أنّ ذلكَ يوجِبُ كَونَه تَعالىٰ مُكلِّماً لكُلِّ مَن يَصِحُّ أن يُكَلِّمَه في كُلِّ حالٍ [و] علىٰ كُلِّ وجهٍ ؛ لأنّ صفاتِ النفسِ لا تَتخصَّصُ في كُلِّ مَوضِعٍ تَصِحُّ فيه(1)، و قد عَلِمنا بُطلانَه(2).
و ممّا يَدُلُّ [على] تبيّن هذه الجُملةِ : أنّ الصفةَ العامّةَ إذا كانَت للنفسِ ، فما دَخَلَ تَحتَ تلكَ الصفةِ مِن الصفاتِ الخاصّةِ ، يَجِبُ أيضاً أن يكونَ للنفسِ ؛ أَ لَا تَرىٰ أنّا لو أثبَتنا بعضَ الأحياءِ مُعتَقِداً لنفسِه، لَوجبَ أن يَكونَ كَونُه عالِماً أو جاهلاً لنفسِه؛ لدُخولِ ذلكَ تَحتَ الصفةِ النفسيّةِ (3)؟ و كذلكَ لَو أثبَتنا بعضَ الجَواهرِ كائناً في الأماكنِ لنفسِه(4)، لَوجبَ أن نُثبِتَه(5) مُتحرِّكاً أو ساكناً لنفسِه ؟ أوَ لا تَرىٰ أنّهم لما أثبَتوه مُتكلِّماً لنفسِه، و كانَ كَونُه مُخبِراً و آمِراً داخلاً تَحتَ كَونِه مُتكلِّماً، جَعَلوه كذلكَ للنفسِ؟
و لا يَلزَمُ علىٰ ما ذَكَرناه أن يَكونَ تَعالىٰ مِن حَيثُ كان عالِماً لنفسِه، أن يَكونَ مُعَلِّماً لنفسِه.
و ذلكَ أنّ الفائدةَ في «مُعَلِّمٍ » غَيرُ الفائدةِ في «عالِمٍ »؛ لأنّ معنىٰ «مُعلِّمٍ »: إمّا «فِعلُ العِلمِ في الغَيرِ»، أو «الحِرفةُ المخصوصةُ التي يَكونُ معها التلقينُ و التمرينُ ». و كِلاهما غَيرُ مَعنىٰ كَونِه عالماً. و لَيسَ كذلكَ «مُتكلِّمٌ » و «مُكلِّمٌ »؛ لأنّ ما به يَصيرُ
ص: 257
مُكلِّماً لغَيرِه، به يَصيرُ مُتكلِّماً - و إن كانَ «مُكلِّمٌ » أخَصَّ مِن «مُتكلِّمٍ » -. فيَجِبُ أن تَكونَ الصفةُ الخاصّةُ للنفسِ مَتىٰ كانَتِ العامّةُ كذلكَ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : هو مُتكلِّمٌ لنفسِه، و مُكَلِّمٌ بأنْ فَعَلَ التكليمَ ، و هو غَيرُ الكلامِ ؛ كما قُلتُموه في عالِمٍ و مُعلِّمٍ ، و أنّ التعليمَ غَيرُ العِلمِ .
و ذلكَ : أنّ الذي قُلناه معقولٌ مفهومٌ ، و الذي عارَضوا به لا يُعقَلُ ؛ لأنّ التكليمَ ضَربٌ مِن الكلامِ ، و لا يُعقَلُ تَكليمٌ لَيسَ بكلامٍ . و لَولا أنّ الأمرَ علىٰ ما ذَكَرناه، لَجازَ أن يَكونَ أحَدُنا مُكَلِّماً غَيرَه بأن يَفعَلَ تَكليماً، مِن غَيرِ أنْ يكونَ هناك كلامٌ (1)مسموعٌ ! أو يَفعَلَ الكلامَ و يَقصِدَ به إلَى الغَيرِ، و لا يَفعَلَ التكليمَ ، فيَكونَ غَيرَ مُكلِّمٍ له. و فَسادُ ذلك ظاهِرٌ.
و يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ المُخبِرُ مُخبِراً مِن حيثُ فَعَلَ التخبيرَ، و هو غَيرُ الكلامِ المسموعِ !
فإن قالوا: نَحنُ (2) نَلتَزِمُ أنّه مُكَلِّمٌ لكُلِّ أحَدٍ، لكِن ممّن يَصِحُّ أن يُكَلِّمَه، و قد كَلَّمَ الجميعَ ؛ بأن كَلَّفَهم و أمَرَهم (230) و نَهاهم.
قيلَ لهم: لا شيءَ معقولَ مِن موجودٍ و معدومٍ (3) و حَيٍّ و ميّتٍ ، و عاقلٍ و غَيرِ
ص: 258
عاقلٍ ، إلّا [و] يَصِحُّ كلامُه، و إنّما يَقبُحُ بعضُ ذلكَ . و صفةُ النفسِ لا تَفتَقِرُ(1) في شُمولِها إلىٰ أكثَرَ مِن الصحّةِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ مُكلِّماً(2) لكُلِّ شيءٍ عَلِمَه، و لا يَختَصُّ بذلكَ المُكلَّفونَ دونَ غَيرِهم.
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ إبطالِ كَونِه مُتكلِّماً لنفسِه: أنّ ذلكَ يؤَدّي إلىٰ كَونِه مُتكلِّماً فيما لَم يَزَلْ ، مِن غَيرِ أن يَستَفيدَ هو أو غَيرُه بذلكَ شيئاً. و يَقتَضي [كَونَه] علىٰ صفةِ نَقصٍ لِمَن يَتَكلَّمُ (3) منّا، و لا فائدةَ كانَت(4) علَى النقصِ (5). و لا فَرقَ فيما يَقتَضي النقصَ بَينَ أن يَستَنِدَ إلَى النفسِ أو إلَى المَعاني.
***
ص: 259
اعلَمْ أنّ جميعَ ما ذَكَرناه مِن الأدلّةِ علىٰ أنّه لَيسَ بمُتكلِّمٍ لنفسِه، يَدُلُّ علىٰ أنّه
لَيسَ بمُتكلِّمٍ لا لنفسِه و لا لعلّةٍ ؛ لأنّ وَجهَ الأدلّةِ قائمٌ في الأمرَينِ معاً، إلّاما ذَكَرناه مِن اقتضاءِ ذلكَ لأن تَكونَ (1) ذاتُه بصفةِ الحُروفِ (2)، فإنّ هذا الوَجهَ خاصّةً لا يَتأتّىٰ في هذا البابِ .
و ممّا يَدُلُّ علىٰ فَسادِ ذلك - زائداً علىٰ ما تَقدَّمَ -: أنّ كَونَه مُتكلِّماً لا يَخلُو مِن أن يَكونَ واجباً في كُلِّ حالٍ ، أو حَصَلَ في حالٍ لَم يَلزَم في قَبلِها.
و الوَجهُ الأوّلُ : يَقتَضي كَونَه كذلك لنفسِه(3)؛ لأنّ هذه أمارةُ صفةِ النفسِ .
و إن كانَ الوَجهُ الثاني: لَم يَخلُ مِن أن يَجِبَ - في الحالِ التي يَتجدَّدُ كَونُه مُتكلِّماً فيها - ذلكَ له - كما نَقولُه في كَونِه مُدرِكاً، و وجوبِ حُصولِه عندَ وجودِ شَرطِه - أو أن يَكونَ بذلكَ الحالِ ممّا يَجوزُ أن يَكونَ فيها مُتكلِّماً و غَيرَ مُتكلِّمٍ و الشُّروطُ واحدةٌ .
و الوجهُ الأوّلُ : يَقتَضي أن يَكونَ هناكَ أمرٌ معقولٌ يَقتَضي وجوبَ كَونِه مُتكلِّماً، كما قُلناه في وُجودِ المُدرِك. و قد عَلِمنا أنّه لا شيءَ يُعقَلُ يَقتَضي وجوبَ كَونِه كذلكَ .
ص: 260
و الوَجهُ الثاني: يَقتَضي أن يَكونَ مُتكلِّماً بكلامٍ مُحدَثٍ (1)، كما قُلنا بمِثلِ ذلكَ في نَظائرِه.
***
اعلَمْ أنّ الخِلافَ في حُدوثِ كَلامِه تَعالىٰ - مع الاعترافِ بأنّه مِن جنسِ كلامِنا، و أنّه هو هذا المعقولُ المسموعُ - لا يَكادُ يَقَعُ ممّن(2) يُحَصِّلُ عن نفسه. و لهذا نَجِدُ مَن يُخالِفُ علىٰ هذا الوَجهِ مُقلِّداً مُستَسلِماً لا يُصغي إلَى الحُجّةِ ، و لا يُمَكِّنُ مِن المُناظَرةِ و المُوافَقةِ . و رُبَّما خالَفوا في العِبارةِ مع تسليمِ المعنىٰ ، و امتَنَعوا مِن إطلاقِ القولِ بحُدوثِ (233) كلامِه تَعالىٰ ؛ ظَنّاً منهم أنّ في ذلكَ نقصاً و تقصيراً به.
[الدليل الأوّل: أمارات حدوث كلامه تعالىٰ ](3)
و إنّما قُلنا ذلكَ ؛ لأنّ أماراتِ الحُدوثِ في الكلامِ أقوىٰ و أظهَرُ مِن أمارةِ الحَدَثِ
ص: 261
في الأجسامِ و الأعراضِ ؛ لأنّه يوجَدُ و يُعدَمُ ، و يَترتَّبُ وجودُ بعضِه علىٰ بعضٍ ، و يَنقَسِمُ و يَتجزّىٰ ، و يُضافُ إلَى العربيّةِ ، و معلومٌ تَجدُّدُها.
و قد وَصَفَه اللّٰهُ تَعالىٰ بأنّه مُنَزَّلٌ [بعدَ كتابِ موسى عليه السلام بقوله تَعالىٰ :
«وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ (1)» ](2)، و أنّه مُحكَمٌ بقَولِه تَعالىٰ : «كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ »(3) ، و بأنّه مفعولٌ بقَولِه(4) تَعالىٰ : «وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ مَفْعُولاً»(5).
و صَرَّحَ بحَدَثِهِ في قولِه تَعالىٰ - جَلَّ و عَزَّ -: «مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ »(6) ، و «مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ مُحْدَثٍ »(7) ، بعدَ أن بَيَّنَ تَعالىٰ أنّ الذِّكرَ هو القرآنُ في قولِه - جَلَّ اسمُه -: «إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ »(8) ، و «هٰذٰا ذِكْرٌ مُبٰارَكٌ أَنْزَلْنٰاهُ »(9).
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّما أرادَ به هاهنا الرسولَ لا القُرآنَ ؛ مُستَشهِداً بقَولِه تَعالىٰ :
«قَدْ أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ مُبَيِّنٰاتٍ »(10).
ص: 262
و ذلكَ : أنّ «الذِّكرَ» لا يُعرَفُ استعمالُه في الرسولِ و الآيةُ التي تَلَوها، أكثرُ المُفسِّرينَ علىٰ أنّ «الذِّكرَ» فيها إنّما أرادَ به القُرآنَ (1)، و إنّما نَصَبَ «رَسولاً» بإضمارِ فِعلٍ ، فكأنّه قالَ : «و أرسَلَ رَسولاً»(2).
و يُقَوّي ذلكَ أنّه قالَ : «أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً2»(3) ، و الإنزالُ لا يوصَفُ به الرسولُ ، و إنّما هو مِن أوصافِ القُرآنِ .
و كيفَ يُحمَلُ ذلكَ علىٰ غَيرِ القُرآنِ ، مع قولِه تَعالىٰ : «إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ »(4)؟
و ظاهِرُ قولِه تعالىٰ : «مٰا يَأْتِيهِمْ »(5) لا يُستَعمَلُ إلّافيما يَتكرَّرُ إتيانُه. و الرسولُ إلى أُمَّتِنا واحدٌ، فلا يَليقُ معنَى «الذِّكرِ» في الآيةِ إلّابالقُرآنِ .
و بَعدُ، فلَو سُلِّمَ أنّ «الذِّكرَ» ممّا يُعَبَّرُ به عن(6) الرسولِ في بَعضِ المَواضِعِ ، كانَ مِن المعلومِ أنّه مَجازٌ و تَوسُّعٌ ، و الأصلُ أن يَكونَ عِبارةً عن الكلامِ .
فإن قالوا: الإتيانُ لا يَليقُ بالكلامِ و إنّما يَليقُ بالرسولِ .
قُلنا: قد يُستَعمَلُ ذلك في الكلامِ أيضاً بالعُرفِ . و إذا سَلَّمنا أنّه مَجازٌ، كانَ حَملُ الآيةِ عليه أَولىٰ مِن العُدولِ فيها إلىٰ ضُروبٍ مِن المَجازاتِ .
ص: 263
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ حُدوثِ ما يَفعَلُه مِن الكلامِ : أنّه مُدرَكٌ بلا شُبهةٍ ، فلَو كانَ قَديماً لاستَمَرَّ إدراكُنا له؛ لأنّ ما اقتَضىٰ إدراكَه في بَعضِ الأحوالِ لَو كانَ شرطاً في ذلك، لا فَرقَ فيه بَينَ بعضِ الأحوالِ و بَينَ سائِرِها.
و أيضاً: فلَو كانَ كلامُه تَعالىٰ - و هو مِن جنسِ كلامِنا؛ بدَلالةِ التباسِه به على الإدراكِ - قَديماً، لَوجبَ أن يَكونَ كلامُنا أيضاً قَديماً؛ لأنّ الجنسَ الواحدَ لا يَجوزُ قِدَمُ بعضٍ [منه] و حُدوثُ بعضٍ .
و أيضاً: فلَو كانَ كلامُه تَعالىٰ قَديماً، لَكانَ وجودُه غَيرَ مُترَتِّبٍ بَل في حالٍ واحدةٍ ، و كانت(1) لفظةُ «زَيدٍ» لَيسَت بأن تَكونَ (2) زَيداً أَولىٰ مِن «دَيزٍ» أو «يَزدٍ».
و أيضاً: فإنّ الحُروفَ تَختَصُّ (3) المَحالَّ ، و لا يَصِحُّ وجودُها إلّافيها؛ و قد دَلَّلنا علىٰ ذلكَ مِن قَبلُ . فلَو كانَت الحُروفُ قَديمةً لَكانَت مَحالُّها كذلكَ .
و أيضاً: فإنّ الكلامَ مُدرَكٌ ، فلَو كانَ قَديماً لَأُدرِكَ كذلكَ ، [و] لَعُلِم بالإدراكِ قَديماً(4).
ص: 264
و أيضاً: فلَو كانَ الكلامُ قَديماً و هو حُروفٌ كثيرةٌ ، لَوجبَ تَماثُلُها مِن حَيثُ الاشتراكِ في القِدَمِ ، و هذا يوجِبُ أن لا يُفصَلَ بَينَها(1) بالإدراكِ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلك.
فأمّا مَن أثبَتَ كَلامَه تَعالىٰ مُخالِفاً للكلامِ المَعقولِ ؛ فِراراً مِن لُزومِ ما سَطَرناه مِن الكلامِ : فقَولُه أيضاً واضحُ الفَسادِ؛ لأنّا قد دَلَّلنا علىٰ فَسادِ قولِ مَن أثبَتَ كلاماً في النفسِ (2)، و رَدَدنا علىٰ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ الكلامَ مُخالِفٌ هذا المسموعَ المعقولَ ، و بيّنّا أنّه لا سَبيلَ إلىٰ إثباتِ ذلكَ علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ .
و الكلامُ في قِدَمِ الذاتِ أو (234) حُدوثِها فَرعٌ علىٰ ثُبوتِها، و إذا لَم يَكُن إلىٰ إثباتِ ما ادَّعَوه طريقٌ ، فالتشاغُلُ بالكلامِ في حُدوثِه و قِدَمِه لا مَعنىٰ له.
و ممّا يَدُلُّ - زائداً علىٰ ذلكَ - علىٰ فَسادِ هذا القولِ : أنّ ما خالَفَ سائرَ أجناسِ الكلامِ ، لا يَجوزُ أن يكونَ له حُكمُ الكلامِ ؛ لأنّ ما خالَفَ النوعَ ، و بايَنَ سائرَ ما يَدخُلُ تَحتَه مِن الأجناسِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ خارجاً عنه، و غَيرَ داخلٍ فيه؛ ألَاتَرىٰ أنّ ما خالَفَ الألوانَ في كَونِها هَيئةً (3)، لا يَجوزُ أن يَكونَ لَوناً و لا مِن الأنواعِ (4)؟ و علىٰ هذا الوَجهِ أُلزِمُوا قِدَمَ أجسامٍ (5) مخالِفةٍ الأجسام، إلىٰ غَيرِ ذلكَ مِن الجَهالاتِ .
و هذا الوَجهُ يَختَصُّ مِنهم بمَن أثبَتَ الكلامَ في الشاهدِ هو الأصواتَ
ص: 265
المخصوصةَ ، و جَعَلَ كلامَ اللّٰهِ تَعالىٰ مُخالِفاً. فأمّا مَن ذَهَبَ منهم إلىٰ أنّ الكلامَ في الشاهدِ و الغائبِ لَيسَ مِن جنسِ الصَّوتِ ، و هو معنىً في النفسِ ، لا يَتوجَّهُ هذا الدليلُ خاصّةً عليه.
و لَيسَ لهم أن يقولوا: إذا جازَ عندَكم أن يَكونَ في مقدورهِ تعالى لَونٌ مُخالِفٌ
لهذه الألوانِ أجمَعَ ، فألا جازَ مِثلُ ذلكَ في الكلامِ؟
و ذلكَ : أنّ هذا القولَ لَم نَخرُجْ (1) به عن المعقولِ ؛ لأنّ مَن جَوَّزَ في المقدورِ لوناً يُخالِفُ هذه الألوانَ الموجودةَ ، أثبَتَه هَيئةً للمَحَلِّ ، و مُفتَقِراً إليه، كما أثبَتَ هذه الألوانَ المعقولةَ ، و إن كانَ ضِدّاً لها؛ كتَضادِّها في أنفُسِها. فعُروضِ هذا القولِ أن يُثبِتَ له تَعالىٰ كلاماً يُضادُّ أجناسَ الكلامِ المعقولِ ، إلّاأنّه يُدرَكُ و يُسمَعُ و يَفتَقِرُ إلَى المَحَلِّ ، و يَجري مع هذه الحُروفِ المعقولةِ مَجرىٰ بعضِها مع بعضٍ . و هذا خِلافُ ما يُريدونَه.
علىٰ أنّ هذا القولَ أيضاً لا يَصِحُّ ؛ لأنّ أجناسَ الحُروفِ في مقدورِنا، و مِن شأنِ القادرِ علَى الشيءِ أن يَكونَ قادراً علىٰ ضِدِّه و نَوعِه إذا كانَ له ضِدٌّ و نَوعٌ . فلَو كانَ في المقدورِ حَرفٌ مُخالِفٌ لِما تَعلَّقَه، لكُنّا قادِرينَ عليه. و الألوانُ غَيرُ داخلةٍ تَحتَ مقدورِنا، فتَجويزُ ما يُضادُّ جميعَها - أن يَكونَ في مقدورِه أيضاً تَعالىٰ - غَيرُ مُمتَنِعٍ .
و لا يَعتَرِضُ علىٰ ما ذَكَرناه قولُ مَن يَقولُ : إذا جازَ أن تُثبِتوه تَعالىٰ مُتكلِّماً مُخالِفاً لجميعِ المتكلِّمينَ ، فألا جازَ إثباتُ كلامِه مُخالِفاً [لكلامِ ](2) المتكلِّمين(3) [في الشاهد]؟
ص: 266
[لأنّ : مَن أثبَتَه تَعالىٰ مُتكلِّماً مُخالِفاً للمتُكلِّمينَ ،](1) لَم يَنقُضْ (2) حَقيقةَ كَونِه مُتكلِّماً؛ لأنّ المُتكلِّمَ «مَن فَعَلَ الكلامَ »، و قد يَجوزُ أن تشتَرِكَ في هذه الحقيقةِ الذواتُ المُختَلِفةُ . و قولُنا: «كلامٌ مُخالِفٌ لسائرِ الكلامِ » يَتَناقَضُ ، و يَنفي أوّلَه آخرُه؛ لأنّ مِن شأنِ ما هو كلامٌ أن يَكونَ مِن هذه الحُروفِ المنظومةِ ، فإذا [أعقبناه] بأنّه يُخالِفُ سائرَ الكلامِ ، اقتَضىٰ ذلكَ خُروجَه عن هذه الأجناسِ . و لهذا نَقولُ : إنّه تَعالىٰ مُنعِمٌ مُخالِفٌ للمُنعِمينَ ، و لا يَجوزُ أن نَقولَ : إنّ نِعمَتهُ مخالِفةٌ للنِّعَمِ .
و يَلزَمُهم علىٰ هذه الشُّبهةِ أن يَقولوا: إنّه جسمٌ و إن خالَفَ سائِرَ الأجسامِ ، كَما قالوا في مُتكلِّمٍ و غيرِه.
و أيضاً: فلَو كانَ له تَعالىٰ كلامٌ قَديمٌ ، لَوجبَ أن يَكونَ مِثلاً له و مُستَحِقّاً لسائرِ ما يَستَحِقُّه تعالى مِن الصفاتِ النفسيّةِ ، علىٰ ما دَلَّلنا عليه مِن قَبلُ في بابِ الكلامِ في الصفاتِ (3). و هذه الطريقةُ تَدُلُّ علىٰ نفيِ قِدَمِ كلامِه على كُلِّ حالٍ ؛ سَواءٌ كانَ مُخالِفاً للكلامِ المعقولِ أو مُماثِلاً.
و أيضاً: لَو كانَ كلامُه تَعالىٰ قديماً، لَكانَ غيراً له؛ لأنّ كُلَّ مَذكُورَينِ يُميَّزُ كُلُّ واحدٍ مِنهما بذِكرٍ يَخُصُّه، فهُما غَيرانِ . و هذا الحَدُّ ثابتٌ بَينَه تَعالىٰ و بَينَ كلامِه، فيَجِبُ أن يكونَ غيراً له. و قد أجمَعَ المُسلِمونَ علىٰ كُفرِ مَن أثبَتَ غَيرَ اللّٰهِ تَعالىٰ
ص: 267
قَديماً. و هذه الطريقةُ تُبطِلُ قِدَمَ كلامِه علىٰ سائرِ مَذاهِبِهمُ المُختَلِفةِ فيه.
(235) فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ المُعتَبَرَ في الغَيريّةِ بالقَدرِ الذي ذَكَرتُموه(1).
قُلنا: الدليلُ (2) علىٰ ذلكَ أنّ المعنَى الذي ذَكَرناهُ يَتبَعُه الوَصفُ بالغَيريّةِ ، و عندَ انتفائه يَنتَفي استحقاقُ الوَصفِ بها؛ ألا تَرىٰ أنّ الشَّيئَينِ مَتىٰ دَخَلا تَحتَ ذِكرٍ واحدٍ لَم يوصَفا بالتغايُرِ؟ كيَدِ الإنسانِ إذا أُضيفَت(3) إليه، و الواحدِ مِن العَشَرةِ ، و وُصِفا بالبَعضيّةِ لِمَا عَمَّهُما و إيّاه الذِّكرُ؛ لأنّ فائدةَ البَعضيّةِ في الشيئَينِ شُمولُ الذِّكرِ لهما.
و يوصَفُ زَيدٌ بأنّه غَيرُ عَمرٍو، و السوادُ بأنّه غَيرُ البياضِ ؛ مِن حَيثُ لَم يَشمَلْهُما الذِّكرُ، و أُفرِدَ كُلُّ واحدٍ مِنهما بما يَخُصُّه مِن ذِكرِه.
و لهذا اختَلَفَ الحالُ في الشيءِ الواحدِ، فوُصِفَ تارةً بالغَيريّةِ ، و نُفِيَت عنه أُخرى؛ بحَسَبِ إضافاتِه و ما يَجري مِن ذِكرِه، فيُقالُ في «الواحدِ»: إنّه بَعضُ العشرة(4) و لَيسَ بغَيرٍ لها، فإذا أُضيفَ إلَى التسعةِ ، قيل: إنّه(5) غَيرُها؛ مِن حَيثُ أُفرِدَ بذِكرٍ لا يَشمَلُه مع التسعةِ . و كذلكَ يُقالُ في «يَدِ الإنسانِ »: إنّها غَيرُ رِجلِه، و كُلِّ عُضوٍ يُشارُ إليه مِن أعضائِه. و لا يُقالُ : إنّها غَيرُ الإنسانِ .
ص: 268
و لَيسَ لأحدٍ أن يَدَّعِيَ أنّ القَديمَ تَعالىٰ و كَلامَه يَشمَلُهما ذِكرٌ واحدٌ؛ فإنّ قولَنا:
«اللّٰهُ » يَقَعُ عليه و علىٰ كلامِه، كما قُلناه في العَشَرةِ و غَيرِها.
و ذلك أنّ قولَنا: «اللّٰهُ » و «إلهٌ » يُفيدُ «مَن تَحقُّ (1) له العبادةُ »، و لَيسَ [هو] مِن أسماءِ الجُمَلِ التي تَشمَلُه(2) و غَيرَه. و لَو كانَ مِن أسماءِ الجُمَلِ حتّىٰ يَكونَ مُتَناوِلاً له و لكَلامِه، لَوجبَ أن لا يُجريَه عليه إلّامَن عَرَفَ أنّ له كَلاماً، أو اعتَقَدَ ذلكَ .
فكانَ يَجِبُ أن لا يَجرِيَ «أهلُ التوحيدِ» النافينَ لكلامِه فيما لَم يَزَلْ ، أنّه إلهٌ فيما لَم يَزَلْ في كُلِّ حالٍ . و كذلك أهلُ اللُّغةِ الذين(3) لا يَخطُرُ ببالِهم كلامُه في إثباتٍ و لا نفيٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن يَعتقِدُ في الذاتِ أنّ العِبادةَ لا تَحِقُّ لها و لا تَليقُ بها(4)، لَم يُجرِ
عليها الوَصفَ بالإلهيّةِ؟ لأنّ الأوصافَ تَتبَعُ الاعتقاداتِ ، علىٰ ما بُيِّنَ في غَيرِ محلٍّ .
و بهذا بعَينِه يُعلَمُ أنّ تَسمِيَتَنا له تَعالىٰ بأسمائِه و صِفاتِه، كقَولِنا: «إلهٌ و عالِمٌ و قادِرٌ و حَيٌّ » لا يَدخُلُ فيه العِلمُ و القُدرةُ و الحَياةُ ، لَو كانت هناكَ مَعانٍ علىٰ ما يَدَّعي المُخالِفونَ .
علىٰ أنّه لا خِلافَ بَينَ المُسلمينَ في تكفيرِ مَن قالَ : «إنّ اللّٰهَ تَعالىٰ كَلامٌ و عِلمٌ و قُدرةٌ »(5).
ص: 269
و لَيسَ لهم أن يَدّعُوا دُخولَ ما ذَكَرناه تَحتَ التسميةِ بالإلهيّةِ ؛ مِن حَيثُ كانَ الإلهُ لا بُدَّ أن يَكونَ كذلكَ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ كَونِه إلهاً.
لأنّ هذا أوّلاً باطلٌ ؛ مِن حَيثُ لا تَعلُّقَ للإلهيّةِ بكَونِه مُتكلِّماً و بكلامِه، و لا تَقتَضي(1) إثباتَ عِلمٍ و قُدرةٍ و حَياةٍ ، و إنّما تَقتَضي إثباتَ كَونِه عالماً، قادراً، حيّاً.
ثُمّ لَو كانَ الأمرُ في ذلكَ علىٰ ما ادَّعَوه، لَم يَجِبْ أن يَدخُلَ تَحتَ الحَدِّ و الصفةِ ما لَولاه لَم تُستَحَقَّ تلكَ الصفةُ ، كما لا يَدخُلُ تَحتَ قَولِنا: «مُتَحرِّكٌ » الحركةُ .
علىٰ أنّه يَلزَمُ أن يَقولُوا علىٰ هذا: إنّ الكلامَ غَيرُ ذاتِه؛ لأنّ قولَنا: «ذاتٌ » لا يَقتَضي ما لا يَتِمُّ إلّابالكلامِ .
و قد قالَ أبو هاشمٍ (2): إنّ كُلَّ مُختَلِفَينِ فلا بُدَّ مِن أن يَكونا غَيرَينِ ؛ لأنّ الاختلافَ يأتي على معنَى الغَيريّةِ و يَزيدُ عليها. و هذا يَقتَضي كَونَ كلامِه تَعالىٰ غيراً له.
و لا يَلزَمُ على هذه الطريقةِ أن تَكونَ يَدُ الإنسانِ غيراً له، مِن حيثُ تُخالِفُه في الحُكمِ ؛ لاستحالةِ أن تَكونَ اليدُ قادرةً عالِمةً ، و صحّةِ ذلكَ علىٰ جُملةِ الإنسانِ .
و ذلك أنّ الذي راعاهُ الاختلافُ في الذاتيّةِ لا في الأحكامِ ، و اليَدُ لا تُخالِفُ الجُملةَ علَى الحقيقةِ و في نفسِها.
و لَيسَ لهم أن يَمتَنِعوا مِن وَصفِه بالغَيريّةِ ؛ لادِّعائِهم أنّ حَدَّ الغَيرَينِ (3) «هما
ص: 270
اللَّذانِ يَجوزُ، أو كانَ يَجوزُ وجودُ أحَدِهما مع عدمِ الآخَرِ(1)؛ إمّا في(2) المكانِ أو الزمانِ ، أو علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ ».
و ذلكَ أنّ هذا (236) يَنتَقِضُ بيَدِ الإنسانِ ؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ يَعلَمُ جَوازَ وجودِ الإنسانِ مع عدمِها، و قد كانَ ذلكَ جائزاً، و مع هذا فلا توصَفُ بأنّها غَيرُه.
و بَعدُ، فإنّ جَوازَ وجودِ أحدِهما مع عدمِ صاحبه، إنّما يَقتَضي تَغايُرَهما مِن حَيثُ كانَ حُكمُ أحَدِهما يُفارِقُ حُكمَ الآخَرِ. و علىٰ هذا يَجِبُ (3) إذا اختَصَّ
أحَدُهما بصفةٍ تَستَحيلُ علَى الآخَرِ، أو اختَصَّ بأن صَحَّ عليه ما لا يَصِحُّ علَى الآخَرِ مِن الأحكامِ و الصفاتِ ، أن يَكونا مُتَغايِرَينِ علىٰ وَجهٍ ، و هو أظهَرُ و آكَدُ؛ لأنّ جَوازَ اختصاصِ أحَدِهما بما لَيسَ للآخَرِ إذا اقتَضَى التغايُرَ، فوجوبُ ذلكَ أَولىٰ بأن يَقتَضيَه.
و ممّا قيلَ في فَسادِ هذه الطريقةِ (4) لهم: أنّ العِلمَ بتَغايُرِ الشيئَينِ ضَروريٌّ ، و العِلمَ بجَوازِ وجودِ أحَدِهما مع عدمِ الآخَرِ لا يَكونُ إلّامُكتَسَباً؛ فكيفَ يَكونُ هذا الحَدُّ صحيحاً؟
علىٰ أنّ مُعوَّلَهم(5) في صحّةِ هذا الحَدِّ إذا كانَ علَى الشاهدِ، فلا بُدَّ مِن صحّةِ عدمِ كُلِّ واحدٍ مِنهما بَدَلاً مِن وجودِه. و هذا إذا جَعَلناه حَدّاً أو وصفاً لازماً، يَقتَضي أن
ص: 271
لا يَكونَ القَديمُ تَعالىٰ غَيراً لكُلِّ ذاتٍ مِن المُحدَثاتِ . و إذا جازَ الخُروجُ عن قَضيّةِ الشاهدِ فيما ذَكَرناه، جازَ الخُروجُ عنها فيما ذَكَروه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَمتَنِعَ مِن وَصفِ كلامِه تَعالىٰ بأنّه غَيرُه؛ مِن حَيثُ أنّ الغَيرَينِ لا يَكونانِ كذلكَ إلّابغَيريّةٍ .
و ذلكَ أنّ كَونَ الشيءِ غَيراً، يَرجِعُ عندَ التحقيقِ إلَى النفيِ ، و ما يَكونُ نَفياً لا يُستَحَقُّ لعِلّةٍ و لا للنفسِ .
و بعدُ، فيَستَحيلُ خُروجُ الشيءِ مِن(1) أن يَكونَ غَيراً لغَيرِه، و هذه أمارةُ الاستغناءِ عن المعنىٰ ؛ ألَاتَرىٰ أنّ السوادَ يَستَحيلُ خُروجُه عن كَونِه غَيراً للحُموضةِ ، كما يَستَحيلُ خُروجُه عن كَونِه سَواداً؟ و كما لا يَجوزُ أن يكونَ سواداً لمعنىً ، كذلكَ لا يَجوزُ أن يَكونَ غَيراً لمعنىً .
علىٰ أنّ المعنَى الذي هو «الغَيريّةُ » مُغايِرٌ لغَيرِه أيضاً، و هذا يَقتَضي إثباتَ ما لا نِهايةَ له مِن المَعاني.
و بعدُ، فما المانِعُ مِن أن يَكونَ كلامُه غَيراً له تَعالىٰ ؛ لغَيريّة تَقومُ بالكلامِ ، كما قالوا ذلكَ في سائرِ الحَوادثِ المُغايِرةِ ، أو تَقومُ (2) بذاتِ القَديمِ ، علىٰ أُصولِهم، كقيامِ صِفاتِه ؟
و كُلُّ هذا واضحٌ لِمَن تَدبَّرَه.
***
ص: 272
[1.] ممّا تَعلَّقوا به أنّ الحَيَّ إذا لَم تكن(1) به آفةٌ - كخَرَسٍ و ما أشبَهَه، و إلّاكان
ساكتاً(2) - فيَجِبُ أن يَكونَ مُتَكلِّماً، كما يَجِبُ في الحَيِّ الذي لا آفةَ به أن يَكونَ رائياً للمَرئيّاتِ الموجودةِ .
قالوا: و الخَرَسُ أو السُّكوتُ لا يَجوزانِ عليه، فيَجِبُ أن يَكونَ مُتكلِّماً فيما لَم يَزَلْ .
و رُبَّما قَوَّوا ذلكَ بأن يقولوا: إنّا نُثبِتُ كَونَه عالِماً بنفيِ أضدادِ العِلمِ ، فكذلكَ يَجِبُ أن يَثبُتَ كَونُه مُتكلِّماً بنفيِ أضدادِ الكلامِ .
[2.] و ممّا تَعلَّقوا أيضاً به أن قالوا: إذا ثَبَتَ أنّه مُتكلِّمٌ بكلامٍ ، لَم يَخلُ كلامُه مِن أن يَكونَ قَديماً، أو مُحدَثاً.
فإن كانَ مُحدَثاً، لم يَخلُ مِن أن يَكونَ موجوداً في غَيرِ مَحَلٍّ ، أو فيه تَعالىٰ ، أو في مَحَلٍّ مُنفَصِلٍ . و وجودُه - و هو لا يَقومُ بنفسِه - في غَيرِ مَحَلٍّ مُستَحيلٌ . و قيامُ الحَوادثِ بذاتِه تَعالىٰ في الاستحالةِ كذلكَ . و وجودُه في مَحَلٍّ يَقتَضي أن يُشتَقَّ للمَحَلِّ منه اسمٌ ، فيُقالَ : مُتكلِّمٌ و آمِرٌ و ناهٍ (3).
ص: 273
و رُبَّما قالوا: كانَ يَجِبُ أن يُشتَقَّ (1) «للمَحَلِّ ، أو لِما ذلكَ المَحَلُّ بعضُه» مِن أخَصِّ (2) أوصافِ الكلامِ وصفٌ (3).
[3.] و ممّا تَعلَّقوا به - على ظُهُورِ رَكاكَتِه -: أنّ القُرآنَ لَو كان مُحدَثاً مخلوقاً، و فيه: «اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ » لَوجَبَ أن يَكونَ تَعالىٰ مُحدَثاً مخلوقاً؛ لأنّ الاسمَ هو المُسمّىٰ .
[4.] و ممّا تَعلَّقوا به: قولُه تَعالىٰ : «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(4) ، و «إِنَّمٰا قَوْلُنٰا (237) لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(5) ، قالوا: فلَو كانَ القرآنُ مُحدَثاً، لكانت لفظة(6) «كُن» مُحدَثةً ، و كَونُه كذلكَ يَقتَضي - علىٰ ما خَبَّرَ - أن يُحدِثَها بلفظةِ «كُن» أُخرىٰ ، و يؤَدّي إلىٰ ما لا نِهايةَ له مِن الألفاظِ. و ما وجبَ (7)مِن ذلكَ في هذه اللفظةِ ، وَجَبَ فيما(8) عَداها مِن ألفاظِ القُرآنِ ؛ لأنّ التفرِقةَ بَينَ الأمرَينِ غَيرُ مُمكِنةٍ .
[5.] و ممّا تَعلَّقوا به: قولُه تَعالىٰ : «أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ»(9) ، ففَصَلَ بَينَ الخَلقِ و الأمرِ. و لَو كانَ الأمرُ مخلوقاً، لَم يَصِحَّ هذا الفَصلُ و التمييزُ.
ص: 274
و كذلكَ قولُه: «اَلرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ * خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ »(1) ، ففَصَلَ بَينَهما، [و هو] إنّما يَقتَضي أنّ القُرآنَ غَيرُ مخلوقٍ .
[6.] و ممّا تَعلَّقوا به أنّ قالوا: قد عَلِمنا أنّ كَونَ المُتكلِّمِ مُتكلِّماً يَختَصُّ الحَيَّ ، فجَرىٰ مَجرىٰ كَونِ القادرِ قادراً و العالِمِ عالِماً. و قد عَلِمنا أنّ كُلَّ ما يَختَصُّ الحَيَّ مِن الصفاتِ علىٰ ضَربَينِ :
فضَربٌ : يَقتَضي النقصَ ، فلا يوصَفُ به القَديمُ تَعالىٰ في كُلِّ حالٍ .
و الضَّربُ الآخَرُ: لا يَقتَضي النقصَ ، فهو تَعالىٰ موصوفٌ به لَم يَزَلْ .
فيَجِبُ علىٰ هذا أن يَكونَ مُتكلِّماً لَم يَزَلْ ، كما كانَ عالِماً قادراً لَم يَزَلْ .
الكلامُ علىٰ ذلكَ : يُقالُ لهم فيما تَعلّقوا به:
القَدرُ الذي اعتَمَدتموه يَنتَقِضُ بالصائحِ و الصارخِ ؛ لأنّه قد خَرَجَ مِن جميعِ ما ذَكَرتموه مِن الآفةِ و السكوتِ ، فيَجِبُ (2) أن يَكونَ مُتكلِّماً.
و يَنتَقِضُ أيضاً بمَنِ ابتَدَأتِ القُدرةُ فيه؛ لأنّه في تلكَ الحالِ غَيرُ ساكتٍ و لا أخرَسَ و لا مُتكلِّمٍ .
و متىٰ لَم يَذكُروا في استدلالِهم الآفةَ (3)، و اقتَصَروا علىٰ «أنّ الحَيَّ متىٰ لَم يكُن أخرسَ (4) و لا ساكتاً، وجبَ أن يَكونَ مُتكلِّماً» فرُبَّما أورَدوه علىٰ هذا الوَجهِ .
ص: 275
لَزِمَهم علىٰ ذلكَ : الطفلُ ، و لَزِمَ العاجزُ الذي قد شَمَلَ العَجزُ جميعَ جوارحِه؛ لأنّ هذا لا يوصَفُ بالخَرَسِ ؛ مِن حَيثُ كانَ الوَصفُ بالخَرَسِ إنّما يُجرونَه علىٰ «مَنِ اختَصَّ لِسانُه بالعَجزِ» دونَ سائرِ جَوارحِه، كما أنّ المُفتَصِدَ هو مَنِ اختَصَّ مَوضِعٌ مِن عُروقِه بالقَطعِ مع سلامةِ باقيها، و مَن كانَ القَطعُ شامِلاً لجميعِ عُروقِه لا يوصَفُ بذلكَ . و الأظهَرُ أنّ «الأخرَسَ » هو «مَن لَحِقَ لِسانَه فَسادٌ و آفةٌ مع وجودِ القُدرةِ فيه»(1)، فيَلحَقُ (2) مَن حَلَّ لِسانَه العَجزُ بذلكَ ؛ لاشتراكِهما في تَعذُّرِ الكلامِ عليهما.
فإن قالوا: أمّا الصُّراخُ و الصِّياحُ فلا يَجُوزانِ عليه تَعالىٰ ، و نحن نَشرِطُهما(3) كما شَرَطنا الآفةَ و السُّكوتَ . و أمّا ابتداءُ حالِ القُدرةِ ، فنَحنُ نُخالِفُكم فيه؛ لأنّ القُدرةَ عندَنا مع الفِعلِ .
قُلنا: أمّا(4) استئنافُ زيادةٍ في استدلالِكم فهو دالٌّ علَى الإخلالِ ، و هو الذي قَصَدناه.
و خِلافُكم في «أنّ القُدرةَ مع الفِعلِ » لا يُغني شيئاً؛ لأنّ الخِلافَ مِنّا و مِنكم يَقتَضِي أنّه أصلٌ غَيرُ مُسلَّمٍ و لا مُمهَّدٍ بَينَنا و بَينَكم. و أنتم أَورَدتم الاستدلالَ إيرادَ
مَن لا خِلافَ عليه في شُروطِه و أُصولِه، و احتَرَزتُم بالعِباراتِ مِن القُدوحِ و
ص: 276
النُّقوضِ .(1) و إذا خالَفناكم في هذا المَوضِعِ وَقَفَ استدلالُكم.
علىٰ أنّا نَستَدِلُّ علىٰ تَقدُّمِ القُدرةِ (2) للفِعلِ فيما يأتي مِن الكتابِ بإذنِ اللّٰهِ (3)، فيَصِحُّ ما قَدَحنا به.
و لَيسَ لكم أن تَقولُوا: إنّ الاعتراضَ بابتداءِ حالِ القُدرةِ لا يَلزَمُنا؛ لأنّ المُتكلِّمَ لَم يَكُن مُتكلِّماً مِن حَيثُ فَعَلَ الكلامَ .
و ذلك: أنّ الخِلافَ في هذا الأصلِ مِنّا لهم، يَقتَضي وقوفَ استدلالِهم، و مَنعَه عنِ الاستمرارِ، علىٰ ما قَدَّمناه. و إن كُنّا قد دَلَلنا فيما مَضىٰ علىٰ أنّ المُتكلِّمَ هو «مَن فَعَلَ الكلامَ » بما لا شُبهةَ فيه(4).
فإن قالوا: نحنُ نشتَرِطُ في ابتداءِ الاستدلالِ أن يَكونَ الحَيُّ ممّن يَصِحُّ كَونُه مُتكلِّماً، ثُمَّ نَقولُ : (238) إذا لَم يَكُن مَؤوفاً و لا ساكتاً و لا أخرَسَ ، وجبَ كَونُه مُتكلِّماً.
قُلنا: إذا شَرَطتم ذلكَ ، فنحنُ نُخالِفُكم في ثُبوتِ شَرطِكم في القَديمِ تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ ، و نَقولُ : إنّه في تلكَ الأحوالِ لا يَصِحُّ كَونُه مُتكلِّماً، فدُلّوا علىٰ صحّةِ ما ادَّعَيتموه، و إلّابَطَلَ دليلُكم.
فإن قالوا: لَو استَحالَ كونُه مُتكلِّماً [فيما] لَم يَزَلْ ، استحالَ ذلكَ الآنَ ؛ ككَونِه مُتحرِّكاً و ساكناً.
ص: 277
قيلَ لهم: و هذه(1) أيضاً دعوىً مِنكم؛ و لِمَ إذا استحالَ فيما لَم يَزَلْ استحالَ الآنَ؟
فأمّا كَونُه مُتحرِّكاً، فلم يَستَحِلِ الآنَ لاستحالتِه فيما لَم يَزَلْ ، بل هو مُستَحيلٌ في نفسِه مِن غَيرِ اعتبارِ وقتٍ .
علىٰ أنّ هذا الاعتلالَ يَنتَقِضُ بكَونِه مُحسِناً و مُنعِماً و رازِقاً؛ لأنّه يَستَحيلُ فيما لَم يَزَلْ و لا يَستَحيلُ الآنَ ، و لا يَصِحُّ حَملُه علَى استحالةِ الحركةِ عليه تَعالىٰ .
فإن قالوا: نَحنُ نَكتَفي في إيجابِ كَونِه مُتكلِّماً «مِن حَيثُ انتفاءِ الخَرَسِ و السُّكوتِ » بصحّةِ كَونِه مُتكلِّماً في الجُملةِ .
قُلنا: هذا غَيرُ كافٍ ؛ لأنّه يوجِبُ كَونَ المَيِّتِ مُتكلِّماً إذا انتَفىٰ عنه الخَرَسُ و السُّكوتُ ؛ لأنّه ممّن يَصِحُّ كَونُه علىٰ حالٍ مِن الأحوالِ مُتكلِّماً(2).
فإن قالوا: المَيِّتُ ، لأمرٍ يَرجِعُ إليه في الحالِ ، لا يَصِحُّ كونُه مُتكلِّماً فيها(3).
[قُلنا: فما الفَرقُ بَينَ أن لا يَصِحَّ كَونُه مُتكلِّماً فيها](4) لأمرٍ يَرجِعُ إليه، و بَينَ أن يَكونَ كذلكَ [لأمرٍ] لا يَرجِعُ إلىٰ تلكَ الحالِ؟ و لِمَ إذا انتَفَى الخَرَسُ و السُّكوتُ في أحَدِ المَوضِعَينِ وجبَ إثباتُ الكَلامِ ، و لَم يَجِبْ في المَوضِعِ الآخَرِ، و هُما
ص: 278
مُشتَرِكانِ في أنّ الحالَ لا يَصِحُّ وجودُ الكلامِ مِنه فيها؟
علىٰ أنّهم مَتَى اقتَصَروا علىٰ أن يَقولوا: «كُلُّ مَن صَحَّ أن يَكونَ مُتكلِّماً في حالٍ مِن الأحوالِ ، و علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ ، متَى انتَفَى الخَرَسُ و السُّكوتُ عنه وجبَ كَونُه مُتكلِّماً في الحالِ » لَم يَجِدوا له أصلاً يَرجِعونَ إليه؛ لأنّ الشاهِدَ إنّما يَقضي بذلكَ - إذا قَضىٰ به - فيمن يَصِحُّ في الحالِ أن يَكونَ مُتكلِّماً.
علىٰ أنّا إذا سَلَّمنا لهم صحّةَ كَونِه تَعالىٰ مُتكلِّماً فيما لَم يَزَلْ ، - علىٰ ظُهورِ فَسادِه -، لَم يَجِب ما ادَّعَوه مِن أن يُنفىٰ الخَرَسُ أو السُّكوتُ عنه في تلكَ الأحوالِ ، [و لَم] يَجِبْ أن يَكونَ مُتكلِّماً قياساً علىٰ أحَدِنا؛ لأنّ المُراعىٰ في هذه الأُمورِ اعتبارُ العِللِ و الأسبابِ . و إذا بيّنّا أنّه(1) ما له وجبَ ذلكَ في أحَدِنا لا يَتأتّىٰ فيه تَعالىٰ ، سَقَطَت شُبهَتُهم مِن أصلِها.
و الوَجهُ في ذلكَ ظاهرٌ؛ لأنّ أحَدَنا إنّما يَتكلَّمُ بآلةٍ مخصوصةٍ ؛ فإمّا أن تَكونَ (2)مؤوفةً أو سليمةً ، و الآفةُ إمّا أن تَكونَ خَرَساً أو طفوليّةً . و إذا كانَت سليمةً فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ فاعلاً بها الكلامَ و أسبابَه، أو عادلاً عن ذلكَ ؛ بأن سَكَّنها أو حَرَّكَها في الصِّياحِ الذي لَيسَ بكلامٍ أو ما أشبَهَه، فصارَت هذه القِسمةُ إنّما تَتَعاقَبُ على الآلةِ .
و يَجِبُ أن لا يَخرُجَ (3) أحَدُنا منها لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ كونِه مُتكلِّماً بآلةٍ يَستَعمِلُها في الكلامِ و أسبابِه. و القَديمُ تَعالىٰ لا يَتكلَّمُ بآلةٍ ، فلا يَصِحُّ دُخولُ هذه القِسمةِ فيه. و إذا لَم تَدخُل(4) فيه، لَم يَجِب بنفيِ الخَرَسِ أو السُّكوتِ عنه إثباتُ الكلامِ له.
ص: 279
و يُقالُ لهم: خَبِّرونا عمّا نَفَيتموه عن القَديمِ تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ مِن الخَرَسِ أو السُّكوتِ ، و تَوصَّلتم بانتفائِهما(1) عنه إلى كَونِه مُتَكلِّماً فيما لَم يَزَلْ ؛ أهُما هذانِ المعقولانِ المُتعلِّقانِ بالجارحةِ التي تُستَعمَلُ (2) في الكلامِ في الشاهِدِ؟
فإن قالوا بذلكَ ، قيلَ لهم: (239) و كيفَ يَدُلُّ انتفاءُ هذَينِ علىٰ إثباتِ الكلامِ المُخالِفِ لأجناسِ الأصواتِ عندَكم ؟ و مِن شأنِ انتفاءِ هذَينِ الراجعَينِ إلَى الجارحةِ ، أن يَدُلَّ علىٰ إثباتِ الكلامِ الذي هو مِن جنسِ الصَّوتِ .
فلا بُدَّ مِن أن يَدَّعوا أنّ الخَرَسَ و السُّكوتَ مُخالِفانِ لهذَينِ المعقولَينِ المُتعلِّقَينِ بالجارحةِ .
فحينئذٍ يُقالُ لهم: و مِن أينَ لكم انتفاؤهما عنه تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ؟ و ألا كانَ عليهما أو علىٰ أحدِهما؟ و ألا اجتَمَعا مع كَونِه مُتكلِّماً؟ لأنّهم لا طريقَ لهم إلىٰ إثباتِهما ضِدَّينِ للكلامِ ، كما تَثبُتُ (3) مُضادّةُ الخَرَسِ المعقولِ للكلامِ المعقولِ .
فإن قالوا: لَو كانَ عليهما، لَكانَ علىٰ صفةِ نقصٍ .
قُلنا: ما أنكَرتُم أنّ النقصَ إنّما يَتعلَّقُ بالخَرَسِ و السُّكوتِ المُتَعاقِبَينِ علَى اللِّسانِ ؛ مِن حَيثُ كانَ دَلالةً علَى الحَدَثِ و الحاجةِ و نَفيِ القِدَمِ ، فأمّا ما يُخالِفُ ذلكَ و يُبايِنُه(4) فمِن أينَ أنّه نقصٌ؟
فإن قالوا: ثُبوتُ كَونِه مُتكلِّماً الآنَ ، يَدُلُّ علىٰ أنّه لَم يَكُن فيما لَم يَزَلْ بصفةِ
ص: 280
الساكتِ و الأخرَسِ ؛ لأنّه لَو كانَ كذلكَ ، لَكانَ «ما أَوجَبَ كَونَه أخرَسَ أو ساكتاً» قَديماً؛ لوجودِه مع ما لَم يَزَلْ ، و القَديمُ يَستَحيلُ بُطلانُه.
قُلنا: ألَيسَ قد ألزَمناكُم صحّةَ اجتماعِ الخَرَسِ و السُّكوتِ مع الكلامِ ؛ إذ أثبَتُّم ذلكَ كلاماً(1) مُخالِفاً للمعقولِ؟ فكيف يَلزَمُ علىٰ هذا الوَجهِ عدمُ القَديمِ؟ و ذلكَ إنّما يَلزَمُ لَو كانَ السُّكوتُ أو الخَرَسُ لا يَصِحُّ اجتماعُه مع الكلامِ ، و قد بيّنّا أنّ ذلكَ ممّا لا سَبيلَ لكُم إليه علىٰ مَذاهِبِكمِ الفاسدةِ .
ثُمَّ مِن أينَ لكُم أنّه الآنَ مُتكلِّمٌ ، و أنّ له كلاماً، مع قولِكم: إنّ الكلامَ يُخالِفُ الأصواتَ المعقولةَ؟ و الذي ثَبَتَ له و عَقَلناه مِن الكلامِ هو هذا المسموعُ المُدرَكُ ، و ما هو بخِلافِ ذلكَ ممّا يَدَّعونَه، لَم يَثبُتْ و لا كلامَ عليه(2).
ثُمّ لَو سَلَّمنا أنّه الآنَ مُتكلِّمٌ بما تَدَّعونَه مِن الكلامِ ، لَم يوجِبْ ذلك ما ظَنَنتموه؛ لأنّ القَديمَ يَلزَمُكم - علىٰ أُصولِكم الفاسدةِ - أن يَكونَ ممّا يَجوزُ العدمُ و البُطلانُ عليه؛ لأنّ الأجناسَ كُلَّها عندَكم علىٰ ما هي عليه لأنفُسِها، كالسوادِ و الجَوهرِ، و تَخرُجُ في العدمِ عندَكم مِن الصفاتِ التي تَستَحِقُّها(3) لنُفوسِها.
و بَعدُ(4)، فإنّكم تُفَسِّرونَ (5) الصفةَ النفسيّةَ بأنّها المُستَحَقّةُ لا لعِلّةٍ ، و لا يَمتَنِعُ أن يَخرُجَ الموصوفُ عنها(6)، و إنّما يُحيلُ خُروجَ الموصوفِ عن النفسيّةِ
ص: 281
مَن جَعَلَ فائدتَها التمييزَ(1) له أو التخصيصَ .
و يُقالُ لهم: قد بَنَيتم شُبهَتَكم هذه علىٰ أنّ الخَرَسَ و السُّكوتَ يُضادّانِ الكلامَ ، و ذلكَ فاسدٌ. و على أنّ الحَيَّ لا يَخلو مِن أحَدِ ما يَتَضادُّ عليه، و لهذا حَمَلتُمُوه على العِلمِ ، و ذلكَ أيضاً فاسدٌ.
و الذي يُبيّنُ أنّ الخَرَسَ و السُّكوتَ لا يُضادّانِ الكلامَ : أنّهما لَو ضادّاه لَما صَحَّ أن يجتَمِعَ كُلُّ واحدٍ منهما معه، و قد عَلِمنا صحّةَ ذلكَ ؛ بأن يَفعَلَ اللّٰهُ تَعالىٰ في لِسانِ الساكتِ أو الأخرَسِ كلاماً.
و بَعدُ، فإنّ السُّكوتَ و الخَرَسَ مُختَلِفانِ ، و لا يَجوزُ أن يُضادَّهما الكَلامُ ؛ لأنّ مِن شأنِ الشيءِ الواحدِ أن لا يَنتَفيَ بمُختَلِفَينِ غَيرِ ضِدَّينِ .
و أيضاً: فمِن حَقِّ كُلِّ شيءٍ ضادَّ شيئاً مُدرَكاً - و كانا يَخُصّانِ المَحَلَّ ، و يَصيرانِ كالهَيئةِ له - أن يَكونَ أحَدُهما متىٰ أُدرِكَ (240) بحاسّةٍ ، وجبَ إدراكُ الآخَرِ بها. و قد عَلِمنا أنّ الخَرَسَ و السُّكوتَ لا يُدرَكانِ جُملةً ، فَضلاً عن أن يَختَصَّ إدراكُهما بالأدلّةِ التي يُدرَكُ بها الكلامُ (2).
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: لَو لَم يُضادّا(3) الكلامَ ، لَصَحَّ أن يجتَمِعَ (4) معَ أحَدِهما.
و ذلكَ : أنّا قد بَيَّنّا صحّةَ اجتماعِه معهما(5)، إذا كانَ مِن فِعلِ اللّٰهِ تعالىٰ .
ص: 282
و يَجوزُ أيضاً في أحَدِنا أن يَكونَ مُتكلِّماً بما يَفعَلُه في الصَّدىٰ مُتَولِّداً، في حالٍ هو فيها ساكتٌ و كافٌّ عن تحريكِ لِسانِه [و باقي](1) أسبابِ الكلامِ .
و كذلكَ لَو خُلِقَت له آلَتانِ للكلامِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يَلحَقَ إحداهما آفةٌ و يَتكلَّمَ بالأُخرىٰ ؛ لأنّ ذلكَ هو معنَى الخَرَسِ ، و إن جازَ أن لا يُطلَقَ الاسمُ ، كما أنّ ما يوجَدُ في العَينِ العَوراءِ مِن الفَسادِ معنَى العَمىٰ ، و إن كانَ لا يُسمّىٰ بذلكَ إلّابَعدَ حُصولِه في العَينَينِ معاً.
و بعدُ، فليسَ كُلُّ شيءٍ امتَنَعَ اجتماعُه مع غَيرِه فللتضادِّ؛ لأنّ السوادَينِ المُختَصَّينِ بمَحَلَّينِ يَمتَنِعُ اجتماعُهما في المَحَلِّ الواحدِ لا للتضادِّ. و كذلكَ حَياةُ زَيدٍ و عَمرٍو و قُدرتاهما، و كذلكَ الصورَتانِ المُختَصَّتانِ (2) بوَقتَينِ ، يَمتَنِعُ اجتماعُهما في الوَقتِ الواحدِ لا للتضادِّ.
و الوَجهُ في امتناعِ اجتماعِ الكلامِ مِن فِعلِنا مع الخَرَسِ أو السُّكوتِ ، بَيِّنٌ ،
و هو غَيرُ التضادِّ؛ لأنّ أحَدَنا لا يَفعَلُ الكلامَ إلّابآلةٍ ، فإذا كانَ فيها آفةٌ و فَسادٌ تَعذَّرَ عليه فِعلُ الكلامِ بها. و السُّكوتُ إذا كانَ معناه العُدولَ عن استعمالِ جارحةِ الكلامِ في أسبابِه، لَم يَصِحَّ فيمن يَتكلَّمُ بآلةٍ أن يَكونَ مُتكلِّماً في حالٍ هو فيها ساكتٌ .
فأمّا الكلامُ في أنّ الحَيَّ قد يَخلو ممّا يَتَضادُّ عليه - إذا سَلَّمنا أنّ بَينَ الكلامِ و بَينَ الخَرَسِ و السُّكوتِ تَضادّاً - فبَيِّنٌ أيضاً؛ لأنّ أحَدَنا لَيسَ بجاهلٍ و لا ساهٍ عمّا لا يَتَناهىٰ مِن المعلوماتِ ، و مع ذلكَ فلَيسَ هو عالماً بها(3). و كثيرٌ مِن الأُمورِ لا يَخطُرُ
ص: 283
ببالِنا، فنخلو(1) فيها مِن الاعتقاداتِ كُلِّها مع تَضادِّها. و كثيرٌ أيضاً ممّا يَخطُرُ ببالِنا قد نَخلو مِن مِثلِ ذلك فيه؛ كعَدَدِ القَطْرِ و الرَّملِ و ما أشبَهَها.
ثُمّ ما يَلزَمُ مَنِ اعتَمَدَ هذه الشُّبهةَ ، مِن المُعارَضاتِ التي لا انفِصالَ له منها، ظاهرٌ.
فمنها: أنّ أحَدَنا مَتَى انتفىٰ عنه الخَرَسُ و السُّكوتُ ، إنّما يَجِبُ أن يَكونَ مُتكلِّماً بآلةٍ مخصوصةٍ مِن لِسانٍ و فَمٍ ؛ ألَاتَرىٰ أنّ مَن لَم يَكُن في الشاهدِ مُتكلِّماً بآلةٍ مِن فَمٍ و لسانٍ ، يَكونُ (2) مَؤوفاً(3) منقوصاً؟ فإذا قاسوا الغائبَ علَى الشاهدِ في هذا البابِ ، وجبَ أن يُثبِتوا القديمَ تَعالىٰ - لانتفاءِ الخَرَسِ و السُّكوتِ عنه - مُتكلِّماً علىٰ هذا الوَجهِ (4). و أيُّ شيءٍ راموا أن يَفصِلوا به بَينَ القَديمِ تَعالىٰ و بَينَنا في هذا الوَجهِ ، اعتَمَدناه بعَينِه فيما تَعلَّقُوا به.
و مِنها: أنّ نفيَ السُّكوتِ و الخَرَسِ عن أحَدِنا في الشاهدِ، كما يوجِبُ كَونَه مُتكلِّماً، فهو يوجِبُ كَونَه فاعلاً للكلامِ ، و أن يَكونَ واقعاً بحَسَبِ قَصدِه و إرادتِه،
ص: 284
أو كَونَ الكلامِ مفعولاً فيه(1) علىٰ حَسَبِ ما يَدَّعيهِ المُخالِفُ . و إذا أوجَبوا كَونَه تَعالىٰ فيما لَم يَزَل مُتكلِّماً، مِن حيثُ انتفاءِ الخَرَسِ و السُّكوتِ قياساً علىٰ أحدِنا، فيَجِبُ أن يوجِبوا(2) كَونَ كلامِه فِعلاً و حادِثاً؛ إمّا بأن يَفعَلَه أو يُفعَلَ له، و إذا لَم يَجِبْ ذلكَ فيه لَو خالَفَ الشاهدَ، لَم يَجِبْ إثباتُه مُتكلِّماً مِن حيثُ انتفاءِ الخَرَسِ و السُّكوتِ ، ففارَقَ (3) الشاهدَ.
و لَيسَ لهم أن يَقولُوا علىٰ هذا الإلزامِ خاصّةً : إنّا لا نُسَلِّمُ أنّ أحَدَنا لا يَكونُ مُتكلِّماً إلّابأن يَفعَلَ الكلامَ ؛ لأنّ اللّٰهَ تَعالىٰ لَوِ اضطَرَّه إلَى الكلامِ بفِعلِه(4) في لِسانِه، لَخَرَجَ عن الخَرَسِ و السُّكوتِ ، و لَكانَ مُتكلِّماً.
و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا فيما سَلَفَ أنّ المُتكلِّمَ لا يَكونُ مُتكلِّماً إلّابما يَفعَلُه مِنَ الكلامِ (5)، دونَ ما يُفعَلُ فيه.
ثُمّ هذا إذا سَلَّمناهُ لا يُغني شيئاً؛ لأنّ الشاهِدَ يَقتَضي أنّ أحَدَنا لا يَكونُ مُتكلِّماً إلّا بما يَفعَلُه مِن الكلامِ أو يُفعَلُ (6) فيه، و الغائبُ بخِلافِ ذلكَ . فالإلزامُ مُتوجِّهٌ علىٰ كُلِّ حالٍ .
و مِنها: أنّ أحَدَنا بانتفاءِ الخَرَسِ و السُّكوتِ المعقولَينِ عنه، إنّما يَجِبُ أن يَثبُتَ
ص: 285
له الكلامُ المعقولُ الذي هو مِن جنسِ الأصواتِ و قَبيلِها. فإذا قاسوا الغائبَ علَى الشاهدِ في ذلكَ ، وجبَ أن يُثبِتوا كلامَه تَعالىٰ مِن قَبيلِ الأصواتِ ، و ذلكَ يَقتَضي حَدَثَه و نَفيَ قِدَمِه!
فإن قالوا: الخَرَسُ و السُّكوتُ اللّذانِ نَنفيهِما عنه تعالىٰ فيما لَم يَزَل، لَيسَ هما المعقولَينِ المُختَصَّينِ (1) بجارحةِ الكلامِ .
فقَد مَضىٰ ما في هذا(2)، و قُلنا لهم: إذا كانَ الأمرُ هكذا، فمِن أينَ لكُم انتفاؤهما؟ فهو غَيرُ مُسَلَّمٍ .
و يُقالُ لهم فيما تَعلَّقوا(3) به بأنّنا قد بنَينا علىٰ أنّ كلامَه تَعالىٰ لا يَقومُ بنفسِه(4)، و أنّه [غير] مُفتَقِرٌ إلَى المَحَلِّ ؛ فمِن أينَ لكم [استحالة] ذلكَ؟
فإن قالوا: لأنّه عَرَضٌ ، و العَرَضُ لا يَقومُ بنفسِه.
قُلنا: و مِن أينَ أنّه عَرَضٌ مع إثباتِكم إيّاه مُخالِفاً للكلامِ المعقولِ ، بل لكُلِّ الأعراضِ؟
ثُمّ إذا ثَبَتَ أنّه عَرَضٌ ، مِن أينَ أنّه لا يَقومُ بنفسِه ؟ و مَن سَلَّمَ لكم عُمومَ هذا
ص: 286
الحُكمِ في سائرِ الأعراضِ؟ أوَ لَيسَ قد دَلَّلنا فيما مَضىٰ مِن الكِتابِ ، علىٰ أنّ إرادةَ القَديمِ توجَدُ لا في مَحَلٍّ (1) و إن كانَت عَرَضاً، و الفَناءَ أيضاً ممّا لا يوجَدُ في المَحَلِّ و إن كانَ عَرَضاً؟
و إذا سَلَّمنا أنّه لا يَقومُ بنفسِه؛ مِن أينَ أنّه لا يَقومُ بذاتِ القَديمِ تَعالىٰ و إن كانَ مُحدَثاً؟ لأنّه لَيسَ استحالةُ قيامِه بذاتِه تَعالىٰ و هو مُحدَثٌ ، إلّاكاستحالةِ قيامِه بها و هو قَديمٌ . و لَيسَ «الكلامُ » ممّا إذا قامَ بالذّاتِ لَم يَخلُ مِن نوعِه، كما نَقولُ (2) في «الأكوانِ » و نُوجِبُ (3) بذلكَ حُدوثَ ما لَم يَخلُ مِنها.
ثُمّ نَقولُ (4) - بَعدَ التجاوُزِ عن هذا كُلِّه، و تسليمِ أنّ لكلامِه(5) مَحَلاًّ مُنفَصِلاً(6) -: لِمَ زَعَمتُم أنّه واجبٌ أن يُشتَقَّ (7) لمَحَلّهِ ، مِنه أو مِن أخَصِّ أوصافِه، وَصفٌ؟ و هَل ذلكَ مِنكُم إلّاتَوصُّلٌ إلىٰ إثباتِ معنىً - و هو(8) قِدَمُ الكلامِ - بنَفيِ عِبارةٍ (9)؟
ص: 287
و لا شُبهةَ في أنّ المَعانيَ لا تَثبُتُ مِن طريقِ العباراتِ ؛ نَفياً و لا إثباتاً، و إنّما تَثبُتُ (1) بالأدلّةِ (231) العقليّةِ دونَ العِباراتِ الوضعيّةِ . و لهذا عَمَّ تَكوينُ (2) المَعاني و إثباتُها علىٰ حَقائقِها مَن يعرِفُ اللُّغةَ العربيّةَ و مَن لا يَعرفُها مِن الأعاجِمِ ، و مَن لا يَفهَمُ شيئاً مِن اللُّغاتِ كالخُرسِ .
ثُمّ يُقالُ لهم: ما معنىٰ قولِكُم: «واجبٌ أن تَشتَقّوا للمَحَلِّ (3) مِن الكلامِ وَصفاً»؟:
أ تُريدونَ (4) ذلكَ الوُجوبَ الذي في مُقابِلِه الحَظرُ و التحريمُ؟ أم تُريدونَ أنّ ذلكَ لا بُدَّ و أن يَقَعَ ، و أنَّ القَومَ مُلجَأونَ إليه ؟
فإن أرَدتُم الأوّلَ ، فلا فائدةَ فيه إلّابعدَ أن تَدُلّوا علىٰ عِصمةِ أهلِ اللُّغةِ ، و أنّهم:
لا يُخِلّونَ بالواجبِ عليهم؛ لأنّ وُجوبَ الشيءِ علىٰ زَيدٍ لا يَدُلُّ علىٰ حُصولِه؛ لجَوازِ أن يَعصيَ فيه.
و إن أرَدتُم الثانيَ ، فبُعدُه ظاهِرٌ لكُلِّ عاقلٍ ؛ لأنّ أصلَ وَضعِ اللُّغاتِ لَم يَكُن عن إلجاءٍ و ممّا لا بُدَّ مِن وقوعِه، بل بالاختيارِ مِن القومِ و الإتيانِ ؛ فكيفَ يَكونُ ذلكَ في فُروعِ اللُّغةِ؟
و لَو قيلَ للمُدَّعي عليهم الإلجاءَ : «دُلَّ علىٰ أنّهم بهذه الصفةِ ، و بَيِّنْ وَجهَ الإلجاءِ » لَتعذَّرَ عليه.
ص: 288
و لَو كانوا مُلجَئينَ إلَى الوَضعِ و الاشتقاقِ ، لَم يَكُن ذلكَ إلّامِن حيثُ وَجَدناهم يَشتَقّونَ في مواضِعَ علىٰ وَجهِ الاستمرارِ. و لَيسَ كُلُّ شيءٍ فَعَلوه في مَوضِعٍ [فقَد فَعَلوه في](1) نظائرِه و أمثالِه؛ ألا تَرىٰ أنّ عادَتَهم جاريةٌ بأن يَضَعوا الأسماءَ و العِباراتِ لِما عَقَلوه و مَيَّزوه مِن المَعاني و الأحكامِ؟ و لَم يَجِب أن تَستَمِرَّ هذه العادةُ في كُلِّ شيءٍ ؛ لأنّهم لَم يَضَعوا للمُختَلِفِ مِن الأكوانِ و الاعتماداتِ في الجهاتِ و أنواعِ الطُّعومِ كلِّها و الأراييحِ أسماءً كما فَعَلوا في غَيرِ ذلك.
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ أنّ اختلافَ هذه المَعاني ممّا لَم يَتميَّزْ لهم.
و ذلك أنّ هذا إن أمكَنَ ادّعاؤه في الأكوانِ و الاعتماداتِ ، فهو غَيرُ مُمكنٍ في الطُّعومِ و الأراييحِ ؛ لأنّ حُكمَها حُكمُ الألوانِ في التميُّزِ لكُلِّ مُدرِكٍ .
و بَعدُ، فقَد تَميَّزَت الأكوانُ المُختَلِفةُ و الاعتماداتُ في الجِهاتِ للمُتكلِّمينَ بلا شُبهةٍ ، ثُمّ لَم يَضَعُوا لمُختَلِفِها أسماءً ، و قد وَضَعوا لكثيرٍ ممّا(2) عَقَلوه و استَدرَكوه.
و وَجهُ الإلجاءِ المُدَّعىٰ في أهلِ اللُّغةِ ؛ مِن تَوفيرِ الدواعي و غَيرِه، ثابتٌ فيهم.
علىٰ أنّه غَيرُ مُسلَّمٍ أنّ أهلَ اللُّغةِ قد اشتَقّوا للمَحَلِّ مِن كُلِّ شيءٍ وُجِدَ فيه وَصفاً، حتّىٰ يُحمَلَ علىٰ ذلكَ الكلامُ ؛ لأنّ العِلمَ و القُدرةَ و ما أشبَهَهما لَم يَشتَقّوا لمَحَلِّ شيءٍ منها أسماءً .
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّهم في القُدرةِ و العِلمِ و إن لَم يَشتَقُّوا للمَحَلِّ منهما
ص: 289
أسماءً ، فقَد اشتَقّوا لِما ذلكَ المَحَلُّ بعضُه(1)، فقالوا: «عالِمٌ » و «قادرٌ» و هذا لا يَصِحُّ في كلامِه تَعالىٰ لَو أحدَثَه في مَحَلٍّ .
و ذلكَ أنّا قد بيّنّا في بابِ الكلامِ [في الصفاتِ ] مِن هذا الكتابِ : أنّ وَصفَ العالِمِ بأنّه عالِمٌ و القادرِ بأنّه قادرٌ، لَيسَ بمُشتَقٍّ مِن العِلمِ و القُدرةِ ، و أنّ المُستَفادَ بهذينِ الوَصفَينِ : اختصاصُ الموصوفِ بحالٍ فارَقَ بها غَيرَه، و أورَدنا في ذلكَ ما لا زيادةَ عليه(2).
علىٰ أنّا لَو لَم نَدُلَّ علىٰ ما ذَكَرناه، لَكانَت مُنازَعتُنا فيه كافيةً ، و وَقَفَ استدلالُهم؛ لأنّهم أورَدوه مَورِدَ المُتَّفَقِ عليه(3).
علىٰ أنّه لو جازَ اختلافُ مَذاهِبِهم في الاشتقاقِ ، و أن لا يَجرِيَ على طريقةٍ واحدةٍ ، جازَ أن يَشتَقّوا للمَحَلِّ مِن غَيرِ الكلامِ وَصفاً، و لا يَشتَقّوا مِن الكلامِ (4)؛ ألَاتَرىٰ أنّهم قَد اشتَقّوا للمَحَلِّ مِن بعضِ صِفات العَرَضِ (232) دونَ بعضٍ ، فلَم يَشتَقُّوا له مِن حُدوثِه و كَونِه عَرَضاً، و كَونِه نِعمةً و إحساناً و تَفَضُّلاً، و إنِ اشتَقّوا مِن صفاتٍ له أُخرىٰ؟ و اختلافُ المَعاني آكَدُ مِن اختلافِ الصفاتِ ؛ فألا جازَ أن [لا] يَشتَقّوا للمَحَلِّ مِن الكلامِ و إن اشتَقُّوا مِن غَيرِه ؟
ص: 290
و لَيسَ لهم أن يَقُولوا: إنّما راعَوا في الاشتقاقِ للمَحَلِّ (1) أخَصَّ (2) الأوصافِ .
لأنّ ذلكَ يَبطُلُ لمُتَكوِّنٍ و كائنٍ و مُتَحرِّكٍ و ساكنٍ ؛ لأنّ ذلكَ كُلَّه لَيسَ هو أخَصَّ الأوصافِ . و لا يَجري مَجرىٰ حامِضٍ و لا أسوَدَ؛ لأنّهما وَصفانِ يَرجِعانِ إلىٰ أخَصِّ أوصافِ المعنَى الحالِّ في المَحَلِّ .
و بعدُ، فإذا جازَ أن تَكونَ في المَعاني ما يُشتَقُّ مِنه لمَحَلِّه اسمٌ كالحركةِ و ما أشبَهَها(3)، و ما يُشتَقُّ للجُملةِ مِنه اسمٌ كالعِلمِ و ما في معناه؛ فما المانِعُ مِن أن يَكونَ فيها ما يُشتَقُّ (4) [منه للفاعل](5) فلا بُدَّ مِن أنْ [يوصَفَ ] الفاعلُ منه دونَ المَحَلِّ و الجُملةِ ؛ لأنّه لَيسَ خِلافُ ما يُضافُ إلَى الفاعلِ لِما يُضافُ إلىٰ مَحَلٍّ أو جُملةٍ بأكثَرَ مِن خِلافِ ما يُضافُ إلَى الجُملةِ لِما يُضافُ إلى المَحَلِّ . و هذا كُلُّه يُنبئُ عن(6) أنّ اشتقاقَ القومِ لَم يَجِئْ علىٰ مِنهاجٍ واحدٍ.
ص: 291
على أنّ أهلَ اللغةِ قد سَمَّوا اللِّسانَ «مَقولاً» بلا شُبهةٍ ، فلَيسَ يَخلو هذا الاسمُ مِن أن يَكونَ جَرىٰ عليه مِن حَيثُ كانَ مَحَلاًّ للقولِ ، أو مِن حَيثُ كانَ آلةً يُستَعملُ في القولِ .
فإن كانَ الأوّلُ ، فذلك يَقتَضي وجودَ اشتقاقٍ للمَحَلِّ (1) مِن القولِ الحالِّ فيه، بخِلافِ ما ظَنُّوه مِن اللفظِ المُضافِ إلَى الفاعلِ ؛ لأنّ المُشتَقَّ للفاعلِ مِن القولِ «قائلٌ ».
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: «مقولٌ » مأخوذٌ مِن لفظِ «القولِ » لا مِن لفظِ «الكلامِ »، و نَحنُ إنّما أوجَبنا الاشتقاقَ مِن صفةِ الكلامِ ؛ لأنّها أخَصُّ الأوصافِ .
و ذلكَ أنّ «القولَ » مِن صفاتِ الكلامِ ، و إذا اشتَقّوا للمَحَلِّ منه، فقَد اشتَقّوا له مِن بَعضِ صفاتِ الكلامِ ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه لَيسَ مِن عادَتِهم أن يَشتَقُّوا للمَحَلِّ (2) مِن جميعِ الأوصافِ (3).
و كما أنّ «القولَ » لَيسَ بأخصِّ أوصافِ قولِنا: «زايٌ (4) و ياءٌ و نونٌ » و ما أشبَهَ الكلامَ ، فكذلكَ (5) قولُنا: «كلامٌ » لَيسَ مِن الصفاتِ (6) الخاصّةِ ، بل أخَصُّ أوصافِه قولُنا: «زايٌ و ياءٌ و نونٌ »، (241) و ما أشبَهَ ذلكَ . فدُخولُ (7) المُختَلَفِ فيه تَحتَ قولِنا: «كَلامٌ »، كدُخولِه تَحتَ «القولِ ».
ص: 292
و إن كانوا إنّما سَمَّوا اللِّسانَ «مَقولاً» مِن حَيثُ استُعمِلَ في القولِ ، فما رَأَيناهُم اشتَقّوا لكُلِّ آلةٍ استُعمِلَت في أمرٍ من الأُمورِ أسماءً مِن ذلكَ الأمرِ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لَم يَفعَلوا ذلكَ في آلاتِ الكتابةِ و التجارةِ و الضربِ ، و كثيرٍ ممّا لم نَذكُره ؟
و إذا جازَ أن يَختَلِفَ مَذهَبُهم في هذا البابِ ، فيَشتَقّوا لبعضِ الآلاتِ ممّا استُعمِلَت فيه دونَ بعضٍ ، فألّا جازَ أن يَشتَقّوا لبعضِ المَحالِّ ممّا وُجِدَ فيه دونَ بعضٍ؟ و هذا ممّا لا فَصلَ فيه.
ثمّ يُقالُ لهم: كَيفَ يجوزُ أن يَكونَ قولُهم: «مُتكلِّمٌ » مِن الأوصافِ المُشتَقّةِ لمَحَلِّ الكلامِ ، و هذا الوَصفُ بعَينِه هو الذي اشتَقّوه لفاعلِ الكلامِ ، و لم نَجِدْهم في مَوضعٍ مِن المَواضِعِ جَعَلُوا الوَصفَ المُشتَقَّ للفاعلِ و المَحَلِّ واحداً؟!
فإن قالوا: إنّما جازَ ذلك؛ لأنّ مَحَلَّ الكلامِ هو الذي يُنسَبُ إليه الكلامُ علىٰ سَبيلِ الفِعليّةِ .
قُلنا: هذا باطلٌ ؛ لأنّ اللّٰهَ تَعالىٰ لَو فَعَلَ كلاماً مّا عندَكم في بَعضِ المَحالِّ ، لَكانَ الموصوفُ بأنّه «مُتكلِّمٌ » علىٰ مَذاهِبِكم هو المَحَلَّ ، و إن كانَ الفاعِلُ له هو اللّٰهَ تَعالىٰ .
ثُمّ مَحَلُّ الحركةِ مِن أحَدِنا عندَكم هو الفاعِلُ للحركةِ أو المُكتَسِبُ لها، و مع هذا فلَم يَصِفْه أهلُ اللُّغةِ مِن حُلولِ الحركةِ فيه بالوَصفِ الذي يَصِفونَ به الفاعلَ ؛ لأنّهم قالوا: «مُتحرِّكٌ » للمَحَلِّ و «مُحرِّكٌ » للفاعِلِ .
ثُمّ يقالُ له: ألَيسَ كلامُ أحَدِنا يوجَدُ في المَحالِّ ، و لا يَشتَقّون للمَحَلِّ منه
ص: 293
«مُتَكَلِّمٌ »؟ لأنّ مِن فاحِشِ الخَطَإِ [وصفَ ](1) اللَّهَواتِ أو الصَّدىٰ بأنّه مُتكلِّمٌ و آمِرٌ و ناهٍ . و مَن نَسَبَ ذلكَ إلى أهل اللُّغةِ ، كمَن نَسَبَ إليهم تسمِيَةَ الإنسانِ بالبَهيمةِ و البَهيمةِ بالإنسانِ . و إذا جازَ أن لا يَصِفُوا مَحَلَّ كلامِ أحَدِنا بأنّه مُتكلِّمٌ ، جازَ ذلكَ في مَحَلِّ كلامِه تَعالىٰ ، و سَقَطَت شُبهَتُهم.
فإن قالوا: كلامُنا هو الموجودُ في النفسِ ، لا المسموعُ الذي هو مِن قَبيلِ الصَّوتِ .
قُلنا: و إن كانَ كذلكَ ، ألَيسَ لا بُدَّ له مِن مَحَلٍّ في نواحي القَلبِ؟ و مَحَلُّه لا يُوصَفُ بأنّه مُتكلِّمٌ ؛ لأنّ فَسادَ ذلكَ في اللُّغةِ و عُرفِها، كفَسادِ وصفِ اللِّسانِ بأنّه مُتكلِّمٌ !
فإن قالوا: هُم و إن لَم يَصِفوا المَحَلَّ بأنّه مُتكلِّمٌ ، فقَد وَصَفوا «ما ذلكَ المَحَلُّ
بعضُه» مِن جُملةِ الحَيِّ بأنّها مُتكلِّمةٌ بذلكَ الكلامِ ، و هذا لا يَتَأتّىٰ في الكلامِ الذي يَفعَلُه اللّٰهُ تَعالىٰ .
قُلنا: هذا أوّلاً يُبطِلُ قولَكم: «لا بُدَّ مِن اشتقاقٍ للمَحَلّ »(2).
ثُمّ إنّهم إنّما وَصَفوا «مَن ذلكَ المَحَلُّ بعضُه» بأنّه مُتكلِّمٌ ؛ مِن حَيثُ فَعَلَه و وَقَعَ بحَسَبِ قُصودِه و أحوالِه، كما وَصَفوه(3) بأنّه مُحرِّكٌ إذا وَقَعَتِ الحركةُ في بعضِه مُطابِقةً لأحوالِه. و هذا يَقتَضي أنّ الموصوفَ بأنّه مُتكلِّمٌ فاعلٌ للحركةِ (4)، و يَقتَضي أنّ كَلامَ اللّٰهِ تَعالىٰ إذا وُجِدَ في بَعضِ المَحالِّ ، فهو تَعالَى المُتكلِّمُ به؛ كما أنّ الحركةَ التي يَفعَلُها(5) في بعضِ الذواتِ ،
ص: 294
هو الموصوفُ بأنّه المُحرِّكُ بها(1).
و ممّا قيلَ على هذه الطريقةِ : أنّ السببَ في أنّ العَرَبَ لَم يَشتَقّوا للمَحَلِّ (2) ممّا يَحُلُّه [أن لَم يَكُن](3) المَحَلُّ مُتميِّزاً(4) مُدرَكاً عندَ إدراكِ الحالِّ فيه. و لمّا كانَ الصَّوتُ يُدرَكُ بالسمعِ مِن غَيرِ إدراكِ مَحَلِّه(5)، و يُعلَمُ مِن غَيرِ أن يُشعَرَ بمَحَلِّه، جَرىٰ مَجرَى الرائحةِ التي تُدرَكُ مِن غَيرِ تَميُّزِ مَحَلِّها، و فارَقَ الألوانَ التي تُدرَكُ مَحالُّها بإدراكِها، فلهذا لَم يَشتَقّوا [للمحلِّ مِن](6) الرائحةِ ، و اشتَقُّوا [للمَحَلِّ مِن] السَّوادِ.
و يُمكِنُ أن يقولوا علىٰ هذا: إنّهم قد اشتَقّوا لمَحَلِّ الرائحِة «مُريحٌ » و هذا الوَصفُ و إن وُصِفَ به مُدرِكُ الرائحةِ و واجِدُها؛ لأنّهم يقولونَ : «أراحَ » و «راحَ » إذا وَجَدَ الريحَ ، فقَد وَصَفوا أيضاً مَحَلَّ الرائحةِ بذلك، فقالوا: «أراحَ الشيءُ » (242) إذا نَتَنَ ، و «أروَحَ » أيضاً علَى الأصلِ .
إلّا أنّ الكلامَ لازمٌ لهم علىٰ مَحالٍّ ؛ لأنّهم لَم يَشتَقّوا لمَحَلِّ «الرائحةِ » الطيّبةِ و صفاتِها؛ لأنّهم لا يَقولونَ : «أراحَ الشيءُ فهو مُريحٌ »، إلّافي مَحَلِّ الرائحةِ المكروهةِ .
و كذلكَ أيضاً لَم يَشتَقّوا لمَحَلِّ الرائحةِ في الأصلِ وَصفاً؛ لأنّهم لا يَكادونَ يَقولونَ :
ص: 295
«أراحَ الشيءُ » إلّافيما تَغيَّرَت حالُه إلىٰ ذلكَ بَعدَ أن لَم يَكُن عليه.
و ممّا نوقِضوا به علىٰ هذه الطريقةِ أن قيلَ لهم: ما وَجَدناهم اشتَقّوا لمَحَلِّ النِّعمةِ و التفضُّلِ و الإحسانِ و اللُّطفِ وَصفاً، و كذلكَ مَحَلُّ الصَّوتِ و مَحَلُّ الكتابةِ . و إذا جازَ ذلكَ فيما ذَكَرناه، جازَ في مَحَلِّ الكلامِ مِثلُه.
و لهم أن يَقولوا: إنّ التفضُّلَ و الإحسانَ و النِّعمةَ و اللُّطفَ ، قد اشتَقّوا منه للمَحَلِّ وصفاً، و إن لَم يكُن ذلكَ الوَصفُ مأخوذاً مِن هذه الألفاظِ؛ ألا تَرىٰ أنّ
النِّعمةَ أو اللُّطفَ إذا كانَ حركةً و سُكوناً، أو لَذّةً أو ألَماً، فقَد اشتَقّوا للمَحَلِّ منه ؟ فذلكَ أجمَعُ لا يَخلو مِن وَصفٍ مُشتَقٍّ . و لَيسَ يَجِبُ أن يُشتَقَّ للمَحَلِّ مِن كُلِّ أوصافِ الحالِّ ، و لا شيءَ أشَرتُم إليه إلّاو يُشتَقُّ للمَحَلِّ مِن بَعضِ أوصافِه، و إن لَم يُشتَقَّ مِن وَصفٍ آخَرَ. و الكلامُ لَم يَشتَقّوا للمَحَلِّ مِنه وَصفاً، إلّاقولَهم: «مُتكلِّمٌ ».
و لَهم أن يَقولوا في الكتابةِ : إنّهم و إن لَم يَشتَقّوا للمَحَلِّ مِن لفظِ الكتابةِ ، فقَد اشتَقّوا له مِن كَونِها اجتماعاً و مِن البقاءِ (1). إلّاأنّ هذا النَّعتَ (2) لا يُمكِنُ أن يَدخُلَ في الصوتِ ؛ لأنّهم لَم يَشتَقّوا للمَحَلِّ مِن شيءٍ من أحوالِه وصفاً. و كُلُّ هذا واضحٌ .
الكلامُ على الشُّبهةِ الثالثةِ : يُقالُ لهم: لَيسَ اللّٰهُ تَعالىٰ علَى الحقيقةِ في القرآنِ ، و إنّما فيه اسمُه الذي يُكتَبُ و يُقرَأُ و يَتجزَّأُ و يَتبعَّضُ ، و يَدخُلُه الإعرابُ بالحركاتِ ، و الذي يُستَحَقُّ علىٰ تِلاوتِه الثّوابُ ، و يُدرَكُ بالأوّلِ و يُعدَمُ في الثاني مِن حالِ
ص: 296
وجودِه، و يَمنَعُ مِنه الخَرَسُ و السُّكوتُ ، و يَدخُلُ في مقدورِ العبادِ.
و هذه الصفاتُ و كُلُّ واحدةٍ منها لا تَليقُ (1) باللّٰهِ تَعالىٰ علَى الحقيقةِ ، و لا تَجوزُ عليه. و كذلكَ صفاتُه تَعالىٰ ؛ مِن نَحوِ كَونِه قادراً عالِماً حَيّاً قَديماً، لا تَليقُ (2) بهذه الحروفِ ، و لا تَجوزُ عليها.
و كيفَ يَكونُ الاسمُ هو المُسمّىٰ ، و أسماؤه تَعالىٰ كثيرةٌ مُختَلِفةٌ باختلافِ اللُّغاتِ؟ فكيفَ تَكونُ (3) هي ذاتَه، و هو واحدٌ غَيرُ مُتَغايِرٍ و لا مُختَلِفٍ؟!
و لَو صَحَّ في أسمائِه أن تكونَ هي هو(4)، صَحَّ ذلكَ في أسماءِ غَيرِه مِن المُسَمَّياتِ .
و لَو وجبَ أن نَنفيَ حُدوثَ القُرآنِ ، مِن حَيثُ اشتَمَلَ علىٰ أسماءِ اللّٰهِ تَعالىٰ و هو قَديمٌ ، لَوجبَ أن نَنفيَ قِدَمَه و نُثبِتُ حُدوثَه؛ لاشتمالِه علىٰ أسماءِ المُحدَثاتِ المخلوقاتِ ؛ مِن السَّماءِ و الأرضِ و الخَيلِ و البِغالِ و الحَميرِ.
و هذا أوضَحُ فَساداً مِن أن يُطنَبَ فيه.
الكلامُ علَى الشُّبهةِ الرابعةِ : يُقالُ لهم: معنىٰ قولِه: «أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(5) أوضَحُ مِن أن يَخفىٰ علىٰ مَن له أدنىٰ معرفةٍ باللُّغةِ العربيّةِ ؛ لأنّ ذلك إنّما هو كنايةٌ
ص: 297
عن «تكوينِه الأشياءَ بغَيرِ مُعاناةٍ و لا تَعَبٍ ، و أنّ الذي يُريدُ أن يَفعَلَه يَتعجَّلُ و لا يَتعذَّرُ»، و لهذا يَقولونَ فيمن تَتَأتّى(1) مُراداتُه مِن غَيرِ إبطاءٍ : «فُلانٌ يَقولُ للشيءِ : كُن فيَكونُ ». و إذا أرادَ أحَدُهم أن يُخبِرَ عن دُخولِ المَشقّةِ عليه في الأفعالِ قالَ : «لَستُ ممّن يَقولُ للشيءِ : كُن فيَكونُ ». و علىٰ هذا يَقولونَ : «ما كانَ إلّاكَلّا و لا حتّىٰ جَرىٰ
كَذا (243) و كَذا(2)» إنّما يَعنونَ السُّرعةَ لا غَيرَ. و يَقولُ أحَدُهم: «قُلتُ برأسي كَذا»، و «قالَ الفَرَسُ فرَكَضَ »، و «قالَتِ السَّماءُ فهَطَلَت»، و لا قولَ هناكُ يُخبِرونَ به، و إنّما أرادوا المَذهَبَ الذي ذَكَرناه. و قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ مُخبِراً عن السَّماءِ و الأرضِ :
«قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ »(3) و إنّما أراد(4) سُرعةَ (5) التأَتّي.
و قال أبو النَّجمِ (6):
قد قالَتِ الأنساعُ (7) لِلبَطنِ : «ألحقِ *** قِدْماً»(8) فآضَت كالفَنيقِ المُحنِقِ (9)
ص: 298
و لا قولَ هناكَ يُخبِرُ عنه، و إنّما أرادَ أنّ البَطنَ (1) لَحِقَ بالظَّهرِ.
و ممّا استُشهِدَ به علىٰ أنّ العَرَب تَذكُرُ القولَ و لا تُريدُ به النُّطقَ المَعقولَ - و إن كانَ غَيرَ مُشتَبِهٍ كما(2) تَأَوَّلنا عليه الآيةَ في معناه - قولُ الشاعرِ:
اِمتَلأَ الحَوضُ و قالَ : قَطْني(3) *** .............................(4)
و قالَ الآخَرُ:
و قالَتْ [له](5) العَينانُ : سَمعاً و طاعةً *** و حَدَّرَتا كالدُّرِّ لمّا يُثَقَّبِ (6)
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : هذا كُلُّه تَجوُّزٌ مِن القومِ و تَوسُّعٌ ، و الآيةُ علىٰ ظاهرِها؛ لأنّ «القولَ » و إن كانَ في لُغَتِهم عبارةً عن الكلامِ المعقولِ ، فإنّهم إذا استَعمَلوه في مِثلِ هذا المَوضِعِ ، كانَ حقيقةً في المعنَى الذي ذَكَرناه، و لَم يَكُن مَجازاً، بَل خَلْفاً مِن الكلامِ لَو أُريدَ به القولُ الذي هو الكلامُ ؛ ألا تَرىٰ أنّ الأسبَقَ إلىٰ فَهمِ مَن خاطَبوه بما حَكَيناه عن قولِهم: «فُلانٌ يَقولُ للشيءِ : كُن فيَكونُ » و «قُلتُ فدَخَلتُ » و ما أشبَهَ ذلك، ما ذَكَرناه مِن المعنىٰ دونَ غَيرِه ؟ و الأسبقُ إلَى الفَهمِ هو الحَقيقةُ .
ص: 299
و قد بَيَّنَ مَن سَبَقَ إلَى الكلامِ علىٰ هذه الشُّبهةِ ، أنّ الآيةَ دالّةٌ علىٰ حُدوثِ الكلامِ مِن وُجوهٍ :
مِنها: أنّه تَعالىٰ عَلَّقَ القولَ بالإرادةِ ، و أَدخَلَ علىٰ كَونِه مُريداً لفظةَ «إذا»(1)، و هي
للاستقبال لا مَحالةَ . و إذا كانتِ الإرادةُ مُستَقبَلةً ، فما عَلَّقَه بها يَجِبُ أن يَكونَ مُستَقبَلاً. و كُلُّ مُستَقبَلٍ مُحدَثٌ غَيرُ قَديمٍ .
و مِنها: أنّه تَعالىٰ أدخَلَ علَى «القولِ » لفظةَ «أن» الدالّةَ علَى الاستقبالِ ، و هذا يَقتَضي حُدوثَ القولِ .
و مِنها: أنّ لفظةَ «يَقولُ »(2) مِن غَيرِ دُخولِ «أن» عليها(3)، تَقتَضي(4) علىٰ موجِبِ اللِّسانِ الاستقبالَ أو الحالَ ، و كِلا الأمرَينِ يوجِبُ حُدوثَ القولِ ؛ لأنّ القَديمَ سابقٌ لكُلِّ حالٍ .
و مِنها: أنّه عَلَّقَ وجودَ المُكَوَّناتِ بوجودِ لفظةِ «كُن» علىٰ وَجهٍ يَقتَضي نَفيَ التراخي و ثُبوتَ التعقيبِ ، فقالَ : «أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(5) و «الفاءُ » عندَهم للتعقيبِ ، و هذا يَقتَضي حُدوثَ القَولِ ؛ لحُدوثِ ما يَتعقَّبُه. و لأنّ القَديمَ يَجِبُ أن يَكونَ سابقاً للحَوادثِ بما يَتقدَّرُ بقَدرِ ما لا يَتَناهىٰ مِن الأوقاتِ .
و ممّا قيل لهم علىٰ هذهِ الشُّبهةِ ، إنّ الذواتِ المُحدَثاتِ لَو كانَت موجَبةً عن لفظةِ «كُن»، لَوجبَ قِدَمُ جميعِ الحَوادثِ ؛ لأنّ الموجَبَ إذا صَحَّ اجتماعُه مع الموجِبِ ،
ص: 300
وُجِدَ معه و لَم يَتَراخَ (1) عنه. و إنّما تَراخَى العِلمُ عن النظَرِ لاستحالةِ وجودِه معه.
و كذلكَ ما يُوَلِّدُه الاعتمادُ إنّما يَتَراخىٰ عنه؛ لأنّ مِن شَرطِه(2) أن يُوَلِّدَه في جهتِه، وجهتُه ما يَلي المُحاذاةَ التي هو فيها، فلا يَجوزُ علىٰ هذا أن يُوَلِّدَ الكَونَ لمَحَلِّه في مكانِه؛ لأنّه يَقتَضي أن يَكونَ وَلَّدَ لا في جهتِه. و لا يَجوزُ أن يُوَلِّدَ الكَونَ له في المكانِ الثاني في حالِ وجودِه؛ لأنّه يَقتَضي كَونَ الجسمِ في المكانَينِ في وقتٍ واحدٍ. و هذا كُلُّه مُرتفِعٌ في إيجابِ (244) «كُن» للمُحدَثاتِ ؛ لجَوازِ اجتماعِها مع ما تُوجِبُه(3).
و ألزَموهم: حاجةَ القَديمِ تعالىٰ في الإيجادِ إلىٰ هذه اللفظةِ . و أن نَكونَ نحنُ أيضاً فيما نوجِدُه نَحتاجُ إليها؛ لأنّ ما يَحتاجُ هو تَعالىٰ إليه نحنُ بالحاجةِ إليه أولىٰ ؛ لأنّه تَعالىٰ قد يَستَغني عن أشياءَ كثيرةٍ نَحتاجُ إليها نحنُ في الأفعالِ .
الكلامُ علَى الشُّبهةِ الخامسةِ : يُقالُ لهم: ما أنكَرتم أن يَكونَ معنَى «الأمرِ» غَيرَ ما ظَنَنتم مِن الكلامِ المخصوصِ ، و أن تَكونَ (4) فائدةُ الكلامِ له تَعالىٰ أن يَخلُقَ و يَفعَلَ ما يَشاءُ مِن غَيرِ اعتراضٍ و لا مُنازَعةٍ؟ كما يُقالُ في أحدِنا إذا كانَ قادراً قاهراً لا
يُعارَضُ و لا يُنازَعُ : «لِفُلانٍ الأمرُ»، و لا نقصِدُ بذلكَ إلىٰ أنّ له كلاماً.
و بَعدُ، فقد يُفرَدُ الشيءُ بالذِّكرِ عن الجُملةِ الواقعةِ عليه و علىٰ غَيرِه؛ تَفخيماً و
ص: 301
تَعظيماً؛ كقَولِه تَعالىٰ : «مَنْ كٰانَ عَدُوًّا لِلّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكٰالَ »(1). النحل (16):90.(2) ، فأفرَدَهما عن الملائكةِ لهذا الوَجهِ ؛ فما المانِعُ مِن أن يُفرِدَ «الأمرَ» الذي هو القُرآنُ عن جُملةِ المخلوقاتِ ؛ لِعظيمِ شأنِه و جَلالةِ قَدرِه ؟
و يَلزَمُهم علىٰ هذه الشُّبهةِ : أنّ الإحسانَ لَيسَ بعَدلٍ ، و إيتاءَ ذي القُربىٰ لَيسَ مِن العَدلِ و الإحسانِ ؛ لأنّه تَعالىٰ قال: «إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ »(2) ففَصَلَ بَينَ الجميعِ .
و قد يَقولُ أحَدُنا: «إنّ اللّٰهَ تَعالىٰ يأمُرُ بالقولِ و العَمَلِ »، و الإيمانُ قولٌ و عَمَلٌ ، و إن كانَ القولُ داخلاً في جُملةِ العَمَلِ ، و إنّما أُفرِدَ لبعضِ الأغراضِ .
و قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ كَلِمٰاتِهِ »(3) و هذا العَطفُ و الفَصلُ - علىٰ ما اعتَمَدوه - يَقتَضي أنّ كلامَ اللّٰهِ غَيرُ اللّٰهِ ، و يوجِبُ أن لا يَشتَرِكا في القِدَمِ ؛ لأنّه إذا جازَ مع هذا العطفِ أن يَشتَرِكا في القِدَمِ و لا يَتَغايرا، جازَ أن يَكونَ الخَلقُ و الأمرُ يَشتَرِكانِ في الحُدوثِ و لا يَتَغايرانِ مع الفَصلِ في اللفظِ بَينَهما.
فأمّا قولُه تَعالىٰ : «عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ * خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ »(4) فلَيسَ في «وصفِ الإنسانِ بأنّه مخلوقٌ » نَفيُ الخَلقِ [عن] غَيرِه، إلّامِن جهةِ «دليلِ الخِطابِ » المعلومِ فَسادُه، و ضَعفُ التعلُّقِ به(5).
ص: 302
و بَعدُ، فتعليمُه(1) القُرآنَ دليلٌ علىٰ حُدوثِه؛ لأنّ القَديمَ لا يُمكِنُ تَعلُّمُه و لا تَعليمُه.
الكلامُ علَى الشُّبهةِ السادسةِ : يُقالُ لهم: ما تُريدونَ بقَولِكم: «إنّ كَونَ المُتكلِّمِ مُتكلِّماً ممّا يَختَصُّ الحَيَّ »؟ أتُريدونَ أنّ الكلامَ ممّا يوجِبُ له حالاً؛ كالعِلمِ و القُدرةِ؟ أم تُريدونَ بقَولكم(2) أنّه مُضافٌ إلَى الحَيِّ علىٰ سَبيلِ الفِعليّةِ؟
فإن أرَدتُم الأوّلَ : فذلكَ مُحالٌ ؛ لأنّا قد دَلَّلنا فيما مَضىٰ علىٰ أنّ الكلامَ لا يوجِبُ حالاً للمُتكلِّمِ (3)، و أنّ المُتكلِّمَ هو «مَن فَعَلَ الكلامَ »، كسائرِ الصفاتِ التي تُضافُ إلَى الفاعلِ .
و إن أرَدتُم الثانيَ : فكيفَ يوصَفُ بذلكَ فيما لَم يَزَلْ؟
و بَعدُ، فلَيسَ كُلُّ ما لا نَقصَ فيه، أو كانَ ممّا يَقتَضي المَدحَ للموصوفِ ، يَصِحُّ أن
يوصَفَ القَديمُ تَعالىٰ به فيما لَم يَزَلْ ؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَه مُحسِناً و مُتَفضِّلاً يَقتَضي المَدحَ و لا نَقصَ فيه، و لَم يُوصَفْ [بهما](4) فيما لَم يَزَلْ مِن حيثُ يَقتَضي الفِعليّةَ .
ثُمّ يُقالُ لهم: ما أَنكَرتُم أن تَكونَ الصفاتُ التي تَقتَضي المَدحَ و لا نَقصَ فيها، علىٰ ضَربَينِ؟
فضربٌ : يوصَفُ به فيما لَم يَزَلْ ؛ مِن حَيثُ استحَقَّه لذاتِه؛ ككَونِه قادراً عالِماً.
ص: 303
و الضربُ الآخَرُ: يُنبئُ عن الفِعلِ ، فلا(1) يَصِحُّ وَصفُه بذلكَ فيما لَم يَزَلْ ؛ ككَونِه مُحسِناً مُنعِماً مُتكلِّماً. و هذا بَيِّنٌ لِمَن أنصَفَ مِن نفسِه.
***
اعلَمْ أنّ أبا الهُذَيلِ (2) و أبا عليٍّ مِن بَعدِه، كانا يَذهَبانِ إلىٰ أنّ الحِكايةَ هي المَحكيُّ (3)، و أنّ التاليَ للقُرآنِ يُسمَعُ مِنه كلامُ اللّٰه علَى الحقيقةِ ، و أنّ الكلامَ يَصِحُّ عليه البَقاءُ ، و يَجوزُ (245) وجودُه في الحالةِ الواحدةِ [في أماكن كثيرة](4). و هذا واضِحٌ (5).
ص: 304
---
ص: 305
----
ص: 306
[1.] اعلَمْ أنّ الصحيحَ في فائدةِ وَصفِ الشيءِ بأنّه مخلوقٌ ، أنّه حَدَثَ مِن فاعلِه مُقدَّراً(1)، و هو مَذهبُ أبي عَليٍّ (2).
[2.] و كانَ أبو هاشمٍ (3): يَذهَبُ إلىٰ أنّ هذا الوَصفَ مُشتَقٌّ مِن «الخَلقِ »؛ و هو «التقديرُ». و عندَه أنّ التقديرَ و الخَلقَ جميعاً هما «الإرادةُ »، و أنّ الخالقَ قد يَكونُ خالِقاً لفِعلِ غَيرِه. و قد يَشتَرِكُ الاثنانِ (4) في تقديرِ الشيءِ ، فيَكونانِ عِندَه خالِقَينِ له.
و كلُّ هذا لا يَليقُ بالمَذهَبِ الذي قَدَّمناه.
ص: 307
و امتَنَعَ أبو هاشمٍ مِن وَصفِ المعدومِ بأنّه «مخلُوقٌ »، و إن كان مُراداً؛ لأنّه جَعَلَ الإرادةَ إذا تَعلَّقَت بالموجودِ سُمِّيَت «خَلقاً»، و إذا تَعلَّقَت بالمعدومِ لا تَستَحِقُّ هذه
التسميةَ . كما نَقولُه في «العَزمِ »: إنّ الإرادةَ لا تُسمّىٰ عَزْماً إلّامَتىٰ كانَ مُرادُها معدوماً، و مع وجودِ المُرادِ لا تُسمّىٰ بذلكَ .
[3.] و قد ذَهَبَ أحَدُ شُيوخِ أصحابِ أبي هاشمٍ إلى أنّ الخَلقَ «التقديرُ»، و التقديرَ هو «الفِكرُ و النظَرُ في حالِ الأمرِ المقدورِ». و وافَقَ أبا هاشمٍ علىٰ أنّ المخلوقَ مُشتَقٌّ مِن «الخَلقِ »؛ قالَ : و لَو [لا] عُرفُ الشَّرعِ لَم أصِفِ اللّٰهَ تَعالىٰ بأنّه خالِقٌ لشيءٍ مِن أفعالِه؛ لأنّ المعنَى الذي تَقتَضيه اللُّغةُ في هذه اللفظةِ لا يَجوزُ عليه.
و الذي يَدُلُّ علىٰ صحّةِ المذهبِ الذي اختَرناه: أنّا وَجَدنا أهلَ اللُّغةِ مَتىٰ وُجِدَ الفِعلُ مُقدَّراً، وَصَفوه بأنّه «مخلوقٌ ». و لهذا وَصَفوا الإنسانَ و السَّماواتِ و الأرضَ بذلكَ . و مَتىٰ لَم يَقَعْ مُقدَّراً(1) لَم يَصِفوه بذلكَ ؛ كأفعالِ الساهي و النائمِ .
و كُلُّ هذا مِن غَيرِ أن يَخطُرَ ببالِ الواصِفينَ بذلكَ إرادةٌ و لا فِكرٌ و(2) لا رَوِيّةٌ .
كما أنّهم يَصِفونَ مَن فَعَلَ المُحكَمَ مِن الفِعلِ بأنّه «عالِمٌ »، مِن غَيرِ أن يَخطُرَ ببالِهم عِلمٌ به كانَ عالماً. و كما أنّا نَمتَنِعُ مِن كَونِ الوَصفِ بأنّه عالِمٌ مُشتَقّاً مِن العِلمِ ، و إن كانَ العالِمُ مِنّا لا يَكونُ كذلكَ إلّامع وُجودِ العِلمِ ، فكذلكَ يَجِبُ أن نَمتَنِعَ مِن مِثلِ ذلكَ في المخلوقِ ، و إن كانَ الخالِقُ لا بُدَّ أن يَكونَ قاصداً و مُريداً، و بَعضُ المُريدينَ قد يَكونُ مُفكِّراً.
ص: 308
و اعتَلَّ أبو هاشمٍ لقَولِه بأنّ الشاعرَ في قولِه:
و لَأنتَ تَفري ما خَلَقتَ ، و بَع *** ضُ القَومِ يَخلُقُ ثُمّ لا يَفري(1)
أثبَتَه خالِقاً، و نَفىٰ كَونَه قاطعاً، فوجبَ : أن يَكونَ الخَلقُ غَيرَ الفَريِ الذي هو القَطعُ ، و أنّ الخَلقَ هو قَصدُه إلَى القَطعِ ، فلذلكَ مَدَحَ في صَدرِ البَيتِ مَن يَفعَلُ ما يَعزِمُ عليه، زارِياً علىٰ مَن يَعزِمُ و لا يَفعَلُ .
و هذا الذي احتَجَّ به لا حُجّةَ فيه؛ لأنّ قولَهم: «خَلَقتُ الأَديمَ » أي خَلَقتُ تَخطيطَه و الرُّسومَ التي تُفعَلُ فيه لِتَدُلَّ (2) على ما يُصنَعُ مِنه مِن الآلاتِ ، و قد يَفعَلُ ذلكَ و لا يَكونُ قاطعاً له. فخَلقُ الأديمِ علىٰ قولِنا و قولِه غَيرُ قَطعِه و فَريِه. و إنّما يَصحُّ (3) ما ذَكَره، [فيما] لَو لَم يَكُن هناكَ فِعلٌ واقعٌ بحَسَبِ الحاجةِ الداعيةِ سِوَى القَطعِ (4)، ثُمّ نَفىٰ كَونَه قاطعاً مع إثباتِه خالِقاً. فأمّا و الأمرُ علىٰ ما ذَكَرناه فلا شُبهةَ فيما ذَكَره.
و الذي يُبَيِّنُ صحّةَ ما اعتَمَدناه: أنّهم لا يُسَمّونَ «مَن فَكَّرَ في قَطعِ الأَديمِ و أرادَ قَطعَه، و هو غائبٌ عنه، أو حاضرٌ؛ مِن غَيرِ أن يُماسَّه و يُمَدِّدَه و يَرسِمَ عليه الخطوطَ و الرُّسومَ »: «خالِقاً»، فإذا فَعَلَ ما ذَكَرناه سُمِّيَ «خالِقاً»؛ ألَاتَرىٰ إلىٰ قولِ الشاعرِ:
ص: 309
و لا يَئِطُّ(1) بأيدي الخالِقينَ و لا *** أيدي الخَوالِقِ إلّاجَيِّدُ(2) الأَدَمِ (3)
و إنّما يَئطُّ بأيديهم إذا باشَروه و مَدَّدوه، و رَسَموا عليه الرُّسومَ .
و قولُه: «خَلَقتُ الأديمَ » مَجازٌ، و فيه حَذفٌ ، و المرادُ: «خَلَقتُ تقديرَه». (246)
و إذا صَحَّت الجُملةُ التي قَدَّمناها، فقَد كانَ القياسُ يَقتَضي - لَولا ضَربٌ مِن التعارُفِ و سَنُبيِّنُه - أن يُسَمَّى القُرآنُ ، و كُلُّ كلامٍ وَقَعَ مُقَدَّراً مَقصوداً به إلىٰ وَجهٍ مِن وجوهِ الحِكمةِ ، بأنّه: «مخلوقٌ ». و لكِنّهم تَعارَفوا لفظةَ «الخَلقِ » و «الاختِلاقِ »(4)في الكلامِ إذا كانَ كَذِباً مُضافاً إلىٰ غَيرِ قائلِه. و لهذا يَقولونَ فيمن كَذَبَ : إنّه «خَلَقَ »، و «اختَلَقَ » و «خَرَقَ » و «اختَرَعَ » و «افتَعَلَ »، كُلُّ ذلك بمعنىً (5) واحدٍ.
و في التنزيلِ : «وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنٰاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ »(6).
و يَقولونَ في القَصيدةِ : «إنّها مخلوقةٌ » متىٰ أُضيفَت إلىٰ غَيرِ قائلِها؛ لأنّ إضافتَها إلىٰ غَيرِ قائلِها كَذِبٌ ، و إن كانَت هي في نفسِها تَتضمَّنُ الصِّدقَ ؛ لأنّهم راعَوا في
ص: 310
هذه اللفظةِ - إذا استَعمَلوها في الكلامِ - معنَى الكَذِبِ .
و قد نَصَّ صاحبُ كتابِ «العَين»(1) و صاحبُ «الجَمهَرة»(2) في كتابَيهِما علىٰ ما يَشهَدُ بما ذَكَرناه في معنىٰ هذه اللفظةِ (3).
و قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً»(4) و «إِنْ هٰذٰا إِلاَّ اِخْتِلاٰقٌ »(5) و «إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ »(6).
و هذه الجُملةُ تَمنَعُ مِن إجراءِ لفظِ «الخَلقِ » علَى القُرآنِ ؛ لئلّا يوهِمَ أنّه كَذِبٌ ، أو مُضافٌ إلىٰ غَيرِ قائلِه.
و ممّا يوضِحُ عن صحّةِ ما قُلناه: أنّه لا يُمكِنُ أحَداً(7) أن يَحكيَ عن ناطقٍ باللُّغةِ العربيّةِ ، في شِعرٍ أو نَثرٍ، أنّه استَعمَلَ لفظةَ «مخلوقٍ » في الكلامِ ، إلّاعلىٰ معنَى الكَذِبِ ، أو الإضافةِ إلىٰ غَيرِ قائلِه. و قد رُويَ عن أميرِ المؤمِنينَ عليه السَّلام لمّا
أنكَرَ الخَوارجُ التحكيمَ ، أنّه قالَ لهم: «أما و اللّٰهِ ما حَكَّمتُ مخلوقاً، و لكِنّني حَكَّمتُ كتابَ اللّٰهِ تَعالىٰ »(8).
و قد عَلِمنا أنّه عليه السَّلام لَم يَنفِ الحَدَثَ ، و لا أنّ فاعلَه فَعَلَه مُقدَّراً، لكِنّه مَنَعَ مِن إطلاقِ هذه اللفظةِ عليه؛ للمعنَى الذي ذَكَرناه.
ص: 311
و قد رُويَ عن جَماعةٍ مِن الأئمّةِ مِن آلِ الرسولِ عليهم السَّلام في هذا المعنىٰ ما يَشهَدُ بما ذَكَرناه، و يَمنَعُ مِن إطلاقِ هذه الجُملةِ في القُرآنِ (1).
و هذه الأخبارُ و إن أمكَنَ أن يُقالَ في كُلِّ خبرٍ منها بعَينِه: «إنّه خبرُ واحدٍ»(2)، فلِجُملتِها قُوّةٌ و تأثيرٌ؛ ممّا(3) يَقتَضي قُوّةَ الظنِّ - و إن لَم يُفضِ (4) إلَى العِلمِ و اليَقينِ - لجَوازِ أن نَعتَمِدَه في هذا الموضِعِ ، مُضافاً إلى ما ذَكَرناه مِن العُرفِ في استعمالِ هذه اللفظةِ .
فإن قيلَ : فتَقولونَ (5): إنّ لفظةَ «مخلوقٍ » و «مُختَلَقٍ » ممّا وُضِعَ في الأصلِ لإفادةِ «التقديرِ» فيما لَيسَ بكلامٍ ، و في الكلامِ لكَونِه(6) «كَذِباً»؛ أو ممّا وُضِعَ للتقديرِ في كُلِّ شيءٍ ، ثُمّ اختَصَّ بالاستعمالِ و العُرف بما لَيسَ بكلامٍ و تَغيَّرَت فائدتُه ؟
قُلنا: كُلُّ واحدٍ من الأمرَينِ جائزٌ عندَنا، و لَيسَ نَدري أيُّ الوَجهَينِ هو الواقِعُ ، و الغرضُ أن يَصِحَّ [أنّ ] هذه اللفظةَ لا تُستَعمَلُ في الكلامِ مُطلقاً علىٰ ما تُستَعمَلُ في غَيرِه، و أنّها في الكلامِ تُفيدُ معنىً مخصوصاً؛ و هو الذي ذَكَرناه. و هل الوَضعُ اقتَضىٰ ذلكَ أو العُرفُ غَيَّرَه ؟ ممّا لا يُعلَمُ و لا يَجِبُ أن يُعلَمَ .
ص: 312
[الفصلُ الخامس](1)الكلامُ في المخلوقِ
اختَلَفَ الناسُ في الأفعالِ التي تَظهَرُ مِن العِبادِ؛ كالقيامِ و القُعودِ و التصَرُّفِ :
فقالَ قَومٌ : إنّ تلكَ أجمَعَ أفعالُ العِبادِ، و حادثةٌ مِن جهتِهم، لا فاعلَ لها و لا مُحدِثَ سِواهم. و هذا قولُ جميعِ طوائفِ أهلِ العَدلِ ؛ مِن المُعتَزِلةِ و غَيرِهم(2).
و قالَ جَهْمٌ (3) و أصحابُه: هذه الأفعالُ مخلوقةٌ للّٰهِ تَعالىٰ ، و هو المُتفرِّدُ بفِعلِها،
ص: 313
و إن نُسِبَت إلَى العِبادِ علىٰ سَبيلِ المَجازِ. و ما قولُهم: «قام فُلانٌ » إلّاكقَولِهم: «طالَ و سَمِنَ ».
و قال ضِرارُ بنُ عمرٍو(1)، و حَفصٌ الفَردُ(2) و النجّارُ(3) و مَن وافَقَهم: إنّ اللّٰهَ تَعالىٰ هو الخالقُ لهذه الأفعالِ و الفاعلُ لها، و العِبادُ أيضاً فاعلونَ لها علَى الحقيقةِ دونَ المَجازِ، فكأنّهم أثبَتوا فِعلاً واحداً مِن فاعلَينِ ، و سَمَّوا أحَدَهما «خالقاً» و الآخَرَ:
«مُكتَسِباً».
و قالَ الأشعريُّ (4) مُتَأخِّراً: إنّ اللّٰهَ تَعالىٰ (247) هو الفاعلُ لهذه الأفعالِ التي
تَظهَرُ مِن العِبادِ، و العِبادُ غَيرُ فاعلينَ علَى الحقيقةِ لشيءٍ منها، لكنّهم مُكتَسِبونَ .
ص: 314
فإن قيلَ : «فاعلونَ » فعلىٰ وَجهِ المَجازِ.
و حُكيَ عن صالحِ قُبّةٍ (1) - مع قولِه بالعَدلِ -: أنّ أفعالَ العِبادِ مخلوقةٌ للّٰهِ تَعالىٰ ؛ علىٰ معنىٰ أنّه خَلَقَ أسماءَها لا علىٰ أنّه أحدَثَ ذَواتَها(2).
و هذا مِن صالحٍ خِلافٌ في عِبارةٍ ، و غَيرُ لاحِقٍ بما تَقدَّمَ .
و نَحنُ نَدُلُّ علَى الصحيحِ ، و نُبيِّنُ فَسادَ الفاسدِ، و نُرَتِّبُه في فُصولِه، بمَشيّةِ اللّٰهِ و عَونِه علَى الحقيقةِ (3).
***
ص: 315
قد دَلَّلنا في بابِ إثباتِ المُحدِثِ مِن هذا الكتابِ [علىٰ ] أنّ «وجوبَ وقوعِ تَصَرُّفِنا مع السلامةِ و ارتفاعِ المَوانِعِ بحَسَبِ أحوالِنا مِن قَصدٍ و داعٍ و غَيرِ ذلكَ ، و وجوبَ انتفائها بحَسَبِ [أحوالِنا] مِن كَراهيةٍ و صارِفٍ » دالٌّ علىٰ أنّها حادثةٌ بنا و مِن جهتِنا، و أنّها لَو لَم تَكُن بنا حادثةً لَكانَ وجودُها - إثباتاً و نَفياً - واقفاً علىٰ أحوالِ غَيرِنا. و بَسَطنَا الكلامَ في هذه الطريقةِ و يَسَّرناه، و رَدَدنا(1) ما يَحتَمِلُها مِن الزياداتِ ، و أجَبنا عمّا به يُعتَرَضُ عليها مِن الشُّبهاتِ (2).
و أجَبنا(3) عن سؤالِ مَن يَعتَرِضُ بأن يَقولَ : جَوِّزوا أن يَكونَ اللّٰهُ تَعالىٰ هو الذي فَعَلَ فيكم هذه الأفعالَ ، تابعةً للقُصودِ التي هي أيضاً مِن فِعلِه، و جَعَلَ العادةَ مُستَمِرّةً بذلكَ .
بأن(4) قُلنا: إنّ هذا سؤالٌ فاسدٌ؛ مِن جهةِ أنّه لا يَصِحُّ إلّابَعدَ صحّةِ ما يُعتَرَضُ به
ص: 316
عليه، و في صحّةِ ذلك إبطالُ السؤالِ نفسِه. و معنىٰ هذه الجُملةِ ، أنّه لا سَبيلَ إلىٰ إثباتِ القَديمِ تَعالىٰ بصفاتِه، إلّابَعدَ أن نُثبِتَ تَعلُّقَ تَصرُّفِنا بنا، و أنّ حُدوثَه مِن جهتِنا(1)، و أنّه إنّما احتاجَ إلينا في حُدوثِه لِنَبنيَ علىٰ ذلكَ حاجةَ كُلِّ مُحدَثٍ إلىٰ مُحدِثٍ . فلا يَصِحُّ [علىٰ ] ما ذَكَرناه - أن يُعتَرَضَ علىٰ «حاجةِ التصَرُّفِ في حُدوثِه إلينا» ب «ما يَتضمَّنُ إثباتَ القَديمِ » الذي لَولا عِلمُنا بالحُكمِ الذي هو حاجةُ التصَرُّفِ إلينا، و عِلّتِه التي تَقدَّمَ بيانُها لها، لَم يَثبُتِ القَديمُ ، و لا كانَ إلىٰ إثباتِه بصفاتِه طريقٌ .
و أجَبنا(2) عن سؤالِ مَن يَقولُ : جَوِّزوا أن يَكونَ ذلكَ مِن فِعلِ فاعلٍ فيكم، له الصفاتُ التي أثبَتُّموها بالدليلِ للقَديمِ ؛ فإنّ ذاكَ يَجوزُ قَبلَ القَطعِ !
بجَوابَينِ :
أحَدُهما: أنّ معنَى «الفِعليّةِ » لا بُدَّ مِن أن يَكونَ معقولاً قبلَ الإضافةِ إلىٰ فاعلٍ دونَ فاعلٍ ، و لَيسَ يُعقَلُ مِن «معنَى الفِعلِ » إلّاوجوبُ وقوعِه بحَسَبِ أحوالِ مَن قيلَ : إنّه فِعلٌ له. و إذا كانَت هذه الحَقيقةُ حاصلةً له مَعَنا(3)، بَطَلَ التجويزُ الذي عورِضنا به. و استَحالَ أن يُسنِدَه إلىٰ غَيرِنا، و يُضيفَه إليه علىٰ جهةِ الفِعليّةِ التي لا مَعنىٰ لها سِوىٰ ما عَقَلناه!
ص: 317
و الجَوابُ الآخَرُ: أنّ وجوبَ وقوعِ هذا(1) التصَرُّفِ بحَسَبِ أحوالِنا، يَمنَعُ مِن تجويزِ كَونِه فعلاً لغَيرِنا فينا؛ لأنّه لَو كانَ فِعلاً لغَيرِنا، لَكانَ وقوعُه تابعاً لأحوالِ ذلكَ الغَيرِ، فكانَ لا يَمتَنِعُ إيقاعُه للفِعلِ مع ثُبوتِ صوارِفِنا(2)، و أن لا يوقِعَه مع قُوّةِ دَواعينا و بَواعثِنا؛ لأنّ أحوالَنا لَيسَت شُروطاً في إيجادِ ذلك الفاعلِ (3) ما يَقدِرُ عليه مِن أفعالِه. و إذ كُنّا قد بيّنّا وجوبَ وقوعِ التصَرُّفِ و بَقائه بحَسَبِ أحوالِنا، بَطَلَ هذا التجويزُ، و جَرىٰ مَجرىٰ مَن عَلَّقَ وجوبَ «انتفاءِ السوادِ عندَ وجودِ البياضِ » باختيارِ مُختارٍ، و كذلكَ سائرُ الواجباتِ .
طريقةٌ أُخرىٰ : لَيسَ يُعقَلُ مِن معنَى الفِعليّةِ و حَقيقةِ الفِعلِ [و] إضافةِ الفِعلِ إلَى الفاعلِ ، إلّاما عَقَلناه لهذا التصَرُّفِ منّا(4)، فإثباتُه فِعلاً لغَيرِنا مع ما ذَكَرناه غَيرُ معقولٍ .
و رُبَّمَا اعتُمِدَت هذه الطريقةُ بعِبارةٍ أُخرى؛ و هي أن يُقالَ : قد ثَبَتَ مِن تَعلُّقِ
(248) هذا التصرُّفِ بنا، و وجوبِ حُدوثِه بحَسَبِ أحوالِنا، ما لَو كانَ فِعلاً لنا لَم يَزِدْ علىٰ ذلكَ . فلا يَجوزُ تَعليقُه بغَيرِنا(5)، و لا بُدَّ مِن إثباتِه حادثاً بنا.
فإن قيلَ : ما أنكَرتُم أن تَكونَ حقيقةُ الفِعلِ غَيرَ ما ادَّعَيتموه؛ مِن «وقوعِه بحَسَبِ قَصدِ مَن قيلَ : إنّه فِعلُه و أحوالُه»؟ بل فائدةُ الفِعلِ هي «أن يَصدُرَ حُدوثُ الذّاتِ
ص: 318
عن حالةٍ لِذاتٍ (1) أُخرىٰ »، و الفاعِلُ هو «مَن له حالةٌ عنها حَدَثَ الفِعلُ ».
قُلنا: هذا الكلامُ متىٰ حُقِّقَ ، رَجَعَ إلىٰ معنىٰ ما ذَكَرناه؛ لأنّا لا نَعقِلُ مِن حُدوثِ الذاتِ عن حالةٍ لِذاتٍ أُخرىٰ ، إلّاما ذَكَرناه مِن التعَلُّقِ المخصوصِ ، و أنّ أحوالَ تلكَ الذاتِ متىٰ تَكامَلَت، وجبَ حُدوثُ هذه الذاتِ ، و تَبِعَ حُدوثُها ما تلكَ الذاتُ عليه مِن قَصدٍ وداعٍ ، و لا اعتبارَ بتغييرِ العِباراتِ في هذا البابِ .
فإن قيلَ : ألَيسَ قد حَدَّ(2) الشُّيوخُ قَديماً الفاعلَ بأنّه «مَن وُجِدَ مقدورُه»، و الفِعلَ بأنّه «ما وُجِدَ بَعدَ أن كانَ مقدوراً»؟
قُلنا: هذا أيضاً متىٰ تُؤُمِّلَ حَقَّ التأمُّلِ عادَ إلىٰ ما ذَكَرناه، و إلّالَم يَكُن صحيحاً؛ لأنّا إن أرَدنا بقَولِنا: «إنّ الفاعلَ مَن وُجِدَ مقدورُه» إثباتَه مقدوراً له علىٰ سَبيلِ التفصيلِ و التمييزِ، لَم يَصِحَّ ؛ لأنّا لا نَعلَمُه قادراً عليه [تفصيلاً إلّا بَعدَ أن نعلَمَه فاعلاً له](3)، و [لا] نَعلَمُه مقدوراً له تفصيلاً إلّابَعدَ أن نَعلَمَه فِعلاً له.
و إن أرَدنا بقَولِنا: «قادرٌ عليه و مقدورٌ له» الجُملةَ دونَ التفصيلِ ، فهو المعنَى الذي أشَرنا إليه و قلنا: إنّه التعلُّقُ الذي لا بُدَّ مِن مَعرفتِه.
و إن لَم يُلحَظْ متىٰ قُلنا [في الفاعلِ ](4): «مَن وُجِدَ مقدورُه» و في الفِعلِ :
ص: 319
«[ما] وُجِدَ بَعدَ أن كانَ مقدوراً(1)»، التعَلُّقُ المخصوصُ الذي ذَكَرناه، و أنّ حُدوثَ هذا الفِعلِ يَتبَعُ أحوالَ مَن قُلنا: إنّه فاعلٌ له، لَم يكُن هناك معنىً يُعقَلُ و لا يُفهَمُ .
فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ أن تَكونَ للطريقةِ (2) الأُولىٰ دَلالةٌ علىٰ مَوضِعِ الخِلافِ كافيةٌ ، و أنتم لمّا أجَبتم عنِ الاعتراض عليها(3)، اعتَمَدتم علىٰ ما هو دَلالةٌ بنفسِه(4)، و هذا يَقتَضي أن تَكونَ (5) غَيرَ دَلالةٍ في نفسِها؟
قُلنا: لَو لَم نَعتَمِدْ في جَوابِ الاعتراضِ إلّاعلىٰ ما جَعَلناه بانفرادِه دليلاً كافياً،
لَوجبَ ما ذَكَرتَ . لكِنّا قد ذَكَرنا جَواباً آخَرَ متَى اعتُمِدَ كَفىٰ في سُقوطِ الشُّبهةِ ، و لا يُمكِنُ أن يَكونَ بنفسِه دليلاً في المسألةِ ؛ و هو «اعتبارُ الوجوبِ » و أنّ التصَرُّفَ لَو كانَ مِن فِعلِ غَيرِنا لَم يَجِبْ وقوعُه بحَسبِ أحوالِنا.
طريقةٌ أُخرى: و ممّا استُدِلَّ به علىٰ ذلكَ ، أنّا قد عَلِمنا ضَرورةً : حُسنَ ذَمِّ المُسيءِ علىٰ فِعلِه و فاعلِ القَبيحِ إذا تَكامَلَت شَرائطُه، و حُسنَ شُكرِ المُحسِنِ علىٰ إحسانِه و مَدحِ فاعلِ الواجِبِ و ما جَرىٰ مَجراه. و لَو لَم تَكُن هذه الأفعالُ حادثةً مِن جهتِهم لَما حَسُنَ ذلكَ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَحسُنُ أن نَذُمَّ (6) أحداً علىٰ خِلقَتِه و أفعالِ غَيرِه، و لا
ص: 320
نَمدَحَه(1) علىٰ شيءٍ مِن ذلكَ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن فِعلاً له و حادثاً مِن جهتِه ؟
و لَيسَ يُطعَنُ علىٰ هذه الطريقةِ بما يُعزىٰ إلىٰ أبي هاشمٍ ؛ مِن قَدحِه فيها بأنّ الذَّمَّ و المَدحَ يَتبَعانِ العِلمَ بكَونِ الفاعلِ فاعلاً،(2) فلا يَجوزُ أن يُتَوصَّلَ بالذَّمِّ الذي هو فَرعٌ ، إلَى العِلمِ بأنّه فاعلٌ و هو الأصلُ .
و ذلك أنّ الذي نَحتاجُ إليه في العِلمِ بحُسنِ المَدحِ و الذَّمِّ ، العِلمُ بتَعلُّقِ الفِعلِ علىٰ طريقِ الجُملةِ بالفاعلِ ، و أنّه ممّا يَجِبُ وقوعُه بحَسَبِ قَصدِه و دَواعيهِ (249) و أحوالِه. و هذا القَدرُ لا يَكفِي في أنّه فاعلٌ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، و أنّ حُدوثَ الفِعلِ به و مِن جِهَتِه. فيَجوزُ أن يُتوصَّلَ باستحقاقِ الذَّمِّ و المَدحِ إلىٰ ذلك الوَجهِ الذي قَدَّمناه، فيُقالَ : لَولا أنّه حادِثٌ مِن جهتِه، لَما استَحَقَّ الذَّمَّ و المَدحَ عليه قياساً علىٰ أفعالِ غَيرِه.
و كيف يَخفىٰ عليه(3) هذا الذي ذَكَرناه، و معلومٌ أنّ العِلمَ بحُسنِ الذَّمِّ و المَدحِ حاصلٌ في البِدايةِ ، و هو مِن جُملةِ ما يَكمُلُ به الفِعلُ . و قُبحُ الظُّلمِ الذي نَقولُ : إنّ العِلمَ به علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ضَروريٌّ ، لا معنىٰ له إلّا(4) أنّ مَن تَعلَّقَ به التعلُّقَ المَخصوصَ يَستَحِقُّ الذَّمَّ به. فلَو كانَ العِلمُ بالذَّمِّ و المَدحِ يَتعلَّقانِ بأنّ الفاعلَ فاعلٌ على سَبيلِ التفصيلِ ، و معلومٌ أنّ ذلكَ يُعلَمُ باستدلالٍ ، لَم يَكُن ضَروريّاً علىٰ ما ذَكَرناه.
***
ص: 321
أمّا الذي يَدُلُّ على أنّ الفِعلَ الواحِدَ لا يَحدُثُ مِن وَجهَينِ ، و أنّ (1) الحُدوثَ لا يَتَزايدُ: فهو ما ذَكَرنا طَرَفاً منه في بابِ التوحيدِ و نفيِ الثاني؛ و جُملتُه:
أنّه لو جازَ أن يَجعَلَ القادرُ الواحدُ أو القادرانِ للذاتِ الواحدةِ صفتَينِ في الحُدوثِ ، لَم يَمتَنِعْ أن تَفتَرِقَ هاتان الصفتانِ للذاتِ ، و تَحصُلَ واحدةٌ بعدَ الأُخرىٰ ، كما صَحَّ أن يَجتَمِعا في الحالِ الواحدةِ . و هذا يُؤَدّي إلىٰ صحّةِ إيجادِ الموجودِ، و قد عَلِمنا تَعذُّرَ ذلكَ و استِحالَتَه، و أنّ وجودَ الذاتِ مُحيلٌ للقُدرةِ عليها، كما كان عدمُها مُحيلاً لتَعلُّقِ الإدراكِ بها. و لا شُبهةَ في أنّ أحَدَنا يَمتَنِعُ عليه إيجادُ مقدورِ غَيره.
و بَعدُ، فلَو صَحَّ إيجادُ الموجودِ، لَوجبَ إذا حَمَلَ أحَدُنا جسماً ثَقيلاً و وَجَدَ مَشَقَّةَ حَملِه، ثُمّ حَمَلَه ثانياً - [بِناءً ] علىٰ هذا القولِ ، بأن أَوجَدَ مِن حَملِه(2) ما كانَ
ص: 322
أَوجَدَه بعَينِه - أن يَجِدَ مِن المَشَقّةِ ما وَجَدَه(1) في الأوّلِ . و معلومٌ خِلافُ ذلكَ .
و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَجِدَ القادرُ مِنّا الفَرقَ بَينَ أن يَفعَلَ في الجسمِ الثقيلِ حَملَه مِن وَجهَينِ ، و بَينَ أن يَفعَلَ ذلكَ مِن وَجهٍ واحدٍ.
و كانَ يَجِبُ أن يَصِحَّ مِن غَيرِ هذا الفاعلِ - الذي فَعَلَه مِن أحَدِ الوَجهَينِ - أن يُبطِلَ فِعلَه في الثاني، مِن حَيثُ كانَ باقياً.(2) و كُلُّ ذلكَ فاسدٌ.
و ممّا يدُلُّ أيضاً علىٰ ذلك: أنّ الذاتَ لَو حَصَلَت لها في الوجودِ صفةٌ بَعدَ أُخرىٰ ، لَم يَخلُ إذا حَصَلَت علَى الصفةِ الثانيةِ مِن أن تَكونَ (3) لها أحكامٌ لَم تَكُن مِن قَبلُ ، أو لا تَكونَ (4) كذلكَ . و قد عَلِمنا أنّه لا حُكمَ مَعقولَ يَحصُلُ عندَ الصفةِ الثانيةِ ، إلّا و هو حاصلٌ عندَ الأُولى. فلَم يَبقَ إلّاأنّه لا حُكمَ للصفةِ الثانيةِ و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّه لا فَرقَ بَينَ ثُبوتِها و انتفائها.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلك: [أنّه] كانَ لا يَمتَنِعُ أن تَحدُثَ الذاتُ علىٰ أحَدِ الوَجهَينِ دونَ الآخَرِ؛ لأنّ وَجهَيِ الحُدوثِ في صحّةِ انفصالِهما و حُصولِ أحَدِهما دونَ الآخَرِ كالفِعلَينِ ؛ لأنّه لَو كانَ انفِصالُهما مُستَحيلاً، لَكانَ لكُلِّ واحدٍ مِن الوَجهَينِ
تَعلُّقٌ بالآخَرِ يَقتَضي أنْ لا يُفارِقَه، و هذا يؤَدّي إلىٰ حاجةِ الذاتِ في كَونِها علىٰ كُلِّ
ص: 323
واحدٍ مِن الوَجهَينِ إلىٰ كَونِها علَى الوَجهِ الآخَرِ. و فَسادُ ذلكَ ظاهرٌ.
و إذا صَحَّ ما ذَكَرناه، [نقول](1): مِن شأنِ ما يَصِحُّ أن يَحدُثَ متىٰ لَم يَحدُثْ أن يَبقىٰ معدوماً؛ لأنّه لَيسَ مَعَ العدمِ إلّاانتفاءُ (2) الحُدوثِ ، و هذا مَرَدُّه إلىٰ أنّ [المُحدَثَ إذا حَدثَ علىٰ أحَدِ الوَجهَينِ دونَ الآخَرِ أنْ يكون معدوماً مِن وَجهٍ ، و مَوجوداً مِن آخَرَ؛ فتكونُ ](3) الذاتُ الواحدةُ في الحالةِ الواحدةِ موجودةً معدومةً !
و لَيسَ يَجوزُ أن يَجعَلَ عاقلٌ بَقاءَها معدومةً ، موقوفاً علىٰ أن [لا] تَحدُثَ مِن الوَجهَينِ معاً؛ لأنّه لا فَرقَ بَينَ هذا القائِلِ و بَينَ مَن جَعَلَ وجودَها موقوفاً علىٰ حُدوثِها مِن الوَجهَينِ معاً.
فإن قيلَ : قَولُكُم: «معدومٌ مِن وَجهٍ مع أنّه موجودٌ مِن آخَرَ»، إن أرَدتُم (250) نَفيَ الموجودِ(4) مِن ذلكَ ، فهو مَذهبُ مُخالِفِكُم ممّن(5) اختَلَفَ [معكم]، و إن أرَدتُم سِواه فأَوضِحوا.
قُلنا: نُريدُ بذلكَ أن يَكونَ معدوماً مِن الوَجهِ الذي يَنتَفي عنه الحُدوثُ [و] أحكامُ الحُدوثِ ؛ مِن التعلُّقِ و إيجابِ الحالِ ، و مرادُه ما يَتزايدُ(6) و غَيرُ ذلكَ .
ص: 324
و لَيسَ لأحَدٍ أن يقولَ : إنّ الأحكامَ التي ذَكَرتُم تابعةٌ لصفةِ (1) الجنسِ التي تَفتَقِرُ إلى الوجودِ المُطلَقِ ، و متىٰ حَصَلَتِ (2) الذاتُ علىٰ إحدىٰ صفتَي(3) الوُجودِ، فلا بُدَّ مِن حُصولِ هذه الأحكامِ .
و ذلكَ : أنّ صفةَ الجنسِ مِن شأنِها أن تَظهَرَ مع وجودِ الذاتِ ، و تَتبَعَها الأحكامُ ، و تُنفىٰ بعدمِها. و إن(4) جازَ لقائلٍ أن يَقولَ : إنّه يَكفي في ظُهورِ صفةِ الجنسِ و أحكامِها، و عدمُ الذاتِ (5) مِن وَجهٍ ، و إن(6) كانَت موجودةً مِن آخَرَ؛ بأن(7) قالَ : ظُهورُ صفةِ الجنسِ يَكفي فيه الوجودُ المُطلَقُ .
[و] ممّا يَدلُّ أيضاً على أنّ الذاتَ الواحِدَةَ (8) لا تَحدُثُ علىٰ وَجهَينِ ، و أنّ الحُدوثَ لا يَتَزايَدُ: أنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلَى اجتماعِ الضِّدَّينِ ؛ لأنّ السوادَ إذا فَرَضنا حُدوثَه في المَحَلِّ مِن وَجهَيِ الحُدوثِ ، فيَجِبُ إذا وُجِدَ البياضُ مِن أحَدِ وَجهَيِ الحُدوثِ أن يَكونَ نافياً(9) له مِن الوَجهِ الذي حَدَثَ عليه، و لا يَكونَ نافياً له مِن الوَجهِ الآخَرِ. و هذا يَنقُضُ حقيقةَ التضادِّ.
ص: 325
فإن قيلَ : التزايُدُ يَرجِعُ إلَى الأجناسِ و ما عليه مِن الصفاتِ ، و إذا وُجِدَ البياضُ في مَحَلِّ السوادِ، إذاً وجبَ أن ينفِيَ منه السوادَ للتضادِّ(1) الذي بينهما. و إذا نَفاه(2)وجبَ خُروجُ السوادِ مِن جميعِ صِفاتِ الوجودِ التي هي له، و إلّاأدّىٰ إلى أن يَكونَ موجوداً مع فَقدِ الهَيئةِ المخصوصة(3).
قُلنا: هذا يؤَدّي إلىٰ تَجويزِ كَونِ الذاتِ الواحدةِ بصفةِ السوادِ و الحُموضةِ ، و يكونَ لها صفتانِ . و في الوجودِ إذا طَرَأَ البياضُ وجبَ أن يَنفِيَها مِن حَيثُ كانَت سواداً، و يَنفيَ معها إحدى صفتَي(4) الوجودِ، و يَنفيَ الذاتَ مِن حَيثُ هي حُموضةٌ ، و يَنفيَ صفةَ الآخَرِ في الوجودِ. و معلومٌ فَسادُ ذلك، فيَجِبُ فَسادُ ما أدّىٰ إليه.
و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المقدورَ الواحد(5)، لا يجوزُ أن يَكونَ مقدوراً لقادرَينِ ، مِن وَجهٍ واحدٍ: فهو أيضاً تَقدَّمَ طَرَفٌ منه في بابِ نَفيِ الاثنَينِ (6)؛ و جُملتُه: أنّهما لَو قَدَرا علىٰ مقدورٍ واحدٍ، لَكانَ متىٰ وُجِدَ، يَكونُ فِعلاً لهما جميعاً؛ لأنّ حقيقةَ كَونِه فِعلاً لا يَختَصُّ أحَدَهما، إذا كانَ ما له يَكونُ الفِعلُ فعلاً لِمَن يُضافُ إليه، لَيسَ (7) بأكثَرَ(8) [مِن]
ص: 326
وُجودِه بَعدَ أن كانَ قادراً عليه. و هذا الحُكمُ هو مع كُلِّ واحدٍ مِن [هذَينِ ](1) القادرَينِ .
و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يَكونُ فِعلاً لأحَدِهما دونَ الآخَرِ؛ مِن حيثُ قَصَد(2) إليه و أرادَه، أو عَلِمَه و اعتَقَدَه، و حَصَلَ (3) له إلىٰ فِعلِه داعٍ .
و ذلكَ لأنّ الفِعلَ قد يَكونُ فِعلاً للقادرِ عليه مع انتفاءِ كُلِّ ذلك؛ ألا تَرى أنّ الساهِيَ و النائمَ يَكونُ ما يَحدُثُ بَعدَ أن قَدَرا عليه فِعلاً لهما، و إن لَم يَكُن مِنهما قَصدٌ و لا عِلمٌ و لا داعٍ؟
و ذلك أنّ الكلامَ في «أحدَثَه»، [و] «أوجَدَه» و «فَعَلَه» واحدٌ. و إذ كُنّا قد بيّنّا أنّه لا
حَقيقةَ لِقولِنا: «فَعَلَه» إلّا [ما] ذَكَرناه؛ مِن وجودِه بَعدَ أن كانَ قادراً عليه، و لا معقولَ سِواه، فكذلكَ في «أحدَثَه» و «أَوجَدَه». و قولُهم: «حَدَثَ مِن جهتِه أو قِبَلِه» إن لَم يُشَرْ به إلىٰ بعضِ ما ذَكَرناه، لَم يَكُن مفهوماً، فكذلكَ سِواه. (251).
و إذا ثَبَتَت هذه الجُملةُ ، و قد عَلِمنا أنّ كُلَّ قادرَينِ يَصِحُّ أن تَختَلِفَ دَواعيهِما؛ فيُريدَ(1) أحَدُهما مِن الأفعالِ ما يَكونُ الآخَرُ كارهاً لإيجادِه، مُتَوافِرَ الدواعي إلَى الإعراضِ عن فِعلِه، و هذا لا شُبهةَ (2) في صحّتِه(3) في القادرَينِ ، و إنّما يَستَحيلُ اختلافُ الدواعي(4) - و الحالُ واحدةٌ - علَى الذاتِ الواحدةِ .
و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه، لَم يَخلُ ذلكَ الفِعلُ مِن أن يوجَدَ، أو لا أن يُوجَدَ. و في وجودِهِ إثباتُ الفعل لمن(5) يَجِبْ نفيُه(6) عنه. و إن لَم يوجَدْ، فقَدِ انتفَى الفِعلُ عَمَّن(7)يَجِبُ إثباتُه له؛ لأنّ غايةَ ما يَقتَضي ثُبوتَ الفِعلِ ، حُصولُ الإرادةِ بتوَفُّرِ الدواعي مع القُدرَةِ و التخلية(8). كما أنّ غايةَ ما يَقتَضِي انتفاءَه(9) الكَراهيةُ و حُصولُ الصَّوارِفِ .
ص: 328
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّما يَجِبُ انتفاؤُه مع الكَراهيةِ و الصوارفِ ، متىٰ لَم يَكُن ذلكَ الفِعلُ مقدوراً له و لِغَيرِه(1).
و ذلكَ : أنّه لا فَرقَ بَينَ هذا القولِ ، و بَينَ قَولِ مَن قالَ : إنّما يجب(2) إثباتُ الفِعلِ مع قُوّةِ الدواعي و تَكامُلِ (3) الشُّروطِ، و [هو] إنّما يَجِبُ مَتىٰ كانَ مقدوراً لقادرٍ واحدٍ، و أنّ ذلكَ لا يَجِبُ مَتىٰ [كانَ ] مقدوراً [للغَيرِ أيضاً](4). و هذا يَقتَضي أنّ الفِعلَ ليسَ بالوُجودِ أَولىٰ منه بالعدمِ ، و لا بالعدمِ أَولىٰ مِنه بالوجودِ(5).
و قد يُستَدَلُّ بهذه الطريقةِ بعَينِها علىٰ وُجوهٍ يَتَقارَبُ معانيها، و إنِ اختَلَفَت ألفاظُها، فيُقالُ : لَو قَدَر على المَقدُورِ الواحدِ قادرانِ ، ثُمّ اختَلَفَت دَواعيهِما علىٰ ما ذَكَرناه، لَم يَخلُ الفِعلُ مِن أن يوجَدَ فيَنتَقِضَ بوجودِه حقيقةُ القادرِ الذي فَرَضنا كَراهَتَه و قُوّةَ صَوارِفِه عن الفعلِ ، أو لا يُوجَدَ فيَنتَقِضَ حقيقةُ القادرِ الذي ثَبَتَت دَواعيهِ إلَى الفِعلِ و بَواعِثِه عليه. و هذا يُقارِبُ ما تَقدَّمَ في المعنىٰ ، و المُعوَّلُ علَى المَعاني دونَ العِباراتِ .
طريقةٌ أُخرى: و ممّا استُدِلَّ به علىٰ ذلك، أنّ المقدورَ الواحِدَ لَو قَدَرَ عليه
ص: 329
قادِرانِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يَعجِزَ أحَدُهما عنه مع كَونِ الآخَرِ قادراً عليه. و هذا التقديرُ صَحيحٌ في القادِرَينِ إذا كانا معاً مُحدَثَينِ ، أو كانَ أحَدُهما قَديماً و الآخَرُ مُحدَثاً؛ لأنّ العَجزَ في جَنبَةِ (1) المُحدَثِ يَصِحُّ تَقدِيرُه علىٰ كُلِّ حالٍ ، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ ذلكَ الفِعلُ صحيحاً حُدوثُه مِن حيثُ قَدَرَ القادِرُ عليه، و مُستَحيلاً حُدوثُه مِن حَيثُ عَجَزَ الآخَرُ عنه. و هذا مُتناقِضٌ ، فيَجِبُ فَسادُ ما أدّىٰ إليه.
و لا يَسوغُ أن يُقالَ : إنّ ذلكَ الفِعلَ بصحّةِ الوجودِ أَولىٰ ؛ مِن حَيثُ قَدَرَ عليه القادِرُ، و لا يؤثِّرُ في هذه الصحّةِ عَجزُ الآخَرِ.
و ذلكَ : أنّ مِن حَقِّ المَعجوزِ عنه(2) أن يَستَحيلَ وجودُه، كما أنّ مِن شأنِ المَقدورِ أن يَصِحَّ وجودُه و لَيسَت صِحّةُ وجودِ هذا المقدورِ(3) لأجلِ القُدرةِ عليه، بأَولىٰ مِن استَحالة وجودِهِ (4)، لكَونِه معجوزاً عنه.
علىٰ أنّ هذا الفِعلَ إن كانَ وجودُه صحيحاً، كانَ القادِرُ الآخَرُ قادراً عليه أو عاجزاً، فمِن أينَ عَلِمنا أنّه قادرٌ عليه، و أحكامُ كَونِه قادراً [مُتشتّتةٌ (5)]؟ و كيفَ يَصِحُّ كَونُ الشيءِ مقدوراً لِمَن لا يؤثِّرُ عَجزُه في صحّةِ وجودِه، و لِمَن حالُه معه و هو عاجزٌ كحالِه و هو قادرٌ؟
طريقةٌ أُخرىٰ : و ممّا يُستَدَلُّ به، و إن قارَبَ ما تَقدَّمَ ، أنّ القادِرَينِ لَو قَدَرا علىٰ
ص: 330
مقدورٍ واحدٍ، لن يَمتَنِعَ أن يُمنَعَ أحَدُهما عن ذلكَ المقدورِ دُونَ الآخَرِ.
ثُمّ لا يَخلو(1) فِعلُ ذلك المقدورِ مِن وجوهٍ ثلاثةٍ :
إمّا أن يوجَدَ، فيَكونَ الفِعلُ قد وَقَعَ مِن الممنوعِ .
أو لا يوجَدَ، فيَقتَضي ذلكَ ارتفاعَ الفِعلِ (2) مِن القادرِ المخلَّىٰ (3) المُتَوفِّرِ الدواعي.
أو يوجَدَ مِن جهةِ أحَدِهما دونَ الآخَرِ، فيَكونَ الفِعلُ موجوداً معدوماً.
و إن شئتَ أن تقولَ : إذا قَدَّرنا أنّ المَنعَ قد اختصَّ أحَدَهما دونَ الآخَرِ، فذلكَ يَقتَضِي استحالةَ الفِعلِ و صحّتَه؛ فاستحالتُه مِن حَيثُ المَنعِ ، و صحّتُه مِن حَيثُ التخليةِ .
و المَنعُ و إن لَم (252) يَجُز تقديرُه في جَنبَةِ (4) القادِرِ القَديمِ تَعالىٰ ، فيَجوزُ تَقديرُه في جَنبَةِ المُحدَثِ . و أمّا إذا كانَ الكلامُ في قادِرَينِ مُحدَثَينِ فقَد يَصِحُّ أيضاً
أن يَمتَنِعَ أحَدُهما مِن الفِعلِ ؛ بأن يَكونَ ضعيفاً، بما لا يَكونُ مَنعاً للقَويِّ ، فلَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ مَنعَ أحَدِهما يَتَعدّىٰ إلىٰ صاحِبِه.
طريقةٌ أُخرىٰ : و ممّا يُستَدَلُّ به علىٰ ذلكَ ، أنّه لَو صَحَّ أن يَقدِرَ القادرانِ (5) علىٰ مَقدورٍ واحدٍ، لَوجبَ أن يَكونا: إمّا جسمَينِ قادِرَينِ بالقُدَرِ، أو أحَدُهما بهذه
ص: 331
الصفةِ ؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علَى استِحالةِ وُجودِ قادِرَينِ لأنفُسِهما(1). و قد عَلِمنا أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ في غَيرِ مَحَلِّ قُدرتِه إلّابسببٍ هو الاعتمادُ، و لا بُدَّ مِن مُماسّةٍ بَينَ مَحَلِّ القُدرةِ و مَحَلِّ الفِعلِ ؛ إمّا بواسطةٍ أو غَيرِ واسطةٍ . و قد تَقدَّمَ الدليلُ على ذلك(2).
و نَحنُ نَعلَمُ أنّه لا يَمتَنِعُ في أحَدِ هذَينِ القادرَينِ أن لا تَتَكامَلَ شُروطُ صحَّةِ فِعلِه في ذلكَ المحلِّ ؛ بأن لا يَكونَ قَريباً منه، و لا يُمكَّنَ مِن مُماسَّتِه و لا مُماسّةِ ما ماسَّه، و هذا لا يَمنَعُ القادرَ الآخَرَ مِن أن يَفعَلَ مقدورَه في ذلك المَحَلِّ . و مَتىٰ فَعَلَه فهو فِعلٌ للآخَرِ مع فَقدِ شُروطِ صحّةِ كَونِه فاعلاً!
و لا فَرقَ بَينَ تجويزِ ذلكَ ، و تَجويزِ كَونِه فاعلاً مِن غيرِ أن يكونَ قادراً!
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ اختلالَ شَرطِ كَونِ أحَدِهما فاعلاً، يَقتَضِي تَعذُّرَ الفِعلِ مِن(3) الآخَرِ المُستَغني عن الشرطِ؛ لأنّ مِن حَقِّ المُستَغني عن الشرطِ أن لا يُخِلَّ بفِعلِه عدمُ الشرطِ؛ لأنّه لَو أخَلَّ به عدمُ الشرطِ لصحّةِ (4) فِعلِه لَكانَ مُحتاجاً غَيرَ مُستَغنٍ . و لأنّا لَو أرَدنا أن نُثبِتَه مُحتاجاً لَما زِدنا علىٰ ذلكَ .
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ أيضاً: إنّ مُماسّةَ مَحَلِّ الفِعلِ إنّما يَكونُ شَرطاً، متَى انفَرَدَ القادرُ بمقدُورِه، و إذا شارَكَه فيه قادرٌ آخَرُ لَم يَكُن شرطاً؛ لأنّ ما يَدُلُّ علىٰ أنّ ذلكَ شرطٌ لا يَتخصَّصُ .
فإذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، فيَجِبُ القَضاءُ بفَسادِ كَونِ المقدُورِ الواحدِ لقادرَينِ (5).
ص: 332
و هذه الطريقةُ إنّما تَتَأَتّىٰ (1) في المُتَولِّدِ دونَ المُباشَرِ(2)، و الخِلافُ من المُجْبِرةِ واقعٌ في غَيرِ ذلكَ .
طريقةٌ أُخرىٰ : و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ أفعالَنا لا يَجوزُ أن تَكونَ مقدورةً للّٰهِ تَعالىٰ ، أنّا قد بيّنّا فيما تَقدَّمَ مِن هذا الكتابِ أنّ العالِمَ بقُبحِ القَبيحِ ، و أنّه غَنِيٌّ عنه، لا يَجوزُ أن
يَختارَ فِعلَه(3). و في أفعالِنا قَبائحُ ، فلَو كانَت مقدورةً له تَعالىٰ ، لَأدّىٰ إلىٰ أنّه تَعالىٰ فاعِلٌ لها، مع العِلمِ بقُبحِها و أنّه غَنيٌّ عنها.
و قد يُستَدَلُّ بهذه الطريقةِ أيضاً(4) علىٰ فَسادِ كَونِ المقدورِ الواحدِ لقادرَينِ منّا؛ لأنّه قد يَصِحُّ أن يَحصُلَ أحَدُهما [عالِماً] غَنيّاً و إن كانَ الآخَرُ مُحتاجاً، فإن وُجِدَ الفِعلُ أدّىٰ إلىٰ أنّ العالِمَ الغَنيَّ يَفعَلُ القَبيحَ ، و إن لَم يَحصُلْ وجودُه قَدَحَ ذلكَ في كَونِ القادرِ الآخَرِ قادراً عليه.
و إذا صَحَّ بهذه الطريقةِ أنّ القَبيحَ لا يَجوزُ أن يَكونَ مقدوراً لقادرَينِ ، فكذلكَ الحَسَنُ ؛ لأنّ الفَرقَ بَينَهما في هذه القضيّةِ لا يُمكِنُ .
و يُمكِنُ أن يُعتَرَضَ علىٰ هذه الطريقةِ ؛ بأن يُقالَ : إنّ الدليلَ إنّما دَلَّ علىٰ أنّ العالِمَ
ص: 333
بقُبحِ القَبيحِ و أنّه غَنيٌّ عنه لا يَختارُه؛ لأنّ كَونَه بهذه الصفةِ صارِفٌ عنه. و أكثَرُ ما في هذا البابِ أن يَكونَ الفِعلُ قد وَقَعَ ممّن له صارِفٌ عنه، و لا داعيَ له إلىٰ فِعلِه، و القومُ يُصَرِّحونَ بذلكَ ! فإذا قيلَ لهم(1): مِن حَقِّ المَصروفِ عنه الفِعلُ أن يُنفيٰ عنه ذلكَ الفِعلُ . فهذا دليلٌ آخَرُ، و قد تَقدَّمَ بَيانُه.
طريقةٌ أُخرى: و ممّا يُستَدَلُّ به علىٰ ذلكَ ، أنّ كُلَّ ما كانَ علىٰ صفةٍ مِن الذاتِ لأمرٍ يَقتَضي ذلكَ أو يوجِبُه، فلا يَصِحُّ أن يُعلَّقَ كَونُه علىٰ صفتِه بأمرٍ آخَرَ؛ ألا تَرىٰ أنّ [كَونَ ] الجَوهَرِ مُتحرِّكاً لمّا وجبَ عن وجودِ الحركةِ ، فلَم يَصِحَّ أن يُعلَّقَ (253) بأمرٍ آخَرَ؟ و كذلِكَ العالِمُ و المُريدُ. و لأنّه لَو صَحَّ [لَصَحَّ ](2) أن يُعلَّقَ بثالثٍ و رابعٍ و لَم يَقِفْ علىٰ حَدٍّ محصورٍ.
فإذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، و عَلِمنا أنّ تَصرُّفَ أحَدِنا يَجِبُ وُقوعُه مع الداعي و القَصدِ و التخليةِ (3)، و يَجري وجوبُ وقوعِه مع تَكامُلِ الشُّروطِ مَجرىٰ وجوبِ معلولِ العِلّةِ عنها، فإذا لَم يَجُز أن يُعلَّقَ معلولُ العِلّةِ بأمرٍ سِواها، كذلكَ لا يَجوزُ تَعليقُ هذا الحادِثِ بأمرٍ سِوىٰ ما عَلِمنا؛ مِن قَصد زَيدٍ و أحوالِه المخصوصةِ التي عندنا بها يَجِبُ وقوعُه.
و لَيسَ لأحدٍ أن يُفَرِّقَ بَينَ الأمرَينِ ، بأنّ العِلّةَ توجِبُ معلولَها لذاتِها، فلا يَجوزُ
ص: 334
القَولُ بأنّها توجِبُ مع غَيرِها، و لَيسَ كذلكَ ما يَحدُثُ مِن المُختارِ(1).
و ذلكَ : أنّ الفِعلَ و إن وَقَعَ مِن المُختارِ، فقَد بيّنّا أنّ وجوبَ وقوعِه منه عندَ الإرادةِ و توَفُّرِ الدواعي و تَكامُلِ الشرائطِ، بمَنزلةِ وجوبِ معلولِ العِلّةِ عن العِلّةِ ، و هذا هو الوَجهُ المؤَثِّرُ في إبطالِ الافتقارِ إلىٰ موجِبٍ ثانٍ ، فافتراقُهما(2) في غَيرِ ذلكَ لا يَمنَعُ مِن التسويةِ بَينَهما في الحُكمِ الذي ذَكَرناه.
علىٰ أنّ ما لا يوجِبُ إيجابَ العِلَلِ في القضيّةِ التي ذَكَرناها، بمَنزلةِ العِلَلِ الموجِبَةِ علَى التحقيقِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ الفِعلَ المُتولِّدَ عن سببٍ لا يَصِحُّ أن يُعلَّقَ حُدوثُه بسببٍ ثانٍ ، و إن لم يَكُن إيجابُه إيجابَ العِلَلِ؟ و كذلكَ كَونُ الضررِ قَبيحاً مِن حَيثُ كان ظُلماً، لا يَجوزُ أن يُعلَّقَ بوَجهٍ آخَرَ يَقتَضي قُبحَه، و إن لَم يَكُن هذا الوجوبُ يوجِبُ (3) إيجابَ العِلَلِ .
فبَطَلَ ما فَرَّقوا به [بَينَ ] الأمرَينِ .
فإن قيلَ : جَوِّزوا كَونَه مقدوراً لقادرَينِ مِن وَجهَينِ : فأحَدُهما يَقدِرُ علىٰ حُدوثِه، و الآخَرُ مِن وَجهٍ سِوَى الحُدوثِ (4).
قُلنا: لا وَجهَ للفِعلِ سِوَى الحُدوثِ يَصِحُّ أنْ يَتعلَّقَ به قُدرةُ القادرِ. و يُستَدَلُّ علىٰ ذلكَ عندَ الكلامِ علىٰ إبطالِ الكَسبِ بمَشيّةِ اللّٰهِ (5). و هذا كافٍ في إبطالِ قولِهم.
ص: 335
و ممّا يُبطِلُه(1) أيضاً: أنّ القَديمَ تعالى لَو قَدَرَ علَى اختراعِ الفِعلِ ، و قَدَرنا علَى اكتسابِه، لَم يَخلُ [الفِعلُ ] مِن أن يَصِحَّ أن يوجِدَه و يَختَرِعَه [تَعالىٰ ] و إن لَم يَكتَسِبْه العَبدُ - و إن كانَ قادراً على اكتسابِه(2) -، أو يَكتَسِبَه و إن لَم يختَرِعْه القَديمُ تعالى. أو كانَ لا يَجوزُ ذلكَ ؛ بأن يَستَحيلَ أن يَختَرِعَه تَعالىٰ إلّاو يَكتَسِبَه العَبدُ، أو يَكتَسِبَه إلّاو يَختَرِعَه تَعالىٰ .
فإن كانَ الوَجهُ الأوّلُ هو الصحيحَ ، فهو بخِلافِ قولِهم في هذا البابِ ، و كانَ يَنبَغي أن يَكونَ الكَسبُ مُنفَصِلاً مِن الخَلقِ ، بخِلافِ ما يَذهَبونَ إليه.
و إن استَحالَ أن يَختَرِعَه تَعالىٰ إلّاو يَكتَسِبَه العبدُ، فهو يؤَدّي إلىٰ نَقضِ كَونِه تَعالىٰ قادراً عليه، و تَصريحٌ بأنّه يَحتاجُ في اختراعِه إلىٰ وجودِ قُدرةِ العبدِ.
فإن قالوا: يَصِحُّ أن يَختَرِعَ تَعالىٰ (3) الفِعلَ و إن لَم يَكتَسِبْه العَبدُ، ما لا يَكونُ (4)هناكَ قُدرةٌ للعبدِ. و مع وُجودِ القُدرةِ لا بُدَّ مِن كَونِه مُكتَسِباً.
قُلنا: و لِمَ وجبَ مع وجودِ القُدرةِ أن يَكونَ مُكتَسِباً؟
فإن قالُوا: لأنّ القُدرةَ توجِبُ كَونَ الفِعلِ مُكتَسَباً.
قُلنا: لَيسَ يَجِبُ هذا الذي أوجَبتُموه لمعنىً (5) يُعقَلُ ، و لكِن علىٰ تَجاوُزٍ مِنّا له:
ص: 336
أ رَأَيتُم لَو كانَ هذا الذي وُجِدَتِ القُدرةُ له كارهاً لاكتسابِ الفِعلِ ، و علىٰ غايةِ الانصرافِ عنه، هَل كانَ يَحصُلُ كسباً به أم لا يَحصُلُ كذلكَ؟
فإن حَصَلَ علىٰ كُلِّ حالٍ كسباً به، أدّىٰ إلى أنّ الفِعلَ يَحصُلُ ممّن هو علىٰ غايةِ الكَراهةِ ، و معه نِهايةُ الصوارِفِ ، و قد تَقدَّمَ ما في هذا.
و إن لَم يَحصُل كسباً، فقَدِ انتَقَضَ قضاؤهم بأنّ مع وجودِ القُدرةِ لا بُدَّ مِن الاكتسابِ .
فإن قالوا: لا بُدَّ مع وُجودِ الإرادةِ له و انتفاءِ الكَراهةِ و الصوارِف، (254) انتقضَ هذا عليهم بالساهي و النائمِ ؛ لأنّ القُدرةَ موجودٌ له مع انتفاءِ الإراداتِ .
فأمّا تَعلُّقُ المُخالِفِ بأنّه إذا جازَ إثباتُ مَعلومٍ لعالِمَينِ ، و مُرادٍ لِمُريدَينِ ، و مملوكٍ لِمالِكَينِ ، فألا جازَ [إثباتُ ] مقدورٍ(1) واحدٍ لِقادرَينِ؟
فلَيسَ بشيءٍ يُعتَمَدُ؛ لأنّا قد بيّنّا فيما سَلَفَ مِن الكتابِ ، أنّ القُدرةَ في هذا البابِ بخِلافِ العِلمِ و الإرادةِ ؛ لأنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ إلّابما يَصِحُّ أن يَكونَ بها على صفةٍ ، فلهذا دَخَلَ الاختصاصُ في المقدورِ، و العِلمُ و الإرادةُ بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّهما قد يَتعلَّقانِ بما لا يَصِحُّ أن يؤَثِّرا فيه، و بما يَستَحيلُ أن يَكونَ بهما علىٰ شيءٍ مِن الصفاتِ . فلهذا صَحَّ أن يَشتَرِكَ العالِمانِ في المعلومِ الواحدِ، و المُريدانِ (2) في المُرادِ الواحدِ.
و الذي يَكشِفُ عن ذلكَ : أنّ العِلمَ الذي يؤَثِّرُ(3) في كَونِ الفِعلِ مُحكَماً، لا يَكونُ
ص: 337
إلّا مِن جهةِ عالِمٍ واحدٍ، و لا يَدخُلُ فيه اشتراكٌ ، و كذلك الإرادةُ المؤَثِّرةُ في الخبرِ و ما أشبَهَه.
و يَلزَمُ علىٰ هذا جَوازُ مقدورٍ واحدٍ لقادِرِينَ كَثيرِينَ ، كما جازَ في المعلومِ و المُرادِ(1).
فأمّا المِلكُ : فإنّا لا نُجيزُ كَونَ المملوكِ الواحدِ لِمالِكَينِ علَى الحَقيقةِ ؛ لأنّ المالِكَ هو القادِرُ، و المملوكَ هو المقدورُ. و إذا لَم يَجُز عندَنا مقدورٌ لقادِرَينِ ، لَم يَجُز مملوكٌ واحدٌ لِمالِكَينِ .
و الاشتراكُ في مِلكِ الدارِ لا يَلزَمُ علىٰ هذا؛ لأنّ إضافةَ المِلكِ إلَى الدارِ مَجازٌ في الأصلِ ، و مُستَعمَلٌ فيها بالتعارُفِ ، و المَعنىٰ أنّه «يَملِكُ الفِعلَ فيها و التصَرُّفَ ».
و يَلزَمُ علىٰ هذا اشتراكُ الجَماعةِ في المقدورِ الواحدِ كما جازَ ذلكَ في الذواتِ المملوكةِ ، و أن يَقدِرَ القادرانِ علَى المقدورِ الواحدِ مِن الوجهِ الواحدِ؛ بأن يَجوزَ لأحَدِهما مِن التصرُّفِ فيه ما جازَ للآخَرِ بعَينِه.
فأمّا تَعلُّقُهم بأنّه تَعالىٰ إذا كانَ هو المُقْدِرَ لنا علَى الفِعلِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ هو - جَلَّ و عَزَّ - عليه أقدَرَ(2)، كما أنّه إذا عَلِمنا بالشيءِ فهو به أعلَمُ ، و كذلكَ إذا جَعَلَنا مُدرِكينَ له، فهو أيضاً له مُدرِكٌ .
فلَيسَ بصحيحٍ ؛ لأنّه يَلزَمُ عليه أوّلاً أن يَكونَ تَعالىٰ مُشتَهِياً و نافِراً؛ لأنّه قد جَعَلَنا بهذه الصفاتِ . و يَلزَمُ أن يَكونَ عاجزاً عمّا جَعَلَنا(3) عاجِزينَ عنه(4)؛ قياساً علَى
ص: 338
العِلمِ و الإدراكِ . و كُلُّ شَيءٍ يُذكَرُ مِن الفَرقِ بَينَ ذلكَ و بَينَ كَونِه عالماً، يُفرَّقُ بمِثلِه بَينَ كَونِه قادراً و كَونِه عالِماً.
فإن قالوا: كَونُه مُشتَهياً و نافِراً و عاجِزاً ممّا يَستَحيلُ عليه تَعالىٰ علَى الجُملةِ ، و لَيسَ كذٰلكَ كَونُه تَعالىٰ قادراً عليها؛ [فإنّه ممّا يَصِحُّ عليه في الجُملةِ كصحّةِ كونهِ عالِماً، فيجبُ أن يُحملَ عليه.
قُلنا: قد بيّنّا أنّ أفعالَنا لا يَجوزُ أن تكونَ مقدورةً للّٰهِ تَعالى، فاستحالةُ كَونِه تَعالىٰ قادراً عليها](1) تجري مَجرَى استحالةِ كَونِه مُشتَهياً و نافراً و عاجزاً. فإذا اعتَمَدتُم في الفَرقِ علَى الاستحالةِ ، فهي موجودةٌ في المَوضِعَينِ معاً. و لا اعتبارَ بأنّ كَونَه قادراً ممّا يَصِحُّ عليه في الجُملةِ و لَيسَ كذلكَ كَونُه مُشتَهِياً و عاجزاً؛ لأنّ الكلامَ إنّما وَقَعَ في القُدرةِ علىٰ أفعالِ العِبادِ، و ما يَظهَرُ مِن تَصَرُّفِهِم، و هذا بعينه يستحيل(2) أن يَقدِرَ عليه، كما يَستَحيلُ أن يَكونَ تَعالىٰ عاجزاً و مُشتَهِياً. فإذا أُلزِمنا أن يَكونَ قادراً(3) على كُلِّ ما نَقدِرُ عليه قِياساً علَى العِلمِ ، عارَضنا بالشَّهوةِ و النُّفورِ و العَجزِ، فالعِلّةُ في ذلك كُلِّه موجودةٌ .
علىٰ أنّ الوَجهَ في وُجوبِ كَونِه تَعالىٰ عالِماً بما يَعلَمُه العِبادُ غَيرُ ما ادَّعَوه، بَل الوَجهُ الصحيحُ أنّ المعلوماتِ لا تَختَصُّ (4) في صحّةِ العِلمِ بها ببعضِ العالِمينَ دونَ بعضٍ ، و هو تَعالىٰ عالِمٌ لنفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ عالماً بجميعِ المعلوماتِ . و لَيسَ كذلك المقدورُ؛ فإنّه يَختَصُّ ، فلا يَجِبُ (255) حَملُه علَى المعلوم.
ص: 339
علىٰ أنّ هذا الكلامَ يوجِبُ عليهم أن يَكونَ قادراً علَى الفِعلِ الواحدِ مِن الوَجهِ
الذي أقدَرَ العبدَ عليه(1)، كما وَجَبَ ذلكَ في العِلمِ . و إذا امتَنَعوا مِن ذلكَ فقَد نَقَضوا حَملَ القُدرةِ علَى العِلمِ ، و ساغَ (2) لمُخالِفِهم أن يَمتَنِعَ مِن [حَملِ ] القُدرةِ علَى العِلمِ في المَوضِعِ الذي ذَكَروه.
و بَعدُ، فهذا يَقتَضي أن يُجَوِّزوا أن يَكونَ تَعالىٰ يُقدِرُ العَبدَ على الفِعلِ مِن جميعِ جِهاتِه، كما جازَ أن يُعْلِمَه المعلومَ مِن جميعِ جهاتِه. فإن أجازوا ذلكَ تَرَكوا مَذاهِبَهم، و إنِ امتَنَعوا مِنه، نَقَضوا حَملَ القُدرةِ علَى العِلمِ .
و أمّا الكلامُ علىٰ فَسادِ القولِ بتَعلُّقِ القُدرتَينِ بالمقدورِ الواحدِ فداخِلٌ في جُملةِ ما تَقدَّمَ ؛ لأنّهما إن تَعلَّقَتا بقادرَينِ ، فقَد أفسَدنا ذلكَ صَريحاً، و إن تَعلَّقَتا بقادرٍ واحدٍ و اختَصّتاه(3)، فالأمرُ يَؤولُ إلى كَونِ المقدورِ الواحدِ لقادرَينِ بضَربٍ مِن التَرتيبِ ؛ و ذلكَ أنّ كُلَّ عَرَضَينِ مُتَماثِلَينِ (4) اختَصّا بحَيٍّ واحدٍ، فإنّه يَصِحُّ اختصاصُ مِثلَينِ مِن جنسِهما بَحيَّينِ ؛ كالعِلمَينِ و الإرادتَينِ .
فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ صحّةِ ذلكَ ، و ما أنكَرتُم أن تَكونَ هاتانِ القُدرتانِ اللتانِ تَتعلَّقانِ بهذا المقدورِ لا مِثلَ لهما يَتعلَّقُ في آخَرَ؟
ص: 340
قُلنا: مُحالٌ أن تَكونَ (1) أمثالُ الذاتِ محصورةً بعَدَدٍ؛ لأنّ ما تَعدَّى الواحدَ لا يَنحَصِرُ و لا يَتَناهىٰ ؛ فكيفَ يُقالُ : إنّه لا أمثالَ لِما تَعلَّقَ بهذا المقدورِ مِن القُدَرِ(2)! فلَم يَبقَ إلّاأن يُقالَ : له أمثالٌ لا تَنحصِرُ(3) كما ذَكَرتم؛ مِن حَيثُ تَعدَّى الواحِدَ.
[و قد يُقالُ : مِن أينَ ](4) زَعَمتُم(5) أنّه إذا كانَ غَيرَ مُنحَصرٍ فإنّه يَتَعدّىٰ إلىٰ حَيٍّ آخَرَ؟ و ما أنكَرتُم أن تَكونَ (6) كُلُّ الأمثالِ لهاتَينِ القُدرتَينِ - و إن كانَت غَيرَ مُنحَصرةٍ - تَختَصُّ (7) هذا الحَيَّ الواحِدَ؟
و الجَوابُ عن ذلكَ : أنّ هذا القولَ يَقتَضي أنّ بعضَ الجَواهرِ قد اختَصَّ بقَبيلٍ لا يَصِحُّ علىٰ غَيرِه مِن الجَواهرِ، و ذلكَ فاسدٌ؛ لأنّ كُلَّ جَوهرٍ يَحتَمِلُ مِن قَبيلِ الأعراضِ مِثلَ ما يَحتَمِلُه سائرُ الجَواهرِ، و كذلكَ كُلُّ حيٍّ يَحتَمِلُ مِن الأعراضِ القَبيلَ الذي يَحتَمِلُه سائرُ الأحياءِ . و متىٰ لَم يُحرَسْ (8) هذا الأصلُ ، لَم نَأمَن مِن(9) أن
يَكونَ بَعضُ المَحالِّ لا يَصِحُّ فيها وجودُ شيءٍ مِن الألوانِ مخصوصٍ (10)، و إن صَحَّ وجودُ ذلكَ في غَيرِه مِن المَحالِّ ، و بعضُ الأحياءِ لا يَصِحُّ أن يُريدَ مُراداً مخصوصاً و إن صَحَّ علىٰ سائرِ الأحياءِ ذلكَ الجنسُ مِن الإراداتِ !
ص: 341
و ممّا يَدُلُّ على فَسادِ تَعلُّقِ المقدورِ الواحدِ بقُدرتَينِ ؛ سواءٌ تَعلَّقَتا بقادرٍ واحدٍ أو بقادرَينِ : أنّ ذلكَ لَو جازَ لَم يَمتَنِعْ (1) أن توجَدَ(2) إحدى هاتَينِ القُدرتَينِ و إن كانَتِ الأُخرىٰ معدومةً ، فحينئذٍ لا يَخلو من أن يَصِحَّ الفِعلُ ، أو لا يَصِحَّ .
فإن صَحَّ ، انتَقَضَ تَعلُّقُه بالقُدرةِ المعدومةِ ؛ مِن حَيثُ يوجَدُ هذا المقدورُ، وُجِدَت تلكَ القُدرةُ أو عُدِمَت. و لَو نَفَينا عَدمَ تَعلُّقهِ بها(3) لَما زِدنا علىٰ ذلكَ .
و إن لَم يَصِحَّ وجودُه، بَطَلَ أن تَكونَ (4) هذه القُدرةُ الموجودةُ مُتعلِّقةً به(5)؛ لأنّ ذلكَ تصريحٌ بنفيِ التعلُّقِ .
و أيضاً: فكانَ يَجِبُ لَو وَقَعَ بإحدَى القُدرتَينِ و الأُخرَى المُتعلِّقةُ (6) به معدومةٌ ، أن يَكونَ الفِعلُ موجوداً معدوماً.
و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلك: أنّه كانَ لا يُمنَعُ حُلولُ هاتَينِ القُدرتَينِ في عضوَينِ مِن قادرٍ واحدٍ، و يَختَصَّ أحَدُ (256) العُضوينِ بمَنعٍ يَعرىٰ منه العُضوُ الآخَرُ، و هذا يَقتَضي صحّةَ وجودِه و استحالتِه(7) معاً؛ علىٰ ما بيّنّاه مِن قَبلُ .
و متىٰ قيلَ : إنّه يَصِحُّ وجودُه وَ لا يُعتَبَرُ بالمَنعِ الحاصِلِ في العُضوِ الآخَرِ،
ص: 342
كانَ هذا إخراجاً لتلكَ القُدرةِ مِن التعلُّقِ بهذا المقدورِ. و لَو جازَ - مع أنّ الفِعلَ يوجَدُ علىٰ كُلِّ حالٍ ، و إنِ اختَصَّ مَحَلُّ تلكَ القُدرةِ بالمَنعِ - أن تَكونَ (1) قُدرةً عليه، لَجازَ في قُدرةِ غَيرِ ذلك القادرِ، أن تَكونَ قُدرةً عليه، بَل في سائرِ الأعراضِ !
و قد كانَ أبو عَبدِ اللّٰهِ (2) يُجوِّزُ أن يَفعَلَ القادِرُ بإحدَى القُدرتَينِ الحالّتَينِ في المَحَلِّ الواحدِ مِن أعضائه، و أبو هاشمٍ يَمنَعُ مِن ذلكَ (3).
فإن صَحَّ مَذهَبُ أبي عَبدِ اللّٰهِ في هذا البابِ ، أمكَنَ أن يُستَدَلَّ بطريقةٍ أُخرىٰ ، فيُقالَ : لَو كانَ مقدورُ القُدرتَينِ واحداً(4)، لَم يَمتَنِعْ أن يَفعَلَه بإحداهما(5) دُونَ
الأُخرىٰ ، و إن حَلَّتا مَحَلاًّ واحداً. و هذا يؤَدّي إلىٰ كَونِه موجوداً معدوماً!
***
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ الطريقَ الذي به عَلِمنا تَعلُّقَ الفِعلِ بالقادر، به نَعلَمُ (6)
ص: 343
وَجهَ تَعلُّقِه؛ لأنّا إنّما نَعلَمُ علَى الجُملةِ تَعلُّقَه به؛ بأن يَقَعَ بحَسَبِ أحوالِه علىٰ ما بيّنّاه(1). و إذا كانَ الذي يَتجدَّدُ الفِعلُ (2) عندَ قَصدِنا إليه إنّما هو حُدوثُه دونَ سائرِ صفاتِه، وجبَ أن يَكونَ الحُدوثُ هو جهةَ التعَلُّقِ دونَ ما عَداها؛ لأنّ كُلَّ شيءٍ سِوَى الحُدوثِ لا يَتجدَّدُ عندَ قَصدِه لمكانِ مُجرَّدِ كَونِه قادراً.
و لَيسَ يَصِحُّ أن يُناقَض علىٰ هذا الكلامِ بما نَقولُه(3)، مِن أنّ (4) الحَسَنَ قد يَكونُ حَسَناً بالفاعلِ ، و القَبيحَ أيضاً و الخبرَ و الأمرَ.
و ذلكَ أنّ كُلَّ ما ذُكِرَ و إن قيلَ : إنّه بالفاعلِ ، فهو مُستَنِدٌ إلىٰ صفاتٍ له أُخَرَ(5) زائدةٍ علىٰ كَونِه قادراً؛ مِثلِ كَونِه عالماً و مُريداً و كارهاً و ما أشبَهَ ذلكَ . و الذي يَتعلَّقُ بمُجرَّدِ كونِه قادراً هو الحُدوثُ دونَ غَيرِه، و كُلُّ هذه الوجوهِ المذكورةِ زائدةٌ علَى الحُدوثِ ، و تَحتاجُ (6) إلىٰ صفةٍ زائدةٍ علىٰ كَونِه قادراً. و إنّما تَتعلَّقُ بالقادرِ تَبَعاً للحُدوثِ الذي لَو لَم يكُن مُتعلِّقاً به، لما تَعلَّقَت [به] تلكَ الوجوهُ التَّوابِعُ .
و الذي يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ الحُدوثَ لا بُدَّ مِن حُصولِه عندَ قَصدِ القادِرِ و تَكامُلِ الشرائِطِ، فعَلِمنا أنّه مُقتَضىٰ كَونِه قادراً، و قد يَنفَكُّ الفِعلُ مِن تلكَ الوجوهِ الزائدةِ مع الحُدوثِ ، فلَو كانَت مِن مُقتَضى كَونِ القادرِ قادراً، لَجَرَت مَجرَى الحُدوثِ في عدمِ الانفِكاكِ .
ص: 344
و قد بيّنّا فيما سَلَفَ مِن هذا الكتابِ : أنّ الحُدوثَ مِن حَيثُ كان هو المُتجدِّدَ عندَ قَصدي، يَجِبُ أن يَكونَ [هو] المتعلِّقَ بي دونَ سائرِ الصفاتِ التي لا تَتجدَّدُ، و أوضَحناه.
و نُبَيِّنُه زائداً علىٰ ما مَضىٰ : أنّا قد عَلِمنا أنّ حُكمَ ما لا يَتجدَّدُ عندَ قَصدي مِن صِفاتِ الفِعلِ ، حُكمُ ما لا يَتجدَّدُ عندَ قَصدي(1) مِن أعيانِ الأفعالِ ، فكما أنّ أفعالَ غَيري لا تَعلُّقَ لها بي مِن حَيثُ لَم تَتجدَّدْ(2) لها صفةٌ عندَ قصدي، فكذلكَ صفاتُ
فِعلي التي لا تَتجدَّدُ(3) عندَ قَصدي، يَجِبُ أن لا تَكونَ (4) متعلّقةً بي، و لا لي تأثيرٌ فيها. و الجامِعُ بَينَ الأمرَينِ التعلُّقُ بالقَصدِ نَفياً و إثباتاً.
فإن قيلَ : هذا الاعتبارُ يَقتَضي أن يكونَ حُلولُ الفِعلِ في المَحَلِّ ، و كَونُه مُتحرِّكاً به، و نَفيُه لضِدِّه، و تعلُّقُه بما تَعلَّق به، ممّا يَستَنِدُ إلَى الفاعلِ ؛ بحُصولِه أجمَعَ عندَ قَصدِه، كالحُدوثِ .
قُلنا: مِن شَأنِ كُلِّ صفةٍ (5) [زائدةٍ ] علَى الحُدوثِ ، و كانَت مُتعلِّقةً بالفاعِلِ ، يَجوزُ حُصولُها مع الحُدوثِ ، وَ حُصولُ (257) خِلافِها علَى البَدَلِ ؛ و ذلكَ نَحوُ كَونِ الفِعلِ مُحكماً و أمراً و خبراً. و ما يَجِبُ مع الحُدوثِ ، و كان متعلِّقاً(6) بالفاعِلِ [و لا يَجوزُ] خلافُه(7) لا معنىٰ لإسنادِه إلى الفاعلِ ، كما لا يَجوزُ إسنادُ صفاتِ الأجناسِ
ص: 345
إليه. و كُلُّ ما ذُكِرَ في السؤالِ ، ممّا يَجِبُ كَونُ الفِعلِ عليه مع الحُدوثِ ، و لا يَجوزُ كَونُه علىٰ خِلافِه.
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فالحُدوثُ إن كان بالفاعِلِ ، فيَجِبُ أن يَصِحَّ مِن الفاعلِ أن يَجعَلَ الذاتَ عليه، و أن لا يَجعَلَها(1)؛ لأنّه لا خِلافَ للحُدوثِ إلّاالعدمُ ، و العدمُ ممّا لا يَتجدَّدُ للفعلِ (2).
فيُقالَ فيه: إنّه حَصَلَ بالفاعلِ ، و كان جَميعُ ما تَعلَّقَه بالفاعلِ ، فلا بُدَّ فيه مِن الحُكمِ الذي ذَكَرناه، و هو صحّةُ أن يجعَلَه الفاعِلُ للذاتِ و أن لا يَجعَلَه. فإن كانَ ذلكَ هو الحُدوثَ ، فهذا مُستَمِرٌّ فيه، و إن كان(3) صفةً زائدةً علَى الحُدوثِ ، فمِن عَلامَتِها أن يَصِحَّ حُصولُها مع الحُدوثِ بالفاعلِ و حُصولُ خِلافِها.
وَ الذي يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ الحُدوثَ هو جهةُ تَعلُّقِ القادرِ: أنّا وَجَدنا ما يَصِحُّ حُدوثُه يَصِحُّ تَعلُّقُ القادرِ به، و ما يَستَحيلُ حُدوثُه يَستَحيلُ تَعلُّقُه به. و ما استحالَ حُدوثُه مِن قادرٍ مخصوصٍ استَحالَ تَعلُّقُ ذلك القادرِ به و إن صَحَّ مِن غيرِه. و هذا واضحٌ في أنّ الجِهةَ هي الحُدوثُ دونَ ما سِواها.
يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّا لمّا وَجَدنا ما استَحالَ عليه التحَيُّزُ في حالِ الوُجودِ(4)، يَستَحيلُ حُلولُ الأعراضِ فيه، و ما صَحَّ أن يتحيَّزَ مع وُجودهِ صَحَّ حُلولُ الأعراضِ
ص: 346
فيه، حَكَمنا بأنّ المُصحِّحَ لِحُلولِ الأعراضِ هو التحَيُّزُ(1). و هذا الاعتبارُ حاكمٌ (2) في اتّباعِ التعلُّقِ مِن القادرِ بصحّةِ الحُدوثِ نفياً و إثباتاً.
و لَيسَ يَلزَمُ على ما ذَكَرناه قولُهم: إنّ كُلَّ ما صَحَّ أن يكُونَ عَرَضاً مِن
أفعالِنا، صَحَّ أن يَقدِرَ القادرُ منّا عليه، و ما يَستحيلُ ذلكَ فيه يَستحيلُ كَونُه قادراً عليه، و لَم يَجِب أن يَكونَ كونُه عَرَضاً هو جهةَ تَعلُّقِ القادرِ، و كذلك الحُدوثُ .
و ذلكَ أنّه لا صفةَ للذاتِ بكَونِها عَرَضاً، فيَصِحَّ أن تُعَلَّقَ (3) القُدرةُ بها، كما أنّ لها بكَونِها مُحدَثةً ، صفةً معقولةً .
و أيضاً: فلَيسَ ما استَحالَ كَونُه عَرَضاً، استَحالَ تَعلُّقُ القُدرةِ به؛ لأنّ القَديمَ تعالى يَقدِرُ علىٰ ما يَستَحيلُ كَونُه عَرَضاً، و لا أحَدَ مِن القادرِينَ يَقدِرُ علىٰ ما يَستَحِيلُ حُدوثُه.
[فإن قيلَ : ما يستحيل حدوثُه](4) كما يَستَحيلُ أن يُقدَرَ عليه، كذلك يَستَحيلُ أن يُرادَ، و لم يُوجِب ذلكَ أن تَكونَ الإرادةُ لا تَتعلَّقُ إلّاعلىٰ جهةِ الحُدوثِ ، فقولوا مِثلَ ذلك في القُدرةِ .
قُلنا: هذا الاعتبارُ - في أنّ الإرادةَ هي(5) القَصدُ الدالُّ علىٰ أنّ الإرادةَ
ص: 347
لا تَتعلَّقُ (1) علَى الحقيقةِ إلّابما يَصِحُّ حُدوثُه - [يؤيّد ما قلناه](2)؛ فانّ (3) المُريدَ إذا أرادَ ما يَعتَقِدُ أنّه يَصِحُّ حُدوثُه مع استحالةِ الحُدوثِ عليه، فتلك إرادةٌ لا مُرادَ لها علَى الحَقيقةِ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ الحُدوثَ هو جهةُ تَعلُّقِ القادرِ: أنّه قد ثَبَتَ أنّ الفِعلَ لا بُدَّ مِن أن يَحصُلَ على بعضِ الصفاتِ بفاعلِه، و إلّالَم يكُن مُتعلِّقاً به التعلُّقَ الذي بيّنّاه و كَشَفناه، و إذا لَم يَجُز أن يَحصُلَ به علىٰ صفاتِ جنسِه، و لا على ما يَجِبُ كَونُه لا مَحالةَ عليها، و لا تأثيرَ لاختيارِ الفاعلِ منها، فيَجِبُ أن يَكونَ به مِن حَيثُ كان مُحدَثاً؛ لأنّ الذي يُدَّعىٰ مِن الكَسبِ غَيرُ معقولٍ (4)، و سَنُبَيِّنُه بعَونِ اللّٰهِ (5).
و ما يَتبَعُ الحُدوثَ مِن الصفات، لا يؤَثِّرُ فيها كَونُ الفاعلِ قادراً، و إنّما كَلامُنا فيما يَتعلَّقُ بالفاعلِ مِن حيثُ كانَ قادراً فَقَط. و هذا واضحٌ [في] القدرة.
***
ص: 348
الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ القادرَ مِنّا لَو قَدَرَ (258) علَى الإعدامِ ، لَكانَ لا يَصِحُّ منه إعدامُ ما لا يَصِحُّ منه إيجادُه مِن مقدوراتِ القَديمِ تَعالىٰ و مقدورِ غَيرِه؛ لأنّ كُلَّ
مَن قَدَرَ علىٰ أن يَجعَلَ الذاتَ علىٰ بعضِ الوجوهِ التي تَكونُ (1) عليها بالفاعلِ ، لا بُدَّ أن يَكونَ قادراً علىٰ جَعلِها علىٰ سائرِ ما تَحصُلُ عليه بالفاعلِ ، كما بيّنّاه في الخبرِ و الأمرِ. و إذا كُنّا نُعدِمُ الحَياةَ و لا نَقدِرُ علىٰ إيجادِها، و كذلك نُعدِمُ مقدورَ الغَيرِ و لا نَقدِرُ على إيجادِه، دَلَّ ذلكَ علىٰ أنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ بالإعدام، و إلّاأدّىٰ ذلك إلى وجودِ مقدورٍ واحدٍ لقادرَينِ .
و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : هذا يَدُلُّ علىٰ أنّ أحَدَكم لا يَقدِرُ علَى الإعدامِ ؛ فمِن أينَ أنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَقدِرُ على ذلك ؟
لأنّا كما نُعدِمُ مقدوراتِه تعالى، كذلك قد يُعدِمُ تَعالىٰ مقدوراتِنا، و إن لَم يُوصَفْ بالقُدرةِ على إيجادِها، فالدليلُ جامعٌ للمَوضِعَينِ .
علىٰ أنّ القادِرَ(2) لا يختَلِفُ بالقِدَمِ و الحُدوثِ ، و إذا استَحالَ أن يَقدِرَ علىٰ هذا الوَجهِ ، استَحالَ أن يَقدِرَ عليه كُلُّ قادرٍ.
ص: 349
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّ المعدومَ لَيسَ له بكَونِه معدوماً صفةٌ و لا حالٌ ، و إنّما المُستَفادُ بذلكَ خُروجُه مِن الوجودِ، و القُدرةُ إنّما تَتعلَّقُ بتحصيلِ الفِعلِ على صفةٍ ؛ لأنّ التعليلَ بالفاعلِ كالتعليلِ بالعِلّةِ ، و كما لا يَجوزُ أن يُسنَدَ إلَى العِلّةِ ما لَم يُعقَلْ مِن الصفاتِ ، كذلكَ الفاعِلُ ، و لهذا صَحَّ أن يُعلَّقَ الحُدوثُ بالفاعلِ ؛ مِن حيثُ كانَت حالةً معقولةً . و كذلكَ صَحَّ في كَونِ الكلامِ خبراً و أمراً و نهياً أن يُسنَدَ إلى الفاعِلِ ؛ مِن حيثُ كانَت هذه الأُمورُ وجوهاً معقولةً و أحكاماً ثابتةً . و لهذا لَم نَحتَجْ في أن لا يَكونَ خبراً و لا أمراً إلىٰ فاعلٍ ؛ للوَجهِ الذي ذَكَرناه.
و لأنّه لا بُدَّ مِن أن يُعلَّقَ بالفاعلِ مِن الفِعلِ ما يَنفَصِلُ (1) [به] بَينَ أن يَكونَ عليه، و بينَ أن لا يكونَ عليه، و هذا [إنّما](2) يَليقُ بالإثباتِ دونَ النفيِ .
فإن قيلَ : و مِن [أين] أنّه لا حالَ للمعدومِ بِكَونهِ معدوماً؟
قُلنا: مِن أقوىٰ ما دَلَّ علىٰ ذلك، أنّا نَعلَمُ باضطرارٍ أنّ الذاتَ لا تَخلو مِن أن تَكونَ مَوجودةً ، أو معدومةً . و لَو كانَ العدمُ حالاً، لَم نَعلَمْ ذلكَ باضطرارٍ؛ لأنّ (3)استحالةَ خُلُوِّ الذاتِ مِن حالَينِ مُتَضادَّينِ إلىٰ ثالثٍ لا يُعلَم باضطرارٍ(4)،
و إنّما طريقُه الاستدلالُ ، و إنّما الذي يُعلَم باضطرارٍ في الذاتِ أنّها لا تَخلُو مِن أن
ص: 350
تَكونَ (1) علَى الصفةِ ، أو علىٰ نَفيِها و سَلبِها. فلَولا أنّ العدمَ إنّما هو سَلبُ (2) الوجودِ فقط، لَم نَعلَم باضطرارٍ استحالةَ خُلُوِّ الذاتِ مِن الوجودِ أو العدمِ .
و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ إثباتَ حالٍ للذاتِ بكَونِها معدومةً ، لَيسَ ممّا(3)يُعرَفُ باضطرارٍ، و لا دليلَ على إثباتِه، فَيَجِبُ نفيُه؛ لأنّ إثباتَ ما لا طريقَ إليه؛ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ . و كيف يَصِحُّ إثباتُ حالٍ لا فَرقَ في الأحكامِ المعقولةِ بَينَ إثباتِها و نَفيِها؟! مِن حيثُ كان كُلُّ حُكمٍ للمعدومِ أُسنِدَ إلى كَونِه علىٰ حالٍ ، يُمكِنُ أن يُسنَدَ إلَى انتفاءِ الوجودِ عنه(4)؛ ألا تَرى أنّ استحالةَ الأحكامِ التي كانَت جائزةً عليه مع الوجودِ، كما يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ المؤَثِّرَ فيها حُصولُ حالةٍ له في العدمِ ، يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ المؤَثِّرَ فيها خُروجُه مِن الوجودِ؟
و لَيسَ لأحَدٍ أن يجعَلَ كَونَ المعدومِ مقدوراً - و هذا ممّا يَختَصُّ العدمَ - مُقتَضِياً لحالٍ (5) هو عليها؛ و ذلكَ : أنّ فائدةَ قولِنا في الذاتِ : «إنّها مقدورةٌ » أنّ القادِرَ عليها يَصِحُّ أن يوجِدَها و يُحصِّلَ لها هذه الحالةَ المعقولةَ ، و هذا القَدرُ لا يَقتَضي ثبوتُهُ حصولَ (6) حالةٍ للمعدومِ (259) تُضادُّ(7) الوجودَ؛ لأنّ صحّةَ حُصولِ الصفةِ للذاتِ لا يَقتَضي ثُبوتَ ما يُضادُّها.
ص: 351
دليلٌ آخَرُ: و يَدُلُّ علىٰ ذلك أنّ الإعدامَ لَو تَعلَّقَت به القُدرةُ لَجَرىٰ مَجرَى الإحداثِ ، و كانَ يَجِبُ في كُلِّ ذاتٍ تَجدُّدُ عدمِها بالفاعلِ ، كما وجبَ مِثلُ ذلكَ فيما تَجدَّدَ وجودُه. و هذا يُوجِبُ أن يكونَ عدمُ كُلِّ ما لا يَبقىٰ في الحالِ الثانيةِ مُتَعلِّقاً بالفاعلِ ؛ كالصَّوتِ و ما أشبَهَه. و ذلكَ باطلٌ ؛ لأنّ عَدَمَ ما لا يَبقى واجبٌ ، و ما يَتعلَّقُ بالفاعلِ لا يَكونُ إلّاما حُصولُه و أن لا يَحصُلَ علىٰ سَواءٍ . و كيفَ يَتعلَّقُ ذلكَ بالفاعلِ و هو لا يَقِفُ علَى اختيارِه و لا يَتعلّقُ بدَواعيهِ؟
و لَيسَ لأحَدٍ أن يُخرِجَ عدمَ ما لا يَبقىٰ مِن التعَلُّقِ بالفاعلِ لوجوبِه، و يُجرِيَه مَجرىٰ وجودِ القَديمِ الذي لمّا وجبَ لَم يَفتَقِر إلىٰ فاعلٍ .
و ذلكَ أنّ كُلَّ شَيءٍ كانَ لوجودِه أوّلٌ ، فوجودُه بالفاعلِ و إن وجبَ ؛ كالمسبَّبات(1) التي يَجِبُ وجودُها عندَ أسبابِها، و تَتعَلَّقُ (2) مع ذلكَ بالفاعلِ . و كذلك يَجِبُ في كُلِّ ما لعدمِه أوّلٌ أن يَكونَ بالفاعلِ ، و إن وجبَ عدمُه.
و لَيسَ يُفرِّقُ بَينَ الأمرَينِ : أنّ المُسَبَّبَ كان يَصِحُّ أن لا يوجَدَ بأن لا يوجَدَ سببُه، فيَدخُلَ هذا في حَيِّزِ ما جائزٌ وُجودُه(3). و ذلكَ أنّ ما لا يَبقى أيضاً، قد كانَ يَجوزُ أن لا يَتجدَّدَ عدمُه في الثاني؛ بأن لا يَحدُثَ (4) مِن القادرِ عليه في الأوّلِ . فإن كانَ ما ذُكِرَ في المُسَبَّبِ فَرقاً صحيحاً، فمِثلُه [ما] لا يَبقىٰ ، فَاستَوى الأمرانِ .
ص: 352
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّ القُدرةَ لَو تَعلَّقَت بالإعدامِ ، لَم يمتَنِع أن يَبتَدئَ أحَدُنا فَيُعدِمَ الذواتِ الباقياتِ مِن غَيرِ أن يَفعَلَ ضِدّاً لها؛ لأنّ الإعدامَ إذا كانَ في المقدورِ، فلا حاجةَ إلى فِعلِ الضِّدِّ، و قد عَلِمنا استحالةَ إعدامِ الذواتِ الباقياتِ مِن غَيرِ واسطةٍ يَفعَلُها(1)، فيَجِبُ أن(2) يَكونَ الإعدامُ غَيرَ مقدورٍ.
و ليسَ لقائلٍ أن يَقولَ : إنّ الإعدامَ في مقدورِنا، لكنّه لا بُدّ مِن فِعلِ الضدِّ لِيَقَعَ .
لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلىٰ خِلافٍ في عِبارةٍ ؛ لأنّهم لَو قالوا بقَولِنا ما زادوا على ما ذَكَروه. فصارَ محصولُ كلامِهم: أنّا نَقدِرُ علَى الإعدامِ بسببٍ هو إيجادُ الضِّدِّ، و إن قَدَرَ تَعالىٰ [علَى الإعدامِ ] الذي يَحصُلُ عندَ عَدَمِ الضّدِّ(3).
و هذا لا خِلافَ فيه، و يَجري [مَجرىٰ ] قَولِ مَن يَقولُ : «إنّ جَعلَ المُتحرِّكِ مُتحرِّكاً في مقدورِنا» و نَعني به أنّا قادرونَ علىٰ أن نوجِدَ الحركةَ الموجِبةَ لكَونِه بهذه الصفةِ .
و لَيسَ له أن يَقولَ : ألا جازَ أن يَقدِرَ علَى الإعدامِ بسببٍ هو إيجادُ الضِّدِّ، و إن قَدَرَ تَعالىٰ على إيجادِه بغَيرِ سببٍ؟
و ذلك أنّ الإعدامَ لا يَجوزُ أن يكونَ مُسَبَّباً؛ لأنّ المُسَبَّبَ هو الذاتُ التي توجَدُ بحَسَبِ ذاتٍ أُخرى هي السببُ ؛ و لأنّ السببَ هو الذي بوجودِه يوجَدُ غَيرُه، و يَصِحُّ مع وجودِه المَنعُ مِن مُسَبَّبِه، و وجودُ الضِّدِّ يَستَحيلُ مع وجودهِ المَنعُ مِن إعدامِ ضِدِّه.
ص: 353
علىٰ أنّه لَو كانَ سبباً في عَدَمِ ما يُضادُّه، لَكانَ عدمُه واقعاً بحَسَبِه، و هذا يَقتَضي
أن لا يُعدَمَ بالجُزءِ الواحدِ الأجزاءُ الكَثيرةُ بما يُضادُّ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلك.
دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ ، أنّه لَو صَحَّ تَعلُّقُ القُدرةِ بإعدامِ الذاتِ مِن غَيرِ إيجادِ ضِدٍّ، صَحَّ (1) مِن أحَدِنا أو مِن القَديمِ تَعالىٰ أن يَبتَدئَ فيُعدِمَ الأكوانَ عن الجَوهرِ، و هذا يؤَدّي إلىٰ جَوازِ خُلُوِّ الجَوهرِ مِن الأكوانِ ، مع عِلمِنا باستحالةِ ذلكَ .
وَ ليسَ لأحَدٍ أن يقولَ : متىٰ خَلا الجَوهرُ مِن الكَونِ وجبَ عدمُه.
لأنّ ذلكَ فاسدٌ؛ لأنّه يؤَدّي أوّلاً إلى أن يَكونَ إعدامُ الجَوهرِ في مَقدورِنا؛ بأن نَبتَدئَ فنُعدِمَ أكوانَها.
ثُمّ إنّ الجَوهرَ لا يَجوزُ (260) أن يُعدَمَ بِعدمِ الكَونِ الموجودِ فيه؛ لأنّه لا يَحتاجُ في وجودِه إلَى الأكوانِ ، و إنّما يَصيرُ بالكَونِ في بعضِ الجِهاتِ .
و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه لَم يُعدَمْ لِعدمِ الكَونِ فَقَط، بل لِعدمِه و لا ما يَقومُ مَقامَه مِن الأكوانِ .
و ذلكَ : أنّ عدمَ الجَوهرِ إذا وجبَ ، فالواجِبُ تعليلُه بالأمرِ المُتجدِّدِ الذي عندَه عُدِمَ ، دونَ ما لَم يَتجدَّدْ، و لَم يَتجدَّدْ إلّاعدمُ الكَونِ دونَ انتفاءِ غَيرِه مِن الأكوانِ .
و لَو كانَ عَدمُ الكَونِ موجِباً لِعدمِه، وجبَ عَدمُه لِعدمِه، و إن وُجِدَ فيه غَيرُه.
و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ الحَياةَ متى عُدِمَت و(2) لَم توجَدْ أمثالُها عُدِمَ العِلمُ ، و متىٰ عُدِمَت و وُجِدَ لها مِثلٌ لَم يُعدَمِ العِلمُ ، فقولوا مِثلَ ذلكَ في الجَوهرِ و الكَونِ .
ص: 354
و ذلكَ : أنّ مِثلَ الشيءِ قَد(1) يَخلُفُه و يَقومُ مَقامَه، و ضِدُّه لا يَجوزُ هذا فيه، إلّاإذا ساواه في أنّه يُوجِبُ حُكماً مخصوصاً يَشتَرِكانِ فيه، كما نَقولُه في المُجاوِراتِ (2)المُتَضادّةِ ، و أنّ بَعضَها يَسُدُّ مَسَدَّ بعضٍ في حاجةِ التأليفِ ، و هذا لا يَصِحُّ في الأكوانِ المُتَضادّةِ .
و ممّا يَكشِفُ عن صحّةِ هذه الطريقةِ : أنّه كانَ يَجِبُ إذا كانَ العدمُ مقدوراً أن يَبتَدِئَ اللّٰهُ تعالىٰ إعدامَ الأكوانِ عَن الجَوهرِ مِن غيرِ ضِدٍّ يَفعَلُه، فيؤَدّي ذلكَ إلىٰ خُروجِه مِن الأكوانِ كُلِّها بعدَ وُجودِها فيه. و معلومٌ خِلافُ ذلكَ ؛ لأنّ مِن المعلومِ أنّ السوادَ لا يَنتَفي عن المَحَلِّ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ إلّابضِدٍّ يَطرَأُ عليه. و كُلُّ هذا واضحٌ لِمَن تَأَمَّلَه.
***
اعلَمْ أنّ مَقدُورَنا علىٰ ضَربَينِ :
مِنه: ما يَختَصُّ القَلبَ ، ولا(3) يَصِحُّ وجودُ قَبيلهِ في مَحَلٍّ سِوَى القَلبِ ، فلَقَّبناهُ
ص: 355
بأنّه: «فِعلُ القُلوبِ ».
وَ الضربُ الآخَرُ: يَصِحُّ وجودُ قَبيلِه في حَيِّزِ القَلبِ ، فقُلنا: إنّه «فِعلُ الجَوارحِ ».
و لَيسَ مِن أفعالِ القُلوبِ إلّاما هو داخِلٌ في مقدورِنا، إلّاالشَّهوةَ و النِّفارَ.
و «السَّهوُ» إن ثَبَتَ أنّه معنىً ، علىٰ ما يَذهَبُ إليه أبو عليٍّ و أبو هاشمٍ ، فعلىٰ قولِهما أيضاً يَجِبُ أن يَكونَ خارجاً مِن مقدوراتِنا، و مُختَصّاً بمقدورِه تَعالىٰ .
و «الشِّبَعُ » و «الرّيُّ » إن ثَبَتا مَعنَيَينِ ، و لَم نَرجِعْ بهما إلَى انتفاءِ الشَهوةِ علىٰ وَجهٍ مخصوصٍ .
و ما عَدا ذلكَ مِن أفعالِ القُلوبِ فهو مِن مقدورِنا. و أجناسُ الاعتقاداتِ و الإراداتِ و أضدادِها مِن الكَراهاتِ .
و «الظنُّ » علىٰ أنّه خارجٌ مِن قَبيلِ الاعتقاداتِ . و إن كانَ مِن قَبيلِها فقد دَخَلَ في جُملَتِها في الحُكمِ الذي ذَكَرناه في النظر(1).
فأمّا «التَّمَنِّي» فإن لَم يَرجِع إلَى الاعتقادِ المخصوصِ ، و القولِ الذي يُظهِرُه المُتَمَنّي، و كانَ جنساً مُفرَداً، فهو أيضاً مِن جُملةِ مقدوراتِنا.
و كذلكَ «الندَمُ » إن لَم يَرجِع إلَى الاعتقادِ المخصوصِ لِفَوتِ المَنفَعةِ و لُحوقِ المَضَرّةِ بما مَضى مِن أفعالِه، و كانَ جِنساً مُفرَداً، فهو أيضاً مِن مقدورِنا.
فأمّا «الغَمُّ » و «الشَّرُّ» فلا شُبهةَ في أنّهما مِن قَبيلِ الاعتقاداتِ .
ص: 356
و أمّا أفعالُ الجَوارِحِ ، فالأكوانُ (1) على اختلافِ أجناسِها و ألقابِها، و الاعتماداتُ علىٰ اختلافِها(2)، و المُماسّةُ الّتي تُسمّىٰ ب «البقاءِ » و الآلامُ و اللذّاتُ و الأصواتُ علَى اختلافِ أجناسِها، فهذه الأجناسُ أجمَعُ في مَقدورِنا.
و ما عَداها ممّا يَحُلُّ الجَوارحَ ؛ مِن الألوانِ و غَيرِها يَختَصُّ تعالى بالقُدرةِ عليه.
و لَيسَ يجوزُ أن يُقالَ في مقدورهِ تَعالىٰ : إنّه مِن أفعالِ الجوارحِ ؛ لأنّ هذه الإضافةَ (261) الأغلَبُ في استعمالِها أن يُرادَ بها كَونُ الجارحةِ آلةً في الفِعلِ ، و هذا لا يَصِحُّ في أفعالِه تعالى، و إن صَحَّ فينا.
و(3) يَمتَنِعُ إضافةُ أفعالِ القُلوبِ إليه تَعالىٰ ؛ لأنّ المُستَفادَ بهذه اللفظةِ «أنّ الفِعلَ يَحُلُّ القَلبَ ، و لا يَصِحُّ وجودُ قَبيلِه في مَحَلٍّ سِواه».
فإن قيلَ : فعلىٰ هذا الحَدِّ يَجِبُ أن تَكونَ إرادةُ القَديمِ تَعالىٰ و كَراهَتُه لَيسَتا مِن أفعالِ القُلوبِ .
قُلنا: كذلك هو؛ لأنّ المعنَى الذي ذَكَرناه لا يَصِحُّ فيهما.
و لَيسَ يَلزَمُ علىٰ هذا أن تَكونَ إرادتُنا لَيسَت مِن أفعالِ القُلوبِ ، و كذلك كَراهَتُنا؛ مِن حَيثُ وُجِدَ مِن قَبيلِها ما لا يَحُلُّ القَلبَ ، و هو إرادةُ القَديمِ تعالى و كَراهَتُه.
ص: 357
و ذلك أنّا قد احتَرَزنا مِن ذلكَ في الحَدِّ؛ بأن قُلنا: «ما يَختَصُّ [القَلبَ ](1) و لا يَصِحُّ وجودُ قَبيلِه في مَحَلٍّ سِوَى القلبِ ». و إرادةُ القَديمِ تَعالىٰ و إن لَم توجَد في القَلبِ ، و كانَت مِن قَبيلِ إرادتِنا، فلَيسَت موجودةً [في مَحَلٍّ ] سِوَى القَلبِ ، بَل توجَدُ لا في مَحَلٍّ نَجهَلُه(2).
***
[7] فَصلٌ في تَمييزِ وجوهِ الأفعالِ الراجِعةِ إليهما(3)
اعلَم أنّ أفعالَنا لا تَخلو مِن وَجهَينِ :
إمّا أن تَكونَ مُبتَدأةً بالقُدرةِ في مَحَلِّها، و هو «المُباشَرُ».
أو موجودةً بحَسَبِ فِعلٍ آخَرَ، يَجِبُ وجودُها لأجلِ وجودِه، إذا زالَتِ المَوانِعُ ، و هو «المُتولِّدُ».
و هذا الضربُ - يَعني المُتولِّدَ - يَنقَسِمُ إلى أقسامٍ ثلاثةٍ (4):
ص: 358
أحَدُها: ما يوجَدُ في مَحَلِّ السببِ .
و الآخَرُ: أن يوجَدَ في غَيرِ مَحَلِّ سببِه.
فمِثالُ الأوّلِ : العِلمُ المُتولِّدُ عن النظَرِ.
و مِثالُ الثاني: كُلُّ ما يَتولَّدُ عن الاعتمادِ؛ مِن الحركاتِ و غَيرِها. و مِثالُه التأليفُ ، لأنّ الجُزءَ الواحدَ منه يَتولّدُ عن إحدَى المُجاوَرتَينِ ، فيوجَدُ في محلِّها و في مَحَلِّ المُجاوَرةِ الأُخرىٰ .
و لَعَلَّنا أن نُفَصِّلَ هذه الجُملةَ إذا انتَهَينا إلى الكلامِ في «التولُّدِ» مِن هذا الكتابِ ، بمشيّةِ اللّٰهِ و عَونِه(1).
فأمّا القَديمُ تَعالىٰ فقَد يَفعَلُ علىٰ جهةِ التوليدِ، و إن لَم يَكُن مُحتاجاً إلى المُسبَّبِ ، على ما سَيجِيءُ بيانُه بإذنِ اللّٰهِ (2).
فأمّا المُباشَرُ فلا يَصِحُّ في أفعالِه؛ لاستحالةِ فائدتِه عليه.
و يَختَصُّ تَعالىٰ بالاختراعِ ، و حَدُّ الفِعلِ المُختَرَعِ : «ما ابتُدئ [لا في محلّ القدرة](3)».
***
ص: 359
لا يَخلو حالُ الفاعلِ مِن أقسامٍ ثلاثةٍ :
أوّلُها: أن يَكونَ مُختاراً، و علامَتُه تَعلُّقُ المَدحِ و الذَّمِّ بأفعالِه إذا حَصَلَ شرطُها.
و ثانيها: أن يَكونَ محمولاً مُلجَأً، و علامَتُه أن تَقوى دَواعيهِ ؛ إمّا إلىٰ أن يَفعَلَ أو إلىٰ أن لا يَفعَلَ ، علىٰ حَدٍّ يَسقُطُ معه المَدحُ و الذَّمُّ ، و يَصيرُ ذلكَ الفِعلُ في الحُكمِ كأنّه لِغَيرِه.
و ثالثُها: أن يَكونَ فاعلاً علىٰ طريقِ السَّهوِ، مع فَقد العِلمِ و القَصدِ. و هذا الوجهُ ممّا يَنتَفي معه أيضاً المَدحُ و الذَّمُّ ، أو الحُسنُ و القُبحُ عِندَ أبي عَليٍّ و أبي هاشمٍ !
و قد بيّنّا فيما مَضىٰ أنّ الصحيحَ خِلافُ ذلك(1)، و أنّ الساهيَ قد يَقبُحُ بعضُ أفعالِه و يَحسُنُ ، و إن سَقَطَ عن قُبحِه الذَّمُّ و [عن] حُسنِه [المَدحُ ].
و لَيسَ يخلو القادِرُ مِن هذه الوجوهِ فيما يَفعَلُه، و إن جازَ أن يَخلُوَ فيما لا يَفعَلُه؛ بأن يُمنَعَ مِن الفِعلِ بالقيدِ و ما جَرىٰ مَجراه.
هذا آخِرُ ما خَرَجَ مِن هذا الكتابِ (2).
و الحَمدُ للّٰهِ رَبِّ العالَمينِ و صَلَواتُه عَلىٰ نبيِّه محمّدٍ و عِترتِه الطاهرينَ .
***
ص: 360
[9] (262) فَصلٌ (1)في إفسادِ قَولِهم بالكَسبِ
المذهَبُ يَجِبُ أن يكونَ مفهوماً قبلَ أن نَتكلَّمَ في صحّتِه أو فسادِه، فلَو كان مَذهَبُهم في «الكَسبِ » معقولاً، لَفَهِمناه عنهم مع طولِ المُباحَثةِ و المُناظَرةِ .
و لَيسَ يجوزُ أن تَكونَ العِلّةُ في بُعدِنا عن فَهمِه، اعتقادَنا بُطلانَه؛ لأنّا قد نَفهَمُ مذاهِبَ المُبطِلينَ علَى اختلافِها و تَعلُّلِها، و نَتكلَّمُ علىٰ بُطلانِها، و مَذاهِبُ هؤلاءِ القومِ الباطِلةُ في غَيرِ الكَسبِ كثيرةٌ ، لا نَدَّعي أنّها غَيرُ مفهومةٍ .
و اعتصامُهم بالفَرقِ الذي نَجِدُه بَينَ حركةِ المفلوجِ و بَينَ حركةِ المُختارِ
ص: 361
لا يُغني شيئاً؛ لأنّ هذا الفَرقَ أوّلاً للحَيِّ دونَ الفعل؛ لأنّ الحَيَّ يَجِدُه مِن نَفسِه، و إنّما كلامُنا معهم في صفةٍ يَدَّعونها للفعلِ زائدةٍ علىٰ حُدوثِه.
و السببُ في الفَرقِ الذي أشاروا إليه: أنّ حركةَ المفلوجِ غَيرُ تابعةٍ لاختيارِه، و حركةَ المُتصرِّفِ على إرادتِه واقعةٌ بإيثارِه و اختيارِه. و يَلزَمُهم أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ ، لَو أجرَى العادةَ بأن يَفعَلَ اللونَ متىٰ أرَدناه، و يَرفَعَه متىٰ كَرِهناه، أن تَكونَ الألوانُ معنا مِثلَ سائرِ ما يُنسَبُ إلىٰ فِعلِنا مِن الحركاتِ .
علىٰ أنّهم إذا ادَّعَوا فَرقاً بين الحركةِ الضروريّةِ و الاختياريّةِ ، يَقتَضي تَعلُّقاً مِنّا بإحداهما، أمكَنَ أن يُقالَ لَهم: إنّ ذلك التعلُّقَ هو بحُدوثِ الاختياريّةِ بنا، و وقوعِ الضروريّةِ مِن اللّٰهِ تَعالىٰ فينا؛ فمِن أينَ [الكسبُ ] كصفةٍ زائدةٍ على الحُدوثِ و يُمكِنُ إسنادُه إليه ؟
علىٰ أنّ الفَرقَ الذي أشاروا إليه مُمكِنٌ في جميعِ المُتولِّداتِ ، و قد نَفَوا كَونَها كَسباً؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا يَفصِلُ بَينَ أن يَكتُبَ و يَنسَخَ مُختاراً، و بَينَ أن يأخُذَ بيَدِه آخِذٌ فيَكتُبَ بها أو يَنسَخَ ، و لَم يَقتَضِ ثُبوتُ هذا الفَرقِ بَينَ الأمرَينِ أنّ أحَدَهما كَسبٌ .
و قد ألزَمَهم الشُّيوخُ أن يَكونَ اللّٰهُ تَعالىٰ قادراً علَى الفِعلِ مِن جهةِ الكَسبِ ؛ لأنّ
جهةَ تَناوُلِ القادرِ للفِعلِ لا تَختَلِفُ باختلافِ القادِرينَ ، كما لَم يَختلِفْ ذلكَ في وجوهِ العِلمِ و الإدراكِ ، و المُراداتِ و الأجناسِ . و إن دَخَلَ فيها اختصاصٌ بَينَ القادرينَ ، فلَن يَدخُلَ في جهةِ تَعلُّقِ القادِرِ بالمقدورِ اختصاصٌ . و بُطلانُ حُدودِهم للكسَبِ قَد نَبَّهنا عليه في هذا الكتابِ ، و ذَكَرنا أنّ الحُدودَ كُلَّها مَبنيّةٌ علىٰ
ص: 362
تَعاطي تفسيرِ لفظِه بما لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ ، إلّابَعدَ أن يُعلَمَ معنىٰ تلكَ اللفظةِ .
علىٰ أنّا لو تَجاوَزنا عن أنّ الكَسبَ غَيرُ معقولٍ ، و سَلَّمنا أنّه معقولٌ ، لَكانَ غرضُهم في ذِكرِه مُنتَقِضاً(1)؛ لأنّه إذا كانَ مِن مَذهَبِهم أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ متىٰ فَعَلَ في العبدِ القُدرةَ و الفِعلَ ، وجبَ كَونُه مُكتَسِباً، و لَم يَجُز أن لا يَكونَ كذلكَ ، و متىٰ لم يَفعَلْ ذلكَ استحالَ كَونُه مُكتَسِباً، فقد صارَ أحَدُنا في حُكمِ المحمولِ علَى الفِعلِ ، فلا يَستَحِقُّ مَدحاً و لا ذَمّاً، و لا ثَواباً و لا عِقاباً. و إنّما كانوا يَنتَفِعونَ بذِكرِ الكَسبِ لو انفكّ أحدُ الأمرَين مِنَ الآخَرِ.
***
يَلزَمُهم أن لا يَكونَ للّٰهِ تَعالىٰ علَى الكافرِ نعمةٌ ؛ لأنّه (263) خَلَقَ فيه الكُفرَ علىٰ مَذهَبِهم، فكُفرُه مُفضٍ به إلَى استحقاقِ العِقابِ الدائمِ ، و الخُلودِ في النارِ. و إذا لَم يَكُن عليه نعمةٌ ، لَم يستَحِقَّ اللّٰهُ الشُّكرَ و لا العِبادةَ ؛ لأنّها كيفيّةٌ في الشُّكرِ. و القولُ عليه بذلكَ خُروجٌ عن الإجماعِ ، و انسِلاخٌ عن الدينِ !
ص: 363
و ليسَ لهُم أن يَقولوا: لَيسَت له عليه نِعمةٌ دينيّةٌ ، و إن كانت [له] عليه نِعمةٌ دُنياويّةٌ ؛ كالحَياةِ و السمعِ و البَصرِ، و ضُروبِ المَنافعِ و اللّذاتِ العاجِلةِ .
و ذلكَ : أنّ كُلَّ شيءٍ عَدَّدوه لَيسَ بنعمةٍ علَى الحَقيقةِ ، إذا كانَ مؤَدِّياً إلَى العِقابِ ، و مُفضياً إلىٰ دُخولِ النارِ، بل هو مَضَرّةٌ و بَليّةٌ ، و إن كانَ فيه عاجلُ نفعٍ ، يَجري مَجرى مَن سَمَّنَ غَيرَهُ و أطعَمَه المَلاذَّ مِنَ المأكلِ و غَيرِه [و كان] قَصدُه أن يأكُلَه، في أنّه لَيسَ بنافعٍ له وَ لا مُنعِمٍ عليه.
و لَو سُلِّمَ أنّ ذلكَ نِعمةٌ - علىٰ بُعدِه - لَكانَ لا يَستَحِقُّ به الشُّكرَ و لا العبادةَ ؛ لأنّه
قد اقتَرَن به و انضَمَّ إليه مِن خَلقِ الكُفرِ فيه و تصييرِه(1) به إلى العِقابِ ما يوفي مَضَرَّتَه، و يَزيدُ علىٰ نفعِ تلكَ المَنافعِ العاجلةِ ، و يَجري مَجرىٰ مَن مَسَحَ مِنّا عَن وَجهِ غَيرِه تُراباً أو أصلَحَ له [قَلَماً](2)، ثُمّ قَتَلَ له الأولادَ، و سَلَبَ منه الأموالَ ، و انتَهَكَ مِنه كُلَّ حريمٍ ، في أنّه لا يَستَحِقُّ عليه شُكراً بل ذَمّاً و لَوماً.
و ممّا يَلزَمُ عَليهم(3) أيضاً علىٰ مَذاهِبِهم الفاسِدةِ : أن لا يكونَ له تَعالىٰ علَى المؤمِنِ نِعمةٌ ؛ مِن وَجهَينِ :
أحَدُهما: أنّ خَلقَ الإيمانِ فيه لا يَكونُ نِعمةً ، إلّاإذا قَصَدَ فاعِلُه به وَجهَ النِّعمةِ ، فأمّا إذا فَعَلَه به و لم يَقصِد شيئاً، أو قَصَدَ ضِدَّ النِّعمةِ ، لا يَكونُ مُنعِماً بغيرِ شَكٍّ ، و لهذا لا يَكونُ النائِمُ مُنعِماً علىٰ غَيرِه؛ لارتفاعِ القَصدِ الذي ذَكَرناه؛ فمِن أينَ لهم
ص: 364
أنّه تَعالىٰ لمّا فَعَلَ في المُؤمِنِ الإيمانَ ، قَصَدَ به إلىٰ نفعِه ؟!
و الوَجهُ الآخَرُ: أنّ النِّعمةَ لا تَكونُ نِعمةً إلّابَعدَ أن تَكونَ حَسَنةً ، فإذا عَرَضَ فيها قَبيحٌ خَرَجَت مِن أن تكونَ نِعمةً .
و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّ النِّعمةَ يُستَحَقُّ بها الشُّكرُ و التعظيمُ ، و القبيحَ يُستَحَقُّ به(1) الذَّمُّ و الإهانةُ ، فمُحالٌ أن يُستَحَقَّ بالفِعلِ الواحدِ الذَّمُّ و المَدحُ ، و التعظيمُ و الاستخفافُ .
و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، و جازَ علىٰ مذاهبِهم أن يَكونَ في فِعلِ الإيمانِ بالمُؤمِنِ مَفسَدةٌ لغَيرِه، فيَكونَ قَبيحاً مِن هذا الوجهِ ، فيَخرُجَ بالقَبيحِ مِن أن يكونَ نِعمةً ، فقَد تَحقَّقَ الإلزامُ في المُؤمِنِ ، كما تَحقَّقَ في الكافرِ!
و ممّا يَلزَمُهم أيضاً: أن يُجَوِّزوا ظُهورَ المُعجِزاتِ علَى الكَذّابينَ ، أو علىٰ صادقٍ في أنّه رسولُ اللّٰهِ ، غَيرَ أنّه يَدعونا إلَى الضَّلالِ عن الدينِ و الباطلِ و خِلافِ الحَقِّ !
و وَجهُ لُزومِ الأوّلِ : أنّ القَومَ يَعتَقِدونَ أنَّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَقبُحُ مِنه شيءٌ مِن الأفعالِ ، و إنّما القبحُ [لأفعالِ المكلَّفينَ ](2) مِن المُحدَثينَ ، و تَصديقُ مَن لَيسَ بصادقٍ يَقبُحُ (3) منّا، و يَجِبُ أن لا يَقبُحَ منه تَعالىٰ عندَهم؛ لاستحالةِ دُخولِ القَبيحِ في أفعالِه.
و أفحَشُ مِن تَصديقِ الكاذِبِ خَلقُ نَفسِ الكَذِبِ . و أغلَطُ و أشنع(4) مِن إرسالِ
ص: 365
مَن يدعو إلَى الكُفرِ خَلقُ نفسِ الكُفرِ.
و لَيسَ لهم أن يَدَّعوا أنّ ذلكَ تَعجيزٌ له؛ لأنّ التعجيزَ إنّما يَدخُلُ في أجناسِ المقدوراتِ ، و لا جنسَ مِن المقدوراتِ إلّاو هو(1) تَعالىٰ قادرٌ عليه، علىٰ ما لا يَتَناهىٰ . فكَونُ المُعجِزِ دليلاً لا يَرجِعُ إلى الجنسِ ، و إنّما يَستَنِدُ إلىٰ قُبحِه إن لَم يَكُن المُدَّعي صادقاً. و هذا بابٌ قَد سَدّوه في اللّٰهِ تَعالىٰ ، فجَرىٰ مَجرَى امتِناعِهم مِن أن يَكونَ في مقدورِه عِلمٌ يَكونُ به عالماً، و شَهوةٌ يَكونُ بها مُشتَهِياً، و حركةٌ يَكونُ بها مُتحرِّكاً، في أنّ (2) ذلكَ لَيسَ بتعجيزٍ له، و إنّما هُو نَفيٌ لكيفيّة فِعلٍ عليه؛ فألا كانَ الأوّلُ مِثلَه ؟
و وَجهُ لُزومِ القِسمِ الثاني: (264) أيضاً واضحٌ ؛ لأنّ الدُّعاءَ إلى الضَّلالِ و الباطلِ يَقبُحُ منّا دونَه؛ فألا جازَ دُخولُه في أفعالِه التي لا يَتعلَّقُ بها القُبحُ؟!
و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إذا كانَ الدِّينُ و الحَقُّ هو ما يؤَدّيه النبيُّ ؛ لأنّ العَقلَ لا يَقتَضي شيئاً مِن ذلك، فأيُّ معنىً لإلزامِكم أن يدَعُوَ النبيُّ إلىٰ خِلافِ الحَقِّ؟
و ذلكَ : أنّ الإلزامَ يَجِبُ أن يَتَوَجَّهَ علَى المَذهَبِ الصحيحِ دونَ الباطلِ ، و قد بَيَّنّا فيما سَلَفَ أنّ في العَقلِ قَبيحاً و حَسَناً، و باطلاً و حَقّاً، فتَوجَّهَ الإلزامُ .
ثُمّ لَو سَلَّمنا ما ذَكَروه، لَكانَ أيضاً مُتَوجِّهاً؛ لأنّا نَفرِضُ أن نبيّاً سابقاً دَعا إلىٰ دِينٍ و حَقٍّ عُرِفا مِن جهتِه، ثُمّ بُعِثَ مِن بَعدِه نَبيٌّ آخَرُ يَنهىٰ عن نَفسِ ما أمَرَ به، علىٰ وَجهٍ يُخالِفُ القَبيحَ ، فهو داعٍ إلىٰ خِلافِ الدِّينِ و ضِدِّ الحَقِّ . و لَيسَ قولُه بأن يُتَّبعَ أَولىٰ مِن قَولِ السابقِ ، فقد بانَ بوَجهٍ الإلزامُ .
ص: 366
و ممّا يَلزَمُهُم أيضاً: أن يَصِفوا(1) اللّٰهَ تَعالىٰ مِن فِعلِ القَبيحِ و الجَورِ و الكَذِبِ ، بأنّه ظالِمٌ جائِرٌ كاذبٌ - تَعالَى اللّٰهُ عن ذلكَ عُلُوّاً كَبيراً -؛ لأنّ هذه الأوصافَ تَتبَعُ معنى «الفعّاليّةِ »(2) التي قد أضافوها(3) إليه عَزَّ وَ جَلَّ .
و قد بيّنّا فيما مَضىٰ مِن هذا الكتابِ ما يَرِدُ(4) علىٰ هذه الإلزاماتِ مِنَ الزِّياداتِ ، و أجَبنا بالواضِحِ الجَلِيِّ عنها، و أَورَدنا في هذا الفَصلِ ما هو لائقٌ به و غَيرُ مُستَغنٍ عنه(5).
***
ص: 367
ص: 368
1. فهرس الآيات... 371
2. فهرس الأحاديث و الآثار... 380
3. فهرس الأشعار و أنصاف الأبيات... 381
4. فهرس الأعلام... 383
5. فهرس الأماكن... 385
6. فهرس الأديان و الجماعات... 386
7. فهرس الأشياء و الحيوانات... 389
8. فهرس الكتب الواردة في المتن... 391
9. فهرس الكلمات المشروحة في المتن... 392
10. فهرس القواعد و الأحكام الكلاميّة... 395
11. فهرس المصطلحات و الألفاظ الخاصّة... 406
12. فهرس مصادر التحقيق... 444
13. فهرس المطالب... 456
ص: 369
ص: 370
الآية رقم الآية الصفحة
الفاتحة (1)
«اللّٰهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » 2...1/274
«رَبِّ العالمين» 1...2/382
البقرة (2)
«وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّىٰ نَرَى اللّٰهَ جَهْرَةً » 1...55/474
«مَنْ كانَ عَدُوّاً للّٰهِِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ » 2...98/302
«يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» 2...185/205
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ » 1...210/472
«لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ » 1...255/442
آل عمران (3)
«وَ مَا اللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ » 2...108/205
«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ » 2...167/229
ص: 371
النساء (4)
«وَ كانَ أَمْرُ اللّٰهِ مَفْعُولاً» 2...47/262
«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ ...» 1...153/474
المائدة (5)
«بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ » 1...64/402، 403
الأنعام (6)
«وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ » 2...100/310
«لا تُدْرِكُهُ الأَْبْصارُ» 1...103/458
«وَ هُوَ يُدْرِكُ الأَْبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» 1...103/434، 436، 439
الأعراف (7)
«وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» 1...4/468
«أَوْ هُمْ قائِلُونَ » 1...4/468
«ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ » 1...54/381
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الأَمْرُ» 2...54/274
«رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ » 1...143/457، 475، 477
«فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ » 1...143/478
«أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» 1...155/474، 477
«فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُْمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ...
» 2...158/302
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ...
» 1...187/478
ص: 372
«إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ » 1...206/383
يونس (10)
«ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ الأَمْرَ» 1...3/381، 382
هود (11)
«كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ » 2...1/262
يوسف (12)
«وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيها» 1...82/467
الرعد (13)
«ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ » 1...2/381
الحجر (15)
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ » 2...9/262
النحل (16)
«إِنَّما قَوْلُنا لِشَىْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » 2...40/274
«إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِى الْقُرْبى» 2...90/302
الإسراء (17)
«وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ » 1...29/403
ص: 373
«كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» 2...38/205
طه (20)
«الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ » 1...5/381
الأنبياء (21)
«ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ » 2...2/262، 263
«إِلّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ » 2...2/263
«هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ » 2...50/262
الحجّ (22)
«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ » 1...10/404
النور (24)
«مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » 1...33/404
«اللّٰهُ نُورُ السَّمٰواتِ وَ الأَْرْضِ » 1...35/403
الفرقان (25)
«أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ» 1...15/395
«ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ » 1...59/381
الشعراء (26)
«ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمٰنِ مُحْدَثٍ » 2...5/262
ص: 374
«إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ » 2...137/311
النمل (27)
«وَ إِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ » 1...35/463
القصص (28)
«كُلُّ شَىْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » 1...88/467
العنكبوت (29)
«وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً» 2...17/311
السجدة (32)
«ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ » 1...4/381
الأحزاب (33)
«وَ كانَ أَمْرُ اللّٰهِ مَفْعُولاً» 2...37/262
فاطر (35)
«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ » 1...10/382
يس (36)
«مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» 1...71/403
«أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ » 1...77/480
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » 2...82/274، 297، 300
ص: 375
ص (38)
«إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ » 2...7/311
«ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ » 1...75/402، 404
الزمر (39)
«فِى جَنْبِ اللّٰهِ » 1...56/404
«وَ الأَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » 1...67/404
«وَ السَّمٰواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ » 1...67/404
غافر (40)
«وَ مَا اللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ» 2...31/205
«وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ» 1...42/471
«مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ » 2...78/254
فصّلت (41)
«قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » 2...11/298
الأحقاف (46)
«وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ » 2...12/262
محمّد (47)
«وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّىٰ نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ » 1...31/382
ص: 376
الفتح (48)
«يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ » 1...10/404
ق (50)
«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰواتِ وَ الأَْرْضَ » 2...48/254
الذاريات (51)
«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » 2...56/206
القمر (54)
«تَجْرِى بِأَعْيُنِنا» 1...14/403، 404
الرحمن (55)
«الرَّحْمٰنُ » 2...1/275
«عَلَّمَ الْقُرْآنَ » 2...2/275، 302
«خَلَقَ الإِنْسانَ » 2...3/275، 302
«وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الإِْكْرامِ » 1...27/404، 467
الحديد (57)
«ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ » 1...4/381، 382
الطلاق (65)
«قَدْ أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» 2...10/262، 263
ص: 377
«رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّٰهِ مُبَيِّناتٍ » 2...11/262
67 (الملك)
«أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِى السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ » 1...16/382
القيامة (75)
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ » 1...22/457
«إِلىٰ رَبِّها ناظِرَةٌ » 1...23/457، 472، 473
«وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ » 1...24/467، 468
«تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ » 1...25/467
الإنسان (76)
«إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ » 2...2/254
«وَ ما تَشاءونَ إِلّا أَنْ يَشاءَ اللّٰهُ » 2...30/215
التكوير (81)
«لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ » 2...28/209، 215
«وَ ما تَشاءُونَ إِلّا أَنْ يَشاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » 2...29/209، 215
الغاشية (88)
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ » 1...8/467، 468
«لِسَعْيِها راضِيَةٌ » 1...9/467
ص: 378
الفجر (89)
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ» 1...1/480
«وَ جاءَ رَبُّكَ » 1...22/471
الفيل (105)
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ » 1...1/480
ص: 379
النبيّ صلى الله عليه و آله
تَرَونَ رَبَّكُم كَما تَرَونَ القَمَرَ لَيلَةَ البَدرِ؛ لا تضامون في رؤيَتِه 1/457
أمير المؤمنين عليه السلام
أما و اللّٰهِ ما حَكَّمتُ مخلوقاً، و لكِنّني حَكَّمتُ كتابَ اللّٰهِ تَعالىٰ 2/311
الآثار
رَأَيتُ عَليَّ بنَ أبي [طالبٍ ] علىٰ مِنبَرِ الكوفةِ ، يَقولُ : اِنفِروا إلىٰ ... (قيس بن أبي حازم) 1/479
ص: 380
الشطر الأول القافية الشاعر... الصفحة
و كَم لظَلامِ اللَّيلِ عندَكَ مِن يَدٍ تَكذِبُ ... 2/45
أزورُهم و سَوادُ اللَّيلِ يَشفَعُ لي يُغري بي... 2/45
و قالَتْ [له] العَينانُ : سَمعاً و طاعةً يُثَقَّبِ ... 2/299
وجوهٌ يَومَ بدرٍ ناظِراتٌ بالفَلاحِ ... 1/465
أعتَقَني سوءُ ما صَنَعتُ مِن الرِّقِّ كَبِدي... 2/45
إذا ما بَنُو مَروانَ ثُلَّت عُروشُهُم حِميَرُ... 1/381
كحَلفَةٍ مِن أبي رِياحٍ الكُبارُ الأعشىٰ ... 1/400
و يوماً بذِي قارٍ رأيتُ وجوهَهم نَواظِرا... 1/465
إنّي إليكِ لِما وَعَدتِ لَناظِرٌ المُوسِرِ... 1/463
فلَمّا عَلَونا و استَوَينا عليهِمُ كاسِرِ... 1/381
و لَأنتَ تَفري ما خَلَقتَ ، و بَعضُ يَفري... 2/309
قد قالَتِ الأنساعُ لِلبَطنِ : «ألحقِ المُحنِقِ أبو النَّجم... 2/298
أبيَضُ لا يَرهَبُ الهُزالَ ، و لا إِلىَ أعشىٰ بَكرِ بنِ وائل... 1 /
473
كُلُّ الخَلائقِ يَنظُرونَ سِجالَهُ هِلالِ ... 1/463
فإن أتاه خَليلٌ يَومَ مَسغَبةٍ حَرِمُ ... 2/58
و قد عَلِمَ الحَيُّ مِن عامِرٍ الأَجسَمِ عامِرُ بنُ الطُّفَيلِ ... 1/396
و لا يَئِطُّ بأيدي الخالِقينَ و لا الأَدَمِ ... 2/310
رَأَيتُ اللّٰهَ إذ سَمّىٰ نزاراً قاطِنينا... 1/480
ص: 381
الشطر الأول... الصفحة
و إنْ أرادُوا ظُلْمَنا أبَيناه... 2/214
اِمتَلأَ الحَوضُ و قالَ : قَطْني... 2/299
ص: 382
محمّد = رسول اللّٰه = الرسول = النبيّ = نبيّنا صلى الله عليه و آله، 1/64، 102، 236، 252، 428، 457، 2/109، 111، 160، 180، 185، 212-214، 251، 252، 255، 263، 365
أمير المؤمنين عليه السلام، 1/470، 479، 2/311
إبراهيم = خليل اللّٰه، 2/57
موسىٰ = كليم اللّٰه، 1/457، 474، 476، 477، 2/57، 262
عيسىٰ = المسيح = روح اللّٰه = كلمة اللّٰه، 2 / 54-56، 58-61، 62، 63
مريم، 2/58
جبريل، 2/58
ابن الروَندي، 1/86، 87
ابن عبّاس، 1/470
ابن كُلّاب، 1/259، 263
أبو إسحاق بن عَيّاش، 2/130
أبو النَّجم، 2/298
أبو الهُذَيل (العلّاف)، 2/304
أبو رِياح، 1/400
أبو عبد اللّٰه (البصري المعروف بجُعل)، 2 / 133، 343
أبو علي (الجبّائي)، 1/176، 269، 407، 2 / 111، 132، 159، 174، 176، 218، 225، 233، 304، 307، 356، 360
أبو لهب، 2/160، 185
أبو هاشم (الجبّائي)، 1/57، 84، 88، 89،
ص: 383
124، 128، 240، 241، 269، 270، 299، 300، 355، 2/113، 121، 130، 143، 147، 159، 174، 176، 223، 270، 307 - 309، 321، 343، 356، 360
إسماعيلُ بنُ أبي خالد، 1/457
الأشعري، 1/465، 2/314
الأعشىٰ ، 1/400
أعشىٰ بَكرِ بنِ وائل، 1/472
بكر بن وائل، 1/472
البَلخي، 2/169
جَرير، 1/457
جَهْم، 2/313
حَفصٌ الفَرد، 2/314
سليمان بن جَرير، 1/260
الشَّيطان، 2/47-49، 50
صالح، 2/57
صالح قُبّة، 2/315
الصّالحي، 1/397
ضِرار، 1/241، 243
ضِرار بن عمرو، 2/314
عامر بن الطُّفَيل، 1/395، 396
عَبّاد بن سلمان، 2/85، 87
قَيس بن أبي حازم، 1/457، 478
مُجاهِد، 1/470
مَلِك الرُّوم، 1/421
النجّار، 2/314
نزار، 1/480
النظّام، 1/333، 2/107
ص: 384
البيت الحرام، 2/57
بيت اللّٰه، 2/57
الجبل، 1/396
خُراسان، 1/430
دِجلة، 1/427
ذي قار، 1/465
رَمل عالِج، 1/427
الصين، 1/430
الكَنيسة، 2/210
مساجد المسلمين، 2/210
المَسجِد، 2/160
مكّة، 1/480
ص: 385
آل الرسول، 2/312
الأئمّة، 2/312
أصحاب أبي هاشم شُيوخ أصحاب أبي هاشم طريقة أبي هاشم، 1/300، 2 /
308
أصحاب الحديث، 1/428
أصحاب الذات [و] الصفات، 1/327
أصحاب الصفات، 1/195، 351
أصحاب الطبائع، 1/193، 428
أصحاب المائيّة، 1/239
أصحاب الهَيولىٰ ، 1/73، 74
أصحاب جهم، 2/313
أصحابنا، 1/142، 465، 2/222
أطفال المشركين، 2/85
أطفال المؤمنين، 2/86
أُمَّتِنا، 2/263
الأُمّة، 1/242، 438، 2/64، 209، 215، 216، 255
الأنبياء، 1/243، 428، 476، 2/56، 57، 60، 109، 174، 2/205
أهل الآخرة، 2/121
أهل التأويل = علماء أهل التأويل، 1/403،
473
أهل التوحيد = علماء أهل التوحيد، 1 / 233، 476، 2/269
أهل الجَنّة، 1/94، 101، 232، 471، 481، 2 / 106، 180، 203
أهل الحَقّ ، 1/439، 443، 2/225
أهل السّمع، 2/98
أهل العَدل، 2/215، 2/313
أهل القبور، 1/427
أهل اللُّغة، 1/117، 127، 137، 143، 173، 260، 261، 262، 328، 339، 340، 435 - 437، 462، 481، 2/223، 244-246، 269، 288، 289، 292-294، 308
أهل النار، 1/94، 395، 481، 2/180
ص: 386
إياد، 1/381
البَراهِمَة، 2/97
بعض الشُّيوخ، 1/152، 211
بعض العقلاء، 1/86
البغداديّون، 1/153، 319، 407
بنو مروان، 1/381
التابعون، 1/469، 470، 473
الثَّنَويّة، 2/39، 48، 50، 149
الجِن، 2/227، 252
الجِنّي، 1/420، 421، 2/245، 246
حِميَر، 1/381
الحَوارِيّون، 2/56
الخَوارج، 2/91، 311
الدَّهريَّة، 2/94
دَهريّ ، 2/132، 133
الدَّيْصانيّة، 2/42
الذِّمِّي، 2/210
الرِّجال، 2/58
السُّفهاء، 1/474
الشيعة، 1/428
الشيوخ، 1/73، 81، 105، 151، 2/25، 187، 319، 362
الصابِئون، 2/63
الصَّبي، 2/101
الصبيُّ الصغيرُ، 1/322
الصَّحابة، 1/469، 470، 472، 473
طريقة الأشعريّ ، 1/465
طوائف أهل العَدل، 2/313
العامّة، 2/245، 246، 258
العِباد، 2/95، 118، 158، 203، 207، 208، 250، 297، 313، 314، 315، 339، 355
العرب، 1/383، 395، 403، 404، 437، 439، 467، 474، 477، 2/66، 91، 214، 295، 299
العَمىٰ ، 2/283
العَوراء، 2/283
العقلاء، 1/100، 352، 425، 429، 430، 2 / 50، 86، 88، 90، 97، 126، 127، 226
الفقهاء، 2/217
الكافر، 2/106، 365
الكَذّابون، 2/115، 255، 365
الكُفّار، 1/441، 2/160، 212، 213، 214، 215، 216
كُلّابيّة، 2/36، 51، 52، 53
مائيّات، 1/243
المائيّة، 1/240، - 243، 354، 380
المانَويّة، 2/45
المتكلِّمون، 2/266، 267
المُجبِرة، 1/130، 2/85، 86، 87، 88، 90، 91، 203، 333
المُحدَثون، 2/252، 365
مذاهب المُبطِلين، 2/361
ص: 387
مذهب أبي علي، 1/407
المُريدونَ ، 1/311، 2/181
المُستَحِقّون، 1/441
المُسلِمُ ، 1/452
المسلمون، 1/452، 2/208، 210، 267،
269
المُشَبِّهة، 1/130، 316، 405، 479
المشركون، 2/85، 208
المفسِّرون، 1/473، 2/263
المُعتَزِلة، 2/313
المُقرَّبون، 1/383
المكلَّفون، 2/259، 365
المَلائكة = المَلَك، 1/381، 382، 420، 383، 421، 2/57، 64، 109، 227، 252، 302
المُلحِدون، 1/428، 2/97
المُوحِّدون، 1/428، 2/64
المؤمنون، 2/86، 160، 174، 176، 213
النِّساء، 2/58
النَّصارىٰ ، 2/50، 51، 54، 64
نُفاة الأعراض، 1/334، 342
اليهود، 1/403
ص: 388
الأسَد، 2/19
الأصابع، 2/224
البَدر، 1/458
البَراغيث، 1/158
البِغال، 2/297
البهائم، 2/55
الثَّوب، 2/236
الجَبَل، 1/457
الجِبال، 2/17
الجَبَلِ الأصَمِّ ، 1/199
جِراب، 1/216
الحَجَر، 1/209، 2/233، 236
الحَمير، 2/297
الحَيّات، 2/49
الخَمر، 2/98
الخَيل، 2/297
الدُّر، 2/299
الرَّصاص، 1/204
الرقَبة، 1/207
الرُّمح، 1/211، 219
الرَّمل، 2/284
الرَّيحان، 1/175
الزِّقّ ، 1/204، 205، 216
السِّكّين، 2/241
السهم، 1/229
الشَّجَرة، 2/252
شَحمةَ الأُذُنِ ، 1/149
الشمس، 1/206، 2/65
صَفيحة، 1/209
الطائر، 2/221
الطَّست، 2/233، 235
الطُّيور، 2/221
العَسَل، 1/175
العَقارِب، 2/49
العَين، 1/103
الغُراب، 1/477
ص: 389
الفَم، 1/206، 2/284
الفَنيق، 2/298
القارورة، 1/205-207، 210
القَطْر، 2/284
القَمَر، 1/457، 480
الكَواكِب، 2/64، 66
اللحم، 1/207
لِسان، 2/284
اللَّهَوات، 1/206
الماء، 1/205، 206، 207، 208، 209، 427
المِحجَمة، 1/207، 209، 210
المِرآة، 1/415، 433
المِسطَح، 1/209
مِسَلَّة، 1/205
النار، 1/206
ناقة، 2/57
النُّجوم، 2/64، 65
نسر، 1/381
هَواء، 1/201، 205، 206-209، 210، 216
اليَدَينِ ، 1/256، 403
ص: 390
القُرآن = الذِّكر، 1/383، 470، 2/58، 216، 225، 262، 263، 274، 275، 296، 297، 302، 303، 304، 310، 312
الإنجيل، 2/56
البَغداديّات، 2/147
الجَمهَرة، 2/311
العَين، 2/311
الكتاب = هذا الكتاب (الملخص)، 1/105، 110، 192، 213، 229، 241، 254، 255، 281، 288، 315، 324، 326، 373، 407، 412، 2/30، 48، 64، 100، 129، 165، 190، 194، 243، 255، 277، 287، 290، 316، 333، 337، 345، 354، 359، 360
كتاب موسى، 2/262
الكُتُب، 1/195
الكُتُب، 2/197
الكُتُب الموضوعة لِلَحنِ العامّةِ ، 2/246
الكلام في طبيعةِ المُمكِنِ ، 1/238
الكلام فيما يَتناهىٰ و لا يَتناهى، 1/97
مسألة [في نفي الرؤية]، 1/445
مَقالة ليَحيَى بنِ عَدِيٍّ النَّصرانيِّ المَنطِقي، 1 / 96
ص: 391
الإثبات، 1/447
أجسَم، 1/394، 395
الإحساس، 1/176
الاختيار، 2/175
الأخرَس، 2/276
الإدراك، 1/435، 436
الإرادة، 2/175
اسْتَوىٰ ، 1/382
الاستيلاء، 1/381
أفعال القُلوب، 2/356
أفعَل، 1/395
الآلاء، 1/472
الأمر، 2/242
الانتظار، 1/463، 470
الإنزال، 2/263
الإيثار، 2/176
الإيجاد، 1/339
البُغض، 2/176
التأليف، 2/120
التَجلّي، 1/478
التحضيض، 2/243
التدبير، 1/382
التشبيه، 1/458
التَّمَنِّي، 2/356
تَوطينُ النفس، 2/175
التولُّد، 2/359
جَسيم، 1/396، 397
جَنب، 1/404
الجَواز، 2/109
جهة، 1/262
الحُدوث، 1/113
الحيّ ، 1/153
الخَرَس، 2/276
خَلق، 2/176، 311
ص: 392
الخُلّة، 2/57
الخَلّة، 2/57
الدُّعاء، 2/242
الذِّكر، 2/263
الرائحة، 2/295
الرّي، 2/356
زِنة، 1/262
السَّخَط، 2/176
السؤال، 2/242
السَّهو، 2/356
الشِّبَع، 2/356
الشَّر، 2/356
الشرط، 2/81
شيء، 1/400
الصُّعود، 1/382
الصَّوت، 2/231، 232
الطلَب، 2/242
الظن، 2/356
العَبَث، 2/77
العَداوة، 2/176
عِدة، 1/262
العَرض، 2/243
العِلم، 1/481
العِلّة، 2/81
غائط، 2/173
الغَضَب، 2/176
الغَم، 2/356
الغَيريّة، 2/272
الفاعِل، 2/319
فُروض الأعيان، 2/75
فُروض الكِفايات، 2/76
الفِعل، 2/73، 318
فِعل الجَوارح، 2/356
فِعل القُلوب، 2/356
الفِعل المُختَرَع، 2/359
الفِعليّة، 2/317
القَبيح، 2/78
القول، 2/299
الكلام، 2/219، 220، 223، 224
اللّٰه، 1/399، 2/269
المُباح، 2/74
المُباشَر، 2/359
المَحَبّة، 1/469
المُحدَث، 2/73
مخلوق، 2/307، 311
المُشَبَّه، 1/361
المَضارّ، 1/349
مقول، 2/292
المِلك، 1/470
المَنافِع، 1/349
المَوجود، 1/338
النداء، 2/243
ص: 393
نَدب، 2/75
الندَم، 2/356
النَّضارة، 1/467
النظَر، 1/457، 462
النفي، 1/447
النهي، 2/242
النيّة، 2/175
واجبٌ مُضَيَّقٌ ، 2/75
[الواجب] المُخَيَّر، 2/75
الوجوه، 1/466
وجه، 1/262، 404، 2/81
وَزن، 1/262
وَعدٌ، 1/262
وَلاية، 2/176
إله، 1/399
اليَمين، 1/404
ص: 394
(10) فهرس القواعد و الأحكام الكلاميّة(1)
إثبات الحُكمَينِ المُتَماثِلَينِ بدَليلَينِ مُختَلِفَينِ 1/106
إثبات القَديمِ تَعالىٰ بصفاتِه 1/105
إثبات ما لا يَتَناهىٰ مِن الاعتقاداتِ [و هو محال] 1/280
إثبات مانعٍ غَيرِ معقولٍ [يؤدّي] إلَى الجَهالاتِ 1/201
إثبات مقدورٍ واحدٍ في قادرينَ 1/266
إثباته [الجوهر] للتحيُّزِ مُستَنِداً إلَى الفاعلِ 1/70
اجتماع الجَواهرِ الكثيرةِ في مكانٍ واحدٍ 1/211
اجتماع الصفتَينِ له تَعالىٰ مَعلومٌ استحالتُه 1/277
اجتماع الضِّدَّينِ في الوجودِ 1/59
اجتماع جَوهرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ 1/70، 199
الأجسام و الجَواهرَ لا تَخلُو مِن المَعاني التي بها تَكونُ في الجِهاتِ 1/61
احتمال الأعراضِ لا يَصِحُّ إلّامع التحيُّزِ 1/376
الإحساس هو أوّلُ العِلمِ الذي يَحصُلُ فينا بالمُدرَكاتِ 1/176
اختصاص الجَوهرِ بالجهةِ لا يَكونُ إلّاموجَباً عن الكَونِ 1/114
اختلاف العبارةِ علَى العِلمِ لا يَقتَضي اختلافَ مُتعلَّقِ العِلمِ 1/237
ص: 395
أخَصّ صفاتِ التَّضادِّ 1/60
الإدراك يَتعلَّقُ بأخَصِّ صفاتِ الذواتِ 1/364
الإدراك يَستَحيلُ تَعلُّقُه بالمَعدومِ 1/231
إذا لَم يتقدَّمِ الجسمُ ما لا يَبقىٰ و لَم يَكُن ممّا لا يَبقىٰ ، فكذلك لا يَتقدَّمُ المُحدَثَ و... 1/93
إذا لَم يَثبُتْ كَونُ أحَدِنا فاعلاً، لَم يَصِحَّ إثباتُه قادراً 1/108
الإرادة الواحدةَ تَتَناوَلُ الضِّدَّينِ ، و هذا مُستَحيلٌ 2/161
الإرادة إنّما وجبَ وجودُها حَتّىٰ تَتعلَّقَ [بأحَدِ مُراداتِها] التعلُّقَ المَخصوصَ 1/188
الإرادة تَخرُجُ مِن التعلُّقِ عندَ العدمِ 1/181
الإرادة مُتعلِّقةٌ 1/180
استحالة اجتماعِ الإرادةِ و الكَراهةِ للشيءِ الواحدِ علىٰ وَجهٍ واحدٍ في العدمِ 1/183
استحالة أن يَصيرَ المُحدَثُ قَديماً 2/62
استحالة كَونِ العالِمِ عالِماً مِن غَيرِ أن يَكونَ حَيّاً 1/68
استحالة كَونِ المقدورِ الواحدِ لِقادرَينِ 2/15
استحالة نَفيِ المعدومِ لغيرِه 1/61
استحالة وجودِ ما يَنفي ذاتَه 1/277
استحالة وقوعِ الفِعلِ من فاعِلَينِ 1/106
إضافة الفِعلِ إلىٰ فاعلِه 1/106
اطِّراح إثباتِ شيءٍ مِن العِللِ 1/55
الاعتبار بالمَعاني دونَ العباراتِ 1/87
الاعتقاد عَلَيها يَكونُ عِلماً، و تمييزِ بعضِها مِن بعضٍ 1/272
أفعالنا لا تَكونُ إلّامُباشَرةً أو مُتولِّدةً 1/199
الآلِم يَكونُ آلِماً بإدراكِ ما يَنفِرُ عنه 1/349
الأمر بالقَبيحِ و كُفر النِّعمةِ قَبيحانِ 2/79
انتفاء تأثيرِ الأمرَينِ ، أو اجتماعَ التأثيرَينِ ، و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ 1/286
أن لا تخلُوَ الجَواهرُ مِن الأكوانِ 1/75
[أنّ ] التَحيُّزَ لا يَكونُ بالفاعلِ 1/71
ص: 396
[أنّ ] القادِرَ العالِمَ لا بُدَّ مِن كَونِه حَيّاً 1/148
[أنّ كَونَ ] العُضوِ [الواحدِ] بعضاً لِحَيَّينِ في حُكمِ المتنافي 1/71
أنّها [الإرادة] لَم تَخرُجْ عن التَعلُّقِ لأجل خُروجِها مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ 1/186
إنّها [الذات] بالانتفاءِ أَولىٰ 1/69
أنّها [أي: الأجسام] كالشيءِ الواحدِ 1/74
أنّه تَعالىٰ تَمدَّح بما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، دونَ ما يَجوزُ 1/439
أنّه تَعالىٰ تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ عن نفسِه 1/438
إنّه تَعالىٰ شيءٌ لا كالأشياءِ 1/401
إنّه تَعالىٰ عالِمٌ لنفسِه 1/328
أنّه تَعالىٰ قادرٌ فيما لم يَزَلْ و لا يَزالُ 1/124
أنّه تَعالىٰ لا يُخالِفُ غَيرَه بالصفاتِ المُستَحَقّةِ عَن العِلَلِ 1/295
أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ بعِلمٍ مُحدَثٍ 1/288
إنّه جَوهرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ 2/51
أنّه قَديمٌ لنفسِه 1/55
إنّه لا يُدرِكُه [أي الجوهر] إلّاعلىٰ هَيئَتِه 1/79
أنّه لا يَكونُ [الجوهر] متحيِّزاً بالفاعل 1/66
أنّه لمّا استَحالَ في المُستَقبَلِ وقوعُ الفِعلِ مِن غَيرِ قادرٍ، استَحالَ مِثلُه في الماضي 1/95
أنّهما [الجوهر و الكون] كالشيءِ الواحدِ 1/89
إنّه يَحتاجُ [الكَون] في وجودِه إلَى الجَوهرِ 1/67
أنّه [التحيّز] واجبٌ مع الوجودِ 1/72
إنّه [الجوهر] جنسُ الفِعلِ 1/202
إنّه [الجوهر] لا يَخلو مِن اللون؛ لأنّه ذو هَيئةٍ 1/80
إنّه [تعالىٰ ] جسمٌ لا كالأجسامِ 1/401
أنّه [تعالى] لا يُشبِهُ الجَواهرَ و الأجسامَ 1/371
إنّه [تعالىٰ ] مدرِكٌ لا لنفسِه و لا لمعنى 1/57
أوّل العُلومِ مِن أحوالِه كَونُه تَعالىٰ قادراً 1/244
ص: 397
إيجاد الذاتِ فرعٌ علىٰ صحّةِ وجودِها في نَفسِها 2/30
أنّه تَعالىٰ عالِمٌ بعلمٍ مُحدَثٍ ، و قادرٌ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ 1/272
أنّه تَعالىٰ مُخالِفٌ لغَيرِه 1/290
أنّه تَعالىٰ مُريدٌ علَى الحقيقةِ 2/177
أنّه [تعالىٰ ] عالِمٌ غَنيٌّ 1/287
أنّه [تعالىٰ ] قادرٌ علَى الظُّلمِ كقُدرَتِه علَى العَدلِ 1/287
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ قَديمةٍ 2/177
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ مُحدَثةٍ تَحُلُّ غَيرَه 2/177
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ معدومةٍ 2/177
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يُريدَ لا لنفسِه و لا لعِلّةٍ 2/177
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يَكونَ حَيّاً بحَياةٍ مُحدَثةٍ 1/266
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يَكونَ مُريداً لنفسِه 2/177
أنّه [تعالىٰ ] لا يَجوزُ أن يُريدَ بإرادةٍ مُحدَثةٍ تَحُلُّه 2/177
البَصَر إذا كانَ صحيحاً و وُجِدَ المُدرَكُ ، فلا بُدَّ مِن وجودِ الرؤيةِ فيه 1/407
التحيُّز راجعٌ إلَى الذاتِ 1/72
التحيُّز لا يَرجِعُ إلَى النفسِ بغَيرِ واسطةٍ 1/72
التحيُّز مستَنِدٌ إلَى الفاعل 1/66
التحيُّز يَكونُ بالفاعلِ 1/70
التصرُّف مُحتاج إلينا 1/100
تَصرُّفَنا يَجِبُ وقوعُه و انتفاؤه بحَسَبِ أحوالِنا 1/99
تَعذُّر الفِعلِ لِغَيرِ وجهٍ مَعقولٍ يَقتَضي تَعذُّرَه 2/28
التمانُع يَصِحُّ بَينَ كُلِّ قادرَينِ 2/10
الجسم قَديمٌ 1/86
الجسم لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ الأجسامَ 1/222
الجسم لَم يَزَل يُقارِنُ حادثاً قَبلَ حادثٍ بلا أوّلٍ 1/87
الجسم مُحدَثٌ مِن حيثُ لَم يتقدَّم الحوادثَ 1/84
ص: 398
الجسم و الجَوهر لا يَخلُو في حالِ وجودِه مِن أحكامِ هذه المَعاني 1/61
جَواز كونِ الذاتِ الواحدةِ جَوهراً سواداً 1/65
الجَواهر لا تَفتَقِرُ في وجودِها إلىٰ بِنيةٍ 1/203
الجَوهر المعدومُ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مَحَلاًّ لغَيرِه 1/123
الجَوهر لا يَخلو مع وجودِه مِن أن يَكونَ في جهةٍ مِن الجهاتِ 1/90
الجَوهر لا يَخلُو مِن الأكوانِ 1/75
الجَوهر متىٰ وُجِدَ وجبَ كَونُه متحيِّزاً 1/72
الجَوهر و الكَونَ كالشيءِ الواحدِ 1/75
الجَوهر يُخالِفُ غَيرَه بتحيُّزِه، و هو مُتجدِّدٌ، و الخِلافُ غَيرُ مُتجدِّدٍ 1/295
الجَوهر يَختَصُّ في حالِ وجودِه بصفةٍ مِن الصفاتِ 1/75
الجَوهر يُدرَكُ لَمساً كما يُدرَكُ بالبَصَرِ 1/79
حاجة «التصرُّفِ الذي يَظهَرُ مِنّا» إلينا 1/109
حاجة الشيءِ إلىٰ نفسِه 1/203
حاجة المُحدَثِ إلى المُحدِثِ 1/99، 104، 111، 191، 270
حاجة كُلِّ المُحدَثاتِ إلىٰ مُحدِثٍ 1/107
(الحُدوث) هو المتجدِّدُ عندَ القَصدِ 1/113
حُكم الفاعلِ لا بُدَّ أن يَكونَ معقولاً قَبلَ إضافةِ الفِعلِ إلىٰ فاعلٍ مخصوصٍ 1/106
الحَكيم لا يَكرَهُ إلّاالقَبيحَ 2/96
الحوادث أوّلَ أوانِها متناهية 1/95
الحَيّ بأنّه الذي يَصِحُّ أن يَقدِرَ و أن يَعلَمَ 1/153، 154
الحَيّ قد يَخلو ممّا يَتَضادُّ عليه 2/283
الحَيّ مَن يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ 1/150
الحَيّ مَن يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ أو مَن لا تَتعذَّرُ فيه هاتانِ الصفتانِ 1/152
الخَرَس و السُّكوت لا يُضادّانِ الكلامَ 2/282
الخِلاف في المَعاني غَيرُ الخلافِ في الأحوالِ التي تَجِبُ عن المَعاني 1/74
الدلالة كاشِفةٌ و لَيسَت بعِلّةٍ موجِبةٍ 1/107
ص: 399
الدليل قد دَلَّ علىٰ وجودِ الخَلَإ في [العالم] 1/203
الذات إذا لَم تَتقدَّمِ المُحدَثَ فهي مُحدَثةٌ 1/85
الرؤية إذا صَحَّت وَجَبَت، و إذا لَم تَجِبْ فهي مُستَحيلةٌ 1/406
الرؤية تَتولَّدُ عن الفَتحةِ و ما أشبَهَها 1/408
الشيء الواحِدَ لا يَنفي شَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرَ مُتَضادَّينِ 1/314
الشيء لا يَكونُ غايةً لنفسِه 1/462
صِحّة الفعلِ الواحدِ مِن فاعلينَ كَثيرينَ ، و ذلكَ مُحالٌ 1/124
صحّة الفِعلِ في الأصلِ تَقتَضي حالاً بها صَحَّ الفعلُ 1/118
صحّة تَعلُّقِ العِلمِ بالمعدومِ كصحّتِه بالموجودِ 1/231
صحّة وقوعِ القَبيحِ و الحَسَنِ مِن فاعلٍ واحدٍ 2/50
الصفات التي تُستَحَقُّ لا للنفسِ و لا للعِلَلِ 1/293
الصفات الذاتيّةُ لا يَجوزُ خُروجُ الموصوفِ عنها 1/343
صفات العِلَلِ لا يَقَعُ بها الاختلافُ 1/296
صفات النفسِ إنّما تَجِبُ إذا صَحَّت 1/57
الصفات لا توصَفُ 1/261
صفة التصرّف تابعةٌ لِما يَكونُ بالفاعلِ 1/66
الصفة النفسيّة لا يَخرجُ عنها المَوصوفُ 1/56
الصفة نفسيّةٌ و ذاتيّةٌ 1/56
الطاري بالتأثيرِ أَولىٰ مِن الباقي 1/69
الظاهر مِن الاستعمالِ الحقيقةُ ، و إنّما يُنتَقَلُ إلَى المَجازِ بالأدلةِ 1/462
الظلم قبيحٌ 1/83
العالَم مخلوقٌ مِن هَيولىٰ قَديمةٍ 2/63
العبارات لا اعتبارَ بها مع صحّةِ المَعاني 1/225
العَبَث هو «ما صُرِفَ مِنَ الأفعالِ عن الوجهِ الذي مِن حَقِّه أن يوقَعَ عليه» 2/77
العِلم لا يُحتاجُ إليه في إيقاعِ جنسِ الفعلِ 1/201
العِلم لا يُحتاجُ إليه في جِنسِ الفعلِ 1/202
ص: 400
[العلم] مُكتَسَبٌ 1/85
الفارغة متَى اعتَمَدنا فيها اعتماداً متّصلاً 1/70
فأمّا كَونُه [الجوهر] مُدرَكاً 1/79
فَساد تَعلُّقِ العِلمِ الواحِدِ بأكثَرَ مِن المعلومِ الواحدِ علَى التفصيلِ 1/322
[فساد] كَونِ المُحدَثِ قادراً لنفسِه 1/197
الفِعل المُحكَم لا يَدُلُّ علَى العِلمِ 1/318
الفِعل هو «ما وُجِدَ بَعدَ أنْ كانَ مقدوراً». و إن شِئتَ أن تَقولَ : هو «ما حَدَثَ عن قادرٍ 2/73
القادر بقُدرةٍ لا يَكونُ إلّاجسماً، و الجسمَ لا يَكونُ إلّامُحدَثاً 2/10
القادر علَى الاعتماد يَجِبُ أن يَكونَ قادراً علَى الأصواتِ و الحُروفِ 2/120
القادر علَى الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ قادراً على جنسِ ضِدِّه 2/15
القادر على الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ ممّن يَصِحُّ أن لا يَفعَلَه 2/106
قادر لنفسِه يَجِبُ أن لا يَتَناهىٰ مقدورُه مِن الجنسِ الواحد في الوقتِ الواحدِ 2/10
القَبيح أنّه: «ما استَحَقَّ به فاعِلُه الذَّمَّ علىٰ بَعضِ الوُجوهِ » 2/78
القَبيح فيما بَينَنا لا يَختارُه إلّا: جاهِلٌ بقُبحِه، أو مُعتَقِدٌ للحاجةِ إليه 1/287
القَبيح لا يَقبُحُ للنهي 2/97، 101
قُدَرنا تَتعلَّقُ بالأجسام 1/70
القُدرة قد ثَبَتَ بالدّليلِ بَقاؤها 1/229
القُدرة لا يَصِحُّ بها الفِعلُ ، إلّابأن يُستَعمَلَ مَحَلُّها فيه أو في نَسبَتِه 1/222
القُدرة مُعلَّقةٌ بالجسمِ 1/70
القَديم قَديمٌ لنفسِه 2/10، 40
القَديم لا ضِدَّ له 1/60، 288
القَديم لا يَجوزُ عدمُه 1/58
القَديم مُدرِكٌ لنفسِه 1/57
الكلام الصَّوتُ إذا وَقَعَ علىٰ بَعضِ الوجوهِ 2/224
الكلام ما انتَظَمَ مِن حَرفَينِ فصاعِداً مِن هذهِ الحُروفِ المعقولةِ 2/220
الكلام ما يَقومُ بذاتِ المُتكلِّمِ 2/224
ص: 401
الكلام ما يوجِبُ كَونَ المُتكلِّمِ متكلِّماً 2/224
الكلام [ما] أفادَ مُرادَ المتكلِّمِ 2/224
كُلّ ذاتٍ وُجِدَت أكثَرَ مِن وقتٍ واحدٍ، لَم يَجُز عدمُها إلّابضِدٍّ 1/58
كُلّ ما لا توجِبُه العلّةُ لا يَتعلّقُ بالفاعلِ 1/81
كُلّ مَحَلٍّ فيه بِنيةُ حياةٍ 1/454
كَون الجوهرِ مُتحيِّزاً 1/253
كَون القديمِ قادراً يَقتَضي وجودَه 1/120
كَونه تَعالىٰ عالِماً 1/247
كَونه [تَعالىٰ ] حَيّاً 1/247
كَونه [تَعالىٰ ] قَديماً 1/247
كَونه [تَعالىٰ ] مُدرِكاً 1/247
كَونه [تَعالىٰ ] مُريداً و كارِهاً 1/248
كَونه [تَعالىٰ ] موجوداً 1/247
الكَون يَنتَفي عندَ عدمِ الجَوهرِ 1/67
لا اعتبار في تَماثُلِ الجَوهرَينِ ، بأن يَصِحَّ أن يَحُلَّ أحَدَهما نَفسُ ما يَحُلُّ الآخَرَ 1/369
لا حال للفاعلِ بكَونِه فاعلاً 1/293
لا مَنزِلة في الوجودِ بَينَ القِدَمِ و الحُدوثِ 1/191
لا يَجِب لشيءٍ مِن المُحدَثاتِ الوجودُ إلّابتوَسُّطِ فاعلٍ 1/56
لا يَجوز أن تَكونَ القُدرةُ موجودةً لا في مَحَلٍّ 1/266
لا يَجوز أَن يَحتاجَ [الجوهر] إليه [اللون] في كَونِه متحيّزاً 1/77
لا يَجوز أن يَكونَ الجَوهرُ مُوَلِّداً للَّونِ 1/80
لا يَجوز أن يَكونَ «العِلمُ بأنّ العالِمَ عالِمٌ » عِلماً بمُجرَّدِ ذاتِه 1/336
لا يَجوز أن يَكونَ المُقتضي [للإدراك] لذلكَ ارتفاعَ الآفاتِ و المَوانعِ 1/166
لا يَجوز أن يَكونَ فاعلُ الجَوهرِ غَيرَ فاعلِ الكُونِ 1/88
لا يَجوز أن يَكونَ كذلكَ [المدرِك مدرِكاً] لوُجودِ معنىً هو إدراكٌ 1/165
لا يَجوز أن يَكونَ وجودُ مُدرَكٍ مُقتَضياً لهذه الصفةِ [الحياة] 1/165
ص: 402
لا يَجوز أنْ يَكونَ [الجوهر] كذلكَ لحُدوثِه علىٰ وَجهٍ يُشارُ إليه مِن وجوهِ الحُدوثِ 1/63
لا يَجوز أن يَكونَ [الجوهر] كذلكَ لعدمِ معنىً 1/64
لا يَجوز أن يَكونَ [الجوهر] متحيِّزاً لِحُدوثِه 1/63
لا يَجوز أن يَكونَ [تَعالىٰ ] عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ 1/267
لا يَجوز أن يَكونَ [تَعالىٰ ] قادراً بقُدرةٍ تَحُلُّ في غَيرِه 1/265
لا يَجوز [الجوهر] أن يكونَ كذلك لعدمِه 1/64
لا يَجوز [الجوهر] أن يَكونَ متحيِّزاً لوجودِ معنىً 1/64
لا يَحتاجُ [الجوهر] إلَى اللون في كَونِه في الجهةِ 1/78
لَم نُعَوِّلْ في إثباتِ «كَونِه [تعالى] حَيّاً و قادراً و عالِماً و سائِرِ صفاتِه» علىٰ ... 1/143
لَيسَ القَديمُ عندَكم مُدرِكاً لنفسِه 1/57
لَيسَ مِن شَرطِ تَوليدِ الاعتمادِ الكَونَ في المَحَلِّ 1/88
لَيسَ يَجوزُ أَن يَحتاجَ [الجوهر] إلَى اللونِ في كَونهِ في بعضِ الجِهات 1/78
لَيسَ يَجوزُ أن يَحتاجَ [الجوهر] إليه [اللون] في كَونِه جَوهراً 1/77
لَيسَ يَجوزُ أن يَحتاجَ [الجوهر] إليه [اللون] في وجودِه 1/76
لَيسَ يجوزُ أن يَكونَ اللون موجَباً عن الجوهرِ إيجابَ العلّةِ للمعلولِ 1/80
لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ المُقتَضي لِكَونِه مُدرِكاً كَونَه عالِماً 1/149
لَيسَ يَجوزُ أن [الجوهر] يَكونَ متحيِّزاً لوجوده 1/62
[لمّا] استَحالَ أن يَتعلَّقَ وجودُ الفِعلِ مستَقبَلاً بوجودِ الضِّدَّينِ ، استحالَ ذلكَ ماضياً؟ 1/95
ما أحالَ وجودَ الشيءِ علىٰ كُلِّ وجهٍ ، يُحيلُ كَونَه مقدوراً 1/283
ما شاركه تعالىٰ في القِدَم يجب أن يكون مِثلاً له 1/302
ما لَم يَتقدَّمِ المُحْدَثَ مُحدَثٌ 1/84
ما لَم يتقدَّمِ المُحدَثَ يَجِبُ أن يَكونَ مُحدَثاً 1/83
ما له صفةُ الظلم فهو قَبيحٌ 1/86
ما هو بصفةِ الجسمِ لا يَجوزُ أن يَكونَ شيئاً واحداً 1/74
ما يَستَحيلُ وجودُه علىٰ كُلِّ حالٍ ، لا يَكونُ ضِدّاً لغَيرِه في الحقيقةِ 1/283
المتحيِّز وجبَ أن يَكونَ في جهةٍ 1/72
ص: 403
المُتَناهِي المقدورِ لا يَكونُ إلّاقادراً بقُدرةٍ 2/10
متىٰ وُجِدَ [الجوهر] وجبَ أن يَكونَ متحيِّزاً 1/62
المِثلان لا يَكونُ أحَدُهما قَديماً و الآخَرُ مُحدَثاً 1/351
مجرَّد الفِعلِ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِ فاعلِه قادراً 1/125
مُحال أن يَحتاجَ الشيءُ إلىٰ غَيرِه مِن وَجهٍ يَحتاجُ ذلك الغَيرِ إليه مِن ذلك الوَجهِ 1/76
مُحال أن يَحتاجَ [الجوهر] إلَى الكَونِ و اللون مَعاً في الصفةِ الواحدةِ 1/78
مُحدِث الأجسامِ قادِرٌ 1/117
«المُحدَث»، أو أنّه «كائنٌ بَعدَ أن لَم يَكُن» 2/73
المُشَبِّه هو الذي يُخالِفُ في المعنىٰ ، و يُثبِتُه بصفةِ الجسمِ المؤلَّفِ ، أو... 1/361
المُشتَرِكانِ في صفةٍ مِن صفاتِ النفسِ يَجِبُ أن يَكونا مُتَماثِلَينِ 2/24
المَضارّ هي الآلامُ أو الغُمومُ و ما يُؤَدّي إليهما أو إلىٰ أحَدِهما، إذا لَم يُعَقّبْ ... 1/349
المَعدوم يَستَحيلُ أن يَكونَ مُدرَكاً 1/57
المَعلوم لا يَخلو مِن أن يَكونَ موجوداً أو معدوماً، و الموجودَ لا يَخلو مِن أن... 2/36
المَعنىٰ هو الذي [لا] يَحتاجُ إلَى المعنىٰ 1/146
مقدور القُدَرِ في الجنسِ مُتَّفِقٌ 1/214
مقدور القُدَرِ مُتَغايِرٌ 1/213
مقدور كُلِّ واحدٍ مِن القَديمَينِ غَيُر مقدورِ صاحبِه 2/24
مقدور واحداً لقادرَينِ ، و ذلكَ فاسدٌ 1/222
المُلتَذّ إنّما يَكونُ مُلتَذّاً بإدراكِ ما يَشتَهيه 1/349
الممنوع لا بُدَّ أن يَكونَ مُتَناهيَ المقدورِ 2/10
المَنافِع هي اللَّذّاتُ و السُّرورُ و ما أدّىٰ إليهما أو إلىٰ أحَدِهما، إذا لَم... 1/349
مَن جَعَلَ الذاتَ علىٰ صفةِ الفاعلِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ هو المُحدِثَ لها 1/71
مِن حَقِّ المُحدَثِ أن يَكونَ له مُحدِثٌ 1/270
مِن حَقِّ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَكونَ لِكُلِّ واحدٍ مِنهما صفةٌ تَرجِعُ إلىٰ ... 1/60
مِن حُكمِ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَمنَعَ وجودُ كُلِّ واحدٍ مِنهما مِن وجودِ الآخَرِ 1/59
المؤَثِّر في خُروجِ الإرادةِ عن التعَلُّقِ ، هو عدمُها دونَ غَيرِه 1/184
ص: 404
المَوجود مُشتَقٌّ مِنَ الوُجودِ 1/338
النظَر هو تَقليبُ الحَدَقةِ الصحيحةِ نَحوَ المَرئيِّ أو مكانِه طالباً لرؤيتِه 1/462
النعيم و العِقابَ غَيرُ مُنقَطِعَينِ 1/94
نفي الضِّدِّ المعدومِ ضِدَّه 1/61
وجوب كَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً عندَ وجودِ المُدرَكاتِ 1/169
وجوب وقوعِ تَصرُّفِه بحَسَبِ أحوالِه 1/106
الوجود له فيما لَم يَزَل مِن غَيرِ فاعلٍ و لا عِلَّةٍ 1/56
الوجود مُحالٌ أن يُشرَطَ بالوجودِ 1/114
الوجود [يَقتَضي] الصحّةَ في صفاتِ النفسِ 1/58
وقوع أفعالِ المُلجَإ بحَسَبِ إرادةِ المُلجِئ 1/102
يَجِبُ أن يَحتاجَ [الجوهر] إلىٰ جنسٍ مِن الألوان مخصوصٍ 1/77
يَجِبُ أن يَكونَ الجَوهرُ مَعَ وجودِه أبَداً متحيِّزاً 1/64
يَجِبُ عَنهُ إثباتُ القَديمِ الأوّلِ قَديماً لنفسِه 1/55
ص: 405
آلهة، 2/64
آلة، 1/174، 217
آمِر، 1/245، 250، 251، 2/179
الأب، 2/53
الإبانة، 1/299
الابتداء، 2/120
الأبصار، 1/432، 434، 438، 446، 448،
458
الابن، 2/53، 54
ابن اللّٰه، 2/59
الإبهام، 2/222
الأبيض، 1/362، 2/97
الاتّحاد، 2/54، 59، 62
الاتِّصال، 1/373، 411، 2/197، 198
الاتِّفاق، 1/295، 302، 311
الاتّفاق في المشيّة، 2/59
إثبات = الإثبات، 1/175، 287، 298، 339، 340، 391، 419، 425، 439، 440 - 442، 445-447، 462، 2/25، 71، 77، 102، 108، 112، 113، 350
الإثبات الحقيقي، 1/442
الاجتماع، 1/81
الأجزاء، 1/204، 210، 2/117، 239
الأجزاء الكثيرة، 1/258
الأجزاء المنضمّة، 1/258
الأجسام، 1/61، 70، 74، 111، 112، 113، 114، 117، 119، 175، 189، 196، 197، 199، 208، 221، 295، 321، 326، 361، 362، 371، 373، 374، 398، 405، 414، 416، 420-422، 429، 436، 437، 451، 2/29، 41، 45، 48، 55، 64، 140، 236، 252، 262، 265، 267
الإجماع، 1/359، 452، 2/180، 363
ص: 406
الأجناس، 1/78، 124، 200، 212، 213، 215، 284، 314، 416، 2/105، 107، 117، 140، 144، 187، 239، 265، 267، 326، 345، 355، 362
الأجناس المخصوصة، 1/326
الآحاد، 1/120، 2/100
الإحباط، 2/44
الاحتجاج، 2/51، 56، 228
الاحتمال، 1/379، 457
الأحداث، 1/341، 342، 2/11، 352
الإحساس، 1/176
الإحسان، 1/441، 2/87، 88، 93، 95،
296
الأحكام، 1/121، 127، 132، 141، 146، 232، 240، 303، 306، 317، 374، 379، 386، 392، 393، 2/33، 93، 154، 270، 271، 289، 325، 351
الأحكام المعقولة، 1/242، 288، 388
الأحوال، 1/80، 124، 149، 194، 225، 237، 246، 261، 282، 298، 299، 320، 335، 336، 367، 370، 371، 435، 442، 2/94، 105، 244، 264، 277
الأحوال المستقبلة، 1/229
الأحياء، 1/446، 2/62
الأخبار، 1/479، 2/87، 89، 136، 153 - 155، 179، 185، 254، 255، 312
الأخبار الصحيحة، 1/479
الاختراع، 1/215، 2/146، 359
الاختصاص، 1/144، 183، 224، 255، 275، 276، 297، 315، 336، 377، 378، 388، 449، 2/20، 32، 57، 61، 94، 117، 151، 165، 183، 199، 200، 337
الاختلاف، 1/295
الاختيار، 1/223، 2/176، 212، 213،
288
الأخرس، 2/221، 222، 276، 281
الآخرة، 1/439، 442، 476، 481
الأخفش، 1/424
الإدراك، 1/146، 148، 149، 157، 158، 159، 162، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 174، 231، 240، 241، 248، 257، 272، 300، 301، 302، 358، 362، 363، 364، 365، 366، 367، 370، 405، 406، 410، 418، 419، 420، 421، 422، 423، 424، 425، 426، 436، 437، 438، 439، 443، 444، 445، 453، 455، 460، 461، 465، 466، 2/14، 81، 152، 192، 219، 232، 237، 264، 265، 339، 362
الأدلّة، 1/271، 325، 2/110، 129، 216
الأدلّة العقليّة، 2/288
الأدوية، 1/356
الأَديم، 2/309
ص: 407
الأُذُن، 1/438، 455
الإرادات، 1/163، 2/154، 155، 337،
341
الإرادة، 1/58، 107، 109، 179، 180، 181، 182، 183، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 202، 203، 221، 224، 225، 245، 257، 279، 294، 304، 315، 341، 342، 369، 384، 385، 469، 2/12، 13، 20، 21، 22، 32، 35، 37، 44، 60، 122، 135، 137، 138، 140، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 151، 156، 157، 158، 159، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 171، 172، 174، 175، 178، 179، 182، 190، 195، 196، 197، 198، 201، 204، 205، 207، 211، 214، 225، 226، 234، 300، 307، 308، 328، 335، 337، 338،
347
الإرادة الضروريّة، 2/189
الإرادة المعدومة، 1/184
الأراييح، 1/357، 359، 373، 454، 455، 456، 2/231، 289
الأرض، 2/255، 297، 298، 308
الأرواح، 2/58
الأزليّ الوجود، 1/260
الإساءة، 2/88
الأسباب، 1/240، 319، 2/168، 279
الاستحالة، 2/109
الاستحقاق، 1/65، 91، 195، 311، 330، 343، 2/86، 105، 133
الاستخراج، 1/469، 473
الاستدلال، 1/108، 109، 110، 128، 143، 150، 151، 251، 252، 272، 322، 422، 428، 443، 452، 460، 475، 2/83، 86، 175، 189، 276، 277، 350
الاستعمال، 1/462، 470، 2/172، 312
الاستغفار، 2/216
الاستغناء، 1/290، 323، 391، 2/272
الاستقبال، 1/382
الاستمتاع، 2/173
الاستمرار، 2/237، 289
الاستنباط، 1/469، 473
الأسرار، 2/57
الاسم، 2/297
الأسماء، 1/259، 2/137، 213، 289
الأسماء الشرعيّة، 1/402
الأسود، 1/333، 337، 362، 2/97
الإشارة، 2/224
الاشتراك، 1/196، 250، 261، 274، 275، 303، 307، 399، 412، 2/9، 76، 265،
338
الاشتقاق، 2/288، 289، 290
ص: 408
الأشخاص، 1/163، 416
الأشياء، 1/334
الأشياء الكثيرة، 1/258
الأشياء المتماثلة، 1/107
الأشياء المختلفة، 1/107
الاصطفاء، 2/57
الأصَم، 1/173
الأصنام، 2/66
الأصوات، 1/158، 163، 174، 205، 357، 359، 454، 2/120، 168، 225، 232، 233، 236، 237، 238، 247، 265، 280، 286، 357
الأضداد، 2/162
الاضطرار، 2/240
الأطعمة، 2/44
الإطلاق، 1/436، 438
الأعاجم، 2/288
الاعتبار، 1/81، 102، 106، 249، 287، 375، 463، 2/86، 121، 345، 347
الاعتذار، 2/104
الاعتراض، 1/316، 366، 428، 446، 2 / 90، 277
الاعتقاد، 1/85، 130، 131، 132، 269، 270، 271، 272، 283، 358، 2/89، 97، 98، 121، 122، 135، 136، 137، 141، 149، 187، 204، 245، 356
الاعتقادات، 1/163، 247، 323، 324، 2 / 91، 121، 188، 245، 269، 284، 356
الاعتلال، 1/460، 461، 2/87، 278
الاعتماد، 1/80، 88، 89، 108، 114، 200، 211، 215، 216، 217، 218، 219، 220، 221، 265، 2/119، 120، 235، 238، 301، 332، 359
الاعتمادات، 2/120، 168، 289
الأعداد، 2/52، 117، 187
الإعدام، 2/352، 353
الأعراض، 1/62، 73، 78، 91، 114، 213، 294، 295، 333، 334، 340، 342، 345، 366، 367، 368، 370، 371، 374، 375، 376، 377، 378، 379، 380، 383، 384، 385، 386، 391، 393، 398، 410، 422، 443، 2/48، 98، 150، 151، 194، 200، 226، 262، 286، 287، 328، 341، 343، 346، 347
الأعراض المعقولة، 1/385، 386
الأعضاء، 1/357، 467
الإعظام، 1/342
الأعمَش، 1/424
الأعواض، 2/85، 143
الاغتذاء، 1/358
الأغذية، 1/356
الآفات، 1/165، 246، 406، 408، 449
ص: 409
الإفادة، 1/394
الافتراق، 1/81
الأفعال، 1/86، 94، 95، 99، 107، 111، 113، 119، 124، 132، 146، 169، 172، 181، 192، 198، 202، 218، 232، 247، 251، 342، 351، 354، 414، 415، 470، 2/32، 46، 48، 60، 71، 77، 89، 94، 97، 99، 101، 102، 109، 115، 124، 126، 131، 143، 145، 163، 164، 168، 202، 204، 229، 235، 239، 298، 301، 313، 314، 316، 328، 345، 360
الأفعال الحسنة، 2/104
الأفعال المحكمة، 1/274
الآفة، 1/174، 2/275، 276، 279
الأقانيم، 2/52، 53، 54
الأقانيم الثلاثة، 2/54
الأقدار، 2/117
الاكتساب، 1/422
الأكل، 1/181، 182، 2/60
الأكوان، 1/78، 81، 89، 92، 163، 197، 284، 318، 370، 2/44، 119، 120، 155، 287، 289، 354، 355
الأكوان المجاورة، 1/77
الأكوان المختلفة، 1/77
الآلات، 1/133، 168، 169، 171، 172، 202، 2/235، 241، 293، 309
الآلام، 1/454، 2/48، 87، 238، 357
الالتباس، 1/314، 364، 366، 363
الإلجاء، 1/102، 352، 2/125، 202، 212، 213، 288، 289
الإلزام، 2/43، 189، 285
الألفاظ، 1/340، 467، 2/56، 155، 180، 274، 296
الألفاظ العربيّة، 2/153
الألقاب، 1/398، 399
الألم، 1/159، 160، 161، 175، 349، 455، 481، 2/43، 47، 120
الآلِم، 1/349
الألوان، 1/75، 77، 78، 81، 92، 103، 114، 163، 281، 326، 373، 385، 444، 455، 456، 2/231، 232، 233، 234، 236، 237، 265، 266، 295، 341، 357،
362
الإله، 2/270
الإلهيّة، 2/270
الآلة، 1/168، 169، 200، 202، 206، 207، 208، 408، 415، 447، 451، 464، 2 /
212
الأماكن، 1/214، 261، 365، 373، 2/44،
169
إمام، 2/101
امتلاء الظروف، 1/70
ص: 410
الامتناع، 1/70، 261، 287، 2/23، 49،
130
الأمر، 1/202، 328، 341، 2/41، 42، 43، 142، 144، 181، 204، 242، 349
الأمراض، 2/85، 143
الأموال، 2/91، 364
الأُمور المُتجدِّدة، 1/255
الأُمّة، 1/452
الانتظار، 1/463، 472
الانتظام، 2/220
الانتفاع، 1/358، 359
الانتفاء، 1/109، 2/81
الإنزال، 2/263
الإنس، 2/206
الإنسان، 1/132، 2/51، 136، 151، 255، 268، 270، 271، 294، 302، 308
الأنف، 1/438
الانفكاك، 2/42
الانقطاع إلى اللّٰه تعالىٰ ، 1/476
الأنواع، 1/385، 2/265
الأوصاف، 1/399، 2/269، 291، 292، 293، 367
الأوقات، 1/119، 181، 189، 237، 261، 357، 2/300
الأوقات الكثيرة، 1/344
الأولاد، 2/364
الآيات، 1/476، 477
الآيات المتشابهات، 1/403
الإيجاب، 1/78، 379، 2/35، 169، 185
الإيداع، 2/144
الإيمان، 2/95، 138، 160، 185، 212، 214، 216، 302، 364، 365
الأيمان، 2/217
الآية، 1/436، 443، 447، 469، 2/263
البارد، 1/149، 206
الباري تعالىٰ ، 1/311
باطل، 1/70
باقي، 1/336
الباه، 1/354
البَبَّغاء، 2/221
بدائع الحكمة، 1/132
البَدَل، 1/220، 2/155، 160، 198
البرودة، 1/454، 455، 236
البشر، 2/252
البصر، 1/163، 407، 415، 437، 438، 465، 466، 2/364
البصير، 1/156، 172، 173، 174، 245، 420، 421، 442، 2/53
البطلان، 2/281
البعث، 1/232، 2/180
بعثة الأنبياء، 2/72
البُعد، 1/374، 377، 411، 414، 416، 2 /
ص: 411
237
البعض، 1/447، 448، 2/150
البعضيّة، 2/268
البعيد، 1/411
البقاء، 1/63، 91، 224، 236، 346، 384، 2 / 140، 237، 296، 357
البُنُوّة، 2/57، 58، 59
البِنيَة، 1/139، 142، 143، 200، 203، 217، 265، 330، 454، 2/65، 233، 235
البهائم، 2/206
البَهيمة، 2/78، 99، 101، 294، 327
البياض، 1/66، 79، 80، 81، 109، 134، 165، 253، 257، 294، 296، 315، 331، 332، 363، 367، 430، 2/45، 268، 318، 325، 326
البَيضة، 1/373
التأثير، 1/120، 121، 141، 147، 181، 387، 449، 2/96، 101، 137، 145، 183، 185
التأديب، 2/43
التأليف، 1/58، 59، 77، 132، 133، 143، 166، 217، 370، 387، 2/120، 200، 234، 242، 355، 359
التأويل، 1/403، 481، 2/54
التباين، 2/41
التبعيد، 1/477
التبنّي، 2/56
التثليث، 2/51
التثنية، 2/51
التجارة، 2/293
تجانس، 2/92
التجاوز، 2/287
التجاهل، 1/449، 2/172
تجدّد الذات، 1/342
تجدّد الوجود، 1/233
تجدّد عِلم، 1/230
التجنيس، 1/401
التجوّز، 1/474، 2/154
التجوير، 1/104، 105، 421، 458، 2/39، 317، 318
التحابط، 2/78
التحرّز، 2/78
التحرّك، 1/204
التحريك، 1/339
التحريم، 2/288
تحريم الزنىٰ ، 2/98
تحريم القبائح العقليّة، 2/98
التحضيض، 2/243
التحقيق، 1/247
التحكيم، 2/311
التحيّز، 1/62، 63، 64، 65، 72، 73، 78، 114، 172، 291، 295، 344، 364، 366،
ص: 412
368، 371، 372، 374، 375، 376، 377، 393، 2/81، 113، 194، 346، 347
تحيّز الجوهر، 1/172، 344
التحيّز بالفاعلِ ، 1/71
التخالف، 1/305
التخصيص، 1/328، 2/36، 282
التخلية، 2/328، 334
التداخل، 1/371
الترتيب، 1/132
ترك فعل الواجب، 2/106
التركيب، 1/144
التّروك، 2/161
التزايد، 1/148، 164، 397، 2/326
التساوي، 2/127
التسمية، 1/402، 466، 2/308
التسويد، 1/339
التشبيه، 1/405، 452، 458، 2/58، 242
التصحيح، 2/148
التصرّف، 1/104، 105، 106، 108، 109، 110، 131، 192، 204، 214، 2/29، 223، 313، 317، 318
التضاد، 1/67، 278، 279، 281، 283، 319، 2/188، 232، 233، 283، 325،
326
التضادّ الحقيقيّ ، 1/281
تضادّ الضدَّين، 1/280
تضادّ الخير و الشرّ، 2/43
التعجُّب، 2/242
التعجيز، 2/366
التعديل، 2/39
التعديل و التجوير، 2/39
التعذّر، 1/121، 2/27، 28
تعذيب الأطفال، 2/90
تعذيب مستحقِّ العذاب، 2/106
التعريض، 2/207
التعريف، 1/398، 399، 400
التعطّف، 1/463
التعظيم، 2/122
التعلّق، 1/99، 100، 102، 105، 176، 179، 180، 182، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 256، 274، 275، 285، 286، 312، 315، 316، 323، 325، 370، 449، 2 / 33، 90، 95، 117، 121، 135، 136، 137، 148، 162، 172، 190، 194، 226، 244، 302، 319، 320، 321، 324، 342، 344، 345، 347، 348، 362
تعلّق العُلوم، 1/274
التعلّق المخصوص، 1/312
تعلّق الفعل بفاعله، 1/105
تعليل الشيء بنفسه، 1/187
التعليل، 1/250، 253، 309، 328، 2/350
تعليل الشيء بنفسه، 1/80
ص: 413
التغاير، 1/367، 2/271
التغيّر، 1/479
التفاضل، 1/397
التفاوت، 1/164
التفاؤل، 1/398
التفرّد، 2/99
التفرّق، 1/216
التفصيل، 2/36، 319، 321
التفضّل، 1/441، 2/296
التقابل، 2/77
التقدير، 1/108، 247، 2/111، 245، 307
التقريع، 1/395
التقليد، 1/268، 269، 2/36
التكذيب، 1/458
التكفير، 2/44
التكليف، 1/247، 476، 2/72، 122، 206، 240، 252
تلقيب، 1/402
التماثل، 1/196، 305، 314، 351، 401، 2 / 53، 92
تماثل الجواهر، 1/362، 366، 371
تماثل الجوهرين، 1/369
التمانع، 2/10، 11، 18، 19، 20، 21، 22، 23، 25، 26، 27، 196
التمدّح، 1/435
التمنّي، 2/122، 136، 137، 156، 159، 160، 242
التميّز، 1/299، 328، 2/36
التمييز، 1/400، 467، 2/33، 153، 282،
319
التنافر، 2/41
التنافي، 1/65، 2/197، 233
تناقض، 2/40
تناهي، 2/23
التنفير، 1/476
التنقيص، 1/471
التواضع، 2/153، 241
التوبة، 1/476، 2/45، 104، 106
التوحيد، 1/264، 374، 2/51
التورية، 2/154
التوسّع، 2/154
التوصّل، 2/58، 132
التوقّف، 2/232
التولّد، 1/219
التوليد، 1/70، 215، 216، 2/119، 120، 167، 359
التّهديد، 1/395
الثابت، 1/260، 338
الثّبوت، 1/300، 2/81
الثِّقَل، 1/415
الثقوب، 1/208
الثقيل، 1/119
ص: 414
الثنويّة، 2/47
الثواب، 1/102، 232، 342، 441، 470، 471، 473، 474، 2/122، 133، 144، 176، 180، 202، 207، 296
الجائز، 1/220، 417
الجارحة، 2/280
الجاعل، 1/221
الجاهل، 1/129، 150، 255، 266، 284، 285، 2/108، 186، 198
جاهلاً بالمعلوم، 1/234
الجحود، 2/242
الجزء، 1/220
الجزء المضموم، 1/258
الجزء المنفرد، 1/369، 2/119
الجسم، 1/61، 75، 79، 82، 84، 87، 92، 112، 113، 148، 196، 197، 199، 204، 225، 233، 240، 257، 261، 265، 295، 316، 319، 356، 358، 362، 373، 394، 398، 414، 415، 457، 458، 2/9، 18، 23، 47، 65، 67، 84، 168، 231، 233، 234، 267، 301، 323
الجسم الثقيل، 2/14
الجسم الخفيف، 2/124
الجسم العظيم، 2/124
الجسم القديم، 1/87
الجسميّة، 1/147، 247، 330
الجماد، 1/138، 139، 2/67، 95، 195، 196، 198
الجمادات، 1/137، 2/220
الجمع، 1/315
الجمع بين الضدّينِ ، 1/345، 2/110
الجُمَل، 1/378، 466، 467، 468، 2/52، 100، 239، 269
الجُملة، 1/120، 121، 124، 140، 141، 166، 197، 225، 275، 283، 318، 331، 332، 333، 334، 337، 357، 358، 373، 379، 435، 442، 443، 467، 2/32، 37، 51، 52، 79، 80، 82، 83، 86، 88، 89، 90، 91، 103، 156، 165، 176، 194، 200، 202، 233، 248، 251، 270، 278، 291، 319، 321، 339، 344، 365
الجنابة، 2/215
الجنس، 1/111، 212، 213، 214، 264، 281، 282، 2/16، 17، 44، 81، 96، 105، 107، 117، 121، 152، 154، 168، 184، 239، 242، 247، 264، 286، 325،
366
جنس الفعل، 1/121
جنس الكون، 2/225
الجنس الواحد، 1/78
الجُنون، 1/131
الجَنّة، 1/395، 2/20، 21، 189
ص: 415
الجوارح، 1/401، 465، 466، 468، 2 / 168، 178، 357
الجوارح المماسّة، 2/168
الجَواز، 2/109، 129
الجواهر، 1/61، 73، 123، 142، 163، 200، 201، 203، 204، 210، 211، 212، 214، 215، 216، 217، 218، 224، 225، 281، 344، 361، 362، 366، 369، 370، 371، 373، 377، 384، 388، 398، 414، 454، 2/118، 140، 144، 187، 257، 341، 356
الجواهر المعدومة، 1/375
الجواهر متماثلة، 1/362
الجَور، 2/367
الجوهر، 1/61، 62، 65، 66، 67، 71، 73، 75، 77، 81، 88، 89، 90، 91، 114، 123، 168، 173، 185، 202، 211، 213، 215، 216، 217، 218، 219، 220، 221، 284، 295، 296، 302، 309، 310، 311، 312، 316، 318، 336، 338، 344، 361، 363، 365، 368، 377، 380، 391، 392، 393، 397، 409، 414، 451، 457، 460، 461، 2/54، 81، 113، 118، 119، 156، 194، 242، 281، 334، 354، 355
جوهر الأحكام، 1/76
الجوهر المعدوم، 1/123، 2/113، 119
الجوهر المنفرد، 1/369
الجوهرَينِ ، 1/365، 366، 367، 368
الجهات، 1/78، 198، 204، 218، 221، 318، 372، 373، 374، 377، 378، 396
الجهات الست، 1/200، 215، 216
الجهاد، 2/76
الجهالات، 1/385، 453، 2/265
الجهل، 1/129، 232، 234، 235، 255، 277، 280، 282، 283، 284، 285، 286، 294، 304، 313، 322، 327، 331، 336، 345، 346، 445، 475، 476، 2/22، 23، 44، 61، 62، 106، 113، 115، 198
جهل بذاته، 1/327
الجهة، 1/75، 80
الحاجة، 1/110، 111، 247، 349، 350، 360، 2/23، 83، 113، 115، 124، 128، 233، 280، 309
حاجة الشيء إلىٰ نفسه، 1/77
حادث، 1/337، 342، 382، 2/15، 139،
334
الحادثات، 2/66
حادثة، 1/251
الحار، 1/149، 206، 207
الحاسّة، 1/174، 434، 439، 446، 450،
454
الحاسّة السادسة، 1/406، 413
ص: 416
الحاضر، 1/250، 398، 399
الحال، 1/74، 122، 277، 343، 368، 369، 376، 378، 407، 455، 471، 2/151، 199، 207، 291، 292
الحال المخصوصة، 1/332
حامِض، 2/291
الحجاب، 1/410، 411، 414
الحجّة، 2/261
الحدّ، 1/151، 153، 312، 2/174، 215، 221، 223، 270، 271، 358
حدّ القبيح، 2/78
الحَدَث، 2/14، 15، 261، 262، 280، 286،
311
الحدوث، 1/62، 63، 72، 91، 92، 93، 94، 99، 109، 110، 111، 113، 214، 223، 224، 233، 251، 259، 289، 323، 393، 459، 2/14، 15، 76، 77، 84، 92، 135، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 143، 144، 163، 182، 203، 261، 264، 290، 302، 303، 322، 323، 324، 325، 335، 344، 345، 346، 347، 348، 350،
362
حدوث الأجسام، 1/81، 91، 107، 192، 422، 2/17، 47
حدوث الأعراض، 1/107
حدوث الجسم، 1/84، 129
حدوث الجسم لَفظاً و معنىً ، 1/92
حدوث الجوهر، 1/72
حدوث الذّات، 2/318، 319
حدوث العلم، 1/233
حدوث الفعل، 1/124، 125
حدوث القرآن، 2/297
حدوث القول، 2/300
حدوث الكلام، 2/300
حدوث جميع الأجسام، 2/40
حدوث جميع الأعراض، 1/99
الحدود، 1/106، 153، 2/362
الحرارة، 1/438، 454، 455، 456، 2/65،
236
الحرب، 2/91
الحرفة، 2/229
الحركات، 2/168، 362
الحركة، 1/80، 81، 112، 118، 147، 198، 206، 207، 219، 240، 262، 296، 342، 344، 374، 377، 461، 2/21، 29، 34، 84، 96، 156، 161، 165، 166، 168، 169، 189، 225، 233، 234، 235، 270، 278، 291، 293، 294، 334، 353، 361
الحركة الاختياريّة، 2/362
الحركة الضروريّة، 2/362
الحروف، 2/120، 154، 220، 236، 254، 264، 266، 267
ص: 417
الحروف المعقولة، 2/220
الحَسَن، 1/360، 2/20، 43، 71، 74، 76، 77، 78، 81، 88، 92، 97، 99، 103، 130، 131، 209، 248، 252
الحُسن، 1/292، 2/75، 76، 77، 92، 102، 125، 130، 131، 132، 145، 360
حُسن الخُلُق، 2/91
الحُسنُ و القُبحُ ، 1/202
حُسن و قُبح، 1/393
الحَصاة، 1/358
الحضور، 1/398
الحظر، 2/288
الحق، 2/366
الحقيقة، 1/402، 441، 444، 462، 465، 468، 470، 474، 2/51، 52، 55، 56، 62، 63، 89، 91، 97، 124، 125، 145، 159، 174، 186، 190، 224، 242، 251، 267، 270، 296، 297، 299، 304، 317، 348، 364
الحُكم، 1/187، 223، 250، 253، 261، 270، 319، 387، 462، 2/14، 86، 87، 94، 96، 102، 104، 128، 130، 186، 198، 270، 327، 360
الحُكم المُعَلَّل، 2/93
حُكمٌ معقولٌ ، 1/242
الحِكمة، 1/132، 246
الحَكيم، 2/20، 63، 82، 103
الحكيم تعالىٰ ، 2/49، 66
الحلاوة، 1/315
الحلول، 1/64، 291، 311، 363، 376، 379، 386، 387، 388، 389، 391، 392، 393، 432، 2/59، 165، 175، 200،
249
الحمرة، 1/103، 315، 346
الحموضة، 1/296، 346، 2/272، 326
الحوادث، 1/94، 95، 244، 263، 337، 2 / 23، 48، 66، 272، 273، 300
الحوادث المستقبلة، 1/94، 325
الحواس، 1/167، 168، 169، 172، 450،
453
الحواسّ خمس، 1/454
الحَيّ ، 1/113، 128، 134، 146، 147، 149، 151، 152، 153، 155، 160، 161، 166، 167، 169، 173، 176، 258، 265، 293، 297، 303، 309، 312، 320، 326، 336، 337، 344، 350، 375، 379، 384، 385، 402، 442، 449، 2/60، 103، 120، 147، 191، 196، 234، 238، 239، 242، 258، 269، 270، 273، 275، 277، 282، 297، 303، 362
الحياة، 1/59، 67، 68، 71، 134، 139، 140، 144، 145، 168، 181، 258، 263،
ص: 418
265، 266، 267، 268، 273، 290، 320، 326، 329، 376، 410، 430، 438، 454، 455، 456، 2/51، 63، 64، 65، 172، 195، 197، 198، 224، 234، 269، 270، 349، 354، 364
الحياة القديمة، 1/326
الحيوان، 1/356
الخالق، 2/90، 308، 309، 314
الخبر، 1/202، 221، 236، 328، 339، 383، 479، 480، 2/136، 142، 144، 147، 181، 182، 185، 204، 242، 338،
349
الخبر الصِّدق، 1/234
الخَرَس، 1/262، 2/222، 230، 273، 276، 278، 279، 280، 281، 282، 283، 284، 285، 286، 297
الخشوع، 1/476
الخُضْرَة، 1/103
الخطاب، 1/466، 470، 2/152، 180، 229، 237
الخفيف، 1/119
الخلاف، 1/294، 295، 297، 304، 2/91
الخلق، 2/302، 307، 308، 309، 311
الخير، 2/40، 42، 43، 44، 48، 49، 176
دار التكليف، 1/477
الداعي، 1/109، 279، 2/21، 126، 127، 128، 141، 149، 150، 151، 169، 178، 189، 212، 334
الدعاء، 2/242
الدعوىٰ ، 2/209
دَفع ضَرَر، 1/250، 2/86
الدلالة، 1/106، 107، 112، 113، 117، 120، 121، 126، 132، 141، 170، 171، 234، 249، 251، 252، 319، 320، 326، 328، 332، 334، 342، 355، 2/17، 19، 57، 95، 96، 137، 152، 177، 181، 230، 233
الدليل، 1/162، 253، 366، 385، 408، 2 / 17، 20
دليل التمانع، 2/24، 31
دليل الخطاب، 2/302
الدنيا، 1/439
الدنيائية، 2/133
الدواعي، 1/252، 264، 280، 294، 419، 2 / 12، 13، 18، 21، 32، 33، 60، 125، 129، 151، 161، 169، 189، 240، 244، 328، 329، 331، 335
دواعيه، 1/319
الدواء، 1/358، 2/157
الدِّين، 1/475، 2/75، 363، 365
ذائق، 1/174
الذات، 1/56، 67، 68، 69، 71، 78، 80،
ص: 419
82، 86، 127، 128، 139، 140، 147، 150، 166، 177، 193، 194، 224، 225، 233، 235، 238، 242، 251، 253، 254، 262، 279، 296، 300، 302، 304، 305، 306، 310، 316، 319، 335، 339، 340، 343، 364، 365، 366، 371، 373، 376، 379، 386، 392، 393، 404، 409، 418، 422، 2/12، 14، 15، 30، 31، 32، 33، 53، 77، 147، 183، 193، 197، 265، 318، 323، 324، 325، 334، 341، 346، 350، 351، 353، 354
ذات القديم، 2/272
الذات الواحدة، 1/68، 70، 148، 296،
297
الذات بالفاعل، 1/71
ذات حادثة، 1/341
ذاته تعالىٰ ، 1/336
الذاتيّة، 1/258، 2/270
الذِّكر، 1/272، 463، 2/263، 268
الذمّ ، 1/352، 440، 441، 2/41، 42، 44، 74، 75، 81، 90، 133، 142، 248، 320، 321، 360، 365
ذنب، 1/476
ذنوب، 2/86
الذوات، 1/61، 73، 132، 139، 141، 157، 240، 243، 261، 262، 294، 299، 300، 301، 302، 303، 336، 362، 366، 367، 375، 376، 379، 391، 392، 394، 398، 413، 444، 467، 2/92، 188، 197، 226، 232، 295، 300
الذوات الباقيات، 1/58
الذوات الباقية، 1/67
الذوات الكثيرة، 1/148
الذوات المحدَثة، 1/193، 194
الذوات المختلفة، 1/315
الذوق، 1/174، 175، 454، 455
رازق، 2/278
الرَّحمٰن، 1/465
ردّ الوديعة، 2/103، 144، 146
الرسول، 2/255، 263
الرسوم، 2/309
الرضا، 2/174، 175، 205
الرطوبة، 1/134
الرعيّة، 1/100، 101
الرقّة، 1/414، 416، 424
الرَّمد، 2/45
الروائِح، 1/174، 359
الروح، 2/53
الرؤية، 1/301، 405، 407، 408، 410، 411، 412، 413، 414، 415، 419، 433، 435، 436، 437، 438، 439، 440، 442، 444، 446، 450، 452، 453، 454، 456،
ص: 420
457، 458، 460، 461، 462، 463، 464، 465، 466، 469، 470، 472، 474، 475، 476، 477، 478، 479، 480، 2/227
الرياء، 2/146
الريح، 2/237
الريشة، 1/208
زِئبَق، 1/208
الزاني، 2/215
الزُّرقة، 1/412
الزمان، 1/95، 2/271
الزيادة، 2/179
الساكت، 2/281
ساكن، 2/277، 291
السامِع، 1/174، 175، 2/43، 252
الساهي، 1/106، 107، 108، 320، 2/29، 73، 77، 128، 139، 244، 308، 327،
337
السبب، 1/76، 89، 216، 218، 276، 2 / 49، 50، 1120، 163، 165، 166، 167، 178، 201، 206، 235، 353، 359، 362
السجود، 2/67
السحّارة، 1/206، 207
السَّدَر، 1/358
السرعة، 2/298
السرور، 1/350، 2/178
السَّعة، 1/412
السُّكر، 1/131
السكوت، 2/273، 275، 278، 279، 280، 281، 282، 283، 284، 285، 286، 297
السكون، 1/81، 130، 374، 377، 2/21، 169، 235
السلامة، 1/455، 2/151
السماوات، 2/255، 308
السماء، 1/382، 2/297، 298
السمع، 1/163، 359، 360، 452، 454، 456، 457، 475، 2/38، 67، 97، 98، 122، 151، 205، 206، 236، 295، 364
السُّمعة، 2/146
سميع، 1/156، 172، 173، 174، 245، 442، 2/53
السواد، 1/56، 58، 62، 63، 65، 66، 68، 79، 80، 109، 134، 165، 213، 240، 253، 257، 294، 296، 302، 309، 310، 312، 315، 329، 331، 332، 334، 336، 337، 340، 346، 363، 364، 367، 387، 388، 430، 437، 434، 449، 2/45، 54، 194، 199، 200، 242، 268، 272، 281، 295، 318، 325، 326، 355
السوادَين، 1/314
السؤال، 2/242
السهو، 1/108، 149، 2/61، 121، 169، 178، 360
ص: 421
شامّ ، 1/174
الشاهد، 1/117، 127، 137، 142، 143، 249، 251، 318، 342، 379، 398، 434، 445، 2/48، 86، 110، 127، 129، 130، 204، 208، 209، 211، 225، 265، 266، 271، 272، 279، 280، 284، 285،
286
الشبهة، 2/90
الشرّ، 2/40، 42، 43، 44، 48، 49
الشرائط، 1/408، 2/335، 344
الشرائع، 2/254
الشُّرب، 2/60
الشرط، 1/63، 170، 171، 177، 187، 220، 223، 228، 229، 231، 319، 320، 343، 376، 393، 407، 408، 445، 446، 450، 451، 456، 2/119، 168، 176، 179، 218، 332
الشرط المتجدّد، 2/217
شرط معقول، 1/230
الشرع، 2/67، 75، 98، 217، 242
الشرق، 1/380
الشرور، 2/49
الشروط، 1/170، 171، 387، 411، 412، 431، 434، 2/102، 117، 155، 329،
334
الشعاع، 1/417، 431، 433، 451
الشَّعر، 1/363
الشكّ ، 1/402، 411، 416، 450، 452، 453، 474، 475، 2/38، 49، 109، 122
الشكر، 2/66، 363، 364، 365
شكر المرشد، 2/133
شكر النعم، 2/62
شكر النعمة، 2/103، 104
الشَّم، 1/174، 175، 454، 455، 466
الشهوات، 1/353، 355، 2/63، 64، 106، 180
الشهوة، 1/164، 175، 349، 350، 353، 354، 355، 356، 358، 360، 2/63، 87، 88، 145، 150، 156، 157، 158، 159، 160، 173، 179، 339
الشيخ الهَرِم، 1/354
الصانع، 1/131، 2/63
صانع العالَم، 1/187، 193، 225
الصحّة، 1/145، 275، 300، 2/109، 110،
259
صحّة الفعل، 1/257
الصحيح، 2/44، 315
الصدق، 2/43، 80، 89، 92، 115، 116، 123، 124، 125، 126، 127، 131، 132، 254، 256، 310
الصدقة، 2/146
الصَّدىٰ ، 2/224، 239، 247، 283
ص: 422
الصغائر، 1/476، 2/174
الصغائر من الذنوب، 2/60
الصغير، 1/271
الصغيرة، 2/78
الصفات، 1/75، 76، 118، 139، 166، 254، 255، 295، 299، 302، 309، 317، 336، 343، 362، 364، 374، 378، 379، 380، 386، 387، 391، 399، 402، 407، 410، 418، 468، 2/16، 32، 33، 53، 147، 193، 199، 267، 271، 281، 290، 303، 317، 326، 345، 348
صفات الأفعال، 1/293
صفات الذات، 1/310
الصفات الذاتيّة، 1/307، 343، 2/31
صفات العِلل، 1/56
الصفات المختلفة، 1/297
الصفات المستحقّة، 1/312
الصفات المعقولة، 1/257
الصفات المعيّنة، 2/87
صفات ذاته، 1/403
صفاته الذاتيّة، 1/379
صفات النفس، 1/56، 57
الصفات النفسيّة، 1/303، 311، 2/9، 10، 25، 32، 267
صفته الذاتيّة، 1/277، 303، 378، 379،
444
صفته النفسيّة، 1/285
صفته تعالَى الذاتيّةُ ، 1/245
الصفة، 1/123، 298، 300، 309، 310، 311، 316، 317، 319، 328، 330، 343، 355، 389، 407، 417، 456، 459، 461، 2/198، 253، 270، 332، 351
الصفة الثابتة، 1/77
صفة الذات، 1/344
الصفة الذاتيّة، 1/248، 305، 306، 343
الصفة المتجدِّدة، 1/113، 295
الصفة المنفيّة، 1/445
صفة النفس، 1/307، 2/259
الصفة النفسيّة، 1/307، 409، 2/257،
281
الصفة الواجبة، 1/309
الصفيحة، 1/209، 210
الصلاح، 1/355، 358، 359
الصلاة، 2/67، 76، 160
الصلاة على الموتىٰ ، 2/76
الصنائع، 1/131
الصنائع المُحكمَة، 1/232
الصناعة، 2/229
الصوارف، 2/328، 329، 337
الصوت، 1/58، 157، 158، 159، 453، 455، 2/200، 219، 231، 233، 234، 235، 236، 237، 266، 280، 294، 296،
ص: 423
352
الصُّوَر، 1/74، 359
الصورة، 1/234
الصوم، 2/157
الصيام، 2/76
الصيغة، 1/234
الصيغة المخصوصة، 2/153
الضدّ، 1/58، 59، 60، 67، 69، 183، 255، 283، 288، 370، 433، 2/10، 100، 121، 160، 169، 353
الضدّين، 1/95، 192، 279، 313، 315، 345، 384، 416، 2/21، 22، 31، 108، 110، 160، 161، 169، 187، 188، 189، 190، 193
الضرب، 1/342، 2/239، 293
الضرر، 1/352، 354، 2/21، 45، 50، 80، 84، 89، 92، 105، 130، 132، 133، 150، 210
ضروريّ ، 2/103
الضرير، 1/173، 413، 420-422
الضعيف، 1/108، 198، 2/23، 24، 29،
214
الضيق، 1/412
الطاري، 1/69
الطاعات، 2/202، 209، 215
الطاعة، 1/101، 2/207، 212
الطبع، 1/120، 2/40، 41، 158
طريقة النظر، 1/251
الطعام، 1/448
الطعم، 1/315، 449
الطعوم، 1/114، 163، 174، 374، 454، 455، 456، 2/63، 231، 289
الطفل، 2/78، 99، 276
الطلب، 2/242
طلب المعرفة، 1/253
الطول، 1/394، 395، 396
الطين، 1/356، 357
ظانّ ، 2/139، 149
الظلم، 1/84، 86، 287، 288، 445، 2 / 22، 23، 43، 77، 82، 84، 85، 86، 87، 88، 90، 91، 93، 94، 98، 105، 108، 110، 113، 115، 124، 126، 180، 204، 214، 321
الظلم القبيح، 2/79، 106
الظلمة، 2/40، 41، 42، 43، 45، 46
الظنّ ، 1/130، 131، 132، 251، 472، 478، 481، 2/121، 137، 312
العاجز، 1/150، 151، 306، 2/42، 214، 222، 276، 339
العادات، 1/430، 2/91
العاصي، 2/143، 208
العاقل، 1/83، 85، 110، 342، 432، 2 /
ص: 424
80، 84، 85، 129، 248، 258
العاقل المميّز، 1/353
العالِم، 1/109، 113، 128، 133، 134، 135، 137، 138، 145، 146، 147، 149، 150، 160، 161، 187، 202، 232، 230، 233، 236، 237، 244، 245، 247، 255، 258، 266، 267، 271، 272، 273، 274، 275، 288، 293، 294، 297، 307، 312، 319، 324، 327، 328، 329، 330، 332، 334، 335، 337، 340، 342، 344، 379، 384، 389، 442، 449، 2/18، 20، 23، 60، 78، 80، 115، 122، 130، 141، 142، 146، 165، 177، 182، 198، 238، 242، 257، 258، 269، 270، 275، 290، 297، 333، 334، 344
العالَم، 1/193، 200، 2/41، 63، 64، 66، 178، 248
عالِم لذاته، 1/327
العامّة، 2/216
العباد، 1/106، 2/238
العِبادات، 2/76
العبادة، 1/293، 476، 2/62، 63، 64، 65، 66، 67، 142، 206، 363، 364
العِبارات، 1/339، 2/110، 213، 228، 276، 288، 289، 329
العِبارات الوضعيّة، 2/288
العبارة، 1/259، 260، 2/54، 2/160، 210، 227، 230، 231، 261
العَبَث، 1/246، 2/77، 203، 206
العبد، 1/100، 101، 2/336، 340، 363
العَجز، 1/279، 322، 445، 2/339
العَدل، 2/11، 71، 85، 87، 88، 124، 126، 180، 315
العدم، 1/61، 64، 72، 77، 78، 164، 179، 180، 183، 184، 185، 186، 188، 189، 212، 233، 259، 375، 387، 457، 459، 2/76، 77، 92، 93، 94، 193، 281، 324، 329، 346، 350، 351، 355
عَدَم الإرادة، 1/187
العذاب، 1/481، 2/106، 133، 205
العربيّة، 2/262
العربيّةِ ، 1/446
العَرش، 1/380، 381، 382
[عَرشُ ] اللّٰه، 1/381
العَرْض، 1/394، 395، 396
العَرَض، 1/59، 87، 88، 89، 225، 251، 261، 377، 386، 451، 458، 2/152، 198، 223، 243، 286، 290، 347
العُرف، 2/242، 263، 312
العزم، 2/175، 308
العقاب، 1/232، 2/133، 143، 144، 180،
364
ص: 425
العقاب الدائم، 2/363
العقل، 1/85، 110، 131، 132، 137، 259، 272، 317، 419، 424، 2/79، 97، 103، 104، 205، 366
العقول، 1/73، 477، 2/36، 37، 41، 42، 87، 88، 89، 129
العَكس، 1/106
العِلَل، 1/144، 240، 309، 310، 319، 364، 365، 371، 389، 393، 2/34، 84، 93، 96، 125، 156، 165، 186، 187، 200، 233، 279، 335
العِلم، 1/59، 67، 68، 112، 113، 129، 130، 131، 132، 137، 140، 145، 146، 147، 148، 150، 158، 160، 162، 181، 185، 200، 201، 202، 217، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 237، 238، 240، 244، 245، 248، 251، 252، 255، 257، 262، 263، 267، 268، 269، 270، 272، 273، 274، 276، 278، 279، 280، 282، 283، 284، 285، 287، 288، 289، 290، 294، 304، 310، 312، 313، 315، 316، 317، 318، 319، 321، 322، 323، 327، 330، 331، 332، 334، 335، 336، 337، 338، 340، 341، 342، 344، 369، 375، 376، 385، 389، 420، 421، 422، 423، 425، 427، 428، 429، 430، 432، 443، 449، 460، 472، 478، 480، 2/12، 23، 25، 33، 34، 36، 38، 44، 46، 51، 53، 62، 79، 80، 83، 85، 86، 93، 94، 97، 98، 108، 121، 124، 130، 133، 140، 146، 148، 150، 151، 156، 162، 165، 172، 180، 188، 190، 199، 204، 224، 226، 227، 228، 234، 238، 244، 269، 270، 271، 273، 282، 289، 290، 291، 301، 303، 308، 312، 321، 337، 339، 354، 360، 362
عِلمَ استدلال، 1/84
العِلم الأوّل، 1/234، 235، 236، 270
العِلم الحال، 1/257
العلم الضروري، 1/85، 161، 427، 2 / 33، 79، 86، 90، 91
العِلم القديم، 1/173، 306، 309، 324،
346
العِلم المُكتَسَب، 1/161
العِلم الواحد، 1/322
عِلم جُمَل، 1/85
عِلم مُحدَث، 1/272، 273، 275، 324،
325
عِلم معدوم، 1/324
عِلم مُفرَد، 1/330
العلم مُكتَسَب، 2/79، 271
عِلم يقين، 1/481
ص: 426
العلوم، 1/85، 126، 214، 225، 232، 273، 275، 315، 323، 325، 336، 337، 410، 422، 428، 2/36، 61، 87، 121،
122
العلوم الثلاثة، 1/86
العلوم الضروريّة، 1/323، 415
العلوم المتماثلة، 1/236
العلوم المُحْدَثة، 1/325
العلوم المستقرّة، 1/73
علوم قديمة، 1/324
العلّة، 1/55، 76، 80، 81، 94، 111، 141، 181، 207، 209، 210، 212، 222، 225، 250، 269، 300، 306، 309، 310، 328، 330، 387، 389، 430، 433، 459، 461، 2/34، 76، 81، 83، 86، 93، 95، 96، 102، 119، 124، 125، 127، 146، 165، 166، 186، 198، 209، 231، 235، 272، 281، 334، 335، 339، 350، 361
العلّة الحقيقيّة، 2/186
العلّة الموجبة، 1/82، 309، 2/129
العليل، 1/356، 2/44
العُمق، 1/394، 395، 396
العِوَض، 2/72، 87
عون اللّٰه، 2/100
العَين، 1/401، 413، 432، 433، 466
العَين العَوراء، 2/283
العيون، 1/412
الغائب، 1/249، 250، 323، 328، 342، 410، 2/127، 130، 211، 225، 266، 284، 285، 286
الغرب، 1/380
الغرض، 2/128، 180، 215
الغصب، 2/44
الغمّ ، 1/350، 471
الغَناء، 1/247
الغَني، 1/293، 297، 350، 2/23، 115، 123، 130، 333
الغِنىٰ ، 2/124
الغَيبة، 1/398، 399، 410
غير متناهية، 1/196
غير محل، 1/326، 2/273
الغيريّة، 1/343، 2/268، 270، 272
الفاسد، 1/66، 70، 2/315
الفاعل، 1/55، 62، 66، 88، 90، 91، 92، 95، 110، 113، 123، 125، 143، 192، 194، 221، 222، 223، 224، 253، 254، 255، 263، 265، 267، 269، 294، 300، 319، 325، 326، 327، 337، 352، 364، 371، 373، 397، 2/15، 22، 33، 44، 46، 48، 84، 87، 94، 95، 119، 125، 145، 149، 156، 166، 167، 174، 183، 191، 204، 231، 291، 292، 293، 318،
ص: 427
319، 321، 323، 344، 345، 346، 348، 349، 350، 352
الفاعل للجوهر، 1/75
الفاعل للمحكم، 1/231
الفاعل لما هو عليه، 1/62
الفاعل لنفسه، 1/62
الفاعلين، 1/263، 264
الفروق، 1/261
الفساد، 1/70، 71، 90، 214، 253، 355، 2 / 110
فِسق، 2/74
الفَصل، 2/34، 184، 191
الفعّاليّة، 2/367
الفعل، 1/102، 108، 110، 111، 113، 117، 118، 119، 120، 121، 122، 123، 124، 125، 126، 128، 129، 130، 131، 132، 135، 143، 148، 149، 168، 181، 188، 189، 200، 202، 211، 214، 228، 229، 231، 239، 240، 244، 246، 250، 251، 252، 256، 257، 266، 276، 289، 318، 319، 326، 319، 331، 337، 352، 354، 355، 373، 380، 386، 392، 408، 2/12، 13، 17، 18، 20، 24، 26، 27، 29، 30، 34، 40، 73، 76، 82، 84، 85، 94، 95، 96، 99، 100، 102، 103، 125، 131، 132، 134، 137، 138، 142، 143، 146، 148، 149، 158، 164، 166، 168، 169، 174، 176، 178، 188، 189، 197، 201، 202، 203، 204، 207، 218، 276، 317، 318، 319، 320، 322، 326، 327، 328، 329، 330، 331، 332، 333، 336، 337، 340، 342، 343، 344، 345، 346، 357، 360، 362، 363
الفعل المحكم، 1/127، 128، 129، 131، 132، 135، 143، 274، 313، 317، 318، 327، 329، 330، 331، 332، 333، 2 / 167، 183
الفعل الواجب، 1/441، 2/106
الفعل مُبتَدأ، 2/166
الفعل متجدّد، 1/294
الفعل متولّد، 2/166
الفعليّة، 2/244، 249، 293، 303، 317،
318
فَعيل، 1/396
فَقد العِلم، 1/149
الفكر، 2/49، 151، 226، 227، 230، 308
الفكرة، 2/47، 49
الفناء، 1/452
القائم بنفسه، 1/397
القادر، 1/89، 95، 108، 113، 118، 120، 121، 122، 125، 128، 129، 133، 137، 138، 141، 142، 145، 146، 148، 149،
ص: 428
150، 151، 164، 168، 179، 187، 189، 192، 193، 197، 201، 221، 222، 224، 225، 228، 229، 246، 247، 250، 252، 253، 256، 258، 264، 265، 271، 275، 276، 278، 281، 282، 283، 297، 300، 303، 306، 307، 309، 312، 320، 322، 325، 326، 327، 335، 337، 344، 346، 351، 384، 392، 442، 449، 459، 2 / 9، 10، 11، 13، 14، 15، 16، 17، 24، 25، 26، 28، 29، 53، 64، 65، 105، 106، 107، 117، 118، 120، 121، 150، 183، 188، 238، 242، 266، 269، 270، 275، 290، 297، 322، 329، 330، 332، 335، 338، 343، 344، 346، 347، 349، 360،
362
القبائح، 1/360، 440، 2/82، 83، 84، 87، 97، 99، 103، 104، 128، 129، 174، 180، 203، 205، 206، 255
القبائح الشرعيّة، 2/82، 98
القبائح العقليّة، 2/98
القبح، 1/250، 292، 360، 452، 2/76، 77، 86، 92، 94، 96، 100، 102، 104، 124، 125، 130، 131، 145، 204، 206، 360، 365
قبح السمعيّ ، 2/82
قبح الظلم، 1/270، 2/87، 98
قبح العقليّ ، 2/82
قبح العقليّات، 2/98
قبح الفعل، 2/95
قبح القبائح، 2/79، 90، 95، 98، 99، 101
قبح القبيح، 2/38، 87، 97، 333
قبح الكَذِب، 1/250، 2/124
قبح المعدوم، 2/100
قبح شرب الخمر، 2/98
قبلة، 2/67
القبيح، 1/246، 360، 452، 2/20، 42، 43، 45، 46، 49، 61، 67، 71، 74، 76، 77، 78، 81، 82، 83، 88، 90، 91، 92، 93، 94، 97، 99، 101، 106، 107، 108، 109، 123، 127، 128، 129، 130، 132، 142، 185، 203، 204، 209، 248، 252، 320، 333، 334، 365، 366، 367
القتل، 2/91
القَدْح، 1/478، 2/21
القُدَر، 1/108، 118، 189، 196، 197، 198، 201، 211، 212، 213، 214، 222، 223، 264، 275، 276، 280، 321، 326، 367، 410، 415، 2/16، 117، 154، 168، 195
القَدْر، 1/134، 458، 2/24، 268
القُدرة، 1/75، 129، 140، 142، 144، 145، 146، 147، 164، 171، 188، 196، 197،
ص: 429
199، 200، 211، 215، 216، 218، 222، 223، 228، 229، 230، 246، 247، 256، 257، 262، 263، 264، 265، 266، 267، 273، 276، 278، 279، 280، 285، 288، 289، 290، 307، 320، 321، 322، 323، 326، 329، 340، 369، 373، 374، 376، 391، 2/17، 30، 51، 64، 105، 108، 117، 135، 143، 154، 155، 162، 166، 188، 196، 197، 204، 224، 226، 269، 270، 275، 276، 277، 289، 290، 303، 322، 328، 332، 336، 337، 339، 340، 343، 347، 348، 349، 350، 352، 353، 354، 359، 363
القدرة المعدومة، 1/212، 2/342
القدرة الموجودة، 1/212
قدرة مُحدَثة، 1/272
القِدَم، 1/259، 290، 306، 307، 316، 320، 452، 2/10، 20، 31، 50، 53، 76، 77، 264، 265، 280، 286، 302
قِدَم الأعراض، 1/59
قِدَم الجوهر، 1/72، 392
قِدَم الذات، 2/265
قِدَم القرآن، 2/225
قِدَم الكلام، 2/287
قِدَم الكَون، 1/59
القدير، 2/62
القديم، 1/55، 56، 57، 58، 59، 61، 87، 88، 101، 104، 105، 114، 120، 124، 142، 152، 154، 157، 193، 195، 223، 233، 260، 261، 262، 266، 297، 298، 302، 306، 320، 386، 388، 391، 409، 434، 450، 457، 2/20، 30، 33، 34، 35، 38، 47، 53، 54، 59، 62، 66، 113، 135، 136، 248، 264، 273، 297، 281، 287، 300، 303، 330، 317، 336، 347، 352، 357
القديمِ الأوّل، 1/55
القديم تعالىٰ ، 1/60، 132، 133، 142، 143، 144، 149، 152، 154، 169، 172، 174، 175، 176، 195، 196، 250، 265، 267، 270، 277، 280، 284، 285، 289، 296، 298، 300، 301، 311، 322، 334، 336، 340، 350، 376، 388، 393، 398، 408، 412، 416، 418، 434، 440، 446، 456، 2/20، 22، 48، 59، 60، 61، 85، 90، 96، 111، 131، 142، 160، 173، 187، 195، 196، 211، 214، 247، 256، 269، 272، 275، 277، 279، 280، 284، 301، 303، 317، 331، 336، 349، 354، 357، 359، 365
قديمة، 1/254، 261
القديمَين، 1/306، 2/25، 30
ص: 430
القُرب، 1/374، 377، 414، 416، 455
القريب، 1/411، 417
القَسَم، 2/242
القصد، 1/135، 223، 2/22، 77، 78، 153، 175، 180، 241، 334، 345، 347،
360
القصود، 2/244
القضاء، 1/344، 2/27، 185
قضاء الدَّين، 2/103، 144، 145، 180، 209، 217
القعود، 1/99، 103، 2/313
القلب، 1/257، 369، 2/122، 136، 137، 151، 159، 165، 168، 294، 355، 357،
358
قلب الحقيقة، 1/458
القلوب، 2/226
القوابل، 1/314
القول، 1/262، 2/136، 292، 293، 299،
300
القول بالاثنَين، 2/39، 40
القول في الآلام، 2/39
القوّة، 1/120، 401
القوي، 1/198
القياس، 1/250، 2/213
القيام، 1/99، 103، 2/313
القَيد، 1/415
الكائن، 2/96، 291
كاره، 1/240، 245، 293، 295، 2/35، 36، 160، 163، 181، 192، 344
الكتابة، 1/102، 131، 169، 201، 232، 2 / 222، 224، 228، 293، 296
الكُتُب، 2/254
الكثافة، 1/416
الكثيف، 1/417
الكُحل، 1/412
الكذّاب، 2/115، 116
الكَذِب، 1/250، 2/43، 80، 82، 89، 92، 99، 104، 123، 124، 125، 126، 127، 128، 131، 254، 255، 256، 310، 311،
367
الكراهة، 1/109، 164، 183، 224، 279، 304، 384، 2/12، 13، 22، 31، 32، 44، 96، 122، 135، 138، 157، 160، 163، 171، 176، 188، 193، 195، 337
الكراهية، 2/214، 328، 329
الكسب، 1/110، 426، 2/336، 337، 361، 362، 363
الكفّارات الثلاث في الأَيمان، 2/75
الكفر، 2/74، 82، 93، 205، 209، 216، 363، 364
الكلام، 2/220، 224، 227، 229، 230، 234، 235، 236، 239، 241، 242، 243،
ص: 431
246، 247، 248، 249، 251، 252، 253، 254، 258، 264، 265، 266، 270، 272، 273، 274، 277، 278، 279، 280، 281، 282، 283، 285، 287، 290، 292، 295، 296، 299، 300، 301، 303، 304، 311
الكلام المستعمل، 2/241
الكلام المعقول، 2/265، 267، 286
الكلام المفيد، 2/242
الكلام المهمل، 2/241
كلام مُحدَث، 2/261
الكلمة، 2/53، 237
كمال العقل، 1/272
الكُنية، 1/398
الكواكِب، 1/431
كوكب، 1/477
الكَون، 1/75، 78، 80، 88، 89، 90، 92، 114، 185، 214، 219، 220، 221، 374، 375، 385، 2/96، 118، 119، 120، 199، 242، 301، 354
لا تتناهىٰ ، 1/321، 324، 340، 2/256
لا في مَحَلّ ، 1/325
اللام، 2/206
لا نهاية له، 1/321، 335
لا يَتَناهىٰ ، 1/309، 2/24
لا يُعقَل، 1/413
اللَّبس، 1/364، 432، 2/87، 203، 204،
222
اللِّحية، 1/363
اللذّات، 1/454، 2/357، 364
اللذّة، 1/175، 349، 455، 2/43، 47، 48،
120
اللسان، 2/293
اللطافة، 1/201، 216، 218، 414، 424
اللطف، 2/72، 296
اللغات، 2/56، 149، 240، 288، 297
اللغة، 1/260، 338، 339، 382، 401، 402، 435، 469، 480، 2/56، 240، 241، 242، 245، 288، 308
لغة العرب، 1/402، 437
اللغة العربيّة، 2/288، 297، 311
اللفظ، 1/468، 2/153، 154، 203
اللَّقَب، 1/394، 398، 400، 401، 2/241
اللمس، 1/79، 455
اللون، 1/77، 78، 79، 80، 92، 103، 362، 2/231، 233، 234، 242، 362
لون الدَّم، 1/103
ألَم، 2/92
الماضي، 1/94، 95، 192، 234، 2/135، 136، 137، 159، 171
المأكول، 1/359، 2/157
المأكولات، 1/357
ما لا نهاية له، 1/95، 230، 2/28، 117
ص: 432
ما لا يتناهىٰ ، 1/191، 242، 243، 292، 323، 325، 2/16، 28، 29، 155، 187،
300
ما لا يُعقَل، 1/385
ما لا يكون، 2/156، 158، 159، 191
المالك، 2/86، 338
المأمور، 1/341
ما يُرىٰ و لا يَرىٰ ، 1/444
ما يُرىٰ و يَرىٰ ، 1/444
المانع، 1/200، 201، 210، 216، 218، 253، 283، 2/137، 237، 272، 291
مانع، 1/229، 283، 416
ما يُعقَل، 1/413
ما يقتضيه الفعل، 1/354
ما يكون، 2/156، 190
المباحثة، 2/361
المباشَر، 1/197، 264، 2/333، 358
المباشَرة، 1/70، 198، 199، 215
المبالغة، 1/396
المُبَرسَم، 2/221
المُبصِر، 1/174، 175
المُبصَرات، 1/173
المتجدِّد، 2/345، 354
المتجدّد الوجود، 1/260
المتحرِّك، 1/147، 296، 338، 2/83، 96،
353
مُتحرِّك، 1/262، 339، 2/277، 291
مُتحرِّكة، 1/238
متحيِّز، 1/63، 68، 76، 460، 2/231
متحيِّزة، 1/344
المتذكِّر، 1/272
المتَراخي، 2/164
المتصرِّف، 2/362
المتضاد، 1/282، 377، 2/44، 234
المتضادّات، 1/319، 2/234
متضادّتَين، 1/294
متضادّة، 2/119
متضادَّين، 1/313
المتعذِّر، 1/283
المتعلِّق، 1/285، 313، 2/345
متعلَّق الأمر، 1/328
متغايِر، 2/26
متقدِّم الوجود، 1/259
المتكلِّم، 2/222، 224، 238، 239، 241، 243، 244، 246، 247، 249، 251، 252، 253، 254، 257، 258، 259، 260، 261، 266، 267، 273، 275، 277، 278، 279، 280، 281، 284، 285، 293، 294، 303
متكوِّن، 2/291
المتماثِل، 2/155، 232، 235
متماثِلة، 2/119
متماثِلَين، 1/387
ص: 433
المتمنّي، 2/356
متناقِض، 1/89، 304
المتناولة، 1/437
المتناهي، 1/196، 424، 2/10
متولِّد، 1/197، 199، 264، 267، 278، 2 / 49، 118، 235، 283، 333، 335، 358،
359
المتولِّدات، 2/206، 362
متولِّدة، 1/198، 412، 2/238
المِثلَين، 1/313، 315، 365
المجاز، 1/395، 402، 462، 470، 2/52، 55، 138، 242، 263، 314، 315
المجازات، 2/263
المُجاوَرات، 1/217
المُجاوِرات، 2/234، 235، 355
المجاوَرة، 1/59، 64، 218، 363، 432، 2 / 59، 151، 234
مجرَّد الذات، 1/330
المجنون، 1/271، 2/221
المجوس، 2/47، 49
مجهول، 1/285
المحاذاة، 1/415، 2/301
المحاذيات، 1/218
المحاربة، 2/210
المحال، 1/60، 70، 379، 387، 388، 390، 393، 2/152، 155، 264، 293، 294
المحبّة، 2/171، 172، 173، 175، 205،
225
المحتاج، 1/320، 2/172، 234
المحجوب، 1/410
المُحدَث، 1/59، 85، 87، 88، 92، 99، 112، 152، 168، 191، 192، 195، 196، 197، 225، 230، 231، 233، 250، 273، 275، 288، 306، 320، 330، 336، 346، 351، 372، 383، 409، 410، 2/9، 23، 30، 47، 48، 54، 59، 62، 63، 71، 73، 76، 89، 92، 93، 94، 95، 191، 204، 253، 273، 274، 287، 317، 324، 330
المُحدِث، 1/99، 111، 112، 191، 193، 264، 266، 319، 331، 2/48، 49، 147، 316
المُحدَثات، 1/56، 191، 247، 311، 2 / 272، 297، 300، 301
مُحدِث العالَم، 1/105
مُحدَثة، 1/87، 254، 264، 276، 289، 2 / 89، 177
المُحِس، 1/176
المُحسِن، 2/133، 278، 320
المُحَسَّنات، 2/180
محصورات، 1/324
المُحكَم، 1/247، 408، 2/146، 148،
262
ص: 434
المُحكَم مِن الأفعال، 2/115
المَحَل، 1/88، 89، 111، 141، 143، 148، 203، 211، 222، 225، 253، 257، 258، 265، 267، 268، 276، 277، 278، 289، 315، 326، 369، 376، 378، 379، 384، 385، 387، 389، 390، 393، 410، 411، 434، 451، 455، 460، 2/16، 17، 31، 107، 117، 151، 154، 155، 156، 177، 194، 196، 198، 199، 200، 231، 232، 233، 247، 266، 274، 282، 283، 286، 290، 291، 292، 293، 296، 332، 345،
355
المُحيل، 2/26
مخاطِب، 2/179
المخالِف، 1/296، 298
المخالَفة، 1/343، 371، 2/211
مُخبِر، 1/245، 250، 251، 2/147، 179، 204، 258
المُخبَرات، 2/256
المختار، 1/192، 2/176، 335، 360، 361
المختلف، 2/155
المختلفة، 1/214
مُخَصِّص، 2/180
المخصوص، 2/121
مخلوق، 2/274، 308
المخلوقات، 2/302
المدافعة، 2/210
المدح، 1/328، 352، 439، 2/41، 42، 44، 74، 75، 142، 248، 303، 321، 360
المدرَك، 1/57، 162، 165، 170، 172، 176، 177، 231، 247، 334، 392، 407، 408، 420، 421، 423، 429، 453، 454، 456، 2/81، 103، 159، 223، 231، 232، 264، 281
المدرِك، 1/57، 158، 160، 161، 162، 164، 168، 172، 175، 176، 231، 242، 246، 293، 297، 305، 314، 363، 365، 366، 390، 394، 2/92، 150، 182، 191، 192، 260، 289
المدرَكات، 1/159، 163، 169، 175، 176، 240، 242، 245، 248، 253، 272، 301، 351، 390، 419، 420، 423، 426، 432، 453، 455، 2/32، 88، 97، 150، 157، 182، 231
مدرَكة، 2/236
المدَّعي، 2/288
المدلول، 1/319، 320، 366
المذاهب، 1/131، 411
المذاهب الباطلة، 1/426
المَذهَب، 2/121، 298، 308
المَرئي، 1/450، 451
المَرئيّات، 1/174، 431، 434، 449، 452،
ص: 435
461، 2/273
المراد، 1/183، 185، 186، 187، 202، 203، 449، 2/138، 139، 141، 142، 143، 145، 146، 157، 163، 164، 166، 167، 169، 176، 178، 337، 348
المرادات، 2/181، 182، 185، 187، 362
مربوب، 2/92، 94، 95، 204
المرشِد، 2/132
المريد، 1/128، 180، 181، 182، 183، 184، 185، 186، 188، 202، 224، 240، 245، 251، 293، 294، 295، 303، 384، 2/35، 36، 60، 137، 138، 139، 140، 141، 143، 146، 147، 148، 149، 150، 151، 152، 156، 157، 158، 160، 162، 163، 167، 169، 175، 177، 181، 182، 183، 184، 185، 186، 190، 192، 196، 238، 308، 334، 344، 348
المريض، 1/108، 118، 198، 353
المزاج، 2/41
مزيّة، 1/285
مسألة، 1/465
المسبَّب، 1/76، 89، 216، 2/50، 120، 163، 164، 165، 166، 167، 178، 201، 215، 352، 353، 359
المسببَّات، 2/352
المستحقّ ، 1/290، 2/44، 202، 203
المُستَحِقّ للعقاب، 2/143
المستحيل، 1/220، 241، 283، 417، 2 /
278
المستغني، 1/460، 2/332
المستقبَل، 1/94، 95، 192، 228، 232، 234، 325، 472، 2/60
المستقبَلة، 2/158، 184
المَسرور، 1/349
المسموع، 2/225، 226، 245، 246، 261، 281، 294
المسموعات، 1/173
المسموع المعقول، 2/265
المُسيء، 2/133، 320
المشاركة، 1/120، 312، 315، 363، 364
مشاهَد، 1/250
المشاهَدات، 1/430
المشاهَدة، 1/462
المُشَبِّه، 1/361
المشتَق، 1/262، 337، 338، 2/292، 293
المشتَهىٰ ، 1/449، 2/158، 180
المشتَهي، 2/43، 158، 339
المشرق، 1/373، 387
المشروب، 1/359، 2/157
المشروبات، 1/357
مشروط، 1/188، 2/192
المشَقّة، 2/323
ص: 436
المشيَّة، 2/217
مشيّة اللّٰه، 2/217
المُصاكّة، 1/221، 2/238
المصالح، 2/60، 72، 99
المصحِّح، 1/120، 168، 224، 344، 359، 377، 391، 392، 407، 457، 461، 2 / 37، 179، 181، 194، 347
المصروع، 2/245، 246
المصلَحة، 2/66
المضاد، 1/384
المضار، 1/349، 350، 351، 352، 2/49، 50، 125، 126، 131، 143، 176
المضرّة، 1/101، 358، 471، 482، 2 / 126، 132، 356، 364
المضطر، 1/322، 2/16، 106
المطيع، 2/106
المظنون، 1/449
المعارَضات، 2/284
المعاصي، 2/109، 203، 205، 208، 214،
215
المعانَدة، 2/210
المعاني، 1/74، 144، 153، 154، 214، 252، 254، 259، 261، 265، 281، 290، 292، 295، 307، 310، 311، 312، 314، 318، 323، 332، 337، 339، 342، 369، 372، 385، 394، 402، 407، 2/31، 52، 93، 100، 197، 226، 228، 238، 240، 241، 248، 249، 259، 272، 288، 289، 290، 291، 329
المعاني الحالّة، 1/332
المعاني القديمة، 1/290
المعاني المحدَثة، 1/84
المعبود، 2/63
المعتبَر، 2/148
المعتقَد، 1/271، 272، 325، 331، 449
معتقِد، 1/271، 303، 352، 2/139، 149،
160
المعتقَدات، 1/449، 2/183
المعجِز، 1/252، 2/116، 366
المعجِزات، 2/115، 255، 365
المعدوم، 1/73، 74، 123، 164، 170، 187، 219، 220، 231، 232، 233، 238، 255، 257، 398، 409، 2/15، 94، 119، 146، 258، 308، 324، 350، 351
المعدومات، 1/345، 413، 420، 443، 449، 450، 453
معدومة، 1/254، 256، 258، 267، 2/342
المعدة، 1/357، 358
المعرفة، 1/467
معرفة اللّٰه تعالىٰ ، 2/93، 98
المعصية، 2/111، 208
المعقول، 1/252، 378، 386، 2/228،
ص: 437
261، 265، 266، 267، 286
المعقول المسموع، 2/261
المعقولة، 2/351
المُعَلَّل، 2/146
المعلول، 1/76، 225، 328، 430، 2/165، 166، 186، 187
المعلوم، 1/157، 231، 232، 235، 237، 249-252، 263، 285، 287، 324، 330، 335، 336، 449، 2/35، 111، 139، 158، 160، 184، 245، 337، 355
المعلومات، 1/259، 272، 273، 274، 275، 276، 288، 315، 316، 321، 322، 324، 325، 335، 345، 346، 449، 453، 2/123، 182، 190، 283، 339
المعلوم الواحد، 1/322
المعلوم ضرورةً ، 2/11، 87
معلومٌ ضرورةً ، 1/100، 2/40، 46
معلوم واحد، 1/324
المعنىٰ ، 1/161، 223، 234، 259، 260، 261، 262، 310، 317، 319، 340، 372، 436، 469، 2/54، 160، 162، 173، 190، 192، 227، 231، 244، 261، 287، 299، 319
معنيان متماثِلان، 1/296
معنيان مختلِفان، 1/296
معنىً قديم، 1/310
المُغتَم، 1/349
المَغرِب، 1/373، 387
المفارقات، 1/318، 329
المفارقة، 1/338، 339
المفاسد، 2/99
المفتصد، 2/276
مفعول، 2/262
مفعول فيه، 2/285
مفكّر، 2/149، 308
المفلوج، 2/361، 362
المقابِل، 1/432، 434، 450، 458
المقابِلة، 1/433
المقابَلة، 1/434، 450، 451
المقتضي، 1/56، 63، 69، 91، 124، 131، 141، 148، 149، 155، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 170، 171، 173، 182، 194، 195، 223، 228، 231، 303، 311، 318، 343، 355، 372، 379، 390، 391، 408، 2/17، 29، 76، 83، 207
المقتضىٰ ، 1/306
المقتضيات، 1/170
المقدَّر، 2/137
المقدور، 1/172، 179، 196، 213، 228، 276، 285، 286، 289، 321، 322، 324، 335، 336، 413، 428، 449، 2/11، 12، 13، 16، 20، 21، 23، 27، 28، 29،
ص: 438
30، 31، 110، 140، 168، 195، 266، 319، 326، 329، 332، 333، 338، 340، 341، 342
المقدورات، 1/222، 274، 276، 280، 286، 321، 326، 335، 2/16، 17، 25، 107، 117، 118، 140، 182، 185، 366
المكان، 1/460، 2/271
المكتسِب، 2/90، 293
المكروه، 1/481
المكلَّف، 2/72، 206، 208
مكلِّم، 2/257
المكوَّنات، 2/300
الملتَبِس، 1/271
الملتَذّ، 1/175، 349
المَلِك، 1/100، 101، 2/209، 210
المِلك، 2/249، 338
المماثلة، 1/343، 2/92
المماسّة، 1/219، 373، 2/119، 168
المَمالِك، 1/353
الممانع، 2/27
الممدوح، 1/342، 445، 446
مملوك، 2/92، 94، 337
الممنوع، 1/122، 229، 2/16، 19، 28، 29، 179
المنازل، 1/353
المناظَرة، 2/210، 261، 361
المنافع، 1/349، 350، 352، 353، 2/124، 125، 126، 131، 132، 133، 364
المنافع الدنيائيّة، 2/132
المنافع الدينيّة، 2/132
المُنافي، 1/282
المُنتَفي، 1/260، 338
مُنَزَّل، 2/262
المنظور، 1/203
المنع، 1/122، 220، 283، 287، 2/22، 29، 188، 331، 353
مُنعِم، 2/278
المنفرِد، 1/220
المنفعة، 1/101، 482، 2/356
المنكر، 2/215
الموات، 2/95
المواضَعة، 2/137، 153، 223، 240، 241
المواضَعة المُبتَدأة الناقلة، 1/402
الموانع، 1/121، 165، 246، 392، 406، 407، 408، 411، 413، 414، 415، 416، 418، 419، 420، 429، 449، 453، 2 / 13، 81، 103، 236، 237، 316
الموت، 1/59، 67، 236، 2/239
الموتىٰ ، 1/225، 427
المؤَثِّر، 1/180، 184، 185، 186، 223، 230، 250، 297، 375، 407، 409، 2 / 26، 29، 37، 83، 86، 94، 96، 100،
ص: 439
102، 145، 146، 164، 185، 186، 202، 335، 351
مؤثِّر، 1/229، 376، 2/83، 99، 152
المؤَثِّرة، 2/137، 143
الموجِب، 1/56، 64، 69، 91، 287، 288، 303، 313، 359، 391، 2/18، 22، 96،
300
الموجَب، 1/287، 2/232
موجِد، 1/300، 311، 391
الموجود، 1/73، 74، 90، 128، 164، 231، 260، 261، 262، 330، 336، 409، 2 / 14، 54، 76، 146، 164، 191، 258، 294، 324
الموجودات، 1/420، 443، 446، 453،
461
موجوداً لذاته، 1/311
موجودة، 1/254، 261، 2/342
الموصوف، 1/460، 2/36
مُوَلِّد، 2/119
المُؤلَّف، 1/217
مؤَلَّف، 1/168، 397
المَولىٰ ، 1/100، 101
المؤمن، 2/365
الميِّت، 1/284، 2/222، 258، 278
النائم، 1/106، 107، 159، 2/73، 77، 78، 99، 136، 244، 245، 308، 327، 337
النار، 2/20، 21، 58، 65، 189، 363
ناظر، 1/303، 2/25، 150
نافر، 2/43، 339
ناقة اللّٰه، 2/57
النبات، 1/134
النبوّة، 2/98
النبي، 2/101، 366
النداء، 2/243
النَّدب، 2/99، 101، 103
النَّدَم، 2/122
النشور، 1/232
النضارة، 1/467
النظَر، 1/84، 162، 202، 203، 251، 253، 269، 272، 358، 462، 463، 464، 466، 469، 472، 474، 475، 2/98، 122، 173، 301، 308، 359
النَّعت، 2/296
النِّعَم، 1/472
النِّعَم المخصوصة، 2/66
النِّعمة، 1/401، 468، 2/63، 66، 78، 82، 84، 93، 95، 202، 296، 364، 365
النِّفار، 1/175، 349، 351، 355، 356، 358، 2/87، 88، 106، 157
النفخ، 1/205، 216
النِّفرة، 1/164
النفس، 1/56، 72، 194، 196، 222، 272،
ص: 440
274، 275، 276، 303، 328، 358، 374، 377، 2/26، 180، 181، 186، 192، 229، 230، 247، 253، 254، 257، 258، 259، 260، 265، 266، 272، 294
النَّفَس، 2/227
النَّفع، 1/250، 352، 2/21، 80، 86، 89، 105، 124، 125، 127، 128، 130، 131، 132، 150
النَّفْل، 2/163
النفور، 2/339
النفي، 1/124، 166، 175، 287، 298، 300، 340، 391، 419، 425، 439، 440، 441، 442، 445، 446، 462، 477، 2 / 71، 77، 91، 102، 108، 113، 272، 350
نفي السِّنة و النَّوم، 1/445
نفي الشبيه و الولد و الصاحبة، 1/444
نفي الصاحبة و الولد، 1/442
نفي القِدَم، 2/280
النقص، 1/440، 442، 2/185، 259
النقصان، 2/179
النقض، 1/253، 287
نقيض الشرط، 1/320
النوافِل، 2/160، 161، 163
النور، 2/40، 41، 42، 45، 46
النوع، 2/242، 265
النَّوم، 1/108، 109
النهي، 2/41، 42، 43، 95، 96، 97، 99، 100، 181، 204، 205، 242
الواجب، 1/70، 344، 440، 2/71، 82، 101، 103، 104، 133، 161، 163، 288، 320، 354
الواجبات، 2/209، 318
الواجبات نفسيّة، 1/311
واجب الوجود، 1/101
الواحد، 1/293، 297، 2/51، 158، 161،
354
الوجوب، 1/100، 101، 223، 227، 229، 275، 292، 293، 297، 309، 310، 388، 390، 2/148، 288، 320، 334، 335
وجوب الواجب، 2/91
وجوب وقوع الفعل، 1/102
الوجود، 1/62، 63، 68، 72، 76، 77، 79، 82، 94، 114، 120، 123، 164، 172، 173، 177، 182، 184، 186، 188، 194، 214، 233، 256، 257، 259، 277، 284، 289، 298، 299، 301، 302، 303، 311، 314، 323، 338، 343، 363، 365، 366، 375، 378، 379، 386، 391، 392، 457، 461، 2/28، 29، 30، 76، 77، 84، 92، 93، 113، 165، 326، 329، 330، 346،
351
وجود الجوهر، 1/172
ص: 441
وجود الضدَّين، 2/9
وجود القديم، 1/87
الوجود المطلق، 2/325
الوجوه، 1/468
الوجوه المخصوصة، 1/299
الوجه، 1/401، 402
الوصف، 1/261، 361، 468
الوضع، 2/289
الوعد، 1/441
الوفاق، 1/294، 304
الوقت، 2/117، 154، 155، 161، 232،
283
الوقوع، 1/352، 2/202
وقوع الفعل، 1/102
وقوع الفعل محكَماً، 1/130
وقوع ما يريده أهل الجنّة، 1/101
الوَلَد، 2/57، 66
وليُّ المؤمنين، 2/176
إله، 2/269
الهواء، 2/236
الهَيئة، 1/80
الهَيولىٰ ، 1/73، 74، 2/63
هَيولىٰ قديمة، 2/64
اليبوسة، 1/134
اليتيم، 2/43
اليَد، 1/401، 402
اليسار، 1/257
اليقين، 1/481، 2/312
اليمين، 1/257، 2/217، 218
أمر، 2/185
أوّل الأحياء، 1/132
إيجاب، 2/199
إيجاب الحال، 2/324
إيجاد، 1/340
إيمان، 2/209
ص: 442
1. أبكار الأفكار، سيف الدين الآمدي (623 ه)، تحقيق: أحمد محمّد المهدي، القاهرة: دار الكتب الوثائق القومية، 2002 م.
2. إشراق اللاهوت، سيّد عميد الدين عبيدلي (754 ه)، تصحيح: عليّ أكبر ضيائي، طهران:
ميراث مكتوب، 1381.
3. إصلاح تهذيب المنطق، يحيى بن عليّ الخطيب البغدادي، بيروت: مكتبة لبنان، ناشرون، 1420 ه.
4. أعيان الشيعة، السيّد محسن الأمين، حققه و أخرجه: حسن الأمين، بيروت: دار المعارف للمطبوعات.
5. الإرادة، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي (الشيخ المفيد) (م 413 ق)، قم:
المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفية الشيخ المفيد، 1413 ق.
6. الآراء و الديانات، أبو محمّد حسن بن موسى النوبختي.
7. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن عليّ بن محمّد بن حَجَر الشافعي العسقلاني (ابن حجر) (م 852 ه)، تحقيق: ولي عارف، بيروت: دار الفكر، 1403 ه.
8. الأعلام، خير الدين الزركلي (م 1410 ه)، مصر: المطبعة العربية، 1386 ه.
9. الاقتصاد في ما يتعلق بالاعتقاد، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (460 ه)، بيروت: دار الأضواء، 1406 ق.
ص: 443
10. الأمالي، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي (381 ه)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة و النشر في مؤسّسة البعثة قم المقدّسة، الطبعة الأُولىٰ ، 1417 ه.
11. الأمالي (غرر الفرائد و درر القلائد)، الشريف المرتضى عليّ بن حسين الموسوي البغدادي (معروف به علم الهدى) (م 426 ه)، تصحيح و تحقيق: السيّد بدر الدين النعساني الحلبي، قم: مكتبة السيّد المرعشي، 1403 ه.
12. الانتصار ممّا انفردت به الإماميّة، الشريف أبو القاسم عليّ بن الطاهر أبي أحمد الحسين (355 436 ه)، تحقيق و نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415 ه.
13. انوار الملكوت في شرح الياقوت، أبي منصور الحسن بن يوسف الحلي (م 726 ق)، تحقيق: محمّد نجمي الزنجاني، قم: الشريف المرتضى، 1363.
14. أوائل المقالات، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي (الشيخ المفيد) (م 413 ق)، تحقيق: إبراهيم الأنصاري، قم: المؤتمر العالمي بمناسبة ذكرى ألفية الشيخ المفيد، 1413 ق.
15. الباب الحادي عشر، الحسن بن يوسف الحلّي (648-726 ق)، شرح: الفاضل المقداد، طهران: مؤسّسة المطالعات الإسلاميّة، 1365.
16. بغية الطلب في تاريخ حلب، الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جَرادة المعروف بابن العديم، تحقيق: د. سهيل زكار، بيروت: دار الفكر.
17. تاج العروس من جواهر القاموس، السيّد محمّد المرتضى بن محمّد الحسيني الزَّبيدي (م 1205 ق)، تحقيق: عليّ شيري، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولىٰ ، 1414 ق.
18. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم و الملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (310 ه)، بيروت:
مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الرابعة، 1403 ه / 1983 م.
19. تأريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي (463 ه)، القاهرة: مطبعة السعادة، 1349 ه.
20. التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (م 460 ه)، تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأُولىٰ ، 1409 ه.
ص: 444
21. التذكرة الحمدونيّة، ابن حمدون محمّد بن الحسن بن محمّد بن عليّ (562 ه)، تحقيق:
إحسان عبّاس و بكر عبّاس، بيروت: دار صادر، الطبعة الأُولى، 1996 ه.
22. تصحيح اعتقادات الإماميّة، أبو عبد اللّٰه محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ق)، تحقيق: حسين الدرگاهي، بيروت: دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414 ق.
23. التعليق، قطب الدين محمد بن الحسن المُقري النيسابوري، تحقيق: د. محمود يزدي مطلق (الفاضل)، مشهد: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلاميّة، الطبعة الأُولى، 1427 ه.
24. تفسير البغوي (معالم التنزيل)، أبو محمّد الحسين بن مسعود الفرّاء البغوي (م 516 ه)، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك، بيروت: دارالمعرفة، الطبعة الثالثة، 1413 ه.
25. تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم، أبو النضر محمّد بن مسعود السلمي السمرقندي (العيّاشي) (م 383 ق)، تحقيق: مسعود مطرجي المحلّاتي، بيروت: دار الفكر، طهران:
المكتبة العلميّة، الطبعة الأُولىٰ ، 1380 ش.
26. تفسير السمعاني، منصور بن محمد بن عبد الجبّار بن أحمد التميمي السمعاني (489 ه)، تحقيق: ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عبّاس بن غنيم، الرياض: دار الوطن، الطبعة الأُولى، 1418 ه / 1997 م.
27. تفسير النسفي، أبو البركات عبد اللّٰه بن أحمد النسفي (م 537 ه)، بيروت: دارالفكر.
28. تفسير الواحدي، أبو الحسن الواحدي (م 468 ه). تحقيق: صفوان عدنان داوودي، بيروت: دارالقلم، الطبعة الاُولى، 1415 ه.
29. تقريب المعارف، أبو الصلاح تقيّ بن نجم الحلبي (م 447 ق)، تحقيق: فارس الحسّون 1417 ق.
30. تلخيص المحصّل، محمّد بن محمّد نصير الدين الطوسي (م 672 ق)، بيروت: دار الكتب العربي، 1404 ق.
31. التمهيد، أبو عمر يوسف بن عبد اللّٰه بن محمّد بن عبد البرّ (463 ه)، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي و محمّد عبد الكبير البكري، المغرب: وزارة عموم الأوقاف و الشؤون الإسلاميّة، 1387 ه.
ص: 445
32. تمهيد الاُصول في علم الكلام، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (460 ه)، تحقيق: عبد الحسين مشكاة الديني، طهران: جامعة طهران، 1362 ش.
33. تنزيه الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، علم الهدى علي بن الحسين الموسوي الشريف المرتضى (436 ه)، قم: منشورات الشريف الرضيّ .
34. التوحيد، أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه)، تحقيق: السيّد هاشم الحسيني، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي.
35. تهذيب اللغة، أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهري (م 370 ه)، تحقيق: عبد السلام هارون، مصر: دار القوميّة العربيّة، 1384 ه / 1964 م.
36. الثقات، محمّد بن حبان التميمي (م 354 ه)، تحقيق و نشر: مؤسّسة الكتب الثقافيّة، الطبعة الأُولىٰ ، 1393 ه.
37. جمهرة اللغة، أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي (321 ه)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، بيروت: دار العلم للملايين، الطبعة الأُولىٰ ، 1987 م.
38. الحدود، محمّد بن الحسن المقري النيشابوري، تحقيق: د. محمود يزدي مطلق (فاضل)، قم: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام، الطبعة الأُولى،، 1414 ق.
39. الخطط، عليّ بن أحمد المقريزي، لبنان: مكتبة إحياء العلوم، 1338 ه.
40. ديوان الأعشى، ميمون بن قيس الأعشى، بيروت: دار صادر، 1994 م.
41. ديوان أبو الطيّب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان، أحمد بن حسين المتنبي، القاهرة: مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
42. ديوان جميل بثينة، شرح و مراجعة و تقديم: عبد المجيط زراقط، بيروت: دار و مكتبة الهلال، 1422 ه.
43. ديوان زهير بن أبي سُلمىٰ ، زهير بن أبي سُلمىٰ ، بيروت: دار المعرفة، 1426 ه.
44. ديوان عامر بن الطفيل، محمّد بن قاسم ابن الأنباري، بيروت: دار الجيل، 1416 ه.
45. الذخيرة في علم الكلام، الشريف المرتضى أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي (436 ه)، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولىٰ ، 1411 ق.
ص: 446
46. الذريعة إلى أُصول الشريعة، الشريف المرتضى أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي (436 ه)، تحقيق: أبو القاسم گرجي، طهران: منشورات جامعة طهران، 1346 ش.
47. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهراني (1389 ه)، بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثالثة، 1403 ه.
48. ربيع الأبرار و نصوص الأخبار، أبوالقاسم محمود بن عمر الزمخشري (م 538 ه)، تحقيق:
سليم النعيمي، قم: منشورات الرضيّ ، الطبعة الاُولىٰ ، 1415 ه.
49. رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي (436 ه)، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، تقديم: السيّد أحمد الحسيني الأشكوري، قم: دار القرآن الكريم، الطبعة الأُولى، 1405 ه.
50. الرسائل العشر، أبو جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (م 460 ه).
51. رياض العلماء و حياض الفضلاء، المِيرزا عبد اللّٰه الإصفهاني الأفندي، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، قم: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، 1401 ق.
52. سرُّ الفصاحة، الأمير أبو محمد عبد اللّٰه بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1402 ه - 1982 م.
53. السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (303 ه)، تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري و سيّد حسن كسروي، بيروت: دار الكتب العلميّة، الطبعة الأُولىٰ ، 1411 ه - 1991 م.
54. سير أعلام النبلاء، أبو عبد اللّٰه محمّد بن أحمد الذهبيّ (م 748 ه)، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414 ه.
55. الشامل في أُصول الدين، أبو المعالي الجويني، تحقيق: عبد اللّٰه محمود محمّد عمر، بيروت:
دار الكتب العلميّة، 1999 م.
56. شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار، القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي (363 ه)، تحقيق: السيّد محمّد الحسيني الجلالي، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1414 ه.
ص: 447
57. شرح الأساس الكبير، شفاء صدور الناس بشرح الأساس، أحمد بن محمّد الشرفي، صنعاء:
دار الحكمة اليمانية، 1411 ه.
58. شرح الاُصول الخمسة، أحمد بن عبد الجبار الهمداني (م 415 ه)، تحقيق: عبد الكريم بن محمّد عثمان، القاهرة: مكتبة وهبة، 1384 ه.
59. شرح المقاصد، مسعود بن عمر التفتازاني (م 791 ق)، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، پاكستان: دار المعارف النعمانية، الطبعة الاولى 1401 ه. ق.
60. شرح المنظومة، ملا هادي السبزواري (1288 ه)، تصحيح و تعليق: آية اللّٰه حسن زاده آملي، طهران: نشر ناب، 1369-1379.
61. شرح المواقف، عليّ بن محمّد الجرجاني (م 816 ه)، قم: دار الكتب العلمية.
62. شرح جمل العلم والعمل، السيد المرتضى علي بن الحسين علم الهدى (م 436 ه)، تحقيق: كاظم مدير شانجي، مشهد: جامعة مشهد، 1352 ش.
63. شرح نهج البلاغة، عبد الحميد ابن أبي الحديد المعتزلي (م 656 ه)، تحقيق: محمّد أبوالفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربيّة، الطبعة الأُولى، 1378 ه / 1959 م.
64. شعر زهير بن أبي سُلْمىٰ ، الأعلم الشَّنتمري، شرح: فخر الدين قباوه، دمشق: دار الفكر، 2002 م.
65. الشفاء، الشيخ الرئيس ابن سينا (م 428 ه)، تحقيق و نشر: مكتبة آية اللّٰه المرعشي رحمه الله - قم.
66. شمس العلوم و دواء الكلام العرب عن الكلوم، نشوان بن سعيد الحِمْيري اليمني (م 573 ه)، تحقيق: حسين بن عبد اللّٰه العمري، و مطهّر بن عليّ الأرياني، و يوسف محمّد عبد اللّٰه، بيروت: دار الفكر، 1999 م.
67. شوارق الإلهام، عبد الرزّاق بن عليّ اللاهيجي (م 672 ق)، تحقيق: أكبر الأسدي عليّزاده، قم: مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، 1384 ش.
68. الصحاح (تاج اللغة و صحاح العربيّة)، إسماعيل بن حمّاد الجوهري (332-393 ه)، تحقيق:
أحمد عبد الغفور عطار، بيروت: دار العلم للملايين، [بالأُفست عن طبعة القاهرة، سنة 1376 ه / 1956 م].
ص: 448
69. صحيح البخاري، أبو عبد اللّٰه محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي (256 ه)، بيروت: دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع، 1401 ه / 1981 م.
70. الطبقات الشافعيّة، ابن قاضي شهبة الدمشقي (779-851 ه)، تحقيق: حافظ عبد العليم خان و عبد اللّٰه أنيس الطباع، بيروت: عالم الكتب، 1407 ه.
71. شرح العيون، (في ضمن كتاب: طبقات المعتزلة)، المحسن بن محمد بن كرامة الحاكم الجشمي، تحقيق: فؤاد السيد، تونس: الدار التونسية للنشر، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1406 ه / 1986 م.
72. طبقات المعتزلة، أحمد بن يحيى بن المرتضى، بيروت: دار المنتظر، 1988 م.
73. العين، أبو عبد الرحمٰن الخليل بن أحمد الفراهيدي (م 175 ه)، تحقيق: مهدي المخزومي، إبراهيم السامرائي، قم: دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1409 ه.
74. غنية النزوع إلى علمي الأُصول و الفروع، السيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبي (511-585 ه)، تحقيق: إبراهيم البهادري، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
75. فتح القدير، محمّد بن عليّ الشوكاني (م 1250 ه)، تحقيق و نشر: عالم الكتب.
76. فرائد الأُصول، الشيخ مرتضى الأنصاري (1214-1281 ه)، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
77. الفرق بين الفرق، ابو منصور عبد القاهر البغدادي، القاهرة، بى تا.
78. الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد اللّٰه العسكري (م 1395 ه)، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
79. فرهنگ جامع فرق اسلامى، سيد حسن روحانى، سيد حسن خمينى، تهران: بامداد كتاب، 1381.
80. الفصول المختارة، الشيخ المفيد، تحقيق: مجموعة من المحققين، بيروت: دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414 ه / 1993 م.
81. الفهرست، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (م 460 ه)، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، قم: نشر الفقاهة، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
ص: 449
82. الفهرست، أبو الفرج محمّد بن أبي يعقوب إسحاق النديم (م 438 ه)، تحقيق: رضا تجدّد، طهران: الطبعة الأُولى.
83. فهرست (رجال) النجاشيّ ، أبو العباس أحمد بن علي النجاشي الأسدي، تحقيق: آية اللّٰه السيّد موسى الشبيري الزنجاني، قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الثامنة، 1427 ه.
84. القاموس المحيط، مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروز آبادي (729-817 ه)، بيروت: دار الكتب العلميّة، 1415 ه.
85. الكامل في الاستقصاء فيما بلغنا في كلام القدماء، مختار بن محمود العجالي، القاهرة:
المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، 1420 ه.
86. الكتاب، عمرو بن عثمان سيبويه، القاهرة: مكتبة الخانجي، الطبعة الثالثة، 1408 ه.
87. مجلة كتاب شيعة، تصدر عن مؤسسة تراث الشيعة - قم المقدسة، العدد المزدوج 10-9 (عدد خاص بألفية الشريف المرتضى)، سنة 1393 ش.
88. الكراجكي، جعفر المهاجر، قم: مؤسسة تراث الشيعة.
89. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي (م 726 ه)، تحقيق: السيّد إبراهيم الموسوي الزنجاني، قم: انتشارات اشكوري، الطبعة الرابعة، 1373 ش.
90. الكشف و البيان (تفسير الثعلبي)، أبو إسحاق أحمد بن محمّد المعروف بالثعلبي (م 427 ه.)، تحقيق: أبو محمّد بن عاشور، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1422 ه.
91. كنز الفوائد، الشيخ أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي، تحقيق: عبد اللّٰه نعمة، قم:
منشورات دار الذخائر، الطبعة الأُولى، 1410 ق.
92. لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري (630 - 711 ه)، قم: نشر أدب الحوزة، 1405 ه.
93. لسان الميزان، أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني (852 ه)، بيروت: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية، 1390 ه.
ص: 450
94. مجلّه العقيدة، تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية - النجف الأشرف، العدد الثالث (عدد خاص بألفية الشريف المرتضى)، سنة 1436 ه.
95. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي (م 1085 ه)، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، مطبعة المرتضوي، الطبعة الثانية، 1362 ش.
96. مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الإسلام أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (ق 6 ه)، تحقيق: لجنة من العلماء و المحقّقين مع تقديم السيّد محسن الأمين العاملي، بيروت:
مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأُولىٰ 1415 ه / 1995 م.
97. المحصل، فخر الدين محمّد بن عمر الرازي، مصر: مطبع الحسينة، 1323 ه.
98. المحكم و المحيط الأعظم في اللغة، أبو الحسن عليّ بن إسماعيل المعروف بابن سيدة (م 458 ق)، القاهرة: مطبعة مصطفى البابي.
99. المختصر في اُصول الدين، عبد الجبار بن أحمد القاضي، قم: دفتر تبليغات اسلامي، 1390.
100. المخصّص، ابن سيدة عليّ بن إسماعيل اللغوي، بيروت: دار الكتب العلميّة، 1426 ه.
101. مروج الذهب و معادن الجوهر، أبو الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعودي (346 ه)، تحقيق: يوسف أسعد داغر، قم: دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1404 ه / 1363 هش.
102. المسائل الطرابلسية الأولى (مخطوطة)، الشريف المرتضى، مصورتها محفوظة في مركز إحياء التراث الإسلامي - قم، برقم 1690/3.
103. مسائل المرتضىٰ ، شريف مرتضى عليّ بن حسين الموسوي البغدادي المعروف ب علم الهدى (م 426 ه)، تحقيق: وفقان خضير محسن الكعبي، بيروت: مؤسّسة البلاغ، 1422 ه.
104. المستفاد من ذيل تاريخ بغداد للحافظ ابن النجار البغدادي، أبي الحسن أحمد بن أيبك بن عبد اللّٰه الحسامي المعروف ب ابن الدمياطي، تحقيق: عبد القادر عطاء، بيروت: دار الكتب العلميّة، 1417 ه.
105. المسند، أحمد بن محمد الشيباني (ابن حنبل) (م 241 ه)، تحقيق: عبد اللّٰه محمّد الدرويش، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1414 ه.
ص: 451
106. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمّد المقرئ الفيّومي (م 770 ه)، بيروت: دار الفكر للطباعة و النشر.
107. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، الحافظ أحمد بن عليّ العسقلانيّ المعروف ب ابن حجر (م 852 ه)، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأُولى، 1414 ه.
108. معالم العلماء، محمّد بن عليّ بن شهر آشوب السروي المازندراني (م 588 ه)، تحقيق:
السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم، قمّ : [بالأُفست عن طبعة النجف].
109. المعتمد في اُصول الدين، محمود بن محمّد الملاحمي الخوارزمي، تهران: مركز پژوهشى ميراث مكتوب، دانشگاه آزاد برلين، مؤسسۀ مطالعات اسلامي، 1390.
110. معجم الشعراء الجاهليّين، عزيزة فوال البابيتي، بيروت: دار صادر للطباعة و النشر، 1998 م.
111. المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد اللخمي الطبراني (م 360 ه)، تحقيق:
حمدي عبد المجيد السلفي، بيروت: دار إحياءالتراث العربي، الطبعة الثانية، 1404 ه.
112. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1376 ق.
113. معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس الرازي القزويني (م 395 ه)، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون، مصر: شركة مكتبة و مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده، الطبعة الثانية، 1389.
114. المغرب في ترتيب المعرب، أبو الفتح ناصر بن عبد السيّد بن عليّ المطرزي (م 616 ه)، بيروت: دار الكتاب العربي.
115. المغني، أبو محمّد عبد اللّٰه بن أحمد بن محمّد بن قدامة (620 ه)، بيروت: دار الكتاب العربي.
116. مفاتيح العلوم، محمّد بن أحمد الخوارزمي، بيروت: دار المناهل، 1411 ه.
117. مقالات الإسلاميين (في ضمن كتاب: طبقات المعتزلة)، أبو القاسم البلخي، تحقيق: فؤاد السيّد، تونس: الدار التونسية للنشر، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1406 ه / 1986 م.
ص: 452
118. مقالات الإسلاميّين و اختلاف المصلّين، عليّ بن إسماعيل الأشعري أبو الحسن (324 ه)، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة.
119. مقالة في التوحيد، يحيى بن عدي، لبنان: المكتبة البولسية، 1980 م.
120. المقتضب، محمّد بن يزيد المبرد، بيروت: عالم الكتب، 1431 ه.
121. المقنع في الغيبة، الشريف المرتضى عليّ بن حسين الموسوي البغدادي المعروف ب علم الهدى (م 426 ه)، تحقيق: محمّد عليّ الحكيم، بيروت: مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث.
122. الملل و النحل، أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني (471-548 ه)، تحقيق: محمّد سيّد كيلاني، بيروت: دار المعرفة.
123. مناهج اليقين في أُصول الدين، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي المعروف ب العلّامة الحلّي (م 726 ه)، بوستان كتاب، 1390.
124. المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم، عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، دراسة و تحقيق:
محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، راجعه و صححه: نعيم زرزور، بيروت:
دار الكتب العلمية.
125. المنقذ من التقليد، محمود بن عليّ الحمصي الرازي، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1412 ه.
126. المواقف في علم الكلام، عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، بيروت: عالم الكتب، القاهرة:
مكتبة المتنبى.
127. الموضح عن جهة إعجاز القرآن (الصرفة)، علم الهدى علي بن الحسين الموسوي الشريف المرتضى (436 ه)،، تحقيق: محمدرضا الأنصاري القمّي، مشهد: مجمع البحوث الإسلاميّة، الطبعة الأُولى، 1424 ه.
128. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، عليّ سامي النشار، القاهرة: دار المعارف، 1977 م.
129. نهاية المرام، السيّد محمّد العاملي المعروف ب صاحب المدارك (م 1009 ق)، تحقيق و نشر مؤسّسة النشر الإسلامي - قم، 1413 ق.
130. الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن إيبك الصفدي (764 ه)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط
ص: 453
و تركي مصطفى، بيروت: دار إحياء التراث، 1420 ه.
131. وَفَيَات الأعيان و أنباء أبناء الزمان، ابن خلّكان، شمس الدين أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلّكان الشافعي الإربلي (608-681 ه)، تحقيق: إحسان عبّاس، بيروت: دار الثقافة.
132. هدى الساري مقدمة شرح صحيح البخاري، أحمد بن عليّ بن محمّد بن حَجَر الشافعي العسقلاني (ابن حجر) (م 852 ه)، بيروت: دار الكتب العلمية، 1410 ق..
431. Gregor Schwarb "Short Communication: A Newly Discovered Fragment Of al - Sharif al -Murtadas K. al - Mulakhkhas Fi usul al - din in Hebrew Script" Journal Of intellectual History of the islamicate World 2, 2014..
ص: 454
المجلد الأوّل
الفهرس الإجمالي... 5
مقدّمة التحقيق... 7
منهجية البحث عند الشريف المرتضى... 8
علاقة الشريف المرتضى بالمعتزلة... 11
هذا الكتاب... 17
فهرسة أبحاث الكتاب... 21
عنوان الكتاب... 22
الوجه في تسميته ب «الملخّص»... 23
نسبة الكتاب إلىٰ مصنّفه... 24
تاريخ تأليف الكتاب... 25
جهود حول الكتاب... 27
مَن اقتنى الكتاب و اهتمّ به... 31
نسخة الكتاب... 34
العمل في الكتاب... 38
كلمة الشكر... 41
ص: 455
نماذج من تصاوير النسخة... 43
الملخّص في أُصول الدين
الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع
الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ... 53
الكلام على الدعوى الأُولىٰ ... 53
الكلام على الدعوى الثانية... 53
في الدلالة علىٰ أنّ القديم لا يجوز عليه العدم... 53
في الدلالة علىٰ أنّ القديم قديم لنفسه... 53
الدليل الأوّل... 53
الدليل الثاني... 55
في الدلالة علىٰ عدم انفكاك الصفة النفسيّة عن الموصوف... 56
دليل آخر علىٰ نفي جواز العدم عن القديم... 58
نفي الضدّ عن القديم... 58
الدليل الأوّل... 58
الدليل الثاني... 60
الكلامُ علَى الدعوَى الثالثةِ ... 61
عدم خلوّ الجسم من الكون في الجهات... 61
وجوب تحيّز الجوهر بذاته... 62
وجوب كون المتحيّز في جهةٍ ... 72
إبطال الشقّ الأوّل... 76
إبطال الشقّ الثاني... 80
الكلام على الدعوى الرابعة... 82
في بيان حقيقة العلم بأنّ عدم تقدّم الأجسام على...... 83
ص: 456
ذهاب ابن الراوندي إلى قِدَم الأجسام مع...... 86
بيان كيفيّة دلالة «عدم تقدّم المحدَث» على الحدوث... 87
عدم خلوّ الجوهر من الأكوان... 90
تناهي الحوادث الماضية و المستقبلة، و بيان الفرق بينها... 93
الفصل الثاني: في الدَّلالةِ علىٰ إثباتِ المُحدِثِ ... 99
البحث الأوّل: حاجة تصرّفاتنا إلينا، و تعلّقها بنا... 99
البحث الثاني: في حاجة تصرّفاتنا إلينا في حدوثها... 109
البحث الثالث: حاجة كل مُحدَث إلىٰ مُحدِث... 111
الباب الثاني: الكلام في الصفات
القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة
الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ... 117
الدليل الأوّل... 117
الدليل الثاني... 119
الدليل الثالث... 119
نفي أن يكون تأتّي الفعل للطبع لا لحال القادِر... 119
دلالة تعذّر الفعل علىٰ انتفاء القدرة، و شرط ذلك... 121
نفي أن يكون تعذّر الفعل ناشئاً من ثبوت حالٍ ... 122
كيفيّة دلالة صحّة الفعل على القدرة... 124
اختصاص دلالة حدوث الفعل على القدرة فقط، لا أكثر... 124
الدليل الأوّل... 125
الدليل الثاني... 125
الفصلُ الثاني: في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ... 127
ص: 457
نقل أدلّة أبي هاشم حول مقدار دلالة الفعل، و مناقشتها... 128
عدم قيام الاعتقاد و الظنّ مقام العلم في صحّة الفعل المحكم... 130
أدلّة إثبات أنّه تعالىٰ عالِم... 132
الدليل الأوّل... 132
الدليل الثاني... 133
الدليل الثالث... 134
الدليل الرابع... 134
الدليل الخامس... 134
الفصل الثالث: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ ... 137
عدم كون المفارقة ناشئة من حصول العلم و القدرة... 138
عدم صحّة إثبات صفة أُخرىٰ غير الحياة... 139
كيفيّة اقتضاء القدرة للوجود... 141
عدم استلزام الدليل على الحياة إثباتَ البِنية و التأليف للقديم... 142
عدم صحّة الاستدلال بالعجز على الحياة... 150
الفَصلُ الرابع: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ... 155
البحث الأوّل... 156
ألف. إثبات صفة الإدراك فينا... 156
ب. إثبات امتياز صفة الإدراك عن غيرها من الصفات... 156
أوّلاً: امتيار صفة الإدراك عن العلم... 157
1. إثبات العلم مع فَقْد الإدراك... 157
2. إثبات الإدراك مع فَقْد العلم... 158
عدم رجوع اختلاف حال المتألِّم و غيره إلىٰ اختلاف طرق العلم... 160
ثانياً: امتياز صفة الإدراك عن الحياة... 162
ثالثاً: امتياز صفة الإدراك عن القدرة... 163
ص: 458
رابعاً: امتياز صفة الإدراك عن الإرادة و الكراهة و الشهوة و النفرة... 164
البحث الثاني... 164
ألف. اقتضاء الحياة لصفة الإدراك بشروطه... 164
ب. عدم اقتضاء صحّة الحواسّ للإدراك... 167
البحث الثالث... 169
ألف. إثبات كونه تعالىٰ مُدْرِكاً عند وجود المدرَكات... 169
ب. نفي أن يكون للسميع و البصير حال زائدة علىٰ كونه حيّاً لا آفة به... 172
بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه شامٌّ و ذائقٌ ... 174
بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه آلِمٌ وَ مُلتذٌّ و مُحِسٌّ ... 175
الفصلُ الخامس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ موجودٌ... 179
إثبات أنّ العدم يَمنع من تعلُّق ما يتعلّق بغيره لنفسه... 179
الدليل الأوّل... 179
الدليل الثاني... 188
الفصلُ السادس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ ... 191
إبطال كونِ صانع العالَم محدَثاً... 193
أوّلاً: إبطال كونِ المحدَث قادراً لنفسه... 194
الدليل الأوّل... 194
الدليل الثاني... 196
الدليل الثالث... 196
ثانياً: إبطال كونِ صانِعِ العالَمِ قادراً بقُدرةٍ ... 196
الدليل الأوّل... 196
انحصار قدرتنا في الأفعال المباشرة و المتولّدة، دون المخترَعة... 198
عدم وقوع الجسم منّا، لا بصورة مباشرة و لا متولّدة... 199
الدليل الأوّل علىٰ عدم وقوع الجسم و الجوهر منّا متولّداً... 199
ص: 459
مناقشة موانع القدرة علىٰ فعل الأجسام و الجواهر... 201
المانع الأوّل و الثاني: فَقْدُ العلم و الآلة... 201
المانع الثالث: فَقْدُ البِنية... 203
المانع الرابع: عدم وجود الخلأ في العالَم... 203
أدلّة وجود الخلأ في العالَم... 204
الدليل الأوّل... 204
الدليل الثاني... 204
الدليل الثالث... 204
الدليل الرابع... 205
الدليل الخامس... 205
أدلّة عدم وجود الخلأ في العالَم و مناقشتها... 206
المانع الخامس: تعدُّد القُدرَ في الجارحة الواحدة... 210
الجواب الأوّل... 212
اختلاف أجناس القُدَر... 212
تغاير مقدور القُدَر... 213
اتّفاق مقدور القُدَر في الجنس... 214
الجواب الثاني... 214
الدليل الثاني علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً... 218
الدليل الثالث علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً... 219
الدليل الثاني علىٰ إبطال كون صانع العالم قادراً بقدرة... 221
إبطال أن يكون القادرُ الذي لا تجبُ له هذه الصفة قادراً بالفاعل... 222
ما يدلّ على نفي وجود قادر محدَث ليس بجوهر... 224
الفصلُ السابع: في بيانِ أحكامِ الصفاتِ الثبوتيّةِ الذاتيّةِ ... 227
1. فصلٌ في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُستَحِقَّ الصفاتِ التي ذَكَرناها يَجِبُ أن يَستَحِقَّها... 227
ص: 460
البحث الأوّل: في أنّه تعالىٰ قادر فيما لم يزل... 227
في بيان أنّ القدرة الممكنة لا تكون إلّابقدرة حادثة... 227
نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة وجود المقدور... 228
نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة الفعل في الوقت الثاني... 229
البحث الثاني: في بيان أنّه تعالىٰ حيّ و موجود فيما لم يزل... 230
البحث الثالث: في بيان أنّه تعالىٰ عالِم فيما لم يزل... 230
1. نفي أن يكون شرط تجدّد كونه عالِماً هو وجود المعلوم... 231
أدلّة صحّة تعلّق العلم بالمعدوم... 231
2. بيان حقيقة العلم الأزلي بالموجودات الحادثة... 233
في بيان أنّ العلم بوجود الشيء في المستقبل هو علمٌ بوجوده... 234
خلاصة رأي المصنّف حول العلم بأنّ الشيء سيوجد... 238
2. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَختَصُّ في ذاتِه بصفةٍ زائدةٍ على ما ذَكَرناه و...... 239
الدليل الأوّل علىٰ بطلان المائيّة... 239
الدليل الثاني... 242
إبطال استدلال ضرار علىٰ المائيّة... 243
3. فَصلٌ في تَرتيبِ العِلمِ بهذه الأحوالِ ... 244
1. القدرة... 244
2. الحياة و الوجود و القِدَم... 244
3. العلم... 244
4. الإِدراك... 245
5. الصفة الذاتيّة... 245
6. الإرادة و الكراهة... 245
7. الحكمة... 246
4. فَصلٌ في أحكامِ هذه الأحوالِ و ما تَقتَضيهِ و تؤَثِّرُه... 246
ص: 461
فَصلٌ استطراديّ : في ذِكرِ جُملةٍ مِن الاستدلالِ بالشاهدِ علَى الغائبِ ... 249
بيان قاعدة الاستدلال بالشاهد علىٰ الغائب... 249
الاستدلال علىٰ القاعدة... 249
أقسام الدلالة... 251
أقسام دلالة الدليل... 252
شرائط ما يصحّ الاستدلال عليه... 252
ما يسوغ التعليل به و ما لا يسوغ... 253
5. فَصلٌ في كيفيّةِ استحقاقِه تَعالىٰ ما تَقدَّم ذِكرُه مِن الصفاتِ و...... 254
أ. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ معدومةٍ ... 255
ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يعلم بِعلم معدوم... 255
ما يدلّ على أنّه تعالى لا يجوز أن يقدر بقدرة معدومة... 256
ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة معدومة... 257
ب. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ لا توصَفُ ... 258
ج. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ مُحدَثةٍ ... 263
الدليل الأوّل... 263
الدليل الثاني... 265
في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة مَحدَثة... 266
في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون عالماً بعلم محدَث... 267
في بيان الوجوه التي تجعل الاعتقاد علماً... 269
نفي أن يكون الإدراك مؤثّراً في كون الاعتقاد علماً... 271
مَسائِلُ تتعَلَّقُ بعِلمِ اللّٰهِ تَعالىٰ و قُدرتِه... 272
إثبات أنّ للعلم ضدّاً... 278
بطلان أن يكون تعذّر اجتماع اعتقادَين متعاكسَين بسبب الداعي...... 279
في بيان قدرة القادر على الشيء و ضدّه من الوجه الذي يتنافيان فيه... 281
ص: 462
الفرق بين ابتداء العلم و ابتداء الجهل... 282
نفي أن يكون الجهل مقدوراً له... 283
إبطال صحّة وجود الجهل بلا جاهل... 284
د. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّ هذه الأحوالَ لِمَعانٍ قَديمةٍ ... 290
الدليل الأوّل... 290
و هذا الكلامُ لا بُدَّ فيه مِن بَيانِ أُصولٍ ... 290
الأصل الأوّل: في أنّه تعالىٰ مخالفٌ لغيره... 291
الأصل الثاني: في أنّه تعالىٰ إنّما يخالِف ما يخالِفه بكونه قديماً... 291
بيان كيفيّة مخالفته تعالىٰ لغيره بواسطة صفاته الواجبة... 297
وجه مخالفته تعالىٰ لغيره، مع اشتراكه معه في الصفات... 298
أوّلاً: بيان المصنّف... 298
ثانياً: بيان أبي هاشم الجبّائي... 299
الأصل الثالث: في أنّ ماشاركه تعالىٰ في القِدَم يجب أن...... 302
في بيان عدم اختلاف صفة الوجود في الذوات... 302
الوجوه الدالّة علَى أنّ الاشتراكَ في صفةٍ مِن...... 303
الأصل الرابع: في بيان لزوم ما تقدّم من الكلام لهم... 307
الدليل الثاني: علىٰ بطلان المعاني القديمة... 309
استلزام تجويز المعاني القديمة نفي الصفات الذاتية... 310
الدليل الثالث... 311
الدليل الرابع... 312
في بيان أنّ المشاركة في تعلّق خاصّ تقتضي التماثل... 312
في بيان تماثُل علمه تعالىٰ و عِلمنا... 313
في بيان أنّ الشيء الواحد لا ينفي شيئَين مختلفَين غير متضادَّينٍ ... 314
الدليل الخامس... 316
ص: 463
الدليل السادس... 320
الدليل السابع... 320
الدليل الثامن... 325
الدليل التاسع... 326
الدليل العاشر... 326
6. فَصلٌ في الإشارةِ إلىٰ قَويِّ شُبَهِ أصحابِ الذات و الصفاتِ و الكلامِ عليها... 327
فقد تَعَلَّقَ هؤلاءِ بأشياءَ ... 327
الجوابُ عن الشُّبهةِ الأُولىٰ ... 328
الجوابُ عن الشُّبهةِ الثانيةِ ... 329
الجوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 329
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ ... 330
الجَوابُ عن الشبهةِ الخامسةِ ... 337
الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ ... 339
الجوابُ عن الشُّبهة السابعةِ ... 340
7. فَصلٌ في بَيانِ استحالةِ خُروجِه تَعالىٰ عن الصفاتِ الّتي ذَكَرناها...... 343
في بيان استحالة خروجه تعالى عن صفة العلم... 344
نفي كونه تعالىٰ جاهلاً ببعض المعلومات أو عاجزاً عن بعض المقدورات... 345
القسم الثاني: الصفات السلبيّة
الفَصلُ الأوّل: في نَفيِ الحاجَةِ عنه تَعالىٰ و إثباتِه غَنيّاً... 349
أدلّة نفي الشهوة و النِفار عنه تعالى... 350
الدليل الأوّل... 350
الدليل الثاني... 354
نفى دلالة الفعل علىٰ كونه تعالىٰ مشتهياً أو نافراً... 354
ص: 464
الدليل الثالث... 355
و قد يُسأَلُ علىٰ هذا الدليلِ أسئلةٌ ... 356
الدليل الرابع... 359
الفصلُ الثاني: في نَفي الجسميّةِ عنه تَعالىٰ ... 361
1. فصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ الأجسامَ و الجَواهرَ... 361
ادلّة نفي الجسميّة عنه تعالىٰ ... 362
2. فَصلٌ في أنّ احتمالَ الأعراضِ و الكَونَ في الجهاتِ و...... 374
في بيان أنّ التحيّز يقتضي احتمال الأعراض... 375
في بيان أنّ التحيّز يقتضي الكون في الجهات... 377
في بيان استحالة حلول الأعراض فيه تعالىٰ ... 378
3. فَصلٌ في استحالةِ كَونِه تَعالىٰ في جهةٍ مِن غَيرِ أن يَكونَ شاغِلاً لها... 380
في بيان بطلان المعنى الظاهري لكونه تعالىٰ فوق العرش... 380
4. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ شَيئاً مِن الأعراضِ ... 383
نفي أن يُشبِهَ تعالىٰ عرضاً غيرَ معقول... 385
5. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَحُلَّ غَيرَه... 386
فساد كونه تعالىٰ حالاًّ لمعنىٰ ... 388
فساد اقتضاء الصفة الذاتيّة لحلوله تعالى... 392
في بيان أنّ حلوله تعالىٰ لو صحَّ ، لكان لصفةٍ ترجع إلىٰ نفسه، لا كالأعراض... 393
6. فَصلٌ فيما يَتعلَّقُ بالعبارةِ في هذا البابِ ... 394
البحث الأوّل: استحالة معنى الجسم عليه تعالى... 394
في بيان ورود لفظة «أجسَم» في كلام العرب... 395
في بيان بطلان بعض التعريفات المذكورة للجسم... 397
البحث الثاني: بطلان إطلاق لفظة «جسم» عليه تعالىٰ ، علىٰ نحو اللقب... 398
نفي أن يكون لفظ الجلالة لقباً... 399
ص: 465
نفيُ أن يكونَ لفظُ «شيء» لقباً... 400
حقيقة بعض الصفات الخَبَريّة... 401
تأويل بعض الآيات المتشابهات الدالّة على الصفات الخبريّة... 403
الفصلُ الثالث: الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ ... 405
تمهيد... 405
1. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ يَستَحيلُ رؤيَتُه... 405
و هذه الجُملةُ نَحتاجُ فيها إلىٰ بيانِ أشياءَ ... 406
أوّلاً: في أنّ الرائي إنّما يَرَى الوجود صفةً هو عليها... 406
أدلّة بطلان أن تكون الرؤية لمعنىٰ ... 407
في بطلان أن يُرىٰ تعالىٰ بحاسّة سادسة... 412
ثانياً: في بيان ارتفاع الموانع التي تمنع من الرؤية عنه تعالىٰ ... 413
ثالثاً: نفي أن يكون تعالىٰ مرئيّاً في نفسه... 418
رابعاً: في بيان أنّ الرؤية متىٰ صحّت وجبت... 418
في بيان أنّ العلم بانتفاء المدرَك مستند إلى العلم...... 420
في أنّ العلم الأوّل إنّما يستند إلى العلم الثاني فيما إذا كان...... 421
في بيان أنّ علمنا بالمدرَكات طريقُهُ الإدراك، و أنّه ليس مُبتدأً بلا طريق... 423
بيان حال المخالفين في المسألة... 425
في بيان أنّ بعض العلوم طريقها الضرورة...... 427
في بيان عدم انفكاك العلمَين المبحوث عنهما فيما سبق... 428
نفي أن يكون العلم بالمدرَكات ناشئاً من فعل العلم في القلب... 429
في بيان دور الشعاع الخارج من البصر في الرؤية... 430
خامساً: في أنّنا غير رائين له تعالىٰ ... 432
دليلٌ آخَرُ... 432
دليلٌ آخَرُ... 434
ص: 466
إبطال تفسير الإدراك المنفيّ في الآية بالإحاطة... 436
نفي أن يكون الإدراك بالبصر بمعنىٰ رؤية مخصوصة... 437
نفي أن يكون الإدراك المنفيّ بالآية معنىٰ خاصّاً غير الرؤية، و...... 437
أقسام ما تمدّح به تعالىٰ بنفيه و إثباته... 440
بيان وجهٍ إجمالي و آخر تفصيلي لصحّة التمدّح بنفي الرؤية... 442
بيان وجه تمدّحه تعالىٰ بنفي الإدراك، مع مشاركة غيره... له في ذلك... 443
بيان عدم الفرق بين نفي إدراك الأبصار أو المبصرين في محلّ بحثنا... 446
بيان دلالة الآية علىٰ نفي الإدراك عن بعض المدرِكين... 447
2. فَصلٌ في أنّه غَيرُ مَرئيٍّ في نَفسِه... 448
نفي إمكان أن يَرىٰ تعالىٰ نفسَه، مع استحالة رؤيتنا له... 450
3. فَصلٌ في أنّ الإدراكَ بسائرِ الحَواسِّ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ... 453
أقسام الحواسّ الخمس، و كيفيّة الإدراك بها، و شروط ذلك... 454
4. فَصلٌ في ذِكرِ أقوىٰ ما يَتعلَّقُ به المُخالِفُ بالرؤيةِ ، و الكلامِ عليه... 456
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الأُولى... 458
الجَوابُ عن الشُّبهة الثانية... 459
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 460
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ ... 461
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الخامسةِ ... 461
تأويل «النظر» الوارد في الآية: ب «الانتظار»... 463
نفي المعنى الظاهري للفظة «وجوه» الواردة في الآية... 464
بيان الفرق بين مدلول تعليق الإدراك بالبصر، و...... 465
بيان وجه وصف الوجوه بالنضارة في الآية... 467
عدم التلازم بين اتّحاد معنى اللفظين و بين اتّحاد تصرّفهما... 468
جواز التأويل مع اقتضاء الضرورة... 469
ص: 467
في بيان التأويل الثاني للآية... 470
بيان جواز اجتماع الانتظار مع السرور و النعمة... 471
بيان جواز اجتماع الانتظار مع القطع و العلم... 472
في بيان التأويل الثالث للآية... 472
جواز حمل النظر علىٰ الرؤية تجوّزاً... 473
و الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ ... 474
الفرق بين سؤال رؤيته تعالىٰ ، و سؤال أن يكون جسماً و ما شابه ذلك... 475
بيان الوجه في توبة موسىٰ عليه السلام... 476
بيان وجه تعليق الرؤية باستقرار الجبل... 477
و الجَوابُ عن الشُّبهَةِ السابعةِ ... 478
في بيان عدم حاجة الرؤية - بمعنىٰ العلم - إلىٰ مفعولَين... 480
فرق العلم الضروري عند أهل الجنّة و أهل النار... 481
المجلّد الثاني
الفهرس الإجمالي... 5
تتمةُ البابُ الثاني: الكلامُ في الصِّفات
القسم الثاني: الصفاتُ السلبية... 7
الفَصلُ الرابع: في الدَّلالةِ علىٰ أنّه تَعالىٰ واحِدٌ لا ثانِيَ له في القِدَمِ ... 9
الدليل الأوّل: دليل التمانُع... 9
بيان مقدّمات الدليل... 10
إثبات المقدّمة الثانية... 10
الأصل الأوّل: بطلان أن يكون مقدور واحد متعلقاً بقادرَين... 12
في بيان أنّ الحَدَث لا يتزايد... 14
ص: 468
الأصل الثاني: القادر على الشيء قادرٌ على جنس ضدّه... 15
إثبات المقدّمة الثالثة... 16
إثبات المقدّمة الرابعة... 16
إثبات المقدّمة الخامسة... 17
إثبات المقدّمة السادسة... 17
ابتناء الدليل الأوّل علىٰ صحّة التمانع، لا علىٰ وقوعه... 18
عدم التنافي بين حكمة القادرَين، و صحّة وقوع التمانع بينهما... 18
إمكان إِثبات ضعف الممنوع، بناءً علىٰ صحّة التمانع دون وقوعه... 19
بيان أنّ الأقدر يكون أقدر في جميع الأحوال... 19
صحّة تقدير صدور الفعل القبيح من الحكيم... 20
عدم التنافي بين الاتّفاق في الإرادة، و صحّة وقوع التمانع... 20
ضرورة القول بأنّ المانع أقدَر... 22
بيان لزوم ضعف المتمانِعَين عند عدم تحقّق مُرادهما... 23
بيان كيفيّة الجمع بين كون القديمَين قادرَين لنفسهما و بين دليل التمانع... 24
الدليل الثاني... 27
إبطال الوجوه المدّعاة لتعذّر الفعل من القادرَين... 28
بيان وجه استحالة وجود الأشياء في الأزل... 30
الدليل الثالث... 31
الوجوه المدّعاة للفصل بين الذاتين القديمتين و مناقشتها... 32
أوّلاً: اختلاف الدواعي... 32
ثانياً: العلم الضروري... 33
ثالثاً: صحّة الفعل من أحدهما، مع توهّم خروج الآخر من كونه قادراً... 34
الدليل الرابع... 35
بطلان دعوىٰ تخصيص القاعدة المذكورة في الدليل... 36
ص: 469
الدليل الخامس: دليل السمع... 38
الفصل الخامس: في الردِّ على الأديان المخالفة في صفاته تعالىٰ ... 39
1. فَصلٌ في الكلامِ علَى الثَّنَويّةِ ... 39
الخِلافُ مَع هؤلاءِ في مَوضِعَينِ ... 39
إبطال القول بالاثنين... 40
إبطال دليل الثنويّة القائم علىٰ تضادّ الخير و الشرّ... 43
أسئلة إلزاميّة للثنوية... 45
2. فَصلٌ في الكلامُ علَى المَجوسِ ... 47
3. فَصلٌ في الكلامِ علَى النَّصارىٰ ... 50
البحث الأوّل: إبطال التثليث... 50
البحث الثاني: إبطال بُنوَّة المسيح عليه السلام... 55
مناقشة استدلالات النصارىٰ على بنوّة المسيح عليه السلام... 56
معنىٰ وصف المسيح عليه السلام بأنّه روح اللّه و كلمته... 58
البحث الثالث: إبطال الاتّحاد بكلّ معانيه... 59
البحث الرابع: إبطال عبادة المسيح عليه السلام... 62
4. فَصلٌ في الكلامِ علَى الصابِئينَ ... 63
إبطال عبادة الكواكب... 64
بيان أنّ الكواكب غير حيّة... 64
بيان أنّ الكواكب غير قادرة... 65
5. فَصلٌ في الكلامِ علىٰ مَن عَبَدَ الأصنامَ مِن جاهليّةِ العَرَبِ و غَيرِهم... 66
البابُ الثالث: الكلامُ في العَدلِ
تمهيد... 71
الفصلُ الأوّل: في بيانِ ضُروبِ الأَفعالِ و أَقسامِها... 73
ص: 470
فَصلٌ في أقسامِ الأفعالِ ... 73
ثُمّ الواجِبُ يَنقَسِمُ قِسمةً أُخرىٰ ... 75
أ. فَصلٌ في الدَّلالة علىٰ أنّ في الأفعالِ ما لَيسَ بحَسَنٍ و لا قَبيحٍ ... 76
ب. فَصلٌ في ذِكرِ الطريقِ إلىٰ معرفةِ القَبائحِ ، وَ بيانِ ما له يَقبُحُ ... 78
البحث الأوّل: تعريف القبيح... 78
أقسام العلم بالقبيح... 79
البحث الثاني: ما له يقبح القبيح... 80
بيان الوجوه التي تقتضي القبائح... 82
البحث الثالث: إثبات أنّ ما تقدّم من الوجوه هي المقتضية للقبائح... 83
الطريقة الأُولىٰ : إثبات الوجوه المقتضية للقبائح... 84
نفي أن يكون قبح الظلم لأجل «معنىٰ »... 84
إبطال قول القائلين بحُسن بعض مصاديق الظلم... 85
وجه استحسان الخوارج لأفعالهم... 91
الطريقة الثانية: إبطال الوجوه المدّعاة لقبح القبيح... 91
1. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً لجنسه... 92
2. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً لوجوده و حدوثه... 93
3. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً لانتفائِه و عدمه... 93
4. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً لوجود معنىٰ ... 93
5. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً لعدم معنىٰ ... 94
6. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً لأحوال فاعلِه... 94
7. إبطال أن يكون القبيح قبيحاً للنهي عنه... 95
ج. فَصلٌ في ذِكرِ أقسامِ الأفعالِ الحَسَنةِ و أحكامِها و مَراتِبها... 101
الأقوال المطروحة حول ما له يحسن الحَسَن... 102
أقسام العلم بالحَسَن... 103
ص: 471
الفصلُ الثاني: في أنّه تَعالىٰ قادرٌ علىٰ القبيحِ ، لكن لا يَختارُه... 105
1. فَصلٌ في بيانِ أنّه تَعالىٰ قادرٌ علىٰ ما لَو وَقَعَ لَكانَ قَبيحاً... 105
بيان شُبَه النافين لقدرته تعالىٰ علىٰ القبيح، و مناقشتها... 107
الجَوابُ عن الشُّبهة الأُولىٰ ... 108
الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثانيةِ ... 110
الجواب الأوّل: العبرة بما دلّت عليه الأدلّة، لا العبارات... 110
توضيح و شرح المصنّف للجواب الأوّل... 111
الجواب الثاني: عدم جواز تعليق المحال بالجائز... 113
الجواب الثالث: نفي دلالة وقوع الظلم منه تعالىٰ على الجهل و الحاجة... 115
2. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ يَقدِرُ علىٰ كُلِّ جنسٍ مِن المقدوراتِ ... 116
الدليل الأوّل: الدليل الإجمالي... 117
الدليل الثاني: الدليل التفصيلي... 118
أقسام ما يَقدر اللّهُ تعالىٰ و العبادُ علىٰ جنسه... 118
3. فَصلٌ في الدَّلالةِ على أنّه لا يَختارُ فِعلَ القَبيحِ ... 123
جواز الاستغناء عن الكذب مع وجود الحاجة... 123
بيان أنّ المعتبر في باب الدواعي إلى الأفعال، حالُ الفاعل لا الفعل... 125
نفي أن يكون العالِم بقبح الكذب و المستغني عنه، مُلجأً إلىٰ فعل الصدق... 125
إبطال ما ادُّعي من عدم تساوي الصدق و الكذب... 126
نفي أن تكون علّةُ عدم اختيار الكذب، عدمَ الداعي إليه... 127
بيان عموم دواعي ترك القبيح، و خصوص دواعي فعل الحَسَن... 128
في بيان أنّ الحَسَن قد يُفعل لحُسنه فقط... 129
إثبات جواز اختيار الحَسَن لحُسنه فقط، دون طلب النفع... 131
الفصلُ الثالث: الكلامُ في الإرادة... 135
1. فَصلٌ في أنّ الإرادةَ و الكراهةَ إنّما يَتعلَّقانِ بمُتعلَّقِهما علىٰ وَجهِ الحُدوثِ ... 135
ص: 472
أوّلاً: في أنّ الإرادة إنّما تتعلّق علىٰ وجه الحدوث... 135
الدليل الأوّل... 135
حقيقة التمنّي، و فرقُه مع الإرادة... 136
الدليل الثاني... 137
ثانياً: في أنّ الكراهة إنّما تتعلّق علىٰ وجه الحدوث... 138
2. فَصلٌ في ذِكرِ ما يَصِحُّ أن يُرادَ، أو يَجِبَ ، أو يَحسُنَ ...... 139
أوّلاً: في بيان ما يصحّ أن يُراد، و ما لا يصحّ ... 139
ثانياً: في بيان ما يجب أن يُراد، و ما لا يجب... 141
ثالثاً: في بيان ما يَحسُن أن يُراد، و ما لا يَحسُن... 142
3. فَصلٌ فيما يؤَثِّرُ مِن الإراداتِ و لا يؤَثِّرُ، و بيانِ كيفيّةِ تأثيرِ ذلكَ ... 143
1. بيان ما تؤثّر فيه الإرادة، و شرط ذلك... 143
2. بيان ما لا تؤثّر فيه الإرادة... 144
بيان أنّ تأثير الإرادة لا يكون إلّابواسطة... 145
نفي تأثير الإرادة في كون الكلام خبراً... 146
نفي تأثير الإرادة في فعل الغير... 147
بيان تأثير الإرادة الضروريّة في الخبر أو عدم تأثيرها... 147
4. فَصلٌ في أنّ للمريدِ منّا حالاً يختصّ بها، و يُفارقُ بها مَن ليس بمريد... 149
الدليل الأوّل... 149
الدليل الثاني... 152
بيان حاجة الخبر إلىٰ حال المريد لكي يكونَ خبراً... 152
إثبات أنّ مايقع خبراً يجوز أن يكون بنفسه غير خبر... 153
5. فَصلٌ في التمييزِ بَينَ الإرادةِ و نَظائرِها؛ مِن الشَّهوةِ و التمنّي و كَراهةِ الضِّدِّ... 156
أوّلاً: تميّز الإرادة من الشهوة... 157
ثانياً: تميّز الإرادة من التمنّي... 159
ص: 473
ثالثاً: تميّز الإرادة من الكراهة... 160
إبطال أن تكون إرادةُ الشيء كراهةً لِأن لا يكون... 162
6. فَصلٌ في تَقدُّمِ الإرادةِ علَى المُرادِ، و مُقارَنتِها له... 163
أقسام ما تؤثّر فيه الإرادة... 164
7. فَصلٌ في أنّ الإرادةَ لا توجِبُ الفِعلَ ... 165
إبطال أن توجِب الإرادةُ الفعلَ إيجابَ العلل... 165
إبطال أن توجبَ الإرادةُ الفعلَ إيجابَ الأسباب... 166
سبب ورود الشبهة في القول بأنّ الإرادة موجِبة... 168
إبطال ما استدلّ به البلخي علىٰ أنّ الإرادة موجِبة... 169
8. فَصلٌ في أنّ البَقاءَ لا يَجوزُ علَى الإرادةِ ... 170
الدليل الأوّل... 170
الدليل الثاني... 171
9. فَصلٌ في بيانِ مَعاني الأسماءِ المُختَلِفةِ التي تَجري علَى الإرادةِ و الكَراهةِ ...... 171
في بيان أنّ الإرادة هي المحبّة... 171
نفي حاجة الإرادة و المحبّة أحدهما إلى الآخر... 171
بيان معنى الأمثلة التي تعلّقوا بها لنفي اتّحاد الإرادة و المحبّة... 172
10. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ مُريدٌ بإرادةٍ مُحدَثةٍ لا في مَحَلٍّ ... 177
البحث الأوّل: في أنّه تعالى مريد بإرادة مُحدَثَةٍ ... 177
المقدّمة الأُولى: إثبات أنّه تعالىٰ مريد... 177
المقدّمة الثانية: إثبات أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون مريداً لنفسه... 181
المقدمة الثالثة: إثبات أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يريد لا لنفسه و لا لعلّة... 191
المقدّمة الرابعة: إثبات أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يريد بإرادة معدومة... 193
المقدّمة الخامسة: إثبات أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يريد بإرادةٍ قديمة... 194
البحث الثاني: في أنّه تعالىٰ مريد بإرادة في محلّ ... 194
ص: 474
الدليل الأوّل... 194
الدليل الثاني... 198
إبطال صحّة وجود بعض الصفات و الأعراض لا في محلّ ... 199
11. فَصلٌ فيما يجوز أن يريده تعالىٰ من فعله و فعل غيره و...... 201
وجوب أن يكون تعالىٰ مريداً كلّ ما يفعله، عدا الإرادة... 201
أقسام تعلُّق الإرادة بالمراد... 201
عدم جواز كراهته تعالىٰ لأفعاله... 202
بيان ما يريده تعالىٰ من فعل غيره، و ما يكرهه... 202
بيان الدليل على أنّه تعالىٰ مريد لما أمر به... 202
بيان الدليل على أنّه تعالىٰ لا يريد المعاصي و القبائح... 203
بيان أنّه تعالىٰ لا يريد و لا يكره فِعلَ غير المكلَّف... 206
مقارنة إرادته تعالىٰ لأفعاله المبتدأة و المتولّدة... 206
تقدُّم إرادته تعالىٰ لما يريده و يكرهه من أفعال المكلَّفين... 207
12. فَصلٌ في ذِكرِ قَويِّ ما يَتعلَّقُ به المُخالِفُ في الإرادةِ ، و الكلامِ عليه... 208
الجواب عن الشبهة الأُولى... 209
و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثانيةِ ... 212
و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 213
و الجَوابُ عن الشُّبهة الرابعةِ ... 214
و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الخامسةِ ... 214
و الجَوابُ عن الشُّبهة السادسةِ ... 215
و الجَوابُ عن الشُّبهة السابعةِ ... 215
بيان معنىٰ قولهم: «ما شاء اللّٰه كان، و ما لم يشأ لم يكن»... 216
و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثامنةِ ... 217
الفصلُ الرابع: الكلامُ في الكلامِ و أحوالِه و أحكامِه... 219
ص: 475
1. فَصلٌ في بيان حقيقة الكلام... 219
تعريفات الكلام... 219
التعريف الأوّل - و هو التعريف المُختار -... 219
التعريف الثاني... 223
التعريف الثالث... 224
التعريف الرابع... 224
التعريف الخامس... 224
إثبات أنّ الكلام من جنس الصوت... 224
الردُّ على الكلامِ النَّفْسانيِّ ... 225
إبطال ما استدلّوا به على الكلام النفسيّ ... 226
أوّلاً: إبطال أن يكون الصوت المسموع طريقاً لإثبات الكلام النفسيّ ... 226
ثانياً: عدم وجدان العقلاء الكلام في نفوسهم... 227
ثالثاً: بطلان الاستدلال بقولهم: «في نفسي كلام» على الكلام النفسي... 228
رابعاً: بطلان الاستدلال بقوله تعالى: «يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ » ...... 229
خامساً: بطلان الاستدلال بقولهم: «فلان يتكلّم» و إن كان ساكتاً...... 229
سادساً: بطلان أن يكون الكلامُ النفسي واسطةً بين الفكر و العبارة... 230
إشكالات أُخرىٰ علىٰ الكلام النفسي... 230
2. فَصلٌ في ذِكرِ جُملةٍ مِن أحوالِ الكلامِ ، و...... 231
أوّلاً: في بيان أنّ الكلام و الصوت عرض و ليس بجسم... 231
ثانياً: في بيان تماثُل الأصوات و اختلافها و تضادّها... 231
ثالثاً: في بيان أنّ الصوت لا يوجد إلّافي محلّ ... 232
رابعاً: في بيان أنّ الصوت لا يحتاج إلىٰ شيء آخر غير المحلّ ... 233
خامساً: في بيان أنّ الأصوات مدرَكة بالسمع... 236
سادساً: في بيان أنّ الأصوات مدرَكة في محالّها... 236
ص: 476
بيان سبب تأخّر سماع الصوت أحياناً... 236
سابعاً: في بيان عدم جواز البقاء على الأصوات... 237
ثامناً: في بيان عدم وقوع الأصوات من العباد إلّامتولّدة... 238
تاسعاً: في بيان عدم إيجاب الكلام حالاً للمتكلِّم... 238
عاشراً: في بيان تعلُّق إفادة الكلام بالمواضعة... 240
نفي توقيفيّة اللغات... 240
حادي عشر: في بيان بعض أقسام الكلام... 241
رجوع جميع أقسام الكلام المفيد إلىٰ معنى الخبر... 242
3. فَصلٌ في بيانِ حَقيقةِ كَونِ المُتكلِّمِ مُتكلِّماً... 243
المتكلّم هو من فعل الكلام و أنّه تابع لقصوده و دواعيه... 243
عدم جواز إضافة الكلام إلى المتكلّم لأنّه قائم به... 249
4. فَصلٌ في إثباتِ كَونِه تَعالىٰ مُتكلِّماً، و الطريقِ إلىٰ ذلكَ ... 250
في بيان أنّه تعالىٰ قادر علىٰ فِعل الكلام... 250
إثبات أنّه تعالىٰ متكلّم عن طريق السمع لا العقل... 251
كيفيّة معرفة النبيّ و المَلَك بكلامه تعالىٰ ... 251
5. فَصلٌ في أنّه تعالى لَيسَ بمُتكلِّمٍ لنفسِه... 253
الدليل الأوّل... 253
الدليل الثاني... 253
الدليل الثالث... 253
الدليل الرابع... 254
الدليل الخامس... 254
الدليل السادس... 257
الدليل السابع... 259
6. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَستَحِقُّ كَونَه مُتكلِّماً لا لنفسِه و لا لِعلّةٍ ... 260
ص: 477
7. فَصلٌ في إبطالِ قِدَمِ كلامِه تَعالىٰ ... 261
بداهة حدوث كلامه تعالىٰ ... 261
أدلّة حدوث كلامه تعالى... 261
الدليل الأوّل: أمارات حدوث كلامه تعالىٰ ... 261
الدليل الثاني: الدليل السمعي... 262
الدليل الثالث... 264
الدليل الرابع... 264
الدليل الخامس... 264
الدليل السادس... 264
الدليل السابع... 264
الدليل الثامن... 265
الدليل التاسع... 267
الدليل العاشر... 267
إثبات التغاير بينه تعالىٰ و بين كلامه... 268
عدم شمول ذكرٍ واحد له تعالىٰ و لكلامه... 269
بطلان دخول الكلام و العلم و القدرة تحت اسم «الإله»... 270
بطلان ما ذكره المخالف من تعريف «الغيرَين»... 270
إبطال أن تكون غيريّة الغيرَين راجعة إلى معنىٰ ، و هو «الغيريّة»... 272
8. فَصلٌ في ذِكرِ شُبَهِهم في قِدَمِ كلامِه تَعالىٰ ، و أنّه مُتَكلِّمٌ فيما لَم يَزَلْ ... 273
جواب الشبهة الأُولىٰ ... 275
أوّلاً: انتقاض كلامهم بعدّة أُمور... 275
بيان وجود إشكالات منهجيّة في الشبهة... 276
نفي صحّة كونه تعالىٰ متكلّماً فيما لم يزل... 277
إبطال الاستدلال علىٰ كونه تعالىٰ متكلِّماً فيما لم يزل، بصحّة...... 278
ص: 478
ثانياً: نفي دلالة انتفاء الخرس و السكوت عنه تعالىٰ ، علىٰ كونه متكلّماً...... 280
ثالثاً: إبطال مضادّة الخرس و السكوت للكلام و...... 282
رابعاً: لزوم أن يكون تعالىٰ متكلّماً بآلةٍ مخصوصة... 284
خامساً: لزوم كون كلامه تعالىٰ فِعلاً و حادثاً... 284
سادساً: لزوم كون كلامه تعالىٰ حادثاً و من جنس الأصوات... 285
جواب الشبهة الثانية... 286
مناقشة اشتقاق وصف للمحلّ بعد قيام الحالّ به... 287
أوّلاً: عدم جواز إثبات المعاني من طريق الألفاظ... 287
ثانياً: إبطال أن يكون وجوب الاشتقاق، بمعنى ما يقابل التحريم، أو...... 288
ثالثاً: نفي اشتقاق وصف لكلّ محلّ يحلّ فيه شيء... 289
رابعاً: تجويز أن يكون تعالىٰ متكلّماً بكلام حادث في المحلّ ، و...... 290
خامساً: جواز وصف الفاعل بالمشتقّ ، دون المحلّ و الجملة... 291
سادساً: جواز اشتقاق وصفٍ للمحلّ ، من الحالّ فيه... 292
سابعاً: عدم جواز جعلِ وصفٍ مشتقٍّ واحدٍ للفاعل و المحلّ ... 293
ثامناً: عدم جواز وصف محلّ الكلام بأنّه متكلّم... 293
تاسعاً: عدمُ الاشتقاق للمحلّ ناشئٌ من عدم إدراك المحلّ عند...... 295
عاشراً: عدم اشتقاق الوصف لمحلّ كثير من الألفاظ... 296
جواب الشبهة الثالثة... 296
جواب الشبهة الرابعة... 297
جواب الشبهة الخامسة... 301
جواب الشبهة السادسة... 303
9. فَصلٌ في الحِكايةِ و المَحكِيِّ ... 304
10 فَصلٌ في وَصفِ القُرآنِ بأنّه «مخلوقٌ »... 307
الآراء المطروحة حول معنىٰ وصف «مخلوق»... 307
ص: 479
إثبات ما اختاره المصنّف حول معنىٰ «المخلوق»... 308
عدم جواز تسمية القرآن بأنّه «مخلوق»... 310
الفصلُ الخامس: الكلامُ في المخلوقِ ... 313
1. فَصلٌ في ذكرِ اختلافِ الناسِ في أفعال العبادِ... 313
2. فَصلٌ في الدَّلالةِ علىٰ أنّ العِبادَ هُم الفاعلونَ لِما يَظهَرُ فيهم مِن التصَرُّفِ ... 316
الدليل الأوّل... 316
إبطال أن يكون تعالىٰ فاعلاً لقصودنا التي تتبعها أفعالنا علىٰ نحو العادة... 316
إبطال أن تكون قصودنا و أفعالنا من فعل فاعل حكيم غير اللّٰه تعالىٰ ... 317
الدليل الثاني... 318
عدم الفائدة في تغيير الألفاظ، مع كون المعنىٰ واحداً... 318
إرجاع تعريف بعض المتكلِّمين للفاعل و الفعل إلى المختار في المسألة... 319
الدليل الثالث... 320
عدم توقّف المدح و الذمّ على العلم بكون الفاعل فاعلاً... 321
3. فَصلٌ في أنّ الفِعلَ الواحِدَ لا يَجوزُ أن يَكونَ حادِثاً مِن وَجهَينِ و...... 322
البحث الأوّل: عدم كون الفعل الواحد حادثاً من وجهين... 322
الدليل الأوّل... 322
الدليل الثاني... 323
الدليل الثالث... 323
الدليل الرابع... 325
البحث الثاني: عدم كون المقدور الواحد مقدوراً لقادرَين... 326
الدليل الأوّل... 326
عدم اشتراط القصد و العلم و الداعي في نسبة الفعل إلى القادر... 327
عدم اشتراط صحّة المدح و الذمّ في نسبة الفعل إلى القادر... 327
اتّحاد معنى الإحداث و الإيجاد و الفعل... 327
ص: 480
تقرير آخر للدليل الأوّل... 329
الدليل الثاني... 329
الدليل الثالث... 330
الدليل الرابع... 331
الدليل الخامس... 333
الدليل السادس... 334
إبطال أن يكون أحدُ القادرَين مُحدِثاً، و الآخرُ مكتسِباً... 335
نفي أن يكون وجود القدرة موجِباً لكون الفعل مكتسَباً... 336
جواز تعلّق عالِمَين و مريدَين بمتعلَّق واحد، خلافاً لمالِكَين و...... 337
عدم صحّة حَمْل و قياس القدرة علىٰ العلم... 338
البحث الثالث: عدم تعلّق القدرتَين بمقدور واحد... 340
الدليل الأوّل... 340
الدليل الثاني... 342
الدليل الثالث... 342
الدليل الرابع... 343
4. فَصلٌ في أنّ كَونَ القادرِ قادراً لا يَتعلَّقُ إلّابحُدوثِ الفِعلِ دونَ سائرِ صفاتِه... 343
الدليل الأوّل... 343
نفي كون الحَسَن و القبيح تابعينِ لكون القادر قادراً فقط... 344
الدليل الثاني... 346
نفي أن يكون العرضُ عرضاً متعلّقاً بالقادر... 347
الدليل الثالث... 348
5. فَصلٌ في أنّ العدمَ لا يَجوزُ أن يَتعلَّقَ بالقادرِ و لا بالقُدرةِ ... 349
الدليل الأوّل... 349
الدليل الثاني... 350
ص: 481
نفي أن يكون العدم حالاً... 350
الدليل الثالث... 352
الدليل الرابع... 353
الدليل الخامس... 354
6. فَصلٌ في الإشارةِ إلى ما يَدخُلُ في مقدورِ العِبادِ مِن الأجناسِ ... 355
أقسام مقدوراتنا... 355
أوّلاً: أفعال القلوب... 356
ثانياً: أفعال الجوارح... 357
7. فَصلٌ في تَمييزِ وجوهِ الأفعالِ الراجِعةِ إليهما... 358
أوّلاً: أقسام أفعالنا... 358
ثانياً: أقسام أفعاله تعالىٰ ... 359
8. فَصلٌ في تمييزِ وجوهِ الأفعالِ الراجعةِ إلى فاعلِها... 360
9. فَصلٌ في إفسادِ قَولِهم بالكَسبِ ... 361
الإشكال الأوّل... 361
عدم صحّة تبيين معنى الكسب من خلال التفريق...... 361
الإشكال الثاني... 362
الإشكال الثالث... 363
10. فَصلٌ في ذِكرِ ما يَلزَمُهم علَى القَولِ بالمخلوقِ ... 363
الإشكال الأوّل... 363
الإشكال الثاني... 364
الإشكال الثالث... 365
الإشكال الرابع... 367
الفهارس العامّة... 369
1. فهرس الآيات... 371
ص: 482
2. فهرس الأحاديث و الآثار... 380
3. فهرس الأشعار و أنصاف الأبيات... 381
4. فهرس الأعلام... 383
5. فهرس الأماكن... 385
6. فهرس الأديان و الجماعات... 386
7. فهرس الأشياء و الحيوانات... 389
8. فهرس الكتب الواردة في المتن... 391
9. فهرس الكلمات المشروحة في المتن... 392
10. فهرس القواعد و الأحكام الكلاميّة... 395
11. فهرس المصطلحات و الألفاظ الخاصّة... 406
12. فهرس مصادر التحقيق... 443
13. فهرس المطالب... 455
ص: 483