فوائد الأصول

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 0

ISBN: 978-964-470-899-2

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1404 ه.ق

الصفحات: 613

فوائد الأصول

من افادات قدوة الفقهاء والمجتهدين وخاتم الأصولين

الميرزا محمد حسين الغرويّ النائيني قدس سرّه العالي

المتوفي سنة 1355 ه ق

تأليف الأصولي المدقق الفقيه المحقق العلّامة الرباني

الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني طاب ثراه

المتوفي سنة 1365 ه ق

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360

ص: 1

المجلد 1 و 2

اشارة

فرائد الأصول (ج 1 و 2)

تأليف: العلامة الرباني (الفقيه المحقق) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني طاب ثراه

تقرير و أبحاث: الأستاذ الأعظم آية اللّه العظمی الميرزا محمد حسين الغروي النائيني قدس سره

تحقيق: الشيخ رحمة اللّه الرحمتي الأراكي

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 616

الطبعة: الثانية عشر

المطبوع: 500

التاريخ: 1438 ه . ق.

شابك ج 1 و 2: 2-899-470-964-978

ISBN: 978-964-470-899-2

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

كلمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله

الطاهرين المعصومين ...

اما بعد ، فإنه لما كان ما ألقاه فخر المتأخرين وقبلة المشتغلين صفوة الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى في العالمين « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » أعلى اللّه مقامه الشريف في المباحث الأصولية من أتقن المباني في هذا الفن وأحكمها ، وان المحقق الجليل والفقيه النبيل آية اللّه « الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني » قدس سره الشريف من أقدم تلامذته وحافظي دقائق انظاره ، وما قرره من أبحاث أستاذه الجليل من أحسن ما صنف في طريقه واليه مراجعة أهل النظر في تحقيق مباني المحقق الأستاذ ، فلذا بذلنا جهدنا في نشر هذا السفر الجليل المسمى ب « فوائد الأصول » بصورة جديدة وأسلوب حديثه مع ما تمتاز به من الطبعة الأولى من التصحيح والتعليق واخراج المصادر وتنظيم الفهرس التفصيلي المبين لمباني الأستاذ في كل مبحث.

وقد تصدى الاخراج مصادر الأقوال والكلمات ، الفاضل الجليل حجة الاسلام « السيد محمد جواد العلوي الطباطبائي » ولمصادر الآيات والاخبار واعجام الكتاب وتشكيله بأسلوب جديد ( بوضع النقط وعلامة البيان وعلامة السؤال وغيرها من العلائم العصرية المتداولة ) وتنظيم الفهرس ، الفاضل النبيل حجة الاسلام

ص: 1

« الشيخ رحمت اللّه الرحمتي الآراكي » شكر اللّه سعيهما وجعل جهدهما وجهدنا ذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم. ونسئل اللّه التوفيق لنشر ساير مجلدات الكتاب ومنه التوفيق وعليه التكلان.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة

20 ذي حجة الحرام 1404

ص: 2

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي الخراساني

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة على رسوله وعلى آله الطاهرين.

- 1 -

كان الناس أمة واحدة وفي غمرات من الجهالة والضلالة ، فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب واصطفى لهم الدين ، وأكمل عليهم الرحمة والهدى ، فأرسل رسله تترى واتبع بعضهم بعضا.

تلك الرسل وان لم يفرق اللّه بين أحد منهم في أصل الرسالة ، لكنه فضل بعضهم على بعض بما آتاهم من الكمال في الشريعة حتى جاء بأفضلهم فرقا وجمعا وأشرفهم أصلا وفرعا وأكملهم دينا وشرعا. فختم بارساله دور النبوة والرسالة. وحتم على كافة الناس اتباعه إلى يوم القيمة. وأرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه باذنه وسراجا منيرا.

وأشار إلى هذا الختم والا تمام بالحصر في قوله تعالى : « ان الدين عند اللّه الاسلام » بل صرح بذلك وأكده بالتأبيد حيث قال عزوجل : « ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين » (1).

ص: 3


1- آل عمران : 85

- 2 -

الدين الاسلامي بما انه خاتم للشرائع الإلهية يشتمل على جميع ما يجب أو يناسب ان يقصده الشارع في وضع الشريعة : من المقاصد ، والحاجيات ، والكماليات فليس شيء مما يتوقف عليه حفظ مصالح الدين والدنيا من الضروريات الخمس التي هي المقاصد الا وقد شرع له في الاسلام ما يقوم به أركانها ويحفظ وجودها وكيانها ، وما يدفع به عما يورث اختلالها ويمكن ان يؤثر في زوالها.

وكذلك الشأن في الحاجيات ، فليس امر يحتاج إليه في التوسعة على الناس الا وقد ثبت له في الشريعة السمحة السهلة مواد ، وانتفى التضييق فيه برفع العسر ، والحرج ، والمشقة ، والضرر عن العباد ، ووسع عليهم فيما لا يعلمون. ورفع عنهم المؤاخذة في الخطاء ، والنسيان ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون .. الخ.

وهكذا الامر في الكماليات ومحاسن العادات ، فليس شيء يصلح لان يجعل ذريعة إلى تحصيل مكارم الأخلاق ، ويناسب ان يتوسل به إلى تطهير الأعراق الا وقد أرشد إليه أئمة الاسلام. وتوصل إلى رعايته بتعليم الآداب ومندوبات الاحكام. وبالجملة ، الدين الاسلامي جامع لكل ما يحتاج الانسان إليه ، أو ينفعه ، أو يحسن له في نشأتيه.

- 3 -

صدر من الشارع في بيان وظائف الأمة احكام من طريق الكتاب والسنة ، لكنها غير مجتمعة بالتدوين ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم والدين ، ومع ذلك كان تحصيل العلم بالأحكام في ذلك العصر ، عصر السعادة وخير القرون. سهلا ميسورا إذا كان باب العلم على الأمة مفتوحا. والمسألة عن الرسول للمؤمنين مقدورا.

انقضى عصر الوحي والتنزيل ، وخضع الناس لسلطان الاسلام وإطاعة الاحكام جيلا بعد جيل ، وانبسط حكم الشريعة على البلاد البعيدة والأمم المختلفة من حيث الخلق والعادة والعقيدة. فانعطف توجه الزعماء من الصحابة إلى جمع

ص: 4

القرآن أولا ، والبحث عن الاحكام وأدلتها ثانيا ، فحصل لبادئ بدء طور جديد في الاحكام ، طور الاستنباط والاستدلال.

طلعت غرة هذا الطور في أوائل القرن الأول من الاسلام. وبادرت مسرعة نحو التقدم بالانتظام. فما انسلخ ذلك القرن الا عن البشارة بحدوث علم في العالم الاسلامي كافلا لجميع ما يحتاج الانسان إليه في معاشه ومعاده. ضامنا لسعادة من يعمل بمتضمنه ومفاده.

الا وهو علم الفقه.

- 4 -

وجد في العالم أنحاء شتى من القوانين ، يجمعها قسمان أصليان وهما :

1 - الشرائع السماوية.

2 - الشرائع المدينة.

لا يهمنا هنا استقصاء ما يكون بين القسمين من وجوه الفرق. لكن ما يجدر بان لا يهمل ذكره هنا وجهان أساسيان :

الأول - ان الشرائع الإلهية ناظرة إلى حفظ جميع الصالح. سواء كانت متعلقة بالفرد أم بالمجتمع. وعلى تعلقه بالفرد سواء كانت من حيث جسمه أم روحه ، وسواء كانت باعتبار نشأته الفانية أم باعتبار حياته الباقية الخالدة. على أن حيثية مناسبات هذه الشؤون بينها ملحوظة في تلك الشرايع.

الثاني - ان مقصود المعتقد المتعبد بتلك الشرائع ليس رفع المسؤولية تجاه الشرع واسقاط التكليف فحسب ، بل يولى وجه دقته شطر « الواقع » ليحرزه ويصرف عنان همته نحو ما خوله الشارع ليحفظه ، وذلك لان الاحكام عنده تابعة للمصالح والمفاسد ، والشرعيات في نظره الطاف في العقليات من العوائد والفوائد.

على أن نفسه مطمئنة بان الشارع أصاب الواقع ولا بتخلف حكم من احكامه عما يكون هوله تابع.

هذا الفرق الثاني هو الذي حمل حماة الدين وحملة الفقه على أنحاء من البحث في نواحي أدلة الاحكام ومناحيها ، فبحثوا عن الأوامر ومعانيها ، وعن

ص: 5

النواهي ومطاويها. وعن مداليل هذه الكلمات ، وعن المنطوق والمفهوم ، وعن العموم والخصوص والتخصيص ، وعن الاطلاق والتقييد ، وعن الاجمال والتبيين ، وعن حقيقة النسخ وكيفية الناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك مما لا يستغنى عن تحقيقه من يتصدى لاستنباط « الواقع » واستخراجه من الأدلة التفصيلية التي اعتبرها الشارع واعتمد عليها التابع.

فتحصل عن جميع هذه المباحث علم جديد في عالم الاسلام ، علم أوجده كثرة العناية بأحكام الدين وشدة العلاقة باحراز « الواقع » من طريق القطع واليقين.

علم يحتاج إلى الانتفاع بمضامينه والاستناد إلى أصوله وقوانينه كل من كان له مساس القانون باقسامه وأفانينه ، علم لا يختص « المنفعة » فيه بحملة الفقه وان اختص الفقيه بالاستفادة منه ، علم ابتكره الاسلام ويكون تأسيسه من مفاخر الاعلام.

الا وهو علم أصول الفقه.

- 5 -

وجود علل أشرنا إلى بعضها آنفا أنتج حدوث علم في العلوم الاسلامية لتحقيق أدلة الاستنباط ومداركها ، وتنقيح مسائل الفقه وتوضيح مسالكها.

وقد بحثنا في مقدمة مختصرة علقناها على تقريراتنا الأصولية عن تلك العلل والعوامل. وفحصنا عن زمان حدوث هذا النسخ من المباحث والمسائل ، وشخصنا البصر لتشخيص أول من شرع في تدوين هذا العلم الحادث ، ودرسنا تاريخ العلم للاطلاع على أول عصر توجه فيه اعتماد فقهاء الشيعة نحو هذه المباحث ، وأتممنا الدراسة بالحديث عن كيفية مجاراتهم مع هذا العلم بتتابع البحث وسرد التصنيف والتأليف من بادئ بدء الاستناد به ، والانتحاء لتدوين مطالبه إلى عصرنا الحاضر وبالوضع الموجود ، وألممنا في ختام الكلام بما الف في عصرنا من المؤلفات المهام ، واما الآن فلما لا يساعدني الحال ، ولا يسعني المجال لبسط المقال ، فلنقتصر بالإشارة إلى بعض تلك الأحوال.

ص: 6

فنقول وعلى اللّه الاتكال (1) :

- 6 -

اعلم أن بعض مباحث الأصول كانت في القرن الأول كما أشرنا موردا للبحث والنظر ولكنه لم يخرج الأصول إلى عرصة التدوين والتأليف الا بعد مضى النصف الأول من القرن الثاني.

وقد صرح جمع من الجهابذة كابني خلكان وخلدون. وصاحب كشف الظنون بان أول من صنف في أصول الفقيه محمد بن إدريس الشافعي ، بل نقل عن كتاب « الأوائل » للسيوطي اطباقهم على ذلك حيث قال : « أول من صنف في أصول الفقه ، الشافعي بالاجماع ».

لكني لست على يقين من ذلك ، بل المحتمل عندي ان يكون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، وهو أول من لقب ب « قاضي القضاة » سابقا على الشافعي بتأليف الأصول ، لان القاضي توفى في سنة ( 182 ه. ق ) والشافعي مات في سنة ( 204 ه. ق ) وقد قال ابن خلكان في ترجمته : ان أبا يوسف « أول من صنف في أصول الفقه وفق مذهب أستاذه أبي حنيفة ».

وهكذا يحتمل جدا ان يكون محمد بن حسن الشيباني فقيه العراق ، الذي لما مات هو والكسائي في يوم واحد بري وكانا ملازمين للرشيد في سفره إلى خراسان قال في حقه الرشيد : « دفنت الفقه والأدب بر نبوية (2) » مقدما على الشافعي في تأليف الأصول لان الشيباني توفى ( سنة 182 ه. ق أو سنة 189 ) وقد صرح ابن النديم في « الفهرست » بان للشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليف يسمى ب « أصول الفقه » وتأليف سماه « كتاب الاستحسان » وتأليف « كتاب اجتهاد الرأي ». على أن الشافعي ، بتصريح من ابن النديم ، لازم الشيباني سنة كاملة و

ص: 7


1- ومن أراد اطلاعا أزيد فعليه بمراجعة التعليقة المزبورة ، وإذا شاء إحاطة كاملة على الموضوع فليسئل اللّه ان يوفقنا لاتمام طبع كتاب ألفناه في تاريخ الفقه الاسلامي ونحولاته ، وقد طبع منه إلى الان عدة صفحات.
2- وهي على ما في معجم البلدان قرية كانت قرب الري.

استنسخ في المدة لنفسه من كتب الشيباني ما استحسن وقد أذعن الشافعي نفسه بذلك ، وأعلن فقال من غير نكير « كتبت من كتب الشيباني حمل بعير ».

وكيف كان فان لم يحصل اليقين بتقدم القاضي والشيباني على الشافعي في التأليف ، فلا أقل من أن لا يحصل لنا يقين بتقدمه عليهما. فالحكم البات بكون الشافعي « أول من صنف في أصول الفقه » كما ترى.

- 7 -

هذا بالنسبة إلى حدوث العلم والاستناد به على نحو الاطلاق ، اما بدء الاستناد به في خصوص مذهب التشيع فهو كما احتملناه وعللناه في التعليقة المزبورة لا يتقدم على الغيبة الكبرى ( 329 ه. ق ).

أول من انتحى إلى أصول الفقه واعتمد عليه في مقام الاستنباط واستمد منه الشيخ الثقة الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل (1) صاحب كتاب « المتمسك بحبل آل الرسول » في الفقه ، وهو أيضا « أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ».

ثم اقتفى اثر ابن أبي عقيل واستحسن آرائه أبو على محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي الذي قال السيد الاجل بحر العلوم بعد عنوانه في ترجمته : « من أعيان الطائفة وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الامامية. وأكثرهم علما وفقها وأدبا ، وأكثرهم تصنيفا وأحسنهم تحريرا ، وأدقهم نظرا متكلم فقيه محدث أديب واسع العلم. صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب وغيرها تبلغ مصنفاته ، عدا أجوبة مسائله ، من نحو خمسين كتابا منها كتاب « تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة » كتاب كبير من نحو عشرين مجلدا يشتمل على جميع كتب الفقه ، وعدة كتبه تزيد على مائة وثلاثين كتابا ، وكتاب « المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي » مختصر كتاب التهذيب وهو الذي وصل إلى المتأخرين ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله .. » .

ص: 8


1- كان ابن أبي عقيل من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه ، أحد شيوخ العالم السديد المعروف بابن المعلم والملقب بالشيخ المفيد.

إلى أن قال السيد العلامة بعد تعديد كتبه وأجوبة مسائلة : « وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة ورئاسته وعظم محله قد حكى القول عنه بالقياس ، ونقل ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب ، وعلى ذلك فقد اثنى عليه علماؤنا وبالغوا في اطرائه ومدحه وثنائه .. ».

كان هذا الشيخ الجليل شيخا وأستاذا للشيخ المفيد ومعاصرا للشيخ الكليني وتوفى ، على ما ذكره المحدث القمي (رحمه اللّه) ( سنة 381 ه. ق ) في الري.

- 8 -

ثم وصل دور البحث عن عوارض أدلة الاحكام إلى أبى عبد اللّه محمد بن محمد بن نعمان بن عبد السلام الملقب ب « المفيد » عند الاعلام ، المتولد ( سنة 336 ) والمتوفى ( 413 ه. ق ) فالشيخ المفيد تبع أستاذه ابن الجنيد وابن أبي عقيل في الاعتماد على الأصول وان لم يتلق كل ما قاله ابن الجنيد بالقبول ، بل وكتب على رده ونقضه كما هو المنقول.

نقل صاحب « الذريعة » عن النجاشي ذكر كتاب للشيخ المفيد في الأصول مشتمل مع اختصاره على أمهات المباحث والفصول. ونقل أيضا ان العلامة الكراجكي ضمن ذلك في كتابه المسمى ب « كنز الفوائد ».

حدث الاستناد بالأصول من زمن ابن أبي عقيل وتوجه نحو التكامل في أيام ابن جنيد ودخل ذلك العلم في طور البحث والتأليف في عصر المفيد. فرج في عصره وشاء وانتشر صيته وذاع ، وذلك لان الشيخ المفيد كان يفيد العلم على تلامذة له ، كلهم أساتذة وفي نقد العلوم جهابذة ، منهم السيد السند والأجل الأوحد السيد المرتضى الملقب ب « علم الهدى » توفى السيد سنة « 336 ه. ق » ومنهم تلميذه أستاذ الفرقة وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن حسين بن علي الطوسي ( المتوفى 460 ه. ق ) ومنهم سلار « معرب سالار » بن عبد العزيز الديلمي صاحب كتاب « التقريب » في أصول الفقه ( المتوفى 436 ه. ق ) وغيرهم من أساطين العلم وأساتيذ الفن.

فقد صنف السيد في الأصول كتبا شريفة ورسائل منيفة ، قال السيد

ص: 9

الاجل بحر العلوم في فوائده الرجالية « .. ومن مصنفاته في أصول الفقه كتاب « الذريعة إلى الأصول الشريعة » وهو أول كتاب صنف في هذا الباب ، ولم يكن للأصحاب قبله الا رسائل مختصرة ، كتاب مسائل الخلاق في الأصول أثبته الشيخ والنجاشي قال الشيخ ولم يتمه. رسالة في طريقة الاستدلال موجودة عندنا. كتاب المنع من العمل باخبار الآحاد تعرف بالمسائل التبانية وهي أجوبة الشيخ الفاضل محمد بن عبد الملك التبان في ما عمله في انتصار حجية الاخبار تشتمل على عشرة فصول قد بسط السيد القول فيها. رسالة أخرى عندنا في المنع من خبر الواحد منقولة من خط الشهيد الثاني طاب ثراه .. ».

وقد صنف الشيخ الطوسي كتاب « عدة الأصول » الذي قال في شانه بحر العلوم : « وهو أحسن كتاب صنف في الأصول ».

وبالجملة فصار علم الأصول ( بعد ما صار في أواسط النصف الأول من القرن الرابع موردا للاستناد وعمدة في الاجتهاد ) في أواخر القرن الرابع موضوع البحث والدرس والتأليف ، وتوجه إليه أمثال هذه الفحول وصنفوا فيها ، لا رسائل مختصرة فقط ، بل كتبا قيمة مرتبة على أبواب وفصول.

- 9 -

ثم لعله توقف سير الاجتهاد في مسائل الفقه بعد الشيخ الطوسي مدة تقرب من قرن ، وذلك لحسن ظن من تلامذة الشيخ بما استنبطه وأفتى به في كتبه ، فكانوا بالحقيقة في تلك المدة ، على ما قيل « مقلدين » ( بل لقبوا به ) لما استنبط ، ومقتفين اثره في ما اجتهد واعتقد ، لا يتجاوزون عما قال ، ولا يتكلفون البحث في المقال حتى قام بأعباء الاجتهاد وأقام سوق البحث والانتقاد الفقه الفحل الأوحد محمد بن أحمد ، سبط الشيخ الطوسي الأمجد وحفيد ابن إدريس الممجد ، فألف في الفقه الاستدلالي كتابه السامي « السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى » ( توفى هذا الفقه سنة 598 ه. ق ).

انفتح باب البحث والاجتهاد بعد ما وقع فيه الانسداد أو كاد. فانتحى تلامذة ابن إدريس ، تبعا لأستاذ ، نحو الأصول بالاستناد. ثم تلاميذ تلامذته

ص: 10

كالمحقق الحلي صاحب « شرايع الاسلام » أبى القاسم نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد ( تولد المحقق سنة 602 وتوفى سنة 676 ه. ق ) وألفوا فيه كتبا نفيسة ، فمما الفه المحقق كتاب « نهج الوصول إلى معرفة الأصول » وكتاب « المعارج ».

انتقل الدور بعد المحقق إلى تلميذه وابن أخته الذي انتشر صيت علمه في الآفاق واشتهر له لقب « العلامة » على الاطلاق آية اللّه بالاستحقاق أبو منصور جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن مطهر ( 648 - 726 ه. ق ) فاحكم أساس البحث والنظر ، ونظر في كتب القوم ما تقدم منها وما تأخر ، فهذبها وحرر. أرشد العلامة إلى نهج الوصول ومنتهاه لمن أراد السلوك إلى هذه الأصول وتمناه فألف كتاب « النكت البديعة في تحرير الذريعة » وكتاب « تهذيب الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « نهج الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول » وكتاب « غاية الوصول .. » وكتاب « مبادئ الوصول إلى علم الأصول » وصادف ما كتبه العلامة في الأصول كسائر ما الفه في المعقول والمنقول اقبالا خاصا ، يليق بشأنها ، من العلماء الفحول ولا سيما كتابه الذي سماه « نهج الوصول .. » فقد تصدى لشرح هذا الكتاب جمع من فضلاء الأصحاب كالسيد عميد الدين عبد المطلب بن محمد الحسيني ( 681 - 754 ) ، وأخيه السيد ضياء الدين عبد اللّه بن محمد ابني أخت العلامة وتلميذيه وشيخي الإجازة للأول من الشهيدين وكفخر المحققين أبو طالب محمد بن العلامة ( 682 - 771 ه. ق ) وكالأمير جمال الدين عبد اللّه الحسيني الاسترآبادي صدر دولة السلطان الاجل الشاه إسماعيل الصفوي الأول.

وهذا الشرح الأخير على ما قال صاحب الروضات أحسن من شرح الاميدي والضيائي والفخري والمنصور ( تأليف الفقيه الفاضل منصور بن عبد اللّه الشيرازي المشتهر ب « راستگو » والمعاصر للشهيد الثاني ، وقد فرغ الشارح من تأليف هذا الشرح سنة 929 ه. ق ).

جمع الفقيه الاجل محمد بن مكي المشهور بالشهيد الأول ( الفائز بالشهادة

ص: 11

سنة 786 ه. ق ) بين شرحي العميدي والضيائي ، وهذا الجمع بالحقيقة شرح آخر على كتاب التهذيب.

وخلاصة القول ان من زمان العلامة إلى زمان الشهيد الثاني ، أي في القرن الثامن والتاسع وشطر من القرن العاشر ، كان أكثر مدار البحث والدرس في الأصول على ما الفه العلامة.

نعم كان للمختصر الحاجبي الذي الفه أبو عمر وعثمان بن عمر بن أبي بكر ( المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646 ه. ق ) في القرن السابع أيضا شأن عند علماء المذهب. فقد كانوا يدرسونه ويشرحونه ويعلقون عليه الحواشي ، ويرفعون عن وجوه مقاصده الغواشي.

- 10 -

كان جريان الامر في تلك القرون على ما حدد ، حتى مهد العالم الرباني زين الدين بن نور الدين المشهور بالشهيد الثاني ( توفى شهيدا سنة 966 ) قواعد الاستنباط للمجتهد وسماه « تمهيد القواعد ».

ثم الف أبو منصور جمال الدين حسن بن زين الدين ( ابن الشهيد الثاني المتوفى سنة 1011 ه. ق ) كتابه الموسوم ب « معالم الدين ». كتاب المعالم في الأصول لسلاسة تعبيره وسلامة تنظيمه وجودة جمعه وتأليفه صار سهل التناول كثير التداول بحيث انسى ما كتبه السلف ، وما اغنى عنه ما الفه الخلف. صنف المعالم وتداول فيه البحث والدرس بين الأعاظم ، فاقبلوا عليه بالتحشية والتعليق وامعنوا في مباحثه بالتدقيق والتحقيق.

من أحسن تلك التعاليق وأمتنها وأدقها وأتقنها ما علقه عليه العالم الأصول الشيخ محمد تقي ( المتوفى 1248 ه. ق ) وسماه ب « هداية المسترشدين ».

بعد القرن العاشر إلى عصرنا الحاضر ألفت في الأصول كتب كثيرة مشهورة وغير مشهورة. لكنه كانت مدارسة كتاب المعالم في جميع المدة معمولة ، ولعله يكون كذلك متى كان قلوب طلاب العلم بتحصيل الأصول مشغولة.

ص: 12

- 11 -

ومما ينبغي ان لا يترك هنا الإشارة إليه والتنبيه عليه ، ان للأصول في سيره من زمان تأليف المعالم إلى عصرنا الحاضر ثلث مراحل :

الأولى : مرحلة البطؤ أو التوقف.

الثانية : مرحلة البسط والتقدم.

الثالثة : مرحلة التحرير والتلخيص. فهذه ثلاثة أدوار حصلت للأصول في تلك القرون.

الدور الأول من الأدوار الثلاثة استوعب القرنين ، الحادي عشر والثاني عشر ، فكان أكثر مدار البحث والدرس في ذينك القرنين على كتاب المعالم ، ولم يؤلف فيهما مؤلفات مهمة تقع من حيث المدارسة في عرض المعالم أو في طوله ، ولعله كان ذلك ناشئا عن كثرة الاقبال على الاخبار وغلبة علمائنا الأخباريين الأخيار.

وكان الدور الثاني في القرن الثالث عشر ، فجدد فيه أساس البحث والنظر وحصل في هذا الدور للأصول صولة للأصوليين في ميدان التصنيف والتأليف والتحقيق جولة. فصار هذا الدور دور البسط والتفصيل بل دور الاطناب والتطويل ، وناهيك ما ترى من كتاب « هداية المسترشدين » ( حاشية على المعالم ) وكتاب « قوانين الأصول » للمحقق الجيلاني القمي ( المرزا أبو القاسم المتوفى 1231 ه. ق ) وكتاب « الفصول » للشيخ محمد حسين ( تلميذ الشيخ محمد تقي وأخيه المتوفى 1261 ه. ق ) ، وكتاب « بحر الفوائد » للاشتياني ( الحاج مرزا حسن المتوفى 1319 ه. ق ) حاشية على « فرائد الأصول » تأليف أستاذه الأنصاري ( أول من أدرك الأصول في هذا الدور بالتنقيح والتهذيب ، ورتبه على ترتيبه الأنيق المتين الشيخ المطلق في لسان المتأخرين الحاج شيخ مرتضى بن محمد أيمن المتوفى 1281 ) وغيرها من الكتب المؤلفة في ذلك القرن.

كان هذا التحول في سير الأصول من آثار الأصولي الفحل ما لك أزمة الفضل الأستاذ الأكبر المولى الاجل الأفضل آقا محمد باقر بن محمد أكمل ( المتوفى سنة 1206 أو 1208 ه. ق ) إذ لأستاذ بقوة تقريره وجودة تحريره في مناظراته

ص: 13

المكررة ومراسلاته المحررة برع على خصماء الأصول وجعل دعاويهم كعصف مأكول.

- 12 -

شرع الدور الثالث من ابتداء القرن الرابع عشر ، وانعكس طور التأليف في هذا الدور فتلخص وتحرر. أول من بادر إلى تحرير الأصول عن الفضول تدريسا وتدوينا وهيج الأشواق إلى سلوك هذا السبيل تدريبا وتمرينا ، هو أستاذ المتأخرين على الاطلاق شيخ المجتهدين المعاصرين في الآفاق الذي لخص المقاصد والمعاني ، وأسس في الأصول جملة من المباني المولى محمد كاظم الخراساني ( المتوفى 1329 ه. ق ).

خلب المحقق الخراساني قلوب طلبة العلم بمعاليه ، وجلب عقول حملته من تلامذته ومعاصريه بما أنعم اللّه عليه من لباقة تقرير لا يعادله فيها أحد وأناقة تحرير لا يسهل تحديدها بحد ، فاقتفوا في التلخيص والتحرير اثره ، وآثروا في ايراد ما اصطلح عليه أرباب المعقول والاستناد به في تآليفهم الأصولية فكره.

صار كتاب « كفاية الأصول » الذي الفه المحقق الخراساني كتابا نهائيا لمدارسة الأصول.

جملة الكلام ، ان أهل العلم في القرن حملوا العناء وبذلوا العناية لا في التلخيص والتحرير فحسب ، بل في الدقيق والتحقيق ، وأيضا في التنسيق والتانيق.

- 13 -

ممن تابع في تنقيح مطالب الأصول وتوضيح مآربه أئمته والقى إليه التحقيق في هذا العصر أزمته. العالم العليم الأستاذ الأعظم المرزا محمد حسين الغروي الناييني فهو قد أكب مجاهدا على تهذيب الأصول بالبحث ، والب لتدريب الفضلاء وتعليمهم على الدرس ، فتخرج من معهد بحثه ومجلس درسه علماء جلة وفضلاء أولى تجلة يوعون ما يسمعون ويكتبون ما يستفيدون ويوعون.

ص: 14

وهذه المكتوبات هي التي اصطلح عليها عنوان « التقريرات » (1)

- 14 -

من جملة ما عرف بعنوان التقريرات هذا الكتاب ( كتاب فوائد الأصول ) الذين يريه الناظر حاضرا بين يديه ، وتهوى أفئدة عشاق الفضل إليه الفه قرة عين الأستاذ الاجل وغرة وجه العلم والعمل الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني ، الذي مات (رحمه اللّه) ولم تظهر أسرار دفائنه ولم تفتح اغلاق خزائنه ( توفى سنة 1365 ه. ق ).

هذا التأليف ان لم يكن أحسن ما كتب من دروس الأستاذ على الاطلاق فهو من أحسنها تنقيحا وأجودها توضيحا وأمتنها تعبيرا وأكثرها تحريرا ، وكيف لا؟ وقد أفاد الأستاذ في شأن المؤلف وما أفاد عين هذه الكلمات وهي ترشدنا إلى الفرق بينه وبين غيره « .. فان من أعظم ما أنعم به سبحانه وتعالى على العلم وأهله ، هو ما حباه من التوفيق والتأييد لقرة عيني العالم العلم العلام والفاضل البارع الهمام الفائز بأسنى درجات الصلاح والسداد بجهده والفائز بأسنى رتبة الاستنباط والاجتهاد بجده ، صفوة المجتهدين العظام وركن الاسلام ، والمؤيد المسدد التقى الزكي جناب الاغا الشيخ محمد على الخراساني الكاظمي أدام اللّه تعالى تأييده وأفضاله وكثر في العلماء الاعلام أمثاله.

« فقد أودع في هذه الصحائف الغر ما نقحناه في أبحاثنا مجدا في تنقيحه مجيدا في توضيحه ببيان رائق وترتيب فائق فلله دره وعليه سبحانه اجره .. » هكذا كان سير الأصول في تلك القرون الاسلامية إلى زماننا الحاضر ، و

ص: 15


1- في القرون الأولية من الاسلام قد يلقون الأساتذة على تلاميذهم عبارات مربوطة بالكتاب أو السنة أو غير ذلك فيملونها وسمى تلك المكتوبات ب « الأمالي » ومن ذلك أمالي الصدوق والمفيد والطوسي. و في القرون الأخيرة و لا سيّما في القرن الثالث عشر كان التّلامذة يكتبون بعد درس الأستاذ ما يستفيدون ممّا حقق و أفاد و يعرضونه عليه للبحث و الانتقاد، و تسمى تلك المكتوبات ب «التّقريرات». أوّل ما اشتهر بذلك العنوان على ما أظنّ، كتاب «مطارح الأنظار» الّذي ألّفه المحقّق العالم الميرزا أبو القاسم (المشهور بكلانتري المتوفى 1292 ه. ق) من إفادات أستاذه و أستاذ الكلّ الشيخ الأنصاري.

على ما دريت صار هذا العلم منتقلا من الغابرين إلى المعاصرين ، فلله در المجتهدين من العلماء ، وجزاهم اللّه عن الاسلام والعلم خير الجزاء.

هذا ما قصدنا ايراده على سبيل الاستعجال وطريق الاجمال مقدمة على الكتاب ، حسب ما أشار على بذلك من عنى بطبع هذا المجلد الأول وهو صديقي الممجد المبجل العالم العامل والفاضل الكامل حجة الاسلام الشيخ نصر اللّه المشتهر بالخلخالي بين الاعلام أدام اللّه بركاته وزاد ، تبارك وتعالى ، في حسناته.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا

طهران 20 ربيع الثاني 1368

محمود الشهابي الخراساني

ص: 16

الجزء الأول من كتاب فوائد الأصول

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف بريته وعلى اله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فيقول العبد المذنب الراجي عفو ربه محمد على الكاظمي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي قدس سره : انى لما حضرت مجلس بحث المولى خاتمة المجتهدين فريد عصره وفقيه زمانه ، من إليه انتهت الرياسة العامة ، شيخنا وملاذنا آية اللّه حضرة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني متع اللّه المسلمين ببقائه ، رأيت أن بحثه الشريف ذو فوائد جليلة ، بحيث ينتفع منه المنتهى من أهل العلم فضلا عن المبتدي ، ويستفيد منه من كثر باعه فضلا عمن قصر ، فأحببت تزيين هذه الأوراق بما استفدته من إفاداته الشريفة حسبما يسعني ويؤدى إليه فهمي القاصر.

فأقول : ومن اللّه استمد.

القول في أصول الفقه

اشارة

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم مقدمة ، ومقاصد ، وخاتمة.

اما المقدمة : ففي بيان نبذة من مباحث الألفاظ

ولما كان داب أرباب العلوم عند الشروع في العلم ذكر موضوع العلم ، وتعريفه ، وغايته ، فنحن أيضا نقتفي أثرهم. وينبغي قبل ذلك بيان مرتبة علم

ص: 17

الأصول وموقعه ، إذ لعله بذلك يظهر تعريفه وغايته.

فنقول : لا اشكال في أن العلوم ليست في عرض واحد ، بل بينها ترتب وطولية ، إذ رب علم يكون من المبادئ لعلم اخر ، ولأجل ذلك دون علم المنطق مقدمة لعلم الحكمة ، وكذلك كان علم النحو من مبادئ علم البيان ، ومن الواضح ان جل العلوم تكون من مبادئ علم الفقه ومن مقدماته حيث يتوقف الاستنباط على العلوم الأدبية : من الصرف ، والنحو ، واللغة ، وكذا يتوقف على علم الرجال ، وعلم الأصول ، ولكن مع ذلك ليست هذه العلوم في عرض واحد بالنسبة إلى الفقه ، بل منها ما يكون من قبيل المقدمات الاعدادية للاستنباط ، ومنها ما يكون من قبيل الجزء الأخير لعلة الاستنباط. وعلم الأصول هو الجزء الأخير لعلة الاستنباط بخلاف سائر العلوم ، فإنها من المقدمات ، حتى علم الرجال الذي هو أقرب العلوم للاستنباط ، ولكن مع هذا ليس في مرتبة علم الأصول بل علم الأصول متأخر عنه ، وعلم الرجال مقدمة له.

والحاصل

ان علم الأصول يقع كبرى لقياس الاستنباط وسائر العلوم تقع في صغرى القياس. مثلا استنباط الحكم الفرعي من خبر الواحد يتوقف على عدة أمور فإنه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ التي تضمنها الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة أبنية الكلمات ومحلها من الاعراب ليتميز الفاعل عن المفعول والمبتدأ عن الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة سلسلة سند الخبر وتشخيص رواته وتمييز ثقتهم عن غيره ، ويتوقف أيضا على حجية الخبر ، ومن المعلوم : ان هذه الأمور مترتبة من حيث دخلها في الاستنباط حسب ترتبها في الذكر والمتكفل لاثبات الامر الأول هو علم اللغة ، ولاثبات الثاني هو علم النحو والصرف ، ولاثبات الثالث هو علم الرجال ، ولاثبات الرابع الذي به يتم الاستنباط هو علم الأصول ، فرتبة علم الأصول متأخرة عن جميع العلوم ، ويكون كبرى لقياس الاستنباط. فيقال : الشيء الفلاني مما قام على وجوبه خبر الثقة ، وكلما قام على وجوبه خبر الثقة يجب ، بعد البناء على حجية خبر الواحد الذي هو نتيجة البحث في مسألة حجية خبر الواحد ، فيستنتج من تأليف

ص: 18

القياس وجوب الشيء الفلاني.

بما ذكرنا من مرتبه علم الأصول يظهر الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول ، وحاصل الضابط : ان كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط فهي من مسائل علم الأصول.

وبذلك ينبغي تعريف علم الأصول ، بان يقال : ان علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعى كلي ، فان ما عرف

به علم الأصول : من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الخ - لا يخلو عن مناقشات عدم الاطراد وعدم الانعكاس ، كما لا يخفى على من راجع كتب القوم.

وهذا بخلاف ما عرفنا به علم الأصول ، فإنه يسلم عن جميع المناقشات ، ويدخل فيه ما كان خارجا عن تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون داخلا ، ويخرج منه ما كان داخلا في تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون خارجا.

ثم إن المايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بعد اشتراكهما في أن كلا منهما يقع كبرى لقياس الاستنباط ، هو ان المستنتج من المسألة الأصولية لايكون الا حكما كليا ، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهية ، فإنه يكون حكما جزئيا وان صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلي أيضا الا ان صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المايز بينها وبين المسألة الأصولية ، حيث إنها لا تصلح الا لاستنتاج حكم كلي ، كما يأتي تفصيله في أوايل مباحث الاستصحاب (1) انشاء لله ، ويأتي هناك أيضا ان المسألة الأصولية قد تقع أيضا صغرى لقياس الاستنباط وتكون كبراه مسألة أخرى من مسائل علم الأصول ، الا انه مع وقوعها صغرى لقياس الاستنباط تقع في مورد اخر كبرى للقياس.

وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط أصلا فراجع. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك مرتبة علم الأصول وتعريفه.

ص: 19


1- الجزء الرابع من فوائد الأصول ، الامر الثاني
واما غايته

فهي غنية عن البيان ، إذ غايته هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن مداركها.

بقى الكلام في بيان موضوعه

وقد اشتهر ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد أطالوا الكلام في البحث عن العوارض الذاتية والفارق بينها وبين العوارض الغريبة ، وربما كتب بعض في ذلك ما يقرب من الف بيت أو أكثر.

وقد يفسر العرض الذاتي بما يعرض الشيء لذاته ، أي بلا واسطة في العروض وان كان هناك واسطة في الثبوت. والمراد من الواسطة في العروض ، هو ما كان العرض أولا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه ، كحركة الجالس في السفينة ، فان الحركة أولا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق.

وهذا بخلاف ما إذا لم يكن هناك واسطة في العروض ، سواء لم يكن هناك واسطة أصلا - كادراك الكليات بالنسبة إلى الانسان ، فان ادراك الكليات من لوازم ذات الانسان وهويته ، ويعرض على الانسان بلا توسيط شيء أصلا ، وليس ادراك الكليات فصلا للانسان ، بل الفصل هو الصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، ومن لوازم ذلك ادراك الكليات ، الا انه لازم نفس الذات بلا واسطة - أو كان هناك واسطة الا انها لم تكن واسطة في العروض ، بل كانت واسطة في الثبوت ، سواء كانت تلك الواسطة منتزعة عن مقام الذات ، كالتعجب العارض للانسان بواسطة ادراكه الكليات الذي هو منتزع عن مقام الذات ، حيث كان ذات الانسان يقتضى الادراك كما عرفت ، أو كانت الواسطة أمرا خارجا عما يقتضيه الذات كالحرارة العارضة للماء بواسطة مجاورة النار.

والسر في تفسير العرض الذاتي بذلك ، أي بان لايكون هناك واسطة في العروض ، مع أن هذا خلاف ما قيل في معنى العرض الذاتي : من أن العرض الذاتي

ص: 20

ما كان يقتضيه نفس الذات ، ومنتزعا عن مقام الهوية ، فمثل حرارة الماء من العرض الغريب لان عروض الحرارة على الماء يكون بواسطة امر خارج مباين ، بل ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مط ، سواء كان أعم أو أخص أو مباينا ، يكون من العرض الغريب اتفاقا ، وانما المختلف فيه ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مساوي ، كالضحك العارض للانسان بواسطة التعجب ، حيث ذهب بعض إلى أنه من العرض الذاتي ، وبعض اخر إلى أنه من العرض الغريب ، فالعبرة في العرض الذاتي عندهم هو كونه بحيث يقتضيه نفس الذات ، لاما لايكون له واسطة في العرض ، هو ان البحث في غالب مسائل العلوم ليس بحثا عن العوارض الذاتية لموضوع تلك المسألة على وجه يقتضيه ذات الموضوع ، بداهة ان خبر الواحد مثلا بهوية ذاته لا يقتضى الحجية ، إذ الحجية انما هي من فعل الشارع.

فالبحث عن حجية خبر الواحد ليس بحثا عن العوارض الذاتية للخبر ، وكذا الكلام في سائر المسائل لعلم الأصول وغيره من العلوم ، كقولنا : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، فان الرفع والنصب ليسا مما يقتضيه نفس ذات الفاعل والمفعول بهويتهما ، بل لمكان لسان العرب ، حيث إنهم يرفعون الفاعل وينصبون المفعول ، فيلزم بناء على ما قيل في تفسير العرض الذاتي ان يكون البحث في غالب العلوم بحثا عن العوارض الغريبة لموضوع العلم ، فلا بد من توسعة العرض الذاتي ، حتى يكون البحث في مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، بان يق : ان العرض الذاتي هو ما كان يعرض نفس الذات بلا واسطة في العروض وان كان لأمر لا يقتضيه نفس الذات. وعلى هذا يكون البحث في جميع مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية ، بداهة ان الحجية عارضة لذات الخبر وان كان ذلك بواسطة الجعل الشرعي ، وكذلك الرفع والنصب يعرضان لذات الفاعل والمفعول ، وان كان ذلك لأجل لسان العرب.

فالضابط الكلي للعرض الذاتي ، هو ان لا يتوسط بينه وبين الموضوع امر يكون هو معروض العرض أولا وبالذات ، كما هو الشأن في الوسائط العروضية.

إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام يقع من جهات :

ص: 21

الأولى : في نسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله.

الثانية : في المايز بين العلوم بعضها من بعض.

الثالثة : في موضوع علم الأصول.

اما الجهة الأولى

اشارة

فنسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله ، هو نسبة الكلي لافراده والطبيعي لمصاديقه ، بداهة ان الفاعل في قولنا كل فاعل مرفوع مصداق من مصاديق كلي الكلمة ، التي هي موضوع لعلم النحو.

فان قلت :

ان الرفع انما يعرض الفاعل ، وبتوسطه يعرض الكلمة ، وليس هو عارضا لذات الكلمة من حيث هي ، فيكون الرفع بالنسبة إلى الكلمة من العوارض الغريبة وان كان بالنسبة إلى الفاعل من العوارض الذاتية.

وبعبارة أخرى :

الموضوع للرفع هي الكلمة بشرط الفاعلية ، وموضوع علم النحو هو نفس الكلمة من حيث هي ، ومن المعلوم مغايرة الشيء بشرط شيء مع الشيء لا بشرط ، فيلزم اختلاف موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويلزم ان يكون المبحوث عنه في مسائل العلم من العوارض الغريبة لموضوع العلم. وهذا ينافي قولكم : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وان موضوع العلم عين موضوعات المسائل. وهذا الاشكال سيأتي في جميع العلوم.

قلت :

الفاعلية علة لعروض الرفع على نفس الكلمة ، لا ان الرفع يعرض للفاعلية أولا وبالذات ، فالواسطة في المقام انما تكون واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض ، وقد تقدم ان الواسطة الثبوتية لا تنافى العرض الذاتي.

والحاصل :

ان ما يعرض الفاعل من الرفع يعرض الكلمة بعين عروضه الفاعل من دون

ص: 22

واسطة.

وتوضيح ذلك

هو ان الموضوع في علم النحو مثلا ليس هو الكلمة من حيث هي لا بشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، كما أن الكلمة من حيث لحوق الصحة والاعتلال لها موضوع لعلم الصرف ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع أيضا ، هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بداهة ان البحث عن الفاعل ليس من حيث صدور الفعل عنه ، أو من حيث تقدم رتبته عن رتبة المفعول ، بل من حيث لحوق الاعراب له ، والمفروض ان الكلمة من هذه الحيثية أيضا تكون موضوعا لعلم النحو ، وكذا يق في مثل الصلاة واجبة ، حيث إن الموضوع في علم الفقه ليس هو فعل المكلف من حيث هو ، بل من حيث عروض الأحكام الشرعية عليه ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان كلا من موضوع العلم مع موضوعات المسايل يكون ملحوظا بشرط شيء وهو قيد الحيثية.

وربما يستشكل

في اخذ قيد الحيثية ، بأنه يلزم اخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، إذ الموضوع في قولنا : الكلمة اما معربة أو مبنية ليس هو مطلق الكلمة حسب الفرض ، بل الكملة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، فيلزم ان يكون قولنا : كل كلمة اما معربة أو مبنية ، بمنزلة قولنا : الكلمة المعربة أو المبنية ، اما معربة أو مبنية. وهذا كما ترى يلزم منه اخذ المحمول في الموضوع ، وهو ضروري البطلان ، لاستلزامه حمل الشيء على نفسه. هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف الاشكال ، بداهة ان المراد من قولنا : الكلمة من حيث البناء والاعراب موضوع لعلم النحو ، ليس الكلمة المتحيثة بحيثية الاعراب والبناء فعلا المتلونة بذلك حالا ، بل المراد الكلمة القابلة للحوق الاعراب والبناء لها ، والتي لها استعداد وقوة لحوق كل منهما لها ، فهذه الكلمة اما معربة فعلا ، واما مبنية فعلا.

ص: 23

والحاصل :

ان الكلمة من حيث ذاتها قابلة للحوق كل من الاعراب والبناء لها ، كما انها قابلة للحوق كل من الصحة والاعتلال والفصاحة والبلاغة لها ، فتارة : تلاحظ الكلمة من حيث قابليتها لقسم خاص من هذه العوارض ، كالاعراب والبناء ، فتجعل موضوعا لعلم النحو. وأخرى : تلاحظ من حيث قابليتها لقسم آخر من هذه العوارض ، كالصحة والاعتلال ، فتجعل موضوعا لعلم الصرف وهكذا.

فتحصل :

ان اعتبار قيد الحيثية بهذا المعنى يوجب ارتفاع اشكال تغاير موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل اتحادا عينيا ، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسالة أخرى هو عين ما به يشتركان ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع ، هو الكلمة القابلة للحوق الاعراب لها ، وتكون الفاعلية علة لعروض الرفع عليها ، كما أن الموضوع في قولنا : كل مفعول منصوب هو ذلك ، وتكون المفعولية علة لعروض النصب عليها ، فيحصل الاتحاد بين موضوعات المسائل وموضوع العلم.

وبما ذكرنا من اعتبار قيد الحيثية في موضوع العلم يظهر لك البحث عن الجهة الثانية ، وهو المايز بين العلوم.

وتوضيح ذلك :

ان المشهور ذهبوا إلى أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وذهب بعض إلى أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض والجهات التي دون لأجلها العلم ، كصيانة المقال عن الألحان في علم النحو ، والفكر عن الخطاء في علم المنطق ، واستنباط الأحكام الشرعية في علم الأصول.

ووجه العدول عن مسلك المشهور : هو انه يلزم تداخل العلوم بعضها مع بعض لو كان المايز بينها هو الموضوع ، وهذا الاشكال انما يتوجه بناء على أن يكون ما يعرض الشيء لجنسه من العوارض الذاتية ، كالتحرك بالإرادة العارض للانسان

ص: 24

بواسطة كونه حيوانا ، أو العارض للجنس بواسطة الفصل ، كالتعجب العارض للحيوان بواسطة كونه ناطقا ، فان كلا من هذين القسمين وقع محل الكلام في كونه من العرض الذاتي ، حيث ذهب بعض إلى أن ما يعرض الشيء لجزئه الأعم أو الأخص يكون من العرض الغريب ، كما أن من العرض الغريب ما كان لأمر خارج أعم أو أخص أو مباين على مشرب المشهور ، فيلزم ان يكون البحث عن كل ما يلحق الكلمة ولو بواسطة فصولها بحثا عن عوارض الكملة ، فيتداخل علم النحو والصرف واللغة ، لان البحث في الجميع يكون عن عوارض الكلمة التي هي موضوع في العلوم الثلاثة ، وان اختلفت جهة البحث ، حيث إن جهة البحث في النحو هي الاعراب والبناء ، وفي الصرف هي الصحة والاعتلال ، وفي اللغة هي المعاني والمفاهيم ، الا ان الجميع يكون من العوارض الذاتية لجنس الكلمة حسب الفرض ، وان كان عروضها لها باعتبار ما لها من الفصول : من الفاعل والمفعول ، والثلاثي والمزيد فيه ، الا ان الجميع يعرض جنس الكلمة ، والمفروض ان عوارض الجنس عوارض ذاتية للكلمة ، فيلزم تداخل العلوم الثلاثة.

ولأجل ورود هذا الاشكال زيد قيد الحيثية ، وقيل : ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات.

وقد أشكل على زيادة الحيثية : بأنها مما لا تسمن ولا تغنى من جوع ، كما لا يخفى على المراجع في المطولات هذا.

ولكن الانصاف

انه يمكن حسم مادة الاشكال بما ذكرناه من معنى الحيثية التي اخذت قيدا في موضوع العلم ، فإنه هب ان هذه العوارض من العوارض الذاتية للكلمة ، الا ان المبحوث عنه في علم النحو ليس مطلق ما يعرض الكلمة من العوارض الذاتية لها ، بل من حيث خصوص قابليتها للحوق البناء والاعراب لها ، على وجه تكون هذه الحيثية هي مناط البحث في علم النحو ، فالحيثية في المقام حيثية تقييدية ، لا تعليلية ، ولا الحيثية التي تكون عنوانا للموضوع كالحيثية في قولنا : الماهية من حيث هي هي ليست الا هي. فإذا صار الموضوع في علم النحو هي الكلمة من حيث خصوص لحوق

ص: 25

البناء والاعراب لها ، والموضوع في علم الصرف هي الكلمة من حيث خصوص لحوق الصحة والاعتلال لها ، فيكون المايز بين علم النحو والصرف هو الموضوع المتحيث بالحيثية الكذائية.

وبعد ذلك ، لا موجب لدعوى ان تمايز العلوم بتمايز الاغراض ، مع أن هناك مايز ذاتي في الرتبة السابقة على الغرض.

وما يقال : من أن الموضوع في علم المعاني هو الكلمة القابلة للحوق البناء والاعراب لها ، فيرتفع المايز بين علم النحو وعلم المعاني فضعفه ظاهر ، إذا لموضوع في علم المعاني ، ليس هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بل هو الكلمة من حيث لحوق الفصاحة والبلاغة لها ، وان كان لحوق الفصاحة والبلاغة لها في حال لحوق البناء والاعراب لها ، الا ان كون الكملة في حال كذا موضوعا لعلم لايكون البحث في ذلك العلم عن ذلك الحال غير كون الكلمة موضوعا بقيد ذاك الحال فتأمل.

وبما ذكرنا من قيد الحيثية يظهر :

ان البحث في جل مباحث الأوامر والنواهي مما يرجع البحث عن مفاهيم الألفاظ ومداليل صيغ الأمر والنهي ، يكون بحثا عما يلحق موضوع علم الأصول وليس من المعاني اللغوية ، إذ البحث في تلك المباحث انما يكون من حيثية استنباط الحكم الشرعي ، وان كان عنوان البحث أعم ، الا ان قيد الحيثية ملحوظ فتأمل.

وإذا عرفت ما ذكرناه : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، فلا يهمنا البحث عن أن عوارض الجنس من العوارض الذاتية أو العوارض الغريبة ، ونفصل القول في اقسام كل منها ، فليطلب من المطولات.

بقى في المقام البحث عن الجهة الثالثة

اشارة

وهي البحث عن موضوع خصوص علم الأصول.

فقيل :

ان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها ، أو بوصف كونها أدلة.

ص: 26

والاشكالات الواردة على اخذ الموضوع ذلك مما لا تخفى على المراجع. وكفى في الاشكال هو انه لو كان موضوع علم الأصول ذلك يلزم خروج أكثر مباحثه : من مسألة حجية خبر الواحد ، ومسألة التعادل والتراجيح ، ومسألة الاستصحاب ، وغير ذلك مما لا يرجع البحث فيها عما يعرض الأدلة الأربعة ، بل يلزم خروج جل من مباحث الألفاظ ، كالمباحث المتعلقة بمعاني الأمر والنهي ، ومثل مقدمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي ، حيث تكون من المبادئ التصورية أو التصديقية ، أو من مبادئ الاحكام التي زادها القوم في خصوص علم الأصول ، حيث أضافوا إلى المبادئ التصورية والتصديقية مبادئ أحكامية.

وتوضيح ذلك :

هو ان لكل علم مبادئ تصورية ، ومبادي تصديقية. والمراد من المبادئ التصورية هو ما يتوقف عليه تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول كذلك. والمراد من المبادئ التصديقية هو مما يتوقف عليه التصديق والاذعان بنسبة المحمول إلى الموضوع. فمسألة العلم تكون حينئذ ، هي عبارة عن المحمولات المنتسبة ، أو مجموع القضية - على الخلاف. والمراد من المبادئ الأحكامية هو ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية : من التكليفية والوضعية بأقسامهما ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام : من كونها متضادة ، وكون الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل ، أو منتزعة عن التكليف ، وغير ذلك من حالات الحكم. ووجه اختصاص المبادئ الأحكامية بعلم الأصول ، هو ان منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في طريق استنباطه.

ثم إن البحث عن المبادئ بأقسامها ، وليس من مباحث العلم ، بل كان حقها ان تذكر في علم اخر ، مما كانت المبادئ من عوارض موضوعه ، الا انه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كل علم في نفس ذلك العلم ، لعدم تدوينها في علم آخر.

وعلى كل تقدير يلزم بناء على أن يكون موضوع علم الأصول هو خصوص الأدلة الأربعة كون كثير من مباحثه اللفظية مندرجة في مبادئ العلم :

ص: 27

المبادئ الأحكامية ، أو المبادئ التصديقية ، أو التصورية ، على اختلاف الوجوه التي يمكن البحث عنها ، مضافا إلى لزوم خروج كثير من مهمات مسائله عنه ، كمسألة حجية خبر الواحد ، وتعارض الأدلة ، وغير ذلك.

وما تكلف به الشيخ قده

في باب حجية (1) خبر الواحد ، من ادراج تلك المسألة في مسائل علم الأصول على وجه يكون البحث فيها بحثا عن عوارض السنة بما لفظه : « فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة أعني قول الحجة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد ، أم لا يثبت الا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلة الخ ».

لا يخلو عن مناقشة

فان البحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارض الموضوع ، فان البحث عن العوارض يرجع إلى مفاد كان الناقصة ، أي البحث عن ثبوت شيء لشيء ، لا البحث عن ثبوت نفس الشيء.

هذا ان أريد من السنة ، نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو ظاهر العبارة. وان أريد من السنة ، ما يعم حكايتها ، بان يكون خبر الواحد قسما من اقسام السنة ، فهو واضح البطلان ، بداهة ان السنة ليست الا نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره.

وبالجملة : لا داعي إلى جعل موضوع علم الأصول ، خصوص الأدلة الأربعة ، حتى يلتزم الاستطراد ، أو يتكلف في الأدراج ، بل الأولى ان يق : ان موضوع علم الأصول ، هو كل ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو ما ينتهى إليه العمل ان أريد من الحكم الحكم الواقعي ، وان أريد الأعم منه ومن الظاهري ، فلا يحتاج إلى قيد ( أو ما ينتهى إليه العمل ) لان المستفاد .

ص: 28


1- فرائد الأصول - مباحث الظن - بحث خبر الواحد - بعد قوله قدس سره : « اما المقدمة الأولى .. » ص.

من الأصول العملية أيضا هو الحكم الشرعي الظاهري ، اللّهم الا ان يكون المراد من القيد ، بعض الأصول العقلية فتأمل جيدا.

ولا يلزمنا معرفة الموضوع بحقيقته واسمه ، بل يكفي معرفة لوازمه وخواصه. فموضوع علم الأصول هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله ، التي يجمعها عنوان وقوع عوارضها كبرى لقياس الاستنباط ، وهذا المقدار من معرفة الموضوع يكفي ويخرج عن كون البحث عن امر مجهول.

فظهر من جميع ما ذكرنا : رتبة علم الأصول ، وتعريفه ، وغايته ، وموضوعه. حيث كانت رتبته : هي الجزء الأخير من علة الاستنباط. وتعريفه : هو العلم بالكبريات التي لو انضم إليها صغرياتها يستنتج حكم فرعى. وغايته : الاستنباط. وموضوعه : ما كان عوارضه واقعة في طريق الاستنباط. وإذ فرغنا من ذلك فلنشرع في المقدمة التي هي في مباحث الألفاظ ، وفيها مباحث :

المبحث الأول في الوضع

اعلم : انه قد نسب إلى بعض ، كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع ، أي كانت هناك خصوصية في ذات اللفظ اقتضيت دلالته على معناه ، من دون ان يكون هناك وضع وتعهد من أحد ، وقد استبشع هذا القول ، وأنكروا على صاحبه أشد الانكار ، لشهادة الوجدان على عدم انسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع ، فلا بد من أن يكون دلالته بالوضع.

ثم أطالوا الكلام في معنى الوضع وتقسيمه إلى التعييني والتعيني ، مع ما أشكل على هذا التقسيم ، من أن الوضع عبارة عن الجعل والتعهد واحداث علقة بين اللفظ والمعنى ، ومن المعلوم ان في الوضع التعيني ليس تعهد وجعل علقة ، بل اختصاص اللفظ بالمعنى يحصل قهرا من كثرة الاستعمال ، بحيث صار على وجه ينسبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق.

وربما فسر الوضع بمعناه الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس العلقة والاختصاص الحاصل تارة : من التعهد وأخرى : من كثرة الاستعمال هذا.

ص: 29

ولكن الذي ينبغي ان يق :

ان دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع ، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنه لو سلم امكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة.

ودعوى : ان التبليغ والايصال يكون تدريجا ، مما لا ينفع ، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم ، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد.

وبالجملة : دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد واحداث العلقة بين اللفظ والمعنى من شخص خاص مثل يعرب بن قحطان ، كما قيل ، مما يقطع بخلافها. فلا بد من انتهاء الوضع إليه تعالى ، الذي هو على كل شيء قدير ، وبه محيط ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعا تشريعيا ، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا ، إذ ذلك أيضا مما يقطع بخلافه. بل المراد من كونه تعالى هو الواضع ان حكمته البالغة لما اقتضت تكلم البشر بابراز مقاصدهم بالألفاظ ، فلا بد من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شانه بوجه ، اما بوحي منه إلى نبي من أنبيائه ، أو بالهام منه إلى البشر ، أو بابداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم ، حسب ما أودعه اللّه في طباعهم ، ومن المعلوم ان ايداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب ، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص ، على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح. ولا يلزم ان تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ ، حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية ، كما ينسب

ص: 30

ذلك إلى سليمان بن عباد ، بل لابد وأن يكون هنا جهة ما اقتضت تأدية معنى الانسان بلفظ الانسان ، ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان.

وعلى كل حال : فدعوى ان مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع مما لا سبيل إليها ، لما عرفت من عدم امكان إحاطة البشر بذلك.

ثم انه قد اشتهر تقسيم الوضع : إلى الوضع العام والموضوع له العام ، والى الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والى الوضع العام والموضوع له الخاص. وربما زاد بعض على ذلك الوضع الخاص والموضوع له العام ، ولكن الظاهر أنه يستحيل ذلك ، بداهة ان الخاص بما هو خاص لا يصلح ان يكون مرآة للعام. ومن هنا قيل : ان الجزئي لايكون كاسبا ولا مكتسبا ، وهذا بخلاف العام ، فإنه يصلح ان يكون مرآة لملاحظة الافراد على سبيل الاجمال.

نعم ربما يكون الخاص سببا لتصور العام وانتقال الذهن منه إليه ، الا انه يكون حينئذ الوضع عاما كالموضوع له ، فدعوى امكان الوضع الخاص والموضوع له العام ، مما لا سبيل إليها. وهذا بخلاف بقية الأقسام ، فان كلا منها بمكان من الامكان إذ يمكن ان يكون الملحوظ حال الوضع عاما قابل الانطباق على كثيرين ، أو يكون خاصا.

ثم ما كان عاما ، يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك العام ، فيكون الموضوع له أيضا عاما على طبق الملحوظ حال الوضع ، كما أنه يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء مصاديق ذلك العام وافراده المتصورة اجمالا بتصور ما يكون وجها لها وهو العام وتصور الشيء بوجهه بمكان من الامكان ، فيكون الموضوع له ح خاصا ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا صرف امكان لا واقع له ، بداهة ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، يتوقف تحققه على أن يكون هناك وضع وجعل من شخص خاص ، حتى يمكنه جعل اللفظ بإزاء الافراد ، وقد عرفت المنع عن تحقق الوضع بهذا الوجه ، وانه لم يكن هناك واضع مخصوص ، وتعهد من قبل أحد ، بل الواضع هو اللّه تعالى بالمعنى المتقدم. وح فالوضع العام والموضوع له الخاص بالنسبة إلى الألفاظ المتداولة التي وقع النزاع فيها مما لا واقع له. نعم يمكن ذلك بالنسبة إلى

ص: 31

المعاني المستحدثة والأوضاع الجديدة.

ثم لا يذهب عليك ان الوضع العام والموضوع له الخاص يكون قسما من اقسام المشترك اللفظي ، بداهة ان الموضوع له في ذلك انما يكون هي الافراد ، ومن المعلوم تباين الافراد بعضها مع بعض ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى الافراد من المشترك اللفظي ، غايته انه لم يحصل ذلك بتعدد الأوضاع ، بل بوضع واحد ، ولكن ينحل في الحقيقة إلى أوضاع متعددة حسب تعدد الافراد.

وبالجملة :

لافرق بين الوضع العام والموضوع له الخاص ، وبين قوله : كلما يولد لي في هذه الليلة فقد سميته عليا ، فكما ان قوله ذلك يكون من المشترك اللفظي ، إذ مرجع ذلك إلى أنه قد جمع ما يولد له في الليلة في التعبير ، وسماهم بعلي ، فيكون من المشترك اللفظي ، إذ لا جامع بين نفس المسميات ، لتباين ما يولد له في هذه الليلة ، فكذلك الوضع العام والموضوع له الخاص.

بل يمكن ان يق : ان قوله كلما يولد لي في هذه الخ يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص أيضا ، غايته ان الجامع المتصور حين الوضع ، تارة يكون ذاتيا للأفراد كما إذا تصور الانسان وجعل اللفظ بإزاء الافراد ، وأخرى يكون عرضيا جعليا ، كتصور مفهوم ما يولد فتأمل جيدا ، هذا.

ولكن يظهر (1) من الشيخ قده - على ما في التقرير - في باب الصحيح والأعم عند تصور الجامع بناء على الصحيح ، الفرق بين الوضع العام والموضوع له .

ص: 32


1- واليك نص ما افاده صاحب التقريرات : « ان المتشرعة توسعوا في تسميتهم إياها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع من حيث حصول ما هو المقصود من المركب التام من غيره أيضا. كما سموا كلما هو مسكر خمرا وان لم يكن مأخوذا من العنب مع أن الخمر هو المأخوذ منه وليس بذلك البعيد ، ونظير ذلك لفظ الاجماع .. إلى أن قال : « فكان مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي ». مطارح الأنظار - ص 5 - في تصوير الجامع بناء على القول بوضع الألفاظ للصحيح.

الخاص وبين المشترك اللفظي هذا. ولكن يمكن ان يكون مراده من المشترك اللفظي في ذلك المقام ، هو ما تعدد فيه الوضع حقيقة ، لا ما كان التعدد بالانحلال ، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

وعلى كل حال ، لا اشكال في ثبوت الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام.

واما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقيل : انه وضع الحروف وما يلحق بها ، وقيل : ان الموضوع له فيها أيضا عام ، كالوضع. وربما قيل : ان كلا من الوضع والموضوع له فيها عام ، ولكن المستعمل فيه خاص. وينبغي بسط الكلام في ذلك ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام.

فنقول : البحث في الحروف يقع في مقامين : المقام الأول : في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء.

المقام الثاني : في بيان الموضوع له في الحروف ، من حيث العموم والخصوص.

اما البحث عن المقام الأول

اشارة

فقد حكى في المسألة أقوال ثلاثة.

القول الأول

هو انه لا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى في هوية ذاته وحقيقته ، لا في الوضع ولا في الموضوع له ، بل المعنى الحرفي هو المعنى الأسمى ، وكل من معنى لفظة ( من ) ولفظة ( الابتداء ) متحد بالهوية ، وان الاستقلالية بالمفهومية المأخوذة في الأسماء ، وعدم الاستقلالية المأخوذة في الحروف ، ليس من مقومات المعنى الأسمى والمعنى الحرفي. فمرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ ( من ) ولفظ ( الابتداء ) موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل ، فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الاخر ، الا ان الواضع لم يجوز ذلك ، ووضع لفظة ( من ) لان تستعمل فيما لا يستقل بان يكون قائما بغيره ، ولفظة ( الابتداء ) لان تستعمل فيما يستقل وما يكون قائما بذاته ، فكأنه شرط من قبل الواضع ، مأخوذ في

ص: 33

ناحية الاستعمال من دون ان يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.

القول الثاني

هو انه ليس للحروف معنى أصلا ، بل هي نظير علامات الاعراب من الرفع والنصب والجر ، حيث إن الأول علامة للفاعلية ، والثاني علامة للمفعولية ، والثالث علامة للمضاف إليه ، من دون ان يكون لنفس الرفع والنصب والجر معنى أصلا ، فكذلك الحروف ، حيث وضعت لمجرد العلامة لما أريد من مدخولها حسب تعدد ما يراد من الدخول ، مثلا الدار تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، التي هي موجودة كسائر الموجودات التكوينية ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني الذي هو عبارة عن المكان الذي يستقر فيه الشيء ، وكذلك البصرة مثلا تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني ، وثالثة : تلاحظ بما انها مبدء السير ، ورابعة : تلاحظ بما انها ينتهى إليها السير.

ومن المعلوم : انه في مقام التفهيم والتفهم لا بد من علامة ، بها يقتدر على تفهيم المخاطب ما أريد من الدار والبصرة من اللحاظات ، فوضع الاعراب علامة لملاحظة الدار بوجودها العيني ، فتقع ح مبتداء أو خبرا فيقال : الدار كذا ، أو زيد في الدار ، ووضعت كلمة ( من ) للعلامة على أن الدار أو البصرة لوحظت كونها مبدء السير ، و ( إلى ) علامة كونها ملحوظة منتهى السير ، وكلمة ( في ) علامة لكونها ملحوظة بوجودها الأيني المقابل لوجودها العيني ، فليس لكلمة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) معنى أصلا ، بل حالها حال أداة الاعراب ، من كونها علامة صرفة لما يراد من مدخولاتها ، من دون ان يكون تحت قوالب ألفاظها معنى أصلا. وهذان القولان نسبا إلى الرضى ره لان اختلاف عبارته يوهم ذلك.

القول الثالث

هو ان للحروف معاني ممتازة بالهوية عن معاني الأسماء ، ويكون الاختلاف بين الحروف والاسم راجعا إلى الحقيقة ، بحيث تكون معاني الحروف مباينة لمعاني الأسماء تباينا كليا ، لا ان معانيها متحدة مع معاني الأسماء ، ولا انها علامات صرفة ليس لها معاني. وهذا القول هو الموافق للتحقيق الذي ينبغي البناء عليه. و

ص: 34

توضيح ذلك يقضى رسم أمور :

الامر الأول :

في شرح ما قيل في معنى الاسم : من أنه ما دل على معنى في نفسه أو قائم بنفسه ، والحرف ما دل على معنى في غيره أو قائم بغيره ، وقبل ذلك ينبغي الإشارة إلى ما يراد من المعنى والمفهوم.

فنقول : المراد من المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني ، الذي يدركه العقل من الحقائق ، سواء كان لتلك الحقايق خارج يشار إليه ، أو لم يكن ، وذلك المدرك العقلاني يكون مجردا عن كل شيء وبسيطا غاية البساطة ، بحيث لايكون فيه شائبة التركيب ، إذ التركيب من المادة والصورة انما يكون من شأن الخارجيات ، واما المدركات العقلية فليس فيها تركيب ، بل لا تركيب في الأوعية السابقة على وعاء العقل من الواهمة والمتخيلة بل الحس المشترك أيضا ، إذ ليس في الحس المشترك الا صورة الشيء مجردا عن المادة ، ثم يرقى الشيء المجرد عن المادة إلى القوة الواهمة ، ثم يصعد إلى أن يبلغ صعوده إلى المدركة العقلانية ، فيكون الشيء في تلك المرتبة مجردا عن كل شيء حتى عن الصورة ، فالمفهوم عبارة عن ذلك المدرك العقلاني الذي لا وعاء له الا العقل ، ولا يمكن ان يكون ذلك الشيء في ذلك الوعاء مركبا من مادة وصورة ، بل هو بسيط كل البساطة.

وما يقال : من أن الجنس والفصل عبارة عن الاجزاء العقلية ، فليس المراد ان المدركات العقلية مركبة من ذلك ، بل المراد ان العقل بالنظر الثانوي إلى الشيء يحكم : بأن كل مادي لابد وأن يكون له ما به الاشتراك الجنسي ، وما به الامتياز الفصلي ، والا فالمدرك العقلي لايكون فيه شائبة التركيب أصلا ، فمرادنا من المعنى والمفهوم في كل مقام ، هو ذلك المدرك العقلي.

إذا عرفت ذلك فنقول :

في شرح قولهم : ان الاسم ما دل على معنى في نفسه ، أو قائم بنفسه ، هو ان المعنى الأسمى مدرك من حيث نفسه ، وله تقرر في وعاء العقل ، من دون ان يتوقف ادراكه على ادراك امر اخر ، حيث إنه هو بنفسه معنى يقوم بنفسه في مرحلة التصور و

ص: 35

الادراك ، وله نحو تقرر وثبوت ، سواء كان المعنى من مقولة الجواهر ، أو من مقولة الاعراض ، إذ الاعراض انما يتوقف وجودها على محل ، لا ان هويتها تتوقف على ذلك ، حتى الاعراض النسبية ، كالأبوة والبنوة ، فان تصور الاعراض النسبية وان كان يتوقف على تصور طرفيها ، الا انه مع ذلك لها معنى متحصل في حد نفسه عند العقل ، وله نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور والادراك.

والحاصل :

ان المراد من كون المعنى الأسمى قائما بنفسه ، هو ان للمعنى نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، سواء كان هناك لافظ ومستعمل ، أو لم يكن ، وسواء كان واضع ، أو لم يكن ، كمعاني الأسماء : من الأجناس والاعلام ، من الجواهر المركبة والمجردات والاعراض وكل موجود في عالم الامكان ، فإنه كما أن لكل منها نحو تقرر وثبوت في الوعاء المناسب له من عالم المجردات وعالم الكون والفساد ، فكذلك لكل منها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل عند تصورها وادراكها ، من دون ان يكون لاستعمال ألفاظها دخل في ذلك ، بل معاني تلك الألفاظ بأنفسها ثابتة ومتقررة عند العقل في مقام التصور ، كما يشاهد ان للفظة الجدار مثلا معنى ثابتا عند العقل في مرحلة ادراكه وتصوره على نحو ثبوته العيني التكويني ، من دون ان يتوقف ادراكه على وضع ولفظ واستعمال ، كما لا توقف لوجوده العيني على ذلك ، فهذا معنى قولهم : ان الاسم ما دل على معنى قائم بنفسه ، إذ معنى كونه قائما بنفسه هو ثبوته النفسي ، وتقرره عند العقل.

واما معنى قولهم : ان الحرف ما دل على معنى في غيره ، أو قائم بغيره ، فالمراد منه : هو ان المعنى الحرفي ليس له نحو تقرر وثبوت في حد نفسه ، بل معناه قائم بغيره ، لا بمعنى انه ليس له معنى ، كما توهمه من قال إنه ليس للحروف معنى بل هي علامات صرفه ، بل بمعنى ان معناه ليس قائما بنفسه وبهوية ذاته ، بل قائم بغيره ، نظير قيام العرض بمعروضه وان لم يكن من هذا القبيل ، الا انه لمجرد التنظير والتشبيه ، والا فللعرض معنى قائم بنفسه عند التصور ، وان كان وجوده الخارجي يحتاج إلى محل يقوم به.

ص: 36

والحاصل : ان المعنى الحرفي يكون قوامه بغيره ، ونحو تقرره وثبوته بتقرر الغير وثبوته ، كالنسبة الابتدائية والظرفية القائمة بالبصرة والدار عند قولنا : سرت من البصرة وزيد في الدار. ولعل من توهم انه ليس للحروف معنى اشتبه من قولهم في تعريف الحرف : بأنه ما دل على معنى في غيره ، فتخيل ان مرادهم من ذلك هو انه ليس له معنى ، ولكن قد عرفت : انه ليس مرادهم ذلك ، بل مرادهم ان المعنى الحرفي ليس قائما بنفسه نظير قيام المعنى الأسمى بنفسه.

والفرق بين كونه علامة صرفة ، وبين كون معناه قائما بغيره ، هو انه بناء على العلامة يكون الحرف حاكيا عن معنى في الغير متقرر في وعائه ، كحكاية الرفع عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه ، مع قطع النظر عن الاستعمال. وهذا بخلاف كون معناه قائما بغيره ، فإنه ليس فيه حكاية عن ذلك المعنى القائم بالغير ، بل هو موجد لمعنى في الغير ، على ما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين منها : ما تكون اخطارية ، ومنها : ما تكون ايجادية.

اما الأولى : فكمعاني الأسماء حيث إن استعمال ألفاظها في معانيها يوجب اخطار معانيها في ذهن السامع واستحضارها لديه ، والسر في ذلك هو ما ذكرناه من أن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، الذي هو وعاء الادراك ، فيكون استعمال ألفاظها موجبا لاخطار تلك المعاني في الذهن.

واما الثانية : فكمعاني الحروف حيث إن استعمال ألفاظها موجب لايجاد معانيها من دون ان يكون لمعانيها نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد في موطن الاستعمال ، وذلك ككاف الخطاب وياء النداء ، وما شابه ذلك ، بداهة انه لولا قولك يا زيد وإياك ، لما كان هناك نداء ولا خطاب ، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب الا بالاستعمال وقولك يا زيد وإياك ، فنداء زيد وخطاب عمرو انما يوجد ويتحقق بنفس القول ، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكن له سبق تحقق ، بل يوجد بنفس الاستعمال ، لوضوح انه

ص: 37

لا يكاد توجد حقيقة المخاطبة والنداء بدون ذلك ، فواقعية هذا المعنى وهويته تتوقف على الاستعمال ، وبه يكون قوامه. وهذا بخلاف معنى زيد ، فان له نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور مع قطع النظر عن الاستعمال ، ومن هنا صار استعماله موجبا لاخطار معناه ، بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب ، فإنه ليس له نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال. نعم مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرر في وعاء العقل ، الا انه لم توضع لفظة يا وكاف الخطاب بإزائه بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة النداء ولفظة الخطاب ، لا لفظة يا وكاف الخطاب ، بل هما وضعتا لايجاد النداء والخطاب ، وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه. انما الاشكال في أن جميع معاني الحروف تكون ايجادية أولا. ظاهر كلام المحقق (1) صاحب الحاشية : هو اختصاص ذلك ببعض الحروف ، وكان منشأ توهم الاختصاص ، هو تخيل ان مثل ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف تكون معانيها اخطارية ، حيث كان استعمالها موجبا لاخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء ، مثلا في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون لفظة ( من ) و ( إلى ) حاكية عما وقع في

ص: 38


1- هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. الفائدة الثانية من الفوائد التي وضعها في تتمة مباحث الألفاظ. ص 22. واليك نص ما افاده قدس سره في هذا المقام : « الثانية : الغالب في أوضاع الألفاظ ان تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها ، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات ، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدال عليه ، فليس من شأن اللفظ الا احضار ذلك المعنى ببال السامع ، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ ، فيكون اللفظ آلة لايجاد معناه وأداة لحصوله ويجرى كل من القسمين في المركبات والمفردات. » إلى أن قال : « والنوع الأول من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة ، فإنها انما تقضى باحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد اثبات تلك المعاني في الخارج فهي أعم من أن تكون ثابتة في الواقع أولا. والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة والافعال الانشائية بالنسبة إلى وضعها النسبي ، وعدة من الحروف كحروف النداء والحروف المشبهة بالفعل ونحوها ، فان كلا من الإشارة والنسبة الخاصة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال هذا ، واضرب ، ويا ، وان ، في معاينها .. »

الخارج كحكاية لفظة زيد عن معناه هذا.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق ان معاني الحروف كلها ايجادية وليس شيء منها اخطارية. وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في معنى النسبة وأقسامها.

فنقول : ان النسبة عبارة عن العلقة والربط الحاصل من قيام إحدى المقولات التسع بموضوعاتها ، بيان ذلك هو انه لما كان وجود العرض - في نفسه ولنفسه - عين وجوده - لموضوعه وفي موضوعه - لاستحالة قيام العرض بذاته ، فلا بد ان تحدث هناك نسبة وإضافة بين العرض وموضوعه ، بداهة ان ذلك من لوازم قيام العرض بالموضوع ، وعينية وجوده لوجوده الذي يكون هو المصحح للحمل ، فإنه لولا قيام البياض بزيد واتحاد وجوده بوجوده لما كاد ان يصح الحمل ، فلا يقال : زيد ابيض ، الا بلحاظ العينية في الوجود ، إذ لولا لحاظ ذلك لكان البياض أمرا مباينا لزيد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، إذ ملاك الحمل هو الاتحاد في الوجود في الحمل الشايع الصناعي ، فالإضافة الحاصلة من قيام العرض بموضوعه هي المصحح للحمل ، إذ بذلك القيام يحصل الاتحاد والعينية في الوجود ، بل الإضافة تحتاج إليها في كل حمل ، وان لم يكن من الحمل الشايع الصناعي ، كقولك : الانسان حيوان ناطق ، وزيد زيد ، غايته ان في مثل هذا الحمل لابد من تجريد الموضوع بنحو من التجريد حتى لايكون من حمل الشيء على نفسه ، الا ان التجريد يكون بضرب من الجعل والتنزيل ، إذ لا يمكن تجريد الشيء عن نفسه حقيقة ، بل لابد من اعتبار التجريد حتى يصح الحمل ، ويخرج عن كونه من حمل الشيء على نفسه. وهذا بخلاف التجريد في الحمل الشايع الصناعي ، فان التجريد فيه يكون حقيقيا ذاتيا ، لتغاير ذات زيد وحقيقته عن حقيقة الأبيض ، ولا ربط لأحدهما بالآخر لولا الاتحاد الخارجي. وعلى كل حال ، فلا اشكال في أنه عند قيام كل عرض من أي مقولة بمعروضه تحدث إضافة بينهما ، وتلك الإضافة هي المعبر عنها بالنسبة.

ثم انه ، لما كان قيام العرض بموضوعه وعينية وجوده لوجوده فرع وجوده ، بداهة ان وجوده لنفسه كان عين وجوده لموضوعه ، ومن المعلوم : ان عينية الوجود لموضوعه متأخرة بالرتبة عن أصل وجوده ، كان أول نسبة تحدث هي النسبة

ص: 39

الفاعلية التي هي واقعة في رتبة الصدور والوجود ، إذ الفاعل ما كان يوجد عنه الفعل على اختلاف الافعال الصادرة عنه ، فنسبة الفعل إلى الفاعل هي أول النسب ، ومن ذلك تحصل الافعال الثلاثة من الماضي والمضارع والامر ، على ما هي عليها من الاختلاف ، الا ان الجميع يشترك في كون النسبة فيه نسبة التحقق والصدور ، وإيجاد المبدء ، فهذه أول نسبة تحدث بين العرض والموضوع ، ثم بعد ذلك تحدث نسبة المشتق ، لان المشتق انما يتولد من قيام العرض بالموضوع والاتحاد في الوجود الموجب للحمل ، فيقال : زيد ضارب ، ومن المعلوم : ان هذا الاتحاد لمكان صدور الضرب عنه ، فالنسبة الأولية الحادثة هي النسبة الفاعلية ، وفي الرتبة الثانية تحدث نسبة المشتق ، ثم بعد ذلك تصل النوبة إلى نسبة الملابسات من المفاعيل الخمسة ، من حيث إن وقوع الفعل من الفاعل لابد وأن يكون في زمان خاص ، ومكان مخصوص ، في حالة خاصة ، فالنسبة الحاصلة بين الفعل وملابساته انما هي بعد نسبة الفعل إلى الفاعل وقيامه به واتحاده معه المصحح للحمل ، فهذه النسب الثلاث هي التي تتكفلها هيئات تراكيب الكلام ، من قولك : ضرب زيد عمرا ، وزيد ضارب ، وغير ذلك.

ثم إن هناك أدوات اخر تفيد النسبة ، إذ لا يختص ما يفيد النسبة بهيئات التراكيب ، بل الحروف أيضا تفيد النسبة ك ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف الجارة ، فإنه ( من ) مثلا تفيد نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسير عنه ، و ( إلى ) تفيد النسبة إلى المكان الذي يسير إليه ، فيقال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فلولا كلمة ( من ) و ( إلى ) لما كاد يكون هناك نسبة بين السير والبصرة والكوفة. وكذا الكلام في كلمة ( في ) حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته انها تارة : تفيد نسبة قيام العرض بالموضوع ، فيكون الظرف مستقرا ، وأخرى : تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا ، فمثل زيد في الدار يكون من الظرف المستقر ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو ان زيدا موجود في الدار وكائن فيها ، وهذا معنى قول النحاة في تعريف الظرف المستقر بأنه ما قدر فيه : كائن ، ومستقر ، وحاصل ، وما شابه

ص: 40

ذلك. وليس مرادهم ان هناك لفظا منويا في الكلام ومقدرا فيه ، بل الظرف المستقر هو بنفسه يفيد ذلك من دون ان يكون هناك تقدير في الكلام ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو وجود زيد في الدار ، وانه كائن فيها. وهذا بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، فإنه يفيد نسبة الضرب الحاصل من زيد إلى الدار ، فالظرف اللغو ما أفاد نسبة المبدء إلى ملابسات الفعل بعد فرض تحقق المبدء وصدوره عن الفاعل. وهكذا الكلام في كلمة ( على ) حيث إنها تارة : تفيد نسبة قيام العرض ، وأخرى : تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على السطح ، وكذا الكلام في كلمة ( من ) فإنها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : حسين منى وانا من حسين ، وأخرى : يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.

وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر ، هو ان الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان النسبة على اقسام ، والمتكفل لبيانها أمور : من هيئات التراكيب ، والحروف الجارة. وليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في مبحث المشتق.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن الهيئات والحروف المفيدة للنسبة أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

فنقول :

قد تقدم ان منشأ توهم ذلك هو تخيل ان هذه الحروف انما تكون حاكية عن النسبة الخارجية المتحققة من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، ومن هنا تتصف بالصدق والكذب ، إذ لولا حكايتها عن النسبة الخارجية لما كانت تتصف بذلك ، بداهة ان الايجاديات لا تتصف بالصدق والكذب ، بل بالوجود والعدم ، وما يتصف بالصدق والكذب هي الحواكي ، حيث إنه ان طابق الحاكي للمحكي يكون الكلام صادقا ، والا فلا ، فكلمة ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون حاكية عن النسبة الخارجية الواقعة بين السير والبصرة ومخطرة لها في ذهن

ص: 41

السامع.

هذا ولكن التحقيق :

ان معاني الحروف كلها ايجادية حتى ما أفاد منها النسبة.

وبيان ذلك : هو ان شأن أدوات النسبة ليس الا ايجاد الربط بين جزئي الكلام ، فان الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية والذات ، لوضوح مباينة لفظ زيد بما له من المعنى للفظ القائم بما له من المعنى ، وكذا الفظ السير مباين للفظ الكوفة والبصرة بما لها من المعنى ، وأداة النسبة انما وضعت لايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، على وجه يفيد المخاطب فائدة تامة يصح السكوت عليها ، فكلمة ( من ) و ( إلى ) انما جيئ بهما لايجاد الربط ، واحداث العلقة بين السير والبصرة والكوفة الواقعة في الكلام ، بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلا.

ثم بعد ايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، يلاحظ المجموع من حيث المجموع ، أي يلاحظ الكلام بما له من النسبة بين اجزائه ، فان كان له خارج يطابقه يكون الكلام صادقا ، أي كانت النسبة الخارجية على طبق النسبة الكلامية ، والا يكون الكلام كاذبا ، وذلك فيما إذا لم تطابق النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ، وأين هذا من كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية؟ بل النسبة الكلامية انما توجد الربط بين اجزاء الكلام ، والمجموع المتحصل يكون اما مطابقا للخارج ، أو غير مطابق. وفرق واضح بين كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية ومخطرة لها في ذهن السامع وبين ان تكون النسبة موجدة للربط بين اجزاء الكلام ، ويكون المجموع المتحصل من جزئي الكلام بما لهما من النسبة له خارج يطابقه أو لا يطابقه ، فظهر : ان الحروف النسبية أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

الامر الثالث :

قد ظهر مما ذكرنا وجه المختار من امتياز معاني الحروف بالهوية عن معاني الأسماء تمايزا كليا ، لما تقدم : من أن معاني الأسماء متقررة في وعاء العقل ، ثابتة

ص: 42

بأنفسها ، مع قطع النظر عن الاستعمال ، بخلاف معاني الحروف ، فإنها معان ايجادية تتحقق في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها سبق تحقق قبل الاستعمال ، نظير المعاني الانشائية التي يكون وجودها بعين انشائها ، كايجاد الملكية بقوله بعت ، حيث إنه لم يكن للملكية سبق تحقق مع قطع النظر عن الانشاء ، ومعاني الحروف تكون كذلك بحيث كان وجودها بنفس استعمالها ، وان كان بين الانشائيات والايجاديات فرق على ما سيأتي بيانه ، فالحروف وضعت لايجاد معنى في الغير ، على وجه لايكون ذلك الغير واجدا للمعنى من دون استعمال الحرف ، كما لايكون زيد منادى من دون قولك يا زيد ، ويكون النسبة بين ما يوجده الحرف من المعنى وبين المعاني الاسمية المتقررة في وعاء العقل نسبة المصداق إلى المفهوم.

مثلا يكون النداء مفهوم متقرر عند العقل مدرك في وعاء التصور وهو من هذه الجهة يكون معنى اسميا ، وقد جعل لفظة النداء بإزائه ، واما الندا الحاصل من قولك يا زيد ، فهو انما يكون مصداقا لذلك المفهوم ، ويتوقف تحققه على التلفظ بقولك يا زيد ، بحيث لا يكاد يوجد مصداق النداء وصيرورة زيد منادى الا بقولك يا زيد ، فلفظة ( ياء النداء ) انما وضعت لايجاد مصداق النداء ، لا انها وضعت بإزاء مفهوم النداء ، كما يدعيه من يقول بعدم الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وكذا الحال في سائر الحروف ، حيث إنها بأجمعها وضعت لايجاد المصاديق. مثلا لفظة ( الابتداء ) وضعت بإزاء المفهوم المتقرر عند العقل ، واما لفظة ( من ) فلم توضع بإزاء ذلك المفهوم ، بل وضعت لايجاد نسبة ابتدائية بين المتعلقين. وقول النحاة : من أن ( من ) وضعت للابتداء لا يخلو عن تسامح ، بل حق التعبير ان يق : ان لفظة ( من ) وضعت لايجاد النسبة الابتدائية ، وتلك النسبة الابتدائية التي توجدهما لفظة ( من ) لا يكاد يمكن ان يكون لها سبق تحقق في عالم التصور نعم يمكن تصورها بوجه ما ، أي بتوسط المفاهيم الاسمية ، كان يتصور الواضع النسبة الابتدائية الكذائية التي توجد بين السير والبصرة ، وهذه كلها مفاهيم اسمية قد توصل بها إلى معنى حرفي فوضع لفظة ( من ) بإزاء ذلك المعنى الحرفي المتصور بتلك المفاهيم.

فتحصل : ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية ، هي النسبة بين

ص: 43

المصداق والمفهوم ، وكم بين المفهوم والمصداق من الفرق ، بداهة تغاير المفهوم والمصداق بالهوية ، وبالاثر والخاصية ، إذ المفهوم لا موطن له الا العقل ، وموطن المصداق هو الخارج ، ولا يعقل اتحاد ما في العقل مع ما في الخارج الا بالتجريد والقاء الخصوصية ، ولا يمكن القاء الخصوصية في الحرف ، لان موطنه الاستعمال وهو قوامه ، فالتجريد والقاء الخصوصية يوجب خروجه عن كونه معنى حرفيا ، هذا بحسب الهوية. وكذا الحال في الآثار والخواص ، فان الرافع للعطش مثلا مصداق الماء ، لا مفهومه ، والمحرق هو مصداق النار ، لا مفهومها.

وحاصل الكلام :

ان الحروف بأجمعها ، وما يلحق بها مما يتكفل معنى نسبيا رابطيا ، انما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة ، على ما بين النسب والروابط من الاختلاف من النسبة الابتدائية والانتهائية والظرفية وغير ذلك ، والأسماء وضعت بإزاء مفاهيم تلك الروابط ، فلا ترادف بين لفظة ( ياء ) النداء وبين لفظة ( النداء ) بما لهما من المعنى ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، لان لفظة ( يا ) موجدة لمعنى في الغير ، ولفظة ( النداء ) حاكية عن معنى متقرر في وعائه.

ولا يتوهم انه لو كانت نسبة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم لكان اللازم صحة حمل أحدهما على الاخر ، كصحة حمل الانسان على زيد ، فلازمه صحة حمل ( النداء ) على ( ياء ).

وذلك لان صحة الحمل في قولك زيد انسان انما هو لأجل حكاية زيد عن معنى متحد في الخارج مع الانسان ، وهذا بخلاف ( يا ) فإنها ليست حاكية عن معنى متحد مع ( النداء ) بل هي موجدة لمعنى في الغير. نعم ما يوجد بياء النداء يحمل عليه انه نداء من باب حمل الكلي على المصداق فتأمل في المقام جيدا.

الامر الرابع :

قد ظهر مما ذكرنا ان قوام المعنى الحرفي يكون بأمور أربعة :

الأول : ان يكون المعنى ايجاديا ، لا اخطاريا.

الثاني : ان يكون المعنى قائما بغيره لا بنفسه ، كالمعاني الموجدة في باب العقود

ص: 44

والايقاعات ، على ما يأتي بيانه.

الثالث : ان لايكون لذلك المعنى الايجادي نحو تقرر وثبوت بعد ايجاده ، بل كان ايجاده في موطن الاستعمال ، ويكون الاستعمال مقوما له ، ويدور حدوثه وبقائه مدار الاستعمال.

الرابع : ان يكون المعنى حين ايجاده مغفولا عنه غير ملتفت إليه ، وهذا لازم كون المعنى ايجاديا وكون موطنه الاستعمال ، بداهة انه لو كان المعنى الحرفي بما انه معنى حرفيا ملتفتا إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال لما كان الاستعمال موطنه ، بل كان له موطن غير الاستعمال ، إذ لا يمكن الالتفات إلى شيء من دون ان يكون له نحو تقرر في موطن ، فحيث انه ليس للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال ، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها لفناء اللفظ في المعنى وكونه مرآة له ، ولا يمكن الالتفات إلى ما يكون فانيا في الشيء حين الالتفات إلى ذلك الشيء ، كما لا يمكن الالتفات إلى الظل حين الالتفات إلى ذي الظل والمرآة حين الالتفات إلى المرئي.

وبالجملة :

لما كان قوام المعنى الحرفي هو الاستعمال ، ولا موطن له سواه ، فلا بد من أن يكون المعنى غير ملتفت إليه ، بل يوجد مصداق النداء بنفس قولك يا زيد مثلا ، من دون ان يكون هذا المصداق ملتفتا إليه عند القول ، إذ قوامه بنفس القول ، فكيف يكون له سبق التفات. نعم ما يكون ملتفتا إليه هو تنبيه زيد واحضاره وما شابه ذلك ، وهذه كلها معاني اسمية ، والمعنى الحرفي هو ما يتحقق بقولك يا زيد ، ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له الا بالقول كما لا يخفى. فهذه أركان أربعة بها يتقوم المعنى الحرفي ويمتاز عن المعنى الأسمى. وبذلك يظهر الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف ، والمعاني الايجادية في باب المنشآت بالعقود والايقاعات.

وتوضيح ذلك :

هو ان للصيغ الانشائية كبعت وطالق جزء ماديا وجزء صوريا. اما

ص: 45

الجزء المادي : فهو مبدء الاشتقاق ، وهو معنى اسمى وله مفهوم متقرر في وعاء العقل. واما الجزء الصوري فهو عبارة عن الهيئة التي وضعت لايجاد انتساب المبدء إلى الذات ، واما الأخبارية والانشائية فهما خارجان عن مدلول اللفظ ، وانما يستفادان من المقام والسياق وقرائن الحال ، لا ان لفظ بعت مثلا يكون مشتركا بين الأخبارية والانشائية. وحينئذ إذا كان المتكلم في مقام الاخبار بحيث استفيد من السياق انه في ذلك المقام ، كان اللفظ موجبا لاخطار المعنى في الذهن من دون ان يوجد باللفظ معنى أصلا ، كما في الأسماء ، وإذا كان المتكلم في سياق الانشاء فايضا يكون موجبا لاخطار المعنى في ذهن السامع ، الا انه مع ذلك يكون موجدا للمنشأ من الملكية ، وموجبا لايجاد شيء لم يكن قبل التلفظ ببعت من ملكية المشترى للمال ، ولكن الذي يوجده اللفظ امر متقرر في حد نفسه ، لا ان تقرره يكون منحصرا في موطن الاستعمال ، بل بالاستعمال يوجد معنى متقرر في الوعاء المناسب له من وعاءات الاعتبار ، حيث كانت الملكية من الأمور الاعتبارية.

والحاصل : ان استعمال صيغ العقود في معانيها يوجب حدوث امر لم يكن إذا كان في مقام الانشاء ، واما بقاء ذلك الامر فلا يدور مدار الاستعمال ، بل يدور مدار بقاء وعائه من وعاء الاعتبار ، فملكية المشترى للمال تبقى ببقاء الاعتبار ، ولا تدور مدار بقاء الانشاء والاستعمال ، بل الملكية هي بنفسها متقررة بعد الانشاء ، وهذا بخلاف المعنى الموجد بالحرف ، فان المعنى الحرفي قراره وقوامه يكون في موطن الاستعمال ، بحيث يدور مدار الاستعمال حدوثا وبقاء ، مثلا ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة انما توجد الربط والنسبة بين لفظة السير بما لها من المفهوم ، ولفظة البصرة كذلك ، ومن المعلوم : ان هذا الربط يدور مدار الاستعمال ، فما دام متشاغلا بالاستعمال يكون الربط محفوظا ، وبمجرد خروج المتكلم عن موطن الاستعمال ينعدم الربط ، وكذلك النداء في قولك : يا زيد انما يكون قوامه بنفس الاستعمال ، ويكون قائما بقولك : يا زيد ، وليس للنداء الحاصل من القول نحو تقرر وثبوت في وعاء من الأوعية غير وعاء الاستعمال ، بخلاف الملكية الحاصلة من قولك بعت ، حيث إن لها تقررا في وعاء الاعتبار ، فالمعنى الحرفي حدوثا وبقاء متقوم

ص: 46

بالاستعمال.

وبالجملة : هناك فرق بين المعنى المنشأ بقولك بعت ، والمعنى الموجد بهيئة بعت ، فان الهيئة انما توجد النسبة بين المبدء والفاعل ، وهذا قوامه بالاستعمال ، فما دام متشاغلا بقوله بعت تكون النسبة بين المبدء والفاعل محفوظة ، وبمجرد الخروج عن موطن الاستعمال تنعدم النسبة ، ويكون لفظ البيع بما له من المعنى مباينا للبايع من دون ان يكون بينهما ربط ، وهذا بخلاف الموجد بالانشاء ، فإنه لا يقوم بالاستعمال وان كان يوجد بالاستعمال ، بل يقوم في الوعاء المناسب له.

فتحصل : ان صيغ العقود وان اشتركت مع الحروف في ايجادها المعنى ، الا انها تفترق عنها في أن المعنى الحرفي يكون قائما بغيره والمعنى الانشائي يكون قائما بنفسه ، والمعنى الحرفي لا موطن له الا الاستعمال والمعنى الانشائي موطنه الاعتبار ، والمعنى الحرفي مغفول عنه عند الاستعمال والمعنى الانشائي ملتفت إليه فتأمل جيدا.

وإذا عرفت مباينة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى ، ظهر لك ضعف ما قيل : من أنه ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات لإفادة ما أريد من متعلقاتها ، كما حكى نسبة ذلك إلى الشيخ الرضى ره.

وجه الضعف : هو ان العلامة لم تحدث في ذي العلامة معنى يكون فاقدا له لولا العلامة ، بل يكون ذو العلامة على ما هو عليه ، وتكون العلامة لمجرد التعريف ، وشأن الحروف ليس كذلك لوضوح انها تحدث معنى في الغير كان فاقدا له لولا دخول الحرف عليه ، بداهة ان زيدا لم يكن منادى ويصير منادى بسبب ياء النداء ، ومع ذلك كيف يمكن القول بأنها علامة؟.

وكذلك ظهر ضعف ما قيل أيضا : من أنه لا مايز بين معاني الحروف ومعاني الأسماء في ناحية الوضع والموضوع له ، وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الاخر ، لاعتبار الواضع قيد ( ما قصد لنفسه ) في الأسماء في ناحية الاستعمال ، و ( ما قصد لغيره ) في الحروف في تلك الناحية.

وبعبارة أخرى : الأسماء وضعت لتستعمل في المعاني الاستقلالية ، و

ص: 47

الحروف وضعت لتستعمل في المعاني الغيرية ، فلا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى بالهوية.

وجه الضعف : هو ان صاحب هذا القول تتركب دعواه من أمرين :

الأول : دعوى ان كلا من الحرف والاسم وضع للقدر المشترك ، بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل.

الثاني : دعوى كون عدم صحة استعمال الحرف في مقام الاسم وبالعكس انما هو لأجل منع الواضع عن ذلك في مقام الاستعمال واخذ كل من قيد الآلية والاستقلالية شرطا في ناحية الاستعمال ، ولكن لا يخفى فساد كل من الامرين.

اما الأول : فلان المعنى في حاق هويته ، اما ان يستقل بالمفهومية ، واما ان لا يستقل ، فالامر يدور بين النفي والاثبات من دون ان يكون في البين جامع ، إذ ليس في المعنى تركيب من جنس وفصل حتى يتوهم وضع كل من الحرف والاسم بإزاء الجنس ، وتكون الآلية والاستقلالية من الفصول المنوعة للمعنى كالناطقية والصاهلية ، لما تقدم في الامر الأول من أن المعنى بسيط غاية البساطة ، ليس فيه شائبة التركيب ، وعليه يبتنى عدم الدلالة التضمنية ، كما نوضحه في محله انشاء اللّه.

فالمعاني في وعاء العقل ، كالأعراض في وعاء الخارج في كونها بسيطة لا تركيب فيها ، ولذا كان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، كما في السواد والبياض ، أو السواد الشديد والضعيف ، حيث كان امتياز السواد الشديد عن الضعيف بنفس السواد ، وكذا امتياز السواد عن البياض انما يكون بهوية ذاته لا بالفصول المنوعة ، كما في المركبات ، بل السواد بما انه لون يمتاز عن البياض في حد ذاته ، وكذا الشديد والضعيف مع اشتراكهما في الحقيقة يمتاز ان بنفس الحقيقة ، من دون ان يكون هناك مايز خارجي ، هذا حال الاعراض. وكذا الحال في المعاني ، حيث إن المعاني عبارة عن المدركات العقلية التي لا موطن لها الا العقل وهي من أبسط البسائط ، وامتياز بعضها عن بعض يكون بنفس الهوية ، لا بالفصول المنوعة ، وليس لها جنس وفصل ، فدعوى كون ألفاظ الحروف والأسماء موضوعة للقدر

ص: 48

الجامع بين الالية والاستقلالية مما لا محصل لها ، إذ لا يعقل ان يكون المعنى لا مستقل ولا غير مستقل ، فإنه يكون من ارتفاع النقيضين ، فتأمل جيدا.

واما الثاني : فهو أوضح فسادا لما فيه.

أولا : من أن ذلك مبنى على أن يكون للألفاظ واضع خاص حتى يتأتى منه اشتراط ذلك ، وقد تقدم امتناع ذلك في أول المبحث ، مع أنه لو فرض ثبوت واضع خاص فمن المقطوع انه لم يشترط ذلك في مقام الوضع ، لان ذلك خارج عن وظيفة الواضع ، إذ وظيفة الواضع انما هو تعيين مداليل الألفاظ ، لا تعيين تكليف على المستعملين ، لأنه لا ربط للاستعمال بالواضع.

وثانيا : هب ان الواضع اشترط ذلك ، وفرض ان هذا الشرط مما يلزم العمل به ، فما الذي يلزم من مخالفة الشرط باستعمال الحروف مقام الأسماء ، إذ غاية ما يلزم هو مخالفة الواضع ، وهذا لا يوجب كون الاستعمال غلطا ، إذ لا يقصر عن المجاز ، بل ينبغي ان يكون هذا أولى من المجاز ، لان المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، وهذا استعمال في ما وضع له ، غايته انه على غير جهة ما وضع له ، وهذا لا يوجب استهجان الاستعمال ، مع أنه من الواضح استهجان استعمال كلمة ( من ) في مقام كلمة ( الابتداء ) و ( إلى ) في مقام ( الانتهاء ) و ( في ) في مقام ( الظرفية ).

الا ترى : انه لو أراد المتكلم ان يتكلم بألفاظ مفردة بلا نسبة ، يصح ان يتكلم بلفظة الابتداء ، والانتهاء ، والظرف ، والنداء ، والخطاب ، وغير ذلك من الألفاظ المفردة التي يكون لكل منها معنى متحصل في نفسه ، بحيث يسبق إلى ذهن السامع لتلك الألفاظ معانيها ، ولا يصح ان يق للمتكلم : انه ليس لمفردات كلامه معنى متحصل ، وان صح ان يق له : انه ليس لكلامه نسبة يصح السكوت عليها. وهذا بخلاف التكلم بلفظة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) و ( يا ) و ( كاف ) وغير ذلك من الحروف ، فأنه لا يسبق إلى ذهن السامع من هذه الألفاظ معنى أصلا ، ويصح ان يق للمتكلم بذلك : انه ليس لمفردات كلامه معنى ، بل يعد هذا الوجه من التكلم مستهجنا ومستبشعا ، فهذا أقوى شاهد على مباينة الحروف للأسماء ، وعدم اتحاد معانيهما ، بداهة ان الاتحاد في المعنى يوجب صحة استعمال كل منهما في مقام الاخر ، و

ص: 49

المفروض انه لا يصح ، فلابد من أن يكون هناك مايز بينهما على وجه يختلف هوية كل منهما عن هوية الاخر ، بحيث لا يصح استعمال كل منهما في مقام الاخر ولو على نحو المجازية ، لعدم ثبوت علاقة بين المعنيين مصححة للاستعمال.

فتحصل

من جميع ما ذكرنا انه لا جامع بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وان الحروف وضعت لايجاد معنى في الغير بالقيود الأربعة المتقدمة ، والأسماء وضعت بإزاء المفاهيم المقررة في وعاء العقل ، فتأمل في المقام فإنه مما زلت فيه الاقدام. وبما ذكرنا ظهر : الخلل في ما عرف به الحرف ، من أنه ما دل على معنى في الغير.

وجه الخلل : هو ان الدلالة تستدعى ثبوت المدلول وتقرره ، والمفروض انه ليس للمعنى الحرفي تقرر وثبوت. ونحن لم نجد في تعاريف القوم ما يكون مبينا لحقيقة المعنى الحرفي ، على وجه يكون جامعا لأركانه الأربعة ، الا ما روى (1) عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ، على بعض النسخ ، وفي بعض آخر : والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بفعل ولا اسم ، والظاهر أن يكون الأول هو الصحيح ، لأنه هو المناسب لان يكون عن إفاداته (عليه السلام) التي يفتتح منها الف باب ، و .

ص: 50


1- نقلت هذه الرواية من مآخذ متعددة بعبارات مختلفة : منها : فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ به والحرف ما جاء لمعنى. ومنها : فالاسم ما دل على المسمى والفعل ما دل على حركة المسمى والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل. ومنها : الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره. راجع لتحقيق مأخذ هذه الرواية « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام » تصنيف العالم الجليل السيد حسن الصدر. ص 46 إلى 61 وصنف العالم الجليل السيد على البهبهاني (رحمه اللّه) كتابا مستقلا في تحقيق معنى الرواية وسماه ( بالاشتقاق ) وذكر فيه : « الرواية مشتهرة بين أهل العربية اشتهار الشمس في رابعة النهار ».

قد جمع علیه السلام في هذا لحديث تمام علم النحو ، ومن هنا اعترف المخالف بأنه علیه السلام هو المبتكر لعلم النحو ، ولا باس بشرح الحديث المبارك على وجه الاختصار.

فنقول :

اما قوله علیه السلام الاسم ما أنبأ عن المسمى ، فهو عين ما ذكرناه : من أن المعاني الاسمية اخطارية ، والأسماء وضعت لاخطار تلك المعاني في الذهن ، فان الانباء بمعنى الاظهار والاخطار.

واما قوله (عليه السلام) : والحرف ما أوجد معنى في غيره فكذلك أي انه منطبق على ما ذكرناه : من أن معاني الحروف ايجادية بقيودها الأربعة ، إذ لازم كونهما أوجد معنى في غيره ، هو ان يكون المعنى ايجاديا ، وأن يكون ذك المعنى قائما في غيره ، وان لايكون له موطن غير الاستعمال ، وأن يكون مغفولا عنه ، على ما عرفت : من أن القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير.

واما قوله (عليه السلام) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، فتوضيحه يتوقف على معرفة حقيقة معنى الفعل ، وما يكون المايز بينه وبين الاسم والحرف ، إذ ربما يستشكل في تصوير معنى لايكون باسم ولا حرف ، مع أن الفعل مركب من مادة وهيئة ، والمادة معنى اسمى ، والهيئة معنى حرفي ، فالفعل يكون مركبا من اسم وحرف ، وليس خارجا عنهما ، فما وجه تثليث الأقسام؟ وجعل الفعل مقابلا للاسم والحرف؟ وليس تثليث الأقسام من كلام النحويين حتى يقال : أخطأوا في تثليث الأقسام ، بل هو من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كلامه ملوك الكلام ، فلابد من بذل الجهد لمعرفة معنى يقابل المعنى الأسمى والمعنى الحرفي ، بان يكون متوسطا بين المعنيين ، ولا بد أولا من معرفة مبدء الاشتقاق والأصل فيه.

فنقول : انه قد اختلفت الكلمات في مبدء الاشتقاق ، فقيل : انه المصدر ، وقيل : انه اسم المصدر ، والحق انه لا هذا ولا ذاك.

وذلك لان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا محفوظا في تمام الهيئات الاسمية والفعلية ، ويكون بالنسبة إليها من قبيل المادة والصورة ، فلا بد ان يكون

ص: 51

مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة ، حتى يكون معروضا لكل هيئة ، ومن المعلوم ان لكل من المصدر واسم المصدر هيئة تخصه ، ويكون ما يستفاد من اسم المصدر بهيئته مباينا لما يستفاد من المصدر بهيئته ، كالغسل والغسل ، فلا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق المصدر أو اسم المصدر (1) بل لابد من أن يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن الهيئة قابلا لعروض كل هيئة عليه ، كالضاد والراء والباء في ضرب ، ولا يمكن ان يتلفظ به ، لان كل ملفوظ لابد ان يكون ذا هيئة.

وحاصل الكلام : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا غير متحصل في عالم اللفظ والمعنى ، ويكون تحصله في كلتا المرحلتين بواسطة الهيئة ، فنسبة المبدء إلى الهيئات كنسبة المادة إلى الصور النوعية ، حيث إن المادة تكون صرف القوة ، ويكون فعليتها بالصور النوعية ، كذلك مبدء الاشتقاق يكون معنى غير متحصل بالذات ، ويكون في عالم المفهومية صرف قوة ، ويتوقف فعليته وتحصله على الهيئة ، فمبدء الاشتقاق في الافعال أسوء حالا من الحروف ، إذ الحروف وان لم يكن لها معنى في حد أنفسها ، ولكن يمكن التلفظ بها ، وهذا بخلاف مبدء الاشتقاق فإنه لا يمكن التلفظ به ، كما عرفت ، الا بتوسط الهيئات ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث المشتق انشاء اللّه تعالى.

ثم إن الهيئات اللاحقة لمبدء الاشتقاق.

منها :

ما يكون مفادها معنى افراديا استقلاليا لا يحتاج في تحصله إلى ضم نسبة تركيبية ، وذلك كالأسماء المشتقة كضارب ومضروب ، وما شابه ذلك ، فان لكل منها معنى افراديا استقلاليا متحصلا بهوية ذاته بلا ضم نسبة ، على ما هو الحق من بساطة معاني الأسماء المشتقة ، كما يأتي تفصيله. فللضارب معنى متحصل افرادي اسمى ، والتلفظ به موجب لاخطار ذلك المعنى في الذهن ، ومن هنا صار معربا يقبل

ص: 52


1- وربما يظهر من بعض الكلمات ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر ولا دخل لهيئته في معناه ، وانما تكون الهيئة حافظة للمادة ، بخلاف هيئات سائر المشتقات ، فان لها دخلا في المعنى ، فتأمل - منه.

الحركات الاعرابية ، إذ لو كان مفاد هيئته معنى حرفيا لكان مبنيا ولم يقبل الحركات الاعرابية ، كما هو الشأن في هيئات الافعال ، حيث كان مفادها معنى حرفيا ، ولأجل ذلك صارت مبنية. وليس مفاد هيئة ضارب نسبة تركيبية ، حتى يكون معنى ضارب هو ذات ثبت لها الضرب كما زعم من يقول : بان المشتقات مركبة.

ومنها :

ما يكون مفادها معنى حرفيا نسبيا ، وذلك كهيئات الافعال من الماضي والمضارع والامر ، فان هيئاتها تفيد معنى نسبيا أعني انتساب المبدء إلى الذات ، فهيئات الافعال تغاير هيئات الأسماء ، حيث كان مفاد هيئات الافعال النسبة ، وهيئات الأسماء معراة عن النسبة.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : تغاير معاني الافعال لمعاني الأسماء والحروف ، وان الفعل له معنى متوسط بين الاسم والحرف ، فان له حظا من المعنى الأسمى ، حيث يكون موجبا لاخطار المعنى في الذهن عند اطلاق لفظ الفعل ، ويكون له معنى استقلالي تحت قالب لفظه ، غايته انه ليس بافرادي بل هو تركيبي ، وله حظ من المعنى الحرفي ، حيث لم يكن لمبدئه تحصل ولا لهيئته معنى متحصل ، بل كان المبدء صرف القوة ومفاد الهيئة معنى حرفي نسبي ، فكلا جزئي الفعل لايكون لهما معنى متحصل بهوية ذاته.

وحاصل الكلام : ان تثليث الأقسام ، انما هو لأجل ان للفعل حقيقة ثالثة غير حقيقة الاسم والحرف ، فان مفاد الفعل وان كان اخطاريا ، الا انه اخطار نسبة تركيبية بين المبدء والفاعل. وهذا بخلاف مفاد الأسماء ، فان مفادها معان افرادية استقلالية ، ومفاد الحروف ايجادية ، على ما عرفت. إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى شرح الحديث المبارك.

فنقول : انه قد اختلفت الأنظار في شرح قوله (عليه السلام) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى. والذي يقتضيه النظر الدقيق ، هو ان يقال : ان المراد من الحركة هو

ص: 53

الحركة من القوة إلى الفعل ، لا بمعنى الحركة من العدم إلى الوجود ، كما ذهب إليه بعض الأوهام ، بل المراد الحركة في عالم المفهومية ، حيث إن المبدء خرج عن اللاتحصلية وتحرك من القوة إلى التحصلية والفعلية ، فالمراد من المسمى هو مبدء الاشتقاق ، والفعل بجملته يظهر وينبأ عن حركة ذلك المسمى من القوة إلى الفعلية ، ومن اللاتحصلية إلى التحصلية في عالم المفهومية ، حيث كان غير متحصل فصار بواسطة هيئة الفعل متحصلا فتأمل ، في المقام فإنه بعد يحتاج إلى مزيد توضيح.

المقام الثاني : في عموم الموضوع له وخصوصه

اشارة

والأقوال فيه ثلاثة.

قول : بان كلا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام.

وقول : بان الوضع والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص.

وقول : بان الوضع عام والموضوع له والمستعمل فيه خاص.

وقبل تحقيق الحال ينبغي تمهيد مقدمة لتحرير محل النزاع ، وبيان الفارق بين الكلية والجزئية المبحوث عنهما في الحروف ، والكلية والجزئية التي تتصف الأسماء بهما.

وحاصل المقدمة :

هو ان ما يقال في تفسير الكلية والجزئية : من أن المفهوم ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي والا فكلي ، انما يستقيم في المفاهيم الاسمية ، واما المعاني الحرفية ، فلا يمكن اتصافها بالكلية والجزئية بهذا المعنى ، لما عرفت : من أنه ليس للحروف مفاهيم متقررة يمكن لحاظها ، حتى يحكم عليها بامتناع الصدق وعدم الامتناع ، بل الحروف انما وضعت لايجاد المعاني في الغير في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها وعاء غير وعاء الاستعمال ، ومن المعلوم ان وصف الشيء بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه ، انما هو بعد تقرر ذلك الشيء في وعاء من الأوعية ، والمعنى الحرفي لم يكن له تقرر الا في وعاء الاستعمال ، فلا معنى لان يتصف بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه.

والحاصل : ان الشيء الموجود الخارجي بما انه موجود خارجي لا يتصف

ص: 54

بالكلية والجزئية ، إذ الكلية والجزئية انما تعرضان المفاهيم ، والمفروض ان المعنى الحرفي قوامه بايجاده ، فلا يتصور فيه الكلية والجزئية بذلك المعنى بل الكلية والجزئية المبحوث عنهما في باب الحروف انما تكون بمعنى اخر ، وهو ان الموجد في الحروف في جميع مواطن الاستعمالات ، هل هو امر واحد بالهوية ، وتكون الخصوصيات اللاحقة لها في تلك المواطن خارجة عن حريم المعنى الحرفي ، وانما هي من خصوصيات الاستعمالات؟ أو ان تلك الخصوصيات داخلة في حريم المعنى الحرفي ، ومقومة له؟

وتوضيح ذلك

هو انه لا اشكال في أن كل استعمال متخصص بخصوصية خاصة يكون الاستعمال الاخر فاقدا لها ، فقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة مغاير لقولك : سرت من الكوفة إلى البصرة ، بل مغاير لنفس قولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ثانيا عقيب القول الأول ، ويكون المعنى الذي وجد بأداة النسبة الابتدائية في كل استعمال متخصصا بخصوصية خاصة ، فيرجع النزاع في المقام حينئذ إلى أن تلك الخصوصيات اللاحقة للمعنى الحرفي عند كل استعمال ، هل هي مقومة للمعنى الحرفي وداخلة في هويته حتى يكون الموضوع له في الحروف خاصا؟ أو انها خارجة عن حقيقة المعنى الحرفي ، وانما هي من لوازم تشخص المعنى فيكون الموضوع له عاما كالوضع؟.

والى ذلك يرجع ما افاده (1) في الفصول : من أن التقييد والقيد كلاهما خارجان ، فإنه بناء على كلية المعنى الحرفي يكون كل من نفس القيد الذي هو المتعلق في قولك : سرت من البصرة مثلا والتقييد وهو الخصوصية اللاحقة للنسبة الابتدائية التي أوجدتها كلمة ( من ) في خصوص ذلك الاستعمال خارجين من المعنى الحرفي ، فلا يرد على صاحب الفصول (رحمه اللّه) : انه كيف يكون القيد والتقييد

ص: 55


1- الفصول ص 14 « فهي عند التحقيق موضوعة بإزاء المفاهيم المقيدة بأحد افراد الوجود الذهني الآلي من غير أن يكون القيد والتقييد داخلا ، فيكون مداليلها جزئيات حقيقية متحدة في مواردها ذاتا ومتعددة تقييدا وقيدا ».

خارجين؟ وأي معنى لهذا التقييد حينئذ وما فائدته؟ ولكن بالبيان الذي بيناه ، اتضح مراده ( قده ) من كون كل من التقييد والقيد خارجين.

وحاصله : انه بعد ما كان قوام المعنى الحرفي بالغير ، وكان وجوده بعين استعماله ، فالخصوصية اللاحقة له باعتبار ذلك الغير ، كالبصرة في قولك : سرت من البصرة ، ومكة في قولك : سرت من مكة ، هل هي مما يتقوم بها المعنى الحرفي ولاحقة له بالهوية؟ على نحو التقييد داخل والقيد خارج ، لان نفس ذلك الغير خارج عن المعنى الحرفي قطعا ، لأنه معنى اسمى فالذي يمكن هو دخول التقيد ، أو ان تلك الخصوصية خارجة عن المعنى الحرفي؟ على نحو خروج القيد ، وهي من لوازم التحقق في موطن الاستعمال ، حيث لا يمكن ايجاد المعنى الحرفي الا باحتفافه بخصوصية خاصة لاحقة له في موطن الاستعمال ، نظير المحل الذي يحتاج إليه العرض في التحقق مع أنه خارج عن هوية ذاته ومما لا يتقوم به معنى العرض ، فان كان على الوجه الأول فيكون الموضوع له خاصا ، ان كان على الوجه الثاني فيكون الموضوع له عاما كالوضع.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين عموم الموضوع له في الأسماء ، وبين عموم الموضوع له في الحروف ، فان عموم الموضوع له في الأسماء ، انما يكون على وجه يصح حمله على ماله من الافراد الخارجية ، نحو حمل الكلي على الفرد بالحمل الشايع الصناعي الذي يكون ملاكه الاتحاد في الوجود ، كما يقال : زيد انسان ، وهذا فرس ، وما شابه ذلك. وهذا بخلاف عموم الموضوع له في الحروف ، فإنه ليس له افراد خارجية يصح حمله عليها ، إذ قوام المعنى الحرفي بالايجاد ، بحيث لا موطن له الا الاستعمال على ما تقدم ، والشيء الذي يكون قوامه بالوجود ليس له وراء ذلك خارج يمكن حمله عليه ، كما كان للمفهوم الكلي الأسمى خارج من افراده الموجودة يمكن حمله عليه.

وبالجملة : فرق بين اتصاف المعنى الحرفي بالكلية ، واتصاف المعنى الأسمى بالكلية ، فان الكلية في الأسماء عبارة عما كان ينطبق على الخارجيات ، ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي ، كزيد انسان. واما الكلية في الحروف

ص: 56

فليست بمعنى ان لها افراد يمكن حمل الكلي عليها ، إذ المعنى الحرفي انما يكون ايجاديا موطنه الاستعمال ، ولا معنى لحمل ما يكون موطنه الاستعمال وما يكون ايجاديا على غيره ، إذ ليس هناك خارج وراء نفسه يمكن ان يحمل عليه ، بل هو بنفسه من الخارجيات ، والخارجيات ليس لها خارج وراء نفسها ، كما كان للمفاهيم الاسمية خارج يصح حملها عليه.

وحاصل الكلام : ان المفاهيم الاسمية انما تقع في عقد الحمل ، ويكون عقد الوضع مصداقا من مصاديقه الخارجية ، كما يقال : زيد انسان. واما المفاهيم الحرفية ، فلا يصح ان تقع في عقد الحمل ، إذ هي بنفسها من الايجاديات الخارجية ، وليس لها مصداق خارجي يصح حملها عليه ، بل المعاني الحرفية دائما تقع في عقد الوضع ، ويكون المحمول مفهوما اسميا. كما يقال عند قولك يا زيد ، هذا نداء ، أي ما وجد بقولك يا زيد مصداق من مصاديق كلي النداء ، وهذا لا ينافي كلية المعنى الحرفي ، إذ قد عرفت المراد من الكلية في المعنى الحرفي مع حفظ أركانه الأربعة المتقدمة : من كونه ايجاد معنى في الغير في موطن الاستعمال مغفولا عنه ، وهذه القيود الأربعة كلها لا تنافى كلية المعنى الحرفي ، بعد ما عرفت المراد من الكلية : من أن الذي يوجد ب ( من ) مثلا في جميع مواطن الاستعمالات معنى واحد بالهوية الذي لا يمكن تصوره ولا التعبير عنه الا بتوسط المفاهيم الاسمية ، بحيث لا يمكن ان يقع ذلك المعنى بنفسه في جواب ما هو ، بل الذي يصح ان يقع في جواب ما هو ، هو وجه المعنى وعنوانه من المعاني الاسمية. كما يقال : في جواب السؤال عما يوجد ب ( من ) نسبة ابتدائية ، ومعلوم ، ان كلا من لفظة ( النسبة ) و ( الابتدائية ) له مفهوم اسمى ، ولكن ذلك المفهوم الأسمى يصلح ان يكون معرفا للمعنى الحرفي الذي يوجد ب ( من ) لما عرفت : من أن نسبة المعنى الحرفي إلى المفهوم الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم ، ومن المعلوم : ان المفهوم يكون وجها وعنوانا لمصاديقه ، ومعرفة الشيء بوجهه بمكان من الامكان.

وبالجملة : الكلية المتنازع فيها في الحروف ، انما هي بمعنى ان ما توجده لفظة ( من ) في جميع الاستعمالات معنى واحد بالهوية والحقيقة ، وتكون الخصوصيات

ص: 57

اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حقيقة المعنى ، لازمة لتحققه في موطن الاستعمال ، نظير خصوصية القيام بالمحل الذي هي من لوازم وجود العرض مع عدم قوام هويته به. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بجزئية المعنى الحرفي ، فإنه تكون تلك الخصوصيات حينئذ مقومة لهوية المعنى الحرفي وداخلة في حقيقته.

إذا عرفت المتنازع فيه في المقام فنقول :

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي ، وكون الموضوع له في الحروف عاما كالوضع ، إذ لا منشأ لتوهم الجزئية وكون الموضوع له خاصا الا أحد أمرين.

الأول : اعتبار كون المعنى الحرفي قائما بالغير ، فيتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط ذلك الغير مما يتقوم بها هوية المعنى الحرفي.

الثاني : اعتبار كونه ايجاديا ، ومن المعلوم ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، والتشخص مساوق للجزئية هذا.

ولكن كلا من هذين الوجهين لا يصلح ان يكون مانعا عن كلية المعنى الحرفي.

اما الامر الأول : فلوضوح ان وجود المعنى الحرفي خارجا يتقوم بالغير ، لا هويته وحقيقته ، وفرق بين ما كان من لوازم الوجود ، وبين ما كان من لوازم الهوية. والحاصل : ان المعنى الحرفي لما كان ايجاد معنى في الغير ، فتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط الغير مقومة لهوية المعنى الحرفي ، وكانه غفل من أن خصوصية الغير ليست مقومة لهوية المعنى ، بل هي من لوازم وجود ذلك المعنى ، كما كان القيام بالغير في العرض من لوازم وجوده ، وليس مقوما لهويته.

واما الامر الثاني : فلوضوح ان كونه ايجاديا لا ينافي كلية المعنى الا بناء على القول بعدم وجود الكلي الطبيعي ، والا فبعد البناء على وجوده لا يبقى مجال لتوهم ان كون المعنى ايجاديا ينافي كليته ، وسيأتي انشاء اللّه تعالى ان الحق هو وجود الكلي الطبيعي ، بحيث يكون التشخص والوجود يعرضان له دفعة ، لا انه يتشخص فيوجد كما حكى القول به ، ولا انه انتزاعي صرف لا وجود له.

نعم بناء على سبق التشخص أو عدم الوجود يتم التنافي بين الايجادية و

ص: 58

الكلية.

فتحصل : انه لا الحاجة إلى قيام المعنى الحرفي بالغير ينافي كليته ، ولا كونه ايجاديا ينافي ذلك ، ومن المعلوم انه لا نرى اختلافا بين ما يوجد ( بمن ) في جميع موارد استعمالاتها ، كما نرى الاختلاف بين ما يوجد ( بمن ) وما يوجد ( بإلى ) حيث إن ما يوجد ( بمن ) نسبة ابتدائية وما يوجد ( بإلى ) نسبة انتهائية ، وهذا بخلاف ما يوجد ( بمن ) فإنه معنى واحد في جميع الاستعمالات. ولو كان المعنى جزئيا لكان ما يوجد بقولك : سرت من البصرة مباينا لما يوجد بقولك : سرت من الكوفة ، كمباينة زيد مع عمرو ، بداهة تباين الجزئيات بعضها مع بعض ، وحيث نرى انه لايكون هناك اختلاف وتباين في النسب الابتدائية التي توجدها لفظة ( من ) في جميع موارد الاستعمالات ، فيعلم ان لفظة ( من ) موضوعة للقدر الجامع بين ما يوجد في تلك الموارد ، ولا نعنى بكلية المعنى الحرفي الا ذلك فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفية.

ثم إن شيخنا الأستاذ قد أسقط بعض المباحث التي قد تعرض لها القوم في المقدمة التي يبحث فيها عن نبذة من المباحث اللغوية ، ونحن نقتفي اثره. والحمد لله أولا وآخرا.

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

اشارة

وتنقيح البحث في ذلك يستدعى رسم مقدمات :

( الأولى )

لا يختص النزاع في الصحيح والأعم بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية ، بل يجرى حتى على القول بعدمها ، إذ لا اشكال في اطلاق الشارع ألفاظ العبادات والمعاملات على مالها من المعاني عند المتشرعة ، فيقع الكلام في ذلك المعنى الذي أطلق اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، وانه هل هو خصوص الصحيح ، أو الأعم منه ومن الفاسد؟ وبعبارة أخرى : لو لم نقل بالحقيقة الشرعية ، فلا اشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعية ، فيقع الكلام في المسمى عند المتشرعة ، وانه هل هو الصحيح أو الأعم؟ ومن المعلوم ان ما هو المسمى عند المشترعة هو المراد الشرعي عند اطلاق تلك الألفاظ ،

ص: 59

سواء كان الاطلاق على نحو الحقيقة ، أو على نحو المجاز ، فدعوى اختصاص النزاع في المقام بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية مما لا وجه لها.

( الثانية )

قد عرف الفقهاء الصحة والفساد بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء وعدمه ، والمتكلمون بما وافق الشريعة وعدمه ، هذا.

ولكن الظاهر : انه ليس للصحة والفساد معنى مغاير لما هو عند العرف واللغة ، وتعريف الفقيه أو المتكلم بذلك انما يكون تعريفا باللازم ، كما هو الشأن في غالب التعاريف ، غايته ان المهم في نظر الفقيه لما كان سقوط الإعادة والقضاء فسر الصحة بذلك ، ولما كان المهم في نظر المتكلم هو موافقة الشريعة فسر الصحة بذلك ، والا فمعنى الصحة والفساد أوضح من أن يخفى ، بل لا يمكن تعريفهما بما يكون أجلى أو مساويا لما هو المرتكز عند العرف من معناهما ، فالصحة ليس الا عبارة عما يعبر عنها بالفارسية ب ( درست ) في مقابل ( نادرست ) الذي هو عبارة عن الفساد. واختلاف الآثار في العبادات والمعاملات والمركبات الخارجية انما هو باعتبار اختلاف الموارد وما هو المطلوب منها ، لا ان الصحة في العبادات تكون بمعنى مغاير لمعنى الصحة في المعاملات ، أو في ساير المركبات الخارجية كما لا يخفى.

( الثالثة )

اتصاف الشيء بالصحة والفساد تارة : يكون باعتبار الاجزاء الخارجية ، وأخرى : يكون باعتبار الاجزاء الذهنية ، المعبر عنها بالشروط ، مثلا الصلاة تارة : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على تمام مالها من الاجزاء وان كانت فاقدة للشرائط ، وأخرى : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على الشرائط وان كانت فاقدة للاجزاء ، إذ الصحة من جهة لا تنافى الفساد من جهة أخرى ، إذ الصحة والفساد من الأمور الإضافية ، ومن هنا ذهب بعض إلى وضع ألفاظ العبادات للصحيح بالنسبة إلى الاجزاء ، وللأعم بالنسبة إلى الشرائط.

ثم إن وصف الصلاة مثلا بالصحة باعتبار الشرائط تارة : يكون باعتبار خصوص الشرائط الملحوظة في مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يمكن الانقسام

ص: 60

إليها قبل تعلق الطلب بها ، كالطهور ، والاستقبال ، والستر ، وغير ذلك من الانقسامات السابقة. وأخرى : تكون باعتبار الشرائط التي لا يمكن لحاظها في مرحلة تعيين المسمى ، بل هي من الانقسامات اللاحقة عن مرحلة تعلق الطلب بها ، كقصد القربة وما يستتبعها من قصد الوجه ووجه الوجه ، على القول باعتباره.

لا ينبغي الاشكال في خروج الصحة بالاعتبار الثاني عن حريم النزاع في المقام ، بداهة تأخر اتصاف الشيء بالصحة بهذا المعنى عن تعيين المسمى بمرتبتين : مرتبة تعيين المسمى ، ومرتبة تعلق الطلب به ، وما يكون متأخرا عن المسمى لا يعقل اخذه في المسمى ، بل لا يعقل اخذه في متعلق الطلب ، فضلا عن اخذه في المسمى ، فلا يمكن القول بان لفظ الصلاة موضوعة للصحيح الواجد لشرط قصد القربة ، أو للأعم من الواجد لها والفاقد ، كما لا يمكن القول بوضعها للأعم من تعلق النهى بها وعدم تعلقه ، أو للأعم من وجود المزاحم لها وعدم المزاحم. فالفساد اللاحق لها من ناحية النهى في العبادات ، أو من ناحية اجتماع الأمر والنهي ، بناء على الجواز مع تغليب جانب النهى في مقام المزاحمة عند عدم المندوحة على ما سيأتي بيانه ، خارج عن حريم النزاع أيضا ، كخروج الصحة اللاحقة لها من باب عدم النهى ، أو من باب عدم المزاحم. والسر في ذلك كله ، هو تأخر رتبة الاتصاف بالصحة أو الفساد بذلك عن مرتبة تعيين المسمى. فالذي ينبغي ان يكون محل النزاع ، هو خصوص الاجزاء والشرائط الملحوظة عند مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يجمعها - ما يمكن فرض الانقسام إليها قبل تعيين المسمى - فتأمل جيدا.

( الرابعة )

لا اشكال في أن لكل من العبادات افراد عرضية وطولية تختلف باختلاف حالات المكلفين ، كالصلاة مثلا حيث إن لها افرادا لا تحصى من حيث اختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والصحة والمرض والقدرة والعجز والخوف والامن وغير ذلك. ولا ينبغي توهم ان لفظة الصلاة موضوعة بالاشتراك اللفظي لكل من هذه الافراد ، بحيث يكون لكل فرد وضع يخصه ، فان ذلك بعيد غايته. وكذلك لا ينبغي الاشكال في أنها ليست من قبيل الوضع العام والموضوع له

ص: 61

الخاص ، وذلك لأنه.

أولا : يحتاج في الوضع العام والموضوع له الخاص إلى الوضع التعييني ، بان يكون هناك واضع مخصوص يتصور جامعا ، ويضع اللفظ بإزاء افراده ، ولا يمكن تحقق الوضع العام والموضوع له الخاص بالوضع التعيني كما لا يخفى ، ومن المعلوم : ان لفظة الصلاة لم توضع كذلك إذ غايته حصول التعيني لها ، سواء قلنا بالحقيقة الشرعية أو لم نقل ، لان غاية ما يمكن ان يقال ، هو ان الشارع استعمل لفظ الصلاة في هذه المهية مجازا ، ثم كثر استعمالها في ذلك في لسانه ولسان تابعيه ، حتى صارت حقيقة ، فمن يدعى الحقيقة الشرعية يريد بها هذا المعنى.

واما دعوى ان الشارع من أول الامر عين لفظ الصلاة لهذه المهية على وجه النقل ، فمما لا يمكن المساعدة عليها ، إذ لو كان ذلك لبان ونقل مع توفر الدواعي لنقله. وبالجملة من المقطوع : انه صلی اللّه علیه و آله لم يرق المنبر وقال : أيها الناس انى وضعت لفظة الصلاة بإزاء هذه المهية.

وثانيا : ان ذلك بالآخرة يرجع إلى الاشتراك اللفظي ، إذ لو كان الموضوع له هو خصوص الافراد المتباينة لكان لكل فرد وضع يخصه ، فلا تكون لفظة الصلاة موضوعة بإزاء الجامع ، إذ المسمى يكون هي الافراد حينئذ والافراد متباينة.

وثالثا : ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، انما يتصور بالنسبة إلى الافراد العرضية ، وهذا لا يمكن بالنسبة إلى الصلاة ، بداهة ان فردية صلاة الجالس للصلاة انما تكون بعد ثبوت الامر بها ، وان الصلاة لا تسقط بحال ، وما يكون فرديته متوقفة على الامر به لا يعقل اخذه في المسمى ، فتأمل ، فان هذا يمكن دفعه. فيدور الامر ، بين ان نقول بالاشتراك المعنوي ، وبين ان نقول بان لفظة الصلاة موضوعة بإزاء قسم خاص من اقسام الصلاة ، وهو الجامع لجميع الاجزاء والشرائط عدا قصد القربة وأمثالها مما تكون مرتبة اعتبارها متأخرة عن مرتبة تعيين المسمى حسب ما تقدم تفصيله ، ويكون اطلاق الصلاة حينئذ على سائر الأقسام بنحو العناية ، بتنزيل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط منزلة الواجد ادعاء ، على ما ذهب إليه السكاكي في الحقيقة الادعائية.

ص: 62

وهذا الوجه ، هو الذي قربه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ومال إلى أن الموضوع له للفظة الصلاة ، هو خصوص الصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، وهو الصحيح التام ، ويكون اطلاقها على الفاقد لها بالعناية والتنزيل. وحيث إن هذا المعنى باطلاقه لا يستقيم ، بداهة ان التنزيل والادعاء يحتاج إلى مصحح ، إذ لا يمكن تنزيل كل شيء منزل كل شيء ، بل لابد ان يكون هناك مصحح للادعاء ، ولو باعتبار الصورة والشكل ، ومن العلوم : ان صلاة الغرقى التي يكتفى فيها بالايماء القلبي مما لا يمكن تنزيلها منزله الصلاة التامة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، ولا يصح ادعاء انها هي ، التزم مد ظله بان اطلاق الصلاة على مثل هذا انما يكون شرعيا ، بحيث لولا اطلاق الشارع الصلاة على مثل صلاة الغرقى لما كان هناك مصحح للاطلاق ، ثم بعد اطلاق الشارع الصلاة على صلاة الغرقى وأمثالها مما لا يمكن ادعاء انها تلك الصلاة التامة ، يصح اطلاق الصلاة على الفاسد من تلك الحقيقة بالتنزيل والادعاء.

وحاصل الكلام :

ان لفظة الصلاة موضوعة بإزاء الصلاة التامة ، ويكون اطلاقها على الفاسد أو الصحيح الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط بحسب اختلاف حال المكلف بالعناية والتنزيل وادعاء انها هي إذا كان هناك مصحح للادعاء ، بان لا تكون فاقدة لمعظم الاجزاء والشرائط ، وان لم يكن هناك مصحح الادعاء ، فيدور اطلاق الصلاة عليه مدار اطلاق الشارع ، وبعد الاطلاق الشرعي يمكن التنزيل والادعاء بالنسبة إلى ما يكون فاقدا للبعض وما هو فاسد من تلك الحقيقة التي أطلق عليها الشارع الصلاة ، وح لا يلزم هناك مجاز ولا سبك من مجاز ، بل يكون الاطلاق على نحو الحقيقة ، غايته انه لا حقيقة بل ادعاء. هذا حاصل ما افاده في المقام ، موافقا لما افاده الشيخ ( قده ) على ما في تقرير (1) بعض الأجلة. ولازم ذلك ، هو انه لا يمكن التمسك

ص: 63


1- مطارح الأنظار - ص 6 - عند البحث عن تصوير الجامع عند الأعمى من قوله : « وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم .. » وعبر عنه بان ذلك مما لا ينبغي ان يستبعد عند الملاحظ المتأمل في طريقة المحاورات العرفية.

باطلاق قوله لا صلاة الا بفاتحة الكتاب مثلا ، على اعتبار الفاتحة في صلاة الجالس ، للشك في أن المراد من الصلاة في قوله لا صلاة الخ ، هل هي الصلاة التامة التي تكون موضوعا لها لفظ الصلاة؟ أو الأعم من ذلك ومن الصلاة التي تكون صلاة بالتنزيل والادعاء؟ هذا ولكن مع ذلك ربما لا يخلو عن بعض المناقشات ، كما لا تخفى على المتأمل.

ثم لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بالاشتراك المعنوي من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، فلا محيص من أن يكون هناك جامع بين تلك الافراد التي لا تحصى حسب اختلاف أصناف المكلفين ، بحيث وضع اللفظ بإزاء نفس ذلك الجامع حتى يكون الموضوع له عاما ، فالجامع مما لا محيص عنه بعد ابطال الاشتراك اللفظي والاغماض عما ذكرنا في وجه تصحيح الاطلاق ، وحينئذ يقع الاشكال في تصوير الجامع المسمى على كل من القول بالصحيح والأعم. فينبغي ح بيان ما قيل أو يمكن ان يقال في ما يكون جامعا بين الافراد الصحيحة ، أو الأعم منها ومن الفاسدة. وقبل بيان ذلك لابد من تمهيد مقال.

وهو انه لابد ان يكون الجامع على وجه يصلح ان يتعلق به التكليف نفسه ، إذ الجامع انما يكون هو المسمى ، ومن المعلوم ان المسمى هو متعلق التكليف ، فهناك ملازمة بين المسمى وبين متعلق التكليف ، فلا يمكن ان يكون المسمى أمرا ومتعلق التكليف أمرا اخر.

وأيضا لابد ان يكون ذلك الجامع بسيطا على وجه لا يصلح للزيادة والنقيصة بناء على الصحيحي ، إذ لو كان مركبا فكل مركب يتصف بالصحة والفساد باعتبار اشتماله على تمام الاجزاء أو بعضها ، وما يكون قابلا للاتصاف بالصحة والفساد لا يصلح ان يكون جامعا بين الافراد الصحيحة.

وأيضا لابد ان يكون ذلك الجامع مما لا يتوقف تحققه على الامر ، لما عرفت من سبق رتبة المسمى على متعلق الامر ، فضلا عن نفس الامر ، فمثل عنوان ( المطلوب ) أو ( وظيفة الوقت ) وما شابه ذلك من العناوين لا يصلح ان يكون هو الجامع المسمى بالصلاة مثلا ، لتأخر رتبة هذه العناوين عن رتبة المسمى ، مضافا إلى أن الأسماء و

ص: 64

الألفاظ انما تكون موضوعة بإزاء الحقائق ، لا بإزاء المفاهيم العقلية ، فلا يصح ان يكون لفظ الصلاة موضوعا بإزاء مفهوم المطلوب ، بل بإزاء الواقع والحقيقة ، فيسئل عن تلك الحقيقة التي تسمى بالصلاة ما هي؟.

وبالجملة : لا بد ان لايكون ذلك الجامع من سنخ المفاهيم التي لا موطن لها الا العقل ، ولا ما يكون مرتبة وجوده متأخرة عن مرتبة الطلب والامر ، ولا مما يمكن اتصافه بالصحة والفساد ، ولا مما لا يمكن ان يتعلق به الطلب ، فهذه القيود الأربعة مما لابد منها في الجامع.

إذا عرفت ذلك فنقول :

قد قيل إنه يمكن فرض الجامع بين الافراد الصحيحة على وجه يكون هو المسمى ، غايته انه لا يمكن الإشارة إليه تفصيلا بل يشار إليه بوجه ما ، اما من ناحية المعلول ، واما من ناحية العلة ، أي اما من ناحية الأجر والثواب المترتب على افراد الصلاة الصحيحة ، أو من ناحية المصالح والمفاسد التي اقتضت الامر بها.

اما الأول : فتفصيله هو انه لا اشكال في أن وحدة الأثر تستدعى وحدة المؤثر ، إذ لا يمكن صدور الشيء عن متعدد ، ولا يمكن توارد علل متعددة على معلول واحد ، فوحدة الأثر بالنسبة إلى افراد الصلاة الصحيحة المختلفة بالصورة المشتملة على تمام الاجزاء والشرائط تارة وعلى بعضها أخرى لا يمكن الا بان يكون هناك جامع بين تلك الافراد المختلفة يقتضى ذلك الجامع ذلك الأثر ، إذ لا يمكن ان تكون تلك الافراد بما انها متباينة تقتضي ذلك ، لاستلزام ذلك صدور الواحد عن متعدد وهو محال ، فلا محيص من ثبوت جامع بين تلك الافراد يكون هو المؤثر ، ويكون ذلك الجامع هو المسمى بالصلاة ، وهو متعلق الطلب هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

اما أولا : فلامكان تعدد الأثر ومنع وحدته ، بداهة انه لا طريق لنا إلى اثبات وحدة الأثر ، فمن الممكن جدا ان يكون الأثر المترتب على الصلاة الواحدة لجميع الاجزاء والشرائط غير الأثر المترتب على الصلاة الفاقدة لبعضها.

وثانيا : ان الاشتراك في الأثر لا يقتضى وحدة المؤثر بالهوية والحقيقة ولا

ص: 65

دليل على ذلك ، بل الوجدان يقتضى خلافه ، بداهة اشتراك الشمس مع النار في الحرارة مع عدم اتحاد حقيقتهما ، بل هما ممتازان بالهوية. وبالجملة : مجرد اشتراك شيئين في اثر لا يكشف عن اتحاد حقيقتهما ، ولم يقم برهان على ذلك (1) نعم لابد ان يكون بين الشيئين جامع يكون ذلك الجامع هو المؤثر لذلك إذ لا يمكن صدور الواحد عن متعدد ، الا ان مجرد ثبوت الجامع بينهما لا يلازم اتحاد هويتهما وحقيقتهما ، بل من الممكن ان يكونا مختلفي الحقيقة ، ومع ذلك يكون بينهما جامع في بعض المراتب يقتضى ذلك الجامع حصول ذلك الأثر ، فإذا لم يكن ذلك الجامع راجعا إلى وحدة الهوية والحقيقة لم يكن هو المسمى بالصلاة مثلا ، لما عرفت : ان الأسماء انما تكون بإزاء الحقائق ، والمفروض اختلاف حقايق مراتب الصلاة وان كان بينهما جامع بعيد يقتضى اثرا واحدا فتأمل.

وثالثا : الأثر انما يكون مترتبا على الصلاة بعد الاتيان بها وبعد الامر بها ، والامر بها انما يكون بعد التسمية ، فلا يمكن ان يكون ذلك الأثر المتأخر في الوجود عن المسمى بمراتب معرفا وكاشفا عن المسمى ، بداهة انه عند تعيين المسمى لم يكن هناك اثر حتى يكون ذلك الأثر وجها للمسمى لكي يمكن تصور المسمى بوجهه ، لان تصور الشيء بوجهه انما هو فيما إذا كان الوجه سابقا في الوجود عن التصور ، والمفروض ان الأثر انما يكون متأخرا في الوجود من تصور المسمى ، فكيف يمكن جعله معرفا للمسمى فتأمل.

ورابعا : لو جعل المسمى هو ما يترتب عليه ذلك الأثر على وجه يكون ذلك الأثر قيدا في المسمى ، لكان اللازم هو القول بالاشتغال عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، بداهة ان المأمور به ح ليس هو نفس أفعال الصلاة ، بل ما يترتب عليها ذلك الأثر ، فمرجع الشك في جزئية شيء للصلاة هو الشك في ترتب ذلك الأثر على الفاقد لذلك الجزء ، ويكون ح من الشك في حصول ما هو قيد للمأمور به ، ومن

ص: 66


1- فان الاشتراك في اثر غير الاشتراك في جميع الآثار ، كما هو المدعى في المقام ، فان الاشتراك في جميع الآثار يلازم وحدة الحقيقة - منه.

المعلوم : انه لا مجال للبرائة في ذلك ، لان المقام يكون من صغريات الشك في المحصل الذي لا تجرى فيه البراءة ، هذا كله إذا أردنا ان نستكشف الجامع من ناحية المعلول.

وأما إذا أردنا ان نستكشفه من ناحية العلل وملاكات الاحكام ففساده أوضح ، وذلك لعدم امكان تعلق التكليف بالملاكات ، لا بأنفسها ، ولا بما يكون مقيدا بها ، فلا تكون هي المسميات ، ولا ما هو مقيد بها.

وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في المايز ، بين باب الدواعي ، وبين باب المسببات التوليدية ، حتى يتضح ان الملاكات ، هل هي من قبيل الدواعي؟ أو من قبيل المسببات التوليدية؟ ونحن وان استقصينا الكلام في ذلك في الأصول العملية ، بل تكرر منا الكلام في ذلك ، الا انه لا باس بالإشارة الاجمالية إليه في المقام ، لما فيه من المناسبة ونحيل تفصيله إلى تلك المباحث.

فنقول : ان المقصود الأصلي والغرض الأولى للفاعل تارة : يكون هو بنفسه فعلا اختياريا للمكلف من دون نظر إلى ما يترتب على ذلك الفعل من الأثر ، بل إن نفس الفعل يكون مقصودا بالأصالة ، كما إذا كان مقصوده القيام أو القعود وأمثال ذلك.

وأخرى : يكون المقصود الأصلي والغرض الأولى هو الأثر المترتب على ذلك الفعل الاختياري ، بحيث يكون الفعل لمجرد المقدمية للوصول إلى ذلك الأثر. وهذا أيضا تارة : يكون الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير منها لحصول ذلك الأثر ، بحيث لا يتوسط بين الفعل وبين ذلك الأثر شيء اخر أصلا ، كالالقاء بالنسبة إلى الاحراق ، حيث إن اثر الاحراق يترتب على الالقاء في النار ترتب المعلول على علته ، من دون ان يتوسط بين الالقاء والاحراق شيء أصلا. وأخرى : يكون الفعل الاختياري مقدمة اعدادية لترتب ذلك الأثر المقصود ، بحيث يتوسط بين الفعل الاختياري وبين الأثر أمور اخر ، كالزرع فان الأثر المترتب على الزرع هو صيرورته سنبلا ، ومن المعلوم : ان الفعل الاختياري : من البذر والسعي والحرث ، ليس علة تامة لتحقق السنبل ، إذ يحتاج صيرورة الزرع سنبلا إلى مقدمات اخر متوسطة بين ذلك وبين الفعل الاختياري ، كاشراق الشمس ، ونزول الأمطار ،

ص: 67

وغير ذلك. (1) فان كان الأثر المقصود مترتبا على الفعل الاختياري ترتب المعلول على علته ، من دون ان يكون هناك واسطة أصلا ، أمكن تعلق إرادة الفاعل به ، نحو تعلق ارادته بالفعل الاختياري الذي هو السبب لحصول ذلك الأثر ، بداهة ان الأثر يكون مسببا توليديا للفعل ، وما من شانه ذلك يصح تعلق إرادة الفاعل به ، لان قدرته على السبب عين قدرته على المسبب ويكون تعلق الإرادة بكل منهما عين تعلق الإرادة بالآخر (2) ويصح حمل أحدهما على الاخر نحو الحمل الشايع الصناعي فيقال : الالقاء في النار احراق ، إذ لا انفكاك بينهما في الوجود ، وهذا الحمل وان لم يكن حملا شايعا صناعيا بالعناية الأولية ، لان ضابط الحمل الصناعي هو الاتحاد في الوجود ، ولا يمكن اتحاد الوجود بين العلة والمعلول ، الا انه لما لم يمكن الانفكاك بينهما في الوجود وكان المعلول من رشحات وجود العلة صح الحمل بهذه العناية.

وبالجملة : كلما كان نسبة الأثر إلى الفعل الاختياري نسبة المعلول إلى العلة التامة أو الجزء الأخير من العلة يصح تعلق إرادة الفاعل به نحو تعلقها بالفعل الاختياري ، وان كان الفعل الاختياري من المقدمات الاعدادية للأثر المقصود ، فلا يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، لخروجه عن تحت قدرته واختياره ، ولا يمكن تعلق الإرادة بغير المقدور ، بل الإرادة الفاعلية مقصورة التعلق بالفعل الاختياري ، واما ذلك الأثر فلا يصلح الا ان يكون داعيا للفعل الاختياري ، فمثل صيرورة الزرع سنبلا انما يكون داعيا إلى الحرث والسقى ، فظهر الفرق بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية.

وحاصل الفرق ، هو امكان تعلق الإرادة الفاعلية بالمسببات التوليدية ، دون الدواعي ، لتوسط أمور خارجة عن تحت القدرة بين الفعل الاختياري وبين .

ص: 68


1- أفاد ذلك الشاعر بقوله : ابر وباد ومه وخورشيد وفلك در كارند *** تا تو نانى بكف آرى وبه غفلت نخورى - منه.
2- لا يخفى ان باب العلة والمعلول غير باب العناوين التوليدية ، فجعل الالقاء والاحراق من باب العلة والمعلول لا يخلو عن مسامحة ، فعليك بمراجعة ما ذكرناه في أول مقدمة الواجب ( في ضابط البابين ) ولكن لا فرق بين البابين في الجهة المبحوث عنها في المقام ، فتأمل - منه.

الأثر المقصود ، فلا يمكن تعلق إرادة الفاعل به. والضابط الكلي بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية ، هو ما ذكرنا من أنه ان كان الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير منها لحصول الأثر فهذا يكون من المسببات التوليدية ، وان لم يكن كذلك بل كان أول المقدمات أو وسط المقدمات وكان حصول الأثر متوقفا على مقدمات اخر ، فهذا يكون من الدواعي.

وحيث عرفت امكان تعلق إرادة الفاعل بما كان من المسببات التوليدية ، وعدم امكان تعلق الإرادة بما كان من الدواعي ، فنقول : ان هناك ملازمة بين الإرادة الآمرية والإرادة الفاعلية ، وانه كلما صح تعلق إرادة الفاعل به يصح تعلق إرادة الآمر به ، وكلما لا يصح تعلق إرادة الفاعل به لا يصح تعلق إرادة الآمر به ، والسر في ذلك واضح ، لان الإرادة الامرية انما تكون تحريكا للإرادة الفاعلية نحو الشيء المطلوب ، فلابد من أن يكون ذلك الشيء قابلا لتعلق إرادة الفاعل به حتى تتعلق به إرادة الآمر ، فإذا فرض انه لا يمكن تعلق إرادة الفاعل به لكونه غير مقدور له ، فلا يمكن تعلق إرادة الآمر به ، لأنه يكون من طلب المحال.

وحيث قد عرفت : انه لو كان نسبة الفعل الاختياري إلى الأثر الحاصل منه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه التوليدي ، كان تعلق إرادة الفاعل بذلك المسبب بمكان من الامكان ، فيصح تعلق إرادة الامر بايجاد ذلك المسبب ، بل لا فرق في الحقيقة بين تعلق الامر بالسبب أو بالمسبب ، لان تعلقه بالسبب أيضا لمكان انه يتولد منه المسبب ، ومن هنا قيل : في (1) مقدمة الواجب : ان البحث عن وجوب السبب قليل الجدوى ، إذ تعلق الامر بالمسبب هو عين تعلقه بالسبب وبالعكس ، فلا فرق بين ان يقول أحرق الثوب ، أو الق الثوب في النار ، لان الامر بالالقاء انما هو من حيث ترتب الاحراق عليه ، فيكون الالقاء معنونا بعنوان الاحراق. )

ص: 69


1- والقائل هو صاحب المعالم قدس سره ، فإنه قد صرح في مبحث مقدمة الواجب من المعالم : « .. فالذي أراه ان البحث في السبب قليل الجدوى ، لان تعليق الامر بالمسبب نادر ، واثر الشك في وجوبه هين » ( معالم الأصول. ص 64 )

وهذا هو المراد لما ذكره الشيخ قده (1) في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين : من أنه لو كان المأمور به عنوانا لفعل المكلف لم تجر فيه البراءة ، إذ العنوانية انما تكون فيما إذا كان المأمور به من المسببات التوليدية لفعل المكلف ويكون فعل المكلف سببا له ، فإنه يكون الفعل معنونا بذلك المسبب ولا تجرى فيه البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، بداهة ان فعل المكلف بما هو لم يكن متعلق التكليف ، بل متعلق التكليف هو ما يستتبع الفعل من السبب ، فلو شك في أن الجزء الفلاني له دخل في ترتب المسبب كان مقتضى الأصل عدم الترتب ويلزمه الاشتغال ، من غير فرق بين ان يتعلق الامر بالمسبب فيقول : أحرق الثوب ، وبين ان يتعلق بالسبب فيقول : الق الثوب في النار ، لما عرفت من أن الامر بالالقاء لا لمطلوبية نفس الالقاء بما هو فعل من أفعال المكلف ، بل بما هو محصل للاحراق ، فعند الشك في حصول الاحراق لاحتمال دخل شيء فيه كان اللازم فيه هو الاحتياط ، ولا مجال للبرائة أصلا ، كما هو الشأن في الشك في باب المحصلات مط.

هذا كله فيما إذا كان الأثر من المسببات التوليدية لفعل المكلف وأما إذا كان الأثر من الدواعي ، وكان الفعل من المقدمات الاعدادية ، فحيث لا يصح تعلق إرادة الفاعل به فلا يصح تعلق إرادة الامر بايجاده ، لما عرفت من الملازمة ، فمتعلق التكليف انما يكون هو الفعل الاختياري لا غير ، ولو شك في اعتبار جزء أو شرط فيه تجرى فيه البراءة ، إذ ليس وراء الفعل شيء تعلق التكليف به ، والمفروض ان الفعل المتعلق به التكليف مردد بن الأقل والأكثر ، فالبرائة العقلية والشرعية أو خصوص

ص: 70


1- ذكر الشيخ قدس سره في المسألة الأولى من صور دوران الامر في الواجب بين الأقل والأكثر بعد الفراغ عن تقريب حكم العقل : « نعم قد يأمر المولى بمركب يعلم أن المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله إذا اتى بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك كما إذا امر بمعجون وعلم أن المقصود منه اسهال الصفراء بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنه الغرض من المأمور به ، فان تحصيل العلم باتيان المأمور به لازم كما سيجيء في المسألة الرابعة ». واختار هناك بان الشك فيه كان من قبيل الشك في المحصل الذي يجب فيه الاحتياط. ( فرائد الأصول ص 265 - 254 )

الشرعية تجرى بلا مانع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ضابط جريان البراءة في الأقل والأكثر وعدم جريانها ، وانه لو كان الأثر المترتب على الفعل الاختياري من المسببات التوليدية فلا تجرى فيه البراءة لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، وان كان الأثر من الدواعي فالبرائة تجرى فيه لان نفس متعلق التكليف مردد بين الأقل والأكثر.

ثم انه ان علم أن الأثر من أي القبيلين فهو ، وان لم يعلم ، فان كان هناك مايز عرفي فهو المتبع ، كما في الطهارة الخبيثة ، حيث إن العرف يفهم من الامر بالغسل ان الامر به انما هو لافراغ المحل عن القذارة والخباثة ، لا بما انه غسل واجراء الماء على المحل ، ففي مثل هذا يكون الغسل معنونا بالطهارة ، وتكون الطهارة بنظر العرف من المسببات التوليدية للغسل ، فلو شك في حصول الطهارة بالغسل الكذائي كمرة في البول ، كان مقتضى الأصل عدم حصول الطهارة ، من غير فرق بين تعلق الامر بالطهارة وبين تعلقه بالغسل ، لان المرتكز العرفي في الامر بالغسل انما هو الغسل المستتبع للطهارة المعنون بذلك ، كالأمر بالالقاء من حيث تعنونه بالاحراق ، وعلى هذا يترتب فروع كثيرة في باب الطهارة الخبثية.

وان لم يكن هناك مايز عرفي ، فلا طريق لنا إلى معرفة كون الأثر من المسببات أو من الدواعي ، الا من ظاهر الامر ، فان تعلق الامر بالأثر ، فمن نفس تعلقه يستكشف انه من المسببات التوليدية ، لاستحالة تعلق الامر بما لايكون فعلا اختياريا ولا مسببا توليديا ، ويلزمه عدم جريان البراءة كما عرفت. وان لم يتعلق التكليف به ، بل تعلق بنفس الفعل الاختياري فيستكشف من ذلك كشفا آنيا ان متعلق التكليف هو نفس الفعل ، وذلك الأثر لايكون من المسببات التوليدية ، إذ لو كان كذلك لوجب على الحكيم التنبيه عليه بعد ما لم يكن مرتكزا عرفيا ، بداهة انه لو كان متعلق التكليف هو الأثر الحاصل من الفعل الاختياري لا نفسه لكان قد أخل بغرضه حيث لم يبينه. ومن هنا قيل : ان القول بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات من حيث خلو الاخبار عن التكليف به ، مع أنه ليس مما يفهمه العرف.

ص: 71

وبالجملة : من نفس تعلق التكليف بالفعل الاختياري يستكشف انه هو المأمور به ، لا الأثر الحاصل منه ، والا لوجب التنبيه عليه ، والا لم يكن الآمر متكلما على طبق غرضه ويكون قد أخل ببيان غرضه ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت ذلك كله ، فنقول :

ان باب الملاكات وعلل التشريع لا تكون من المسببات التوليدية لافعال العباد ، بل ليست العبادات بالنسبة إلى الملاكات الا كنسبة المقدمات الاعدادية ، والذي يدل على ذلك عدم وقوع التكليف بها في شيء من الموارد ، من أول كتاب الطهارة إلى اخر كتاب الديات. فالملاكات انما تكون من باب الدواعي ، لا المسببات التوليدية ، وليست الصلاة بنفسها علة تامة لمعراج المؤمن والنهى عن الفحشاء ، ولا الصوم بنفسه علة تامة لكونه جنة من النار ، ولا الزكاة بنفسها علة تامة لنمو المال ، بل تحتاج هذه المقدمات إلى مقدمات اخر ، من تصفية الملائكة وغيرها حتى تتحقق تلك الآثار ، كما يدل على ذلك بعض الاخبار. فإذا لم تكن الملاكات من المسببات التوليدية ، فلا يصح تعلق التكليف بها ، لا بنفسها ، ولا باخذها قيدا لمتعلق التكليف ، فكما لا يصح التكليف بايجاد معراج المؤمن مثلا. لا يصح التكليف بالصلاة المقيدة بكونها معراج المؤمن ، إذ يعتبر في التكليف ان يكون بتمام قيوده مقدورا عليه ، فإذا لم يصح التكليف بوجه من الوجوه بالملاكات لم يصح ان تكون هي الجامع بين الافراد الصحيحة للصلاة ، ولا اخذها معرفا وكاشفا عن الجامع ، بداهة انه يعتبر في المعرف ان يكون ملازما للمعرف بوجه ، وبعد ما لم تكن الملاكات من المسببات التوليدية لا يصح اخذ الجامع من ناحية الملاكات.

والحاصل : انه قد عرفت ان هناك ملازمة بين الجامع المسمى وبين كونه متعلق التكليف ، فإذا لم يمكن تعلق التكليف بالملاكات بوجه من الوجوه لا يصح استكشاف الجامع من ناحية الملاكات بوجه من الوجوه ، لا على أن تكون هي المسمى ، ولا قيدا في المسمى ، ولا كاشفا عن المسمى ، بداهة انه بعد ما كانت الملاكات من باب الدواعي وكان تخلف الدواعي عن الأفعال الاختيارية بمكان

ص: 72

من الامكان ، فكيف يصح اخذها معرفا أو قيدا للمسمى ، فتأمل (1) جيدا.

ثم على فرض تسليم كون الملاكات من المسببات التوليدية واخذ الجامع من ناحيتها بأي وجه كان ، فلا محيص عن القول بالاشتغال وسد باب اجراء البراءة في العبادات بالمرة ، لما عرفت : من أن الأثر المقصود لو كان مسببا توليديا للفعل الاختياري ، كان تعلق التكليف بالسبب أو بالمسبب موجبا لرجوع الشك في اعتبار شيء إلى الشك في المحصل ، ولا مجال فيه لاجراء البراءة.

وما يقال : من أن المسبب التوليدي إذا كان مغايرا في الوجود للسبب كان الامر كما ذكر من القول بالاشتغال ، وأما إذا كان متحدا معه في الوجود فنفس متعلق التكليف يكون مرددا بين الأقل والأكثر ولا مانع من الرجوع إلى البراءة حينئذ ، فليس بشيء ، إذ لا نعقل ان يكون هناك مسبب توليدي يكون متحدا في الوجود مع السبب على وجه يرجع الشك في حصوله إلى الشك في نفس متعلق التكليف فتأمل.

فتحصل : ان تصوير الجامع بناء على الصحيح في غاية الاشكال ، بل مما لا يمكن.

نعم يمكن ان يقال في خصوص الصلاة ، ان المسمى هو الهيئة الاتصالية القائمة بالاجزاء المستكشفة من أدلة القواطع ، وهذه الهيئة المعبر عنها بالجزء الصوري محفوظة في جميع افراد الصلاة ، لعموم أدلة القواطع بالنسبة إلى جميع افراد الصلاة على حسب اختلاف حالات المكلفين ، وهذه الهيئة امر واحد مستمر يوجد بأول الصلاة وينتهي باخرها ، وبهذا الاعتبار يجرى فيه الاستصحاب عند الشك في عروض القاطع ، هذا. .

ص: 73


1- وكذا لا يمكن جعل الملاكات من قبيل الصور النوعية والاجزاء من قبيل المواد على وجه لا يضر تبادلها ببقاء الصورة ، فتكون الصلاة موضوعة بإزاء تلك الصورة القائمة بتلك المواد المتبادلة ، حسب اختلاف حالات المكلفين. ونقل ان شيخنا الأستاذ مد ظله كان يميل إلى هذا الوجه في الدورة السابقة ، ولكن أشكل عليه في هذه الدورة بعين ما أشكل على الوجه الأول : من أن تلك الصورة لا يمكن ان تكون متعلق التكليف ، مع أنه يلزم القول بالاشتغال ، فتأمل - منه.

ولكن الانصاف : ان ذلك أيضا لا يخلو عن اشكال ، لمنع ان يكون هناك امر وجودي قائم باجزاء الصلاة ، وأدلة القواطع لا يستفاد منها أزيد من اعتبار عدم تخلل القواطع. من الالتفات والوثبة وغير ذلك في أثناء الصلاة ، مع أنه لو سلم ان هناك امر وجودي قائم بالاجزاء ، فكونه هو المسمى ومتعلق التكليف محل منع. هذا كله بناء على الصحيح.

واما بناء على الأعم ، فتصوير الجامع فيه أشكل ، والوجوه التي ذكروها في تصويره لا تخلو عن مناقشة.

فمنها : ما نسب إلى المحقق القمي (1) من أن المسمى هو خصوص الأركان ، واما الزايد عليها فهي أمور خارجة عن المسمى اعتبرها الشارع في المأمور به.

وفيه ما لا يخفى.

اما أولا : فلوضوح ان التسمية لا تدور مدار الأركان ، إذ يصح السلب عن الفاقد لما عدا الأركان ، كما لا يصح السلب عن الواجد لما عدا بعض الأركان. وكان منشأ توهم كون المسمى هو الأركان ، هو ما يستفاد من صحيحة (2) لا تعاد ، من صحة الصلاة الفاقدة لما عد الأركان إذا كان ذلك عن نسيان هذا.

ص: 74


1- ومن استظهر ذلك من كلام صاحب القوانين الشيخ قدس سره في التقريرات. قال : « أحدها : ما يظهر من المحقق القمي من كون ألفاظ العبادات اسما للقدر المشترك بين اجزاء معلومة كالأركان الأربعة في الصلاة وبين ما هو أزيد من ذلك وان لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زايد عليها صحيحة في الخارج ، فجميع هذه الافراد ، أعني لصحيحة المشتملة على الأركان والزائدة عليها ، والفاسدة المقتصرة عليها والزائدة عليها من حقيقة الصلاة ويطلق على جميعها لفظ الصلاة على وجه الاشتراك المعنوي ، ولعل نظره بعد ما ذهب إليه من القول بالأعم إلى الحكم باجزاء الصلاة المشتملة على الأركان وان لم يشتمل على جزء غيرها إذا وقعت نسيانا ، فجعل الأركان مدار صدق التسمية ، ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد الأركان وان اشتملت على بقية الاجزاء والصدق مع وجودها وان لم يشتمل على شيء من الاجزاء والشرائط ». مطارح الأنظار مبحث الصحيح والأعم. الهداية الثانية ( تصوير الجامع على مذهب الأعمى ) ص 5. راجع القوانين ، قانون ، كل ما ورد في كلام الشارع فلابد ان يحمل على ما علم ارادته. بحث الصحيح والأعم. ص 17 - 18
2- الوسائل. الجزء 4 - كتاب الصلاة. الباب 7 من أبواب التشهد. لحديث 1 ص 995

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنه مضافا إلى أن ذلك مقصور بصورة النسيان ، دون سائر الاعذار ، لوضوح ان العاجز عن الأركان تصح منه الصلاة الفاقدة للأركان ، ان اجتزاء الشارع بخصوص الأركان في صورة النسيان لا يدل على أن المسمى هو خصوص الأركان.

واما ثانيا : فلان نفس الأركان تختلف بحسب اختلاف حال المكلف ، بداهة ان الواجب في الركوع أولا هو الانحناء إلى أن يبلغ كفاه ركبتيه ، فان عجز عن ذلك يجب عليه الانحناء بمقدار ما تمكن إلى أن يبلغ الايماء ، وكذا الحال في سائر الأركان ، فالقول بان المسمى هو خصوص الأركان ، اما ان يراد به خصوص الأركان التامة في حال الاختيار ، واما ان يراد به الأركان بجميع مراتبها ، فان كان المراد هو الأول يلزمه عدم صدق الصلاة على من لم يتمكن من الأركان التامة ، والالتزام بذلك كما ترى. وان كان المراد هو الثاني يلزمه القول بالوضع للجامع بين مراتب الأركان ، فيقع الكلام في ذلك الجامع وانه ما هو؟ فيعود المحذور ، كما لا يخفى ذلك على التأمل.

واما ثالثا : فلان الاجزاء الاخر غير الأركان ، اما ان يقال : بخروجها عن المسمى عند وجودها ، واما ان يقال : بدخولها ، فان قيل بخروجها يلزم ان يكون اطلاق الصلاة على التامة الاجزاء مجازا من باب اطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل ، وهو كما ترى. وان قيل بالثاني يلزم ان تكون الاجزاء عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عن المسمى فيعود المحذور والاشكال ، إذ مبنى الاشكال ، هو انه كيف يعقل ان يكون الشيء الواحد داخلا وخارجا في الماهية؟ مع امتناع اختلاف معنى واحد بالزيادة والنقصان.

وتوهم انه يمكن ان تكون الصلاة من الماهيات القابلة للتشكيك بناء على امكان التشكيك في الذاتيات فتكون الصلاة حينئذ من الماهيات القابلة للشدة والضعف ، بزيادة بعض الاجزاء ونقصانها مع انحفاظ الماهية في جميع المراتب ، وليس شيء من تلك المراتب خارجا عن الهوية والذات ، كالسواد الضعيف والشديد ، حيث يكون كل من الشدة والضعف من مراتب نفس السواد وليسا

ص: 75

خارجين عن حقيقته ، ويكون ما به الامتياز عن ما به الاشتراك.

ففساده غنى عن البيان ، بداهة ان التشكيك انما يمكن في البسيط المتحد الحقيقة كالسواد ، لا في مختلفي الحقيقة كالصلاة التي تكون مركبة من عدة اجزاء مختلفة في المقولة ، حيث إن بعضها من مقولة الفعل ، وبعضها من مقولة الوضع.

والحاصل : ان التشكيك انما يكون في مثل الوجود ، والمقولات الكيفية : من السواد والبياض ، ولا يعقل التشكيك في المركبات التي تكون اجزائها مختلفة بالحقيقة كما هو أوضح من أن يخفى.

ومنها : ما نسب إلى المعظم من أن الصلاة موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور التسمية مداره.

وفيه : ما لا يخفى ، بداهة انه ان أريد ان الصلاة موضوعة لمفهوم المعظم ، ففساده غنى عن البيان ، فان الألفاظ موضوعة بإزاء الحقايق ، لا المفاهيم التي لا موطن لها الا العقل كما تقدم ، وان أريد واقع المعظم وحقيقته ، فالمفروض ان المعظم يختلف حسب اختلاف حالات المكلفين ، فيلزم كون المعظم بالنسبة إلى بعض غير المعظم بالنسبة إلى الاخر ، فيعود المحذور ، وهو كون الشيء الواحد داخلا عند وجوده وخارجا عند عدمه ، مع أنه يلزم ان يكون اطلاق الصلاة على التامة الاجزاء والشرائط مجازا بعلاقة الكل والجزء كما تقدم.

وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله ، إلى تصحيح كون الصلاة مثلا موضوعة لمعظم الاجزاء ، بتقريب كون الموضوع له من قبيل الكلي في المعين الصادق على كل ما يمكن ان ينطبق عليه ، نظير الصاع من الصبرة ، فتكون الصلاة مثلا موضوعة لسبعة اجزاء من عشرة اجزاء على نحو الكلي ، بحيث لا يضر تبادل السبعة بحسب اختلاف الحالات فتأمل ، فإنه يلزم أيضا ان يكون الاطلاق على مجموع العشرة مجازا كما لا يخفى ، مع أن تصوير كون المسمى من قبيل الكلي في المعين ، بحيث يكون المسمى محفوظا مع تبادل المعظم ، في غاية الاشكال.

ومنها : غير ذلك ، مما لا يخفى على المراجع ، مع ما فيها من الاشكالات. فالانصاف : ان تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة في غاية الاشكال ، فضلا عن

ص: 76

تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة والفاسدة.

ثم انه قد استدل لكل من القول بالصحيح والأعم بما لا يخلو عن مناقشة ، ولا يهمنا التعرض لها ، انما المهم بيان ما قيل في الثمرة بين القولين ، وقد ذكر لذلك ثمرتان : الأولى : صحة التمسك بالاطلاقات بناء على الأعم ، وعدم صحته بناء على الصحيح. الثانية : عدم جريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط بناء على الصحيح ، وجريانها بناء على الأعم.

وتوضيح ذلك : هو انه لا ينبغي الاشكال في عدم جواز التمسك بالاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة : من قوله تعالى أقيموا الصلاة ، واتوا الزكاة ، ولله على الناس حج البيت ، إلى غير ذلك ، الا بعد معرفة الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والعلم بما هو المصطلح عليه شرعا من هذه الألفاظ ، بداهة ان هذه الماهيات من المخترعات الشرعية ، وليس في العرف منها عين ولا اثر ، فلو خلينا وأنفسنا لم نفهم من قوله - أقيموا الصلاة - شيئا ، فلا يمكن ان تكون مثل هذه الاطلاقات واردة في مقام البيان.

نعم بعد معرفة ما هو المصطلح الشرعي من هذه الألفاظ والعلم بعدة من الاجزاء والشرائط بدليل منفصل ، تظهر الثمرة حينئذ بين الأعمي والصحيحي ، إذ بعد معرفة عدة من الاجزاء بحيث يصدق عليها المسمى ، ويطلق عليها في عرف المتشرعة - الذي هو مرآت للمراد الشرعي - انها صلاة أو حج ، فبناء على الأعم يتمسك بالاطلاق في نفى اعتبار ما شك في جزئيته أو شرطيته ، الا إذا شك في مدخلية المشكوك في المسمى ، وهذا في الحقيقة ليس تمسكا باطلاق أقيموا الصلاة ، بل هو تمسك باطلاق ما دل على اعتبار تلك الأجزاء والشرائط كما لا يخفى.

والحاصل : انه بناء على الأعم يمكن التمسك باطلاق قوله : (1) انما صلوتنا هذه ذكر ودعاء وركوع وسجود ، ليس فيها شيء من كلام الآدميين - على نفى جزئية شيء لو فرض انه وارد في مقام البيان للمسمى بالصلاة ، واما لو كان واردا في مقام

ص: 77


1- راجع المستدرك المجلد الأول كتاب الصلاة. الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة الحديث 9 ، ص 995

بيان ما هو المأمور به ، فيمكن التمسك باطلاقه على كلا القولين. واما بناء على الصحيحي فلا يمكن التمسك باطلاق ذلك ، لاحتمال ان يكون المشكوك له دخل في الصحة. نعم يمكن التمسك بالاطلاق المقامي في مثل صحيحة حماد (1) الواردة في مقام بيان كل ماله دخل في الصلاة ، ولو فرض كون الصلاة اسما لذلك الجامع الذي يكون هذه الأفعال محصلة له ، فان مثل صحيحة حماد حينئذ تكون واردة في مقام بيان كل ماله دخل في حصول ذلك الجامع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التمسك بالاطلاقات الواردة في الكتاب لا يمكن على كلا القولين ، ووجهه : انه لا يمكن ان تكون تلك الاطلاقات واردة في مقام البيان ، والتمسك باطلاق مثل صيحة حماد يمكن على القولين ، والتمسك باطلاق مثل قوله علیه السلام انما صلوتنا هذه ذكر ودعاء ، يصح على الأعمى لو كان واردا في مقام بيان المسمى.

وما يقال : من أنه لا يمكن التمسك باطلاق ذلك حتى على القول بالأعمى ، للعلم بان المراد ومتعلق الطلب هو الصحيح وان كان اللفظ موضوعا للأعم ، فمجرد صدق المسمى لا يكفي في نفى ما شك في جزئيته مع عدم العلم بحصول المراد ، - ففساده غنى عن البيان ، لأن الصحيح ليس الا ما قام الدليل على اعتباره ، والمفروض ان ما قام الدليل على اعتباره هو هذا المقدار ، فبالاطلاق يحرز ان الصحيح هو ما تكفله الدليل ، كما هو الشأن في جميع الاطلاقات ، والمانع من التمسك بالاطلاق - بناء على القول الصحيحي - هو ان متعلق التكليف امر اخر غير ما تكفله الاطلاق ، فلا يمكن احرازه بالاطلاق ، وهذا بخلاف القول الأعمى ، فان متعلق التكليف بناء عليه هو نفس ما تكفله الاطلاق ، فتأمل في المقام جيدا. هذا كله في الثمرة الأولى.

واما الثمرة الثانية :

وهي الرجوع إلى الأصول العملية ، فقد قيل : انه لافرق في الرجوع إلى

ص: 78


1- راجع الوسائل ، الجزء 4 كتاب الصلاة الباب 1 من أبواب الصلاة الحديث 1 ص 673

البراءة والاشتغال على القولين عند فقد الأصول اللفظية ، ولكن الحق هو التفصيل ، لما عرفت من أنه بناء على الصحيح واخذ الجامع بالمعنى المتقدم لا محيص من القول بالاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، وعدم التزام القائلين بالصحيح بذلك لا ينافي ذلك ، إذ التكلم في المقام انما هو على ما تقضيه القاعدة ، والقاعدة تقتضي الاشتغال بناء على الصحيح ولا بد من التزامهم بذلك فعدم التزامهم بذلك ينافي مبناهم ، أو يكشف عن فساد المبنى فتأمل. هذا كله بناء على مشرب القوم.

واما بناء على ما اخترناه : من أن الصلاة انما تكون اسما للتامة الاجزاء والشرائط وهي التي تستحق اطلاق الصلاة عليها أولا وبالذات وبلا عناية واطلاق الصلاة على ما عدا ذلك انما يكون بعناية الاجتزاء حيث إن الشارع لما اجتزء عند الاستعجال بما عدا السورة ، صح اطلاق الصلاة على الفاقدة للسورة عند الاستعجال ، ولمكان المشابهة في الصورة صح اطلاق الصلاة على الفاقدة للسورة ، ولولا الاستعجال تكون حينئذ فاسدة ، نظير سبك المجاز من المجاز ، وان لم يكن هو هو حقيقة ، على ما تقدم ، فجريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط واضح ، لان متعلق التكليف يكون حينئذ نفس الاجزاء.

نعم في التمسك بالاطلاقات اشكال تقدم وجهه ، ولكن الاشكال بالتمسك بالاطلاقات مطرد على جميع المسالك ، فلا ينبغي جعل مسألة التمسك بالاطلاقات من ثمرات الصحيح والأعم ، بل تختص الثمرة بالرجوع إلى الأصول على عكس ما ذكره في الكفاية (1) من اختصاص الثمرة بالتمسك بالاطلاقات ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في العبادات.

واما المعاملات :

فظاهر عبارة الشهيد قده (2) انها كالعبادات في وضعها للصحيح ، حيث .

ص: 79


1- كفاية الأصول الجلد الأول ص 43 - 42 « ومنها ان ثمرة النزاع .. »
2- قال الشهيد الأول قدس سره في القواعد : « الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد الا الحج لوجوب المضي فيه ». القواعد والفوائد ، القسم الأول - الفائدة الثانية من قاعدة 43 ص 158 - الطبعة الجديدة.

عطف العقود على الماهيات المخترعة في عبارته المحكية عن القواعد ، وحينئذ ربما يشكل عليه بأنها لو كانت موضوعة للصحيح ، فلازمه عدم جواز التمسك بالمطلقات الواردة في باب المعاملات على نفى ما شك في اعتباره ، كالماضوية ، والعربية ، كما كان لازم القول بوضع العبادات للصحيح عدم التمسك بالمطلقات عند الشك في اعتبار شيء منها ، على ما عرفت ، مع أنه جرت سيرة الاعلام على التمسك بالمطلقات في باب المعاملات ، ولولا التمسك بالمطلقات لكان اللازم هو الاحتياط ، لان الأصل العملي في المعاملات يقتضى الفساد.

والتحقيق في حل الاشكال : هو انه لو قلنا بان ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب ونفس العقد من الايجاب والقبول ، فلا ينبغي الاشكال في صحة التمسك بالمطلقات ولو قلنا بأنها موضوعة للصحيحة ، لان الاطلاق يكون منزلا على ما يراه العرف صحيحا ، حيث كانت الأسباب أمورا عرفية ، واطلاق دليل الامضاء يدل على امضاء كل ما هو سبب عند العرف ، فالعقد الفارسي لو كان عند العرف سببا لحصول الملكية أو الزوجية كان اطلاق أحل اللّه البيع امضاء لذلك.

نعم لو قلنا بأنها موضوعة للمسببات - كما هو كذلك بداهة ان ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء المسببات لا الأسباب ، ولا محل لتوهم ان البيع مثلا اسم للسبب ، نعم في خصوص قوله تعالى أوفوا بالعقود ربما يتوهم ذلك ، الا انه مع ذلك لا يصح بقرينة الوفاء الذي لا يتعلق الا بالمسبب - فيشكل الامر ، لان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب.

وما يقال في حله : من أن امضاء المسبب يلازم عرفا امضاء السبب ، إذ لولا امضاء السبب كان امضاء المسبب لغوا ، فليس بشيء ، إذ لا ملازمة عرفا في ذلك وان يظهر (1) من الشيخ ( قده ) الميل إلى ذلك حسب ما افاده قبل المعاطاة بأسطر

ص: 80


1- قال الشيخ في المكاسب بعد ذكر كلام الشهيد الثاني في المسالك. والشهيد الأول في القواعد : « ويشكل ما ذكراه بان وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو أحل اللّه البيع واطلاقات أدلة ساير العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها ، مع أن سيرة علماء الاسلام التمسك بها في هذه المقامات. نعم يمكن ان يقال : ان البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول القائل ( بعت ) عند الانشاء لا يستعمل حقيقة الا فيما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظرهم ، ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده والا كان صورة بيع نظير بيع الهازل عند العرف. فالبيع الّذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل (بعت) عند العرف و الشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر و مجاز في غيره إلّا ان الإفادة و ثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف و الشرع، و اما وجه تمسك العلماء بإطلاق أدلة البيع و نحوه فلأنّ الخطابات لما وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعيّة على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف أو على المصدر الّذي يراد من لفظ بعت فيستدل بإطلاق الحكم بحلّه أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا فتأمل ... (المكاسب، كتاب البيع، ص 81- 80)

عند نقل كلام الشهيد ( قده ) واللغوية انما تكون إذا لم يجعل الشارع سببا ، أو لم يمض سببا أصلا ، إذ لا لغوية لو جعل سببا أو امضى سببا في الجملة ، غايته انه يلزم حينئذ الاخذ بالمتيقن ، فلزوم اللغوية لا يقتضى امضاء كل سبب ، بل يقتضى امضاء سبب في الجملة ، ويلزمه الاخذ بالمتيقن.

فالتحقيق في حل الاشكال : هو ان باب العقود والايقاعات ليست من باب الأسباب والمسببات ، ان أطلق عليها ذلك ، بل انما هي من باب الايجاد بالآلة ، والفرق بين باب الأسباب والمسببات ، وبين باب الايجاد بالآلة ، هو ان المسبب في باب الأسباب لم يكن بنفسه فعلا اختياريا للفاعل ، بحيث تتعلق به ارادته أولا وبالذات ، بل الفعل الاختياري وما تتعلق به الإرادة هو السبب ، ويلزمه حصول المسبب قهرا.

وهذا بخلاف باب الايجاد بالآلة ، فان ما يوجد بالآلة كالكتابة ، هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ، ومتعلق لإرادته ويصدر عنه أولا وبالذات ، فان الكتابة ليس الا عبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص ، وهذا هو بنفسه فعل اختياري صادر عن المكلف أولا وبالذات ، بخلاف الاحراق ، فان الصادر عن المكلف هو الالقاء في النار لا الاحراق ، وكذا الكلام في سائر ما يوجد بالآلة : من آلات النجار ، والصايغ ، والحداد ، وغير ذلك ، فان جميع ما يوجده النجار يكون فعلا اختياريا له ، والمنشار مثلا آلة لايجاده ، وباب العقود والايقاعات كلها من هذا القبيل ، فان هذه الألفاظ كلها آلة لايجاد الملكية ، والزوجية ، والفرقة ، وغير ذلك ،

ص: 81

وليس البيع مثلا مسببا توليديا لهذه الألفاظ ، بل البيع هو بنفسه فعل اختياري للفاعل متعلق لإرادته أولا وبالذات ، ويكون ايجاده بيده ، فمعنى حلية البيع هو حلية ايجاده ، فكل ما يكون ايجادا للبيع بنظر العرف فهو مندرج تحت اطلاق قوله تعالى : أحل اللّه البيع ، والمفروض ان العقد بالفارسية مثلا يكون مصداقا لايجاد البيع بنظر العرف ، فيشمله اطلاق حلية البيع ، وكذا الكلام في سائر الأدلة وساير الأبواب ، فيرتفع موضوع الاشكال ، إذ مبنى الاشكال هو تخيل ان المنشئات بالعقود من قبيل المسببات التوليدية ، فيستشكل فيه من جهة ان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب ، والحال ان الامر ليس كذلك ، فتأمل في المقام جيدا.

المبحث الثالث في المشتق

اشارة

وتحقيق الحال فيه يستدعى رسم أمور :

( الامر الأول )

اختلفوا في أن اطلاق المشتق على ما انقضى عنه التلبس بالمبدء ، هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟ بعد اتفاقهم على المجازية بالنسبة إلى من يتلبس في المستقبل ، وعلى الحقيقة بالنسبة إلى المتلبس في الحال.

والسر في اتفاقهم على المجازية في المستقبل ، والاختلاف فيما انقضى ، هو ان المشتق لما كان عنوانا متولدا من قيام العرض بموضوعه ، من دون ان يكون الزمان مأخوذا في حقيقته ، بل لم يؤخذ الزمان في الافعال - كما سيأتي - فضلا عن المشتق ، وقع الاختلاف بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدء حيث إنه قد تولد عنوان المشتق لمكان قيام العرض بمحله في الزمان الماضي ، وهذا بخلاف من يتلبس بعد ، فإنه لم يتولد عنوان المشتق لعدم قيام العرض بمحله ، فكان للنزاع في ذلك مجال ، دون هذا ، إذ يمكن ان يقال فيما تولد عنوان المشتق : ان حدوث التولد في الجملة ولو فيما مضى يكفي في صدق العنوان على وجه الحقيقة ولو انقضى عنه المبدء ، كما أنه يمكن ان يقال : انه يعتبر في صدق العنوان على وجه الحقيقة بقاء التولد في الحال ، ولا يكفي حدوثه مع انقضائه. هذا فيما إذا تولد عنوان المشتق في الجملة.

واما فيما لم يتولد فلا مجال للنزاع في أنه على نحو الحقيقة ، لعدم قيام العرض

ص: 82

بمحله ، فكيف يمكن ان يتوهم صدق العنوان على وجه الحقيقة ، مع أنه لم يتحقق العنوان بعد ، فلا بد ان يكون على وجه المجاز بعلاقة الأول والمشارفة.

( الامر الثاني )

لا اشكال في اختصاص النزاع بالعناوين العرضية المتولدة من قيام أحد المقولات بمحالها ، وخروج العناوين الذاتية التي يتقوم بها الذات وما به قوام شيئية الشيء ، كحجرية الحجر ، وانسانية الانسان ، وما شابه ذلك من المصادر الجعلية التي بها قوام الشيء ، فلا يصح اطلاق الحجر على ما لايكون متلبسا بعنوان الحجرية فعلا ، ولا اطلاق الانسان على ما لايكون متلبسا بالانسانية فعلا ، فلا يقال للتراب : انه انسان باعتبار انه ، أحد العناصر التي يتولد منها الانسان ، وذلك لان انسانية الانسان ليست بالتراب ، بل انما تكون بالصورة النوعية التي بها يمتاز الانسان عن غيره ، بل التراب لم يكن انسانا في حال من الحالات ، حتى في حال تولد الانسان منه ، فضلا عن حال عدم التولد. وبعبارة أخرى : في حال كون الانسان انسانا لم يكن انسانيته بالتراب الذي هو أحد عناصره ، بل انسانيته انما هي بالصورة النوعية ، فإذا لم يكن التراب في حال كونه عنصر الانسان مما يصح اطلاق اسم الانسان عليه ، فكيف يصح اطلاق اسم الانسان عليه في غير ذلك الحال ، مع أنه لا علاقة بينه وبين الانسان ، حتى علاقة الأول والمشارفة ، لان التراب لا يصير انسانا ، ولا يؤل إليه ابدا.

وهذا بخلاف العناوين العرضية ، كضارب ، فان ضاربية الضارب انما يكون بالضرب ، لمكان قيام الضرب به على جهة الصدور ، ومن المعلوم : ان من لم يكن ضاربا في الحال ، هو الذي يكون ضاربا في الغد حقيقة ، وهو الذي يتعنون بهذا العنوان ، واليه مآله ، فعلاقة الأول والمشارفة في مثل هذا ثابتة ومتحققة ، بخلاف التراب والانسان حيث لم يكن مآل التراب إلى الانسان في حال من الحالات ، بخلاف ضارب ، فان الذي يكون ضاربا هو زيد ، فصح اطلاق الضارب على زيد بعلاقة انه يؤل إلى هذا العنوان في المستقبل.

وحاصل الكلام : انه فرق ، بين أسماء الذوات : من الأجناس والأنواع

ص: 83

والاعلام ، وبين أسماء العرضيات ، فإنه في الأول لا يصح اطلاق الاسم عليها الا في حال ثبوت الذات بما لها من الصور النوعية التي بها يتحقق عنوان الذات كحيوانية الحيوان وانسانية الانسان وزيدية زيد ، بخلاف الثاني ، فإنه يصح اطلاق الاسم عليها ، وان لم تكن متلبسة بالعرض فعلا بعلاقة الأول والمشارفة.

وكذا الكلام في علاقة ما كان ، فان زيدا الفاقد للضرب في الحال ، هو الذي كان ضاربا بالأمس حقيقة ، فصح اطلاق الضارب عليه بعلاقة ما كان ، وهذا بخلاف الكلب الواقع في المملحة بحيث صار ملحا ، فان هذا الملح لم يكن كلبا ، إذ الكلبية انما هي بالصورة النوعية التي لم تكن ، فظهر : سر اختصاص النزاع بالعرضيات ، دون الذاتيات (1) فتأمل.

( الامر الثالث )

ليس المراد من المشتق مطلق ما كان له مصدر حقيقي مقابل المصدر الجعلي ، بحيث يعم الافعال ، ولا خصوص اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة كما توهم ، بل المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا على وجه يصح حمله عليها ، سواء كان من المشتق الاصطلاحي كضارب ومضروب ، أو لم يكن كبعض الجوامد التي تكون من العناوين العرضية مقابل العناوين الذاتية ، كالزوجية ، والرقية ، والحرية ، وغير ذلك من العناوين العرفية ، ولا موجب لتوهم الاختصاص بخصوص المشتق الاصطلاحي ، وان كان ظاهر العنوان ربما يعطى ذلك ، الا انه يظهر من بعض الكلمات التعميم لكل عنوان عرضي ، ويدل على ذلك : العبارة المحكية عن القواعد ، مع ما في الايضاح من شرحها ، والعبارة المحكية عن المسالك (2) فيمن كان له زوجتان كبيرتان وزوجة :

ص: 84


1- وكان غرض شيخنا الأستاذ مد ظله من هذا البيان هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح اطلاق الاسم على غير المتلبس بالذات ، لا على وجه الحقيقة ، ولا على وجه المجاز ، بل يكون الاستعمال غلطا ، ولكن الظاهر من بعض الكلمات : هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح الاطلاق على غير المتلبس على وجه الحقيقة ، واما على وجه المجاز فكأنه لا كلام في صحة الاطلاق ، فتأمل - منه.
2- قال الشهيد الثاني قدس سره في المسالك : « وبقى الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين ، فقد قيل إنها لا تحرم ، واليه مال المصنف حيث جعل التحريم أولى وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد لخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية ، وأم البنت غير محرمة على أبيها خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق منه في صدق الاشتقاق كما هو رأى جمع من الأصوليين. ( مسالك الأفهام في شرح شرايع الاسلام ، الجلد الأول كتاب النكاح ، ص 475 )

صغيرة وأرضعت الكبيرتان الصغيرة ، حيث بنوا حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، ولا بأس بنقل العبارة المنقولة عن الايضاح والقواعد وبيان المراد منها وان كانت المسألة فقهية.

فنقول : انه حكى من القواعد (1) « انه لو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب ، فالأقرب تحريم لجميع ، لان الأخيرة صارت أم من كانت زوجته ، ان كان قد دخل بإحدى الكبيرتين ، والا حرمت الكبيرتان مؤبدا ، وانفسخ عقد الصغيرة انتهى » وحكى عن الايضاح (2) انه قال : « أقول تحريم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالاجماع ، واما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها ، لان هذه يصدق عليها انها أم زوجته ، لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه ، فكذا هنا ، ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم ، بل لو صدق قبله كفى ، فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، ولمساوات الرضاع النسب ، وهو يحرم سابقا ولا حقا فكذا مساويه » انتهى موضع الحاجة.

أقول :

عبارة القواعد مع ما عليها من الشرح قد تكفلت لبيان فروع :

الأول : حرمة المرضعة الكبيرة الأولى على كل حال ، وعدم ابتنائها على المشتق.

الثاني : توقف حرمة المرتضعة الصغيرة على الدخول بإحدى الكبيرتين.

الثالث : انفساخ عقد الصغيرة مع عدم الدخول بإحدى الكبيرتين ، وان لم تحرم عليه مؤبدا ، فله تجديد العقد عليها.

ص: 85


1- إيضاح الفوائد في شرح القواعد - الطبعة الجديدة ، الجزء 3 ص 52.
2- إيضاح الفوائد في شرح القواعد - الطبعة الجديدة ، الجزء 3 ص 52.

الرابع : ابتناء حرمة المرضعة الثانية الكبيرة على مسألة المشتق. ولا بأس ببيان مدرك هذه الفروع.

فنقول : اما الفرع الأول ، وهو حرمة المرضعة الأولى على كل حال ، فلصيرورتها أم الزوجة في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر ، بداهة انه في ذلك الحال تكون المرتضعة الصغيرة زوجة ، والمرضعة الكبيرة أم الزوجة ، فيصدق عليها في ذلك الحال - أمهات نسائكم - فتحرم.

واما الفرع الثاني : وهو حرمة المرتضعة الصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، فلان الصغيرة تكون حينئذ ربيبته إذا لم يكن اللبن للزوج ، كما هو مفروض الكلام ، حيث إنهم ذكروا ذلك في فروع المصاهرة ، ومن المعلوم : حرمة الربيبة إذا كانت أمها مدخولا بها ، من غير فرق بين الدخول بالأولى أو الدخول بالثانية ، لأنها على كل تقدير تصير ربيبة من الزوجة المدخول بها.

واما الفرع الثالث : وهو انفساخ عقد الصغيرة فيما إذا لم يكن قد دخل بإحدى الكبيرتين وعدم حرمتها ، فلأنها وان صارت ربيبة بالارضاع ، الا انها ربيبة لم يكن قد دخل بأمها فلا تحرم ، واما انفساخ عقدها ، فلانه في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر يلزم اجتماع الام والربيبة في عقد الازدواج ، وهو موجب لانفساخ عقد الصغيرة ، لعدم جواز الاجتماع.

واما الفرع الرابع : وهو ابتناء حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، فلانه في حال ارضاع الثانية لم تكن الصغيرة زوجة ، لخروجها عن الزوجية بارتضاعها من الأولى ، فإذا لم تكن في ذلك الحال زوجة ، فلا تكون المرضعة الثانية أم الزوجة فعلا ، بل تكون أم من كانت زوجة في السابق ، فلو قلنا بان المشتق حقيقة فيمن انقضى منه المبدء ، تحرم المرضعة الثانية أيضا ، لصدق أم الزوجة عليها حقيقة ، وان لم نقل فلا موجب لحرمتها.

بقى الكلام فيما ذكره في الايضاح من الوجهين الأخيرين لحرمة المرضعة الثانية.

اما الوجه الأول منهما ، وهو قوله : ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه

ص: 86

حال الحكم بل لو صدق قبله كفى فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، فربما يتخيل انه يرجع إلى الوجه الأول ، وهو صدق المشتق على من انقضى عنه المبدء ، فهو تكرار لذلك الوجه بعبارة أخرى هذا ، ولكن يمكن ان يكون مراده منه ، هو انه لا يتوقف الحكم بحرمة أم الزوجة على صدق هذا العنوان حال الحكم ، حتى يقال : ان ذلك مبنى على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى ، بل يكفي في حرمة الام تلبس البنت بالزوجة آنا ما.

والحاصل : انه وان لم يصدق على الام انها أم الزوجة فعلا لخروج الزوجة عن الزوجية ، الا انه لا يتوقف الحكم بحرمة الام على صدق الزوجية على البنت في حال صيرورتها اما لها ، بل يكفي في الحكم بحرمة أمها ثبوت الزوجية لها في زمان ، وهو الزمان الذي قبل الارتضاع من المرضعة الأولى ، نظير قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، حيث إن التلبس بالظلم في زمان يكفي في عدم نيل العهد وان لم يكن حال النيل ظالما ، فتأمل جيدا.

واما الوجه الأخير : فحاصله ان لحمة الرضاع كلحمة النسب ، وانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ومن المعلوم : انه لو تزوج بابنة ثم طلقها ، يحرم عليه أمها مع زوال زوجيتها بالطلاق ، فكذلك في الام والبنت الرضاعية تحرم الام الرضاعية ولو خرجت البنت عن الزوجية ، كما في المقام. وعلى كل حال : فقد خرجنا عما هو المقصود في المقام ، من عدم اختصاص المشتق المتنازع فيه بالمشتق الاصطلاحي ، وهو ما كان له مصدر حقيقي ، بل يجرى في الجوامد التي تكون لها مصادر جعلية إذا كانت من العرضيات لا الذاتيات.

وضابط العرضي هو ما كان متولدا من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، سواء كانت من الأمور المتأصلة في عالم العين ، كما إذا كان العنوان متولدا من مقولة الكم والكيف ، كالأبيض والأسود ، أو كان متولدا من الأمور النسبية ، كسائر المقولات السبع : من مقولة الفعل والانفعال والإضافة والجدة وغير ذلك ، وسواء كان من الأمور الاعتبارية ، أو كان من الأمور الانتزاعية ، وسواء كان من

ص: 87

المحمول بالضميمة ، أو كان خارج المحمول ، ولعل هذا هو مراد صاحب (1) الكفاية من تعميم محل النزاع بالنسبة إلى العرض والعرضي ، وان كان ذلك خلاف ما اشتهر من اصطلاح العرض والعرضي ، حيث إن مرادهم من العرض نفس المقولة ، أي عرضا مباينا غير محمول كالبياض ، ومرادهم من العرضي ، المتحد مع الذات المحمول عليها كالأبيض ، فالتعبير عن المحمول بالضميمة وخارج المحمول - بالعرض والعرضي - خلاف ما اشتهر من اصطلاحهم في ذلك.

وعلى كل حال : المراد من المحمول بالضميمة ، هو ما كان الحمل بلحاظ قيام أحد الاعراض التسعة بمحالها ، ولو كان العرض من مقولة الإضافة والنسبة كقولك : هذا ابيض ، هذا اسود ، هذا أب ، هذا زوج ، هذا فوق ، هذا تحت ، وغير ذلك مما كان من مقولة الكم ، والكيف ، والإضافة ، والنسبة المتكررة. والمراد من الخارج المحمول ، ما كان المحمول أمرا خارجا عن الذات ، ولكن كان من مقتضيات الذات ، كهذا ممكن ، هذا وأحب ، وغير ذلك مما لم يكن المحمول من أحد المقولات.

وربما عبر عن الأمور الانتزاعية التي تنتزع من قيام العرض بمحله بخارج المحمول ، كالسبق واللحوق والتقارن المنتزعة من تقارن الشيئين في زمان أو مكان أو سبق أحد الشيئين في المكان والزمان ، فمثل السبق واللحوق والتقارن ينتزع من قيام مقولة الأين ومتى بموضوعها ، فمثل هذا أيضا ربما يعبر عنه بخارج المحمول على ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن المعروف من اصطلاح - خارج المحمول - هو ما كان من مقتضيات الذات خارجا عن حقيقتها ، كالامكان والوجوب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الخارج عن محل النزاع هو خصوص العناوين الذاتية المنتزعة عن نفس مقام الذات ، على ما تقدم في الامر الثاني ، واما سائر العناوين المتولدة من أي مقولة كانت ، فهي داخلة في محل النزاع ، سواء كانت من خارج المحمول ، أو من المحمول بالضميمة. »

ص: 88


1- كفاية الجلد الأول ص 59 « ثم انه لا يبعد ان يراد بالمشتق .. »

ومما ذكرنا من تعريف المحمول بالضميمة ظهر : ان جعل مثل الزوجية من خارج المحمول ، كما يظهر من صاحب الكفاية (1) حيث أم بالتعميم ادراج مثل الزوجية كما يشهد بذلك سياق كلامه مما لا وجه له ، إذ الزوجية من المحمول بالضميمة ، لا خارج المحمول ، حيث إن الزوجية من مقولة النسبة التي هي من المقولات التسع ، فتكون من المحمول بالضميمة ، على ما بيناه من ضابط المحمول بالضميمة.

( الامر الرابع )

يعتبر في المشتق المتنازع فيه ، بقاء الذات مع انقضاء المبدء ، كالضارب ، حيث تكون الذات فيه باقية مع انقضاء الضرب ، ولأجل ذلك ربما يستشكل في ادراج مثل اسم الزمان في محل النزاع ، لانعدام الذات فيه كانقضاء المبدء ، لان الذات فيه انما يكون هو الزمان ، وهو مبنى على التقضى والتصرم ، فمثل مقتل الحسين علیه السلام لا يمكن ادراجه في محل النزاع ، لان كلا من الزمان والقتل قد انقضى ، فلا يصح ان يقال : ان هذا اليوم مقتل الحسين علیه السلام هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل ، وهو اليوم العاشر من المحرم ، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم المنحوس الذي وقع فيه القتل ، بل وضع لمعنى كلي متكرر في كل سنة ، وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل فردا من افراد ذلك المعنى العام المتجدد في كل سنة ، فالذات في اسم الزمان انما هو ذلك المعنى العام ، وهو باق حسب بقاء الحركة الفلكية ، وقد انقضى عنه المبدء الذي هو عبارة عن القتل ، فلا فرق بين الضارب وبين المقتل ، إذ كما أن الذات في مثل الضارب باقية وقد انقضى عنها الضرب ، فكذا الذات في مثل المقتل الذي هو عبارة عن اليوم العاشر من المحرم باقية لتجدد ذلك اليوم في كل سنة وقد انقضى عنها القتل ، نعم لو كان الزمان في اسم الزمان موضوعا لخصوص تلك القطعة الخاصة من الحركة الفلكية التي وقع فيها القتل ، لكانت الذات فيه

ص: 89


1- المدرك السابق ص 60 « فعليه كلما كان مفهومه متنزعا .. »

متصرمة ، كتصرم نفس المبدء ، الا انه لا موجب للحاظ الزمان كذلك ، فتأمل جيدا.

( الامر الخامس )

المراد من الحال في قولهم : اطلاق المشتق على المتلبس بالمبدء في الحال يكون حقيقة ، ليس زمان الحال المقابل لزمان الماضي والاستقبال الذي هو عبارة عن زمان التكلم والنطق ، بل المراد من الحال ، هو حال التلبس بالمبدأ أي حال تحقق المبدء وفعلية قيامه بالذات. وبعبارة أخرى : المراد بالحال ، هو وجود العنوان المتولد من قيام العرض بمحله ، سواء كان مقارنا لزمان الحال ، كما إذا كان زيد ضاربا حين قولي : زيد ضارب ، أو كان سابقا على زمان الحال ، أو لاحقا له ، كما إذا قلت : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا.

وبذلك يندفع : ما ربما يستشكل في المقام : من المنافاة ، بين الاتفاق على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون على وجه الحقيقة ، وبين الاتفاق على أن الأسماء مط لا تدل على الزمان ، سواء في ذلك الجوامد والمشتقات ، وانما قيل بدلالة الافعال على الزمان ، وهو أيضا محل منع كما سيأتي.

وجه المنافاة ، هو انه لو لم يكن الزمان مأخوذا في مفهوم الاسم ، ولا جزء الموضوع له ، فكيف يكون اطلاق المشتق على المتلبس في الحال على وجه الحقيقة؟ إذ معنى كونه على وجه الحقيقة ، هو انه تمام ما وضع له اللفظ ، فيكون زمان الحال جزء مدلول اللفظ ، وهذا كما ترى ينافي الاتفاق على عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ومما ذكرنا من معنى الحال يظهر لك وجه الدفع وعدم المنافاة بين الاتفاقين ، إذ ليس المراد من - الحال - في اتفاقهم على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون حقيقة هو زمان الحال حتى يكون زمان الحال جزء مدلول المشتق ، بل المراد من - الحال - هو حال فعلية المبدء وتحققه ، غايته ان فعليته لابد ان يكون في زمان لاحتياج الزماني إلى الزمان ، الا ان ذلك غير كونه جزء مد لول اللفظ.

ومما ذكرنا أيضا من معنى الحال يندفع اشكال آخر ، وهو ان النحاة قالوا : ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، وان

ص: 90

كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل ، وهذا الكلام منهم ربما يوهم المنافاة لما اتفقوا عليه : من عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ولكن قد عرفت عدم المنافاة ، إذ ليس المراد من الحال والاستقبال في قولهم : يعمل عمل الفعل - هو زمان الحال والاستقبال ، بل المراد حال تلبسه بالمبدء أو تلبسه فيما بعد في مقابل من كان متلبسا في السابق ، مع أنه لو فرض ان مرادهم من الحال والاستقبال هو زمان الحال والاستقبال ، فلا يلازم ان يكون اسم الفاعل بنفسه يدل على زمان الحال والاستقبال ، حتى ينافي قولهم بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، بل يمكن استفادة زمان الحال والاستقبال من وقوع اسم الفاعل في طي التركيب ، حيث إن الكلام إذا كان مشتملا على الرابط الزماني : من - كان وأخواتها - أو السين وسوف الذين لا يدخلان الا على الفعل المضارع ، فلا محالة يستفاد منه الزمان الماضي أو زمان الاستقبال ، كقولك : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا. وان لم يكن مشتملا على الرابط الزماني كقولك : زيد قائم ، أو زيد ضارب ، فيستفاد منه زمان الحال بمقتضى ظهور اطلاق الكلام في ذلك ، وهذا معنى قولهم : ان الجملة الحملية ظاهرة في زمان الحال ، حيث إن الاخبار عن شيء يقتضى تحقق المخبر به في زمان النطق إذا لم تكن الجملة مشتملة على ما يصرفها عن هذا الظهور ، من الروابط الزمانية التي يستفاد منها المضي والاستقبال ، فلا منافاة بين قولهم : بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، وبين قولهم : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل ، وقولهم : ان الجملة الخبرية ظاهرة في تحقق المخبر به في زمان النطق ، فان ظهور الجملة في ذلك انما يكون لمكان الاطلاق وعدم اقترانها بالرابط الزماني ، كما أن كون اسم الفاعل بمعنى الاستقبال انما يكون بالرابط الزماني ، لا ان نفس اسم الفاعل يدل على الزمان.

وحاصل الكلام : ان البحث في باب المشتق ، انما يكون في مفهومه الافرادي من أنه حقيقة في خصوص المتلبس ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه التلبس؟ وكلامهم في ظهور الجملة الخبرية في تحقق المخبر به في حال النطق ، انما هو لمكان النسبة وظهور تركيب الكلام في ذلك عند خلوه عما يدل على تحقق المخبر به في

ص: 91

الماضي ، فلا ربط له بما نحن فيه من تعيين الفهوم الافرادي للمشتق ، كما لا يرتبط بالمقام ما حكى عن الفارابي والشيخ : من أن اتصاف الموضوع بالعنوان في القضايا الموجهة ، هل يكفي فيه الامكان؟ كما عن الفارابي ، أو يعتبر الفعلية ووجود العنوان في أحد الأزمنة الثلاثة؟ كما عن الشيخ الرئيس ، وذلك : لان كلامنا على ما عرفت ناظر إلى معنى المشتق وما هو مفهومه الافرادي ، وكلام الفارابي والشيخ ناظر إلى جهة صحة الحمل في القضية ، وانه هل يكفي في صحة الحمل امكان تحقق الوصف العنواني للموضوع في مقابل الامتناع؟ أو يعتبر تحقق الوصف في حد الأزمنة ولا يكفي الامكان؟ فالموضوع في قولنا : كل كاتب متحرك الأصابع ، هو ما يمكن ان يكون كاتبا وان لم يصدر منه الكتابة في زمان على رأى الفارابي ، أو ما يتحقق منه الكتابة في أحد الأزمنة على رأى الشيخ ، وكذا قولنا : كل مركوب زيد حمار ، هو ما أمكن ان يكون مركوب زيد وان لم يتلبس بالمركوبية في زمان من الأزمنة ، أو ما كان متلبسا في زمان ، وهذا كما ترى لا ربط له بما نحن فيه من أن معنى الكاتب والمركوب ما هو؟.

وحاصل الكلام : ان كلام الفارابي والشيخ انما هو في أن المحمول الذي يكون موجها بإحدى الجهات ، من الضرورة والامكان والفعلية هل يصح حمله على موضوع لم يتلبس بالوصف العنواني في زمان من الأزمنة الا انه ممكن التلبس؟ أو انه لا يصح الا إذا تلبس به في أحد الأزمنة؟ وهذا أجنبي عما نحن فيه من معنى المشتق وان صدقه بالنسبة إلى المستقبل مجاز وبالنسبة إلى حال التلبس حقيقة وبالنسبة إلى ما انقضى حقيقة أو مجاز على الخلاف ، فلا يتوهم المنافاة ، بين ما حكى عن الفارابي والشيخ في ذلك المقام ، وبين ما ذكرناه في هذا المقام ، كما لا يتوهم المنافاة ، بين ما ذكرناه في الامر الثاني : من اعتبار التلبس بالعنوان بالفعل في الذاتيات ولا يكفي التلبس فيما مضى فضلا عن التلبس في المستقبل ، وبين ما ذكره الفارابي : من كفاية امكان التلبس بالعنوان في عقد الوضع في صحة الحمل ، بناء على تعميم العنوان في كلامه بالنسبة إلى الذاتيات كما هو الظاهر ، وذلك لما عرفت من أن كلامه في صحة الحمل ، وكلامنا في المفهوم الافرادي ، فتأمل جيدا.

ص: 92

( الامر السادس )

هل النزاع في المقام راجع إلى ناحية الاستعمال ، وان استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز أو ان النزاع راجع إلى ناحية التطبيق والانطباق؟ ولا بد قبل ذلك من بيان المراد من الاستعمال ، والتطبيق ، والانطباق.

فنقول : ان الاستعمال عبارة عن القاء المعنى باللفظ وجعل اللفظ مرآة له ، فان كان ذلك هو المعنى الموضوع له اللفظ ، كان الاستعمال على وجه الحقيقة. وان لم يكن ما وضع له اللفظ ، فان كان هناك علاقة بينه وبين الموضوع له ، كان الاستعمال على وجه المجاز ، وان لم يكن علاقة كان الاستعمال غلطا ، فالاستعمال يتصف بكل من الحقيقة والمجاز والغلطية.

واما الانطباق ، فهو عبارة عن انطباق المعنى الكلي على مصاديقه وصدقه عليها ، وهذا لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل هو من الأمور الواقعية التكوينية ، يتصف بالوجود والعدم إذ الكلي اما منطبق على هذا واما غير منطبق ، هذا بحسب الواقع. واما بحسب الاطلاق فكذلك لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل بالصدق والكذب ، فلو أطلق الكلي على ما يكون مصداقا له يكون الكلام صادقا ، وان أطلق على ما لايكون مصداقا له يكون الكلام كاذبا ، فاطلاق الانسان على زيد يكون صدقا ، واطلاقه على الحمار يكون كذبا ، ومن هنا أنكر على السكاكي القائل بالحقيقة الادعائية ، بأنه لا معنى للحقيقة الادعائية ، إذ اطلاق الأسد بمعناه الحيوان المفترس على زيد الشجاع يكون كذبا ، ومجرد الادعاء لا يصحح الكلام.

والحاصل : انه لو أطلق الأسد على زيد من دون تصرف في معنى الأسد ، بل يراد منه معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس ، يكون هذا الكلام كذبا ، ومجرد الادعاء بان زيدا من افراد الأسد لا يخرج الكلام عن الكذب ، بل يكون في ادعائه لها أيضا كاذبا ، فاطلاق الأسد على زيد انما يصح إذ توسع في معنى الأسد بجعل معناه مطلق الشجاع الصادق على الحيوان المفترس وعلى زيد الشجاع ، ثم بعد هذه التوسعة يطلق الأسد على زيد فيكون زيد من افراد المعنى الموسع فيه حقيقة ، ويكون من مصاديقه واقعا إذا كان شجاعا ، فالاطلاق يكون ح على نحو الحقيقة وان

ص: 93

كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه استعمال في خلاف ما وضع له.

وبالجملة : صحة اطلاق شيء على شيء انما يكون بتوسعة في ناحية ذلك الشيء على وجه يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، فتارة يكون الشيء هو بنفسه موسعا بلا عناية ويكون نسبته إلى المصاديق نسبة المتواطي ، كما لو أطلق الماء على ماء الدجلة والفرات ، ففي مثل هذا يكون كل من الاطلاق والاستعمال حقيقيا إذا لم يكن الاطلاق بلحاظ الخصوصية الفردية ، بل جرد الفرد عن الخصوصية وأريد به نفس تلك الحصة من الطبيعة الموجودة في ضمنه.

وأخرى : لايكون الشيء هو بنفسه بلا عناية يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، وان كان من افراده الحقيقية ، الا ان نسبته إلى ذلك الشيء نسبة المشكك لا المتواطي كاطلاق الماء على ماء الزاج والكبريت ، فان ماء الزاج والكبريت وان كان من افراد الماء حقيقة ، الا ان الماء لما كان منصرفا عن ذلك فاطلاق الماء عليه يحتاج إلى نحو عناية وتوسعة ، ولكن تلك العناية لا توجب المجازية ، بل يكون أيضا كل من الاطلاق والاستعمال على وجه الحقيقة.

وثالثة : لايكون الشيء مما يعمه على وجه الحقيقة ، بل يكون مباينا له بالهوية ، الا انه يصح تعميم دائرة الشيء على وجه يكون ذلك الشيء من افراده حقيقة بعد التعميم ، وذلك كصحة تعميم الأسد لمطلق الشجاع لمكان العلاقة ، وبعد التعميم والتوسعة في دائرة مفهوم الأسد يطلق على زيد الشجاع ، ويكون زيد من افراد المفهوم الموسع حقيقة ، وان كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه خلاف ما وضع له اللفظ.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان السكاكي ان أراد من قوله : اطلاق الأسد على زيد يكون حقيقة ادعائية ، هو انه يطلق الأسد على زيد من دون توسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا مما لا معنى له ويكون الكلام كذبا ، وان أراد ان الاطلاق بعد التوسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا هو المجاز الذي يقول به المشهور ، ويكون من المجاز في الكلمة ، حيث إنه قد استعمل لفظ الأسد في مطلق الشجاع ، وهو خلاف ما وضع له فتأمل ، فان الانكار على السكاكي ربما لا يساعد عليه الشخص ابتداء و

ص: 94

ان كان بعد التأمل يعترف (1) بفساد مقالته.

وعلى كل حال ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن النزاع في المقام ، هل هو في صحة الاطلاق والتطبيق؟ أو في الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء؟ ربما قيل : ان النزاع في المقام انما هو في صحة الاطلاق وتطبيق عنوان المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، لا في أن استعماله فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز. قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة ، ضرورة ان اطلاق عنوان على شيء وتطبيقه على المصاديق يتوقف على معرفة ذلك العنوان إذ لا معنى للتطبيق مع الجهل بالعنوان.

وبالجملة : صحة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء وعدم صحته يتوقف على معرفة الموضوع له للمشتق ، والكلام بعد في أصل مفهوم المشتق وما وضع له ، فكيف يكون النزاع في الاطلاق والتطبيق؟ مع أن انطباق الكلي على مصاديقه امر خارجي تكويني لا معنى لوقوع النزاع فيه من الاعلام.

والحاصل : ان صدق عنوان الضارب على زيد الذي انقضى عنه الضرب وعدم صدقه يدور مدار مفهوم الضارب وان الموضوع له ما هو؟ فان قلنا : ان الموضوع له هو المعنى الأعم من المتلبس بالحال وما انقضى عنه المبدء ، فلا محالة يصدق على زيد عنوان الضارب ، وان قلنا : ان الموضوع له هو خصوص المتلبس ، فلا يصدق على زيد عنوان الضارب ، فالعمدة هو تعيين الموضوع له وما هو المفهوم الافرادي ، فكيف صار النزاع في صحة الاطلاق والتطبيق ، مع أنه بعد لم يتضح الموضوع له.

هذا كله ، مضافا إلى أن جعل محل النزاع هو الاطلاق والانطباق ، انما يصح فيما إذا كان هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق كما في زيد الضارب وعمر و

ص: 95


1- هذا ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام ، ولكن ربما يختلج في البال ان الكذب لازم على كل حال ، سواء قلنا بالتوسعة في ناحية المفهوم ، أو قلنا بمقالة السكاكي : من الحقيقة الادعائية وان اطلاق الأسد على زيد لمكان ادعاء انه من افراد الحيوان المفترس. نعم لو قلنا بان المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له لعلاقة بين المعنيين من دون ان يكون هناك تصرف لا في ناحية المفهوم ولا في ناحية الفرد - كما هو المشهور في الألسن - لما كان يلزم كذب في الكلام أصلا ، فتأمل - منه.

الراكب ، وأما إذا لم يكن هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق ، كقولك : جئني بضارب ، أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك من العناوين الكلية التي تكون موضوعا للأحكام ، فلا اطلاق هناك ولا تطبيق وانطباق ، بل عنوان كلي وقع موضوعا لحكم ، فلابد ان يكون النزاع في هذا في نفس المفهوم الافرادي وحقيقة الضارب وأم الزوجة ، والمفروض ان عقد البحث في المشتق انما هو لمعرفة مفاهيم تلك العناوين ليصح موضوع الحكم.

والحاصل : ان التكلم في الاطلاق والتطبيق ، انما هو فيما إذا كان التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، كقولك زيد ضارب. وأما إذا لم يكن التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، سواء كان مذكورا فيه ضمنا ، كقولك : رأيت ضاربا حيث إن الرؤية لابد ان تتعلق بشخص ، أو لم يكن مذكورا فيه ولو ضمنا ، كما في العناوين المشتقة التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، كقوله علیه السلام مثلا يكره البول تحت الشجرة المثمرة أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك ، فلا محالة ان يكون التكلم فيه من حيث الحقيقة والمجاز وتعيين ما هو الموضوع له لتلك العناوين المشتقة. وثمرة النزاع انما تظهر في مثل هذا ، إذ غالب الفروع التي رتبها الاعلام على مسألة المشتق ، انما ترتب على العناوين الكلية التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، ومع هذا كيف يصح ان يقال : ان الكلام في المقام في الاطلاق والانطباق؟ ولو كان من عادتنا إساءة الأدب ، لأسئنا الأدب بالنسبة إلى من قال بهذه المقالة كما أساء الأدب بالنسبة إلى الاعلام. فتأمل في المقام جيدا ، حتى لا تعثر بمقالته.

( الامر السابع )

في شرح الحال في الاشتقاق ومبدء الاشتقاق.

اعلم : ان بناء المتقدمين كان على أن مبدء الاشتقاق هو المصدر ، وحكى عن المتأخرين ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر. والحق : انه لا هذا ولا ذلك ، وتوضيحه يتوقف على بيان المراد من المصدر واسم المصدر وما هو المايز بينهما ، وان كان قد تقدم منا في المعاني الحرفية شرح ذلك على وجه الاجمال ، ونزيده في المقام

ص: 96

وضوحا.

فنقول : انه لا اشكال في أن المقولة هي بنفسها من الماهيات الامكانية في قبال الماهية الجوهرية ، وفي عالم الهوية لا ربط لاحديهما بالأخرى ، ولكن ماهية العرض تحتاج في مقام التحقق إلى محل تقوم به ، لعدم امكان قيام الماهية العرضية بنفسها ، بل وجودها انما يكون بوجود الموضوع ، ومن هنا قالوا : ان وجود العرض لنفسه وفي نفسه عين وجوده لمحله وفي محله ، والمراد من عينية الوجود للمحل هو الاتحاد في الوجود خارجا ، بحيث لايكون هناك أمران منحازان في الخارج ، ولأجل ذلك صح لحاظ العرض بما هو هو ، وبما هو قائم بالمحل ومتحد وجوده مع وجوده. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ بشرط لا عما يتحد معه ، وأخرى : يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه : فان لوحظ بما هو هو وبشرط لا عما يتحد معه وبما انه شيء من الموجودات الامكانية ، يقال له العرض كالسواد والبياض ، وان لوحظ بما هو قائم بالمحل ولا بشرط عما يتحد معه في الوجود وبما انه وجود رابطي ، يقال له العرضي كالأبيض والأسود. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ أمرا مباينا غير محمول ، وأخرى : يلاحظ أمرا متحدا محمولا كقولك : زيد ابيض ، حيث إنه يصح ذلك ، ولا يصح قولك : زيد بياض.

ثم إن العرض ان لو حظ أمرا مباينا غير محمول ، فاما ان يلاحظ بما هو هو ، من دون لحاظ انتسابه إلى محله ، فهو المعبر عنه باسم المصدر ، حيث قيل في تعريفه : انه ما دل على نفس الحدث بلا نسبة. واما ان يلاحظ منتسبا إلى فاعله ، فتارة : يكون اللحاظ بنسبة ناقصة تقييدية ، وهو المعبر عنه بالمصدر كقولك : ضرب زيد ، وأخرى : بنسبة تامة خبرية ، وهو المعبر عنه بالفعل باقسامه الثلاثة : من الماضي والمضارع والامر ، فيشترك كل من المصدر والفعل في الدلالة على النسبة ، غايته ان هيئة المصدر تدل على النسبة الناقصة التقييدية على ما قيل ، وان كان لنا فيه كلام يأتي انشاء اللّه تعالى ، وهيئة الفعل تدل على النسبة التامة الخبرية ، فإذا كان معنى المصدر هو ذلك ، فلا يمكن ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بداهة انه يكون للمصدر ح هيئة تخصه ، ويكون بما له من المعنى مباينا لسائر المشتقات ، فكيف يكون هو مبدء

ص: 97

الاشتقاق؟ مع أنه يعتبر في مبدء الاشتقاق ان يكون معرى عن الهيئة حتى يمكن عروض الهيئات المشتقة عليها ، وما يكون له هيئة مخصوصة غير قابل لذلك ، إذ لا يعقل عروض الهيئة على الهيئة ، فالمصدر بما له من المادة والهيئة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق. وكذا الحال في اسم المصدر ، إذ اسم المصدر على ما عرفت ، هو عبارة عن نفس الحدث بشرط انتسابه إلى محله ، والغالب اتحاد هيئته مع هيئة المصدر من دون ان يكون له هيئة تخصه ، كما في الضرب والقتل ، وغير ذلك من المصادر التي يمكن ان يراد منها الاسم المصدر ، وقد يكون له هيئة تخصه ، كما في الغسل بالضم حيث إنه اسم المصدر والمصدر هو الغسل بالفتح. وعلى كل حال : اسم المصدر أيضا بما له من المعنى والهيئة يباين معاني سائر المشتقات وهيئاتها ، فلا يصح ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بل لابد ان يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن كل هيئة ( كالضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) ولا بأس بالتعبير عنه بالضرب من دون لحاظ وضع هيئة ودلالتها على النسبة ، بل تكون الهيئة لمجرد حفظ المادة ليسهل التعبير عنها.

وحاصل الكلام : انه لابد ان يكون مبدء الاشتقاق من حيث المعنى واللفظ لا بشرط ، ليكون قابلا لان يرد على لفظه كل هيئة مع انحفاظ معناه في جميع المعاني المشتقة ، ومعنى المصدر واسم المصدر ، انما يكون بشرط شيء كما في المصدر حيث يلاحظ فيه الانتساب ، أو بشرط لا كما في اسم المصدر حيث يلاحظ فيه عدم الانتساب ، فلا يصلحان لان يكونا مبدء الاشتقاق ، فتأمل في المقام جيدا هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ما قيل : من أن المصدر بهيئته يدل على الانتساب مما لا معنى له ، بداهة ان الانتساب انما يستفاد من إضافة المصدر إلى فاعله ، كما هو الغالب ، والى مفعوله نادرا كما في قولك : ضرب زيد عمروا حيث يكون زيد فاعلا ، أو ضرب زيد عمرو بالرفع حيث يكون عمرو فاعلا ، وعلى كل تقدير ليست هيئة المصدر موضوعة للدلالة على انتساب الحدث إلى فاعله بالنسبة الناقصة التقيدية ، كوضع هيئة الافعال للدلالة على النسبة التامة الخبرية ، بل النسبة انما تستفاد من

ص: 98

الإضافة أي إضافة المصدر إلى معموله ، بحيث لولا الإضافة لما كاد يستفاد نسبة أصلا ، بل المصدر بهيئته انما وضع للدلالة على ذات المنتسب ، لكن لا بشرط عدم لحاظ الانتساب ، كما في اسم المصدر ، بل في حال قابليته للانتساب.

وبعبارة أخرى : المصدر انما وضع للحدث في حال صدوره عن فاعله ، لا بما هو هو كما في اسم المصدر ، ولا بما هو منتسب كما في الافعال ، وبهذا يباين المصدر كل من الفعل واسم المصدر. فلا يتوهم انه إذا لم تكن هيئة المصدر موضوعة للدلالة على النسبة الناقصة التقييدية بل كان المصدر بهيئته موضوعا لنفس ذات الحدث المنتسب ، فاما ان يرتفع المايز بينه وبين اسم المصدر إذا لوحظ ذات المنتسب بشرط عدم الانتساب ، واما ان لا يلاحظ ذلك بل يكون لا بشرط من هذه الجهة فيكون هو المعنى المحفوظ في جميع الصيغ المشتقة ، ويلزمه ان يكون هو مبدء الاشتقاق.

وذلك : لان اسم المصدر موضوع لنفس الحدث الغير القابل للانتساب ، فمعناه ملحوظ بشرط لا ، والمصدر بمادته وهيئته موضوع للحدث القابل لورود الانتساب عليه ، فالتباين بين المصدر واسم المصدر أوضح من أن يخفى. وكذا عدم امكان كون المصدر مبدء الاشتقاق ، لان للمصدر هيئة تخصه ، وما كان له هيئة مخصوصة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق ، لاعتبار ان يكون مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة القابل لطرو الهيئات المختلفة عليه.

فتحصل : ان كلا من المصدر واسم المصدر والافعال والمفاعيل واسم الفاعل والصفة المشبهة وغير ذلك من المشتقات ، انما يشتق من مبدء واحد محفوظ في جميع هذه الصيغ ، وهو في حدث الضرب يكون ( الضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) وفي حدث القتل يكون ( القاف ) و ( التاء ) و ( اللام ) وهكذا الحال في سائر الاحداث والاعراض.

هذا كله في الاشتقاق اللفظي ، وقد عرفت ان جميع الصيغ تشتق في عرض واحد من مبدء واحد ، وليست الصيغ المشتقة مترتبة في الاشتقاق لفظا ، أو تكون بعض الصيغ مشتقة من بعض آخر ، بل الكل يشتق من امر واحد.

واما المعاني التي تكفلتها الصيغ المشتقة ، فلا اشكال في أن بينها ترتبا ،

ص: 99

بحيث يكون بعض المعاني متولدا من بعض آخر. وتفصيل ذلك هو انه لا اشكال في أن معنى الاسم المصدري متولد عن المعنى المصدري ، ومن هنا قيل في تعريف اسم المصدر : بأنه ما حصل من المصدر. والسر في ذلك : هو ان اسم المصدر عبارة عن نفس الحدث والعرض كما تقدم ، ومن المعلوم : ان تحقق العرض انما هو لمكان انتسابه إلى محله ، إذ لا وجود له مع قطع النظر عن الانتساب ، فلا بد ان يحصل الغسل ( بالفتح ) من الشخص حتى يتحقق الغسل ( بالضم ) وذلك واضح.

واما المصدر فقد اختلف في تقدم معناه على معنى الفعل الماضي أو تأخره ، وقد نسب إلى الكوفيين تأخره وان معناه اشتق من معنى الفعل الماضي ، وذلك لان الفعل الماضي انما هو متكفل لبيان النسبة التحققية أي كون العرض متحققا في الخارج مع انتسابه إلى فاعله بنسبة تامة خبرية ، فالماضي انما يدل على تحقق الحدث من فاعله وليس مفاده أزيد من ذلك وما اشتهر من أنه يدل على الزمان الماضي فهو اشتباه ، بل إن فعل الماضي بمادته وهيئته لا يدل الا على تحقق الحدث من فاعله ، نعم لازم الاخبار بتحققه عقلا هو سبق التحقق على الاخبار آنا ما قبل الاخبار والا لم يكن اخبارا بالتحقق ، وأين هذا من أن يكون الزمان الماضي جزء مدلول الفعل الماضي ، وكيف يعقل ذلك؟ مع أن هيئة الفعل الماضي انما وضعت للدلالة على النسبة التحققية ، وهي معنى حرفي ، ولذا كان الفعل الماضي مبنيا الذي هو لازم المعنى الحرفي ، والزمان انما يكون معنى اسميا استقلاليا ، فلا يعقل ان يكون مفاد الحرف معنى اسميا.

والحاصل : ان دلالة الفعل الماضي على الزمان ، اما ان يكون بمادته ، واما ان يكون بهيئته. اما المادة فهي مشتركة بين الافعال والأسماء المشتقة ، فليس فيها دلالة على الزمان والا كانت الأسماء المشتقة أيضا لها دلالة على الزمان ، وهو ضروري البطلان. واما الهيئة : فليس مفادها الا انتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية ، وذلك معنى حرفي لا يمكن ان يدل على الزمان الذي هو معنى اسمى ، فإذا كان مفاد الفعل الماضي هو تحقق العرض منتسبا إلى محله ، فهذا أول نسبة يتحقق بين العرض والمحل ، لأنه واقع في رتبة الصدور والتحقق ، وقبل ذلك لا تكون الا

ص: 100

الماهية الامكانية المباينة لماهية المحل ، فانتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية التي تكون تامة خبرية يكون أول النسب ، ثم بعد ذلك تحصل النسبة الناقصة التقييدية التي تكون مفاد المصدر بالبيان المتقدم بداهة انه بعد تحقق الضرب من زيد وصدوره عنه يضاف الضرب إلى زيد ، ويقال : ضرب زيد كذا من الشدة والضعف ، فإضافة العرض إلى الذات بالإضافة التقييدية التي تكون مفاد المصدر ، تكون متأخرة عن إضافة العرض إلى الذات بالإضافة الفاعلية التحققية ، التي تتكفلها هيئة الفعل الماضي.

ومن هنا قيل : ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار ، كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف ، إذ معنى ذلك هو ان توصيف الذات بالشيء كزيد العالم مثلا يكون متأخرا عن العلم بتحقق الوصف منه الذي يخبر به ، كقولك : زيد عالم ، فبعد الاخبار بعالمية زيد يتصف زيد بالعالمية عند المخاطب الجاهل واقعا أو المفروض جهالته في مقام الاخبار ، فتنقلب النسبة التامة الخبرية من قولك زيد عالم إلى النسبة الناقصة التقييدية من قولك : زيد العالم. هذا في الجمل الاسمية ، وقس على ذلك الجمل الفعلية بعد اخبارك بضرب زيد بقولك : ضرب زيد ، تنقلب النسبة التامة الخبرية إلى النسبة الناقصة التقييدية ، ويقال : ضرب زيد مثلا شديد. فهذا معنى ما نسب إلى الكوفيين ، من اشتقاق المصدر من الفعل الماضي ، فان مرادهم من الاشتقاق هو ترتب معناه على معناه ، لا انه مشتق منه لفظا ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، لم يرتض هذه المقالة ، وقال : يتأخر رتبة معنى الفعل الماضي عن معنى المصدر ، والتزم بان ما اشتهر : من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف ، مقصور على الجمل الاسمية. والسر في ذلك : هو ان المصدر - على ما تقدم - عبارة عن الحدث القابل للانتساب ، ولم يؤخذ فيه انتساب فعلى ، ومن المعلوم : ان الحدث القابل للانتساب هو الذي يصدر من الفاعل ، فالنسبة التحققية التي تكفلها هيئة الماضي متأخرة بالرتبة عن معنى المصدر فتأمل.

وعلى كل حال : فان وقع الاختلاف في اشتقاق المصدر عن الفعل

ص: 101

الماضي أو اشتقاق الفعل الماضي عن المصدر ، فلم يقع خلاف بينهم في اشتقاق الفعل المضارع عن الفعل الماضي بمعنى تأخر رتبته على رتبة الفعل الماضي ، وذلك لما عرفت : من أن الفعل الماضي بهيئته يدل على النسبة التحققية التي هي أول نسبة يمكن ان تفرض بين العرض ومحله ، وهذا بخلاف الفعل المضارع فإنه يدل على انتساب الذات إلى العرض واتصافها به كقولك : يضرب زيد ، فان مفاده تكيف زيد بالضرب وتلونه واتصافه به ، ومن المعلوم : ان هذا متأخر رتبة عن تحقق العرض منتسبا إلى فاعله ، إذ بعد التحقق تتكيف الذات بتلك الكيفية وتوصف به.

والحاصل : انه في الفعل الماضي يلاحظ العرض منتسبا إلى فاعله بالنسبة التحققية فيقال : ضرب زيد ، وفي الفعل المضارع يلاحظ الذات متصفة بالعرض فيقال : يضرب زيد ، ومن المعلوم : ان رتبة اتصاف الذات بالعرض متأخرة عن رتبة تحقق العرض عن الذات ، إذ بعد التحقق وصدور العرض من الذات يتصف به الذات ، فمعنى المضارع انما يتولد من الفعل الماضي ، فهذه هي النسبة الثانية للعرض ، والنسبة الأولى هي النسبة التحققية.

ثم إن ما اشتهر : من أن المضارع يكون بمعنى الحال والاستقبال أيضا من الاشتباهات ، فان الظاهر من اطلاق الفعل المضارع من قولك : يضرب أو يقول وغير ذلك هو التلبس الحالي ، وصرفه إلى الاستقبال يحتاج إلى قرينة من ادخال السين وسوف ، والا فظهوره الأولى هو التلبس بالحال ، كما هو الظاهر من قوله تعالى : ويقول الذين كفروا الخ ، فان الظاهر منه هو ان حال نزول الآية كان ما تكفلته الآية مقولا لقول الكفار ، لا انهم بعد ذلك يقولون ويصدر منهم ذلك القول. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك تأخر رتبة المضارع عن الماضي.

ثم إن رتبة اسم الفاعل متأخرة عن رتبة المضارع ، لان مفاد اسم الفاعل انما يكون عنوانا متولدا من قيام العرض بمحله واتصافه به ، فان مفاده هو الاتحاد في الوجود ، وعينية وجود العرض لمحله ، وهذا المعنى كما ترى متأخر بالرتبة عن تحقق العرض من فاعله الذي هو مفاد الفعل الماضي ، وعن اتصاف الذات بالعرض الذي هو مفاد الفعل المضارع ، فمفاد اسم الفاعل انما يتولد من مفاد الفعل المضارع. ومن

ص: 102

هنا قيل : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، لان المضارع مبدئه القريب ، بخلاف الماضي فإنه يكون مبدئه البعيد ، فنسبة اسم الفاعل واقعة في المرتبة الثالثة من النسب.

ثم بعد ذلك ، تصل النوبة إلى نسبة ملابسات الفعل من المفاعيل ، من حيث وقوع الضرب من زيد في زمان خاص ، أو مكان مخصوص ، فيقال : زيد ضارب في المسجد ، أو في الليل وأمثال ذلك ، فنسبة ملابسات الفعل تكون في المرتبة الرابعة من النسب.

( الامر الثامن )

في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه ، وهو من أشكل الأمور المبحوث عنها في المشتق ، وقبل بيان المختار لابد من تقديم أمور :

الأول : الظ ان هناك ملازمة ، بين القول بدلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة التقييدية ، والقول بأخذ الذات في مفهومه ، إذ المراد من النسبة الناقصة نسبة المبدء إلى الذات ، فلابد من دلالته على الذات التي هي طرف النسبة ، كدلالته على المبدء الذي هو الطرف الآخر لها ، فلا يجتمع القول بخروج الذات عن مفهوم المشتق مع القول بدلالته على النسبة الناقصة التقييدية (1) فتأمل.

الثاني : المراد من التركيب المتنازع فيه في المقام ، هو التركيب بحسب التحليل العقلي في عالم الادراك واخذ المفهوم ، بحيث يكون المدرك العقلاني من ضارب ، هو من جملة الذات التي ثبت لها الضرب على وجه يكون مدلول اللفظ هو هذه الجملة المركبة من الذات والمبدء وثبوته لها ، ويقابله البساطة ، فإنه معنى البساطة هو خروج الذات عن مدلوله ، بحيث يكون المدرك العقلاني من ضارب مثلا أمرا واحدا ومعنى فاردا ليست الذات داخلة فيه.

والحاصل : ان للقائم مثلا وجودا خارجيا ، ووجودا عقلانيا ، اما الوجود .

ص: 103


1- يمكن ان يقال : بأنه موضوع لنفس النسبة مع خروج المنتسبين عن المدلول ، كخروج الفاعل عن مدلول الفعل ، مع أنه وضع للنسبة التحققية في الماضي - منه.

الخارجي : فهو عبارة عن الهيئة الخاصة والشكل المخصوص القائم بالهواء. واما الوجود العقلاني المدرك من اطلاق القائم فهو المتنازع فيه من حيث اخذ الذات فيه ، فمن يقول بالتركيب ، يقول : ان المدرك العقلاني والمفهوم من قائم ، هو الذات التي ثبت لها تلك الهيئة الخاصة والقائم بها ذلك المبدء. ومن يقول بالبساطة يقول : بخروج الذات عن المفهوم ، وانما المفهوم من قائم هو عنوان الذات يتولد من قيام المبدء بها ، من دون ان يكون الذات جزء المفهوم والمدرك حتى عند التحليل العقلي ، إذ التركيب ولو تحليلا ينافي البساطة.

فما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتركيب عند التحليل العقلي مع الالتزام بالبساطة (1) مما لا وجه له.

ثم إن اخذ الذات في مفهوم المشتق يتصور على وجهين :

الأول : ان يكون الذات المبهمة الكلية مأخوذة فيه بمعنى اخذ ذات ما فيه.

الثاني : اخذ الذوات الشخصية في مفهومه من باب الوضع العام والموضوع له الخاص ، وسيأتي ما في كلا الوجهين انشاء اللّه تعالى.

الثالث :

حكى عن الشيخ قده ، انه قاس المشتق بالجوامد من حيث عدم اخذ الذات فيه ، وقال : كما أن الذات لم تؤخذ في مفهوم الجوامد ، وليس معنى الحجر هو ذات ثبت له الحجرية ، بل هو معنى بسيط ، فكذلك المشتق لم تكن الذات مأخوذة فيه. وقد تعجب من هذا القياس بعض وقال في وجه التعجب : ان الذات لا محالة مأخوذة في مفهوم الجوامد ، إذ الحجر مثلا من أسماء الذوات ، فلا يعقل خروج الذات عنه ، فلا مجال لقياس المشتقات بالجوامد. ثم أشكل على ما افاده الشيخ قده بقوله : أولا ، وثانيا ، وثالثا ، ورابعا ، وخامسا ، كما لا يخفى على المراجع هذا. .

ص: 104


1- هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن حكى انه يظهر من كلمات القوم : ان القائلين بالبساطة مختلفون ، فمنهم من يقول ببساطة المفهوم وان كان عند التحليل العقلي مركبا ، ومنهم من يقول بالبساطة حتى عند التحليل ، فراجع - منه.

ولكن الظ ان القياس في محله ، وذلك : لان الحجر وان كان من أسماء الذات ، الا ان منشأ توهم دخول الذات في المشتق هو بعينه موجود في الجوامد ، ويلزمه القول بتركيب الجوامد مع بداهة بساطتها ، إذ لا منشأ لتوهم تركب المشتق من المبدء والذات ، سوى ان المبدء في المشتق انما يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه من الذات الذي بهذا اللحاظ يكون عرضيا ويصح حمله على الذات ، على ما سيأتي من معنى اللابشرطية في المقام ، بخلاف ما إذا لوحظ بشرط لا ، فإنه يكون عرضا غير محمول. وهذا اللحاظ أي لحاظ اللابشرطية بعينه موجود فيما يتحصل منها الأنواع ، كالانسان ، والشجر ، والحجر ، وغير ذلك ، فان المادة أو الصورة ان لوحظت بشرط لا ، يكون كل منها مباينا للاخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ولا حملهما على ثالث ، بل تكون المادة ح صرف القوة مباينة للصورة التي هي فعلية صرفة. وان لوحظت لا بشرط يصح حمل أحدهما على الآخر وحملهما على ثالث ، ويعبر عن أحدهما حينئذ بالجنس والاخر بالفصل ، فان الجنس هو المادة وانما الفرق بينهما بالاعتبار ، حيث إن المادة تعتبر بشرط لا ، والجنس يعتبر لا بشرط ، وكذا الحال في الصورة والفصل. وحينئذ ان كان لحاظ مبدء الاشتقاق في المشتقات لا بشرط موجبا لدخول الذات فيه ، فليكن لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه من الفصل موجبا لدخول الفصل في الجنس ، وكذلك دخول الجنس في الفصل ، إذ الفصل أيضا يلاحظ لا بشرط عن الجنس ، فيلزم دخول الجنس في الفصل ، والفصل في الجنس ، ودخولهما في النوع ، ودخول النوع في كل منهما ، فان حمل الحيوان على الانسان في قولك : الانسان حيوان انما يكون بعد لحاظ الحيوان لا بشرط عن اتحاده مع الانسان ، والا بان لوحظ بشرط لايكون ح صرف المادة ، ولا يصح حمله على الانسان ، فلو كان لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه موجبا لدخول ذلك المتحد مع الشيء في الذات لكان يلزم دخول الانسان في الحيوان عند حمله عليه ، فان ما يكون حيوانا هو الانسان ، وما يكون انسانا هو الحيوان ، وكذلك في الفصل. وهذا معنى ما قلنا : من أنه يلزم دخول كل من الجنس والفصل والنوع في مفهوم الاخر ، مع أن ذلك بديهي البطلان.

ص: 105

فيعلم من ذلك : ان لحاظ المبدء لا بشرط عما يتحد معه من الذات في المشتقات غير مستلزم لدخول الذات فيه ، والا لاستلزم في الجوامد دخول كل من الجنس والفصل والنوع في الاخر ، فيكون معنى الحجر حينئذ شيء ثبت له الحجرية إذا الفصل في الحجر انما يكون فصلا له بعد لحاظه لا بشرط عما يتحد معه من الجسمية فتكون الجسمية داخلة في مفهوم الحجر ، وهكذا الكلام في سائر الأنواع والأجناس والفصول ، عاليها وسافلها (1).

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه يدل على المختار من بساطة المشتق وجوه :

الأول :

ان المشتق على ما عرفت مرارا انما ينتزع من لحاظ المبدء لا بشرط ، فلو كانت الذات مأخوذة في مفهومه وجزء لمدلوله لخرج عن كونه لا بشرط إلى بشرط شيء ، وهذا خلف ، إذ الفرق بين المشتق ومبدئه ليس الا باللابشرطية والبشرط اللائية ، واعتبار الذات يلازم البشرط الشيئية ، وهو خلاف ما اتفقوا عليه.

الثاني :

ان الألفاظ موضوعة بإزاء المفاهيم بما أنها مرآة الحقايق ، لا بما هي هي حتى يمتنع صدق ما وضع له الألفاظ على الخارجيات ، والمفهوم عبارة عن المدرك العقلاني ، وهو في غاية البساطة ليس فيه شائبة التركيب ، فلا يمكن ان يكون مفهوم المشتق مركبا من الذات والمبدء.

الثالث :

انه يلزم تكرار الموصوف في مثل قولك : ذات باردة لأنه لو كان معنى .

ص: 106


1- وينبغي مراجعة كلام المستشكل فان ظاهر كلامه ان اشكاله مقصور بدعوى خروج الذات عن الجوامد ، كما هو الظاهر من الكلام المحكى عن الشيخ قدس سره وظني ان استلزام دخول الجنس في الفصل وبالعكس لا يرفع اشكال المستشكل ، فتأمل - منه.

الباردة ذات ثبت لها البرودة لزم تكرار الذات في القضية ، مع شهادة الوجدان بخلافه ، بل يلزم التكرار في كل قضية كان المحمول فيها من العناوين المشتقة إذا كان المراد من اخذ الذات اخذ مصداق الذات ، أي الذوات الشخصية ، لا مفهوم الذات ، فان في قولك : زيد كاتب ، يكون شخص زيد مأخوذا في مفهوم الكاتب ، فيكون مفاد القضية زيد زيد ثبت له الكتابة ، فيلزم تكرار الموصوف في كل قضية ، وانسباقه إلى الذهن مرتين وهو كما ترى ، بل يلزم ان يدخل المشتق في متكثر المعنى ، بناء على اخذ الذوات الشخصية في مفهومه ، ويكون من باب الوضع العام والموضوع له الخاص ، مع أن هيئة فاعل موضوعة بوضع نوعي لكلي المتلبس بالمبدء على نحو عموم الموضوع له.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض في هذا المقام ، حيث أساء الأدب إلى أستاذ الأساتيذ السيد الجليل الميرزا الشيرازي قده ، عند ما أورد اشكال لزوم كون المشتق من متكثر المعنى ، بناء على اخذ الذوات الشخصية في مفهومه ، وقال : ان الاشكال بذلك انما هو لأجل عدم تعقل المعاني الحرفية ، ثم أطال الكلام في أن هيئة المشتق كهيئات الافعال انما هي موضوعة للمعاني الحرفية النسبية بالوضع العام والموضوع له العام ، غايته ان هيئات الافعال موضوعة للنسبة التامة الخبرية ، وهيئة المشتق موضوعة للنسبة الناقصة التقييدية. وأنت خبير بما في هذا الكلام من الخلط والاشتباه في قياس هيئة المشتق على هيئة الافعال ، وحسبان ان الهيئة مط موضوعة للمعنى الحرفي النسبي ، مع وضوح بطلان القياس.

وذلك : لأنه لا يعقل ان يكون مفاد الهيئة في المشتق معنى حرفيا ، بان تكون موضوعة للنسبة الناقصة التقييدية ، بداهة ان النسبة الناقصة التقييدية انما تكون نتيجة النسبة التامة الخبرية ، ومتأخرة عنها بالذات ، ولذا قالوا : ان الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فالنسبة الناقصة التقيدية دائما انما تحصل من النسبة التامة الخبرية وتكون من نتايجها ، وحينئذ نسئل عن النسبة التامة الخبرية التي تكون النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب نتيجة لها ، مع أنه لم يكن هناك نسبة تامة خبرية قبل حمل الضارب على زيد في قولك : زيد ضارب ، إذ هذا القول هو الذي

ص: 107

يتضمن النسبة التامة ، وتنقلب هذه النسبة التامة بعد الاخبار بها إلى النسبة الناقصة التقييدية. واما قبل الحمل والاخبار فليس هناك نسبة تامة خبرية حتى تكون نتيجتها النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب.

والحاصل : انه يلزم القول بدلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة التقييدية ، القول بان في مثل حمل الضارب على زيد في قولك : زيد ضارب يتضمن (1) نسبا أربع : نسبتين تامتين ، ونسبتين ناقصتين.

اما التامتان : فإحديهما نسبة الضارب إلى زيد التي تكفلها نفس الكلام ، وثانيهما النسبة التامة التي تكون نتيجتها النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب ، لما عرفت : من أن كل نسبة ناقصة تقييدية فهي من نتايج النسبة التامة ، فيلزم القول بدلالة الهيئة على النسبة الناقصة القول بوجود نسبة تامة أخرى ، غير نسبة الضارب إلى زيد في قولك : زيد ضارب ، حتى تكون نتيجة تلك النسبة التامة هي النسبة الناقصة المدعى دلالة الهيئة عليها.

واما الناقصتان : فإحديهما هي النسبة الناقصة التقييدية ، الموضوع لها هيئة ضارب كما هو المدعى ، وثانيهما النسبة الناقصة التقييدية التي تكون نتيجة حمل الضارب على زيد ، حيث إن الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فلابد ان تحصل هناك نسبة ناقصة أخرى بعد الاخبار بضاربية زيد ، فيتحصل من قولك زيد ضارب نسب أربع ، وهو كما ترى يكذبه الوجدان. مع أنه يلزم ان تكون النسبة الناقصة التقييدية في عرض النسبة التامة الخبرية ، إذ قولك : زيد ضارب ، متكفل لنسبة تامة خبرية ، ومتكفل لنسبة ناقصة تقييدية الموضوع لها هيئة ضارب ، والحال انه لا يعقل ان تكون النسبة الناقصة في عرض النسبة التامة ، لما عرفت من أن النسبة الناقصة تكون في طول النسبة التامة ومن نتايجها ، فكيف يعقل ان تكون في عرضها؟.

وبالجملة : دعوى ان هيئة ضارب موضوعة بوضع حرفي للنسبة الناقصة .

ص: 108


1- مرادنا من التضمن الأعم من المطابقة والالتزام ، فلا تغفل وتتخيل خلاف المراد - منه.

التقييدية ، (1) مما لا ترجع إلى محصل ، إذ يلزم عليه مضافا إلى ما ذكرنا ، ان يكون المشتق لازم البنا ، ولا يمكن ان يكون معربا يقع مسندا ومسندا إليه ، لان المعنى الحرفي يلازم البنا ، فكيف صار معربا يقع مبتداء وخبرا في الكلام؟ (2) فلا محيص من القول بان هيئة المشتق موضوعة بوضع استقلالي اسمى للعنوان المتولد من قيام العرض بمحله. فظهر صحة ما حكى عن سيدنا الميرزا قده : من أنه لو كانت الذوات الشخصية مأخوذة في مفهوم المشتق يلزم ان يكون من متكثر المعنى مع أنه ليس كذلك فإذا لا يمكن ان تكون الذوات الشخصية مأخوذة في مفهومه ، كما لا يمكن ان تكون الذات الكلية مأخوذة فيه لما تقدم من المحاذير ، مضافا إلى أنه يلزم دخول الجنس في مفهوم الفصل وبالعكس على ما عرفت ، فلا محيص ح عن القول ببساطة المشتق.

بقى في المقام : ما افاده السيد الشريف في حاشيته على شرح المطالع ، من الاستدلال على بساطة المشتق عند تعريف صاحب المطالع النظر بأنه « ترتيب أمور حاصلة في الذهن ، يتوصل بها إلى تحصيل غير الحاصل » حيث قال الشارح : « وانما قال أمور ، لان الترتيب لا يتصور في امر واحد والمراد منها ما فوق الواحد » ثم قال الشارح : « والاشكال الذي استصعبه قوم ، بأنه لا يشتمل تعريف النظر التعريف بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها حتى غيروا التعريف إلى ترتيب امر أو أمور فليس من تلك الصعوبة في شيء ، وذلك لان التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات ، والمشتق وان كان في اللفظ مفردا ، الا ان معناه شيء له المشتق منه ، فيكون من حيث المعنى مركبا (3) و

ص: 109


1- ولا ينافي ذلك ما تقدم منا : من أن المشتق واقع في المرتبة الثالثة من النسب ، لان مرادنا من ذلك : هو ان معنى المشتق متأخرة في الرتبة عن الماضي والمضارع ، لا انه يدل على النسبة حقيقة ، فتأمل - منه.
2- ولكن لا اشكال في أن هيئة المضارع تدل على النسبة التامة مع أنه قد يعرض عليه الاعراب ، فدلالته على النسبة لا يلزم البناء - منه.
3- ولا يخفى ان المحقق المقرر قدس سره نقل عبارة شارح المطالع مع تصرفات موضحة لمعنى المقصود منها. واليك نص عبارته : « وانما قال أمور لان الترتيب لا يتصور في امر واحد ، والمراد بها ما فوق الواحد سواء كانت متكثرة أولا ، و هي أعم من الأمور التصورية و التصديقيّة، و قيّدها بالحاصلة لامتناع الترتيب فيها بدون كونها حاصلة و يندرج فيها مواد جميع الأقيسة» إلى ان قال: «و الإشكال الّذي استصعبه قوم بأنه لا يتناول التعريف بالفصل وحده و لا بالخاصّة و حدها، مع انه يصح التعريف بأحدهما على رأي المتأخرين حتى غيّروا التعريف إلى تحصيل امر أو ترتيب أمور فليس من تلك الصعوبة في شي ء، اما أولا، فلأنّ التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات كالناطق و الضاحك و المشتق و ان كان في اللفظ مفردا إلّا ان معناه شي ء له المشتق منه فيكون من حيث المعنى مركّبا. (انتهى موضع الحاجة من كلامه).

فاورد عليه السيد الشريف في حاشيته على هذا الجواب : بان مفهوم الشيء لا يعتبر في معنى الناطق ، والا لكان العرض العام داخلا في الفصل ، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشيء انقلب مادة الامكان الخاص ضرورية ، فان الشيء الذي له الضحك هو الانسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. (1) انتهى ما حكى عن المطالع وشرحها والمحشى.

وحاصل ما افاده المحشى في وجه بساطة المشتق : هو انه ان اخذ مفهوم الشيء في مفهوم الفصل يلزم ان يدخل العرض العام في الفصل ، فان الناطق الذي هو الفصل يكون معناه شيء ثبت له النطق ، والشيء امر عرضي والنطق ذاتي ولا يعقل دخول العرضي في الذاتي ، وان اخذ مصداق الشيء يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى القضية الضرورية ، فان المصداق الذي يثبت له الضحك في قولك : الانسان ضاحك ليس هو الا الانسان ، فيرجع الامر في القضية الحملية إلى ثبوت الانسان للانسان ، ومن المعلوم : ان ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فتنقلب القضية من الامكان إلى الضرورة.

ثم انه أورد على كل من شقي الترديد اللذين ذكرهما المحشى. فما أورد على الشق الأول ( وهو ما إذا كان المأخوذ في المشتق مفهوم الشيء يلزم دخول العرض العام في الفصل ) ما ذكره صاحب الفصول : (2) من أن الناطق انما يكون فصلا في

ص: 110


1- حاشية مير سيد شريف هامش ص 8 من شرح المطالع.
2- الفصول ص 62. تنبيهات المشتق. « ويدفع الاشكال بان كون الناطق مثلا فصلا مبنى على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب ان يكون وضعه لغة كذلك ».

عرف المنطقيين ، والذي جعله المنطقيون فصلا ليس هو تمام ما وضع له لفظ الناطق ، بل الذي جعل فصلا هو المعنى المجرد عن مفهوم الشيء ، فيكون الفصل أحد جزئي المدلول فلا يلزم دخول العرض في الفصل بعد هذا التجريد هذا.

وقد أورد على الفصول المحقق صاحب الكفاية (1) بما حاصله : انه من المقطوع ان المنطقيين لم يتصرفوا في مفهوم الناطق ، بل جعلوا الناطق فصلا بماله من المعنى من دون تجريد. ومما أورد على المحشى أيضا ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (2) وحاصله : ان الناطق ليس بفصل حقيقي ، بل انما هو من لوازم الفصل وخواصه ، ويكون بالنسبة إلى الانسان من الاعراض الخاصة وليس هو من الذاتي له ، فلا يلزم من اخذ مفهوم الشيء في مفهوم الناطق الا دخول العرض العام في العرض الخاص ، وهو ليس بمحذور هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان هذا الايراد مبنى على جعل الناطق بمعنى المدرك للكليات فان ادراك الكليات يكون من خواص الانسان وعوارضه ، واما لو كان الناطق عبارة عما يكون له النفس الناطقة ، التي بها يكون الانسان انسانا ، فهو فصل حقيقي للانسان وليس من العوارض.

ومما أورد على المحشى أيضا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله.

وحاصل ما ذكره : هو ان جعل الشيء من العرض العام مما لا يستقيم ، إذ الضابط في العرض العام ، والمايز بينه وبين الخاصة ، هو انه إذا كان الشيء أمرا خارجا عن حقيقة الذات وكان يلحق الذات لجنسها - كالمتحرك بالإرادة والحساس اللاحق للانسان لمكان كونه حيوانا - فهو يكون من العرض العام ، كما أن ما يلحق الذات باعتبار فصلها يكون من العرض الخاص ، كالضحك والتعجب اللاحقين للانسان بواسطة كونه ناطقا ، فيعتبر في العرض العام ان يكون أمرا خارجا »

ص: 111


1- الكفاية - المجلد الأول ص 78 « وفيه : ان من المقطوع ان مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا ، بل بما له من المعنى كما لا يخفى.
2- المدرك السابق ص 78 قوله : « والتحقيق ان يقال ان مثل الناطق ليس بفصل حقيقي .. »

عن الحقيقة والهوية ، ويكون مما يلحق الجنس ويعرض له ، سواء كان مما يعرض الجنس القريب كالمتحرك بالإرادة العارض للحيوان ، أو الجنس البعيد كالنامي العارض للجسم. وحينئذ لو كان مفهوم الشيء من العرض العام لكان اللازم ان يكون من اللواحق والعوارض الجنسية ، ونحن لا نتعقل ان يكون هناك جنس يكون الشيء من عوارضه ، إذ ليس فوق مفهوم الشيء امر يكون الشيء عارضا عليه ، بل الشيء هو فوق كل موجود في العالم ، بحيث يصدق على جميع الموجودات من الماديات والمجردات والجواهر والاعراض - انه شيء ، فكيف يمكن ان يكون الشيء من العوارض الجنسية؟ وأي جنس يكون فوق الشيء؟ حتى يكون الشيء عارضا له ، فلابد ان يكون الشيء هو بنفسه جنسا عاليا لجميع الموجودات الامكانية من الماديات وغيرها.

واما توهم انه لا يمكن ان يكون الشيء جنسا للموجودات ، لاطلاق الشيء على الباري تعالى ، مع أنه لا جنس له لاستلزامه التركيب.

فلا يخفى فساده ، فإنه تعالى شيء الا انه لا كالأشياء ، كما ورد ذلك في خطبته علیه السلام (1) فليس اطلاق الشيء عليه كاطلاقه على سائر الأشياء حتى يلزم التركيب في ذاته تعالى.

فان قلت : ان الشيئية انما تكون من الأمور الانتزاعية الخارجة المحمول ، فلا يمكن ان تكون جنسا عاليا ، لان الجنس لابد ان يكون ذاتيا للشيء ، فلا يمكن ان .

ص: 112


1- لم نجد في خطب نهج البلاغة ما ورد بهذا المضمون. نعم ورد هذا المضمون في بعض الروايات كقوله (عليه السلام) : هو شيء بخلاف الأشياء في خبر هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). وقوله (عليه السلام) انه شيء لا كالأشياء في خبر محمد بن عيسى بن عبيد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام). ولكن الأول مجهول بعباس بن عمرو الفقيمي والثاني مرسل. وفى المقام روايات أخرى يستفاد منها صحة اطلاق القول بأنه تعالى شيء ، راجع أصول الكافي الجزء 1 ، كتاب التوحيد ، باب اطلاق القول بأنه شيء ص 109. توحيد الصدوق. باب في أنه تبارك وتعالى شيء ص 62. بحار الأنوار الجزء 3 ، باب 9 من كتاب التوحيد ص 257.

يكون ما هو خارج المحمول وما يكون انتزاعيا محضا جنسا للأنواع المندرجة تحته.

قلت : ان الشيئية وان كانت من الأمور الانتزاعية ، الا انها لما كانت تنتزع من مقام الذات فهي ملحقة بالذاتي ، كما أن ما يكون منتزعا من غير مقام الذات ملحق بالعرض كالتقدم والتأخر ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، فكون الشيئية من الأمور الانتزاعية لا يضر بدعوى كون الشيء جنسا للأجناس ، فان الشيئية انما تنتزع من الماهيات عند وجودها ، ولذا كان شيئية الشيء مساوقة لوجوده ، لان الماهية عند وجودها تكون شيئا فتأمل.

فتحصل : ان دعوى كون الشيء من العرض العام مما لا نتعقله ، فلوا بدل المحشى اشكال دخول العرض العام في الفصل باشكال دخول الجنس في الفصل كان أولى. فتأمل في المقام جيدا ، فان ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام مما لا يخلوا عن اشكال. (1) هذا تمام الكلام في الشق الأول الذي ذكره المحشى.

واما الشق الثاني : وهو ما إذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق ، حيث قال : يلزم انقلاب الامكان إلى الضرورة.

فقد أورد (2) عليه صاحب الفصول بما حاصله : ان اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق لا يلازم الانقلاب ، فان عقد الحمل قد قيد بقيد تكون القضية باعتبار ذلك القيد ممكنة. مثلا في قولنا : الانسان ضاحك ، قد قيد الانسان الذي تضمنه الضاحك بقيد الضحك ، فيكون المحمول المجموع من القيد والمقيد ، وثبوت الانسان .

ص: 113


1- وظني ان مرادهم من العرض العام في المقام غير العرض العام الذي اصطلح عليه المنطقيون الذي يجعلونه مقابل العرض الخاص وهو ما كان يعرض الشيء لجنسه ، بل المراد من العرض العام في المقام هو المعقول الثانوي الذي ينتزعه العقل كالامكان والوجوب وغير ذلك ، وما ذكره شيخنا الأستاذ من جعل ( الشيء ) جنس الأجناس مما لا يمكن المساعدة عليه ، إذ يلزم ان يكون بين الجوهر والعرض جنسا ذاتيا ، ويلزم تركب العرض ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل - منه.
2- الفصول ص 62 تنبيهات المشتق التنبيه الأول ، « ويمكن ان يختار الوجه الثاني أيضا ويجاب بان المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا ، بل مقيدا بالوصف ، وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة ، لجواز ان لايكون ثبوت القيد ضروريا.

المقيد بالضحك لمطلق الانسان الذي اخذ موضوعا في القضية ليس ضروريا باعتبار قيد الضحك وان كان ثبوت الانسان المجرد عن القيد للانسان ضروريا لان ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فالقضية باعتبار القيد لا تخرج عن كونها ممكنة ، لان النتيجة تتبع أخس المقدمات.

ثم تنظر هو قده (1) في الايراد بما حاصله : ان القيد ان كان ثابتا للمقيد واقعا صدق الايجاب بالضرورة ، وان لم يكن ثابتا له صدق السلب بالضرورة هذا ، ولكن لا يخفى ما في كل من الايراد والجواب من النظر.

اما في الايراد فتوضيحه : ان الجزئي بما هو جزئي غير قابل للتقييد ، لان التقييد انما يرد على الماهيات الكلية القابلة للتنويع بالقيود ، واما الأمور الجزئية فهي غير قابلة للتنويع ، فلا يمكن ان تقيد بقيد. نعم الأمور الجزئية قابلة للتوصيف ، حيث إن الجزئي يمكن ان يكون موصوفا بوصف في حال وبوصف اخر في حال آخر كما يقال : زيد راكب في اليوم وجالس في الغد ، واما اخذ الركوب قيدا لزيد على وجه يكون متكثرا للموضوع واقعا فهو غير معقول. ومن هنا قالوا : انه لو قال : بعتك هذا الكاتب يكون المبيع هو الشخص المشار إليه كاتبا كان أو لم يكن ، غايته انه عند تخلف الوصف يكون للمشتري الخيار ، بخلاف ما إذا قال : بعتك عبدا كاتبا فان المبيع يكون المقيد بالكتابة.

وبالجملة : لا اشكال في أن الجزئي غير قابل للتقييد ، وان كان قابلا للتوصيف ، فح إذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم الضاحك مثلا فلا يمكن ان يكون المصداق مقيدا بالضحك ، لان المصداق ليس هو الا الجزئي ، وقد عرفت ان الجزئي غير قابل للتقييد ، فليس المحمول في قولك : زيد ضاحك أو الانسان ضاحك ، هو زيد المقيد بالضحك ، بل المحمول زيد الموصوف بالضحك ، ومن المعلوم : ان المحمول حينئذ

ص: 114


1- المدرك السابق. قوله : « وفيه نظر ، لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة والا صدق صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالضرورة ».

يكون كلا من الموصوف والصفة ، فتنحل قضية زيد ضاحك أو الانسان ضاحك إلى قولنا الانسان انسان وقولنا الانسان ذو ضحك ، لان القضية تتعدد حسب تعدد الموضوع أو المحمول ، وفي المقام المحمول متعدد واقعا وان كان واحدا صورة ، لما عرفت : من أن المحمول يكون كلا من الصفة والموصوف ، وليس المحمول أمرا واحدا مقيدا ، فقضية الانسان ضاحك أو كاتب تنحل إلى قضية ضرورية ، وهي قولنا الانسان انسان ، والى قضية ممكنة ، وهي قولنا الانسان ذو ضحك أو كتابة ، والمراد من الانقلاب في كلام السيد الشريف هو هذا ، أي ان القضية بعد ما كانت ممكنة تنقلب إلى قضية ضرورية وان كان هناك قضية أخرى ممكنة ، لان ذلك لا يضر بدعوى الانقلاب.

والحاصل : انه فرق ، بين ان يكون المحمول أمرا واحدا مقيدا ، وبين ان يكون المحمول متعددا من الوصف والموصوف. ففي الأول لا تنحل القضية إلى ضرورية وممكنة ، وفي الثاني تنحل إلى ضرورية وممكنة ، فان اخذ الموضوع في المحمول يوجب كون القضية ضرورية ، كما في قولك : زيد زيد الكاتب. كما أن اخذ المحمول في الموضوع يوجب كون القضية ضرورية كقولك : زيد الكاتب كاتب ، فتأمل في المقام جيدا.

واما ما أجاب به عن الايراد بقوله : وفيه نظر الخ ، فلم نعرف له معنى محصلا ، فان العبرة في كون القضية ضرورية أو ممكنة ، هو ملاحظة مادة المحمول ونسبته إلى الموضوع ، فان كان المحمول مما يقتضيه ذات الموضوع ، فالقضية تكون ضرورية لا محالة كما في قولك : الانسان ناطق ، فان ذات الانسان يقتضى الناطقية. وان لم يكن المحمول مما يقتضيه ذات الموضوع بل كان من الأوصاف الخارجة عن متقضيات الذات ، فالقضية لا محالة لا تكون ضرورية ، سواء دام ثبوت الوصف للموضوع كما في قولك : كل فلك متحرك دائما ، أولم يدم كما في قولك : الانسان كاتب ، فالعبرة في كون القضية ممكنة أو ضرورية هو هذا ، لا ان العبرة بقيام الوصف بالموضوع خارجا وعدم قيامه ، كما يعطيه ظاهر كلام الفصول (رحمه اللّه) فان القيام وعدم القيام خارجا أجنبي عن جهة القضية وانها موجهة بأي جهة من

ص: 115

الضرورة والدوام والامكان كما لا يخفى. فتأمل ، فان عبارة الفصول في قوله - وفيه نظر - تحتمل وجها اخر.

وعلى كل حال لا اشكال فيما ذكره السيد الشريف في كلا شقي الترديد ، وان كان الأولى تبديل الشق الأول بدخول الجنس في الفصل.

ثم انه يمكن ان يجاب عن الشق الثاني ( وهو لزوم انقلاب الممكنة إلى الضرورية ) بان الانقلاب انما يكون إذا اخذ الكاتب مثلا بمفهومه المركب من الذات والمبدء محمولا في القضية ، وأما إذا جرد عن الذات ، كما لا محيص عنه لئلا يلزم حمل الشيء على نفسه ، فلا تنقلب القضية إلى الضرورية. ودعوى : انه لم يكن هناك عناية التجريد ، بل الكاتب بماله من المعنى يحمل على زيد ، فهي من الشواهد على بساطة المفهوم.

فتحصل : انه لا محيص عن القول ببساطة المشتق ولا يمكن القول بتركبه.

( الامر التاسع )

في شرح ما يقال : من أن الفرق بين المشتق ومبدئه ، هو البشرط اللائية واللابشرطية ، كما هو الفرق بين الجنس والمادة والفصل والصورة.

فنقول : ان المراد من لا بشرط وبشرط لافى المقام ، غير المراد من بشرط لا ولا بشرط وبشرط شيء في تقسيم الماهية المبحوث عنها في باب المطلق والمقيد ، فان تقسيم الماهية إلى ذلك في ذلك المبحث انما هو باعتبار الطوارئ والانقسامات اللاحقة للماهية المنوعة والمصنفة لها.

فتارة : تلاحظ الماهية مجردة عن جميع الطوارئ واللواحق والانقسامات التي يمكن ان يفرض لها ، فهذه هي الماهية بشرط لا التي تكون من الأمور العقلية ، التي يمتنع صدقها على الخارجيات ، بداهة انه لا وجود لها بما هي كذلك.

وأخرى : تلاحظ واجدة لطور خاص وامر مخصوص كالايمان بالنسبة إلى الرقبة ، فهذه هي الماهية بشرط شيء.

وثالثة : تلاحظ على وجه السريان في جميع الانقسامات والطواري ، بحيث

ص: 116

يساوى كل لاحق مع نقيضه ، فهذه هي الماهية لا بشرط ، وهي المعبر عنها بالمطلق كما أوضحناه في محله.

وهذا المعنى من اللا بشرط وبشرط لا غير مقصود في المقام. بل مرادهم من قولهم : ان الفرق بين المشتق ومبدئه ، هو ان المشتق اخذ لا بشرط ، والمبدء اخذ بشرط لا ، انما هو معنى آخر ، غير المعنى المذكور في باب المط والمقيد.

وتوضيح المراد في المقام : هو ان العرض لما كان وجوده لنفسه وبنفسه وفي نفسه عين وجوده لغيره وبغيره وفي غيره لاستحالة قيام العرض بذاته بل تقرره انما يكون بمحله ، فيمكن ان يلاحظ العرض بما هو هو ومع قطع النظر عن عينية وجوده لوجود الموضوع ، كما أنه يمكن ان يلاحظ على ما هو عليه من القيام والاتحاد ، من دون تجريده وتقطيعه عما هو عليه من الحالة ، أي حالة القيام بالغير. فان لوحظ على الوجه الأول كان حينئذ عرضا مباينا غير محمول ويكون ملحوظا بشرط لا ، أي بشرط عدم الاتحاد والقيام بالمحل. وان لوحظ على الوجه الثاني كان حينئذ عرضيا متحدا محمولا ويكون ملحوظا لا بشرط ، أي لا بشرط عن التجرد والتقطيع ، بل لوحظ على ما هو عليه من الحالة من القيام بالموضوع.

والحاصل : انه لا اشكال في أن العرض مط من أي مقولة كان ، هو بنفسه من الماهيات الامكانية التي لها حظ من الوجود ، ويقابل الجوهر عند تقسيم الممكنات. وكذا لا اشكال في أن قوام تقرر العرض بالموضوع ، حيث إنه ليس هو بنفسه متقررا في الوجود كتقرر الجوهر ، بل لابد في العرض من أن يوجد في محل ويقوم به ويتحد معه بنحو من الاتحاد ، وهو الاتحاد في الوجود ، وهذا معنى ما يقال : من أن وجود العرض لنفسه وبنفسه وفي نفسه عين وجوده لموضوعه وبموضوعه وفي موضوعه. وإذا كان الامر كذلك ، فتصل النوبة حينئذ إلى التفكيك بين الحيثيتين في مرحلة اللحاظ ، فيمكن لحاظه من الحيثية الأولى وذلك لايكون الا بالتجريد عن عينية وجوده لوجود موضوعه ، فيكون عرضا مفارقا غير محمول ، إذ التجريد يوجب مباينة وجوده لوجود موضوعه ، ومن المعلوم : انه لا يصح حمل أحد المتباينين على الاخر ، إذ يعتبر في الحمل نحو من الاتحاد ، سواء كان على وجه

ص: 117

الاتحاد في الهوية ، كما في اتحاد الحد للمحدود في قولك : الانسان حيوان ناطق ، أو على وجه الاتحاد في الوجود كقولك : زيد ضارب ، فلا يصح قولنا : زيد ضرب. ولحاظه بهذا لوجه هو المعنى بقولهم بشرط لا أي بشرط ان لايكون في الموضوع ، لا انه لايكون واقعا لاستحالة ذلك ، بل يقطع النظر عن كونه في الموضوع ، إذ قطع النظر عن ذلك ولحاظه على هذا الوجه بمكان من الامكان. كما أنه يمكن لحاظه من الحيثية الثانية ، أي لحاظه لا بشرط التجرد ، بل يلاحظ على ما هو عليه من العينية والاتحاد ، فيكون عرضيا متحدا محمولا ويكون هو مفاد المشتق.

ومن هنا يظهر : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون معنى قابلا للحاظه بشرط لا أولا بشرط ، بان يكون هو بنفسه مجردا عن ذلك ، فلا يصح جعل المصدر أو اسم المصدر مبدء الاشتقاق ، لان كلا من المصدر واسم المصدر له معنى لا يمكن لحاظه لا بشرط ، بحيث يصح حمله على الخارج الا إذا جرد عن معناه فيخرج حينئذ عن كونه مصدرا أو اسم مصدر ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، فقد ظهر المراد من قولهم : ان الفرق بين المشتق ومبدئه هو اللابشرطية والبشرط اللائية ، واتضح ان المشتق عبارة عن تلك الكيفية الحاصلة للعرض من قيامه بمعروضه ، واتحاد وجوده لوجوده ، وأين هذا من دخول الذات في مفهومه؟.

ثم انه لا فرق في ما ذكرناه من معنى المشتق ، بين اسم الفاعل والصفة المشبهة ، وغيرهما من الأسماء المشتقة : من اسم المفعول ، واسم المكان ، واسم الآلة كمضروب ومقتل ومفتاح وغير ذلك ، فإنه بعد ما كان وجود العرض وجودا رابطيا ، فلا محالة يكون بين العرض وبين موضوعه - من الآلة والمكان وغير ذلك من ملابسات الفعل - نحو من الربط والاتحاد المصحح للحمل ، غايته ان كيفية الاتحاد تختلف ، ففي اسم الفاعل يكون نحو من الاتحاد ، وفي اسم المفعول يكون نحوا آخر من الاتحاد ، وفي اسم الآلة أو اسم المكان نحو آخر. ويجمع الجميع : ان من قيام المبدء بالذات - على اختلاف أنحاء القيام والإضافة الحاصلة بين المبدء والذات - يحصل عنوان للعرض وكيفية للمبدء ، يكون الاسم موضوعا لذلك

ص: 118

العنوان ولتلك الكيفية.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : انه اختلف القوم في كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس أو للأعم منه وما انقضى على أقوال.

ثالثها : التفصيل ، بين اسم الفاعل واسم المفعول ، وغيره من سائر هيئات المشتقات.

ورابعها : التفصيل ، بين ماذا كان المبدء من الملكات والصناعات ، وغيرهما.

وخامسها : التفصيل ، بين المتعدى كضارب ، وغيره كعالم.

وسادسها : التفصيل ، بين ما إذا طرء ضد وجودي ، وغيره.

وغير ذلك من الأقوال التي يقف عليها المراجع. الا ان الظاهر : ان هذه الأقوال حادثة بين المتأخرين ، بعد ما كانت المسألة ذات قولين : قول بوضعه لخصوص المتلبس مط في جميع التقادير ، وقول بوضعه للأعم كذلك. وهذه التفاصيل كلها نشأت من حسبان اختلاف الهيئات الاشتقاقية ، أو اختلاف مبادئ المشتقات فيما نحن فيه ، مع أن الظاهر أن ذلك لا يوجب اختلافا فيما نحن فيه ، إذ الكلام في وضع الهيئة للأخص أو الأعم ، وذلك مما لا يختلف فيه المبادئ كما لا يخفى ، غايته لو كان المبدء ملكة أو حرفة يكون الانقضاء باعتبار ذهاب الملكة ورفع اليد عن الحرفة ، ولو كان المبدء من الفعليات يكون الانقضاء بعدم الفعلية. وكان منشأ توهم التفصيل بين المبادئ ، هو تخيل صدق البقال مثلا بالنسبة إلى من لم يكن مشتغلا ببيع البقل ، فتوهم ان البقال لابد ان يكون للأعم. وكذا الكلام في غير البقال من سائر الصيغ التي تكون المبادئ فيها حرفة أو صناعة أو ملكة ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه بعد ما كان المبدء حرفة أو ملكة أو صناعة يكون العبرة في الانقضاء هو تبدل الحرفة والصناعة بحرفة وصناعة أخرى ، أو مجرد رفع اليد عن تلك الحرفة وان لم يتلبس بحرفة أخرى.

وبالجملة : لا وجه للتفصيل بين مبادئ المشتقات أو هيئاتها ، فالعمدة في

ص: 119

المسألة هو اثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس مط في جميع الموارد ، أو وضعه للأعم كذلك مط.

والأقوى : انه موضوع لخصوص المتلبس مجاز في غيره ويدل على المختار أمور.

الأول :

انه بعد القول بالبساطة وخروج الذات عن مفهوم المشتق ، لا محيص عن القول بوضعه لخصوص المتلبس ، ولا يمكن ان يكون موضوعا للأعم ، إذ الوضع للأعم لايكون الا إذا كان هناك جامع بين المتلبس والمنقضى عنه المبدء ، حتى يكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع وليس في البين جامع بناء على البساطة ، وذلك لان المشتق يكون ح عبارة عن نفس العرض الملحوظ لا بشرط كما تقدم ، وليس وظيفة الهيئة الا جعل العرض المباين عرضيا محمولا ، فالمشتق هو عبارة عن العرض المحمول ، ومن المعلوم : توقف ذلك على وجود العرض حتى يصح لحاظه لا بشرط.

والحاصل : ان انقضاء المبدء موجب لانعدام ما هو قوام المشتق وحقيقته ، إذ بعد ما كانت الذات منسلخة عن مدلول المشتق وكان حقيقة المشتق عبارة عن نفس العرض لا بشرط ، فلا يعقل ان يكون هناك جامع بين حالتي الانقضاء والتلبس يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، لان الانقضاء موجب لانعدام عنوان المشتق ، ولا يعقل ان يكون اللفظ موضوعا بإزاء كلتا حالتي وجود المعنى وانعدامه ، إذ لا جامع بين الوجود والعدم ، فلا محيص من أن يكون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس.

وبالجملة : بناء على البساطة يرتفع الفارق وبين الجوامد والمشتقات ، الا من حيث كون الجوامد عناوين للذاتيات ، والمشتقات عناوين للعرضيات ، واما من حيث الوضع لخصوص المتلبس فلا فرق بينهما ، إذ كما أن انعدام الصورة النوعية الذاتية التي بها يكون الحجر حجرا يوجب انعدام العنوان وعدم انحفاظ ما وضع اللفظ بإزائه ، كذلك انعدام الصورة النوعية العرضية التي بها يكون الضارب ضاربا موجب لانعدام عنوان الضارب وعدم انحفاظ ما وضع اللفظ بإزائه. كل ذلك لمكان عدم ثبوت الجامع الباقي بين الحالتين الا الهيولي في الجوامد والذات

ص: 120

في المشتقات ، وكل من الهيولي والذات خارجة عنى المعنى وأجنبية عنه.

فظهر : ان هناك ملازمة بين القول بالبساطة والقول بالوضع لخصوص المتلبس ، وحيث اخترنا البساطة على ما تقدم بيانه ، فلا بد ان نقول بوضع المشتق بإزاء خصوص المتلبس.

نعم للقائل بالتركيب ان يقول بوضعه للأعم ، إذ للقائل بالتركيب ان يقول : ان ( ضارب ) مثلا موضوع للذات التي ثبت لها الضرب في الجملة ، من غير تقييد بخصوص المتلبس هذا.

ولكن مع ذلك لا يستقيم ، لتوجه اشكال عدم ثبوت الجامع بين التلبس والانقضاء حتى على القول بالتركيب ، وذلك لان أقصى ما يدعيه القائل بالتركيب ، هو ان المشتق موضوع للذات المقيدة بالمبدء على وجه النسبة الناقصة التقييدية معرى عن الزمان ، بداهة خروج الزمان عن مداليل الأسماء ، ومن المعلوم : انه ليس هناك جامع بين الانقضاء والتلبس الا الزمان ، فلو كان الزمان جزء مدلول المشتق لأمكن للقائل بالتركيب ان يقول : ان الهيئة موضوعة للذات التي ثبت لها المبدء في زمان ما ، الصادق على الزمان الماضي والمتلبس ، واما لو لم يكن الزمان جزء مدلول اللفظ فلا يكون هناك جامع يمكن ان يوضع اللفظ بإزائه ، بداهة ان الذات انما تنتسب إلى المبدء عند فعلية المبدء ، واما مع عدم فعليته فليست منتسبة إليه الا باعتبار الزمان الماضي ، والمفروض ان الزمان خارج عن مدلول اللفظ.

وحاصل الكلام : ان المشتق ، اما ان يكون موضوعا لخصوص المتلبس ، واما ان يكون موضوعا للأعم بالاشتراك المعنوي ، إذ لا يحتمل ان يكون موضوعا لخصوص ما انقضى عنه المبدء ، أو موضوعا لكل منهما بالاشتراك اللفظي ، فلابد ان يكون موضوعا ، اما للمتلبس ، واما للأعم ، ومن المعلوم : ان الوضع للأعم يتوقف على أن يكون هناك جامع قريب عرفي ، ولا يمكن ان يكون هناك جامع بين التلبس والانقضاء الا من ناحية الزمان ، والمفروض ان الزمان خارج عن مدلول الأسماء ، فلابد ان يكون موضوعا لخصوص المتلبس.

ص: 121

فظهر : ان القول بالتركيب لا يلازم القول بالأعم ، كما ربما يتخيل ، (1) بل قوى ذلك شيخنا الأستاذ مد ظله ابتداء ، وان كان قد عدل عنه أخيرا وأفاد : انه لا يمكن القول بالوضع للأعم مط ، سواء قلنا بالبساطة ، أو قلنا بالتركيب ، وان كان الامر على البساطة أوضح ، لما عرفت : من أن المشتق بناء على البساطة ليس الا عبارة عن نفس الحدث لا بشرط ، واللفظ انما يكون موضوعا بإزاء هذا المعنى ، وبعد الانقضاء لم يبق حدث حتى يتوهم كونه حقيقة فيه ، كما أنه عند انعدام الصورة النوعية في الجوامد لم يبق ما هو الموضوع له.

ولا يتوهم انه بناء على هذا ينبغي ان لا يصح اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، إذ معنى المشتق لم يبق والذات الباقية أجنبية عن المشتق ، فعلى أي وجه يصح اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء؟ فان الذات وان لم تكن مأخوذة في المشتق ، الا انها لما كانت معروضة للمشتق ومتصفة به في السابق ، صح اطلاق المشتق عليها بعلاقة ما كان.

وبالجملة : لا محيص عن القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس ، ولا يمكن عقلا ان يكون موضوعا للأعم. هذا مضافا إلى وجود علائم الحقيقة والمجاز في المقام ، حيث إنه يتبادر خصوص المتلبس عند الاطلاق ، ويصح سلب عنوان المشتق عمن انقضى عنه المبدء ، فيصح ان يقال : زيد ليس بضارب إذا كان قد انقضى عنه الضرب ، ولا ينافي صحة السلب لصحة الحمل ، بداهة ان صحة الحمل ليس لمكان جوهر اللفظ ، بل بعناية ما كان ، بخلاف صحة السلب ، فإنه يصح سلب الضارب بما له من المعنى من دون عناية عن زيد الذي لم يكن بضارب فعلا ، كما يصح سلب الأسد بما له من المعنى عن الرجل الشجاع ، مع صحة حمله عليه أيضا ، الا ان صحة الحمل لمكان العناية ، بخلاف صحة السلب.

ص: 122


1- بتقريب انه موضوع لنفس النسبة من غير تقييد بالانقضاء والتلبس ، وبعبارة أخرى : موضوع للذات التي ثبت لها الضرب كما هو المتأول في تفسير الضارب ، ومن المعلوم : ان هذا المعنى يصدق على المنقضى والمتلبس ، فاعتبار خصوص المتلبس يحتاج إلى مؤنة زائدة ، فتأمل - منه.

وبالجملة : لو أنكر صحة السلب في سائر المقامات ، فليس لأحد انكاره في المقام ، لان سائر المقامات يمكن دعوى وضع اللفظ فيها للأعم ، كما لو ادعى ان الأسد موضوع لمطلق الشجاع الجامع بين الحيوان المفترس والرجل ، فمن ادعى ذلك فليس ممن ادعى ما يخالف العقل ، غايته انه ادعى ما يخالف الواقع.

وهذا بخلاف المقام ، فان ادعاء وضع المشتق للأعم مما لا يمكن ، لعدم الجامع في البين عقلا على ما تقدم بيانه. فالتمسك في المقام بصحة السلب مما لا غبار عليه ، كما لا غبار لصحة التمسك بلزوم اجتماع الضدين بناء على القول بالأعم فيما إذا تلبس بضد ما كان متلبسا به كالقيام والقعود ، وتوضيح ذلك : هو انه لا اشكال في تضاد نفس المبادئ : من القيام والقعود والسواد والبياض وغير ذلك ، وحينئذ فان قلنا ببساطة المشتق وانه عبارة عن نفس المبادئ لا بشرط ، فلا اشكال في تحقق التضاد بين نفس المشتقات أيضا : من القائم والقاعد والأسود والأبيض ، إذ القائم هو عبارة عن نفس القيام المتحد وجودا مع الذات وكذلك القاعد ، فالتضاد بين القيام والقعود لا محالة يستلزم التضاد بين القائم والقاعد بل هو هو ، فبناء على البساطة لا مجال لتوهم عدم التضاد بين القائم والقاعد ، ويلزم الوضع للأعم اجتماع الضدين فيما إذا تلبس القائم بالقعود ، لصدق القائم والقاعد عليه حقيقة ، وهو كما ترى يكون من اجتماع الضدين.

واما بناء على القول بالتركيب ، فربما يتوهم عدم التضاد بين المشتقات وان كان هناك تضاد بين نفس المبادئ ، تقريب ان الهيئة موضوعة للذات التي ثبت لها المبدء في الجملة ، ولو آنا ما ، فيكون القائم هو الذي صدر عنه القيام ، وهذا المعنى كما ترى يجامع القاعد الذي هو عبارة عن الذات التي صدر عنها القعود.

والحاصل : انه الهيئة توجب توسعة في ناحية المبادئ على وجه يقع التخالف بينها ، فيكون ضد القائم هو القاعد الدائمي بحيث لم يتلبس بالقيام أصلا ، وكذا الحال في القاعد ، واما التلبس بالقيام في الجملة فليس ضدا للقعود ، وكذا العكس هذا.

ولكن مع ذلك لا يستقيم ، بداهة انه بعد تعرية الأسماء المشتقة عن الدلالة

ص: 123

على الزمان يكون شغل الهيئة هو الصاق المبدء بالذات وربطه بها ، من دون تصرف في المبادئ والذوات ، بل المبادئ باقية على ما هي عليه من المعاني وكذا الذوات ، وبعد تسليم التضاد بين المبادئ فلا معنى لعدم تسليمه بين المشتقات ، مع أن الهيئات المشتقة لم تحدث في المبادئ والذوات ما يوجب خروجها عن التضاد. نعم لو اخذ الزمان في مدلول الهيئة لكان للتوهم المذكور مجال. فظهر : ان التضاد بين المبادئ يسرى إلى التضاد بين نفس المشتقات ، وذلك ينافي وضعها للأعم للزوم اجتماع الضدين ، فلابد عن القول بوضعها لخصوص المتلبس ، لأنه لا يتصادق عنوان القائم والقاعد في آن واحد.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه لا محيص عن القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس ولا يمكن عقلا وضعه للأعم ، مضافا إلى الوجوه الاخر.

بقى الكلام فيما استدل به القائل بالأعم ، وهو أمور :

الأول : تبادر الأعم.

الثاني : عدم صحة السلب. وفيهما ما عرفت : من تبادر خصوص المتلبس ، وصحة السلب عما انقضى عنه المبدء.

الثالث : كثرة الاستعمال في المنقضى. وفيه انها دعوى لا شاهد عليها ، إذ المسلم هو كثرة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي ، لان الاطلاق انما يكون بلحاظ حال التلبس ، لا اطلاقه عليه في الحال وجعله معنونا بالعنوان فعلا بلحاظ انه كان متلبسا قبل ذلك.

وبالجملة : فرق ، بين ان يكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس وان انقضى عنه التلبس ، وبين ان يكون باللحاظ الفعلي لمكان انه كان متلبسا ، والذي ينفع القائل بالأعم هو ان يكون الاستعمال على الوجه الثاني دون الأول ، إذ لا اشكال في أن الاستعمال بلحاظ حال التلبس يكون على وجه الحقيقة ، وأنت إذا راجعت وجدانك واستعمالك ، ترى ان استعمالاتك انما تكون بلحاظ حال التلبس ، إذ الاستعمال بهذا اللحاظ لا يحتاج إلى عناية ومؤنة ، بخلاف استعماله بلحاظ الفعلي لمكان تلبسه قبل ، فان ذلك يحتاج إلى لحاظ زائد عما هو عليه.

ص: 124

والحاصل : ان المصنف يرى أن اطلاق الضارب على من لم يكن متلبسا بالضرب فعلا وكان متلبسا في الزمان الماضي انما يكون بلحاظ حال تلبسه ، لا بلحاظه الفعلي بحيث يكون الاطلاق لمكان تعنونه فعلا بالعنوان لمكان صدور الضرب عنه في الزمان الماضي.

وبذلك يظهر : ضعف التمسك بآيتي السرقة والزنا اللتين تمسك بهما القائل بالأعم ، بتوهم ان المشتق في الآيتين انما استعمل في الأعم من المنقضى ، بل ربما يتخيل انه مستعمل في خصوص المنقضى ، حيث إنه بعد تحقق السرقة والزنا يحكم عليه بالقطع والحد ، لوضوح انه لولا تحقق الموجب للحد ، وانقضاء زمانه ولو آنا ما ، لا يحكم عليه بالحد من القطع والجلد.

ولكن لا يخفى عليه فساد التوهم ، لان المشتق في الآيتين لم يستعمل في المنقضى ، بل لا يمكن ان يكون مستعملا في ذلك ، لان المشتق انما جعل في الآيتين موضوعا للحكم ، ومن المعلوم : انه لا يعقل تخلف الحكم عن الموضوع ولو آنا ما ، والا لزم ان لايكون المشتق وحده موضوعا ، بل كان مضى الزمان ولو آنا ما له دخل في الموضوع ، والمفروض ان المشتق تمام الموضوع للحكم.

والحاصل : ان كل عنوان اخذ موضوعا لحكم من الاحكام فلا يخلو ، اما ان يكون اخذه لمجرد المعرفية من دون ان يكون له دخل في الموضوع ، واما ان يكون له دخل فيه. وهذا أيضا على قسمين ، لأنه ، اما ان يكون له دخل حدوثا وبقاء ، بحيث يدور الحكم مدار فعلية العنوان ، كما في مثل حرمة وطئ الحائض ، حيث إن الحرمة تدور مدار فعلية الحيض في كل زمان. وأخرى : يكون له دخل حدوثا فقط ، كما في عنوان السارق والزاني.

وفى كلا القسمين انما يكون الحكم بلحاظ التلبس ، ولا يمكن ان يكون بلحاظ الانقضاء ، لأن المفروض ان العنوان هو الموضوع للحكم ، فلابد ان يكون الحكم بلحاظ التلبس ، إذ لو اخذ بلحاظ الانقضاء يلزم ان لايكون العنوان تمام الموضوع ، بل كان مضى الزمان له دخل ، فيلزم الخلف.

وبالجملة : لا اشكال في أن السرقة والزنا علة للحكم بالجلد والقطع ،

ص: 125

ولا يمكن تخلف الحكم عنهما ، وليس الحكم بالجلد والقطع وكذا سائر الحدود من الاحكام التي يتوقف استمرارها على استمرار موضوعاتها ، كما في مثل حرمة وطئ الحائض ، حيث إن الحرمة في كل زمان يتوقف على ثبوت الحائض في ذلك الزمان ، لا ان يكون حدوث الحيض في زمان كافيا في بقاء الحرمة ولو مع عدم التلبس بعنوان الحائض ، بداهة ان الامر لايكون كذلك.

وهذا بخلاف باب الحدود ، فإنه يكفي في ترتب الحكم بالحد التلبس بالعنوان آنا ما ، وبعد التلبس يبقى الحكم إلى أن يمتثل ، ولا يتوقف بقاء الحكم على بقاء الموضوع في كل آن.

فظهر : ان في مثل آية السرقة والزناء لا يمكن ان يراد من المشتق المنقضى ولا الأعم منه ومن التلبس ، بل لا محيص من أن يراد منه خصوص المتلبس لئلا يلزم تخلف الحكم عن موضوعه.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عما استدل به القائل بالأعم أيضا ، بقوله تعالى : (1) « ولا ينال عهدي الظالمين » بضميمة استدلال الامام (2) بها على عدم قابلية الرجلين للخلافة لمكان عبادتهما الأوثان.

تقريب الاستدلال : هو انه لولا كون المشتق للأعم لما صح استدلاله (عليه السلام) لعدم كون الرجلين حين التصدي للخلافة من عبدة الأوثان هذا.

ولكن ظهر الجواب عن ذلك ، لان استدلال الإمام علیه السلام لا يتوقف على استعمال المشتق في المنقضى ، بل الاستدلال يتم ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس ، لان التلبس بالعنوان ولو آنا ما يكفي في عدم نيل العهد إلى الأبد ، ولا يتوقف على بقاء العنوان ، فحدوث العنوان في مثل هذا يوجب ترتب الحكم ، فالمشتق في مثل الآية أيضا قد استعمل في المتلبس.

ويؤيد ذلك : ان جلالة قدر الخلافة وولاية العهد تناسب ان لا يكون

ص: 126


1- سورة البقرة ، الآية 124
2- راجع أصول الكافي ، الجزء 1 ، كتاب الحجة ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ، ص 326

الخليفة متلبسا بالظلم ابدا في آن من الآنات ، فالتلبس بالظلم في آن ينافي منصب الخلافة الذي هو منصب إلهي ، لسقوطه عن أعين الناس ، فلا يؤثر كلامه في تزكية النفوس.

فتحصل : ان المشتق في هذه الآية وفي آيتي السرقة والزناء انما استعمل في خصوص المتلبس ، لا في الأعم ، ولا في خصوص المنقضى.

ص: 127

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

وقبل البحث عما يتضمنه هذا المقصد من المباحث الأصولية ، ينبغي تقديم أمور : يبحث فيها عن بعض ما يتعلق بمادة الامر وصيغته.

( الامر الأول )

قد ذكر لمادة الامر معان عديدة ، حتى أنهاها بعض إلى سبعة أو أكثر ، وعد منها : الطلب ، والشأن ، والفعل ، وغير ذلك. وقد طال التشاجر بينهم في كون ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، وحيث لم يكن البحث عن ذلك كثير الجدوى ، فالاعراض عنه أجدر. وان كان ادعاء الاشتراك اللفظي بين تمام المعاني السبعة بعيدا غايته ، بل لا يبعد ان يكون ذلك على نحو الاشتراك المعنوي بين تمام المعاني السبعة ، أو ما عدى الطلب منها ، وانه بالنسبة إلى الطلب وما عداه مشترك لفظي كما في الفصول ، (1) بل مال شيخنا الأستاذ مد ظله ، إلى أن مادة الامر موضوعة لمعنى كلي ومفهوم عام جامع للمعاني السبعة ، نحو جامعية الكلي لمصاديقه ، وان كان التعبير عن ذلك المعنى العام بما يسلم عن الاشكال مشكلا ، الا ان الالتزام بالاشتراك اللفظي أشكل.

وعلى كل حال ، لا اشكال في أن الطلب من معاني الامر ، سواء كان بوضع يخصه ، أو كان من مصاديق الموضوع له ، ولكن ليس كل طلب أمرا ، بل إذا كان الطالب عاليا ومستعليا على اشكال في اعتبار الأخير.

ص: 128


1- الفصول ص 63. المقالة الأولى. « الحق ان لفظ الامر مشترك بين الطلب المخصوص كما يقال امره بكذا ، وبين الشأن كما يقال شغله كذا لتبادر كل منهما من اللفظ عند الاطلاق .. »

واما اعتبار العلو فلا ينبغي الاشكال فيه ، بداهة ان الطلب من المساوي يكون التماسا ، ومن الداني يكون دعاء ، ولا يصدق على ذلك أنه امر ، بل لا يبعد عدم صدق الامر على طلب العالي الغير المستعلى ، فان ذلك بالارشاد والاستشفاع أشبه. كما يؤيد ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله (1) لا بل انا شافع عند قول السائل : أتأمرني يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

( الامر الثاني )

الوجوب والاستحباب خارجان عن مفاد الامر بحسب وضعه ، وان كان اطلاقه يقتضى الوجوب على ما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ، الا ان اقتضاء الاطلاق ذلك غير كونه مأخوذا فيه وضعا كما لا يخفى.

( الامر الثالث )

قد ذكر لصيغة الامر معان عديدة أيضا ، حتى نقل ان بعضنا انها ها إلى أربعة وعشرين ، أو أكثر ، وعد منها : الطلب والتعجيز والتهديد وغير ذلك.

وقد وقع البحث أيضا في أن ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، الا ان الانصاف انه لا وقع للبحث عن ذلك في الصيغة ، وان كان له وقع في المادة ، بداهة ان صيغة الامر كصيغة الماضي والمضارع تشتمل على مادة وهيئة ، وليس للمادة معنى سوى الحدث ، كما أنه ليس للهيئة معنى سوى الدلالة على نسبة المادة إلى الفاعل. نعم تختلف كيفية انتساب المادة إلى الفاعل حسب اختلاف الافعال ، ففي الفعل الماضي الهيئة انما تدل على النسبة التحققية ، وفي المضارع تدل على النسبة التلبسية ، على ما مر ذلك مشروحا في مبحث المشتق.

واما فعل الامر ، فهيئته انما تدل على النسبة الايقاعية ، من دون ان تكون الهيئة مستعملة في الطلب ، أو في التهديد ، أو غير ذلك من المعاني المذكورة للهيئة ، لوضوح انه ليس معنى اضرب : اطلب ، ولا أهدد ، ولا غير ذلك. بل الطلب ، و

ص: 129


1- راجع سنن أبي داود. الجزء الثاني. كتاب الطلاق ، باب « المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد » ص 270

التهديد ، والتعجير ، انما تكون من قبيل الدواعي لايجاد النسبة الايقاعية بقوله : افعل. ومن هنا تمحضت صيغة افعل للانشاء ولا تصلح ان تقع اخبارا ، إذ الايقاع لا يمكن ان يكون اخبارا. وهذا بخلاف صيغة الماضي والمضارع ، حيث إنهما يصلحان لكل من الانشاء والاخبار. اما الماضي ، فوقوعه انشاء في باب العقود واضح. واما المضارع ، فانشاء العقد به محل خلاف واشكال. نعم المضارع انما يقع انشاء في مقام الطلب والبعث ، كيصلي ، ويصوم ، وما شابه ذلك وهذا بخلاف الماضي ، فإنه لم يعهد وقوعه انشاء في مقام البعث والطلب ابتداء ، وان استعمل في القضايا الشرطية في ذلك لانقلابه فيها إلى الاستقبال ، ولكن استعماله في الطلب في غيرها مما لم نعهده. وعلى كل حال ، لا اشكال في أن صيغة افعل ليست بمعنى الطلب ولا غيره من سائر المعاني ، وانما هي موضوعة لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل لدواعي : منها الطلب ومنها التهديد ومنها غير ذلك ، فتأمل جيدا. (1).

فتحصل : ان الصيغة لم تستعمل في الطلب ، بل إن كان ايقاع النسبة بداعي البعث والطلب يوجد مصداق من كلي الطلب عند استعمال الصيغة وايقاع النسبة ، كما هو الشأن في غير النسبة من سائر الحروف حيث إن باستعمالها يوجد مصداق من معنى كلي اسمى ، كالنداء عند قولك : يا زيد ، والخطاب عند قولك : إياك ، وغير ذلك من الحروف على ما تقدم تفصيل ذلك.

( الامر الرابع )

لا باس في المقام بالإشارة إلى اتحاد الطلب والإرادة وتغايرهما ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام ، وان لم يكن له كثير ارتباط به. وعلى كل حال ، ذهبت الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة ، وان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. وذهبت المعتزلة إلى اتحادهما وان الإرادة عين الطلب ، والطلب عين الإرادة. ولا يخفى ان الكلام في المقام أعم من إرادة الفاعل وإرادة

ص: 130


1- وفي بعض الكلمات ان النسبة التي تكون في صيغة ( افعل ) انما هي بين المبدء والآمر ، غايته انه نسبة تسبيبية كما أنه تكون بينه وبين الفاعل نبسة مباشرية ، فتأمل - منه.

الآمر ، إذ لا خصوصية في إرادة الآمر حتى يختص الكلام فيها ، فان المقدمات التي يحتاج إليها الفعل الاختياري في مرحلة وقوعه من فاعله ، هي بعينها يحتاج إليها الامر في مرحلة صدوره عن الآمر.

وبعد ذلك نقول : لا اشكال في توقف الفعل الاختياري على مقدمات : من التصور والتصديق والعزم والإرادة. وهذا مما لا كلام فيه ، انما الكلام في أنه هل وراء الإرادة امر آخر؟ يكون هو المحرك للعضلات يسمى بالطلب ، أو انه ليس وراء الإرادة امر آخر يسمى بالطلب؟ بل الإرادة بنفسها تستتبع حركة العضلات. ثم لا اشكال أيضا في أن الإرادة من الكيفيات النفسانية التي تحصل في النفس قهرا كسائر المقدمات السابقة عليها : من التصور والعلم وغير ذلك وليست الإرادة من الأفعال الاختيارية للنفس بحيث تكون من منشأتها الاختيارية.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن هناك وراء الإرادة امر آخر يكون هو المستتبع لحركة العضلات ويكون ذلك من أفعال النفس ، وان شئت سمه بحملة النفس ، أو حركة النفس ، أو تصدى النفس ، وغير ذلك من التعبيرات.

وبالجملة : الذي نجده من أنفسنا ، ان هناك وراء الإرادة شيئا آخر يوجب وقوع الفعل الخارجي وصدوره عن فاعله. ومن قال باتحاد الطلب والإرادة لم يزد على استدلاله سوى دعوى الوجدان ، وانه لم نجد من أنفسنا صفة قائمة بالنفس وراء الإرادة تسمى بالطلب. وقد عرفت : ان الوجدان على خلاف ذلك ، بل البرهان يساعد على خلاف ذلك ، لوضوح ان الانبعاث لايكون الا بالبعث ، والبعث انما هو من مقولة الفعل ، وقد عرفت ان الإرادة ليست من الافعال النفسانية ، بل هي من الكيفيات النفسانية ، فلو لم يكن هناك فعل نفساني يقتضى الانبعاث يلزم ان يكون انبعاث بلا بعث.

وبالجملة : لا سبيل إلى دعوى اتحاد مفهوم الإرادة ومفهوم الطلب ، لتكذيب اللغة والعرف ذلك ، إذ ليس لفظ الإرادة والطلب من الألفاظ المترادفة ، كالانسان والبشر. وان أريد من حديث الاتحاد التصادق الموردي وان تغايرا مفهوما فله وجه ، إذ يمكن دعوى صدق الإرادة على ذلك الفعل النفساني ، كما تصدق

ص: 131

على المقدمات السابقة من التصديق ، والعزم ، والجزم ، ويطلق عليها الإرادة هذا.

ولكن فيه : ما فيه ، إذ دعوى ذلك لايكون الا بدعوى ان الإرادة لها مفهوم واسع ، يسع المقدمات السابقة وما هو فعل النفس ، والحال انه ليس كذلك ، إذ الإرادة كيفية خاصة للنفس تحدث بعد حدوث مباديها فيها ، ولذا تسمى بالشوق المؤكد ، إذ التعبير بذلك انما هو لبيان انه ليس كل ما يحدث في النفس يسمى بالإرادة ، بل الإرادة انما تحدث بعد التصور والتصديق وغير ذلك من مباديها ، واطلاق الإرادة على بعض المبادئ أحيانا انما هو لمكان التسامح في توسعة المفهوم ، لا ان المفهوم هو بنفسه موسع بحيث يشمل ذلك. فظهر : انه لا سبيل إلى دعوى الاتحاد ، بل المغايرة بينهما عرفا أوضح من أن تخفى.

بل لا يمكن دفع شبهة الجبر الا بذلك ، بداهة انه لو كانت الافعال الخارجية معلولة للإرادة لكان اللازم وقوع الفعل من فاعله بلا اختيار ، بل يقع الفعل قهرا عليه ، إذ الإرادة كما عرفت ، كيفية نفسانية تحدث في النفس قهرا بعد تحقق مباديها وعللها ، كما أن مبادئ الإرادة أيضا تحصل للنفس قهرا ، لان التصور امر قهري للنفس ، وهو يستتبع التصديق استتباع العلة لمعلولها وهو يستتبع العزم والإرادة كذلك استتباع العلة لمعلولها ، والمفروض انها تستتبع الفعل الخارجي كذلك ، فجميع سلسلة العلل والمعلولات انما تحصل في النفس عن غير اختيار ، ومجرد سبق الإرادة لا يكفي في اختيارية الفعل. وليس كلامنا في الاصطلاح حتى يقال : انهم اصطلحوا على أن كل فعل يكون مسبوقا بالإرادة فهو اختياري ، إذ هذا الاصطلاح مما لا يغنى عن شيء ، لان كلامنا في واقع الامر ومقام الثبوت ، وانه كيف يكون الفعل اختياريا؟ مع أنه معلول لمقدمات كلها غير اختيارية ، فكيف يصح الثواب والعقاب على فعل غير اختياري؟.

والحاصل : انه لو كانت الافعال معلولة للإرادة ، وكانت الإرادة معلولة لمباديها السابقة ، ولم يكن بعد الإرادة فعل من النفس وقصد نفساني ، لكانت شبهة الجبر مما لا دافع لها ، ولقد وقع في الجبر من وقع مع أنه لم يكن من أهله ، وليس ذلك الا لانكار التغاير بين الطلب والإرادة وحسبان انه ليس وراء الإرادة شيء يكون

ص: 132

هو المناط في اختيارية الفعل.

واما بناء على ما اخترناه من أن وراء الإرادة والشوق المؤكد أمرا آخر ، وهو عبارة عن تصدى النفس نحو المطلوب وحملتها إليه ، فيكون ذلك التصدي النفساني هو مناط الاختيار ، وليس نسبة الطلب والتصدي إلى الإرادة نسبة المعلول إلى علته حتى يعود المحذور ، بل النفس هي بنفسها تتصدى نحو المطلوب ، من دون ان يكون لتصديها علة تحملها عليه.

نعم الإرادة بمالها من المبادئ تكون من المرجحات لطلب النفس وتصديها ، فللنفس بعد تحقق الإرادة بما لها من المبادئ التصدي نحو الفعل. كما أن لها عدم التصدي والكف عن الشيء ، وليس حصول الشوق المؤكد في النفس علة تامة لتصدي النفس ، بحيث ليس لها بعد حصول ذلك الكيف النفساني الامتناع عن الفعل ، كما هو مقالة الجبرية ، بل غايته ان الشوق المؤكد يكون من المرجحات لتصدي النفس ولا يخفى الفرق بين المرجح والعلة. هذا كله في نفى الجبر.

واما نفى التفويض

فالامر فيه أوضح ، لان أساس التفويض هو تخيل عدم حاجة الممكن في بقائه إلى العلة ، وانه يكفي فيه علة الحدوث ، مع أن هذا تخيل فاسد لا ينبغي ان يصغى إليه ، بداهة ان الممكن بحسب ذاته يتساوى فيه الوجود والعدم ، ويحتاج في كل آن إلى أن يصله الفيض من المبدء الفياض ، بحيث لو انقطع عنه الفيض آنا ما لانعدم وفنى ، فوجوده في كل آن يستند إلى الفياض. هذا بالنسبة إلى أصل وجوده. وكذا الحال بالنسبة إلى ارادته وأفعاله يحتاج إلى المبدء لكن لا على نحو الجبر كما عرفت. فتأمل في المقام جيدا ، فإنه خارج عما نحن فيه ولا يسع التكلم فيه أزيد من ذلك ، والغرض في المقام بيان تغاير الطلب والإرادة ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه تغايرهما.

هذا كله في إرادات العباد وافعالهم التكوينية ، وقس على ذلك الطلب والإرادة التشريعية ، فان المبادئ التي يتوقف عليها الفعل التكويني كلها مما يتوقف عليها الامر التشريعي ، غايته : ان الطلب في التكوينيات انما هو عبارة : عن تصدى

ص: 133

النفس لحركة عضلاتها نحو المطلوب ، وفي التشريعي عبارة عن تصدى الآمر بأمره لحركة عضلات المأمور نحو المطلوب ، والا فمن حيث معنى الطلب لافرق بينهما ، وانه في كلا المقامين بمعنى التصدي.

وبما ذكرنا ظهر : ما في بعض الكلمات - من تقسيم الإرادة والطلب إلى الواقعي والانشائي - من الخلل ، لوضوح ان الإرادة من الكيفيات النفسانية الغير القابلة للانشاء ، إذ الانشاء عبارة عن الايجاد ، والإرادة غير قابلة لذلك فتأمل.

( الامر الخامس )

قد عرفت ان صيغة الامر ليست موضوعة للطلب ، ولا غيره من المعاني المذكورة لها ، بل انما هي موضوعة لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل لدواعي : منها الطلب ومنها التهديد ومنها الامتحان ومنها غير ذلك. وليس الصيغة من أول الامر مستعملة في الطلب ، ولا المنشأ فيها مفهوم الطلب ، بل بها يوجد مصداق من الطلب إذا كان ايقاع النسبة بداعي الطلب ، دون ما إذا كان بداعي التهديد والسخرية.

نعم ، فيما إذا كان بداعي الامتحان يمكن ان يقال : انه طلب ، غايته ان صدق الطلب عليه ليس لمكان مطلوبية الفعل لمصلحة فيه ، بل لمكان بعث حركة عضلات العبد.

وبعبارة أخرى : المطلوب في الأوامر الامتحانية نفس حركة عضلات العبد لا نفس الفعل ، وعلى أي حال الامر في ذلك سهل.

انما الاشكال في طريق استفادة الوجوب من الصيغة ، بعد ما كان استفادة الوجوب منها مما لا اشكال فيه ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : (1) « ما منعك ان لا تسجد إذ أمرتك » ، مع أن الامر كان بصيغته ، كما هو ظاهر قوله تعالى : فقعوا له ساجدين. وبالجملة : لا اشكال في استفادة الوجوب منها ، انما الاشكال في طريق استفادة الوجوب منها.

ص: 134


1- سورة الأعراف الآية 12

فنقول : لهم في ذلك طرق :

منها : دعوى وضعها لغة للوجوب وهذه الدعوى بظاهرها لا تستقيم ، لما عرفت : ان الصيغة لها مادة وهيئة ، والمادة موضوعة لمعناها الحدثي ، ومفاد الهيئة معنى حرفي ، لكونها موضوعة لنسبة المادة إلى الفاعل بالنسبة الايقاعية. فلا معنى لدعوى وضعها للوجوب. اللّهم الا ان توجه بان المراد وضعها لايقاع النسبة إذا كان بداعي الطلب الوجوبي ، بان يؤخذ - بداعي الطلب الوجوبي - قيدا في وضع الهيئة.

واما دعوى : أكثرية استعمالها في الاستحباب فيلزم أكثرية المجاز على الحقيقة ، فهذا مما ليس فيه محذور إذا كان ذلك بقرينة تدل على ذلك انما الشأن في اثبات هذه الدعوى أي دعوى الوضع لذلك بل هي فاسدة من أصلها.

وتوضيح الفساد يتوقف على بيان حقيقة الوجوب والاستحباب وبيان المايز بينهما.

فنقول : ربما قيل بان الوجوب عبارة عن الاذن في الفعل مع المنع من الترك والاستحباب عبارة عن الاذن في الفعل مع الرخصة في الترك ، فيكون مفاد كل من الوجوب والاستحباب مركبا من أمرين. ولما كان التفسير بذلك واضح الفساد ، لوضوح بساطة مفهوم الوجوب والاستحباب ، عدل عن ذلك المتأخرون ، وجعلوا المايز بينهما بالشدة والضعف ، وقالوا : ان الوجوب والاستحباب حقيقة واحدة مقولة بالتشكيك ، فالوجوب عبارة عن الطلب الشديد ، والاستحباب عبارة عن الطلب الضعيف هذا.

ولكن الانصاف : ان هذه الدعوى كسابقتها واضحة الفساد ، لان الطلب لا يقبل الشدة والضعف ، لوضوح ان طلب ما كان في غاية المحبوبية وما لم يكن كذلك على نهج واحد ، وهذا ليس من الأمور التي يرجع فيها إلى اللغة ، بل العرف ببابك ، فهل ترى من نفسك اختلاف تصدى نفسك وحملتها نحو ما كان في منتهى درجة المصلحة وقوة الملاك ، كتصدي نفسك نحو شرب الماء الذي به نجاتك ، أو نحو ما كان في أول درجة المصلحة ، كتصدي نفسك لشرب الماء لمحض التبريد ، كلا لا يختلف تصدى النفس المستتبع لحركة العضلات باختلاف ذلك ، بل إن بعث

ص: 135

النفس للعضلات في كلا المقامين على نسق واحد. نعم ربما تختلف الإرادة بالشدة والضعف كسائر الكيفيات النفسانية ، الا ان الإرادة ما لم تكن واصلة إلى حد الشوق المؤكد الذي لا مرتبة بعده لا تكون مستتبعة لتصدي النفس. هذا في طلب الفاعل وارادته ، وقس على ذلك طلب الآمر ، فإنه لا يختلف بعث الآمر حسب اختلاف ملاكات البعث ، بل إنه في كلا المقامين يقول : افعل ، ويبعث المأمور نحو المطلوب ، ويقول مولويا : اغتسل للجمعة ، كما يقول : اغتسل للجنابة.

فدعوى اختلاف الطلب في الشدة والضعف ، وكون ذلك هو المايز بين الوجوب والاستحباب مما لاوجه لها ، بل العرف والوجدان يكذبها وان قال به بعض الأساطين.

والذي ينبغي ان يقال : هو ان الوجوب انما يكون حكما عقليا ، لا انه امر شرعي ينشأه الآمر حتى يكون ذلك مفاد الصيغة ومدلولها اللفظي ، كما هو مقالة من يقول بوضعها لذلك ، ومعنى كون الوجوب حكما عقليا ، هو ان العبد لابد ان ينبعث عن بعث المولى الا ان يرد منه الترخيص بعد ما كان المولى قد اعمل ما كان من وظيفته وأظهر وبعث وقال مولويا : افعل ، وليس وظيفة المولى أكثر من ذلك ، وبعد اعمال المولى وظيفته تصل النوبة إلى حكم العقل من لزوم انبعاث العبد عن بعث المولى ، ولا نعنى بالوجوب سوى ذلك.

وبما ذكرنا يندفع ما استشكل : من أنه كيف يعقل استعمال الصيغة في الأعم من الوجوب والاستحباب ، كما ورد في عدة من الاخبار ذكر جملة من الواجبات والمستحبات بصيغة واحدة كقوله : اغتسل للجمعة ، والجنابة ، والتوبة ، وغير ذلك ، فإنه لو كان الوجوب عبارة عن شدة الطلب ، والاستحباب عبارة عن ضعفه لكان الاشكال في محله ، بداهة انه لا يعقل ان يوجد الطلب بلا حد خاص من الشدة والضعف ، إذ لا يمكن وجود الكلي بلا حد.

واما بناء على ما قلناه من معنى الوجوب فلا اشكال فيه ، إذ ليس الطلب منقسما إلى قسمين ، بل الطلب انما يكون عبارة عن البعث ، وهو غير مقول بالتشكيك والصيغة في جميع المقامات لم تستعمل الا لايقاع النسبة بداعي البعث والتحريك

ص: 136

غايته انه في بعض المقامات قام الدليل على عدم لزوم الانبعاث عن ذلك البعث ، وفي بعض المقامات لم يقم ، فيكون المورد على ما هو عليه من حكم العقل بلزوم الانبعاث عن البعث.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الوجوب لا يستفاد من نفس الصيغة وضعا أو انصرافا ، بل انما يستفاد منها بضميمة حكم العقل. وبتقريب آخر : الوجوب ليس معناه لغة الا الثبوت ، ومنه قولهم : الواجب بالذات والواجب بالغير ، فان معنى كونه واجبا بالذات ، هو ان ثبوته يكون لنفسه ولمكان اقتضاء ذاته لا لعلة خارجية تقتضي الثبوت ، ومعنى كونه واجبا بالغير ، هو ثبوت علة وجوده ، أي ان علة وجوده قد تمت وثبتت. هذا في الواجبات التكوينية ، وقس عليه الواجبات التشريعية ، فان معنى كون الشيء واجبا شرعا هو ثبوت علة وجوده في عالم التشريع ، وليس علة وجوده الا البعث ، فالبعث يقتضى الوجود لو خلى وطبعه ولم يقم دليل على أن البعث لم يكن للترغيب الذي هو معنى الاستحباب ، وليكن هذا معنى قولهم : اطلاق الصيغة يقتضى الوجوب ، فتأمل في المقام جيدا.

( الامر السادس )

في دلالة الصيغة على التعبدية والتوصلية.

اعلم : ان البحث في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : فيما يقتضيه الأصلي اللفظي.

المقام الثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي عند عدم الأصل اللفظي ، وتنقيح البحث عن المقام الأول يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

في معنى التعبدية والتوصلية اما التعبدية : فهي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها العبد لربه ويظهر عبوديته ، وهي المعبر عنها بالفارسية ( بپرستش ) ومعلوم : ان أهل كل نحلة لهم أفعال يظهرون بها عبوديتهم ، ويعبدون بها معبودهم حتى عبدة الصنم والشمس ، فان لهم حركات خاصة وأفعالا مخصوصة ، بها يتذللون لمعبودهم ، ويظهرون له العبودية. فالمراد من العبادة في شرعنا ، هو ما

ص: 137

شرع لان يتعبد به العبد لربه ، ومعلوم : ان فعل الشيء لاظهار العبودية لايكون الا بفعله امتثالا لامره ، أو طلبا لمرضاته ، أو طمعا في جنته ، أو خوفا من ناره أو غير ذلك مما يحصل به قصد التقرب ، على ما ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة ، (1) ولا يكون الشيء عبادة بدون ذلك كما لا يخفى.

ويقابلها التوصلية ، وهي ما لم يكن تشريعه لأجل اظهار العبودية.

وقد يطلق التوصلية ويراد منها : عدم اعتبار المباشرة ، أو عدم اعتبار الإرادة والاختيار ، أو عدم اعتبار الإباحة والسقوط بفعل المحرم. ولا يخفى ان النسبة بين الاطلاقين هي العموم من وجه ، إذ ربما يكون الشيء توصليا بالمعنى الأول ، أي ( لم يشرع لأجل اظهار العبودية ) ومع ذلك يعتبر فيه الإرادة والاختيار ، كوجوب رد التحية ، فإنه لا يعتبر فيه قصد التعبد ، ومع ذلك يعتبر فيه المباشرة ، وربما ينعكس الامر ويكون الشيء توصليا بالمعنى الثاني أي لا يعتبر فيه المباشرة ويسقط بالاستنابة وفعل الغير ، ومع ذلك لايكون توصليا بالمعنى الأول بل يكون تعبديا ، كقضاء صلاة الميت الواجب على الولي ، فإنه يعتبر فيه التعبد مع عدم اعتبار المباشرة. وعلى كل حال البحث يقع في مقامين :

المقام الأول : في أصالة التعبدية المقابلة للتوصلية بالمعنى الأول لها.

المقام الثاني : في أصالة التعبدية المقابلة للتوصلية بالمعنى الثاني لها.

ولنقدم الكلام في المقام الثاني ، ثم نعقبه بالمقام الأول.

فنقول : ان الحق فيه ، هو أصالة التعبدية ، بمعنى اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار والإباحة ، فلا يسقط بفعل الغير ، ولا بلا إرادة واختيار ، ولا بفعل المحرم ، الا ان يقوم دليل على عدم اعتبار أحد القيود الثلاثة أو جميعها ، ولكن تحرير الأصل بالنسبة إلى هذه القيود الثلاثة يختلف ، وليس هناك أصل واحد يقتضى القيود الثلاثة. فينبغي تحرير الأصل الجاري في اعتبار كل قيد على حدة.

ص: 138


1- راجع تفصيل هذا البحث في المجلد الثاني من تقرير أبحاث المحقق النائيني قدس سره في مباحث الصلاة لتلميذه المحقق الحاج شيخ محمد تقي الآملي طاب مضجعه. الفصل الأول من فصول أفعال الصلاة ص 2.

فنقول : اما تحرير أصالة التعبدية ، بمعنى اعتبار المباشرة وعدم سقوطه بالاستنابة وفعل الغير ، فيتوقف على بيان كيفية نحو تعلق التكليف فيما ثبت جواز الاستنابة فيه وسقوطه بفعل الغير تبرعا ، بعد ما كان هناك ملازمة بين جواز الاستنابة وجواز التبرع ، فان كلما يدخله الاستنابة (1) يدخله التبرع كذا العكس.

وليعلم : ان التكليف لا يسقط بمجرد الاستنابة فيما ثبت جواز الاستنابة فيه ، بل انما يسقط بفعل النائب ، لا بنفس الاستنابة ، فيقع الاشكال ح في كيفية تعلق التكليف على هذا النحو ، وانه من أي سنخ من الأقسام المتصورة في التكاليف؟ من حيث الاطلاق والاشتراط والتعيينية والتخييرية وغير ذلك من الأقسام.

فنقول : اما تعلق التكليف بالنسبة إلى المادة ، أي الفعل المطالب به ، فيكون على وجه التعيين ، بمعنى انه لا يقوم شيء مقامه ، كما يقوم العتق مقام الصيام والصيام مقام الاطعام في خصال الكفارة. واما من حيث جهة الصدور عن الفاعل فلا يعتبر فيه التعيينية ، بمعنى انه لا يعتبر فيه مباشرة المأمور بنفسه ، واصدار المكلف بعينه ، بل للمكلف الاستنابة فيه واستيجار الغير له.

وبذلك يمتاز عن الواجب الكفائي ، فان الوجوب فيه بالنسبة إلى المادة وان كان على وجه التعيين ، ولا يعتبر مباشرة شخص خاص فيه ، الا ان الوجوب فيه متوجه إلى عامة المكلفين ، بحيث ان كل من اتى به فقد اتى بما هو واجب عليه نفسه ، لا انه يأتي به نيابة عن الغير. وهذا بخلاف المقام ، فان الآتي بالعمل ، سواء كان على وجه الاستنابة ، أو على وجه التبرع ، انما يأتي به عن الغير ، ويقصد تفريغ ذمة الغير ، بحث لو لم يأت به على هذا الوجه لكان الواجب بعد باقيا في ذمة الغير ولا يسقط عنه ، كما في القضاء عن الميت ، وأداء الدين ، وأمثال ذلك من الواجبات .

ص: 139


1- الا في بعض فروع الجهاد ، حيث يجوز الاستنابة فيه ويقع الفعل عن المنوب عنه ويترتب عليه قسمة الغنيمة ولا يدخله التبرع بل يقع الفعل عن المتبرع ، الا ان يتأمل في ذلك أيضا ، فتأمل وراجع أدلة الباب - منه.

التي يكون المكلف بها شخصا خاصا ، ومع ذلك يسقط بفعل الغير استنابة أو تبرعا ، فقولنا في المقام : انه لا يعتبر فيه صدوره عن المكلف لا يلازم كونه واجبا كفائيا ، بل التكليف بالنسبة إلى جهة جواز الاستنابة يكون على وجه التخيير ، ويكون نتيجة التكليف بعد قيام الدليل على جواز الاستنابة فيه هو التخيير بين المباشرة والاستنابة لان الاستنابة أيضا فعل اختياري للشخص قابلة لتعلق التكليف بها تخييرا أو تعيينا ، ومعلوم ان التخيير على هذا الوجه انما يكون شرعيا لا عقليا ، إذ ليس هناك جامع قريب عرفي حتى يكون التخيير عقليا.

وبعبارة أخرى : ليس هناك جامع خطابي بين المباشرة والاستنابة ، وما لم يكن في البين جامع خطابي لايكون التخيير عقليا وان كان هناك جامع ملاكي ، فان مجرد وجود الجامع الملاكي لا يكفي في التخيير العقلي.

وبعبارة ثالثة : يعتبر في التخيير العقلي ان تكون افراد التخيير مندرجة تحت حقيقة واحدة عرفية ، كالانسان بالنسبة إلى افراده ، ولا يكفي في التخيير العقلي الاشتراك في الأثر مع تباين الافراد بالهوية ، كالشمس والنار ، حيث إنهما متباينان بالهوية مع اشتراكهما في الأثر وهو التسخين ، فالتخيير بين المباشرة والاستنابة لابد ان يكون شرعيا.

وربما يتوهم : ان الاستنابة ترجع إلى التسبيب ، وان المنوب عنه يكون سببا لوقوع الفعل عن الفاعل الذي هو النايب والفعل يستند إليه بتسبيبه.

وفيه ان ضابط باب التسبيب ، هو ان لا يتوسط بين السبب وبين الأثر إرادة فاعل مختار تام الإرادة والاختيار ، كفتح قفص الطائر الذي يكون سببا لهلاك الطير وامر الصبي الغير المميز ، فان الفعل في مثل هذا يستند إلى السبب دون المباشر ، وأما إذا توسط في البين إرادة فاعل مختار فالفعل انما يستند إلى المباشر دون السبب كما في المقام ، حيث إن الفعل يستند إلى النائب دون المنوب عنه الا بعناية وتسامح كما في بنى الأمير المدينة. فجعل باب الاستنابة من صغريات باب التسبيب كما يظهر من بعض الكلمات مما لا وجه له ، بل الاستنابة هي باب على حدة وعنوان مستقل وتكون في موارد جوازها أحد فردي التخيير الشرعي هذا.

ص: 140

وحيث عرفت : ان جواز الاستنابة يلازم جواز التبرع ولو مع عدم رضا المتبرع عنه ، بل تفرغ ذمته قهرا عليه ، فينبغي ح ان يبحث عن كيفية سقوط التكليف بتبرع المتبرع ، وان نحو تعلق التكليف بالمكلف مع سقوطه بفعل المتبرع على أي وجه يكون؟ فان في مثل هذا لا يمكن ان يكون على وجه التخيير ، وليس تبرع المتبرع من قبيل الاستنابة ، بان يكون أحد فردي التخيير الشرعي فضلا عن التخيير العقلي ، لان أحد طرفي التخيير لابد ان يكون مقدورا للمكلف ويتعلق به ارادته نحو تعلقه بالطرف الاخر ، وفعل الغير لا يدخل تحت قدرة المكلف ، ولا يمكن تعلق الإرادة به ، فلا معنى لان يقال : افعل أنت بنفسك أو غيرك.

والحاصل : انه لا يمكن ان يكون الشخص مكلفا بفعل غيره ولو على وجه التخيير بين فعله وفعل غيره. بل فيما يكون فعل الغير مسقطا للتكليف عن المكلف إذا توقف اسقاطه على قصد النيابة واتيان الفعل عنه - كما في الحج ، والقضاء عن الميت وأداء الدين حيث لا يسقط التكليف عن المكلف الا باتيان الغير نيابة عنه وبقصد تفريغ ذمته ، والا لا يقع الفعل عن المكلف ولا تفرغ ذمته ، بخلاف إزالة النجاسة حيث إن الوجوب يسقط فيها على أي وجه اتفق - يكون هناك جهة أخرى تمنع من كونه أحد فردي التخيير ، مضافا إلى أنه خارج عن تحت القدرة والاختيار ، وهي ان اسقاط فعل الغير التكليف عن غيره انما يكون بعد توجه التكليف إليه ومطالبته به ، حتى يمكن للغير قصد النيابة عنه واتيانه بالفعل بداعي تفريغ الذمة وتنزيل نفسه منزلة المكلف ، فيكون السقوط بفعل الغير في طول التكليف وتوجهه نحو المكلف ، إذ بعد توجه التكليف نحوه واشتغال ذمته به يمكن للغير تفريغ ذمته وفعله نيابة عنه ، ومن المعلوم : ان ما كان في طول الشيء لا يمكن ان يكون في عرضه واحد فردي التخيير فتأمل.

وعلى كل حال ، ان فعل الغير وتبرعه لا يمكن ان يكون أحد فردي التخيير ، وليس فعل الغير كالاستنابة ، حيث إنها يمكن ان تكون أحد فردي التخيير ، لان الاستنابة فعل اختياري للمكلف ، فيمكن تعلق التكليف بها تعيينا أو تخييرا ، وأين هذا من فعل الغير الذي لايكون تحت قدرة المكلف وارادته؟ فسقوط التكليف بفعل

ص: 141

الغير لا يمكن ان يكون على وجه التخيير ، بل لابد ان يكون ذلك على وجه تقييد الموضوع فيما إذا كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي كخطاب أد الدين ، أو تقييد الحكم فيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي كالحج ، فيكون وجوب أداء الدين من جهة السقوط بفعل الغير من قبيل الواجب المشروط ، ويرجع حقيقة التكليف إلى وجوب أداء الدين الذي لم يؤده الغير ، فالواجب على المكلف هو الدين المقيد. وكذا يقال في الحج : ان وجوب الحج مشروط بعد قيام الغير به تبرعا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التكليف الذي ثبت فيه جواز الاستنابة وجواز تبرع الغير يجتمع فيه جهات ثلث : جهة تعيينية وهي بالنسبة إلى المادة حيث لا يقوم شيء مقامها ، وجهة تخييرية وهي بالنسبة إلى الاستنابة ، وجهة اشتراط وتقييد وهي بالنسبة إلى السقوط بفعل الغير. هذا إذا ثبت جواز الاستنابة فيه.

وأما إذا شك ، كما هو المقصود بالكلام ، فالشك في جواز الاستنابة يستتبع الشك في السقوط بفعل الغير ، لما عرفت من الملازمة بينهما ، فيحصل الشك فيه من جهتين : التعيين والتخيير ، ومن جهة الاطلاق والاشتراط ، وأصالة التعيينية والاطلاق ترفع كلتا جهتي الشك ، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير ، والاطلاق والاشتراط ، حيث إن ظاهر الامر ومقتضى الأصل اللفظي هو التعيين والاطلاق ، فالأصل اللفظي يقتضى التعبدية بمعنى عدم جواز الاستنابة وعدم السقوط بفعل الغير ، هذ إذا كان هناك اطلاق.

وأما إذا لم يكن ، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضى الأصل يختلف باختلاف جهتي الشك. اما من جهة الشك في التعيين والتخيير ، فالأصل يقتضى الاشتغال وعدم السقوط بالاستنابة ، على ما هو الأقوى عندنا : من أن الأصل هو الاشتغال في دوران الامر بين التعيين والتخيير كما حررناه في محله.

واما من جهة الشك في الاطلاق والاشتراط ، فالأصل العملي في موارد دوران الامر بين الاطلاق والاشتراط وان كان ينتج نتيجة الاشتراط ، على عكس الأصل اللفظي ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف في صورة فقدان الشرط ، والأصل البراءة عنه ، كالشك في وجوب الحج عند عدم الاستطاعة لو فرض الشك في

ص: 142

اشتراط الوجوب بها ، الا انه في المقام لا يمكن ذلك ، لأن الشك في المقام راجع إلى مرحلة البقاء وسقوط التكليف بفعل الغير ، لا في مرحلة الجعل والثبوت ، ومقتضى الاستصحاب هو بقاء التكليف وعدم سقوطه بفعل الغير. وما قلناه : من أصالة البراءة عند دوران الامر بين الاطلاق والاشتراط ، انما هو فيما إذا رجع الشك إلى ناحية الثبوت كمثال الحج ، لا إلى ناحية البقاء كما في المقام. هذا تمام الكلام في أصالة التعبدية بمعنى اعتبار المباشرة وعدم السقوط بالاستنابة وفعل الغير.

واما الكلام في أصالة التعبدية بمعنى اعتبار الإرادة والاختيار وعدم السقوط بدون ذلك ، فمجمل القول فيه : هو ان الأقوى فيه أيضا أصالة التعبدية ، بمعنى عدم سقوط التكليف عند فعله بلا إرادة واختيار ، وليس ذلك لأجل اخذ الاختيار في مواد الافعال ، لوضوح فساده ، بداهة عدم توقف الضرب والقتل وغير ذلك من المواد على وقوعها عن إرادة واختيار ، وكذا ليس ذلك لأجل اخذ الاختيار في هيئات الافعال ، لوضوح انه لا يتوقف صدق انتساب المادة إلى الفاعل على الإرادة والاختيار ، وكيف يمكن ذلك؟ مع أن الافعال تعم أفعال السجايا وغيرها ، كنجل ، وعلم ، وكرم ، واحمر ، واصفر ، وذلك مما لا يمكن فيه الإرادة والاختيار ، فهيئة الفعل الماضي والمضارع لا دلالة فيها على الاختيار. نعم تمتاز هيئة فعل الامر عن سائر الأفعال في اعتبار الاختيارية وذلك لامرين :

الأول : انه يعتبر في متعلق التكليف ان يكون صدوره عن الفاعل حسنا. وبعبارة أخرى : يعتبر عقلا في متعلق التكليف القدرة عليه ليتمكن المكلف من امتثال الامر على وجه يصدر الفعل عنه حسنا ، ومن المعلوم : ان صدور الفعل حسنا من فاعله يتوقف على الإرادة والاختيار ، إذ الافعال الغير الاختيارية لا تتصف بالحسن والقبح الفاعلي ، وان اتصفت بالحسن والقبح الفعلي ، فلابد من خروج ما لايكون بإرادة واختيار عن متعلق التكليف عقلا ، ولا يمكن ان يعمه سعة دائرة الامر.

الثاني : هو ان نفس الامر يقتضى اعتبار الإرادة والاختيار مع قطع النظر عن الحكم العقلي ، وذلك لان الامر الشرعي انما هو توجيه إرادة العبد نحو المطلوب و

ص: 143

تحريك عضلاته ، فالامر هو بنفسه يقتضى اعتبار الإرادة والاختيار ، ولا يمكن ان يتعلق بالأعم لأنه بعث للإرادة وتحريك لها ، وح لو قام دليل على سقوط التكليف عند فعل متعلقه بلا إرادة واختيار ، كان ذلك من قبيل سقوط التكليف بفعل الغير ، وهو يرجع إلى تقييد الموضوع ، واطلاق الخطاب عند الشك يدفع التقييد المذكور ، فالأصل اللفظي يقتضى عدم السقوط عند عدم الإرادة والاختيار. وكذا الحال في الأصل العملي على حذو ما تقدم عند الشك في سقوطه بفعل الغير.

واما أصالة التعبدية بمعنى عدم سقوطه بفعل المحرم ، فتوضيح الكلام فيه : هو ان السقوط بفعل المحرم لابد ان يكون لمكان اتحاد متعلق الامر مع متعلق النهى خارجا ، والا لم يعقل السقوط بدون ذلك ، وهذا الاتحاد انما يكون بأحد أمرين : اما لكون النسبة بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق ، واما لكون النسبة هي العموم من وجه ، إذ لا يمكن الاتحاد بدون ذلك. فان كان بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق ، فيندرج في باب النهى عن العبادة ويخرج الفرد المحرم عن سعة دائرة الامر ويقيد الامر لا محالة بما عدا ذلك ، من غير فرق بين العبادة وغيرها كما لا يخفى. وإن كان بين المتعلقين العموم من وجه ، فيندرج في باب اجتماع الأمر والنهي ، فان قلنا في تلك المسألة بالامتناع مع تقديم جانب النهى ، كان من صغريات النهى عن العبادة أيضا على ما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ، وان قلنا بالجواز كما هو المختار فالمتعلق وان لم يتحد واندرج في باب التزاحم ، الا انه مع ذلك لا يصلح الفرد المحرم للتقريب (1) لعدم حسنه الفاعلي وان كان فيه ملاك الامر ، الا انه لما يقع مبغوضا عليه لمكان مجامعته للحرام ، فلا يصلح لان يتقرب به ، فلا يسقط الامر به. فالأصل .

ص: 144


1- لا يخفى : ان هذا البيان انما يتم فيما إذا كان المأمور به عبادة ، وأما إذا لم يكن عبادة فبغضه الفاعلي مما لا اثر له بعد ما كان المقام من باب التزاحم واشتمال الفعل على تمام الملاك ، فلا محيص من سقوط الامر حينئذ ولا مجال للشك فيه. وهذا بخلاف المقامات المتقدمة ، فان في جميعها مجالا واسعا لتطرق الشك فيها ، لاحتمال دخل الاختيار مثلا أو المباشرة في ملاك الحكم ، ولأجله نحتاج إلى دليل خارجي يدل على السقوط بذلك بخلاف ما كان من باب التزاحم ، فان نفس دليل الحكم يقتضى السقوط لمكان كشفه عن الملاك حتى في الفرد المزاحم للحرام ، كما هو لازم القول بجواز الاجتماع ، فتأمل - منه.

اللفظي وكذا العملي يقتضى عدم السقوط بفعل المحرم ، كما اقتضيا عدم السقوط بالاستنابة وفعل الغير وعن لا إرادة واختيار. هذا تمام الكلام في المقام الثاني. فلنعطف الكلام إلى المقام الأول ، الذي هو المقصود بالأصالة في هذا المبحث ، وهو ان الأصل يقتضى التعبدية بالمعنى الآخر لها أو لا يقتضى ، وقد عرفت في الامر الأول من الأمور التي أردنا تقديمها في هذا المبحث معنى التعبدية ، وحاصله : ان التعبدية عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ، ويظهر العبد عبوديته لمولاه.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن كل حكم له متعلق وموضوع. والمراد من المتعلق هو ما يطالب به العبد من الفعل أو الترك ، كالحج ، والصلاة ، والصوم ، وغير ذلك من الافعال. والمراد بالموضوع هو ما اخذ مفروض الوجود في متعلق الحكم ، كالعاقل البالغ المستطيع مثلا. وبعبارة أخرى : المراد من الموضوع هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك بما له من القيود والشرائط : من العقل والبلوغ وغير ذلك.

ثم إن كلا من الموضوع والمتعلق له انقسامات عقلية سابقة على مرحلة ورود الحكم عليه ، وهذه الانقسامات تلحق له بحسب الامكان العقلي ولو لم يكن هناك شرع ولا حكم ، ككون المكلف عاقلا ، بالغا ، قادرا ، روميا ، زنجيا ، احمر ، ابيض ، اسود ، وغير ذلك من الانقسامات التي يمكن ان تفرض له. وككون الصلاة مثلا إلى القبلة ، أو في المسجد ، أو الحمام ، مقرونة بالطهارة ، إلى غير ذلك من الانقسامات التي يمكن ان تفرض لها في حد نفسها ولو لم تكن متعلقة لحكم أصلا.

ولكل منهما أيضا انقسامات تلحقهما بعد ورود الحكم عليهما ، بحيث لولا الحكم لما أمكن لحوق تلك الانقسامات لهما ، ككون المكلف عالما بالحكم ، أو جاهلا به ، بداهة ان العلم بالحكم لا يمكن الا بعد الحكم. وهذا بخلاف العلم ، بالموضوع ، فإنه يمكن لحوقه بدون الحكم. هذا بالنسبة إلى الموضوع. واما بالنسبة إلى المتعلق ، ككون الصلاة مما يتقرب ويمتثل بها ، فان هذا انما يلحق الصلاة بعد الامر بها ، إذ لولا الامر لما كان عروض هذا الوصف لها ممكنا.

ص: 145

ثم انه لا اشكال في امكان التقييد أو الاطلاق بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق بلحاظ الانقسامات السابقة على ورود الحكم ، بل لا محيص اما من الاطلاق أو التقييد ، لعدم امكان الاهمال الواقعي بالنسبة إلى الآمر الملتفت ، لوضوح انه لابد من تصور موضوع حكمه ومتعلقه ، فإذا كان ملتفتا إلى الانقسامات اللاحقة للموضوع أو المتعلق ، فاما ان لا يعتبر فيه انقساما خاصا فهو مطلق ، أو ان يعتبر فيه انقساما خاصا فهو مقيد.

وبالجملة : لو أوجب اكرام الجيران وهو ملتفت إلى أن الاكرام يمكن ان يكون بالضيافة ويمكن ان يكون بغيرها ، وكذا كان ملتفتا إلى أن في الجيران عدوا وصديقا ، فان تساوت الأقسام في نظره فلا محيص من اطلاق حكمه ، والا فلابد من التقييد بما يكون منها موافقا لنظره ، هذا بحسب الثبوت ونفس الامر. واما بحسب مقام الاثبات ومرحلة الاظهار ، وفيمن فيه الاهمال لغرض له في ذلك. هذا في الانقسامات السابقة على الحكم اللاحقة للموضوع أو المتعلق.

واما الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيها التقييد ثبوتا ، وإذا امتنع التقييد امتنع الاطلاق أيضا لما بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فالقدرة على أحدهما عين القدرة على الآخر ، كما أن امتناع أحدهما عين امتناع الآخر وذلك واضح. فالشأن انما هو في اثبات امتناع التقييد. فنقول : يقع الكلام تارة : بالنسبة إلى الموضوع ، وأخرى : بالنسبة إلى المتعلق. اما بالنسبة إلى الموضوع ، فالتقييد تارة : يكون في مرحلة فعلية الحكم ، وأخرى : يكون في مرحلة انشائه.

واما التقييد في مرحلة فعلية الحكم فلا يعقل ، للزوم الدور. وذلك لان فعلية الحكم انما يكون بوجود موضوعه ، كما أوضحناه في محله ، فنسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل تقدم الحكم على موضوعه ، والا يلزم عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، وذلك واضح. ومن المعلوم : ان العلم بالشيء يتوقف على ثبوت الشيء في الموطن الذي تعلق العلم به ، إذ العلم لابد له من متعلق ورتبة المتعلق سابقة على العلم ليمكن تعلق العلم به ، فلو فرض ان العلم بالحكم اخذ قيد للموضوع فلا بد من ثبوت الموضوع بماله من القيود في المرتبة السابقة على الحكم ، لما

ص: 146

عرفت : من لزوم تقدم الموضوع على الحكم ، ففعلية الحكم تتوقف على وجود الموضوع ، فلو فرض ان العلم بالحكم اخذ قيدا في الموضوع يلزم توقف الموضوع على الحكم ، لان من اجزاء الموضوع العلم بالحكم ، فلابد من وجود الحكم ليلتئم الموضوع بماله من الاجزاء ، وهذا كما ترى يلزم منه الدور المصرح ، غايته ان التوقف من أحد الجانبين يكون شرعيا وهو توقف الحكم على الموضوع لان الموضوع انما يكون بحسب الجعل الشرعي إذ لو لم يعتبره الشارع لما كاد ان يكون موضوعا ، ومن الجانب الاخر يكون عقليا وهو توقف الموضوع على الحكم ، لان توقف العلم الذي اخذ قيدا للموضوع على المعلوم الذي هو الحكم حسب الفرض عقلي ، ولك ان تجعل التوقف من الجانبين عقليا فتأمل.

وعلى كل حال ، لا اشكال في لزوم الدور ان اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مقام فعلية الحكم. واما ان اخذ قيدا في مقام الانشاء فربما يتوهم عدم المانع من ذلك ، لان انشاء الحكم لا يتوقف على وجود الموضوع وان توقف فعليته عليه ، بل انشاء الاحكام انما يكون قبل وجود موضوعاتها ، فيرتفع التوقف من أحد الجانبين هذا.

ولكن اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مرحلة الانشاء وان لم يلزم منه الدور المصطلح ، الا انه يلزم منه توقف الشيء على نفسه ابتداء بدون توسيط الدور.

وتوضيح ذلك : هو ان الدور عبارة عن الذهاب والإياب في سلسلة العلل والمعلولات ، بان يقع ما فرض كونه علة لوجود الشيء في سلسلة معلوله ، اما بلا واسطة كتوقف ( ا ) على ( ب ) و ( ب ) على ( ا ) أو مع الواسطة كما إذا فرض توسط ( ج ) في البين ، والأول هو المصرح ، والثاني هو المضمر.

والوجه في امتناع الدور ، هو لزوم تقدم الشيء على نفسه الذي هو عبارة عن اجتماع النقيضين ، فان هذا هو الممتنع الأولى العقلي الذي لابد من رجوع كل ممتنع إليه ، والا لم يكن ممتنعا ، فالممتنع الأولى هو ان يكون الشيء موجودا في حال كونه معدوما الذي هو عبارة عن اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد في آن واحد ، والدور انما يكون ممتنعا لأجل استلزامه ذلك ، فان توقف ( ا ) على ( ب ) يستدعى تقدم

ص: 147

( ب ) في الوجود على ( الف ) ، فلو فرض توقف ( ب ) على ( الف ) أيضا يلزم تقدم ( الف ) على ( ب ) المفروض تأخره عنه ، ويرجع بالآخرة إلى توقف ( الف ) على نفسه ، فلو فرض في مورد لزوم هذا المحذور بلا توسط الدور ، فهو أولى بان يحكم عليه بالامتناع.

وبعد ذلك نقول في المقام : لو اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مرحلة الانشاء يلزم تقدم الشيء على نفسه ، وذلك لأنه لابد من فرض وجوده بما انه مرآة لخارجه قبل وجود نفسه ، إذ الانشاءات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي هي المتعبرة في العلوم ، وليس من القضايا العقلية التي لا موطن لها الا العقل ، ولا من أنياب الأغوال التي تكون مجرد فرض لا واقعية لها أصلا ، بل الانشاءات الشرعية انما هي عبارة عن جعل الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، هذا الجعل انما يكون قبل وجود الموضوعات في الخارج ، وعند وجودها تصير تلك الأحكام فعلية.

وحينئذ لو فرض اخذ العلم بالانشاء قيدا للموضوع في ذلك المقام ، فلابد من تصور الموضوع بماله من القيود لينشأ الحكم على طبقه ، والمفروض ان من قيود الموضوع العلم ، بهذا الانشاء نفسه ، فلابد من تصور وجود الانشاء مرآة لخارجه قبل وجود نفسه ، وهذا كما ترى يلزم منه تقدم الانشاء على نفسه ، وهو ضروري الامتناع.

والحاصل :

انه لو اخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الانشاء ، والمفروض انه لا حكم سوى ما أنشأ ، فلابد من تصور وجود الانشاء قبل وجوده ليمكن اخذ العلم به قيدا ، وليس ذلك مجرد قضية فرضية من قبيل أنياب الأغوال ، حتى يقال : لا مانع من تصور وجود الشيء قبل نفسه لامكان فرض اجتماع النقيضين ، بل قد عرفت : ان الأحكام الشرعية وانشاءاتها انما تكون على نهج القضايا لحقيقية القابلة الصدق على الخارجيات ، وتصور وجود الشيء القابل للانطباق الخارجي قبل وجود نفسه محال هذا كله في الانقسامات اللاحقة للموضوع المترتبة على الحكم.

ص: 148

واما الانقسامات اللاحقة للمتعلق المترتبة على الحكم ، كقصد امتثال الامر في الصلاة مثلا ، فامتناع اخذه في المتعلق انما هو لأجل لزوم تقدم الشيء على نفسه في جميع المراحل ، أي في مرحلة الانشاء ، ومرحلة الفعلية ، ومرحلة الامتثال.

اما في مرحلة الانشاء : فالكلام فيه هو الكلام في اخذ العلم في تلك المرحلة ، حيث قلنا : انه يلزم منه تقدم الشيء على نفسه ، فان اخذ قصد امتثال الامر في متعلق نفس ذلك الامر يستلزم تصور الامر قبل وجود نفسه ، وكذا الحال عند اخذه في مقام الفعلية ، فان قصد امتثال الامر يكون ح على حذو سائر الشرائط والاجزاء كالفاتحة ، ومن المعلوم : ان فعل المكلف إذا كان له تعلق بما هو خارج عن قدرته ، فلابد من اخذ ذلك مفروض الوجود ليتعلق به فعل المكلف ويرد عليه ، كالأمر في قصد امتثال الامر ، فان قصد الامتثال الذي هو فعل المكلف انما يتعلق بالامر ، وهو من فعل الشارع خارج عن قدرة المكلف ، فلابد ان يكون موجودا ليتعلق القصد به ، كالفاتحة التي يتعلق بها القراءة التي هي فعل المكلف ، وكالقبلة حيث يتعلق الامر باستقبالها ، فلابد من وجود ما يستقبل ليتعلق الامر بالاستقبال ، إذ لا يعقل الامر بالاستقبال فعلا مع عدم وجود المستقبل إليه. وفي المقام لابد من وجود الامر ليتعلق الامر بقصده ، والمفروض انه ليس هناك الا امر واحد تعلق بالقصد وتعلق القصد به ، وهذا كما ترى يلزم منه وجود الامر قبل نفسه كما لا يخفى.

وبالجملة : قصد امتثال الامر إذا اخذ قيدا في المتعلق في مرحلة فعلية الامر بالصلاة فلابد من وجود الامر ليتعلق الامر بقصد امتثاله ، مع أنه ليس هناك الا امر واحد ، فيلزم وجود الامر قبل نفسه.

واما في مرحلة الامتثال : فكذلك أي يلزم وجود الشيء قبل نفسه ، بمعنى انه لا يمكن للمكلف امتثاله لاستلزامه ذلك المحذور ، وذلك لان قصد امتثال الامر إذا تعلق الطلب به ووقع تحت دائرة الامر واخذ في المتعلق قيدا على حذو سائر الشروط والاجزاء ، فلابد للمكلف من أن يأتي بهذا القيد بداعي امتثال امره ، كما يأتي بسائر الاجزاء بداعي امتثال امره ، فيلزم المكلف ان يقصد امتثال الامر بداعي امتثال امره ، وهذا كما ترى ، يلزم منه ان يكون الامر موجودا قبل نفسه ،

ص: 149

ليتحقق منه قصد امتثال الامر بداعي الامر المتعلق به.

والحاصل : ان المكلف لا يتمكن من الامتثال ، إذ ليس له فعل الصلاة بداعي أمرها ، لان الامر لم يتعلق بنفس الصلاة فقط حسب الفرض ، بل تعلق بها مع قصد امتثال الامر ، فالامر قد تعلق بقصد امتثال الامر ولو في ضمن تعلقه بالصلاة على هذا النحو ، فيلزم المكلف ان يقصد امتثال الامر بداعي امره ، وهذا لايكون الا بعد فرض وجود الامر قبل نفسه ليمكن القصد إلى امتثاله بداعي امره الذي هو نفسه ، إذ ليس في المقام الا امر واحد ، وهذا معنى لزوم وجود الامر قبل نفسه.

هذا كله ، ان اخذ خصوص امتثال الامر قيدا للمتعلق ، بناء على ما حكى عن الجواهر : (1) من أن العبرة في العبادة انما هو فعلها بداعي امتثال أمرها ولا يكفي قصد الجهة ولا سائر الدواعي الاخر. بل جعل سائر الدواعي في طول داعي امتثال .

ص: 150


1- قال في الجواهر : « اما العبادات فلا اشكال في اعتبار القصد فيها ، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه ، واعتبارهما في كل امر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل كتابا وسنة ، بل ضرورة من الدين ، بل لا يصدقان الا بالاتيان بالفعل بقصد امتثال الامر فضلا عن مطلق القصد ، ضرورة عدم تشخص الافعال بالنسبة إلى ذلك عرفا الا بالنية ، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة لا ينصرف إلى ما تعلق به الامر إذ الامر والعبثية فضلا عن غيرها على حد سواء بالنسبة إليه ، ومن هنا إذا كان الامر متعددا توقف صدق الامتثال على قصد التعيين لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما .. وذكر بعد سطور : « اما القربة بمعنى القرب الروحاني الذي هو شبيه بالقرب المكاني فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه ، ولا يجب نية ذلك وقصده قطعا ». وذكر أيضا بعد رد الاستدلال على اعتبار قصد الوجه بان جنس الفعل لا يستلزم وجوهه الا بالنية. « .. ولا ريب في عدم توقف صدق الامتثال على شيء من هذه المشخصات ، ضرورة الاكتفاء باتحاد الخطاب مع قصد امتثاله عن ذلك كله ، إذ هو متشخص بالوحدة مستغن بها عنها ، والا لوجب التعرض لغيرها من المشخصات الزمانية والمكانية وسائر المقارنات ، إذا لكل على حد سواء بالنسبة إلى ذلك. بل ليست صفة الوجوب الا كتأكد الندب في المندوب المعلوم عدم وجوب نيته زيادة على أصل الندب. » راجع جواهر الكلام ، الجزء 9 ، ص 161 - 157 - 155 وملخص مختاره هناك ، عدم كون تلك الدواعي عرضية ، بل المعتبر في صحة العبادة اتيانها بداعي امتثال الامر وهذا مما لا محيص عنه.

الامر ، وجعل هذا هو الأصل في تحقق العبادة ، وتلك الدواعي من باب الداعي للداعي ، ولا تصلح ان تكون هي تمام الداعي ، بل لابد من أن يأتي بالصلاة بداعي امتثال أمرها ويكون داعيه إلى ذلك هو دخول الجنة مثلا ، أو خوف النار ، أو كونه اهلا لذلك. فجعل أهليته للعبادة التي هي أقصى مراتب العبادة في طول داعي امتثال الامر.

وذهب جماعة (1) إلى كفاية قصد جهة الامر في العبادة ، ولا تتوقف على قصد خصوص امتثال الامر ، بل يكفي قصد الملاك والمصلحة التي اقتضت الامر. وذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى كفاية فعل العبادة لله ولو مع عدم قصد الامتثال أو الجهة ، بل يكفي كونها لله كما يدل على ذلك بعض الاخبار ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة (2) فراجع.

وعلى كل حال ، ان اخذ خصوص قصد امتثال الامر في متعلق الامر يستلزم ما ذكرناه من تقدم الشيء على نفسه في مرحلة الانشاء ، والفعلية ، والامتثال. وان اخذ قصد الجهة في متعلق الامر لا قصد امتثال الامر يلزم الدور ، وذلك لان قصد المصلحة يتوقف على ثبوت المصلحة ولو فيما بعد ، والمفروض انه لا مصلحة بدون قصدها ، إذ قصد المصلحة يكون من أحد القيود المعتبرة ، والصلاة لا تشتمل على المصلحة الا بعد جامعيتها لجميع القيود المعتبرة فيها التي منها قصد المصلحة ، فكما ان الصلاة الفاقدة للفاتحة لايكون فيها مصلحة ، كذلك الصلاة الفاقدة لقصد المصلحة لا تشتمل عليه المصحلة ، فيلزم ح ان تكون المصلحة متوقفة على القصد إليها ، والقصد إليها يتوقف على ثبوتها في نفسها من غير ناحية القصد إليها ، فلو جاءت من ناحية نفس القصد إليها يلزم الدور ، وذلك واضح. فإذا امتنع القصد على هذا الوجه ، امتنع جعل قصد المصحلة قيدا في المتعلق ، لان جعل ما يلزم منه المحال محال. هذا إذا قلنا باعتبار قصد الجهة.

ص: 151


1- ذهب إليه أستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري ، وعليه جماعة من محققي تلامذته.
2- راجع المجلد الثاني من تقريرات بحث الأستاذ في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره . ص 27

وأما إذا لم نعتبر ذلك أيضا ، وقلنا بكفاية القصد إلى كون العبادة لله في مقابل العبادة للسمعة والرياء ، فهو وان لم يستلزم منه محذور الدور وتقدم الشيء على نفسه لامكان الامر بالصلاة التي يأتي بها لله ، بان يؤخذ ذلك في متعلق الامر من دون استلزام محذور الدور ولا تقدم الشيء على نفسه ، الا انه يرد عليه محذور آخر سار في الجميع حتى اخذ قصد الامر والجهة ، مضافا إلى ما يرد عليهما من المحاذير المتقدمة ، وهو ان باب الدواعي لا يمكن ان يتعلق بها إرادة الفاعل ، لأنها واقعة فوق الإرادة ، والإرادة انما تنبعث عنها ، ولا يمكن ان تتعلق الإرادة بها ، لان الإرادة انما تتعلق بما يفعل ، ولا يمكن ان تتعلق بما لايكون من سنخ الفعل كالدواعي.

والحاصل : ان الداعي انما يكون علة للإرادة ، فلا يعقل ان تكون معلولة للإرادة ، وإذا لم يكن الدواعي متعلقة لإرادة الفاعل فلا يمكن ان يتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته للفعل ، لما بيناه مرارا من الملازمة بين إرادة الفاعل وإرادة الآمر ، بمعنى انه كلما يتعلق به إرادة الفاعل يتعلق به إرادة الآمر وكلما لا يتعلق به إرادة الفاعل لا يتعلق به إرادة الآمر ، لان إرادة الآمر انما تكون محركة لإرادة الفاعل ، فلا بد من أن تتعلق إرادة الآمر ، بما يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، والدواعي لا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها عند ارادته للفعل ، لأنها واقعة في سلسلة علل الإرادة ، فلا تتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته الفعل من العبد.

فتحصل من جميع ما ذكر : انه لا يمكن اخذ ما يكون به العبادة عبادة في متعلق الامر مط ، سواء كان المصحح لها خصوص قصد الامر ، أو الأعم منه ومن قصد الجهة ، أو الأعم من ذلك وكفاية اتيانها لله تعالى. فيقع الاشكال ح في كيفية اعتبار ما يكون به العبادة عبادة ، ولهم في التفصي عن هذا الاشكال وجوه :

الوجه الأول :

ما نسب إلى الميرزا الشيرازي قده.

وحاصله : ان العبادية انما هي كيفية في المأمور به وعنوان له ، ويكون قصد الامر ، أو الوجه ، أو غير ذلك ، من المحققات لذلك العنوان ومحصلا له ، من دون ان يكون ذلك متعلقا للامر ، ولا مأخوذا في المأمور به. وبالجملة : العبادة كما

ص: 152

فسرناها في أول العنوان ، هي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد العبد بها ، فالصلاة المأتى بها بعنوان التعبد واظهارا للعبودية هي المأمور بها ، والامر بها على هذا الوجه بمكان من الامكان ، والمكلف يتمكن من اتيان الصلاة كذلك ، بان يأتي بالصلاة اظهارا للعبودية. وحينئذ فللمكلف ان يأتي بالصلاة على هذا الوجه ، من دون ان يقصد الامر ، ولا الجهة ، ولا غيرهما من الدواعي ، فتقع عبادة. وله ان يأتي بها بداعي الامر أو الجهة ، ويكون ذلك محققا لعنوان العبادة في الصلاة ومحصلا لها ، من دون ان يتعلق امر بتلك الدواعي أصلا ، إذ ليس حصول العبادة منحصرا بتلك الدواعي ، حتى نقول : لابد من تعلق الامر بها ، بل عبادية العبادة انما هي امر آخر وراء تلك الدواعي ، وذلك الامر الآخر عنوان للمأمور به وكيفية له يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، غايته ان بتلك الدواعي أيضا يمكن تحقق العنوان هذا.

ولكن هذا الوجه مما ينبغي القطع بعدمه ، لوضوح ان الملاك في العبادية انما هو فعلها بأحد الدواعي القريبة كما يدل عليه الاخبار ، فلو أتي بالفعل لا بأحد تلك الدواعي تبطل ، كما أنه لو أتى بها بأحد تلك الدواعي تصح ولو فرض محالا عدم حصول ذلك العنوان في المأمور به ، فالعبرة في عبادية العبادة انما هي بتلك الدواعي.

الوجه الثاني :

هو ان يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضى عدم سقوطه الا بقصده ، بحيث يكون هناك خصوصية في ذاته تستدعى ذلك ، من دون ان يؤخذ ذلك في متعلقه ، ويكون الميز بين التعبدي والتوصلي بنفس الهوية وان اشتركا في البعث والطلب ، نعم لابد هناك من كاشف يدل على أن الامر الفلاني تعبدي أو توصلي هذا.

ولكن يرد عليه :

أولا : عدم انحصار التعبدية بقصد الامر ، بل يكفي سائر الدواعي أيضا.

وثانيا : ان هذه دعوى لا شاهد عليها ، إذ نحن لا نتعقل ان يكون هناك خصوصية في ذات الامر تقتضي التعبدية ، بحيث يكون ذات الامر يقتضى قصد نفسه تارة ، وأخرى لا يقتضيه ، حتى يكون الأول تعبديا ، والثاني توصليا ، بل الامر في

ص: 153

التعبدي والتوصلي يكون على نسق واحد ، بمعنى انه لا ميز هناك في الذات.

الوجه الثالث :

هو ان تكون التعبدية من كيفيات الامر وخصوصية لاحقة له ، لكن لا لمكان اقتضاء ذاته ذلك حتى يرجع إلى الوجه الثاني ، بل هي لاحقة له من ناحية الغرض ، وليس مرادنا من الغرض في المقام ملاكات الاحكام والمصالح الكامنة في الافعال ، فان تلك المصالح مما لا عبرة بها في باب التكاليف ، بمعنى انها ليست لازمة التحصيل على المكلف ، لان نسبة فعل المكلف إليها نسبة المعدو ليست من المسببات التوليدية - كما أوضحنا ذلك فيما تقدم في بحث الصحيح والأعم - بل الغرض في المقام يكون بمعنى آخر حاصله : ان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، لوضوح ان الغرض من الامر يختلف ، فتارة : يكون الغرض منه مجرد تحقق الفعل من المكلف خارجا على أي وجه اتفق ، وأخرى : يكون الغرض منه تعبد المكلف به وقصد امتثاله ، فيلحق الامر لمكان هذا الغرض خصوصية يقتضى التعبدية ويكون طورا للامر وشأنا من شؤونه ، فيرتفع ح محذور اخذ قصد الامر في المتعلق ، بل اعتبار قصد الامر انما هو لمكان اقتضاء الامر ذلك ، حيث إن الغرض منه يكون ذلك. ولعل هذا المعنى من الغرض هو الذي ذكره الشيخ قده في بحث الأقل والأكثر ، وان كان لا يساعد عليه ذيل كلامه عند قوله فان قلت ، فراجع ذلك المقام مع ما علقناه عليه.

وعلى كل حال يرد على هذا الوجه :

أولا : ما أوردناه على الوجه الثاني من أن ذلك انما يتم على مقالة صاحب الجواهر باعتبار خصوص قصد الامر في العبادة ، ونحن قد أبطلنا ذلك ، وقلنا : بكفاية قصد الجهة أو الأعم من ذك.

ثانيا : ان ذلك مما لا يرفع الاشكال ، لوضوح ان الامر هو بنفسه لا يمكن ان يتكفل الغرض منه ويبين المقصود منه ، بل لابد هناك من بيان آخر يدعو إلى الغرض ، ويبين ما هو المقصود من الامر والغرض الداعي إليه. (1) .

ص: 154


1- قد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال ، فراجع ما يأتي في الهامش في هذا المقام - منه.

وحيث قد عرفت عدم سلامة هذه الوجوه ، فيقع الكلام ح في الامر الثالث من الأمور التي أردنا تمهيدها.

الامر الثالث :

وهو انه لا أصل في المسألة يعين أحد طرفيها ، فلا أصالة التوصلية تجرى في المقام ولا أصالة التعبدية فيما لم يحرز توصليته وتعبديته. اما جريان أصالة التوصلية ، فلا نعقل لها معنى سوى دعوى : ان اطلاق الامر يقتضى التوصلية ، وحيث قد عرفت امتناع التقييد فلا معنى لدعوى اطلاق الامر ، فان امتناع التقييد يستلزم امتناع الاطلاق ، بناء على ما هو الحق : من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، كما هو طريقة سلطان المحققين ومن تأخر عنه.

وعليه يبتنى عدم استلزام التقييد للمجازية. والسر في ذلك : هو ان الاطلاق انما يستفاد ح من مقدمات الحكمة ، وليس نفس اللفظ متكفلا له ، كما هو مقالة من يقول : بان التقابل بينهما تقابل التضاد ، وعليه يبتنى كون التقييد مجازا. ومن مقدمات الحكمة عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد البيان ، ومن المعلوم : ان هذه المقدمة انما تصح فيما إذا أمكن بيان القيد حتى يستكشف من عدم بيانه عدم اعتباره ، لا فيما إذا لم يمكن كما فيما نحن فيه ، فان عدم بيان ذلك انما يكون لعدم امكانه لا لعدم اعتباره كما هو واضح. بل لو قلنا : ان التقابل بين الاطلاق والتقييد هو التضاد - كما هو مسلك من تقدم على سلطان المحققين - كان الامر كذلك ، فان الاطلاق يكون ح عبارة عن الارسال والتساوي في الخصوصيات ، وهذا انما يكون إذا أمكن التقييد بخصوصية خاصة ، والا فلا يمكن الارسال كما هو واضح.

وبالجملة : بعد امتناع التقييد بقصد الامر وغير ذلك من الدواعي لا يمكن القول بأصالة التوصلية اعتمادا على الاطلاق ، إذ لا اطلاق في البين يمكن التمسك به.

والعجب من الشيخ قده ، فإنه مع تسليمه كون امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق ، ولكن مع ذلك يقول في المقام : ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، ولم يظهر لنا المراد من الظهور ، إذ لا نعقل للظهور معنى سوى الاطلاق ، والمفروض انه هو

ص: 155

بنفسه قد أنكر الاطلاق ، فراجع عبارة التقرير في هذا المقام ، فإنها ربما لا تخلو عن توهم التناقض (1).

وعلى كل حال ، لا موقع لأصالة التوصلية ، كما أنه لا موقع لأصالة التعبدية ، كما ربما يظهر من بعض الكلمات ، نظرا إلى أن الامر انما يكون محركا لإرادة العبد نحو الفعل ، ولا معنى لمحركية الامر سوى كون الحركة عنه ، إذ لولا ذلك لما كان هو المحرك بل كان المحرك هو الداعي الاخر.

والحاصل : ان الامر بنفسه يقتضى ان يكون محركا للإرادة نحو الفعل ، فإذا كانت حركة العبد نحو الفعل لمكان الامر كان الامر محركا ، والا لم يكن الامر محركا ، وهذا خلف لما فرض ان الامر هو المحرك ، ولا نعنى بقصد الامتثال سوى كون الحركة عن الامر هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

اما أولا : فلان ذلك يقتضى انحصار التعبدية بقصد الامر ، كما هو مقالة صاحب الجواهر ، والحال انه لا ينحصر التعبدية بذلك كما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 156


1- ذكر الشيخ قدس سره في التقريرات حسب ما نقل عنه المحقق المقرر : « ويظهر من جماعة أخرى ان الامر ظاهر في التوصلية ولعله الأقرب ». ثم قال بعد سطور : « واحتج بعض موافقينا على التوصلية بان اطلاق الامر قاض بالتوصلية .. » ورده : بان « الاستناد إلى اطلاق الامر في مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد مما لا يتحقق الا بعد الامر. توضيحه : ان الاطلاق انما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد مما يصح ان يكون قيدا له ، كما إذا قيل : أكرم انسانا ، أو أعتق رقبة ، فإنه يصح ان يكون المطلق في المثالين مقيدا بالايمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل في الامر فيها ، وأما إذا كان القيد من القيود التي لا يتحقق الا بعد اعتبار الامر في المطلق ، فلا يصح الاستناد إلى اطلاق اللفظ في دفع الشك في مثل التقييد المذكور ، وما نحن فيه من قبيل الثاني .. ». ثم أفاد في آخر البحث : « فالحق الحقيق بالتصديق هو ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، إذ ليس المستفاد من الامر الا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل على ما هو مدلول المادة ، وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج ، فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل ». راجع مطارح الأنظار - ص 59 - 58

وثانيا : ان ذلك مغالطة ، لان الامر انما يكون محركا نحو الفعل ، واما كون هذه الحركة عنه وبداعيه فهو امر آخر لا يمكن ان يكون الامر متعرضا له. والحاصل : ان الامر لا يكاد يكون متعرضا لدواعي الحركة وانه عنه أو عن غيره ، فان الامر انما يدعو للفعل ، واما دواعي الفعل فلا يكون الامر متكفلا له فتأمل جيدا. فدعوى أصالة التعبدية من هذه الجهة لا يمكن.

كما أن دعوى أصالة التعبدية - من جهة دلالة قوله تعالى : (1) « وما أمروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين » الخ ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : (2) انما الأعمال بالنيات ، وغير ذلك من الآيات والاخبار التي استدلوا بها على اعتبار التعبد في الأوامر - واضحة الفساد ، لوضوح ان قوله تعالى : وما أمروا - انما يكون خطابا للكفار ، كما يدل عليه صدر الآية ، ومعنى الآية : ان الكفار لم يؤمروا بالتوحيد الا ليعبدوا اللّه ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غير مشركين ، وهذا المعنى كما ترى أجنبي عما نحن فيه ، مع أنه لو كان ظاهرا فيما نحن فيه لكان اللازم صرفه عن ذلك ، لاستلزامه تخصيص الأكثر لقلة الواجبات التعبدية بالنسبة إلى الواجبات التوصلية ، فتأمل فإنه لو عم الامر للمستحبات لأمكن منع أكثرية التوصليات بالنسبة إلى التعبديات لو لم يكن الامر بالعكس لكثرة الوظائف التعبدية الاستحبابية.

واما قوله (3) صلی اللّه علیه و آله : انما الأعمال بالنيات ، فهولا دلالة له على المقام ، فان مساقه كمساق قوله : لا عمل الا بالنية ، وليس فيه دلالة على أن كل عمل لابد فيه من نية التقرب ، بل معناه ان العمل المفروض كونه عبادة لا يقع الا بالنية ، أو يكون معناه كمعنى قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (4) لكل امرء ما نوى ، فتأمل جيدا. وعلى كل حال ، لا دلالة في الاخبار والآيات على اعتبار قصد الامتثال في الأوامر.

ص: 157


1- سورة البينة ، الآية 5.
2- راجع الوسائل ، الجزء الأول ، باب 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث 7 ص 34.
3- نفس المصدر ، حديث 1 ص 33.
4- نفس المصدر ، حديث 10 ص 35.
الامر الرابع :

وربما يتوهم من بعض كلمات الشيخ - على ما في التقرير - التشبث (1) بقاعدة ( الاجزاء العقلية ) لأصالة التوصلية وعدم اعتبار قصد الامر ، حيث إن الامر لم يتعلق الا بذات الاجزاء والشرائط ، من دون ان يكون له تعلق بقصد الامتثال ولا غير ذلك من الدواعي ، وح يكون اتيان ما تعلق به الامر مجزيا عقلا ، فيسقط الامر ح ولو مع عدم قصد امتثاله هذا.

ولكن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان قاعدة ( الاجزاء العقلي ) انما تكون فيما إذا اتى بتمام ما يعتبر في المأمور به ، وهذا انما يكون بعد تعيين المأمور به ، ومن مجرد تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط لا يمكن تعيين المأمور به ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يتعلق الامر بمثل قصد الامتثال ، ومع ذلك كيف يمكن تعيين المأمور به من نفس تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط؟ حتى يقال : ان اتيانها يكون مجزيا عقلا.

نعم لو كان للامر اطلاق أمكن تعيين المأمور به من نفس الاطلاق حسب ما يقتضيه مقدمات الحكمة ، والمفروض انه ليس للامر اطلاق بالنسبة إلى قصد الامتثال ، لامتناع التقييد به الملازم لامتناع الاطلاق كما تقدم ، فالامر من هذه الجهة يكون مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، كما كان بالنسبة إلى العلم والجهل به مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، هذا بحسب عالم الجعل والتشريع.

ص: 158


1- نظير قوله : قدس سره « وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل. » وكذا ما افاده في جواب المحقق الكرباسي القائل بان ظاهر الامر قاض بالتعبدية : « فان أريد بالامتثال مجرد عدم المخالفة والآتيان بالفعل فهو مسلم ، لكنه ليس بمفيد ، وان أريد به الاتيان بالفعل على وجه التقرب ، كان يكون الداعي إلى الفعل نفس الامر فهو ممنوع ، والقول بان العقل قاض بذلك ليس بسديد إذ غاية ما يحكم به العقل هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج فان استند في ذلك إلى أن الاتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير ان يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعد من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل على ما عرفت ، نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به وليس المستفاد من الامر الا مطلوبية الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الاتيان به كما لا يخفى ... » ( راجع مطارح الأنظار ص 58 )

واما بحسب الثبوت والواقع ، فلا بد اما من نتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد. والسر في ذلك : هو انه في الواقع وفي عالم الثبوت ، اما ان يكون ملاك الحكم والجعل محفوظا في كلتا حالتي العلم والجهل وكلتا حالتي قصد الامتثال وعدمه ، واما ان يكون مختصا في أحد الحالين ، فالأول يكون نتيجة الاطلاق ، والثاني يكون نتيجة التقييد.

وليس مرادنا من الاهمال هو الاهمال بحسب الملاك ، فان ذلك غير معقول ، بل المراد الاهمال في مقام الجعل والتشريع حيث لا يمكن فيه الاطلاق والتقييد كما تقدم.

إذا عرفت ذلك كله ، فيقع الكلام في كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه نتيجة التقييد من دون ان يستلزم فيه محذورا ، وكيفية استكشاف نتيجة الاطلاق وعدم اختيار قصد الامتثال.

فنقول :

اما طريق استكشاف نتيجة الاطلاق فليس هو على حذو طريق استكشاف الاطلاق في سائر المقامات بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على الحكم ، فان استكشاف الاطلاق في تلك المقامات انما هو لمكان السكوت في مقام البيان بعد ورود الحكم على المقسم ، كقوله : أعتق رقبة ، التي تكون مقسما للايمان وغيره ، فحيث ورد الحكم على نفس المقسم وسكت عن بيان خصوص أحد القسمين مع أنه كان في مقام البيان ، فلابد ان يكون مراده نفس المقسم ، من دون اعتبار خصوص أحد القسمين وهو معنى الاطلاق.

ولكن هذا البيان في المقام لا يجرى ، إذ الحكم لم يرد على المقسم ، لان انقسام الصلاة إلى ما يقصد بها امتثال الامر وما لا يقصد بها ذلك انما يكون بعد الامر بها ، فليست الصلاة مع قطع النظر عن الامر مقسما لهذين القسمين ، حتى يكون السكوت وعدم التعرض لاحد القسمين دليلا على الاطلاق. نعم سكوته عن اعتبار قصد الامتثال في مرتبة تحقق الانقسام يستكشف منه نتيجة الاطلاق ، وبعبارة أخرى : عدم ذكر متمم الجعل - على ما سيأتي بيانه - في المرتبة القابلة لجعل المتمم

ص: 159

يكون دليلا على نتيجة الاطلاق.

والفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام ، واستكشاف الاطلاق في سائر المقامات ، هو ان من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، وهذا بخلاف المقام ، فان من عدم ذكر متمم الجعل لا يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يكون مراده من الامر هو الاطلاق ، بل من عدم ذكر متمم الجعل يستكشف انه ليس له مراد آخر سوى ما تعلق به الامر.

وبعبارة أخرى : من عدم ذكر متمم الجعل في مرتبة وصول النوبة إليه يستكشف ان الملاك لا يختص بصورة قصد الامتثال ، بل يعم الحالين فيحصل نتيجة الاطلاق.

واما كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه تحصل نتيجة التقييد ، فقد حكى عن الشيخ قده : الترديد فيه بالنسبة إلى الغرض أو الجعل الثانوي ، بمعنى ان اعتبار قصد الامتثال ، اما ان يكون من ناحية الغرض ، واما ان يكون من ناحية الجعل الثانوي. اما اعتبار قصد الامتثال من ناحية الغرض ، فيمكن ان يقرب بوجهين قد تقدمت الإشارة إليهما.

الوجه الأول :

هو ان يكون المراد من الغرض ، الغرض من الامر عند ارادته ، بان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، فيكون امره لان يتعبد به.

وقد تقدم فساد هذا الوجه ، وانه مما لا يرجع إلى محصل ، لما فيه :

أولا : من أن ذلك يتوقف على خصوص قصد امتثال الامر ونحن لا نقول به.

وثانيا : (1) ان مجرد كون غرضه ذلك مما لا اثر له ما لم يلزم به المكلف ويؤمر

ص: 160


1- وقد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال بعد ذلك ، وقال : انه لو علم أن غرض المولى من الامر التعبد به فنفس ذلك يكفي في الزام العقل به ، لاندراجه تحت الكبرى العقلية من لزوم الإطاعة ، ومن المعلوم : انه لو كان الامر بهذا الغرض كان اطاعته بقصد امتثاله ، فيكون الغرض في عرض الامر ومرتبته ملقى إلى المكلف ، وكما أن الامر الملقى يجب اطاعته كذلك الغرض الملقى يجب اطاعته. هذا وقد تقدم سابقا ان هناك اشكالا آخر علی اعتبار الغرض بهذا الوجه، وهو انّ الأمر لا يمكن ان يتكفل بيان الغرض منه، ولكن هذا الاشكال سهل الجواب، لأنه يمكن ان يكون غرضه من الأمر ذلك غايته انّه تحتاج الی كاشف يكشف عن انّ غرضه من الأمر كان ذلك، فتأمل - منه.

به ويقع تحت دائرة التكليف ، والا فلا يزيد هذا المعنى من الغرض عن الغرض بمعنى المصلحة الذي سيأتي انه مما لا اثر له.

الوجه الثاني :

ان يكون مراده من الغرض المصالح التي هي ملاكات الاحكام ، فيكون اعتبار قصد التقرب والامتثال لأجل ان المصلحة الواقعية لا تحصل الا بذلك ، وحينئذ لا يحتاج إلى جعل مولوي لاعتبار قصد الامتثال ، بل نفس المصلحة الواقعية تقتضي قصد الامتثال ، فلو علم أن المصلحة الواقعية لا تحصل الا بقصد الامتثال فهو ، وان شك فسيأتي الكلام فيه.

وهذا الوجه أردء من سابقه إذ المصالح الواقعية انما تكون مناطات للأوامر وليست هي لازمة التحصيل ، لعدم كونها من المسببات التوليدية لفعل المكلف ، كما يدل على ذلك عدم تعلق التكليف بها في شيء من المقامات. وقد تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الصحيح والأعم فراجع (1). وحينئذ نفس العلم بالمصلحة لا يكفي في الزام المكلف بشيء الا من جهة استكشاف الحكم المولوي لمكان انه يقبح على الحكيم تفويت المصلحة على العباد ، فلو لم يستكشف ذلك كان العلم بالمصلحة مما لا اثر له ، فاثر العلم بالمصلحة ليس الا استكشاف الجعل المولوي لمكان الملازمة. فيرجع الكلام إلى أن الواجب على المكلف هو ما تعلق الجعل به ، لا ما قامت المصلحة به من دون جعل مولوي ومن دون تعلق الامر الشرعي بالفعل الذي قامت المصلحة به. وحينئذ يبقى الكلام في كيفية تعلق الجعل والامر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كل محذور.

والتحقيق في المقام :

انه ينحصر كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ولا علاج له سوى ذلك ، فلابد 7

ص: 161


1- راجع مباحث الصحيح والأعم من هذا الكتاب ص 67

للمولى الذي لا يحصل غرضه الا بقصد الامتثال من تعدد الامر بعد ما لا يمكن ان يستوفى غرضه بأمر واحد ، فيحتال في الوصول إلى غرضه. وليس هذان الأمران عن ملاك يخص بكل واحد منهما حتى يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل هناك ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد. ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمم الجعل ، فان معناه هو تتميم الجعل الأولى الذي لم يستوف تمام غرض المولى ، فليس للامرين الا امتثال واحد وعقاب واحد.

وبذلك يندفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على من يقول بتعدد الامر.

بما حاصله : ان الامر الأولى ان كان يسقط بمجرد الموافقة ولو مع عدم قصد الامتثال فلا موجب للامر الثاني إذ لايكون له موافقة حينئذ ، وان كان لا يسقط فلا حاجة إليه لاستقلال العقل ح باعتباره الخ ما ذكره في المقام.

وحاصل الدفع : ان الاشكال مبنى على تخيل ان تعدد الامر انما يكون عن ملاك يختص بكل واحد ، وقد عرفت : انه ليس المراد من تعدد الامر ذلك بل ليس هناك الا ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد.

ثم إن متمم الجعل تارة : ينتج نتيجة الاطلاق ، وأخرى : ينتج نتيجة التقييد. فالأول : كمسألة اشتراك الاحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل ، حيث حكى تواتر الاخبار على الاشتراك. والثاني : كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره. وتفصيل الكلام في متمم الجعل باقسامه ذكرناه في بعض مباحث الأصول العملية ، وعلى كل حال ، قد عرفت ان التعبدية انما تستفاد من متمم الجعل ، لا من الغرض بكلا معنييه.

ثم إن هنا طريقا آخر لاستفادة التعبدية بنى عليه بعض الاعلام ، وهو ان قصد الامتثال انما يعتبره العقل في مقام الإطاعة ، حيث إنه من كيفيات الإطاعة التي هي موكولة إلى نظر العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك هذا.

ولكن الانصاف : انه لم نعرف معنى محصلا لهذا الوجه ، فإنه ان أراد ان العقل يعتبر قصد الامتثال من عند نفسه فهو واضح الفساد ، إذ العقل لم يكن مشرعا

ص: 162

يتصرف من قبل نفسه ويحكم بما يريد ، إذ ليس شأن العقل الا الادراك.

وان أراد ان العقل يعتبر ذلك بعد العلم بان ما تعلق الامر به انما شرع لأجل ان يكون من الوظايف التي يتعبد بها العباد ، فهذا ليس معنى اعتبار العقل ذلك من قبل نفسه ، بل العقل ح يستقل بجعل ثانوي للمولى على اعتبار قصد التقرب ، ويكون حكمه في المقام نظير حكمه بوجوب المقدمة ، حيث إنه بعد وجوب ذيها شرعا يستقل العقل بوجوبها أيضا ، بمعنى انه يدرك وجوب ذلك ويكون كاشفا عنه ، لا انه هو يحكم بالوجوب ، فإنه ليس ذلك من شأن العقل. فكذا في المقام ، حيث إنه بعد اطلاع العقل بان وجوب الصلاة مثلا انما هو لأجل ان تكون من الوظايف المتعبد بها ، فلا محالة يدرك ان هناك جعلا مولويا تعلق باعتبار قصد الامتثال ، ويكشف عن ذلك ككشفه عن وجوب المقدمة ، وأين هذا من دعوى كون قصد الامتثال مما يعتبره العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك؟.

وبالجملة : دعوى ان التعبدية من الاحكام العقلية بالمعنى المذكور مما لا يمكن المساعدة عليها ، بل الحق الذي لا محيص عنه ، هو ان التعبدية انما تكون بأمر ثانوي متمم للجعل ، فتأمل في أطراف المقام فإنه من مزال الاقدام.

ثم انه ان علم بالتوصلية والتعبدية فهو ، وان شك فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي : من البراءة ، والاشتغال. فاعلم : انه قد قال بالاشتغال في المقام من لم يقل به عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وربما يبنى ذلك على الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، بجريان البراءة في الأولى دون الثانية.

فينبغي أولا تحقيق الحال في ذلك ، وان كنا قد تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر ، الا انه لا باس بالإشارة إليه في المقام.

فنقول :

ربما يتوهم الفرق بين المحصلات الشرعية وغيرها بما حاصله : ان المحصل ان كان عقليا أو عاديا لا مجال لاجراء البراءة فيه عند الشك في دخل شيء فيه ، لأنه يعتبر في البراءة ان يكون المجهول مما تناله يد الجعل والرفع الشرعي ، والمفروض ان المحصل العقلي والعادي ليس كذلك ، فلو كان احراق زيد واجبا ، وشك في أن

ص: 163

الالقاء الخاص هل يكون موجبا للاحراق أولا؟ كان المرجع هو الاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط ، ولا يجرى فيه حديث الرفع لان ما هو المجعول الشرعي غير مجهول وما هو المجهول غير مجعول شرعي.

وهذا بخلاف ما إذا كان المحصل شرعيا ، كالغسلات بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، حيث إنه لما كان محصلية الغسلات للطهارة بجعل شرعي ، فلو شك في اعتبار الغسلة الثانية أو العصر كان موردا للبرائة ويعمه حديث الرفع ، إذ امر وضعه بيد الشارع ، فرفعه أيضا بيده ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك فساده ، فان المحصلات ليست هي بنفسها من المجعولات الشرعية ، بل لا يمكن تعلق الجعل بها ، إذ السببية غير قابلة للجعل الشرعي ، فإنها عبارة عن الرشح والإفاضة ، وهذا مما لا تناله يد الجعل التشريعي ، كما أوضحناه في محله ، بل المجعول الشرعي هو نفس المسببات وترتبها عند وجود أسبابها ، فالمجعول هو الطهارة عقيب الغسلات لا سببية الغسلات للطهارة ، وكذا المجعول هو وجوب الصلاة عند الدلوك ، لا سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، وح لا يمكن اجراء حديث الرفع عند الشك في دخل شيء في المحصل ، لما عرفت : من أنه يعتبر في المرفوع ان يكون مجعولا شرعيا ، والمجعول المجهول في المقام ، هو ترتب المسبب على الفاقد للمشكوك ، واجراء حديث الرفع في هذا ينتج ضد المقصود ، إذ يرفع ترتب المسبب على الأقل وينتج عدم حصول المسبب عقيب السبب الفاقد للخصوصية المشكوكة ، وهذا كما ترى يوجب التضييق وينافي الامتنان ، مع أن الرفع انما يكون للامتنان والتوسعة على العباد.

والحاصل : ان الامر في باب المحصلات ومتعلقات التكاليف يختلف ، فان في باب متعلقات التكاليف يكون تعلق التكليف بالأقل معلوما وبالأكثر مشكوكا ، فيعمه حديث الرفع ، لان في رفعه منة وتوسعة. وهذا بخلاف باب المحصلات ، فان ترتب المسبب على الأكثر معلوم وعلى الأقل مشكوك ، فما هو معلوم لا يجرى فيه حديث الرفع ، وما هو مشكوك لا موقع له فيه ، لاستلزام جريانه الضيق على العباد ، مع أنه ينتج عكس المقصود.

ص: 164

هذا إذا لم نقل بجعل السببية. وأما إذا قلنا محالا بجعل السببية فكذلك أيضا ، لان سببية الأكثر الواجد للخصوصية المشكوكة معلومة ، فلا يجرى فيه حديث الرفع ، وسببية الأقل مشكوكة ، ورفعها ينتج عدم جعله سببا ، وهذا يوجب التضييق.

نعم لو قلنا : بجعل الجزئية مضافا إلى جعل السببية أمكن جريان البراءة حينئذ ، لان جزئية الغسلة الثانية مثلا أو شرطية العصر مشكوك ، وفرضنا انها تنالها يد الجعل ، فيعمها حديث الرفع ويوجب رفع جزئيتها للسبب ، فيكون السبب هو الفاقد للعصر أو الغسلة الثانية ، ولكن هذا يستلزم الالتزام بمحال في محال ، محال جعل السببية ، ومحال جعل الجزئية فتأمل.

فتحصل : انه لافرق بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي ، وانه في الكل لا مجال الا للاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط والامتثال.

ثم انه لا فرق في المحصلات ، بين ان تكون مسبباتها من الواجبات الشرعية كالطهارة بالنسبة إلى الغسلات ، أو كان من الملاكات ومناطات الاحكام والمصالح التي تبتنى عليها ، بناء على كونها من المسببات التوليدية وان منعناه سابقا أشد المنع ، ولكن بناء على كونها من المسببات التوليدية يكون حالها بالنسبة إلى الافعال التي تقوم بها حال الطهارة بالنسبة إلى الغسلات التي تحصل بها ، في عدم جريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصولها. مع أنه لو سلم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، وقلنا بجريان البراءة في المحصلات الشرعية ، لا يمكن القول بها عند الشك في دخل شيء في حصول الملاك ، بناء على كونه من المسببات التوليدية ، وذلك : لان محصلية الصلاة مثلا للملاك ليس بجعل شرعي ، بل هو امر واقعي تكويني ، وليس من قبيل محصلية الغسلات للطهارة حيث تكون بجعل شرعي ، لوضوح ان سببية الصلاة للنهي عن الفحشاء ليس بجعل شرعي ، فيكون حال الصلاة بالنسبة إلى النهى عن الفحشاء كحال الأسباب العقلية بالنسبة إلى مسبباتها وانه لا مجال لجريان البراءة فيها ، وحينئذ ينسد جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 165

فان قلت :

نعم وان كان دخل الصلاة في حصول الملاك أمرا واقعيا تكوينيا ، الا ان الامر لما تعلق بالصلاة ووقعت هي مورد التكليف ، كان جريان البراءة فيما شك في اعتباره في الصلاة بمكان من الامكان.

والحاصل : انه فرق في باب الأسباب والمسببات ، بين تعلق التكليف بالمسبب كقوله تعالى : (1) « وثيابك فطهر » ، وبين تعلقه بالسبب كالصلاة وغيرها مما يكون سببا لحصول الملاك ، حيث إن التكليف انما تعلق بنفس الأسباب ، لا المسببات التي هي عبارة عن الملاكات. فان تعلق التكليف بالمسبب فلا مجال لجريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصوله ، كما إذا شك في دخل الغسلة الثانية أو العصر في حصول الطهارة ، لان متعلق التكليف معلوم ، والشك انما هو في ناحية الامتثال ، فالمرجع أصالة الاشتغال لا البراءة. وهذا بخلاف ما إذا تعلق التكليف بالسبب ، فإنه يكون ح للسبب بماله من الاجزاء والشرائط حيثيتان : حيثية دخله في حصول الملاك ، وحيثية تعلق التكليف به ، والبرائة وان لم تجر فيه من الحيثية الأولى لأنها ليست جعلية بل هي واقعية تكوينية ، الا انها تجرى فيه من الحيثية الثانية ، لرجوع الشك فيها إلى الشك في التكليف ، وبعد اخراج المشكوك كالسورة مثلا عن تحت دائرة الطلب والتكليف يكون المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، وتخرج الحيثية الأولى عن اقتضائها الاشتغال ، ببركة جريان البراءة عن الحيثية الثانية.

وبذلك يحصل الفرق ، بين قصد الامتثال المعتبر في العبادة ، وبين سائر الأجزاء والشرائط ، فان قصد الامتثال لما لم يتعلق به الطلب لاستحالته على ما عرفت ، بل كان مما يعتبره العقل في حصول الطاعة ، كان المرجع عند الشك في اعتباره هو الاشتغال ، لعدم تعلق التكليف بناحية السبب ، فلو شك في حصول الملاك بدون قصد الامتثال كان اللازم عليه قصد الامتثال ، للشك في حصوله بدون

ص: 166


1- سورة المدثر ، الآية 4

ذلك من دون ان يكون له مؤمن شرعي. وهذا بخلاف سائر الأجزاء والشرائط مما أمكن تعلق الطلب به ، فإنه لمكان امكان ذلك لو شك في تعلق الطلب بالسورة كان المرجع هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، وبعد جريان البراءة يحصل المؤمن الشرعي عن الشك في حصول الملاك ، لان لازم خروج المشكوك عن دائرة الطلب ، هو كون المحصل للملاك خصوص الصلاة بلا سورة مثلا.

قلت :

يرد على ذلك.

أولا : انه لا فرق في باب الأسباب والمسببات بين تعلق التكليف بنفس المسبب أو تعلقه بالسبب ، لأنه لايكون السبب بما هو فعل جوارحي متعلق التكليف ، بل هو معنون بمسببه التوليدي يكون متعلق التكليف ، فليس الامر بالغسل بما هو هو وبما انه اجراء الماء على المحل مطلوبا ، بل بما انه افراغ للمحل عن النجاسة الذي هو عبارة عن الطهارة وقع متعلق الطلب.

ومن هنا قيل - كما في المعالم - ان البحث عن وجوب المقدمة السببية قليل الجدوى ، وليس ذلك الا لان تعلق التكليف بكل من السبب والمسبب عين تعلقه بالآخر ، وحينئذ لا يجدى تعلق التكليف بالسبب في جريان البراءة ، إذ ليس السبب بما هو متعلق التكليف ، بل بما هو معنون بالمسبب ومتولد منه قد تعلق التكليف به ، فليس هناك حيثيتان : حيثية دخله في حصول المسبب ، وحيثية تعلق التكليف به ، بل ليس هناك الا حيثية واحدة ، وهي حيثية دخله في حصول المسبب وقد تعلق التكليف به من نفس تلك الحيثية ، والمفروض ان الشك من تلك الحيثية راجع إلى الشك في الامتثال الذي لا مجال فيه للبرائة ، فتعلق التكليف بالصلاة انما يكون من حيثية دخلها بمالها من الاجزاء والشرائط في الملاك ، فعند الشك في دخل السورة في الملاك يلزم الاحتياط.

وثانيا : هب ان هناك حيثيتين ، الا ان إحدى الحيثيتين تقتضي الاشتغال والأخرى لا تقتضيه ، ومن المعلوم : ان ما ليس له الاقتضاء لا يمنع عن اقتضاء ما فيه الاقتضاء ، فلو اجتمع في شيء واحد جهتان : جهة تقتضي الاشتغال ، وجهة تقتضي

ص: 167

البراءة ، فالاعتماد على الجهة التي تقتضي الاشتغال ، لان عدم المقتضى لا يمكن ان يزاحم ما فيه المقتضى.

واما دعوى : ان مقتضى اجراء البراءة عن تعلق التكليف بالسورة ، هو ان المجعول الشرعي وما هو المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، فلا يبقى مجال لدعوى دخل السورة في الملاك حتى تكون هذه الحيثية مقتضية للاشتغال ، بل هذه الحيثية تنعدم ببركة اجراء البراءة في الحيثية الأخرى.

فهي في غاية السقوط ، لابتنائها على اعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به ، إذ لا فرق في الأصل المثبت ، بين باب اللوازم والملزومات ، وبين باب الملازمات.

وبعبارة أخرى : كما أن اثبات الحكم الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي لمؤدى الأصل المثبت - كاثبات الآثار المترتبة على انبات اللحية الملازم للحيوة باستصحاب الحياة - كذلك لو ترتب جعل شرعي على جعل آخر أو نفى جعل آخر وكان مؤدى الأصل اثبات أحد الجعلين أو نفيه - كما فيما نحن فيه - لا يمكن اثبات ذلك الجعل الشرعي الا على القول بالأصل المثبت ، فتأمل في المقام جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القول بالاشتغال عند الشك في اعتبار قصد القربة لمكان الشك في حصول الملاك مما لا يرجع إلى محصل ، لعدم كون الملاكات من المسببات التوليدية حتى يلزم تحصيلها على المكلف ، بحيث لو شك في حصولها لزمه الاحتياط. هذا إذا كان مبنى اعتبار قصد الامتثال هو حيثية دخله في حصول الملاك.

وأما إذا كان مبنى اعتباره أحد الامرين الآخرين ، وهما الغرض بمعناه الاخر - أي الغرض من الامر لان يتعبد به العبد - ومتمم الجعل ( على ما هو الحق عندنا ) فان كان منشأ اعتباره هو غرض الامر ، فالذي ينبغي ان يقال عند الشك في ذلك ، هو الرجوع إلى البراءة ، للشك في أنه امر لذلك. وقد عرفت فيما تقدم : انه لو امر لذلك يكون الغرض من كيفيات الامر وملقى إلى العبد بنفس القاء الامر ويكون ملزما به شرعا ، كما يكون ملزما بتعلق الامر شرعا ، ويندرج الامر على هذا الوجه تحت الكبرى العقلية ، وهي لزوم الانبعاث عن امر المولى على ما مر بيانه ، وحينئذ لو

ص: 168

شك في أنه هل كان غرضه من الامر تعبد المكلف به أو لم يكن غرضه ذلك كان الشك راجعا إلى الزام شرعي فينفي بالأصل.

والحاصل : ان الامر يدور بين الأقل والأكثر ، لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الامر بالفعل ، فيكون في التعبدي امر زائد اراده المولى من المكلف. وليس المقام من دوران الامر بين المتباينين ، بدعوى انا نعلم أن للمولى غرضا ولكن نشك في أن غرضه من الامر نفس المتعلق أو ان غرضه تعبد المكلف بأمره ، ودلك : لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الغرض بالفعل ، وفي التعبدي يكون غرض زائد على ذلك ، وهو تعبد المكلف بأمره ، فيكون الامر من الدوران بين الأقل والأكثر.

نعم يمكن ان يقال : انه بالنسبة إلى فروع التعبد : من قصد الوجه والتميز وغير ذلك ، يكون الأصل هو الاشتغال ، للشك في حصول المسقط المفروض انه غرض المولى بدون ذلك.

وبالجملة : فرق بين الشك في أصل التعبد ، وبين الشك فيما يحصل به التعبد ، فان الأول مجرى البراءة والثاني مجرى الاشتغال ، فتأمل.

هذا بناء على أن يكون التعبد جائيا من ناحية الغرض. وأما إذا كان لمتمم الجعل ، فعند الشك يكون المرجع هو البراءة مط ، سواء كان الشك في أصل التعبد أو فروع التعبد ، لرجوع الشك إلى الشك في قيد زائد على كل حال كما لا يخفى. وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في مسألة التعبدية والتوصلية.

ثم انه كان المناسب ان يستوفى اقسام الواجب : من كونه تعبديا أو توصليا ، وكونه مط أو مشروطا ، وكونه عينيا أو كفائيا ، وكونه تعيينيا أو تخييريا ، إلى غير ذلك من الأقسام المتصورة فيه ، ثم بعد ذلك يذكر مسألة الاجزاء ، والمرة والتكرار ، لان هذه تقع في مرحلة سقوط التكليف ، وذلك يقع في مرحلة ثبوت التكليف ، وتفرع الأول على الثاني واضح ، ولكن الاعلام لم يسلكوا هذا المسلك وقدموا ما حقه التأخير وأخروا ما حقه التقديم. كما أنهم ذكروا تقسيم الواجب إلى المط والمشروط في بحث مقدمة الواجب ، مع أن ذلك المبحث متكفل لحال المقدمة وأقسامها ، لا لاقسام الواجب ، وتقسيم المقدمة إلى الوجوبية والوجودية وان كان باعتبار اطلاق وجوب

ص: 169

ذيها واشتراطه ، الا ان ذلك لا يوجب البحث عنه في ذلك المقام. فالأولى : ان يستوفى اقسام الواجب أولا ، ثم بعد ذلك يبحث عن مسألة الاجزاء وغيرها مما يقع في مرحلة السقوط ، وان كان ذلك على خلاف ما رتبه الاعلام في الكتب الأصولية ، ولكن الامر في ذلك سهل.

وعلى كل حال ينقسم الواجب ، إلى كونه مطلقا ومشروطا ، وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم أمور :

الأول :

قسم أهل المعقول القضية إلى كونها عقلية ، وطبيعية ، وحقيقة ، وخارجية. ولا يتعلق لنا غرض بالعقلية والطبيعية ، وانما المهم بيان الفرق بين الخارجية والحقيقية ، وما يختلفان فيه بحسب الآثار والاحكام ، حتى لا يختلط أحدهما بالأخرى ولا يرتب ما لأحدهما على الأخرى ، كما وقع هذا الخلط في جملة من الموارد كما نشير إليه انشاء اللّه تعالى.

فنقول : القضية الخارجية عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على شخص خاص ، بحيث لا يتعدى ذلك الوصف والحكم عن ذلك الشخص إلى غيره وان كان مما ثلاله في الأوصاف ، ولو فرض انه ثبت ذلك المحمول على شخص آخر كان ذلك لمجرد الاتفاق من دون ان يرجع إلى وحدة الملاك والمناط ، بل مجرد المقارنة الاتفاقية ، من غير فرق في ذلك بين ان تكون القضية خبرية ، أو طلبية ، كقولك : زيد قائم ، أو أكرم زيدا. ومن غير فرق أيضا ، بين القاء القضية بصورة الجزئية ، أو القائها بصورة الكلية ، نحو كل من في العسكر قتل وكل ما في الدار نهب ، إذ القائها بصورة الكلية لا يخرجها عن كونها خارجية ، إذ المناط في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص لا على العنوان ، كما سيأتي في بيان القضية الحقيقية. وهذا لا يتفاوت بين وحدة الشخص وتعدده كما في المثال ، بعد ما لم يكن بين الأشخاص جامع ملاكي أوجب اجتماعهم في الحكم ، بل كان لكل مناط يخصه غايته انه اتفق اجتماعهم في ثبوت المحمول كما في المثال ، حيث إن ثبوت القتل لكل من زيد وعمرو وبكر كان لمحض الاتفاق واجتماعهم في المعركة ، و

ص: 170

الا لم يكن مقتولية زيد بمناط مقتولية عمرو ، بل زيد انما قتل لمناط يخصه ، حسب موجبات قتله من خصوصياته وخصوصيات القاتل ، وكذا مقتولية عمرو.

وبالجملة : العبرة في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص وان كانت بصورة القضية الكلية ، مثل كل من في العسكر قتل ، فإنه بمنزلة زيد قتل ، وعمرو قتل ، وبكر قتل ، وهكذا.

واما القضية الحقيقية : فهي عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على عنوان اخذ على وجه المرآتية لافراده المقدرة الوجود ، حيث إن العناوين يمكن ان تكون منظرة لمصاديقها ومرآة لافرادها ، سواء كان لها افراد فعلية أو لم يكن ، بل يصح اخذ العنوان منظرة للأفراد وان لم يتحقق له فرد في الخارج لا بالفعل ولا فيما سيأتي ، لوضوح انه لا يتوقف اخذ العنوان مرآة على ذلك ، بل العبرة في القضية الحقيقية هو اخذ العنوان موضوعا فيها ، لكن لا بما هو هو حتى يمتنع فرض صدقه على الخارجيات ويكون كليا عقليا ، بل بما هو مرآة لافراده المقدر وجودها بحيث كلما وجد في الخارج فرد ترتب عليه ذلك الوصف والحكم ، سواء كانت القضية خبرية ، أو طلبية ، نحو كل جسم ذو ابعاد ثلاثة ، أو كل عاقل بالغ مستطيع يجب عليه الحج ، فان الحكم في مثل هذا يترتب على جميع الافراد التي يفرض وجودها بجامع واحد وبملاك واحد.

وبذلك تمتاز القضية الخارجية عن القضية الحقيقية ، حيث إنه في القضية الخارجية ليس هناك ملاك جامع وعنوان عام ينطبق على الافراد ، بل كل فرد يكون له حكم يخصه بملاك لا يتعدى عنه ، ومن هنا لا تقع القضية الخارجية كبرى القياس ولا تقع في طريق الاستنباط ، لان القضية الخارجية تكون في قوة الجزئية لا تكون كاسبة ولا مكتسبة ، فلا يصح استنتاج مقتولية زيد من قوله : كل من في العسكر قتل ، لأنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بمن في العسكر وان زيدا منهم ، وبعد علمه بذلك لا حاجة إلى تأليف القياس لاستنتاج مقتولية زيد ، وعلى فرض التأليف يكون صورة قياس لا واقع له ، كقوله : زيد في العسكر وكل من في العسكر قتل فزيد قتل ، لما عرفت : من أنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بقتل زيد ، فلا يكون هذا من الأقيسة المنتجة.

ص: 171

وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فإنها تكون كبرى لقياس الاستنتاج ويستفاد منها حكم الافراد ، كما يقال : زيد مستطيع وكل مستطيع يجب عليه الحج فزيد يجب عليه الحج ، ولا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باستطاعة زيد ووجوب الحج عليه ، كما كان يتوقف العلم بكلية القضية الخارجية على العلم بكون زيد في العسكر وانه قد قتل ، بل كلية الكبرى في القضية الحقيقية انما تستفاد من قوله تعالى (1) « ولله على الناس حج البيت » الخ.

وبما ذكرنا ظهر : ان ما أشكل على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج من استلزامه الدور - حيث إن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والعلم بكلية الكبرى يتوقف على العلم باندراج النتيجة فيها - فإنما هو لمكان الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان في القضية الحقيقية لا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باندراج النتيجة فيها ، بل كلية الكبرى انما تستفاد من مكان آخر كما عرفت. نعم في القضية الخارجية العلم بكلية القضية يتوقف على العلم بما يندرج تحتها من الافراد ، وقد عرفت : ان القضية الخارجية لا تقع كبرى القياس ، ولا يتألف منها القياس حقيقة ، وانما يكون صورة قياس لا واقع له ، فان القضايا المعتبرة في العلوم التي يتألف منها الأقيسة انما هي ما كانت على نحو القضايا الحقيقية ، فيرتفع الاشكال من أصله ، ولا حاجة إلى التفصي عن الدور بالاجمال والتفصيل ، كما في بعض كلمات أهل المعقول.

وقد وقع الخلط بين القضية الخارجية والحقيقية في جملة من الموارد ، كمسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرائط ، وكمسألة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وكمسألة الشرط المتأخر ، وغير ذلك مما يأتي الإشارة إليه كل في محله. فان هذه الفروع كلها تبتنى على تخيل كون القضايا الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، وهو ضروري البطلان ، لوضوح ان القضايا الواردة في الكتاب والسنة انما

ص: 172


1- سورة آل عمران ، 97

هي قضايا حقيقية ، وليست اخبارات عما سيأتي بان يكون مثل قوله تعالى ولله على الناس الخ اخبارا بان كل من يوجد مستطيعا فأوجه عليه خطابا يخصه ، بل انما هي اخبارات عن انشاءات في عالم اللوح المحفوظ. وبالجملة : كون القضايا الشرعية من القضايا الحقيقية واضح لا يحتاج إلى مزيد برهان وبيان.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية وان كانت كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، الا ان ما يرتبط بما نحن فيه من الواجب المشروط والمط ، هي جهات ثلاث :

الجهة الأولى :

ان العبرة في القضية الخارجية ، هو علم الآمر باجتماع الشروط وما له دخل في حكمه ، فلا يوجه التكليف على عمرو مثلا بوجوب اكرام زيد الا بعد علمه باجتماع عمرو لجميع الشروط المعتبرة في حكمه : من العقل ، والبلوغ ، والقدرة ، وغير ذلك مما يرى دخله في مناط حكمه ، ولو فرض ان الآمر كان جاهلا بوجود شرط من شروط صدور الحكم ، كمجئ بكر الذي له دخل في تكليف عمرو بوجوب اكرام زيد ، فلا محالة يعلق حكمه بصورة وجود الشرط ، ويقول : ان جاء بكر فأكرم زيدا ، وتكون القضية الخارجية من هذه الجهة - أي من جهة تعليقها على الشرط - ملحقة بالقضية الحقيقية ، على ما سيأتي بيانه.

والحاصل : ان المدار في صدور الحكم في القضية الخارجية انما هو على علم الآمر باجتماع شروط حكمه وعدم عمله ، فان كان عالما بها فلا محالة يصدر منه الحكم ولو فرض خطأ علمه وعدم اجتماع الشروط واقعا ، إذ لا دخل لوجودها الواقعي في ذلك ، بل المناط في صدور الحكم هو وجودها العلمي ، فان كان عالما بها يحكم وان لم تكن في الواقع موجودة ، وان لم يكن عالما بها لا يحكم وان كانت موجودة في الواقع الاعلى وجه الاشتراط بوجودها ، فيرجع إلى القضية الحقيقية من هذه الجهة ، فلا يعتبر في صدور الحكم في القضية الخارجية الا علم الآمر باجتماع الشرائط.

واما في القضية الحقيقية : فيعتبر فيها تحقق الموضوع خارجا ، إذ الشرط في

ص: 173

القضية الحقيقية هو وجود الموضوع عينا ولا عبرة بوجوده العلمي ، لان الحكم في القضية الحقيقية على الافراد المفروض وجودها ، فيعتبر في ثبوت الحكم وجود الافراد ، ولا حكم مع عدم وجودها ولو فرض علم الآمر بوجودها ، فالحكم في مثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مترتب على واقع العاقل البالغ المستطيع ، لا على ما يعلم كونه عاقلا بالغا مستطيعا ، إذ لا اثر لعلمه في ذلك ، فلو فرض انه لم يعلم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع لترتب حكم وجوب الحج عليه قهرا بعد جعل وجوب الحج على العاقل البالغ المستطيع ، كما أنه لو علم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع وفي الواقع لم يكن كذلك لما كان يجب عليه الحج ، فالمدار في ثبوت الحكم في القضية الحقيقية انما هو على وجود الموضوع خارجا ، من دون دخل للعلم وعدمه في ذلك.

وبذلك يظهر : امتناع الشرط المتأخر ، لأنه بعد ما كان الشيء شرطا وقيدا للموضوع فلا يعقل ثبوت الحكم قبل وجوده ، والا يلزم الخلف وعدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، على ما سيأتي بيانه ، وارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان الوجود العلمي بتحقق الشرائط انما ينفع في القضية الخارجية كما عرفت ، لا في القضية الحقيقية.

نعم في القضية العلم بترتب الملاك والمصلحة على متعلق حكمه له دخل أيضا في صدور الحكم ، الا ان ذلك يرجع إلى باب الدواعي التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، وأين هذا من باب الشروط الراجعة إلى قيود الموضوع كما سيأتي بيانه ، فان العبرة في ذلك انما هو بوجودها العيني ، ولا اثر لوجودها العلمي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الشرط في ثبوت الحكم في القضية الخارجية هو العلم باجتماع شرائط التكليف لا وجودها الواقعي وفي القضية الحقيقية هو وجودها الواقعي لا وجودها العلمي. فهذه إحدى الجهات الثلاث التي تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الجهة الثانية :

هي ان القضية الخارجية لا يتخلف فيها زمان الجعل والانشاء عن زمان ثبوت الحكم وفعليته ، بل فعليته تكون بعين تشريعه وانشائه ، فبمجرد قوله : أكرم

ص: 174

زيدا ، يتحقق وجوب الاكرام ، الا إذا كان مشروطا بشرط لم يحرزه الآمر فتلحق بالقضية الحقيقية من هذه الجهة كما أشرنا إليه ، والا لا يعقل تخلف الانشاء عن فعلية الحكم زمانا ، وان كان متخلفا رتبة نحو تخلف الانفعال عن الفعل.

واما في القضية الحقيقية : فالجعل والانشاء انما يكون أزليا ، والفعلية انما تكون بتحقق الموضوع خارجا ، فان انشائه انما كان على الموضوع المقدر وجوده ، فلا يعقل تقدم الحكم على الموضوع ، لأنه انما انشاء حكم ذلك الموضوع ، وليس للحكم نحو وجود قبل وجود الموضوع حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، كما في بعض الكلمات.

والحاصل : انه فرق بين انشاء الحكم وبين الحكم الانشائي ، والذي تتكفله القضايا الحقيقية الشرعية انما هو انشاء الحكم ، نظير الوصية ، حيث إن الوصية انما هي تمليك بعد الموت ولا يعقل تقدمه على الموت ، لان الذي أنشأ بصيغة الوصية هو هذا أي ملكية الموصى له بعد موته ، فلو تقدمت الملكية على الموت يلزم خلاف ما أنشأ ، ولا معنى لان يقال الملكية بعد الموت الآن موجودة ، لان هذا تناقض. فكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان انشائها عبارة عن جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده ، فما لم يتحقق الموضوع لايكون شيء أصلا ، وإذا تحقق الموضوع يتحقق الحكم لا محالة ولا يمكن ان يتخلف.

فتحصل : انه ليس قبل تحقق الموضوع شيء أصلا حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، إذ ليس الانشاء الا عبارة عن جعل الحكم في موطن وجود موضوعه ، فقبل تحقق موطن الوجود لا شيء أصلا ، ومع تحققه يثبت الحكم ويكون ثبوته عين فعليته ، وليس لفعلية الحكم معنى آخر غير ذلك.

وحاصل الكلام : انه ليس للحكم نحو ان من الوجود يسمى بالانشاء تارة ، وبالفعلي أخرى ، بل الحكم هو عبارة عما يتحقق بتحقق موضوعه ، وهذا هو الذي أنشأ أزلا قبل خلق عالم وآدم ، فلو فرض انه لم يتحقق في الخارج عاقل بالغ مستطيع فلم يتحقق حكم أيضا أصلا ، فالحكم الفعلي عبارة عن الذي أنشأ وليس وراء ذلك شيء آخر ، فلو أنشأ الحكم على العاقل البالغ المستطيع ، فلا محيص من

ص: 175

ثبوت الحكم بمجرد تحقق العاقل البالغ المستطيع ، ولا يعقل ان يتخلف عنه ، فلو توقف ثبوت الحكم وفعليته على قيد اخر كعدم قيام الامارة على الخلاف مثلا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء ، لأنا فرضنا ان ذلك القيد لم يؤخذ في انشائه ، بل انشاء الحكم على خصوص العاقل البالغ المستطيع ، فإذا وجد العاقل البالغ المستطيع ولم يوجد الحكم يلزم ان لا يوجد ما أنشأه وهو محال ، إذ لا يعقل تخلف المنشأ عن الانشاء. ومعنى عدم معقولية تخلف المنشأ عن الانشاء ، هو انه لابد من أن يوجد المنشأ على طبق ما أنشأ وعلى الوجه الذي أنشأه ، فلو أنشأ الملكية في الغد فلابد من وجود الملكية في الغد ، ولا يعقل ان تتقدم عليه أو تتأخر عنه ، بان توجد الملكية قبل الغد أو بعد الغد ، لأنه يلزم تخلف المنشأ من الانشاء ، إذ الذي أنشأ هو خصوص ملكية الغد لا غير ، فكيف تتقدم الملكية على الغد أو تتأخر عنه؟.

وحاصل الكلام : انه لو كان زمام المنشأ بيد المنشى وله السلطنة على ايجاده كيف شاء وباي خصوصية أراد كما هو مفروض الكلام ، فح يدور المنشأ مدار كيفية انشائه ، فله انشائه في الحال كما في البيع الفعلي فلا بد ان يتحقق المنشأ في الحال والا يلزم التخلف ، وله ان ينشأه في الغد فلا بد ان يكون البيع في الغد والا لزم التخلف. وليس الانشاء والمنشأ من قبيل الكسر والانكسار التكويني ، بحيث لا يمكن ان يتخلف زمان الانكسار عن الكسر ، كما ربما يختلج في بعض الأذهان ، ولأجل ذلك تخيل انه لا يعقل تخلف زمان وجود المنشأ عن زمان وجود الانشاء ، فيكف يعقل ان يكون انشاءات الاحكام أزلية ومنشائها تتحقق بعد ذلك عند وجود موضوعاتها في الخارج؟ مع أنه يلزم ان يتخلف زمان الانشاء عن زمان وجود المنشأ لأنه لا يمكن ان يتخلف زمان الوجود عن الايجاد ، وزمان الانكسار عن الكسر ، ولأجل هذه الشبهة ربما وقع بعض في اشكال كيفية تصور كون انشاءات الاحكام أزلية مع عدم وجود منشئاتها في موطن انشائها ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعف الشبهة ، وان قياس باب الانشائيات بباب التكوينيات في غير محله ، فان في التكوينيات زمام الانكسار ليس بيد الكاسر ، بل الذي بيده هو الكسر واما الانكسار فيحصل قهرا عليه.

ص: 176

وهذا بخلاف باب المنشئات ، فإنها أمور اعتبارية ، ويكون زمامها بيد المعتبر النافذ اعتباره ، وله ايجادها على أي وجه أراد. فالذي بيده زمام الملكية ، له ان يوجد الملكية في الحال ، وله ان يوجدها في المستقبل كما في الوصية ، فلو أنشأ الملكية في المستقبل بمعنى انه جعل ملكية هذا الشيء لزيد في الغد فلا بد من أن توجد الملكية في الغد ، والا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء.

وكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان زمام الاحكام بيد الشارع ، فله جعلها وانشائها على أي وجه أراد ، فلو جعل الحكم على موضوع ليس له وجود في زمان الجعل بل يوجد بعد الف سنة ، فلابد ان يوجد الحكم عند وجود موضوعه ولا يمكن ان يتخلف عنه. والسر في ذلك : هو انه الآن يلاحظ ذلك الزمان المستقبل ويجعل الحكم في ذلك الزمان ، حيث إن اجزاء الزمان بهذا اللحاظ تكون عرضية كاجزاء المكان ، فكما انه يمكن وضع الحجر في المكان البعيد عن الواضع إذا أمكنه ذلك لطول يده ، كذلك يمكن وضع الشيء في الزمان البعيد لمن كان محيطا بالزمان.

فظهر معنى كون انشاءات الاحكام أزلية ، وان تحقق المنشأ يكون بتحقق الموضوع ولا يلزم منه تخلف المنشأ عن الانشاء ، وانما التخلف يحصل فيما إذا وجد غير ما أنشأه ، اما لمكان الاختلاف في الكيف ، واما لمكان الاختلاف في الزمان ، أو غير ذلك من سائر أنحاء الاختلافات. فتأمل في المقام جيدا ، لئلا ترسخ الشبهة المتقدمة في ذهنك.

فظهر الفرق ، بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، بعدم تخلف زمان الفعلية عن الانشاء في الخارجية نظير الهبة ، وتخلفه في الحقيقية نظير الوصية. فهذه هي الجهة الثانية التي تمتاز إحديهما عن الأخرى.

الجهة الثالثة :

ان السببية المتنازع فيها من حيث كونها مجعولة أو غير مجعولة وان المجعول الشرعي هل هو نفس المسببات عند وجود أسبابها أو سببية السبب ، انما يجرى في القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، لوضوح ان القضايا الخارجية ليس لها موضوع اخذ مفروض الوجود حتى يتنازع في أن المجعول ما هو ، بل ليس فيها الا

ص: 177

حكم شخصي على شخص خاص ، كقول الآمر لزيد اضرب عمروا ، فلا معنى لان يقال : ان المجعول في قوله اضرب عمروا ما هو ، إذ ليس فيه الا حكم وعلم باجتماع شرائط الحكم من المصالح ، والمصالح غير مجعولة بجعل شرعي ، بل هي أمور واقعية تكوينية تترتب على أفعال المكلفين فلم يبق فيها الا الحكم وهو المجعول الشرعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لما اخذ فيها موضوع ورتب الحكم على ذلك الموضوع في ظرف وجوده ، كان للنزاع في أن المجعول الشرعي ما هو ، هل هو الحكم على فرض وجود الموضوع؟ أو سببية الموضوع لترتب الحكم عليه؟ مجال. وان كان الحق هو الأول ، والثاني غير معقول ، على ما أوضحناه في باب الأحكام الوضعية. والغرض في المقام مجرد بيان ان النزاع انما يتأتى فيما إذا كان جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ، ولا يتصور النزاع في القضايا الخارجية لانتفاء الموضوع فيها بالمعنى المتقدم ، أي بمعنى اخذ عنوان الموضوع منظرة ومرآة لافراد المقدر وجودها. فهذه جهات ثلث تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الامر الثاني :

من الأمور التي أردنا رسمها في مبحث الواجب المطلق والمشروط ، هو انه قد عرفت ان القضايا الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، وح تكون الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا واثباتا.

اما ثبوتا ، فلما تقدم من أن القضية الحقيقية عبارة عن ترتب حكم أو وصف على عنوان اخذ منظرة لافراده المقدر وجودها ، فلا يمكن جعل الحكم الا بعد فرض الموضوع ، فالحكم ثبوتا مشروط بوجود الموضوع ، نظير اشتراط المعلول بوجود علته.

واما اثباتا ، والمراد به مرحلة الابراز واظهار الجعل فتارة : يكون الابراز لا بصورة الاشتراط أي لا تكون القضية ، مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : المستطيع يحج. وأخرى : تكون القضية مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : ان استطعت فحج ، وعلى أي تقدير لا يتفاوت الحال ، إذ مآل كل إلى الآخر ، فان مآل الشرط إلى الموضوع ومآل الموضوع إلى الشرط ، والنتيجة واحدة ، وهي عدم تحقق الحكم الا بعد وجود الموضوع والشرط.

ص: 178

نعم يختلف الحال بحسب الصناعة العربية والقواعد اللغوية ، فإنه ان لم تكن القضية مصدرة بأداة الشرط تكن القضية ح حملية طلبية أو خبرية ، وان كانت مصدرة بأداة الشرط تكون القضية الشرطية ، ولكن مآل القضية الحملية إلى القضية الشرطية أيضا ، كما قالوا : ان كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية ، مقدمها وجود الموضوع ، تاليها عنوان المحمول. فقولنا الجسم ذو ابعاد ثلاثة يكون بمنزلة قولنا : كلما وجد في العالم شيء وكان ذلك الشيء جسما فهو ذو ابعاد ثلاثة ، فبالآخرة لا يتفاوت الحال ، بين كون القضية حملية طلبية ، أو شرطية طلبية. كما هو الشأن في الخبرية ، حيث لا يتفاوت الحال فيها ، بين كونها حملية كالمثال المتقدم ، أو شرطية كقوله كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، إذ الحملية ترجع إلى الشرطية ، كما أن نتيجة القضية الشرطية ترجع إلى قضية حملية ، فان النتيجة في قولنا كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، هي عبارة عن وجود النهار عند طلوع الشمس ، فلا فرق ، بين ان نقول : النهار موجود عند طلوع الشمس ، وبين قولنا : كلما طلعت الشمس فالنهار موجود. وقس على ذلك حال القضايا الطلبية ، وان مرجع الحملية منها إلى الشرطية ، والشرطية إلى الحملية ، والنتيجة هي وجود الحكم عند وجود الموضوع والشرط. ومن هنا قلنا : ان الشرط يرجع إلى الموضوع ، والموضوع يرجع إلى الشرط.

فتحصل : انه لافرق ، بين ابراز القضية بصورة الشرطية ، وبين ابرازها بصورة الحملية. نعم بحسب الصناعة ينبغي ان يعلم محل الاشتراط والذي يقع الشرط عليه ، بحسب القواعد العربية عند ابراز القضية بصورة الشرطية.

فنقول : يمكن تصورا ان يرجع الشرط إلى المفهوم الافرادي قبل ورود التركيب والنسبة عليه ، أي يرجع القيد إلى المتعلق الذي هو فعل المكلف في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه ، وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادة الذي ينتج الوجوب المط ، فان معنى رجوع القيد إلى المادة هو لحاظ المتعلق في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه مقيدا بذلك القيد ، وبعد ذلك يرد الحكم عليه بما انه مقيد بذلك القيد ، كما ذا لاحظ الصلاة مقيدة بكونها إلى القبلة أو مع الطهارة وبعد ذلك أوجبها على هذا الوجه. فح يكون وجوب الصلاة مطلقا غير مقيد بقيد ، وان المقيد هو

ص: 179

الصلاة.

ويمكن ان يرجع الشرط إلى المفهوم التركيبي أي إلى النسبة التركيبية ، بمعنى ان تكون النسبة الايقاعية التي تتكفلها الهيئة مقيدة بذلك القيد.

ويمكن ان يكون المنشأ بتلك النسبة أي الطلب المستفاد منها مقيدا بذلك القيد.

ويمكن ان يكون راجعا إلى المحمول المنتسب ، وهذا وان كان يرجع إلى تقييد المنشأ ، الا انهما يفترقان اعتبارا من حيث المعنى الأسمى والحرفي على ما يأتي بيانه.

ثم إن رجوعه إلى المحمول المنتسب تارة : يكون في رتبة انتسابه ، وأخرى : يكون في الرتبة المتأخرة رتبة أو زمانا ، فهذه جملة الوجوه المتصورة في الشرط والقيد ، ولكن بعض هذه الوجوه مما لا يمكن.

وبيان ذلك : هو انهم عرفوا القضية الشرطية بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى ، ومعنى ذلك هو لزوم ان يكون راجعا إلى مفاد الجملة والمفهوم التركيبي ، ولا يصح ارجاعه إلى المفهوم الافرادي ، بل تقييد المفهوم الافرادي انما يكون بنحو التوصيف والإضافة ، لا بأداة الشرط ، فما في التقرير (1) من ارجاع الشرط إلى المادة اشتباه.

ص: 180


1- وربما يختلج في البال : ان رجوع الشرط إلى وجوب الاكرام عبارة عن رجوع الشرط إلى المنشأ الذي قد تقدم انه لا يمكن رجوع الشرط إليه لكونه معنى حرفيا ، إذ المنشأ هو وجوب الاكرام المستفاد من الهيئة ، وكونه في المرتبة المتأخرة عن النسبة الايقاعية لا يخرجه عن كونه معنى حرفيا غير ملتفت إليه عند ايقاع النسبة الطلبية. كما أنه ربما يختلج في البال : عدم امكان رجوع الشرط إلى المادة الواجبة ، لأنه عند ورود الهيئة على المادة ، اما ان ترد عليها غير مشروطة بشرط ، واما ان ترد عليها مشروطة. وعلى الأول : لا يمكن لحوق الاشتراط لها. وعلى الثاني : يرجع القيد إلى المادة الذي أنكرناه. وربما يختلج في البال أيضا : رجوع الشرط إلى ما هو الموضوع في القضية الجزائية ، وهو النهار في مثل النهار موجود إذا كانت القضية خبرية ، والى الفاعل المكلف إذا كانت القضية طلبية ، فيكون المعنى : النهار الذي طلع عليه الشمس موجود ، وزيد المستطيع يحج ، فتأمل جيدا - منه.

وقد حكى عن السيد الكبير الشيرازي قده ، بان المقرر قد اشتبه ولم يصل إلى مطلب الشيخ قده ، وكان نظر الشيخ قده في انكار رجوع الشرط إلى الهيئة إلى أن الانشاء غير قابل للتقييد ، وعلى كل حال لا يهمنا تصحيح ما في التقرير بعد وضوح المطلب ، وان الشرط لا يمكن ان يرجع إلى المفهوم الافرادي ، بل الشرط لابد ان يرجع إلى المفهوم التركيبي ومفاد الجملة ، كما هو ظاهر تعريف القضية الشرطية : بأنها ما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى.

وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى الهيئة بمعناها الايقاعي ، بحيث يرجع الشرط إلى الانشاء ، لوضوح ان الانشاء غير قابل للاشتراط والتعليق ، ولا يتصف بالاطلاق والاشتراط ، وانما يتصف بالوجود والعدم.

وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى المنشأ بالهيئة ، لان الاشتراط يتوقف على لحاظ المعنى اسميا استقلاليا ، ولا يعقل ورود الشرط على المعنى الحرفي ، لا لكون المعنى الحرفي جزئيا وان الموضوع له فيه خاص ، حتى يرد عليه ان المعنى الحرفي ليس بجزئي بل الموضوع له فيه عام كالوضع ، بل لان المعنى الحرفي مما لا يمكن ان يلتفت إليه بما انه معنى حرفي ، لفنائه في الغير وكونه مغفولا عنه في موطن وجوده الذي هو موطن الاستعمال ، على ما تقدم بيانه في مبحث الحروف ، فالمنشأ بهذه الهيئة لا يمكن ان يقيد ، لعدم الالتفات إليه ولا يقع النظر الاستقلالي نحوه ، بل هو مغفول عنه عند القاء الهيئة ، فلا يعقل ان يرجع الشرط إلى مفاد الهيئة الذي هو معنى حرفي.

وكذا لا يعقل ان يرجع الشرط إلى المحمول المنتسب بعد الانتساب في الزمان لاستلزامه النسخ ، إذ لو فرض تأخر الاشتراط عن وجوب الاكرام مثلا زمانا يلزم النسخ كما لا يخفى. وكذا لا يمكن ان يرجع الشرط إلى المحمول في رتبة الانتساب ، سواء أريد من المحمول المتعلق ، وهو الاكرام الذي يحمل على الفاعل ، أو أريد منه الوجوب ، لأنه على كل تقدير يرجع التقييد إلى المفهوم الافرادي. فلا بد من أن يرجع التقييد إلى المحمول المنتسب بوصف كونه منتسبا ، (1) أي وجوب الاكرام أو ه

ص: 181


1- مطارح الأنظار - الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب « إذا ثبت وجوب شيء وشك في كونه مشروطا أو مطلقا .. » ص 46. وقد تكلم صاحب التقريرات حول هذا المعنى في الهداية الخامسة أيضا راجع ص 48 من المصدر. واعلم أن المذكور في « قوامع الفضول » أيضا رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة واستدل له بنفس الوجهين الذين استدل بهما صاحب التقريرات حكاية عن الشيخ قدس سره . راجع قوامع الفضول - المقالة الأولى - مبحث مقدمة الواجب الامر الثاني ، ص 141 - 140. والمحقق الجليل الحاج ميرزا حبيب اله الرشتي قدس سره نسب هذا الوجه في « بدايع الأفكار » إلى الشيخ قدس سره مترددا ، قال : « وقد يجاب عن هذا الاشكال بما أجبنا به عن الاشكال الأول من رجوع القيد إلى المادة ، وكانه يقول به شيخ مشايخنا الأعظم العلامة الأنصاري طاب ثراه وان معنى قوله : أكرم زيدا ان جائك ، أريد منك الاكرام بعد المجيئ فيكون أصل الاكرام مقيدا لا الوجوب المتعلق به حتى يرد : ان التقييد لا يناسب المبهمات .. ». راجع بدايع الأفكار. المقصد الأول من المقاصد الخمسة. المبحث الثالث من مباحث تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط. ص 314. وهذا ما يستفاد منه عدم تفرد صاحب التقريرات في تقرير هذا المعنى من الشيخ قدس سرهما واللّه أعلم.

الاكرام الواجب.

وبعبارة أوضح : الشرط لابد ان يرجع إلى ما هو نتيجة الحمل في القضية الخبرية ، أو نتيجة الطلب في القضية الطلبية. ففي مثل كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يكون المشروط هو وجود النهار ، وفي مثل ان جائك زيد فأكرمه ، يكون المشروط هو الاكرام الواجب أو وجوب الاكرام. والظاهر رجوع كل منهما إلى الاخر ، والسر في لزوم رجوع الشرط إلى مفاد الجملة والمتحصل منها ، هو ما عرفت : من كون القضية الشرطية انما هي تعليق جملة بجملة أخرى ، وهذا لا يستقيم الا ان يرجع الشرط إلى مفاد الجملة الخبرية أو الطلبية ، وهو في القضية الخبرية وجود النهار مثلا ، وفي القضية الطلبية وجوب الاكرام أو الاكرام المتلون بالوجوب ، والنتيجة امر واحد. وعلى كل تقدير يحصل المطلوب ، وهو اخذ الشرط مفروض الوجود ، لان أداة الشرط انما خلقت لفرض وجود متلوها ، ويرجع بالآخرة إلى الموضوع ويكون مفاد ( ان استطعت فحج ) مع ( يجب الحج على المستطيع ) أمرا واحدا ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ص: 182

قد ظهر مما قدمناه : الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية ، حيث إن المقدمة الوجوبية ما كانت واقعة فوق دائرة الطلب ، وتؤخذ مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الطلب ، ولا يمكن وقوعها بعد ذلك تحت دائرة الطلب بحيث يلزم تحصيلها ، للزوم الخلف كما لا يخفى.

وهذا بخلاف المقدمة الوجودية ، فإنها واقعة تحت دائرة الطلب ويلزم تحصيلها.

وبعد ذلك نقول : ان القيود والإضافات التي اعتبرت في ناحية المتعلق أو المكلف على اختلافها ، من حيث كونها من مقولة المكان أو الزمان وغير ذلك من ملابسات الفعل حتى الحال ، لا تخلو اما ان تكون اختيارية تتعلق بها إرادة الفاعل ، واما ان تكون غير اختيارية.

فان كانت غير اختيارية فلا محيص من خروجها عن تحت دائرة الطلب ، إذ لا يعقل التكليف بأمر غير اختياري ، فكل طرف إضافة خارج عن تحت الاختيار لابد من خروجه عن تحت الطلب ويكون الطلب متعلقا بالقطعة الاختيارية ، والقطعة الغير الاختيارية لابد من اخذها مفروضة الوجود واقعة فوق دائرة الطلب ، وتكون ح من المقدمات الوجوبية ويكون الواجب مشروطا بالنسبة إليها.

وأما إذا كانت الملابسات اختيارية وتتعلق بها إرادة الفاعل فوقوعها تحت دائرة الطلب بمكان من الامكان ، كما أن وقوعها فوق دائرة الطلب أيضا بمكان من الامكان ، فتصلح ان تكون مقدمة وجودية بحيث يتعلق الطلب بها ، وتكون لازمة التحصيل كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وتصلح ان تكون مقدمة وجوبية تؤخذ مفروضة الوجود وتكون غير لازمة التحصيل كالاستطاعة في الحج. هذا بحسب عالم الثبوت.

واما في عالم الاثبات فالمتبع هو لسان الدليل وما يستفاد منه بحسب القرائن ومناسبات الحكم والموضوع. فان استفيد منه انه مقدمة وجوبية فهو ، وان استفيد انه مقدمة وجودية كانت لازمة التحصيل. وان لم يمكن استفادة أحد الوجهين من الأدلة ووصلت النوبة إلى الشك ، كان ذلك من الشك بين الواجب المشروط و

ص: 183

المطلق ، وسيأتي ما هو الوظيفة عند الشك في ذلك.

ثم إن القيود ربما يكون لها دخل في أصل مصلحة الوجوب بحيث لا يتم ملاك الامر الا بعد تحقق القيد. وقد تكون لها دخل في مصلحة الواجب ، بمعنى ان فعل الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد تحقق القيد الكذائي ، وان لم يكن ذلك القيد له دخل في مصلحة الوجوب. (1) وهذان الوجهان يتطرقان في جميع القيود الاختيارية وغيرها. مثلا الزمان الخاص يمكن ان يكون له دخل في مصلحة الوجوب ، ويمكن ان لايكون له دخل في ذلك بل له دخل في مصلحة الواجب ، ولا ملازمة بين الامرين ، مثلا خراب البيت يقتضى الامر بالبناء ، وهذا الخراب حصل في أول الصبح ، فمصلحة الامر بالبناء قد تمت وتحققت من أول الصبح ، ولكن البناء والتعمير الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد الزوال.

والحاصل : انه يمكن ان تكون مصلحة الوجوب قد تحققت ، ولكن مصلحة الواجب لم تتحقق الا من بعد مضى زمان ، كما ربما يدعى ذلك في باب الصوم ، حيث يدعى ان المستفاد من الاخبار هو ان مصلحة وجوب الصوم في الغد متحقق من أول الليل ، ولكن المصلحة القائمة بالصوم لا يمكن تحققها الا عند الفجر ، كما ربما يدعى ظهور مثل قوله : إذا زالت الشمس وجب الصلاة والطهور (2) في أن الزوال له دخل في كل من مصلحة الوجوب والواجب.

وعلى كل حال ، إذا كان القيد غير اختياري ، فلا بد من أن يؤخذ مفروض الوجود ، ويكون من الشرائط الوجوبية الواقعة فوق دائرة الطلب ، سواء كان ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب أو كان له دخل في مصلحة الواجب ، وسواء كان ذلك القيد من مقولة الزمان أو كان من سائر المقولات ، إذ العبرة في اخذه مفروض الوجود ، هو كونه غير اختياري غير قابل لتعلق الطلب به ، من غير فرق في ذلك »

ص: 184


1- كما أنه يمكن ان لايكون للخصوصية الكذائية دخل لا في ملاك الوجوب ولا في ملاك الواجب ، فيكون كل من الوجوب والواجب بالنسبة إليه مطلقا ، كطيران الغراب مثلا - منه.
2- الوسائل ، الجزء الأول ، الباب 4 من أبواب الوضوء الحديث 1 ص 261 ولا يخفى ان في الخبر « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة »

بين الزمان وغيره.

وخالف في ذلك صاحب الفصول (1) وقال : بامكان وقوع الطلب فوق قيد غير اختياري إذا لم يكن ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب وان كان له دخل في مصلحة الواجب ، والتزم بامكان كون الطلب والوجوب حاليا وان كان الواجب استقباليا ، وسمى ذلك بالواجب المعلق ، وجعله مقابل الواجب المشروط والمطلق ، وتبعه في ذلك بعض من تأخر عنه ، وعليه بنى لزوم تحصيل مقدماته قبل حضور وقت الواجب إذا كان لا يمكنه تحصيلها في وقته ، كالغسل قبل الفجر في باب الصوم ، فإنه لما كان الوجوب حاليا قبل حضور وقت الواجب كان ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى مقدماته بمكان من الامكان ، ويرتفع اشكال وجوب المقدمة قبل وقت ذيها.

ثم إن صاحب الفصول قد عمم ذلك بالنسبة إلى المقدمة المقدورة ، وقال : بامكان الواجب المطلق فيما إذا كان القيد أمرا اختياريا ، فراجع (2) كلامه في المقام. وعلى كل حال ، قد تبع بعض صاحب الفصول في امكان الواجب المعلق وانه مقابل الواجب المشروط والمط ، الا انه قال : لا ينحصر التفصي عن اشكال وجوب تحصيل المقدمات قبل مجيء وقت الواجب بذلك ، بل يمكن دفع الاشكال أيضا بالتزام كون الوقت أو غيره مما اخذ قيدا للواجب من قبيل الشرط المتأخر ، وحينئذ

ص: 185


1- الفصول ص 81 - 80 تمهيد مقال لتوضيح حال. « وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا ، والى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج ، فان وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيئ وقته وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل .. »
2- نفس المصدر فإنه قدس سره ذكر بعد سطور مما نقلنا عنه في الصدر : « واعلم أنه كما يصح ان يكون وجوب الواجب على تقدير حصول امر غير مقدور ( وقد عرفت بيانه ) كذلك يصح ان يكون وجوبه على تقدير حصول امر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله وذلك كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة. »

يكون الوجوب فيه أيضا حاليا إذا فرض وجود الشرط في موطنه ، فتجب مقدماته قبل وقته.

والفرق بين هذا والواجب المعلق الذي قال به صاحب الفصول ، هو ان الشرط في الواجب المعلق انما يكون شرط الواجب ومما يكون له دخل في مصلحته ، من دون ان يكون الوجوب مشروطا به وله دخل في ملاكه. وهذا بخلاف ذلك ، فان الشرط انما يكون شرطا للوجوب وله دخل في ملاكه ، لكن لما اخذ على نحو الشرط المتأخر كان تقدم الوجوب عليه بمكان من الامكان ، للعلم بحصول الشرط في موطنه ، على ما حققه من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي.

وعلى كل حال ، كلامنا الان في امكان الواجب المعلق وعدم امكانه ، وانه هل يعقل ان يكون الوجوب حاليا مع توقف الواجب على قيد غير اختياري بحيث يترشح منه الوجوب إلى مقدماته؟ أو ان ذلك غير معقول ، بل لابد ان يكون الوجوب مشروطا بالنسبة إلى ذلك الامر الغير الاختياري ، ولا محيص من اخذه مفروض الوجود قبل الطلب حتى يكون الطلب متأخرا عنه على ما أوضحناه. وح إذا فرض وجوب مقدماته قبل ذلك ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك آخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ، إذ لا وجوب له قبل حصول الشرط ، فكيف يترشح الوجوب إلى مقدماته؟ بل وجوب المقدمات يكون حينئذ لبرهان التفويت على ما سيأتي بيانه.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : ان امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال للتوهم فيه. نعم في القضايا الخارجية يكون للتوهم مجال ، وان كان الحق في ذلك أيضا امتناعه كما سيأتي.

اما امتناعه في القضايا الحقيقية ، فلان معنى كون القضية حقيقية ، هو اخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعا للحكم ، فيكون كل حكم مشروطا بوجود الموضوع بما له من القيود ، من غير فرق بين ان يكون الحكم من الموقتات أو غيرها ، غايته ان في الموقتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة

ص: 186

في موضوعات سائر الأحكام : من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك ، وهذه القضية انشائها انما يكون أزليا وفعليتها انما تكون بوجود الموضوع خارجا. وحينئذ ينبغي ان يسئل ممن قال بالواجب المعلق ، انه أي خصوصية بالنسبة إلى الوقت حيث قلت بتقدم الوجوب عليه ، ولم تقل بذلك في سائر القيود؟ فكيف لم تقل بفعلية الوجوب قبل وجود سائر القيود من البلوغ والاستطاعة ، وقلت بها قبل وجود الوقت مع اشتراك الكل في اخذه قيدا للموضوع؟.

وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم ، حيث كان وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة بحيث لا وجوب قبلها ، وكان وجوب الصوم غير مشروط بالفجر بحيث يتقدم الوجوب عليه ، فان كان ملاك اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة لمكان قيدية الاستطاعة للموضوع واخذها مفروضة الوجود ، فلا يمكن ان يتقدم الوجوب عليها والا يلزم الخلف ، فالوقت أيضا كذلك بالنسبة إلى الصوم فإنه قد اخذ قيدا للموضوع ، بل الامر في الوقت أوضح ، لأنه لا يمكن الا اخذه مفروض الوجود ، لأنه امر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك ولا يمكن ان تتعلق به إرادة الفاعل من وجوه ، وقد عرفت ان كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ويقع فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا لا محالة والا يلزم تكليف العاجز. وهذا بخلاف الاستطاعة ، فإنها من الأمور الاختيارية التي يمكن تحصيلها.

وبالجملة : التكليف في القضايا الحقيقية لابد ان يكون مشروطا بالنسبة إلى جميع القيود المعتبرة في الموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الزمان وغيره ، مضافا إلى ما في الزمان وأمثاله من الأمور الغير الاختيارية ، من أنه لا بد من اخذه مفروض الوجود ، والا يلزم تكليف العاجز. وح كيف يمكن القول بان التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطا؟ وبالنسبة إلى خصوصية الوقت والزمان يكون مط؟ فإنه مضافا إلى امتناع ان يكون مط بالنسبة إليه ، يسئل عن الخصوصية التي امتاز الوقت بها عن سائر القيود ، فإنه ان كان لمكان تقدم الانشاء عليه فالانشاء متقدم على جميع القيود ، لأنه أزلي ، وان كان لمكان عدم دخله في مصلحة الوجوب

ص: 187

وانما يكون له دخل في مصلحة الواجب ، فهذا مما لا دخل له بالمقام بعد ما فرض انه اخذ قيدا للموضوع وقال : يجب الصوم عند طلوع الفجر ، وقد عرفت : ان قيدية شيء للموضوع انما يكون باعتبار اخذه مفروض الوجود ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يعقل ان يتقدم التكليف عليه ، لان معنى تقدم التكليف عليه هو ان يكون التكليف بالنسبة إليه مط ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدم التكليف عليها ، كالطهارة ، والساتر ، وغير ذلك. وهذا كما ترى يستلزم محالا في محال ، لأنه يلزم أولا لزوم تحصيله ، كما هو الشأن في جميع القيود التي تقع تحت دائرة الطلب ، كالطهارة والستر ، والمفروض انه لا يمكن تحصيله ، لأنه غير اختياري للمكلف ، ويلزم أيضا تحصيل الحاصل لاستلزامه تحصيل ما هو مفروض الوجود.

وبالجملة : دعوى امكان الواجب المعلق في القضايا الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية في غاية السقوط والفساد ، بحيث لا ينبغي ان يتوهم.

واما دعوى امكانه في القضايا الخارجية فكذلك أيضا ، بل إن برهان الامتناع يطرد في كلا المقامين على نسق واحد ، لوضوح انه لو قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، فقد اخذ طلوع الفجر مفروض الوجود ، ولا يمكن ان لا يأخذه كذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يتقدم التكليف عليه ، والا يلزم ما تقدم من المحال ، فكما ان التكليف يكون مشروطا بمجئ زيد عند قوله : لو جائك زيد فأكرمه ، فكذلك يكون التكليف مشروطا بطلوع الفجر عند قوله : صل في المسجد عند طلوع الفجر ، وبرهان الاشتراط في الجميع واحد ، وانه لابد من اخذ القيد مفروض الوجود إذا كان القيد غير اختياري للمكلف ، كمجئ زيد ، وقدوم الحاج ، وطلوع الفجر ، وغير ذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يكون التكليف مط ويتقدم الوجوب عليه.

فظهر : ان برهان امتناع الواجب المعلق انما هو لأجل انه لا يمكن ان يكون التكليف مطلقا بالنسبة إلى قيد غير اختياري للمكلف ، بحيث لا يمكن ان تتعلق ارادته به ، بل لابد ان يكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا. وليس برهان امتناع

ص: 188

الواجب المعلق هو امتناع تعلق التكليف بأمر مستقبل كما توهم ، فان ذلك مما لا يدعيه أحد ولا يمكن ادعائه ، وكيف يمكن انكار امكان تعلق التكليف بأمر مستقبل؟ مع أن الواجبات الشرعية كلها من هذا القبيل ، فلا كلام في ذلك ، وانما الكلام في كون التكليف مط أو مشروطا ، والا فان تعلق الإرادة بأمر مستقبل بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال لانكاره ، بل يستحيل ان لا تتعلق الإرادة من الملتفت بأمر مستقبل إذا كان متعلقا لغرضه ، لوضوح ان الشخص إذا التفت إلى شيء : من اكل ، وشرب ، وصلاة ، وصوم ، فاما ان لايكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ولا تقوم به مصلحة ولا مفسدة ، فلا كلام فيه. وأمان ان يكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ، فاما ان يكون متعلقا لغرضه على كل تقدير وفي جميع الحالات ، واما ان يكون متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير. وعلى الثاني اما ان يكون ذلك التقدير حاصلا عند الالتفات إلى الشيء ، واما ان يكون غير حاصل. وعلى الجميع ، اما ان يكون ذلك أمرا اختياريا له بحيث يمكن ان تتعلق الإرادة به ، واما ان يكون غير اختياري فهذه جملة ما يمكن ان يكون الشخص الملتفت عليه ، ولا يمكن ان يخلو عن أحدها. فان التفت إلى الشيء وكان ذلك الشيء متعلقا لغرضه بقول مط وعلى جميع التقادير ، فلا محيص من أن تنقدح الإرادة الفاعلية والآمرية نحو ذلك الشيء إرادة فعلية غير منوطة بأمر أصلا. وان كان ذلك الشيء متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير ، فان لم يكن ذلك التقدير حاصلا فلا يمكن ان تتعلق ارادته الفعلية به ، بل تتعلق الإرادة به على تقدير حصول ذلك التقدير ، بمعنى انه تحصل له إرادة منوطة بذلك التقدير ، واما فعلية الإرادة بان يستتبع حملة النفس وتصديها المستتبع لحركة العضلات فلا يمكن الا بعد حصول ذلك التقدير ، هذا بالنسبة إلى إرادة الفاعل.

وقس على ذلك إرادة الآمر ، فان الآمر لو التفت إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة على تقدير خاص من مجيء زيد ، أو طلوع الفجر ، فلابد له من الامر بذلك الشيء مشروطا بحصول ذلك التقدير ، ولا يتوقف عن الامر عند الالتفات إليه ويصبر حتى يحصل التقدير فيأمر في ذلك الحال ، بل يأمر في حال الالتفات قبل حصول التقدير لكن مشروطا بحصول التقدير ، وهذا هو معنى كون انشاء الاحكام أزلية ، و

ص: 189

انه ليست الاحكام من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، بحيث يكون انشاء الحكم بعد حصول الموضوع وتحقق القيود خارجا ، فإنه مضافا إلى امكان دعوى قيام الضرورة على خلافه ، لا يمكن ذلك بعد ما كان الآمر الحكيم ملتفتا أزلا إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة في موطن وجوده ، فلا بد من الامر بذلك الشيء قبلا ، لكن مشروطا بتحقق موطن وجوده ، ولا يصبر ويسكت فعلا عن الامر إلى أن يتحقق موطن وجوده.

والى هذا كان نظر الشيخ قده فيما افاده بقوله : لان العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه به أولا يتعلق الخ ، (1) فراجع ما في التقرير ،

ص: 190


1- اعلم أن لصاحب التقريرات في المقام تقريبان ذكرهما في دفع ما ذهب إليه صاحب الفصول من التخلص عن العويصة بالالتزام بالواجب المعلق. أحدهما : ما ذكره بناء على ما ذهب إليه الإمامية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، قال : « فالطالب إذا تصور الفعل المطلوب فهو اما ان تكون المصحلة الداعية إلى طلبه موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أولا يكون كذلك ، بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا ، فعلى الأول فلا بد ان يتعلق الامر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة كان يكون المأمور به هو الفعل المقيد بحصوله في الزمان الخاص ، وعلى الثاني يجب ان يتعلق الامر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيات الزمان ولا يعقل ان يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فان تقييد الطلب حقيقة مما لا معنى له ، إذ لا اطلاق في الفرد الموجود منه المتعلق بالفعل حتى يصح القول بتقييده بالزمان أو نحوه ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدمة. ». ثانيهما : ما ذكره بناء على عدم الالتزام بالتبعية. قال : « فان العاقل إذا توجه إلى امر والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه بذلك الشيء أولا يتعلق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأول فاما ان يكون ذلك الامر موردا لامره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طواريه أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير الخاص قد يكون شيئا من الأمور الاختيارية كما في قولك : ان دخلت الدار فافعل كذا وقد يكون من أمور التي لا مدخل للمأمور به فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه كما في الزمان وأمثاله ، لا اشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأما إذا كان مقيدا بتقدير خاص راجع إلى الأفعال الاختيارية فقد عرفت فيما تقدم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلف به بمعنى ان المصلحة في الفعل المقيد لكن على وجه لايكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. واما على تقدير عدمها كما هو المفروض فالطلب متعلق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا ، وقد يكون المصلحة في الفعل المقيد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاص يجب تحصيل تلك الخصوصية أيضا ، ومما ذكرنا في المشروط يظهر الاطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلق الطلب بالفعل على الوجه المذكور. وأما إذا لم يكن راجعا إلى الأمور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيد بذلك التقدير الخاص ولا يعقل فيه فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريا كما عرفت ، فرجوع القيد تارة إلى الفعل وأخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربية مما لا يجهل بعد اتحاد المناط في هذه المسألة العقلية. » ( مطارح الأنظار ، الهداية الخامسة من مباحث مقدمة الواجب ص 49 - 48 )

فان نظر الشيخ في هذا التقسيم انما هو إلى ما ذكرنا : من أنه ليس انشاءات الأحكام الشرعية بعد تحقق الموضوع خارجا حتى تكون من قبيل القضايا الخارجية ، بل انما تكون انشاءاتها أزلية حيث إن الآمر يكون ملتفتا إليها أزلا ، وليس غرض الشيخ قده من هذا التقسيم ارجاع القيود إلى المادة حتى ينتج امتناع الواجب المشروط ، أو اثبات الواجب المعلق كما استظهره بعض ، وان كانت عبارة التقرير لا تخلو عن مسامحة وايهام.

وعلى كل تقدير ، ليس مبنى انكار الواجب المعلق هو امتناع التكليف بأمر مستقبل ، بل مبنى الانكار هو ما عرفت : من أن كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ، ويقع فوق دائرة الطلب ، ومعه لا يكاد يمكن تقدم الوجوب عليه لأنه يلزم الخلف ، وح لو وجبت مقدماته قبل الوقت ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك اخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ويستتبع ارادته ارادتها.

فان قلت :

نحن لا نجد فرقا ، بين ما لو امر المولى بشيء في وقت خاص على نحو اخذ الوقت قيدا ، كما إذا قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، وبين ما لو أطلق امره ولم يقيده بوقت خاص ، ولكن المكلف لا يتمكن من امتثاله الا بعد مضى مقدار من الوقت ، كما لو امر بالصلاة في مسجد الكوفة من غير تقييد ، ولكن المكلف كان في مكان لا يمكنه الصلاة في مسجد الكوفة الا عند طلوع الفجر لاحتياجه إلى السير والمشي الذي لا يصل إليه قبل ذلك ، فإنه كما أن نفس الامر يقتضى وجوب المشي و

ص: 191

السير عند اطلاقه ، ويستتبع وجوب مقدمات الصلاة في المسجد ، وتترشح إرادة المقدمات من نفس إرادة الصلاة في المسجد ، فكذلك في صورة تقييد الامر بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، فإنه يجب عليه أيضا المشي والسير لادراك الصلاة في المسجد عند الطلوع ويستتبع وجوب المقدمات وتترشح ارادتها من نفس إرادة الصلاة في المسجد عند الطلوع ، وهذا لايكون الا بتقدم الوجوب على الفجر حتى يقتضى وجوب السير وان كان الواجب استقباليا ، ولا نعنى بالواجب المعلق الا هذا.

والحاصل : انه بعد تمامية مبادئ الإرادة كما هو مفروض الكلام ، حيث إن الكلام فيما إذا لم يكن للزمان دخل في مصلحة الوجوب وكان له دخل في مصلحة الواجب ، فلابد من انقداح الإرادة الآمرية والفاعلية في نفس الآمر والفاعل ، وكون المراد متأخرا أو متوقفا على قيد غير حاصل لا يمنع من انقداح الإرادة الفعلية في النفس ، كما يتضح ذلك بما قدمناه من المثال ، حيث لا نجد فرقا بين ما كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد ، أو كان المطلوب الصلاة في المسجد في وقت خاص ، فإنه في كلا المقامين يقتضى الجري نحو المقدمات ، ويوجب السعي والمشي لادراك المطلوب ، وليس ذلك الا لمكان فعلية الإرادة.

قلت :

ليس الامر كذلك ، فإنه لو كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد من غير اعتبار وقت خاص ، فالإرادة الفاعلية أو الآمرية تتعلق بنفس الصلاة لكونها مقدورة ، وان توقف فعلها على سعى ومشى ولكن ذلك لا يخرجها عن كونها مقدورة ولو بالواسطة ، كما هو الشأن في جميع ما يكون مقدورا بالواسطة ، حيث تتعلق الإرادة به نفسه في الحال ، ومن تعلق الإرادة به تتعلق إرادة تبعية بمقدماته ، فلو كانت نفس الصلاة بلا قيد مطلوبا كانت الإرادة لا محالة متعلقة بها ، ويلزمها تعلق الإرادة التبعية بمقدماتها من السعي والمشي.

واما لو كانت الصلاة مطلوبة على تقدير خاص من وقت مخصوص ، والمفروض ان ذلك التقدير ليس اختياريا للشخص بحيث يمكنه تحصيله ، فلا يمكن ان

ص: 192

تتعلق الإرادة بها مرسلة ، بل انما تتعلق الإرادة بها على تقدير حصول الوقت ، وكيف يمكن ان تتعلق الإرادة بأمر مقيد بما هو خارج عن القدرة مع عدم حصوله؟ إذ ليست الإرادة عبارة عن نفس الحب والشوق حتى يقال : يمكن تعلق الحب والشوق بأمر محال التحقق ، فضلا عما يمكن تحققه ولو عن غير اختيار ، فضلا عما هو مقطوع التحقق كالفجر في المثال ، بل المراد من الإرادة هي التي يعبر عنها بالطلب عند من يقول باتحاد الطلب والإرادة ، ومعلوم : ان الطلب عبارة عن حملة النفس وتصديها نحو المطلوب ، وهل يعقل تصدى النفس نحو ما يكون مقيدا بأمر غير اختياري؟ كلا لا يمكن ذلك ، بل النفس انما تتصدى نحو الامر الاختياري ، وهو ذات الصلاة ، والمفروض ان ذاتها ليست مطلوبة ، بل المطلوب منها هو خصوص المقيدة بكونها عند الطلوع ، وفرضنا انها باعتبار القيد غير اختيارية ، فكيف يمكن ان تتعلق الإرادة الفعلية بها؟ وما يترائى من المشي والسعي نحو مسجد الكوفة لادراك الصلاة عند طلوع الفجر إذا كانت مطلوبة بهذا الوجه ، فإنما هو لمكان التفويت ، حيث إنه لو لم يسع إلى ذلك يفوت عنه مصلحة الصلاة في المسجد عند الفجر ، وأين هذا مما نحن فيه ، من تعلق الإرادة التبعية الناشئة من إرادة ذي المقدمة؟ فان باب الإرادة التبعية امر ، وباب التفويت امر آخر ، فالمستشكل كان حقه ان لا يمثل بما يجرى فيه برهان التفويت ، بل يفرض الكلام فيما إذا لم يتوقف المطلوب على مقدمات يلزم تحصيلها لمكان التفويت ، كما لو فرض ان الشخص حاضر في مسجد الكوفة ، ففي مثل هذا يتضح الفرق بين المثالين : مثال كون الصلاة مطلوبة بلا قيد ، ومثال كونها مطلوبة عند طلوع الفجر ، فهل يمكنه ان يقول : انه لا نجد فرقا بين المثالين؟ كلا لا يمكنه ذلك ، فإنه لو كانت نفس الصلاة مطلوبة بلا قيد فلا محالة انه يحرك عضلاته نحوها ويأتي بها في الحال ، بخلاف ما إذا كانت مطلوبة على تقدير طلوع الفجر ، فإنه لا يحرك عضلاته نحوها في الحال بل ينتظر ويصبر حتى يطلع الفجر. وليس ذلك الا لمكان عدم تعلق الإرادة الفعلية بها ، وهل يمكن لاحد ان يدعى عدم الفرق بين المثالين وان الإرادتين في كليهما على نهج واحد؟.

فعلم من جميع ما ذكرنا : انه لا مجال لدعوى امكان الواجب المعلق ، وان

ص: 193

تثليث الأقسام مما لاوجه له ، بل الواجب ينقسم إلى مطلق ومشروط ، من دون ان يكون لهما ثالث ، فكل خصوصية لم تؤخذ مفروضة الوجود فالواجب يكون بالنسبة إليها مط ، وان اخذت مفروضة الوجود فالواجب بالنسبة إليها مشروط ، وتقسيم المقدمة إلى الوجودية والوجوبية انما ينشأ من هذا ، فان المقدمة الوجودية هي ما اخذت تحت دائرة الطلب ، والمقدمة الوجوبية هي ما اخذت فوق دائرة الطلب ، وهي التي لوحظت مفروضة الوجود ، سواء كانت اختيارية أو غير اختيارية ، فإنه لا يفترق الحال في ذلك بعد اخذها مفروضة الوجود.

ثم انه لا اشكال ، في أن وجوب المقدمات الوجودية يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، فان كان وجوب ذي المقدمة مط فلابد ان يكون وجوب المقدمات الوجودية أيضا مط ، وان كان مشروطا فكذلك ، والسر في ذلك واضح ، لان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فلا يعقل ان يكون وجوب ذي المقدمة مشروطا ووجوب المقدمة مط ، لان فاقد الشيء لا يمكن ان يكون معطي الشيء ، فلا تجب المقدمات الوجودية الا عند وجوب ذيها وحصول ما يكون شرطا لوجوبها. هذا حسب ما تقتضيه قاعدة التبعية عقلا.

ولكن انحزمت هذه القاعدة في عدة موارد ، حيث كانت المقدمات الوجودية لازمة التحصيل قبل وجوب ذيها وحصول المقدمة الوجوبية ، والذي ألجأ صاحب الفصول إلى الالتزام بالواجب المعلق هو هذا ، حيث شاهد وجوب بعض المقدمات الوجودية قبل حصول ما هو الشرط في وجوب ذي المقدمة كالوقت ، فالتزم بتقدم الوجوب على الوقت. وحيث أبطلنا الواجب المعلق فلا بد لنا من بيان وجه وجوب تلك المقدمات الوجودية قبل وجوب ذيها.

ولا يخفى عليك : اختلاف كلمات الفقهاء واضطرابها في بيان الموارد التي تجب فيها المقدمات ، فتريهم في مورد يحكمون بوجوب المقدمة الوجودية قبل حصول وقت ذي المقدمة ، وتريهم في مورد آخر لا يحكمون بذلك ، كما أنه في المورد الواحد يفرقون بين المقدمات الوجودية ، فيوجبون بعضها ولا يوجبون البعض الاخر ، مثلا تريهم يقولون : لا يجوز إراقة الماء قبل الوقت لمن يعلم بأنه لا يتمكن من الوضوء بعد

ص: 194

الوقت ، ومع ذلك يقولون : بجواز اجناب نفسه مع علمه بعدم تمكنه من الغسل. وكذا تريهم في باب الاستطاعة يقولون : انه لا يجوز تفويتها بعد حصولها ولو قبل أشهر الحج ، وربما خص ذلك بعض بأشهر الحج وانه قبل ذلك يجوز تفويتها. وربما يفرقون ، بين المقدمات الوجودية الحاصلة قبل الوقت فلا يجوز تفويتها ، وبين المقدمات الغير الحاصلة فلا يجب تحصيلها.

وبالجملة : المسألة مشكلة جدا والكلمات فيها مضطربة غاية الاضطراب.

وقد يدفع الاشكال باعتبار الملاك ، حيث إن المقدمات الوجودية لما لم يكن لها دخل في الملاك ، فكل مورد تم ملاك الوجوب لزم تحصيل مقدمات الواجب وإن كان ظرف امتثال الواجب متأخرا ، الا انه لما لم يتمكن من تحصيل المقدمات في ظرف وجوبه ، كان اللازم عليه عقلا حفظ قدرته من قبل لمكان تمامية الملاك ، ويكون هذا الحكم العقلي كاشفا عن متمم الجعل وان هناك جعلا مولويا بلزوم تحصيل المقدمات.

لكن هذا البيان لا يفي بالموارد التي حكموا فيها بلزوم تحصيل المقدمات قبل وجوب ذي المقدمة ، فإنك تريهم يحكمون بلزوم تحصيل بعض المقدمات ولو قبل تمامية الملاك ، كإراقة الماء قبل الوقت ، مع أن الوقت في باب الصلاة له دخل في أصل الملاك ، كما ربما يستظهر ذلك من قوله : إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة ، فان الظاهر منه ان للزوال دخلا في أصل ملاك الوجوب ، مع أنه بناء على هذا لا ينبغي الفرق بين المقدمات الوجودية ، فكيف حرم إراقة الماء؟ ولم يجب تحصيل الماء لمن كان فاقدا له؟ حيث إن الظاهر أنهم لم يقولوا بوجوب تحصيل الماء قبل الوقت لمن يعلم بعدم حصوله بعده.

وبالجملة : هذا البيان انما يتم في بعض موارد المسألة كوجوب المسير للحج بعد الاستطاعة ، والغسل قبل الفجر ، حيث تم ملاك وجوب الحج والصوم بالاستطاعة ودخول الليل ، فلابد من بيان آخر يكون حاويا لأطراف المسألة.

والذي ينبغي ان يقال هو انه تارة : يقع الكلام في المقدمات المفوتة التي يوجب فواتها عجز المكلف عن فعل المأمور به وعدم قدرته عليه ، كترك المسير إلى

ص: 195

الحج ، وإراقة الماء ، وعدم الغسل قبل الفجر ، وأمثال ذلك من المقدمات الوجودية التي يوجب فواتها سلب قدرة المكلف عن الفعل. وأخرى : يقع الكلام في المقدمات العلمية ، أي في لزوم تحصيل العلم بالأحكام والفحص عنها ، ولا يندرج هذا في المقدمات المفوتة على ما سيأتي بيانه ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول :

في المقدمات المفوتة أي المقدمات التي لها دخل في قدرة المكلف على فعل المأمور به بحيث انه لولاها لما كان قادرا عليه ، وبعبارة أخرى : المراد من المقدمات المفوتة هي المقدمات التي لها دخل في حصول الواجب بما له من القيود الشرعية في وقته على وجه لا يتمكن المكلف من فعله في وقته بدون تلك المقدمات ، كالماء الذي يتوقف الصلاة مع الطهارة عليه ، والساتر الذي يتوقف الصلاة مع الستر عليه ، وهكذا ، وكنفس حفظ القدرة التي يتوقف عليها الواجب ، كما لو فرض انه لو عمل العمل الكذائي لا يتمكن من الصلاة في وقتها فيكون العمل مفوتا للقدرة عليها ، وبذلك يندرج في المقدمات المفوتة ، فالمراد من المقدمات المفوتة هي المقدمات العقلية التي يتوقف عليها الواجب ، لا المقدمات الشرعية من القيود والشرائط ، ومن هنا نقول : لا يجب الوضوء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يتمكن من الوضوء بعده ، بخلاف حفظ الماء حيث إنه يجب حفظه.

والسر في ذلك : هو ان الوضوء انما يجب بعد الوقت لأنه من قيود المأمور به ، فحاله من هذه الجهة كحال الاجزاء وكذا الستر وغير ذلك من القيود الشرعية ، ومعلوم : انه لم يقم دليل على هذه الكلية بحيث يلزم تحصيل كل مقدمة يكون لها دخل في قدرة المكلف مط ولو قبل حصول شرط الوجوب وقبل مجيئ وقته لمن يعلم بحصوله فيما بعد ، إذ لم يقل أحد بوجوب السير إلى الحج قبل الاستطاعة لمن يعلم بحصولها فيما بعد مع عدم تمكنه من السير بعدها ، فلزوم تحصيل المقدمات المفوتة بهذه الكلية مما لا دليل عليه ، ولم يدعه أحد ، بل انما قالوا بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة في الجملة في بعض الموارد ، وفي بعض الحالات في خصوص بعض المقدمات ، ومعلوم : انه لم يقم دليل بالخصوص في كل مورد حكموا فيه بلزوم تحصيل المقدمات

ص: 196

المفوتة ، فلابد ح من بيان ما يكون ضابطا للموارد التي يجب تحصيل المقدمات فيها ويحرم تفويتها ، ويتوقف ذلك على تحرير كيفية اعتبار القدرة على متعلقات التكاليف بعد ما كان لا اشكال في اعتبارها.

فنقول :

ان القدرة اما ان تكون عقلية ، واما ان تكون شرعية ، ونعني بالقدرة العقلية : ما إذا لم تؤخذ في لسان الدليل ، بل كان اعتبارها لمكان حكم العقل بقبح تكليف العاجز من دون ان يكون الشارع قد اعتبرها ، ويقابلها القدرة الشرعية ، وهي ما إذا اخذت في لسان الدليل بحيث يكون الشارع قد اعتبرها.

فان كانت القدرة المعتبرة هي القدرة العقلية ، فحيث لم يكن للقدرة العقلية دخل في ملاك الحكم وانما يكون لها دخل في حسن الخطاب ، فلابد من الاقتصار على المقدار الذي يحكم العقل باعتباره ، ومعلوم : ان مناط حكم العقل باعتبار القدرة انما هو قبح تكليف العاجز ، وهذا انما يكون إذا كان الشخص عاجزا بنفسه وبذاته ، بحيث لايكون له إلى الفعل سبيل كالطيران في الهواء فان التكليف بمثل هذا قبيح على المولى كما يقبح العقاب منه عليه.

وأما إذا لم يكن الشخص عاجزا بنفسه وبذاته ، بل هو عجز نفسه بسوء اختياره وسلب عنه القدرة ، ففي مثل هذا لا يحكم العقل بقبح عقابه وان قبح تكليفه بعد عجزه ، ولا ملازمة بين قبح التكليف وقبح العقاب ، فان قبح التكليف لمن عجز نفسه انما هو لمكان لغوية التكليف حيث لا يصلح ان يكون التكليف محركا وباعثا نحو الفعل ، وهذا بخلاف العقاب فإنه لا يقبح عقابه بعد ما كان الامتناع بسوء اختياره. وهذا معنى ما يقال : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنه انما لا ينافيه عقابا لا خطابا خلافا للمحكى عن أبي هاشم حيث قال : انه لا ينافيه لا خطابا ولا عقابا ، وسيأتي ضعفه في بعض المباحث الآتية انشاء اللّه تعالى.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان كل واجب لم يعتبر فيه القدرة شرعا ، كان مقتضى القاعدة لزوم

ص: 197

تحصيل مقدماته التي لم تكن حاصلة وحرمة تفويت المقدمات الحاصلة ولو قبل مجيئ زمان الواجب ، بل وقبل تمامية ملاك الوجوب أيضا ، إذ العقل يستقل بحفظ القدرة ولزوم تحصيل المقدمات الاعدادية ، لما عرفت : من أن اعتبار القدرة العقلية انما هو لمكان قبح تكليف العاجز ، ومثل هذا الشخص لايكون عاجزا بل يكون قادرا ولو بحفظ قدرته ، أو تحصيلها بتهيئته المقدمات الاعدادية التي له إليها سبيل ، والا لا ندرج في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فان القاعدة لا تختص بما بعد ثبوت التكليف وتوجه الخطاب ، حتى يقال : ان الكلام في لزوم تحصيل المقدمات قبل ثبوت التكليف وتوجه الخطاب ، بل مورد القاعدة أعم من ذلك ، فتشمل ما نحن فيه ، فأنه لو فرض ان التكليف بصوم الغد لم يقيد بالقدرة الشرعية ، وانما اعتبر فيه القدرة العقلية حتى لايكون من التكليف العاجز ، وكان صوم الغد يتوقف على مقدمات لا يمكن تهيئتها في الغد ، وكان متمكنا من تهيئتها قبل ذلك ، كان عدم تهيئة المقدمات موجبا لامتناع التكليف بالصوم بسوء اختياره ، فيندرج في القاعدة ، من غير فرق بين ان يكون لزمان الغد دخل في ملاك الواجب فقط ، أو كان له دخل في ملاك الوجوب أيضا ، فان العبرة انما هو بكون الامتناع بالاختيار ، وهذا لا يفرق فيه بين القسمين كما لا يخفى.

فتحصل : ان كل واجب كان مشروطا بالقدرة العقلية يلزم تحصيل مقدماته التي يتوقف القدرة عليه في زمانه عليها. هذا إذا كانت القدرة المعتبرة عقلية.

وان كانت القدرة المعتبرة شرعية ، فلابد من النظر في كيفية اعتبارها ، فتارة : تعتبر شرعا على النحو الذي تعتبر عقلا من دون ان يتصرف الشارع فيها ، بان اعتبر القدرة على وجه خاص أو في زمان مخصوص ، بل اعتبرها بتلك السعة التي كان العقل معتبرا لها ، كما إذا قال : ان قدرت فأكرم زيدا في الغد ، وح يكون الكلام فيها هو عين الكلام في القدرة العقلية ، من لزوم تهيئة المقدمات التي يتوقف القدرة على صوم الغد عليها ، فإنه لافرق ح بين هذه القدرة الشرعية والقدرة العقلية. سوى ان القدرة العقلية لا دخل لها في الملاك ، والقدرة الشرعية لها دخل فيه ، وهذا لا يصلح فارقا في المقام.

ص: 198

فان قلت :

كيف لا يصلح فارقا؟ فإنه بعد البناء على أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك كيف يمكن القول بلزوم تهيئة مقدمات القدرة؟ فان معنى ذلك هو لزوم تهيئة مقدمات حدوث الملاك ، وبعبارة أخرى : الملاك انما يحصل ويحدث بالقدرة ، بحيث لولا القدرة لما كان هناك ملاك ، كما هو الحال في سائر القيود الشرعية التي لها دخل في الملاك ، ومع هذا كيف توجبون تحصيل القدرة عليه؟ وكيف يندرج عند عدم تحصيلها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟ فإنه لو لم يحصل القدرة لم يكن هناك ملاك للحكم ومع عدم ثبوت الملاك واقعا كيف يعاقب وعلى أي شيء يعاقب؟ مع أنه لا ملاك ولا حكم واقعا ، ومورد قاعدة الامتناع بالاختيار - حيث نقول بالعقاب فيه انما هو فيما إذا أوجب الامتناع بالاختيار تفويت الملاك بعد ثبوته ، واما الامتناع بالاختيار مع عدم ثبوت الملاك واقعا في ظرف التفويت ، فان العقاب يكون حينئذ بلا موجب.

قلت :

نعم القدرة الشرعية وان كان لها دخل في الملاك بحيث لولاها لما كان هناك ملاك واقعا ، الا ان المفروض ان الذي له دخل في الملاك ، هي القدرة بمعناها الأعم الشامل للقدرة على تحصيلها وتهيئة مقدماتها الاعدادية ، لان محل الكلام هو ما إذا اعتبر القدرة بتلك السعة التي يحكم بها العقل في لسان الدليل ، فالذي يكون له دخل في الملاك هي القدرة الواسعة الشاملة للقدرة على تحصيلها وحفظها بعد حصولها وتهيئة مقدماتها ، وهذا المعنى من القدرة حاصل بالفرض ، لان الكلام فيمن يمكنه تهيئة مقدمات القدرة وحفظها ، والا كان خارجا عن الكلام موضوعا ، فما له دخل في الملاك حاصل ، ومعه يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لأنه لو لم يحفظ قدرته مع تمكنه من حفظها فقد فوت الملاك بسوء اختياره مع ثبوته ، لحصول شرطه وهو تمكنه من حفظ القدرة أو تحصيلها ، فتأمل في المقام جيدا فإنه لا يخلوا من دقة.

فتحصل : انه لو اعتبرت القدرة شرعا بنحو ما يعتبرها العقل من السعة ،

ص: 199

كان اللازم وجوب تهيئة مقدمات القدرة على الواجب ، ولو قبل مجيئ زمان وجوبه إذا لم يتمكن من تهيئتها في زمانه ، والا كان مندرجا تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

ويندرج في هذه القسم مسألة حفظ الماء قبل الوقت ، فان القدرة على الماء انما اعتبرت شرعا بقرينة قوله تعالى : (1) « فلم تجدوا ماء فتيمموا » الخ ، حيث إن التفصيل قاطع للشركة ، فيظهر منه ان الوضوء مقيد شرعا بوجدان الماء ، وبعد قيام الدليل على وجوب حفظ الماء قبل الوقت - على ما حكى شيخنا الأستاذ مد ظله بأنه وردت رواية في ذلك ، وان لم أعثر عليها - يستفاد منه : ان القدرة المعتبرة في الوضوء انما تكون على نحو القدرة العقلية وبتلك السعة (2) ولكن هذا بعد قيام الدليل على وجوب حفظ الماء ، والا فان من نفس اخذ القدرة شرعا في الوضوء لا يمكن استفادة ذلك ، بل غايته استفادة القدرة بعد الوقت. هذا بالنسبة إلى الماء.

واما بالنسبة إلى الساتر ونحوه مما يتوقف عليه القدرة على الواجب بقيوده في الوقت ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون عقلية محضة كالقدرة على نفس الصلاة ، وعليه يجب حفظ الساتر أو تحصيله قبل الوقت لمن لا يتمكن منه بعده ، ولا نحتاج في ذلك إلى قيام دليل عليه ، بل القدرة العقلية تقتضي ذلك كلزوم حفظ القدرة على أصل الصلاة بان لا يعمل عملا يوجب فوات القدرة عليها في وقتها ، والسر في ذلك : هو ان القدرة المعتبرة فيها عقلية فيجب حفظها. هذا إذا اعتبرت القدرة شرعا بتلك السعة.

وأخرى : لا تعتبر بتلك السعة ، بل اعتبرت على وجه خاص ، فالمعتبر ملاحظة كيفية الاعتبار ، فتارة : تعتبر على كيفية يقتضى أيضا تحصيل مقدمات القدرة ولو قبل مجيء وقت الواجب ، كما إذا قال : أكرم عمروا في الغد ان ، قدرت عليه بعد مجيء زيد ، ففي مثل هذا يكون العبرة بحصول القدرة بعد مجيء زيد ، ولا اثر .

ص: 200


1- المائدة ، الآية 6
2- ولازم ذلك هو لزوم تحصيل الماء قبل الوقت ، والظاهر : انه لا يلتزمون بذلك ، فتأمل - منه.

للقدرة قبل مجيئه ولا يلزم تحصيلها من قبل لو علم بعدمها بعد مجيء زيد ، لأن المفروض ان القدرة بعد المجئ هي المعتبرة وهي التي يكون لها دخل في الملاك ، فما لم تحصل القدرة بعد المجئ لم يكن هناك ملاك للحكم ثبوتا ، وح لا موجب لايجاب تحصيلها قبل مجيء زيد ، فان عدم تحصيلها لا يوجب الا عدم ثبوت الملاك ، وهذا لا ضير فيه لعدم اندراجه تحت دائرة الامتناع بالاختيار ، لما عرفت غير مرة ان مورد القاعدة انما هو فيما إذا كان الامتناع موجبا لتفويت الملاك بعد ثبوته ، فلا يدخل فيها مورد عدم ثبوته ، نعم يلزمه تحصيل القدرة على الاكرام في الغد بعد مجيء زيد بتهيئة مقدماته لو لم يمكنه ذلك في الغد ، لاندراجه حينئذ تحت قاعدة الامتناع بالاختيار كما لا يخفى وجهه.

ولعل مثال الحج من هذا القبيل ، حيث نقول : انه لا يجب عليه تحصيل المقدمات من السير وغيره قبل تحقق الاستطاعة ، ويجب عليه ذلك بعد حصولها ، فان السير قبل الاستطاعة يكون من قبيل تحصيل القدرة قبل مجيء زيد في المثال المتقدم ، بخلافه بعد الاستطاعة فإنه يكون من قبيل تحصيلها بعد مجيئه الذي قلنا بلزومه.

وأخرى : تعتبر على وجه لا يلزم تحصيل المقدمات قبل مجيء زمان الواجب ، كما إذا اخذت القدرة شرطا شرعيا في وقت وجوب الواجب ، كما إذا قال : ان قدرت على اكرام زيد في الغد فأكرمه ، بان يكون الغد قيدا للقدرة أيضا ، كما أنه قيد للاكرام ، وفي مثل هذا لا يلزم تحصيل مقدمات القدرة من قبل الغد كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك : ان عدم وجوب تحصيل القدرة في هذا القسم ، انما هو فيما إذا لم يتوقف الواجب على تهيئة مقدماته العقلية التي لها دخل في القدرة قبل الوقت دائما أو غالبا ، فلو توقف الواجب دائما أو غالبا على تهيئة المعدات قبل الوقت ، بحيث يكون حصول المقدمات في الوقت لا يمكن ، أو أمكن بضرب من الاتفاق ، كان اللازم تهيئة المقدمات من قبل ، لان نفس كون الواجب كذلك يلازم الامر بتحصيل المقدمات من قبل ، والا للغي الواجب بالمرة فيما إذا كان التوقف دائميا ، أو قل مورده فيما إذا كان غالبيا ، ففي مثل هذا لا نحتاج إلى قاعدة الامتناع بالاختيار ، بل نفس

ص: 201

الدليل الدال على وجوب الواجب يدل على وجوب تحصيل مقدماته من قبل بالملازمة ودليل الاقتضاء ، وذلك كما في الغسل قبل الفجر ، حيث إن الامر بالصوم متطهرا من الحدث الأكبر من أول الفجر يلازم دائما وقوع الغسل قبل الفجر ، وح نفس الامر بالصوم يقتضى ايجاب الغسل قبله بالملازمة المذكورة ، هذا.

ولكن المثال خارج عما نحن فيه لان الغسل من القيود الشرعية ، وقد عرفت في أول البحث ان الكلام في المقدمات المفوتة ، انما هو في المقدمات العقلية والمعدات التي لها دخل في القدرة على الواجب ، ولك ان تجعل مثال الحج مما نحن فيه ، حيث إن الحج بالنسبة إلى البعيد دائما يتوقف على السير من قبل ، فنفس الامر بالحج يقتضى الامر بالسير من قبل أيام الحج للملازمة المذكورة.

وعلى كل حال ، قد عرفت اقسام اعتبار القدرة في الواجب ، من كونها عقلية ، أو شرعية على أقسامها الثلاثة ، وعرفت أيضا مورد المقدمات المفوتة للقدرة ، واندراجها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وحينئذ نقول : ان كل مورد حكم العقل بتحصيل القدرة أو حفظها قبل مجيئ زمان الواجب ، فلابد ان نستكشف من ذلك خطابا شرعيا على طبق ما حكم به العقل بقاعدة الملازمة ، وعليه يجب تحصيل القدرة أو حفظها شرعا ، ويكون السير للحج وحفظ الماء وتحصيل الساتر مأمورا به شرعا ، وكذا حرمة العمل الذي يوجب سلب القدرة على الواجب ، وغير ذلك من المقدمات المفوتة.

ولكن ينبغي ان يعلم : ان الوجوب الشرعي في المقام ليس على حد سائر الواجبات الشرعية في كونه نفسيا يثاب ويعاقب على فعله وتركه ، بل الوجوب في المقام مقدمي ويكون من سنخ وجوب المقدمة غايته : ان وجوب المقدمة في سائر المقامات يجئ من قبل وجوب ذيها ويترشح منه إليها ، وهذا في المقام لا يمكن لعدم وجوب ذيها بعد ، فلا يعقل ان يكون وجوبها ترشحيا ، الا انه مع ذلك لم يكن وجوب المقدمات المفوتة نفسيا لمصلحة قائمة بنفسها بحيث يكون الثواب والعقاب على فعلها وتركها ، بل وجوبها انما يكون لرعاية ذلك الواجب المستقبل ، ولمكان التحفظ عليه وعدم فواته في وقته أوجب الشارع تحصيل المقدمات وحفظ القدرة ، فيكون

ص: 202

وجوبها من سنخ وجوب المقدمة ، وان افترقا فيما ذكرناه ، فالثواب والعقاب انما يكون على ذلك الواجب المستقبل.

وحاصل الكلام : ان التكليف الشرعي المتعلق بحفظ المقدمات المفوتة ليس تكليفا نفسيا استقلاليا ، بل يكون من متمم الجعل ، ويكون كل من هذا التكليف المتعلق بحفظ المقدمات مع ذلك التكليف المتعلق بنفس الواجب المستقبل ناشيا عن ملاك واحد ومناط فارد ، لا ان لكل منهما ملاكا يخصه ، حتى يكونا من قبيل الصوم والصلاة يستدعى كل منهما ثوابا وعقابا ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، ولما لم يمكن استيفاء ذلك الملاك بخطاب واحد ، حيث إن خطاب الحج في أيام عرفة لا يمكن ان يستوفى الملاك وحده مع عدم وجوب السير ، احتجنا إلى خطاب آخر بوجوب السير يكون متمما لذلك الخطاب ، ويستوفيان الملاك باجتماعهما ، فليس هناك الا ملاك واحد اقتضى خطابين ، وليس لهذين الخطأ بين الا ثواب واحد وعقاب فارد ، ويكون عصيان الخطاب المقدمي عصيانا للخطاب الآخر ، حيث إنه يمتنع الحج بنفس ترك السير ، فبتركه للسير قد ترك الحج وتحقق عصيانه ، ولا يتوقف العصيان على مضى أيام الحج إذ قد امتنع عليه الحج بسوء اختياره لتركه السير في أوانه ، فبنفس ترك السير يتحقق عصيان الحج.

فان قلت :

لا اشكال في أن العقاب انما يكون لعصيان الخطاب وترك المأمور به ، وح نقول في المقام : ان العقاب على أي شيء يكون؟ لا يمكن ان يقال على عصيان خطاب السير وتركه له ، لان خطاب السير انما كان مقدميا ولم يكن الملاك قائما به ، وليس في البين خطاب آخر يوجب العصيان ، لان الحج لم يكن له خطاب فعلى قبل أيام عرفه ، لاشتراطه بها حسب ما تقدم من امتناع الواجب المعلق ، والمفروض انه بتركه للسير قد امتنع عليه الحج فلا يعقل تكليفه بالحج ، ومن هنا اطبقوا على رد الهاشم ، حيث ذهب إلى أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا ، فالتارك للسير ليس مخاطبا بالحج لعدم القدرة عليه ولو بسوء اختياره ، فإذا لم يكن مخاطبا بالحج لم يكن معاقبا على تركه ، لان العقاب انما يكون على ترك المأمور به.

ص: 203

ومجرد اشتمال الحج على الملاك وتفويته له لا يوجب العقاب ما لم يكن الحج واجبا ومتعلقا للامر ، حسبما تقدم منا مرارا ، من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ولا يوجب فواتها شيئا ، وانما العبد ملزم عقلا بالخطابات الشرعية لا بملاكاتها.

قلت :

ما كنت أحب بعد البيان المتقدم موقعا لهذا الاشكال ، ولا مجال لهذا التوهم ، فان السير انما صار واجبا لرعاية الحج ، وامر به شرعا تحفظا على تركه ، ومع ذلك كيف يسئل عن أن العقاب على أي شيء يكون؟ مع وضوح ان العقاب يكون على ترك الحج حينئذ ، لان مناط حكم العقل باستحقاق العقاب على ترك الواجب الفعلي كترك الصلاة بعد الوقت - ولو لمكان امتناعها بسوء اختياره - بعينه متحقق في مثل المقام ، وما أنكرناه سابقا من أن الملاكات غير لازمة التحصيل انما هو لمكان ان الملاكات ليست مقدورة للمكلف ، ولا تكون من المسببات التوليدية لأفعاله ، وأين هذا من ترك الحج الذي يقوم به الملاك بسوء اختياره ، مع ايجاب الشارع السير عليه تحفظا عن ترك الحج وعدم فواته منه؟.

وبالجملة : لافرق في نظر العقل الذي هو الحاكم في هذا الباب ، بين ان يعجز المكلف نفسه عن الحج في أيام عرفه ، وبين ان يعجز نفسه عنه قبل ذلك بتركه السير ، فإنه في كلا المقامين يستحق العقاب على ترك الحج على نسق واحد ، فتأمل في المقام جيدا. هذا تمام الكلام في المقام الأول ، وهو باب المقدمات المفوتة.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو باب وجوب تعلم الاحكام. فحاصله : انه يظهر من الشيخ قده (1) في آخر مبحث الاشتغال عند التعرض لشرائط الأصول ، ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ، وجعله من صغريات باب القدرة ، ولكن الانصاف انه ليس الامر كذلك ، فان بين البابين بونا بعيدا ، إذ باب المقدمات المفوتة يرجع إلى مسألة القدرة على ما عرفت ، وباب وجوب التعلم أجنبي عن باب القدرة ، لان الجهل بالحكم لا يوجب .

ص: 204


1- راجع الرسائل. آخر مباحث البراءة ، خاتمة في ما يعتبر في العمل بالأصل. شرط البراءة. ص 282.

سلب القدرة ، ومن هنا كانت الاحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

والحاصل : انه فرق بين ترك الشيء لعدم القدرة عليه ، وبين تركه لجهله بحكمه ، فالتعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة ، وح لايكون تركه من باب ترك المقدمات المفوتة ، وليس ملاك وجوبه هو قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل ملاك وجوب التعلم هو ملاك وجوب الفحص في الشبهات الحكمية ، وهو حكم العقل بلزوم أداء العبد وظيفته ، حيث إن العقل يرى أن ذلك من وظائف العبد بعد تمامية وظائف المولى ، فان العقل يستقل بان لكل من المولى والعبد وظيفة ، فوظيفة المولى هي اظهار مراداته ، وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث هناك مانع ، فوظيفة المولى هي تشريع الاحكام وارسال الرسل وانزال الكتب ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد ، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه ، وحينئذ يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته ، كما يستقل بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.

والحاصل : انه بعد التفات العبد إلى أن هناك شرعا وشريعة ، يلزمه تحصيل العلم بأحكام تلك الشريعة ، والا كان مخلا بوظيفته ، حيث إن وظيفة العبد هو الرواح إلى باب المولى لامتثال أوامره ، ولولا استقلال العقل بذلك لا نسد طريق وجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، وللزم افحام الأنبياء ، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعى النبوة لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له ، إذ للعبد ان يقول : لم اعلم انك نبي ، وليس للنبي ان يقول : لم لم تنظر في معجزتي ليظهر لك صدق مقالتي؟ إذ للعبد ان يقول إنه لم يجب على النظر في معجزتك.

وبالجملة : العقل كما يستقل بوجوب النظر في معجزة مدعى النبوة ، كذلك يستقل بوجوب تعلم أحكام الشريعة والفحص عن الأدلة والمقيدات والمخصصات ، إذ المناط في الجميع واحد ، وهو استقلال العقل بان ذلك من وظيفة العبد ، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ ، كما لا يختص وجوب النظر إلى المعجزة به ، بل يجب ذلك قبل البلوغ إذا كان مميزا مراهقا ليكون أول بلوغه مؤمنا ومصدقا بالنبوة ،

ص: 205

والا يلزم ان لايكون الايمان واجبا عليه في أول البلوغ ، هذا بالنسبة إلى الايمان وكذلك بالنسبة إلى سائر أحكام الشريعة يجب على الصبي تعلمها إذا لم يتمكن منه بعد البلوغ ، أو نفرض الكلام في الاحكام المتوجهة عليه في آن أول البلوغ ، فإنه يلزمه تعلم تلك الأحكام قبل البلوغ ، كما لو فرض انه سيبلغ في آخر وقت ادراك الصلاة ، فإنه لا اشكال في وجوب الصلاة عليه حينئذ ، ويلزمه تعلم مسائلها قبل ذلك.

وما قيل من أن الاحكام مشروطة بالبلوغ ، ليس المراد ان جميع الأحكام مشروطة به ، حتى مثل هذا الحكم العقلي المستقل ، فان هذا غير مشروط بالبلوغ ، بل مشروط بالتميز والالتفات مع العلم بعدم التمكن من التعلم عند حضور وقت الواجب.

فتحصل : انه لا يقبح عند العقل عقاب تارك التعلم ، والاحكام تتنجز عليه بمجرد الالتفات إليها والقدرة على امتثالها الا ان يكون هناك مؤمن عقلي أو شرعي.

نعم حكم العقل بوجوب التعلم ليس نفسيا ، بان يكون العقاب على تركه وان لم يتفق مخالفة الواقع ، وان قال بذلك صاحب المدارك ، بل حكم العقل في المقام انما يكون على وجه الطريقية ، ويدور العقاب مدار مخالفة الواقع كما استقصينا الكلام في ذلك في اخر مبحث الاشتغال فراجع ذلك المقام.

ومن الغريب ان الشيخ قده مع التزامه بان التعلم لم يكن واجبا نفسيا وان العقاب على مخالفة الواقع ، حكم بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو في الصلاة ولو لم يتفق الشك والسهو فيها ، على ما حكى عنه في بعض الرسائل العملية ، وهذه الفتوى من الشيخ قده لا توافق مسلكه في وجوب التعلم.

ثم انه لا اشكال في وجوب التعلم قبل الوقت مع العلم أو الاطمينان بعدم تمكنه منه بعد الوقت ، وعلمه أو اطمئنانه أيضا بتوجه التكليف إليه في وقته ، سواء كان الحكم مما تعم به البلوى أولا ، إذ ليس ما وراء العلم شيء.

واما لو لم يعلم بتوجه التكليف إليه بعد ذلك ، ولكنه كان يحتمل ، فان كانت المسألة مما تعم بها البلوى فكذلك يجب التعلم ، لأنه يكفي في حكم العقل

ص: 206

كون الشخص في معرض الابتلاء وان لم يعلم بالابتلاء ، لان مناط حكم العقل - وهو لزوم رواح العبد إلى باب المولى وان ذلك من وظيفته - لا يختص بالعالم بان للمولى مرادا ، بل يكفي احتمال ذلك مع كونه في معرض ذلك ، ومن هنا قلنا : انه يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو ولو لم يعلم بابتلائه بهما ، الا إذا علم بعدم الابتلاء فإنه لا يجب عليه ذلك ، ولكن انى له بهذا العلم؟ وكيف يمكن ان يحصل لاحد ، مع أن الشك والسهو امر يقع بغير اختيار وعلى خلاف العادة ، فمجرد انه ليس من عادته السهو والشك لا يكفي في حصول العلم.

وعلى كل حال : لا اشكال في لزوم التعلم إذا كانت المسألة مما تعم بها البلوى ، كمسائل السهو والشك ، والتيمم وغير ذلك ، من غير فرق بين ان يعلم بالابتلاء أولا يعلم.

واما لو لم تكن المسألة مما تعم بها البلوى ، فظاهر الفتاوى عدم وجوب التعلم مع عدم العلم أو الاطمئنان بعد الابتلاء ولعله لجريان أصالة عدم الابتلاء ، فان حكم العقل بوجوب التعلم لما كان حكما طريقيا ، نظير حكمه بالاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال ، كان الأصل الموضوعي رافعا لموضوع حكم العقل ، فيكون استصحاب عدم الابتلاء في المقام نظير استصحاب ملكية المال في باب الأموال ، فكما لا يجب الاحتياط عند استصحاب ملكية المال لخروج المال ببركة الاستصحاب عن احتمال كونه مال الغير الذي هو موضوع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كذلك استصحاب عدم الابتلاء يوجب دفع احتمال الابتلاء الذي هو الموضوع عند العقل بلزوم التعلم.

وبعبارة أخرى : موضوع حكم العقل بلزوم التعلم انما هو الحكم الذي يبتلى به ، واستصحاب عدم الابتلاء يرفع ذلك الموضوع ، ولا دافع لهذا الاستصحاب الا توهم عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل ، أو توهم ان حكم العقل في المقام نظير حكمه بقبح التشريع الذي يحكم بقبحه في صورة العلم والظن والشك والوهم بمناط واحد ، ومن هنا لا تصل النوبة إلى الأصول الشرعية كما فصلنا الكلام في ذلك في محله.

ص: 207

ويدفع الأول بأنه : لا مانع من جريان الاستصحاب في المستقبل إذا كان الشيء بوجوده الاستقبالي ذا اثر ، وان لم يكن بوجوده الماضي أو الحالي ذا اثر ، وتفصيل ذلك في محله.

ويدفع الثاني : ان حكم العقل في المقام ، ليس كحكمه في باب التشريع ، فان مناط حكمه بقبح التشريع انما هو لمكان حكمه بقبح اسناد ما لا يعلم أنه من قبل المولى إلى المولى ، وهذا المناط موجود في صورة العلم والظن والشك ، وليس حكم العقل بقبح التشريع يدور مدار واقع عدم التشريع حتى يكون حكمه في صورة عدم العلم حكما طريقيا ، كحكمه بلزوم التحرز عن المال المحتمل كونه مال الغير حذرا عن الوقوع في الظلم والتصرف في مال الغير ، وحكم العقل في المقام كذلك يكون طريقيا محضا ، وح يكون الاستصحاب الموضوعي حاكما عليه هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، كان بنائه في السابق ، هو التفصيل بين ما تعم به البلوى وما لاتعم ، من حيث وجوب التعلم في الأول دون الثاني ، وعليه جرى في رسائله العملية ، ولكن لما وصل بحثه إلى هذا المقام توقف في ذلك بل قرب عدم التفصيل ، وان احتمال الابتلاء يكفي في حكم العقل بوجوب التعلم كحكمه بوجوب النظر عند احتمال صدق مدعى النبوة ، فتأمل في المقام ، فان المسألة مما تعم بها البلوى ويترتب عليها آثار عملية.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة وما يلحق بها من وجوب التعلم. وتحصل : ان وجوب بعض المقدمات قبل الوقت لا يتوقف على القول بالواجب المعلق كما ذكره في الفصول ، أو على أحد الامرين من الواجب المعلق أو الشرط المتأخر كما ذكره في الكفاية.

بقى في المقام ، التنبيه على بعض المسائل الفقهية ، التي توهم انها تبتنى على تصحيح الواجب المعلق والشرط المتأخر معا.

( منها ) مسألة الصوم ، حيث إنه لا اشكال في أنه يعتبر في الصوم اجتماع شرائط التكليف من القدرة والصحة وعدم الحيض والسفر ، من أول الطلوع إلى الغروب ، بحيث لو اختل أحد هذه الشرائط في جزء من النهار لم يكن الصوم واجبا ،

ص: 208

فوجوب الامساك في أول الفجر يتوقف على بقاء الحياة والقدرة إلى الغروب ، وهذا لايكون الا على نحو الشرط المتأخر بحيث تكون القدرة على الامساك فيما قبل الغروب شرطا في وجوب الامساك في أول الفجر ، وهذا عين الشرط المتأخر ، وأيضا لا اشكال في أن التكليف بالامساك في الآن الثاني ، والثالث ، وهكذا ، انما يكون متحققا في الآن الأول ، وهو آن طلوع الفجر ، إذ ليس هناك الا تكليف واحد يتحقق في أول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، وليس هناك تكاليف متعددة يحدث في كل آن تكليف يخصه ، فان ذلك ينافي الارتباطية ، بل التكليف بالامساك في جميع آنات النهار انما يتحقق في الآن الأول ، وهو آن الطلوع ، فيكون التكليف بامساك ما قبل الغروب ثابتا قبل ذلك ، وهذا عين الواجب المعلق حيث يتحقق الوجوب الفعلي قبل وقت الواجب ، وهو آن ما قبل الغروب الذي هو وقت الامساك الواجب فيه. وكذا الحال بالنسبة إلى التكليف بالصلاة في أول الوقت ، حيث إن الكلام فيها عين الكلام في الصوم ، من حيث ابتنائه على الشرط المتأخر والواجب المعلق كما لا يخفى ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك بكلا وجهيه.

اما ضعف وجه ابتنائه على الشرط المتأخر ، فلما يأتي انشاء اللّه تعالى من أن الشرط في أمثال ذلك هو وصف التعقب ، ويكون الامساك في أول الطلوع واجبا عند وجود الحياة في ذلك الآن وتعقبه بالحياة فيما بعد إلى الغروب ، فيكون الشرط في وجوب الامساك في كل آن هو فعلية الحياة في ذلك الآن وتعقبها بالحياة في الان الثاني ، وهذا المعنى امر معقول يساعد عليه الدليل والاعتبار ، بل المقام من أوضح ما قيل فيه : ان الشرط هو وصف التعقب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى.

واما ضعف ابتنائه على الواجب المعلق ، فلان الخطاب وان كان أمرا واحدا مستمرا يتحقق بأول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، الا ان فعليته تدريجية حسب تدريجية المتعلق والشروط ، فكما ان الشروط من الحياة والقدرة وغير ذلك تحصل تدريجا - إذ لا يعقل تحقق الحياة من الطلوع إلى الغروب دفعة واحدة وفي آن واحد ، بل لا بد من أن تتحقق تدريجا حسب تدرج آنات الزمان ، وكذا الحال

ص: 209

بالنسبة إلى الامساك فيما بينها الذي يكون متعلقا لابد وان يتحقق متدرجا في آنات الزمان - فكذلك فعلية الخطاب انما تكون تدريجية ، ويكون فعلية وجوب الامساك في كل آن مشروطا بوجود ذلك الآن ، وتكون الفعلية متدرجة في الوجود حسب تدرج آنات الزمان ، ولا يعقل غير ذلك ، إذ كما لا يعقل تحقق امساك الآن الثاني في الآن الأول لعدم معقولية جر الزمان ، كذلك لا يعقل فعلية وجوب امساك الآن الثاني في الآن الأول ، وكما يكون امساك كل آن موقوفا على وجود ذلك الآن ، كذلك فعلية وجوب الامساك في كل آن موقوفة على وجود ذلك الآن ، ففعلية الخطاب في التدرج والدفعية تتبع الشروط والمتعلق في التدرج والدفعية ، فإذا كانت الشروط والمتعلق تدريجية فلا بد ان يكون فعلية الخطاب أيضا تدريجية ، ولا فرق في هذا بين ان نقول ان الزمان في باب الصوم اخذ قيدا للمتعلق ، أو اخذ قيدا لنفس الحكم على ما بينا (1) تفصيله في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب في مسألة استصحاب حكم المخصص أو الرجوع إلى حكم العام.

نعم تظهر الثمرة بين الوجهين في وجوب امساك بعض اليوم لمن يعلم بفقدان بعض الشروط في أثناء النهار أو عدم وجوبه ، فإنه بناء على أن يكون الزمان قيدا لنفس الحكم يكون وجوب الامساك في البعض والكفارة عند المخالفة على القاعدة ، بخلاف ما إذا قلنا بكون الزمان قيدا للمتعلق ، فإنه يكون وجوب امساك البعض والكفارة على خلاف القاعدة ، يتبع ورود الدليل ، ولا باس بالإشارة إلى وجه ذلك اجمالا.

فنقول :

ان كان الزمان قيدا للمتعلق وهو الامساك فيكون الواجب هو الامساك ما بين الحدين ( الطلوع والغروب ) عند اجتماع الشرائط : من القدرة وعدم السفر والحيض فيما بين الحدين ، فيكون متعلق التكليف أمرا واحدا مستمرا وهو الامساك ة

ص: 210


1- راجع تفصيل هذا البحث في التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب. الجزء الرابع من هذا الكتاب - ص 196 الطبعة القديمة

ما بين الطلوع والغروب ، ويكون هذا هو الصوم المأمور به ، فلو اختل أحد الشرائط في جزء من النهار لم يكن الامساك حينئذ واجبا واقعا ، إذ امساك بعض اليوم لم يكن واجبا وليس صوما شرعا ، وحينئذ كان مقتضى القاعدة عدم وجوب الامساك من أول الفجر عند العلم باختلال بعض الشرائط ، كمن يعلم أنه يسافر في أثناء النهار أو علمت المرأة انها تحيض ، فوجوب الامساك عليه وثبوت الكفارة يحتاج إلى دليل تعبدي ، ولا يكفي في ذلك أدلة نفس وجوب الصوم.

وأما إذا كان الزمان قيدا للحكم ، فيصير المعنى ، ان الحكم بوجوب الصوم والامساك مستمر إلى الغروب ، بحيث يكون الغروب منتهى عمر الحكم ، فيحدث من أول الطلوع وينتهي بالغروب ، ومرجع ذلك إلى أن الحكم بالامساك في كل آن من آنات النهار ثابت ، فاختلال الشرائط في أثناء النهار لايكون كاشفا عن عدم ثبوت الحكم من أول الامر ، بل الحكم كان واقعا ثابتا إلى زمان اختلال الشرائط وينقطع بالاختلال.

وهذا لا ينافي ارتباطية الصوم وانه ليس هناك تكاليف متعددة مستقلة ، فان ارتباطية التكليف ليس الا عبارة عن وحدة الملاك وترتبه على مجموع الامساك الواقع في النهار ، لا ان لكل امساك ملاكا يخصه ، وهذا أجنبي عما نحن فيه من استمرار الحكم في مجموع النهار على وجه يكون قيدا للحكم ، فيكون ثبوت الحكم في كل زمان تابعا لثبوت الشرط في ذلك الزمان ، وانتفاء الشرط في زمان لا يوجب انتفاء الحكم في الزمان السابق عليه ، وح يجب الامساك على من يعلم أنه يسافر وتلزمه الكفارة عند المخالفة ، لأنه قد خالف حكما واقعيا ثابتا في الواقع ، فتأمل في المقام جيدا.

وعلى كل حال تكون فعلية الحكم في باب الصوم تدريجية ، سواء قلنا بان الزمان فيه قيد للحكم أو قيد للمتعلق ، لان مناط التدريجية هو تدريجية الشروط والمتعلق ، الذي قد عرفت ان مع تدريجيتها لا يعقل فعلية الحكم دفعة ، إذ فعلية الحكم يدور مدار تحقق شرطه ، وتكون تابعة لوجوده ، ومع كون الشرط تدريجي الحصول فلا محالة يكون الفعلية أيضا تدريجية ، حسبما تقتضيه التبعية ، هذا بالنسبة إلى الصوم.

ص: 211

واما بالنسبة إلى الصلاة فيفترق الحال فيها بالنسبة إلى أول الوقت في مضى مقدار أربع ركعات منه ، وما عدا ذلك من بقية الوقت ، فان التكليف بأربع ركعات لما كان مشروطا بالزمان الذي يمكن ايقاع الأربع فيه ، إذ لا يعقل ان يكون الزمان أضيق دائرة عن متعلق التكليف ، فالتكليف بأربع ركعات مشروط بزمان يسع الأربع ، وح لا يمكن ان يكون التكليف بالأربع من أول الوقت فعليا ، بل لابد ان يكون فعليته تدريجية حسب تدريجية اجزاء الزمان إلى مقدار أربع ركعات ، وعند انقضاء ذلك المقدار تتم الفعلية لتمامية شرطها من مضى مقدار أربع ركعات ، ولأجل ذلك أفتوا بعدم وجوب القضاء على من حصل له أحد الاعذار الموجبة لسقوط التكليف كالجنون والحيض قبل مضى مقدار أربع ركعات من الوقت ووجوب القضاء عند حصوله بعد ذلك ، والسر في ذلك هو ما ذكرنا من أن الحكم بالأربع لايكون فعليا من أول الوقت دفعة واحدة ، بل فعليته تكون تدريجية حسب تدرج شرط الحكم من الزمان ، فلا تتم الفعلية الا عند انقضاء ذلك المقدار من الزمان ، فالعذر الحاصل قبل ذلك يكون حاصلا قبل تمامية فعلية لحكم ، فلا موجب للقضاء. وهذا بخلاف ما إذا انقضى ذلك المقدار من الزمان فان شرط الفعلية ح حاصل ، فلا مانع من فعلية الحكم بالأربع ، وتكون التسليمة ح في عوض التكبيرة من حيث فعلية حكمها وكونه مخاطبا بها كخطابه بالتكبيرة.

فان قلت :

كيف يكون الحكم بالتسليمة فعليا مع عدم القدرة عليها شرعا الا بعد التكبيرة وما يلحقها من الاجزاء ، وبعبارة أخرى : كيف يكون الحكم فعليا دفعة مع تدريجية المتعلق؟.

قلت :

العبرة في الفعلية التدريجية هي تدريجية الشرائط لا تدريجية المتعلق ، وقولك : لا يقدر على التسليمة في الحال ، قلنا : هي مقدورة له بتوسط القدرة على الاجزاء السابقة ، فتكون ح من المقدور بالواسطة ، غايته ان الواسطة تارة تكون عقلية كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، وأخرى تكون جعلية شرعية كالاجزاء

ص: 212

السابقة بالنسبة إلى التسليمة ، وقد تقدم صحة فعلية التكليف بالنسبة إلى كل ما يكون مقدورا بالواسطة ، فالتكليف بالتسليمة بعد مضى مقدار أربع ركعات من الوقت يكون كالتكليف بالصلاة في مسجد الكوفة غير مقيد بالزمان ، واما التكليف بها قبل ذلك فيكون كالتكليف بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين المثالين ، وان التكليف في أحدهما يكون مط وفي الآخر يكون مشروطا ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق والمعلق.

بقى في المقام : حكم صورة الشك في كون الواجب مشروطا أو مطلقا ، الذي يرجع الشك فيه إلى الشك في كون القيد قيدا للهيئة أو قيدا للمادة ، وقد اضطربت الكلمات في ذلك ، وسلك كل مسلكا ، وينبغي ان يعلم أولا : ان محل الكلام فيما إذا كان القيد فعلا اختياريا للمكلف ، إذ لو لم يكن كذلك فلا بد ان يكون التكليف مشروطا به ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، وكذا محل الكلام فيما إذا لم يكن في البين ما يعين أحدهما كما إذا سيق القيد بصورة القضية الشرطية فإنه يتعين رجوعه إلى الهيئة ، حيث إن القضية الشرطية ما تكون ربط جملة بجملة أخرى على ما تقدم بيانه أيضا ، أو سيق القيد على وجه اخذ وصفا للمادة ، كما إذا قيل متطهرا وأمثال ذلك ، مما يكون القيد ظاهرا في رجوعه إلى المادة.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ربما قيل إنه عند الدوران يقدم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، لان في تقييد الهيئة يلزم كثرة التقييد وتعدده ، والأصل يقتضى خلافه ، بخلاف تقييد المادة ، فان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة لا محالة ، إذ لا يمكن اطلاق المادة مع تقييد الهيئة ، وهذا معنى ما يقال : من أن اشتراط الوجوب بشيء يرجع إلى اشتراط الواجب به أيضا ولا عكس ، إذ تقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة كما لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

لان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فإذا امتنع الاطلاق امتنع التقييد وحينئذ نقول في المقام : انه لو رجع القيد إلى الهيئة وكان وجوب الحج مثلا مشروطا بالاستطاعة ، فلا يعقل الاطلاق في طرف المادة ، إذ بعد ما

ص: 213

كان وجوب الحج بعد فرض حصول الاستطاعة ، فكيف يكون الحج واجبا في كلتا صورتي وجود الاستطاعة وعدمها الذي هو معنى الاطلاق؟ وهل هذا الا الخلف والتناقض؟ فإذا امتنع الاطلاق في طرف المادة امتنع التقييد أيضا لا محالة ، فان تقييد المادة بالاستطاعة مثلا يقتضى لزوم تحصيلها ، كما هو الشأن في كل قيد يرجع إلى المادة ، وبعد فرض حصول الاستطاعة ، كما هو لازم اخذها قيدا للهيئة - لما عرفت من أن القيود الراجعة إلى الحكم لا بد ان يؤخذ مفروضة الوجود - لا معنى لتقييد المادة بالاستطاعة الذي يقتضى تحصيلها ، لأنه يكون من طلب الحاصل. فدعوى ان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة مما لا ترجع إلى محصل.

نعم النتيجة المقصودة من تقييد المادة حاصلة عند تقييد الهيئة ، لان المقصود من تقييد الحج بالاستطاعة ليس الا وقوع الحج بعد التلبس بالاستطاعة ، كما أن المقصود عن تقييد الصلاة بالطهارة هو وقوع الصلاة في حال التلبس بالطهارة ، وهذا المعنى حاصل بعد تقييد الهيئة ، لأنه لو تأخر وجوب الحج من الاستطاعة ، فالحج الواجب يقع بعد الاستطاعة لا محالة ، فالنتيجة المطلوبة من تقييد المادة حاصلة قهرا عند تقييد الهيئة ، ولكن هذا غير تقييد المادة بحيث يكون رجوع القيد إلى لهيئة موجبا لتعدد التقييد ويرجع الشك في المقام إلى الشك في قلة التقيد وكثرته حتى يقال : ان الأصل اللفظي يقتضى قلة التقييد.

فظهر انه عند دوران الامر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة يكون من الدوران بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر.

وبعد ذلك نقول : ان القيد تارة يكون متصلا بالكلام ، كما إذا ورد : حج مستطيعا ، ودار الامر بين رجوع قيد الاستطاعة إلى الوجوب حتى لا يجب تحصيلها ، أو إلى الحج حتى يجب تحصيلها.

وأخرى يكون منفصلا ، كما إذا ورد حج ، وبعد ذلك ورد دليل منفصل يدل على اعتبار قيد الاستطاعة ، ودار أمرها بين الامرين ، فان كان القيد متصلا بالكلام فلا اشكال في اجمال الكلام حينئذ لاحتفافه بما يصلح لكلا الامرين بلا معين ، فلا يكون للهيئة اطلاق ولا للمادة ، لاتصال كل منهما بما يصلح للقرينية ،

ص: 214

فلا يمكن التمسك باطلاق أحدهما بعد العلم الاجمالي بورود القيد على أحدهما ، بل لابد ح من الرجوع إلى الأصول العملية ، وسيأتي البحث عن ذلك.

واما لو كان القيد منفصلا ، فهذا هو الذي (1) ذكر الشيخ ( قده ) فيه وجهين لرجوع القيد إلى المادة لا إلى الهيئة.

( الوجه الأول )

ان الامر في المقام يدور بين تقييد اطلاق الهيئة ، وتقييد اطلاق المادة ، لأن المفروض انه انعقد الظهور الاطلاقي لكل منهما حيث كان التقييد بالمنفصل ، ولذلك خصصنا كلام الشيخ ( قده ) بالمنفصل ، إذ مع الاتصال لا ينعقد ظهور اطلاقي لكل منهما ، فلا معنى للدوران ح. وهذا بخلاف ما إذا كان بالمنفصل ، فان الظهور الاطلاقي انعقد لكل منهما ، فيدور الامر بين تقييد اطلاق المادة وتقييد اطلاق الهيئة ، ولما كان اطلاق الهيئة شموليا وكان اطلاق المادة بدليا ، كان اللازم تقييد اطلاق المادة ، لأقوائية الاطلاق الشمولي من الاطلاق البدلي ، كما هو الشأن في كل ما دار الامر بين تقييد اطلاق الشمولي وتقييد اطلاق البدلي.

اما كون اطلاق الهيئة شموليا واطلاق المادة بدليا ، فلان معنى اطلاق الهيئة هو ثبوت الوجوب في كلتا حالتي ثبوت القيد وعدمه ، فيكون اطلاق الوجوب شاملا لصورة وجود الاستطاعة وصورة عدمها ، وهذا بخلاف اطلاق المادة فإنه بدلي ، حيث إن الواجب هو صرف وجود الحج ، والمطلوب فرد واحد منه على البدل بين الفرد قبل الاستطاعة والفرد بعده ، وهذا عين الاطلاق البدلي.

واما تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد الاطلاق الشمولي ، فهو موكول إلى محله في مبحث التعادل والتراجيح ، وقد أوضحناه في محله.

ثم إن المحقق الخراساني قده ، (2) سلم ان المقام يكون من دوران الامر بين تقييد الاطلاق البدلي والاطلاق الشمولي. الا انه ناقش في الكبرى ، ومنع تقديم

ص: 215


1- راجع مطارح الأنظار ، الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب ص 47.
2- الكفاية ، الجلد 1 ص 169 « فلان مفاد اطلاق الهيئة وان كان شموليا .. »

الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، نظرا إلى أن الاطلاق في كل منهما يكون بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، فلا موجب لتقديم أحدهما على الاخر هذا.

ولكن الانصاف ان المقام أجنبي عن مسألة تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، لان تلك المسألة انما هي في ما إذا تعارض الاطلاقان وتنافيا بحسب المدلول ، كما إذا ورد لا تكرم الفاسق وورد أيضا أكرم عالما ، حيث إن اطلاق لا تكرم الفاسق يقتضى عدم اكرام العالم الفاسق ، واطلاق أكرم عالما يقتضى اكرامه ، فيتنافيان في مورد الاجتماع ، ويصح التعارض بينهما ، فيبحث ح عن أن اطلاق الشمولي مقدم على الاطلاق البدلي أو غير مقدم. والمقام ليس من هذا القبيل ، إذ ليس بين اطلاق المادة واطلاق الهيئة تعارض وتناف ، بل بينهما كمال الملائمة والألفة ، إذ لا يلزم من اطلاق كل منهما محذور لزوم اجتماع المتناقضين الذي هو المناط في باب التعارض ، والعلم بورود المقيد على أحدهما من الخارج لمكان الدليل المنفصل لا يوجب التنافي بينهما. غايته انه يعلم بعدم إرادة أحد الاطلاقين وان أحدهما لا محالة مقيد ، وأي ربط لهذا باقوائية اطلاق الهيئة لكونه شموليا من اطلاق المادة لكونه بدليا؟ فان الأقوائية لا توجب ان يكون القيد واردا على الضعيف ، وأي ملازمة في ذلك؟ بل لو فرض ان الهيئة بالوضع تدل على الشمول لا بالاطلاق كان ذلك العلم الاجمالي بحاله ، فان القيد لا محالة اما ان يكون واردا على الهيئة أو يكون واردا على المادة ، وأقوائية الهيئة لا ربط لها بذلك ، فالمقام نظير ما إذا علم بكذب أحد الدليلين من دون ان يكون بين مدلوليهما تناف ، حيث أوضحنا في محله انه لا يعامل معاملة التعارض في مثل هذا ، بل يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ويعامل معهما معاملة قواعد العلم الاجمالي ، والمقام بعينه يكون من هذا القبيل.

( الوجه الثاني )

الذي ذكره الشيخ ( قده ) لترجيح ارجاع القيد إلى المادة ، هو ان تقييد الهيئة وان لم يستلزم تقييد المادة ، بحيث يلزم تعدد التقييد كما تقدم ، الا انه لا اشكال في أنه يوجب بطلان اقتضاء المادة للاطلاق ، ويخرجها عن قابليته ، وكما أن

ص: 216

أصل التقييد مخالف للأصل ، كذلك عمل ما ينتج نتيجة التقييد واخراج المحل عن قابلية الاطلاق يكون مخالفا للأصل ، لاشتراكهما في الأثر. وهذا بخلاف ارجاع القيد إلى المادة ، فإنه سالم عن هذا المحذور لبقاء اطلاق الهيئة على حاله هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه فان التقييد انما كان على خلاف الأصل لمكان جريان مقدمات الحكمة ، وأين هذا من عمل ما يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وهدم أساسها كما هو الحال عند ارجاع القيد إلى الهيئة حيث إنه يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في صرف المادة وهدم أساس اطلاقها ، فإنه لا أصل يقتضى بطلان مثل هذا العمل.

وبالجملة ما ذكره الشيخ ( قده ) من الوجهين لارجاع القيد إلى المادة ، مما لا يمكن المساعدة عليه. فلابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي ، إذ الأصول اللفظية من أصالة اطلاق المادة وأصالة اطلاق الهيئة متعارضة ، للعلم بتقييد أحد الاطلاقين ، فتصل النوبة حينئذ إلى الأصول العملية ، ومعلوم ان الشك في المقام يرجع إلى الشك في لزوم تحصيل القيد ، ومقتضى أصالة البراءة عدم لزوم تحصيله. هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام.

ثم تنظر في جميع ما افاده بما حاصله : ان المراد من تقييد الهيئة هو تقيد المادة المنتسبة على ما عرفت ، إذ تقييد الهيئة بما انها معنى حرفي لا يعقل ، فلا بد من رجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ويكون الفرق بين تقييد المادة وتقييد الهيئة هو انه تارة : يكون التقييد للمادة بلحاظ ما قبل الاستناد ، وأخرى : يكون تقييدا لها بلحاظ الاستناد - كما تقدم تفصيل ذلك - وحينئذ يكون رجوع القيد إلى المادة متيقنا ، والشك يرجع إلى امر زائد وهو تقييدها بلحاظ الاستناد ، واطلاق الهيئة ينفى هذا الامر الزائد ، من غير فرق بين ان يكون التقييد بالمتصل أو المنفصل ، إذ رجوع القيد المتصل إلى المادة أيضا متيقن ، ورجوعه إلى المادة المنتسبة مشكوك وأصالة الاطلاق الجارية في طرف الهيئة تنفى ذلك.

وتوهم انه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فاسد ، إذ الضابط فيما يصلح للقرينية هو امكان رجوع القيد إلى ما تقدم بلا حاجة إلى عناية زائدة و

ص: 217

صلوحه للقرينية بلا كلفة ، كاستثناء الفساق من العلماء مع تردد الفساق بين مرتكب الكبيرة فقط ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة لأجل اجمال المفهوم ، وكالضمير المتعقب لجمل متعددة ، أو الاستثناء المتعقب لذلك ، فإنه في الجميع يكون القيد صالحا لرجوعه إلى ما تقدم بلا عناية ، بحيث يصح للمتكلم الاعتماد على ذلك وبذلك ينهدم أساس مقدمات الحكمة. وهذا بخلاف المقام ، فان رجوع القيد إلى الهيئة يحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ الانتساب في طرف المادة هذا.

مع أن رجوع القيد إلى الهيئة والوجوب ، لا يصح الا بعد اخذ القيد مفروض الوجود كما تقدم ، وذلك أيضا امر زائد ينفيه اطلاق القيد ، حيث إنه لم يتعقب بمثل أداة الشرط التي خلقها اللّه تعالى لأجل فرض الوجود ، فمقتضى اطلاقه عدم لحاظه مفروض الوجود.

هذا كله. مضافا إلى أن القيود التي تصلح لان ترجع إلى المادة أو الوجوب انما هي القيود التي تكون بصيغة الحال ، كحج مستطيعا ، إذ ما عدا ذلك لا تصلح لذلك ، فان ما كان مصدرا بأدوات الشرط (1) وما يلحق بها لا تصلح الا للرجوع إلى الهيئة ، وما كان من قبيل المفعول به وفيه لا تصلح الا للمادة كصل في المسجد ، حيث إن ظاهره الأولى يقتضى بناء المسجد الا ان تقوم قرينة شخصية أو نوعية على خلافه. فينحصر ما يصلح للرجوع إلى كل منهما بما كان على هيئة الحال ، ومعلوم ان مقتضى الظهور النوعي في مثل حج مستطيعا ، وصل متطهرا ، وأمثال ذلك ، هو رجوع القيد إلى المادة ، حيث لا يستفاد منه الا ذلك ، هذا إذا كان التقييد بالمتصل. وأما إذا كان التقييد بالمنفصل ، فان كان لفظيا فالكلام فيه هو الكلام في المتصل ، بل هو أولى كما لا يخفى.

وان كان لبيا ، كما إذا انعقد اجماع على أن الحج لا يقع بصفة المطلوبية الا

ص: 218


1- كالعقود التي لا تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها خارجة عن القدرة كالزمان ، حيث عرفت ان مثل ذلك لابد ان يؤخذ مفروض الوجود - منه.

في حال الاستطاعة ، وشك في كون الاستطاعة شرطا للوجوب أو للحج ، فالظاهر أيضا رجوع القيد إلى المادة فقط ، لاحتياج رجوع القيد إلى الهيئة إلى عناية زائدة ، والاطلاق يدفع ذلك.

نعم لا يتمشى الوجه الثاني (1) والثالث فيما إذا كان دليل القيد لبيا كما لا يخفى. هذا حاصل ما افاده مد ظله ، ولكن للنظر فيه مجال ، كما لا يخفى على المتأمل. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق وما يتعلق بذلك من المباحث.

وينقسم الواجب أيضا إلى نفسي وغيري

وعرف الغيري : بما امر به للتوصل إلى واجب آخر. ويقابله النفسي ، وهو ما لم يؤمر به لأجل التوصل به إلى واجب آخر. وقد يعرف النفسي : بما امر به لنفسه ، والغيري : بما امر به لأجل غيره.

وقد أشكل على التعريف الأول بما حاصله : انه يلزم ان يكون جل الواجبات غيرية ، لان الامر بها انما هو لأجل التوصل بها إلى ما لها من الفوائد والملاكات المترتبة عليها ، التي تكون هي الواجبة في الحقيقة ، وكونها مقدورة بالواسطة لأنها من المسببات التوليدية.

ثم وجه المستشكل بان ترتب الملاكات على الواجبات وكون الملاكات من المسببات التوليدية لا ينافي الوجوب النفسي ، لأنه يمكن ان تكون الواجبات معنونة بعنوان حسن ، وبانطباقه عليها تكون واجبات نفسية ، وارجع تعريف الواجب النفسي بأنه ما امر به لنفسه إلى ذلك هذا.

وقد أشبعنا الكلام في بطلان توهم كون الملاكات من المسببات التوليدية في مبحث الصحيح والأعم ، وانه ليست الملاكات واجبة التحصيل لكونها من الدواعي ، ولا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها. فراجع ذلك المبحث. وعليه لا يرد .

ص: 219


1- مرادنا من الوجه الثاني : هو ظهور دليل القيد في عدم اخذه مفروض الوجود ، ومن الوجه الثالث : هو الظهور النوعي في رجوع ما كان بصيغة الحال إلى المادة فقط - منه.

الاشكال على التعريف المذكور.

نعم يرد عليه ، خروج الواجبات التهيئية والواجبات التي يستقل العقل بوجوبها لأجل برهان التفويت عن كونها واجبات نفسية ، لان الامر في جميعها انما يكون لأجل التوصل بها إلى واجبات آخر ، من الحج في وقته ، والصلاة مع الطهور في وقتها ، وغير ذلك ، فيلزم ان يكون جميعها واجبات غيرية ، مع أنها ليست كذلك كما تقدم سابقا.

فالأولى ان يعرف الواجب النفسي بما امر به لنفسه ، أي تعلق الامر به ابتداء وكان متعلقا للإرادة كذلك ، ويقابله الواجب الغيري ، وهو ما إذا كانت ارادته ترشحية من ناحية إرادة الغير ، فتكون الواجبات التهيئية كلها من الواجبات النفسية ، حيث لم تكن ارادتها مترشحة من إرادة الغير ، لوجوبها مع عدم وجوب الغير ، على ما تقدم تفصيل ذلك.

ثم إن ما دفع به الاشكال عن الواجبات النفسية ، بأنه يمكن ان يكون ذلك لأجل انطباق عنوان حسن الخ ، لم نعرف معناه ، فان العنوان الحسن من أين جاء؟ وهل ذلك العنوان الا جهة ترتب الملاكات عليها الذي التزم انها من تلك الجهة تكون واجبات غيرية؟ فتأمل جيدا.

وعلى كل حال لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فتارة ، يقع الكلام فيما يقتضيه الأصل اللفظي وأخرى ، فيما يقتضيه الأصل العملي.

( اما الأول )

فمجمل القول فيه : هو ان الواجب الغيري لما كان وجوبه مترشحا عن وجوب الغير ، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير ، كما أن وجود الغير يكون مشروطا بالواجب الغيري ، فيكون وجوب الغير من المقدمات الوجوبية للواجب الغيري ، ووجود الواجب الغيري من المقدمات الوجودية لذلك الغير ، مثلا يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصلاة ، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء ، فالوضوء بالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادة ، ووجوب الصلاة يكون من قيود الهيئة بالنسبة إلى الوضوء بالمعنى المتقدم من تقييد الهيئة ، بحيث لا يرجع إلى تقييد المعنى

ص: 220

الحرفي. وحينئذ يرجع الشك في كون الوجوب غيريا إلى شكين : أحدهما : الشك في تقييد وجوبه بوجوب الغير ، وثانيهما : الشك في تقييد مادة الغير به.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه ان كان هناك اطلاق في كلا طرفي الغير والواجب الغيري ، كما إذا كان دليل الصلاة مط لم يأخذ الوضوء قيدا لها ، وكذا كان دليل ايجاب الوضوء مط لم يقيد وجوبه بالصلاة ، كما في قوله تعالى (1) « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ ، حيث إنه قيد وجوب الوضوء بالقيام إلى الصلاة فلا اشكال في صحة التمسك بكل من الاطلاقين ، وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي للوضوء ، وعدم كونه قيدا وجوديا للصلاة ، فان اطلاق دليل الوضوء يقتضى الأول ، واطلاق دليل الصلاة يقتضى الثاني.

والاشكال في التمسك باطلاق الهيئة في طرف الوضوء ، بان الهيئة موضوعة لافراد الطلب ومصاديقه لا لمفهومه ، فلا معنى للرجوع إلى اطلاق الهيئة كما في التقريرات (2) ضعيف جدا. واضعف منه ، دفع الاشكال بان الهيئة موضوعة لمفهوم الطلب ، وهو الذي ينشأ ، إذ لا معنى لانشاء المصداق الخ ما ذكره في الكفاية (3).

اما ضعف ما في التقرير ، فلان كون الهيئة موضوعة لمفهوم الطلب أو لمصاديقه أجنبي عما نحن فيه ، إذ لا اشكال في ثبوت الواجبات الغيرية في الشريعة ، فيسئل ان الشيء بأي صناعة يكون واجبا غيريا؟ وهل يكون الشيء واجبا غيريا الا بتقييد وجوبه بالغير؟ على معنى تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم بيانه في الواجب المشروط. وبالجملة : الواجب الغيري يكون قسما من الواجب المشروط ، وكما أن اطلاق دليل الحج مثلا يقتضى عدم تقييد وجوبه بالاستطاعة ، كذلك

ص: 221


1- المائدة ، الآية 6
2- مطارح الأنظار ، مباحث مقدمة الواجب « هداية : ينقسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاص كما ستعرفه إلى غيري ونفسي .. » ص 65
3- كفاية الأصول ، الجلد 1 ص 173 « ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الافراد ، بل هو مفهوم الطلب .. »

اطلاق دليل الوضوء يقتضى عدم تقييد وجوبه بمثل « إذا قمتم إلى الصلاة » فتأمل.

واما ضعف ما في الكفاية ، فلانه لا معنى لوضع الهيئة لمفهوم الطلب ، ولا معنى لانشاء مفهوم الطلب ، بل الهيئة على ما عرفت لم توضع الا لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل بالنسبة الايقاعية ، مقابل النسبة التحققية والتلبسية ، التي وضعت هيئة الماضي والمضارع لهما ، وبايقاع هذه النسبة إذا كان بداعي الطلب يتحقق مصداق من الطلب ، حيث إن حقيقة الطلب هو التصدي لتحصيل المطلوب ، والآمر بايقاعه للنسبة مع كونه بداعي الطلب قد تصدى لتحصيل مطلوبه بتوسط عضلات العبد ، فالهيئة لم توضع للطلب أصلا لا لمفهومه ولا لمصداقه ، وقد تقدم ذلك مشروحا في أول مبحث الأوامر ، فراجع.

وعلى كل حال ظهر صحة التمسك باطلاق كل من الغير والواجب الغيري لو كان لكل منهما اطلاق. بل لو كان لأحدهما اطلاق يكفي في المقصود من اثبات الوجوب النفسي ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فلو فرض انه لم يكن لدليل الوضوء اطلاق وكان لدليل الصلاة اطلاق ، فمقتضى اطلاق دليلها هو عدم تقييد مادتها بالوضوء ، ويلزمه عدم تقييد وجوب الوضوء بها ، لما عرفت من الملازمة بين الامرين ، وكذا الحال لو انعكس الامر وكان لدليل الوضوء اطلاق دون دليل الصلاة.

وبالجملة الأصل اللفظي يقتضى النفسية عند الشك فيها ، سواء كان لكل من الدليلين اطلاق أو كان لأحدهما اطلاق ، ولا تصل النوبة إلى الأصول العملية ، الا إذا فقد الاطلاق من الجانبين ، وحينئذ ينبغي البحث عما يقتضيه الأصل العملي.

فنقول : الشك في الوجوب الغيري له اقسام ثلاثة :

القسم الأول

ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري من دون ان يكون وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة ، وشك في وجوب الوضوء من حيث كونه غيريا أو نفسيا ، ففي هذا القسم

ص: 222

يرجع الشك إلى الشك في تقييد الصلاة بالوضوء وانه شرط لصحتها ، حيث عرفت ملازمة الشك في ذلك للشك في تقييد الصلاة ، وح يرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، وأصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة وصحتها بدونه ، فمن هذه الجهة تكون النتيجة النفسية. واما من جهة تقييد وجوب الوضوء بوجوب الصلاة فلا اثر لها ، للعلم بوجوب الوضوء على كل حال نفسيا كان أو غيريا ، نعم ربما يثمر في وحدة العقاب وتعدده عند تركه لكل من الوضوء والصلاة ، وليس كلامنا الآن في العقاب.

القسم الثاني

ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري ، ولكن كان وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كالمثال المتقدم فيما إذا علم قبل الزوال ، ففي هذا القسم يرجع الشك في غيرية الوضوء ونفسيته إلى الشك في اشتراطه بالزوال وعدم اشتراطه ، إذ لو كان واجبا غيريا يكون مشروطا بالزوال لمكان اشتراط الصلاة به ، وحينئذ يكون من افراد الشك بين المط والمشروط ، وقد تقدم ان مقتضى الأصل العملي هو الاشتراط ، للشك في وجوبه قبل الزوال ، وأصالة البراءة تنفى وجوبه ، كما تنفى شرطية الصلاة بالوضوء ، ولا منافاة بين اجراء البراءة لنفى وجوب الوضوء قبل الزوال واجراء البراءة لنفى قيديته للصلاة كما لا يخفى.

القسم الثالث

ما إذا علم بوجوب ما شك في غيريته ، ولكن شك في وجوب الغير ، كما إذا شك في وجوب الصلاة في المثال المتقدم وعلم بوجوب الوضوء ، ولكن شك في كونه غيريا حتى لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضى البراءة ، أو نفسيا حتى يجب.

فقد قيل في هذا القسم بعدم وجوب الوضوء واجراء البراءة فيه ، لاحتمال كونه غيريا ، فلا يعلم بوجوبه على كل حال هذا.

ولكن الأقوى وجوبه ، لان المقام يكون من التوسط في التنجيز الذي عليه يبتنى جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي ، إذ كما أن العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشك في وجوبها يقتضى وجوب امتثال ما علم ، ولا يجوز اجراء البراءة

ص: 223

فيه ، مع أنه يحتمل كون ما عدا السورة واجبا غيريا ومقدمة للصلاة مع السورة ، فكذلك المقام من غير فرق بينهما ، سوى تعلق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة ، وفي المقام تعلق العلم بمقدار من الواجب كالوضوء فقط ، وهذا لا يصلح ان يكون فارقا فيما نحن بصدده. كما لا يصلح الفرق بين المقامين : بأنه في المقام قد تعلق العلم بما يحتمل كونه مقدمة خارجية كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، وفي ذلك المقام تعلق العلم بما يحتمل كونه مقدمة داخلية ، فان المناط في الجميع واحد وهو العلم بالوجوب ، مع أنه لنا ان نفرض مثال المقام بما يحتمل كونه مقدمة داخلية ، كما إذا علم بوجوب السورة فقط وشك في النفسية والغيرية ، فتأمل.

بقى في المقام التنبيه على أمرين

( الأول )

قد اختلف الاعلام في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه على أقوال.

( ثالثها ) التفصيل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب اصلى فيترتب ، أو تبعي فلا يترتب.

( رابعها ) التفصيل بين استحقاق الثواب فلا يترتب ، واستحقاق العقاب فيترتب.

والأولى تحرير محل النزاع في المقام ، بالأعم من الاستحقاق والتفضل ، إذ استحقاق الثواب في الواجبات النفسية محل كلام.

فقد حكى شيخنا الأستاذ مد ظله ، عن المفيد (رحمه اللّه) القول بعدم استحقاق العبد للثواب على الإطاعة وامتثال أوامر مولاه عقلا على وجه يكون عدم ترتب الثواب على اطاعته من الظلم المستحيل في حقه تعالى وكيف يحكم العقل بذلك؟ مع أن العبد مملوك لمولاه ، فعليه اطاعته وامتثال أوامره ، ولا يمتنع عقلا عدم إثابة العبد لإطاعة مولاه ، بل الثواب انما يكون بالتفضل منه تعالى على عبيده ومنة عليهم بذلك. وقد خالف في ذلك المتكلمون ، حيث قالوا بالاستحقاق. ونظير هذا البحث وقع في وجوب قبول التوبة ، حيث ذهب المتكلمون إلى وجوب قبولها عليه تعالى و

ص: 224

خالف في ذلك بعض. وعلى كل حال مسألة استحقاق الثواب في امتثال الواجبات النفسية محل كلام ، فما ظنك بالواجبات الغيرية؟ فالأولى تحرير النزاع بالأعم من الاستحقاق ، (1) والتفضل.

ثم انه لا اشكال في أن استحقاق الثواب على القول به ، انما يتوقف على قصد الطاعة وامتثال الامر ، وليس هو من لوازم فعل ذات الواجب من دون قصد ذلك ، بداهة ان الاتيان بذات الواجب من دون قصد امتثال الامر مما لا يوجب استحقاق الثواب.

إذا عرفت هذا

فنقول : انه لا معنى للبحث عن استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيري ، لان امتثاله انما يكون بعين امتثال ذي المقدمة الذي تولد امره منها ، وليس له امر بحيال ذاته ، حتى يبحث عن استحقاق الثواب عند امتثاله ، من غير فرق في ذلك بين المقدمات الشرعية أو العقلية.

اما المقدمات الشرعية فواضح ، لان أمرها انما يكون بعين الامر المنبسط على الواجب بما له من الاجزاء والشرائط والموانع ، ويكون حال المقدمات الخارجية حال المقدمات الداخلية ، من حيث إن امتثال أمرها انما يكون بامتثال الامر الواقع على الجملة ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، بداهة تعلق الامر بالشرائط في ضمن تعلقه بالمركب ، ويكون امتثال الامر بالشرائط بعين امتثال الامر بالمركب ، وينبسط الثواب على الجميع ، ويختلف سعة دائرة الثواب وضيقه بسعة المركب وضيقه ، فلا معنى للبحث عن أن امتثال الامر بالمقدمات الشرعية يوجب استحقاق الثواب ، وذلك واضح.

اما المقدمات العقلية : فما كان منها من قبيل الأسباب التوليدية ، فقد عرفت في بعض المباحث السابقة ان الامر بالسبب امر بالمسبب وكذا العكس ، لان

ص: 225


1- والانصاف : ان البحث عن التفضل مما لا ينبغي لسعة فضله ( تعالى ) فلا معنى للبحث عن تفضله بالثواب على الواجبات الغيرية ، فالأولى : ابقاء عنوان النزاع على حاله من استحقاق الثواب ، غايته انه يبنى البحث على استحقاق الثواب في الواجبات النفسية ، ويكون التكلم في المقام بعد الفراغ عن ذلك - منه.

المسبب يكون عنوانا للسبب ويكون وجوده بعين وجود سببه ويتحد معه في الوجود بنحو من الاتحاد ، فليس هناك أمران : تعلق أحدهما بالسبب والآخر بالمسبب ، حتى يبحث عن استحقاق الثواب على امتثال امر السبب ، بل هناك امر واحد وله امتثال فارد ، وذلك أيضا واضح.

واما ما كان منها من قبيل المعدات ، فقد يتوهم جريان البحث فيه ، حيث إنه قد تعلق بالمعد امر مقدمي ، فيبحث عن استحقاق الثواب عند امتثال ذلك الامر هذا.

ولكن الانصاف انه أيضا لا مجال للبحث عن ذلك ، لان الامر المقدمي بالمعد انما تولد من الامر بذى المقدمة ، فليس له امتثال بحيال ذاته ، بل امتثاله انما يكون بامتثال الامر الذي تولد هو منه ، وليس له امتثال على غير هذا الوجه ، فيسقط البحث عن استحقاق الثواب عند امتثال الواجب الغيري بالمرة ، فتأمل في المقام.

( الامر الثاني )

قد أشكل في الطهارات الثلث ، أولا في وجه استحقاق الثواب عند فعلها المعلوم بالضرورة ، مع أن أوامرها غيرية لمكان مقدميتها للصلاة ، وقد تقدم ان الامر الغيري لا يقتضى استحقاق الثواب.

وثانيا ان الأوامر الغيرية كلها توصلية ، لا يعتبر في سقوطها قصد امتثال أمرها والتعبد بها ، مع قيام الضرورة على اعتبار قصد التعبد بالطهارات الثلث.

وهذان الاشكالان قد ذكرهما الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) وتبعه صاحب الكفاية ( قده ) (2) ولكن الشيخ ( قده ) قد قرر الاشكال في كتاب الطهارة عند البحث عن نية الوضوء بوجه آخر (3) ولعله يرجع إلى اشكال ثالث.

ص: 226


1- راجع مطارح الأنظار ، مباحث مقدمة الواجب - « هداية ، لا ريب في استحقاق العقاب عقلا على مخالفة الواجب النفسي .. » ص 66
2- كفاية الأصول - الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري ، التذنيب الأول ص 175
3- كتاب الطهارة ، لأستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري. الركن الثاني ، في كيفية نية الوضوء ، الامر الأول مما لزم التنبيه عليه ، فيما بقى في نية الوضوء. ص 80

وحاصل ما ذكره في ذلك المقام : هو انه لا اشكال في أن نفس أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات ليست مقدمة للصلاة ، إذ ليست هذه الأفعال رافعة للحدث ، أو مبيحة للصلاة التي يكون الوضوء بهذا الاعتبار مقدمة لها ، بل المقدمة هو الوضوء المتعبد به وما يكون عبادة ، ولا اشكال أيضا ان العبادية تتوقف على الامر ، إذ لا يقع الشيء عبادة الا بقصد امتثال امره.

وبعد ذلك نقول : انه يتوقف رافعية الحدث للوضوء على أن يكون عبادة ، ويتوقف عباديته على الامر الغيري ، إذ المفروض انه لا امر له سوى ذلك ، والامر الغيري يتوقف على أن يكون الوضوء عبادة ، إذ الامر الغيري لا يقع الا على ما كان بالحمل الشايع مقدمة ، والوضوء العبادي يكون بالحمل الشايع مقدمة ، فلابد ان يكون عبادة قبل تعلق الامر الغيري به ، والمفروض ان عباديته تتوقف على الامر الغيري ، إذ لا امر له سوى ذلك حسب الفرض ، فيلزم الدور.

والانصاف ان الشيخ ( قده ) قد بعد المسافة في تقرب الاشكال ، لأنه قال في تقرير الدور ما لفظه : « فتحقق الامر الغيري يتوقف على كونه مقدمة ، ومقدميته بمعنى رفعه للمانع متوقفة على اتيانه على وجه العبادة المتوقفة على الامر به ، فيلزم الدور » انتهى. فإنه لا وجه لاخذ اتيانه على وجه العبادة من أحد المقدمات إذ لا ربط للاتيان وعدم الاتيان بالدور ، بل الدور انما يتوجه في مرحلة الجعل والامر ، فلا يحتاج إلى هذه المقدمة ، بل الأولى في تقريب الدور هو ان يقال : ان الامر الغيري يتوقف على أن يكون الوضوء عبادة ، وعباديته تتوقف على الامر الغيري ، فيلزم الدور المصرح ، فتأمل.

ثم لا يخفى عليك ان هذا الاشكال لا ربط له بالاشكال الثاني الذي ذكره في التقريرات ، فان ذلك الاشكال مبنى على أن الامر الغيري لا يقتضى العبادية بل هو توصلي. وهذا الاشكال يتوجه بعد الغض عن ذلك ، وتسليم اقتضاء الامر الغيري التعبدية ، ومع ذلك يلزم الدور ، كما هو واضح هذا.

ص: 227

ولكن لا يذهب عليك ، ان هذه الاشكالات كلها مبنية على أن جهة عبادية الوضوء انما تكون من ناحية امره الغيري ، وهو بمعزل عن التحقيق ، بل الوضوء انما يكتسب العبادية من ناحية الامر النفسي المتوجه إلى الصلاة بما لها من الاجزاء والشرائط ، بداهة ان نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الفاتحة إليها من الجهة التي نحن فيها ، حيث إن الوضوء قد اكتسب حصة من الامر بالصلاة لمكان قيديته له ، كاكتساب الفاتحة حصتها من الامر الصلواتي لمكان جزئيتها ، فكما ان الفاتحة اكتسبت العبادية من الامر الصلواتي ، كذلك الوضوء اكتسب العبادية من الامر الصلواتي بعد ما كان الامر الصلواتي عباديا ، وكذا الحال في الغسل والتيمم.

فان قلت : نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الستر والاستقبال إليها ، فكيف اكتسب الوضوء العبادية ، ولم يكتسب الستر والاستقبال العبادية؟.

قلت : التفاوت بين الطهارات الثلث وغيرها من القيود التي لا يعتبر ايقاعها على وجه العبادية ، انما هو من ناحية الملاك ، حيث إن الملاك الذي اقتضى قيدية الوضوء للصلاة اقتضاه على هذا الوجه ، أي وقوعه على وجه العبادية ، بخلاف ملاكات سائر الشروط ، حيث لم تقتضي ذلك.

والحاصل : ان عبادية الامر الصلواتي انما يكون بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله ، وذلك المتمم انما اقتضى عبادية الامر بالنسبة إلى خصوص الاجزاء والطهارات الثلث ، دون غيرها من الشرائط ، ولا منافاة في ذلك بعد ما كان استكشاف العبادية بأمر آخر اصطلحنا عليه بمتمم الجعل.

فتحصل ان الوضوء انما اكتسب العبادية من الامر الصلواتي ، والامر الغيري بالوضوء على القول به انما يكون متأخرا عن الامر الصلواتي الذي اخذ الوضوء حصة منه ، فالامر الغيري لايكون له جهة العبادية ، حتى يستشكل بان الأوامر الغيرية توصلية ، وكذا عبادية الوضوء لا يتوقف على الامر الغيري ، وان كان الامر الغيري متوقفا عليها ، فلا دور.

واما مسألة الثواب فقد عرفت الوجه فيها في الامر المتقدم ، فترتفع الاشكالات بحذافيرها.

ص: 228

ثم لو أغمضنا عن ذلك كله ، كان لنا التفصي عن الاشكالات بوجه آخر يختص بالوضوء والغسل فقط ، ولا يجرى في التيمم. وحاصل ذلك الوجه ، هو ان الوضوء والغسل لهما جهة محبوبية ذاتية ومطلوبية نفسية أوجبت استحبابهما قبل الوقت ، وعروض الوجوب لهما بعد الوقت لا ينافي بقاء تلك الجهة وان قربت بعد الوقت وحصلت لها شدة أوجبت الوجوب.

والحاصل : ان عروض ملاك الوجوب على ملاك الاستحباب لا يوجب انعدام الملاك الاستحبابي ، وحدوث ملاك آخر للوجوب ، بل غايته تبدل الاستحباب بالوجوب وفوات الرخصة من الترك التي كانت قبل الوقت ، مع اندكاك الملاك الاستحبابي في الملاك الوجوبي ، نظير اندكاك السواد الضعيف في السواد الشديد.

ولكن لا يخفى عليك ، ان ما ذكرناه من تبدل الاستحباب بالوجوب ، فإنما هو بالنسبة إلى الوجوب النفسي الثابت للوضوء بعد الوقت ، لا الوجوب الغيري له ، فان التبدل بالوجوب الغيري لا يعقل لاختلاف المتعلق.

ولا بأس بالإشارة إلى ضابط تبدل الاحكام بعضها مع بعض ، ليتضح المقصود في المقام.

فنقول :

ضابط التبدل هو ان يتعلق الوجوب بعين ما تعلق به الاستحباب ، كما لو نذر صلاة الليل ، فان الامر الاستحبابي انما تعلق بذات صلاة الليل لا بما انها مستحبة ، والنذر أيضا انما يتعلق بالذات ، إذ لا يمكن ان يتعلق النذر بصلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لأنها بالنذر يصير واجبة فلا يمكنه اتيانها بوصف الاستحباب ، فلابد ان يتعلق النذر بالذات ، فيكون الامر الوجوبي الجائي من قبل النذر متعلقا بعين ما تعلق به الامر الاستحبابي ، فيتبدل الامر الاستحبابي بالامر الوجوبي ، ويكتسب الامر الوجوبي التعبدية ، كما اكتسب الامر الاستحبابي الوجوب ، فان الامر النذري وان كان توصليا ، الا انه لما تعلق بموضوع عبادي اكتسب التعبدية ، فتأمل.

ص: 229

فتحصل : ان تبدل حكم إلى غيره ، انما يكون بوحدة المتعلق ، وتعلق الثاني بعين ما تعلق به الأول. وأما إذا لم يكن كذلك ، بل تعلق الثاني بما تعلق به الأول بقيد كونه مأمورا به بالامر الأول ، ففي مثل هذا لا يعقل التبدل كما في صلاة الظهر ، حيث اجتمع فيها أمران : امر تعلق بذاتها وهو الامر النفسي العبادي الذي لا يسقط الا بامتثاله والتعبد به ، ولمكان كون صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر - حيث إن فعلها شرط لصحتها - قد تعلق بها امر آخر مقدمي ، ولكن الامر المقدمي قد تعلق بصلاة الظهر بقيد كونها مأمورا بها بالامر النفسي وبوصف وقوعها عبادة امتثالا لأمرها النفسي ، حيث إن ذات صلاة الظهر لم تكن مقدمة لصلاة العصر ، بل المقدمة هي صلاة الظهر المتعبد بها بالامر النفسي ، والامر المقدمي انما يقع على ما هو مقدمة ، فيختلف موضوع الامر النفسي مع موضوع الامر المقدمي ، ولا يتحدان ، فلا يمكن التبدل في مثل هذا ، فلو قصد الامر المقدمي في فعل صلاة الظهر تقع باطلة ، فان الامر المقدمي يكون توصليا ولا يكتسب التعبدية ، لاختلاف متعلق الامر العبادي مع الامر التوصلي.

وكذا الحال بالنسبة إلى الصوم حيث يكون للاعتكاف. ومثل ذلك أيضا الامر الإجاري عند استيجار شخص لعبادة فان المستأجر عليه هو العبادة المأمور بها بالنسبة إلى المنوب عنه ، وهي بهذا الوصف تقع متعلقا للإجارة ، فلا يعقل ان يتحد الامر الجائي من قبل الإجارة مع الامر المتعلق بالعبادة ، حيث إن الامر العبادي انما تعلق بالذات ، والامر الإجاري تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها بالنسبة إلى المنوب عنه ، فلا اتحاد. ومن هنا يظهر : انه لا يمكن تصحيح عبادة الاجراء ، بقصد امتثال الامر الإجاري ، وللكلام محل آخر.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الوضوء قبل الوقت كان امره استحبابيا ، وبعد الوقت يكون وجوبيا بالامر الصلواتي ، ولمكان اتحاد المتعلق يتبدل الامر الاستحبابي بالامر الوجوبي ، حيث إن الامر الاستحبابي قبل الوقت قد تعلق بالذات ، والامر الوجوبي النفسي العارض من جهة الامر بالصلاة بعده أيضا تعلق بالذات ، فيتبادلان. واما الامر الغيري العارض له بعد الامر بالصلاة ، فلا يعقل ان يتحد مع

ص: 230

الامر الاستحبابي أو النفسي ، لان الامر الغيري اما يعرض على ما هو بالحمل الشايع مقدمة ، والوضوء المأمور به بالامر الصلواتي يكون مقدمة ، فيكون حال الوضوء بالنسبة إلى الامر النفسي والامر الغيري كحال صلاة الظهر التي تكون مقدمة لصلاة العصر من حيث عدم تبدل أمريها ، وبالنسبة إلى الامر النفسي والامر الاستحبابي كحال نذر صلاة الليل من حيث التبدل ، فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر : ان قصد الامر الغيري لا يكفي في وقوع الوضوء عبادة ، لان العبرة في وقوع الشيء عبادة هو قصد امره المتعلق به نفسه ، لا قصد الامر المتعلق به بوصف كونه مأمور به بأمره الذي تعلق به أولا وبالذات فتأمل.

ثم انه قد بقى في المقام بعض الفروع المتعلقة بباب الطهارات ، قد تعرض لها الشيخ ( قده ) في كتاب الطهارة (1) وأشار إليها شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام.

منها : انه هل يعتبر في وقوع الطهارات بل كل مقدمة عبادية قصد فعل ذي المقدمة ولا يكفي قصد أمرها الغيري من دون قصد امتثال امر ذي المقدمة ، أو انه لا يعتبر ذلك؟ والأقوى اعتبار ذلك ، لان امتثال الامر الغيري بنفسه لا يوجب قربا من دون امتثال امر ذيها ، فلا يقع الستر أو الاستقبال مثلا عبادة بقصد أمرهما الغيري مع عدم القصد إلى الصلاة.

ومنها : انه لو توضأ بقصد الصلاة ثم بداله عدم الصلاة ، فلا ينبغي الاشكال في صحة وضوئه ، لان قصد الصلاة عند فعل الوضوء يكون شرطا لصحته ، مع قطع النظر عن كونه بنفسه عبادة ، أو نفرض الكلام في التيمم ، فإذا قصد ذلك يقع وضوئه صحيحا ورافعا للحدث ، ويجوز فعل كل مشروط بالطهارة ، كما لا يخفى. ولا يقتضى المقام تفصيل ذلك ، فإنه من المسائل الفرعية الخارجة عن عنوان البحث. هذا تمام الكلام في الواجب النفسي والغيري.

ص: 231


1- طهارة الشيخ قدس سره ، الركن الثاني ، في كيفية نية الوضوء ، الكلام هنا في مقامات ، المقام الأول ، الثالث ص 82 - 81
وينقسم الواجب ، باعتبار آخر إلى تعييني وتخييري.

وقد يستشكل في تصوير الواجب التخييري ، وانه كيف يعقل تعلق إرادة الآمر بأحد الشيئين أو الأشياء من غير تعيين؟ مع عدم امكان تعلق إرادة الفاعل بذلك ، لوضوح ان إرادة الفاعل المستتبعة لحركة العضلات لا تتعلق الا بمعين محدود بحدوده الشخصية ، ولا يعقل تعلقها بأحد الشيئين على وجه الابهام والترديد ، فإذا لم يعقل تعلق إرادة الفاعل على هذا الوجه ، فكيف يعقل تعلق إرادة الآمر بذلك؟ ومن هنا اختلفت الكلمات في كيفية الواجب التخييري. والوجوه العلمية التي ذكروها في المقام ترجع إلى أربعة :

الوجه الأول :

هو ان الواجب في الواجب التخييري ، الكلي الانتزاعي ، وهو عنوان ( أحدها ) ولا مانع من تعلق التكليف بالأمور الانتزاعية إذا كان منشأ انتزاعها بيد المكلف ، ولم تكن من أنياب الأغوال ، وواضح ان هذا العنوان الانتزاعي قابل للانطباق على كل من افراد الواجب المخير ، فإنه يصدق على كل من العتق والصيام والاطعام عنوان ( أحدها ) فيكون هو متعلق التكليف هذا.

ولكن يرد عليه

ان ذلك خلاف ظواهر الأدلة المتكفلة لبيان الواجب التخييري ، حيث إن الظاهر منها ، كون كل من الخصال واجبا ، لا ان الواجب هو عنوان ( أحدها ).

والحاصل : ان هذا الوجه وان كان ممكنا ثبوتا ، ولا محذور فيه عقلا ، الا انه خلاف ظواهر الأدلة لا يصار إليه الا بقرينة معينة ، أو انحصار الوجه في ذلك وعدم تمامية الوجوه الآتية.

الوجه الثاني :

هو ان يكون الوجوب في كل واحد من افراد التخيير مشروطا بعدم فعل الاخر ، فيكون العتق واجبا عند عدم الصيام والاطعام ، وكذا العكس ، فتكون الإرادة قد تعلقت بكل على نحو الواجب المشروط ، وذلك انما يكون إذا كان لكل من الصيام والعتق والاطعام ملاك يخصه ، ولكن لا يمكن الجمع بين الملاكات و

ص: 232

كان استيفاء واحد منها مانعا عن استيفاء الباقي ، فإذا كان كذلك فلا بد من ايجاب الكل على نحو الواجب المشروط ، إذ تخصيص الوجوب بأحدهما يكون بلا مرجح ، هذا.

ولكن يرد عليه : أولا : انه لا يتوقف الواجب التخييري على أن يكون لكل من الافراد ملاك يخصه ، بل يمكن ان يكون هناك ملاك واحد قائم بكل من الافراد ، غايته انه يحتاج إلى جامع بينها حتى لا يصدر الواحد من المتعدد. وسيأتي توضيح ذلك.

وثانيا : لو فرض ان هناك ملاكات متعددة ، ولكن بعد فرض وقوع التزاحم والتمانع بينها في المرتبة السابقة على الخطاب لا يمكن ان يكون كل واحد منها تاما في الملاكية ، إذ الملاك المزاحم بغيره لايكون تاما في ملاكيته ، فبالآخرة يرجع إلى أن الملاك التام واحد ، والعبرة بالملاك التام ، ومع وحدة الملاك لا تكون الافراد من الواجب المشروط ، إذ مبنى ذلك كان على تعدد الملاكات.

نعم : لو وقع التزاحم في المرتبة المتأخرة عن الخطاب لمكان عدم القدرة على الجمع بين متعلقي الخطابين - كما في انقاذ الغريقين - كان الخطاب في كل واحد مشروطا بعدم فعل متعلق الاخر ، إذا قلنا في باب التزاحم بسقوط اطلاق الخطابين ، لا أصل الخطابين ، كما سيأتي تفصيله في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى ، لان الملاك في كل واحد يكون تاما ، وانما المانع عدم قدرة المكلف على الجمع بين المتعلقين ، ولمكان اشتراط كل تكليف بالقدرة يكون الخطاب في كل مشروطا بعدم فعل الآخر ، لثبوت القدرة على هذا الوجه.

والحاصل : انه فرق بين عروض التزاحم في المرتبة المتأخرة عن الخطاب بعد تمامية الملاك في كل من المتعلقين ، وبين وقوع التزاحم في المرتبة السابقة على الخطاب لمكان التمانع بين الملاكات ، ففي الأول يكون الخطاب في كل مشروطا بعدم الاخر ، لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة ، وينتج نتيجة ، الواجب التخييري ، حيث يكون المكلف مخيرا في اختيار أيهما شاء.

وفى الثاني لايكون الخطاب بكل مشروطا بعدم الاخر ، إذ ليس هناك الا

ص: 233

ملاك واحد ، ومع وحده الملاك وانطباقه على كل واحد من الخصال مثلا لا يمكن ان يكون التكليف بكل واحد مشروطا بعدم فعل الآخر ، إذ يلزم فعلية جميع التكاليف عند ترك فعل الكل ، لتحقق شرط الوجوب في كل واحد ، ولازم ذلك تعدد العقاب وهو ضروري البطلان إذ ليس في ترك الواجب التخييري الا عقاب واحد ، مع أنه كيف يعقل ان يكون هناك واجبات متعددة فعلية مع وحدة الملاك؟ وهذا بخلاف الاشتراط الناشئ عن تزاحم الخطابين ، فان تعدد العقاب لا مانع منه ، وفعلية كل من الواجبين لا محذور فيه لتمامية الملاك في كل منهما ، كما سيأتي تفصيله في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى. مع أن ارجاع الواجب التخييري إلى الواجب المشروط خلاف ظاهر الأدلة ، حيث إن الواجب المشروط لابد ان يكون مشروطا بأحد أدوات الشرط فتأمل جيدا.

( الوجه الثالث )

هو ان الواجب في الحقيقة في الواجب التخييري هو الجامع بين الافراد الذي يؤثر في الملاك الواحد ، لوضوح ان المتعدد بما هو متعدد لا يمكن ان يقتضى اثرا واحدا ، لان الواحد لا يصدر الا من واحد ، فلا بد ان يكون هناك جامع بين الافراد يقتضى الأثر الواحد ، ويكون الواجب هو ذلك الجامع ، فيرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

فان وجود الجامع بين الافراد وان كان مما لا بد منه فرارا عن المحذور المتقدم ، الا انه ليس كل جامع ينفع في التخيير العقلي ، بل يعتبر في الجامع ان يكون أمرا قريبا عرفيا يصح تعلق التكليف به بنفسه ، بحيث يكون من المسببات التوليدية ، بل لا يكفي مجرد كونه سببا توليديا ، إذ التسخين يكون من المسببات التوليدية ، لكل من الشمس والنار ، ومع ذلك ليس بينهما جامع قريب عرفي ، وان كان بينهما جامع عقلي لا محالة ، وتباين افراد خصال الكفارة عرفا ليس بأدون من تباين الشمس والنار ، فلا يمكن ارجاع التخيير بينهما إلى التخيير العقلي ، لما عرفت من أنه يعتبر في التخيير العقلي ان يكون الجامع بين الافراد جامعا قريبا عرفيا ، كالماء ، و

ص: 234

الانسان ، والحيوان ، وغير ذلك من العناوين المنطبقة على الافراد الخارجية ، فهذا الوجه أردء من الوجهين السابقين.

( الوجه الرابع )

هو الذي اختاره شيخنا الأستاذ مد ظله ، وحاصله : انه لا مانع من تعلق إرادة الامر بكل واحد من الشيئين أو الأشياء على وجه البدلية ، بان يكون كل واحد بدلا عن الاخر ، ولا يلزم التعيين في إرادة الامر بان تتعلق ارادته بأمر معين ، بل يمكن تعلق إرادة الآمر بأحد الشيئين بهما ، وان لم يمكن تعلق إرادة الفاعل بذلك ، ولا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه. مثلا لا اشكال في تعلق إرادة الآمر بالكلي ، مع أن إرادة الفاعل لا يعقل ان تتعلق بالكلي مجردا عن الخصوصية الفردية.

والحاصل : ان بعض الخصوصيات من لوازم الإرادة الفاعلية ، حيث إن الإرادة الفاعلية انما تكون مستتبعة لحركة عضلاته ولا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردد ، وهذا بخلاف إرادة الآمر ، فإنه لو كان كل من الشيئين أو الأشياء مما يقوم به غرضه الوجداني ، فلا بد ان تتعلق ارادته بكل واحد لا على وجه التعيين بحيث يوجب الجمع ، فان ذلك ينافي وحدة الغرض ، بل على وجه البدلية ، ويكون الاختيار ح بيد المكلف في اختيار أيهما شاء ، ويتضح ذلك بملاحظة الأوامر العرفية ، فان امر المولى عبده بأحد الشيئين أو الأشياء بمكان من الامكان ، ولا يمكن ارجاعه إلى الكلي المنتزع كعنوان ( أحدهما ) ، فان ذلك غير ملحوظ في الأوامر العرفية قطعا ولا يلتفت إليه ، فلتكن الأوامر الشرعية كذلك ، فالإرادة في الواجب التخييري سنخ من الإرادة في قبال الإرادة المشروطة أو الإرادة المطلقة بشيء معين ، فتأمل جيدا.

بقى في المقام : التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو مع ملاحظة الأقل لا بشرط لا يعقل ، ومع ملاحظته بشرط لا بمكان من الامكان ، ويخرج حينئذ عن الأقل والأكثر ، لمباينة الشيء بشرط لا مع الشيء بشرط شيء كما هو واضح. هذا تمام الكلام في الواجب التعييني والتخييري.

وينقسم الواجب أيضا : إلى عيني وكفائي

والبحث في الواجب الكفائي هو البحث في الواجب التخييري ، غايته ان

ص: 235

البحث في الواجب التخييري كان بالنسبة إلى المكلف به ومتعلق التكليف ، وفي الكفائي بالنسبة إلى الفاعل والمكلف ، ويكون المكلف هو جميع الآحاد وجميع الأشخاص على وجه يكون كل واحد بدلا عن الآخر ، ومن هنا يتجه عقاب الجميع عند ترك الكل ، أو ثواب الجميع عند فعل الكل دفعة واحدة ، لعصيان كل واحد حيث إنه ترك متعلق التكليف لا إلى بدل ، أي مع عدم قيام الآخر به ، وإطاعة كل واحد حيث فعل متعلق التكليف ، وقد أطال شيخنا الأستاذ مد ظله البحث في ذلك ، ولقلة فائدته قد تسامحنا في كتابته.

وينقسم الواجب : إلى موقت وعير موقت

والموقت إلى مضيق وموسع ، ولا اشكال في امكان كل واحد من ذلك ووقوعه في الشريعة ،

نعم : ربما يستشكل في المضيق بأنه لا يعقل اتحاد زمان البعث والانبعاث ، بل لابد من تقدم البعث ولو آنا ما ، ولكن سيأتي في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى ضعف هذا الاشكال ، وعدم اختصاصه بالمضيق فانتظر.

ثم انه وقع البحث في الموقتات ، في أن الأصل يقتضى سقوط الواجب فيما بعد الوقت ، أو ان الأصل يقتضى عدم سقوطه. وبعبارة أخرى : وقع البحث في دلالة الامر بالموقت على بقاء الوجوب بعد الوقت وعدم دلالته ، وربما يعنون البحث بان القضاء هل هو بالامر الأول أو بأمر جديد؟ ولا يخفى ما في هذا التعبير من المسامحة ، لوضوح ان لا معنى لتسمية الفعل قضاء مع دلالة الدليل الأول على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، بل يكون الواجب بعد الوقت هو ذلك الواجب بعينه قبل الوقت ، فلا معنى لاطلاق القضاء عليه ، وعلى كل حال ان البحث في الواجب الموقت يقع من جهات.

( الجهة الأولى )

في دلالة الامر على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، وهو المراد من كون القضاء بالامر الأول ، والوجوه المحتملة في ذلك ثلاثة :

الأول : دلالة الامر على ذلك مط ، سواء كان التوقيت بالمتصل أو المنفصل.

ص: 236

الثاني : عدم دلالته على ذلك مط.

الثالث : التفصيل بين المتصل فلا دلالة فيه ، والمنفصل فيدل على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، ولكن إذا لم يكن لدليل القيد اطلاق ، وهذا هو الذي اختاره في الكفاية (1).

والأقوى : هو الوجه الثاني ، ووجهه ظاهر ، لان التقييد بالوقت يكون كالتقييد بغيره من الأوصاف والملابسات ، وقد بينا في محله وجه حمل المط على المقيد مط متصلا كان أو منفصلا ، وعدم صحة حمل دليل القيد على كونه واجبا في واجب ، أو كونه أفضل الافراد ، ولا خصوصية لقيدية الوقت ، فكما ان التقييد بالايمان يوجب انحصار الواجب في المؤمنة وعدم وجوب عتق الكافرة من غير فرق بين المتصل والمنفصل ، فكذا التقييد بالوقت. وما ذكره في الكفاية من التفصيل مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان دليل التوقيت اما ان يدل على التقييد واما ان لا يدل ، فان دل على التقييد فلا يمكن دلالته على بقاء الوجوب بعد ذلك واستفادة كونه من قبيل تعدد المطلوب ، وان لم يدل على التقييد فيخرج عن كونه واجبا موقتا.

والحاصل : انه مع كون الواجب موقتا لا يمكن دعوى ان التقييد بالوقت يكون على نحو تعدد المطلوب وانه من قبيل الواجب في واجب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل. فوجوب الفعل في خارج الوقت يحتاج إلى دليل ، ولا يكفي الدليل الأول.

( الجهة الثانية )

لا اشكال في قيام الدليل في بعض الموارد على وجوب الفعل في خارج الوقت عند فوته في الوقت كالفرائض اليومية ، وصوم رمضان ، والنذر المعين ، فح يقع البحث في أنه بعد قيام الدليل على ذلك هل يكون التقييد بالوقت من باب تعدد المطلوب وكونه واجبا في واجب؟ أو يكون من باب التقييد ولكن قيديته مقصورة

ص: 237


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ، ص 230 « ثم انه لا دلالة للامر بالموقت بوجه .. »

بحال التمكن ، كما هو الشأن في سائر القيود المعتبرة في العبادة ما عدا الطهور ، حيث تكون مقصورة بحال التمكن وتسقط عند التعذر ، لا ان المقيد يسقط ، لان الصلاة لا تسقط بحال ، أو انه لايكون هذا ولا ذاك ، بل يكون القضاء واجبا آخر مغايرا للواجب الأول بحسب العنوان ، وليس هو ذلك الواجب بعينه وانما سقط قيده.

ولا يخفى عليك الفرق بين الوجوه الثلاثة ، فإنه لو كان من قبيل الواجب في واجب ، لكان اللازم عند ترك القيد عمدا حصول الامتثال بالنسبة إلى أصل الواجب وان تحقق العصيان بالنسبة إلى الواجب الآخر ، ولو كان من قبيل القيدية المقصورة بحال التمكن كان اللازم عدم حصول الامتثال عند ترك القيد عمدا مع التمكن منه ، ولكن هذا انما يثمر بالنسبة إلى غير التقييد بالوقت من سائر القيود التي يمكن فيها الاتيان بالمقيد بدون القيد كالصلاة بلا ركوع مع التمكن ، واما بالنسبة إلى التقييد بالوقت فلا يتحقق اثر بين الوجهين ، إذ لا يعقل وقوع الصلاة في خارج الوقت مع كونها في الوقت ، فلا فرق بين ان يكون قيدية الوقت من باب الواجب في واجب ، أو من باب القيدية المقصورة بحال التمكن.

نعم : ثبوتا يمكن ان يكون على أحد الوجهين ، كما يمكن ان يكون على الوجه الثالث ، وهو اختصاص الواجب بما كان في الوقت والذي يجب خارجه هو واجب آخر أجنبي عما وجب في الوقت ، وان اشتمل على مقدار من مصلحة ذلك الواجب.

والفرق بين هذا الوجه والوجهين الأولين : هو ان الواجب في خارج الوقت بناء على الوجهين الأولين ، هو ذلك الواجب في الوقت بعينه ، وانما الساقط قيد من قيوده ، أو واجب آخر الذي كان يجب في ذلك الظرف ، ويكون وجوبه في خارج الوقت بنفس العنوان الذي كان يجب قبله ، وهذا بخلاف الوجه الثالث فإنه يكون ح واجبا آخر مغايرا للواجب الأول ومعنونا بغير ذلك العنوان.

والحاصل : انه لو لم يقم دليل على وجوب القضاء كان مقتضى الدليل ، القيدية المطلقة التي يسقط فيها المقيد عند تعذر القيد ، ولا يكون من قبيل تعدد المطلوب ، ولا من قبيل كون القيدية مقصورة بحال التمكن ، من غير فرق بين ان

ص: 238

يكون دليل التوقيت متصلا أو منفصلا كما عرفت ، ولكن بعد قيام الدليل على القضاء يمكن ان يستظهر منه أحد الوجوه الثلاثة ، فإنه لا مانع من كل منها ثبوتا.

ولكن الانصاف : انه لا سبيل إلى أحد الوجهين الأولين ، لان الظاهر من قوله علیه السلام (1) ( اقض ما فات ) هو ان الواجب في خارج الوقت امر آخر مغاير لما وجب أولا ، وان ما وجب أولا قد فات ، وان هذا الواجب هو قضاء ذلك.

وبالجملة دلالة لفظة القضاء والفوت على أنه لم يكن التوقيت من قبيل تعدد المطلوب ولا من قبيل القيدية المقصورة بحال التمكن ، مما لا تخفى ، لأنه لو كان على أحد الوجهين لا يستقيم التعبير بالفوت ، إذ بناء عليهما لم يتحقق فوت ، بل كان ذلك الواجب هو بعينه باق ، فيظهر منه ان الواجب في خارج الوقت امر آخر مغاير لما وجب أولا ومعنون بعنوان آخر. ويدل على ذلك أيضا انه ربما يتحقق الفعل زمانا بين وجوب الأداء ووجوب القضاء ، كما إذا لم يبق من الوقت مقدار ركعة ولم يتحقق الغروب بعد ، فإنه لم يكن مكلفا في هذا المقدار من الزمان إلى أن يتحقق الغروب لا بالأداء ولا بالقضاء ، فيظهر منه ان المكلف به في خارج الوقت مغاير لما كلف به أولا ، فتأمل.

( الجهة الثالثة )

بعد ما ثبت ان القضاء انما يكون بأمر جديد ، ويكون الواجب في خارج الوقت مغايرا لما وجب في الوقت ، فيقع البحث ح عن موضوع ما يجب في خارج الوقت وانه هل يمكن احراز موضوعه باستصحاب عدم الفعل في الوقت؟ وبعبارة أخرى : الفوت الذي اخذ موضوعا في دليل القضاء هل هو عبارة عن عدم الفعل في الوقت؟ حتى يجرى استصحاب عدم الفعل في الوقت ويحرز به الفوت ، أو ان الفوت ليس عبارة عن عدم الفعل ، بل هو ملازم لذلك ، فالاستصحاب لا ينفع »

ص: 239


1- راجع الوسائل ، الجزء 5 الباب 6 من أبواب قضاء الصلاة الحديث 1 ص 359 وفي متن الخبر « يقضى ما فاته كما فاته »

الا بناء على اعتبار الأصل المثبت.

ثم لا يخفى عليك : ان هذا البحث لا اثر له بالنسبة إلى قضاء الصلوات ، لجريان قاعدة الشك بعد الوقت الحاكمة على الاستصحاب المذكور. ومن هنا أشكلنا على الشيخ قده - عنه توجيه مقالة المشهور القائلين بوجوب قضاء الفوائت حتى يعلم بالبرائة مع أن قاعدة الشك في الأقل والأكثر الغير الارتباطي تقضى جريان البراءة فيما عدا المتيقن من الفوائت ، بان استصحاب عدم فعل المشكوك في وقته يقتضى وجوب قضائه - بما حاصله : ان الاستصحاب لا ينفع ولا يوجه به مقالة المشهور ، لجريان قاعدة الشك بعد الوقت ، كما اعترف هو ( قده ) بذلك ، بل لابد من العمل بما يقتضيه العلم الاجمالي فيما ذكره المشهور وقد بينا وجه مقالة المشهور في تنبيهات البراءة ، فراجع. وعلى كل حال البحث عن معنى الفوت لا اثر له في باب الصلاة.

نعم : تظهر الثمرة في سائر المقامات مما ثبت فيه القضاء كالصوم المعين ونحوه ، فلو قلنا : بان الفوت عبارة عن عدم الفعل في وقته فبأصالة عدم الفعل فيه يترتب وجوب القضاء ولو قلنا : ان الفوت ليس مجرد عدم الفعل ، بل هو عبارة عن خلو المحل عن الشيء وعدم وجوده مع أنه كان فيه اقتضاء الوجود وكان مما من شانه ان يوجد بحيث يبقى المحل خاليا عنه وهذا المعنى ملازم لعدم الفعل لا انه هو بعينه ، فيكون أصالة عدم الفعل مثبتة بالنسبة إلى ذلك ، ولا يتحقق بها موضوع الفوت ، فيكون المرجع في صورة الشك البراءة ، للشك في التكليف. وقد اختار هذا الوجه شيخنا الأستاذ مد ظله ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في اقسام الواجب

فلنشرع ح في مباحث الاجزاء ، والفور والتراخي ، والمرة والتكرار ، ولما كانت مباحث مسئلتي الفور والتراخي ، والمرة والتكرار ، قليلة الجدوى بل لا طائل تحتها كان الاعراض عنهما أجدر ، ولكن تبعا للقوم لا بأس بالإشارة الاجمالية إليهما أولا ، ثم نتكلم في مسألة الاجزاء فنقول :

ص: 240

اما مسألة المرة والتكرار

فقد أطالوا القول في البحث عنها ، وذهب إلى دلالة الامر على التكرار طائفة ، والى المرة طائفة أخرى ، وإذا لاحظت أدلة الطرفين ترى انها خالية عن السداد ولم يكن فيها ما يدل على المدعى ، فان من جملة أدلة القائلين بالتكرار ، هو تكرار الصلاة في كل يوم وهذا كما ترى ، فان تكرار الصلاة في كل يوم انما هو لمكان قيام الدليل ، وان الامر بالصلاة من قبيل الأوامر الانحلالية التي تتعدد حسب تعدد موضوعاتها ، وليس هذا محل الكلام ، بل محل الكلام في التكرار انما هو بالنسبة إلى موضوع واحد كتكرار اكرام العالم الواحد ، كما إذا قال : أكرم عالما ، ولا أظن أن يلتزم أحد في إفادة مثل هذا الامر للتكرار ، كما لا يستفاد منه المرة أيضا ، والاكتفاء بالمرة لمكان ان الامر لا يقتضى الا طرد العدم ، وهو يتحقق بأول الوجود ، لا ان الامر بالدلالة اللفظية يدل على ذلك ، فالبحث عن المرة والتكرار مما لا طائل تحته ، كالبحث عن الفور والتراخي ، فان الامر يصلح لكل منهما من دون ان يكون له دلالة لفظية على أحدهما.

فالأولى عطف الكلام إلى مسألة الاجزاء التي تعم بها البلوى.

فنقول :

ربما عنون في بعض الكلامات مسألة الاجزاء ، بان الامر هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ ولمكان ان التعبير بذلك فيه مسامحة واضحة - بداهة ان الاجزاء لا يستند إلى الامر وليس من مقتضياته ، بل يستند إلى فعل المكلف وما هو الصادر عنه - عدل المحققون وأبدلوا العنوان بان اتيان المأمور به على وجهه هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ ومعلوم ان المراد من قيد ( وجهه ) ليس الوجه الذي اعتبره المتكلمون في العبادة من قصد الوجوب أو الاستحباب أو جهتهما ، بل المراد منه الكيفية التي اعتبرت في متعلق الامر ، أي ان اتيان المأمور به على الوجه الذي امر به وبالكيفية التي تعلق الامر بها هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟.

ثم لا يخفى عليك : انه لا ربط لهذه المسألة بمسألة المرة والتكرار ، فان البحث عن مسألة المرة والتكرار انما هو في مفاد الامر بحسب ما يقتضيه من الدلالة ، و

ص: 241

البحث عن مسألة الاجزاء انما هو بعد الفراغ عن مفاد الامر ، فتكون تلك المسألة بمنزلة الموضوع لهذه المسألة ، فإنه لو قلنا بان الامر يدل على المرة يقع البحث في أن الاتيان بالمتعلق يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه ، وكذا لو قلنا بالتكرار فإنه يقع البحث في أن الاتيان بالتكرار بأي مقدار أريد من التكرار هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ نعم : لو قلنا بإفادته للتكرار ابدا تتحد نتيجة المسئلتين.

والحاصل : ان البحث في هذا المقام عقلي ، وفي ذلك المقام لفظي ، وعلى كل حال ان استقصاء الكلام في مسألة الاجزاء يتم برسم مقامات.

( المقام الأول )

في أن الاتيان بالمأمور به يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر ، أو لا يقتضيه؟ أي الاتيان بمتعلق الامر الواقعي الأولى يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر ويوجب سقوطه؟ أو لا يقتضيه؟ والآتيان بمتعلق الامر الواقعي الثانوي يقتضى الاجزاء من نفس ذلك الامر؟ أو لا يقتضيه؟ وكذا الحال في الامر الظاهري. والحاصل : انه يلاحظ كل امر بالنسبة إلى متعلقه ويبحث عن اقتضائه للاجزاء وعدم اقتضائه له.

( المقام الثاني )

في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي هل يقتضى الاجزاء عن الامر الواقعي الأولى عند تبدل الموضوع وزوال العذر في الوقت أو في خارجه؟ أو لا يقتضيه؟.

( المقام الثالث )

في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يقتضى الاجزاء عن الامر الواقعي؟ أو لا يقتضيه؟ عند انكشاف الخلاف ظنا أو علما.

اما الكلام في المقام الأول :

فالانصاف انه مما لا ينبغي فيه توهم عدم الاجزاء ، بل الاتيان بمتعلق كل امر يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر عقلا ، ويسقط به الامر قهرا ، فلا ينبغي البحث عن ذلك. نعم : ينبغي البحث عن مسألة تبديل الامتثال مع سقوط الامر. و

ص: 242

الذي يظهر من بعض الاعلام : ان تبديل الامتثال يكون على القاعدة ، وللمكلف ان يبدل امتثاله ، ويعرض عما امتثل به أولا ، ويأتي بالفعل ثانيا ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لا يمكن المساعدة على ذلك ، بل يحتاج تبديل الامتثال إلى قيام دليل على ذلك ، فان تبديل الامتثال يحتاج إلى عدم سقوط الغرض عند سقوط الامر ، كما لو امر بالماء لغرض الشرب واتى به العبد والمولى لم يشربه بعد ، فان الامر بالاتيان بالماء وان سقط الا ان الغرض بعد لم يحصل ، فللعبد تبديل الامتثال ورفع ما اتى به من الماء وتبديله بماء آخر ، فيحتاج تبديل الامتثال إلى بقاء الغرض أو مقدار منه ، وامكان قيام الفعل الثاني مقام الغرض.

وهذا كما ترى يحتاج في الشرعيات إلى دليل يكشف عن ذلك ، ومع عدم قيامه لا يمكن للمكلف التبديل من عند نفسه ، ولم نعثر في الشريعة على دليل يقوم على جواز تبديل الامتثال ، الا ما ورد (1) في باب إعادة الصلاة جماعة وان اللّه يختار أحبهما إليه ، وذلك مقصور أيضا على إعادة المنفرد صلوته جماعة ، أو إعادة الامام صلوته إماما لا مأموما ولا منفردا مرة واحدة ، وليس له الإعادة ثانيا وثالثا على ما هو مذكور في محله.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالامر الثانوي للاجزاء عن الامر الواقعي الأولى ، فالبحث فيه يقع في مقامين :

( المقام الأول )

في اقتضائه للاجزاء بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت عند استيعاب العذر لتمام الوقت وزواله بعد الوقت.

( المقام الثاني ) في اقتضائه للاجزاء بالنسبة إلى الإعادة عند زوال العذر في الوقت. 7

ص: 243


1- الوسائل ، الجزء 5 الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة الحديث 10 ص 457
اما المقام الأول :

فاجمال القول فيه ، انه لا محيص عن الاجزاء وعدم وجوب القضاء ، والسر في ذلك هو ان القيد الساقط بالتعذر كالطهارة المائية لابد ان لايكون ركنا مقوما للمصلحة الصلواتية مط ، والا لما امر بالصلاة مع الطهارة الترابية ، فان امره يكون ح بلا ملاك ، وهو مناف لمسلك العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، فمن نفس تعلق الامر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية عند تعذرها يستكشف عدم ركنية الطهارة المائية للصلاة ، وعدم قوام المصلحة الصلواتية بها في حال تعذرها ، وان الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لمصلحة الصلواتية التي لابد منها في الامر بها ، فلا بد من اجزائها وسقوط القضاء ، فان وجوب القضاء يدور مدار الفوت ، والمفروض انه لم يفت من المكلف شيء ، لفعله المكلف به الواجد للمصلحة الصلواتية. مع أنه لم يكن الشخص مكلفا الا بصلاة واحدة وقد اتى بها ، فأي موجب للقضاء؟ وأي شيء فات من المكلف حتى يقضيه؟ فلو وجبت في خارج الوقت والحال هذه كان ذلك واجبا آخر مستقلا أجنبيا عما نحن بصدده من قضاء ما فات من المكلف.

وحاصل الكلام : ان قيدية الطهارة المائية ، اما ان تكون ركنا في الصلاة مط ، وبها قوام مصلحتها في كلتا حالتي التمكن وعدمه ، واما ان لا تكون ركنا كذلك ، بل كانت ركنا في خصوص حال التمكن واما في غير ذلك الحال فليست بركن ولا تقوم بها المصلحة الصلواتية. فان كانت ركنا مط فلا يعقل الامر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية ، بل لابد من سقوط الامر الصلواتي كما في صورة فقد الطهورين ، وحيث انه امر بالصلاة كذلك ، فلا بد ان لايكون لها دخل لا في الخطاب بالصلاة ولا في الملاك الصلواتي وتكون الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لكل من الخطاب والملاك الذي يتقوم به الصلاة ، ولا محذور في أن يكون الشيء له دخل في الملاك في حال وليس له دخل في حال أخرى ، فتكون الطهارة المائية لها دخل في الملاك في حال التمكن ولا يكون لها دخل فيه في حال عدم التمكن ، فإذا كانت الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة للخطاب وللملاك الصلواتي ، اما على الوجه الذي كانت الصلاة مع الطهارة المائية واجدة له في حال التمكن منها ، بان تكون تلك

ص: 244

المصلحة بما لها من المرتبة قائمة بالصلاة مع الطهارة الترابية عند عدم التمكن ، فان ذلك بمكان من الامكان كما لا يخفى ، واما لا على ذلك الوجه بل دون تلك المصلحة ولكن كانت واجدة لأصل المصلحة الصلواتية ، فان هذا المقدار مما لا محيص عنه لكشف الامر انا عن ذلك. فلا يعقل القضاء ح إذا لم يفت من المكلف شيء حتى يقضيه. اما على الوجه الأول فواضح ، فإنه تكون الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لجميع الملاك بماله من المرتبة ، فلم يتحقق فوت شيء أصلا.

واما على الوجه الثاني ، فلانه وان فات من المكلف مقدار من المصلحة ، الا ان ذلك المقدار مما لا يمكن استيفائه ، لان استيفائه انما يكون في طي استيفاء المصلحة الصلواتية وفي ضمنه ، والمفروض ان المكلف قد استوفى المصلحة الصلواتية في ضمن الطهارة الترابية ، فلا يمكنه استيفاء مصلحة الطهارة المائية ، إذ ليست مصلحتها قائمة بنفسها بل في ضمن الصلاة ، مع أن القضاء لا يدور مدار فوت المصحلة ، بل يدور مدار فوت المكلف به ، والمفروض انه قد اتى به في وقته فلا يمكن قضائه.

واما المقام الثاني :

وهو سقوط الإعادة ، فقد اتضح وجهه مما ذكرناه في سقوط القضاء ، إذ الكلام فيه هو الكلام في القضاء ، فإنه بعد البناء على جواز البدار لذوي الاعذار اما مط ، أو مع القطع بعدم زوال العذر إلى آخر الوقت ، أو مع اليأس عن زواله - على الأقوال في المسألة - وبعد البناء على أن جواز البدار له يكون حكما واقعيا لا حكما ظاهريا لا يمكن القول بعدم الاجزاء ، لأن جواز البدار على هذا يرجع إلى سقوط القيد المتعذر وعدم ركنيته للواجب وعدم قوام المصلحة الصلواتية به مط فتكون التوسعة في الوقت محفوظة وعدم خروج تلك القطعة من الزمان الذي تعذر فيه القيد عن صلاحية وقوع الصلاة فيها ، ويكون معنى البدار البدار إلى صلاة الظهر المكلف بها ، ومعه كيف يمكن القول بعدم الاجزاء؟ مع أنه لا يجب على المكلف في الوقت صلاتان للظهر.

والحاصل : انه اما ان نقول بعدم جواز البدار لذوي الاعذار مط ، واما ان

ص: 245

نقول بجوازه اما مط أو على التفصيل المتقدم ، فان قلنا بعدم جواز البدار له كان ما اتى به من الفعل الفاقد للقيد غير مأمور به وخاليا عن المصلحة ، ومعه لا يعقل الاجزاء ، وليس الكلام فيه أيضا ، وان قلنا بجواز البدار له على الوجه الذي نقول به كاليأس عن زوال العذر - كما هو المختار - فاما ان نقول : ان جواز البدار يكون حكما طريقيا ظاهريا ، واما ان نقول : انه حكم واقعي. فان قلنا : انه حكم طريقي ظاهري فهو خارج عن محل الكلام ، فإنه عند زوال العذر في الوقت ينكشف عدم كون المأتى به مأمورا به ، فلا يكون مجزيا على ما سيأتي في المقام الثالث من عدم اقتضاء الحكم الظاهري للاجزاء ، وان قلنا : ان جواز البدار يكون حكما واقعيا ، فمعناه ان المصلحة الصلواتية قائمة بالفاقد للقيد في زمان تعذره وانه ليس ركنا مقوما للمصلحة وان التوسعة في الوقت بعد محفوظة ، ومعه لا محيص من القول بالاجزاء وسقوط الإعادة عند زوال العذر.

واما المقام الثالث :

وهو اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري للاجزاء عن الامر الواقعي عند انكشاف الخلاف ، فالكلام فيه أيضا يقع في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي لاجزاء كما في موارد الطرق والامارات والأصول الشرعية.

المقام الثاني : في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري العقلي للاجزاء ، كما في موارد القطع.

اما الكلام في المقام الأول فيقع من جهات :

الجهة الأولى :

في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الطرق والامارات في باب الاحكام الكلية الشرعية عند انكشاف الخلاف القطعي ، كما إذا قام خبر الواحد على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فأفتى المجتهد على طبقه ، وعمل هو ومقلدوه عليه ، ثم بعد بذلك عثر على خبر متواتر قطعي يدل على وجوب السورة في الصلاة ، ففي مثل هذه الصورة ، الحق عدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة والقضاء ، بل

ص: 246

يلزمه الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه ،

وقد حكى على ذلك دعوى الاجماع ، بل جعلوا ذلك من فروع التخطئة والتصويب ، وان القول بالاجزاء يلازم القول بالتصويب ، حيث إنه لا يمكن القول بالاجزاء الا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلق الامارة عند قيام الامارة عليه وانشاء حكم على طبق الامارة على خلاف الحكم الواقعي المجعول الأولى ، بحيث يوجب تقييد الاحكام الأولية أو صرفها إلى مؤديات الطرق والامارات ، وهذا كما ترى عين القول بالتصويب المخالف لمسلك الامامية ، فإنه بناء على أصول المخطئة ليست الاحكام الا الاحكام الواقعية المجعولة الأولية من غير تقييدها بالعلم والظن والشك ، ولا بقيام الامارة على الوفاق أو الخلاف ، وليس هناك تقييد وصرف إلى مؤديات الطرق والامارات ، وليس شأن الطرق والامارات الا التنجيز عند الموافقة والعذر عند المخالفة ، وان المجعول فيها ليس الا الطريقية والحجية والوسطية في الاثبات ، من دون ان توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل المتعلق باق على ما هو عليه قبل قيام الامارة عليه ، ومع هذا كيف يمكن القول بالاجزاء؟ مع أنه لم يأت بالمأمور به والمكلف به الواقعي.

وبالجملة : ليس حال الطرق والامارات الا كحال العلم ، وانما الفرق ان العلم طريق عقلي والطريقية ذاتية له ، والامارات طرق شرعية وطريقيتها مجعولة بجعل شرعي ، فكأنما جعلها من افراد العلم جعلا تشريعيا لا تكوينيا ، وح يكون حالها حال العلم ، وسيأتي في المقام الثاني ان الطريق العقلي من العلم والقطع لا يوجب الاجزاء وكذا الطريق الشرعي.

وتوهم ان السببية التي ذهب جملة من الامامية إليها في باب الطرق والامارات يلازم القول بالاجزاء ، فاسد ، فان المراد من تلك السببية هي اقتضاء جعل الامارة للمصلحة السلوكية ، وليس المراد من السببية المذكورة هو سببية الامارة لحدوث مصلحة في المتعلق ، لما عرفت من أنها عين التصويب ، فكيف يقول بها من أنكر التصويب؟ ومن المعلوم : ان المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء عند انكشاف الخلاف ، فان المصلحة السلوكية على القول بها انما هو لتدارك فوت

ص: 247

مصلحة الواقع ، وهذا مع انكشاف الخلاف وامكان تحصيل المصلحة الواقعية لا يتحقق. فتحصل : انه لا محيص عن القول بعدم الاجزاء في باب الطرف والامارات القائمة على الاحكام الكلية الشرعية.

الجهة الثانية :

في اقتضاء المأتى بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الامارات في باب الموضوعات الشرعية للاجزاء ، كما إذا قامت البينة على نجاسة الماء ، فصلى مثلا مع التيمم ، ثم انكشف مخالفة البينة للواقع وان الماء كان طاهرا ، والحق فيه أيضا عدم الاجزاء ، فان تقييد الموضوعات الشرعية بالعلم والظن والشك واقعا وان كان بمكان من الامكان ، كما إذا رتب النجاسة على معلوم البولية ، والحرمة على معلوم الخمرية أو الذي لم تقم امارة على نجاسته أو خمريته ، الا ان الكلام فيما إذا لم يقيد الموضوع بذلك ، وكان الشيء بعنوانه الأولى موضوعا للحكم ، وان حجية البينة لمجرد الطريقية من دون ان يكون لها شائبة الموضوعية - كما هو ظاهر أدلة اعتبارها - وح يكون الكلام في هذه الجهة كالكلام في الجهة الأولى ، من حيث عدم اقتضاء الاجزاء ، على ما عرفت تفصيله.

الجهة الثالثة :

في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الأصول الشرعية العملية للاجزاء ، كقاعدة الطهارة ، واستصحابها.

وقد ذهب بعض الاعلام إلى اقتضاء ذلك للاجزاء ، على تفصيل بين الأصول الغير المتكلفة للتنزيل كاصالة الطهارة والحل ، وبين الأصول المتكفلة للتنزيل كاستصحابهما ، حيث إنه في الأول جزم بالاجزاء ، وفي الثاني تردد ، ولعل الوجه في التفصيل ، هو ان الاستصحاب له جهتان : جهة تلحقه بالطرق والامارات ، وجهة تلحقه بالأصول العملية ، والجهة التي تلحقه بالامارات هي جهة احرازه وتكفله للتنزيل ، والجهة التي تلحقه بالأصل العملية هي كون المجعول فيه البناء العملي لا الطريقية ، فبالنظر إلى الجهة الأولى يقتضى عدم الاجزاء ، كما في الطرق والامارات ، وبالنظر إلى الجهة الثانية يقتضى الاجزاء.

ص: 248

وعلى كل حال : ان نظره في اقتضاء الأصول للاجزاء إلى أنها توجب توسعة في دائرة الشرط وتعميما له ، بحيث يعم الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية المجعولة بقاعدتها أو باستصحابها ، وحينئذ تكون الصلاة المأتى بها بقاعدة الطهارة أو الحلية واجدة للشرط ، فلا موجب للإعادة والقضاء ، والالتزام بهذه التوسعة انما هو لحكومة أدلة الأصول على الأدلة الواقعية ، ودليل الحاكم قد يوجب التوسعة ، وقد يوجب التضييق ، وفي المقام أوجب التوسعة هذا.

ولكن قد أشكل عليه شيخنا الأستاذ مد ظله.

أولا : بان هذا لا يستقيم على مسلكه ، من تفسير الحكومة من كون أحد الدليلين مفسرا للدليل الآخر على وجه يكون بمنزلة قوله : أي أو أعني أو أريد وما شابه ذلك من أدوات التفسير ، لوضوح ان قوله : كل شيء طاهر أو حلال ، ليس مفسرا لما دل على أن الماء طاهر والغنم حلال ، ولا لما دل على أنه يعتبر الوضوء بالماء المطلق الطاهر ، وا الصلاة مع اللباس المباح وأمثال ذلك ، فتأمل.

وثانيا :

ان التوسعة والحكومة انما تستقيم إذا كانت الطهارة أو الحلية الظاهرية مجعولة أولا ، ثم يأتي دليل على أن ما هو الشرط في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية والطاهرة الظاهرية فيكون حينئذ هذا الدليل موسعا وحاكما على ما دل على اعتبار الطهارة الواقعية ، والمفروض انه لم يقم دليل سوى ما دل على جعل الطهارة الظاهرية وهو قوله (1) علیه السلام : كل شيء لك طاهر ، والسر في اعتبار كون الطهارة الظاهرية مجعولة في التوسعة والحكومة ، هو ان الطهارة الظاهرية بناء على التوسعة والحكومة تكون بمنزلة الموضوع للدليل الحاكم ، فتأمل.

ص: 249


1- الوسائل ، الجزء 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4 ص 1054 وفي هذا الخبر « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر » وروى في المستدرك عن الصدوق قدس سره في ( المقنع ) كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » راجع المستدرك الجلد 1 ص 164

وثالثا :

وهو العمدة ، ان الحكومة التي نقول بها في الطرق والامارات والأصول غير الحكومة التي توجب التوسعة والتضييق ، فان الحكومة التي توجب التوسعة والتضييق انما هي بالنسبة إلى الأدلة الأولية الواقعية بعضها مع بعض ، كما في مثل قوله (1) لا شك لكثير الشك ، حيث يكون حاكما على مثل قوله (2) ان شككت فابن على الأكثر ، وأين هذا من حكومة أدلة الاحكام الظاهرية على أدلة الاحكام الواقعية؟ واجمال الفرق بينهما - وان كان تفصيله موكولا إلى محله - هو ان الحكمين اللذين تكفلهما الدليل الحاكم والدليل المحكوم في الأدلة الواقعية انما يكونان عرضيين ، بان يكونا مجعولين في الواقع في عرض واحد ، لان الحكومة بمنزلة التخصيص ، وحكم الخاص انما يكون مجعولا واقعيا في عرض جعل الحكم العام من دون ان يكون بينهما طولية وترتب ، فكان هناك حكم مجعول على كثير الشك ، وحكم آخر مجعول على غير كثير الشك ، وتسمية ذلك حكومة لا تخصيصا انما هو باعتبار عدم ملاحظة النسبة بين الدليلين ، والا فنتيجة الحكومة التخصيص.

واما الحكومة في الأدلة الظاهرية ، فالمجعول فيها انما هو في طول المجعول الواقعي وفي المرتبة المتأخرة عنه ، خصوصا بالنسبة إلى الأصول التي اخذ الشك في موضوعها. وبعبارة أخرى : المجعول الظاهري انما هو واقع في مرتبة احراز الواقع والبناء العملي عليه بعد جعل الواقع وانحفاظه على ما هو عليه من التوسعة والتضييق ، فلا يمكن ان يكون المجعول الظاهري موسعا أو مضيقا للمجعول الواقعي ، مع أنه لم يكن في عرضه وليس هناك حكمان واقعيان مجعولان. ولتفصيل الكلام محل آخر ، والغرض في المقام مجرد بيان ان الاحكام الظاهرية ليست موسعة للأحكام الواقعية ولا مضيقة لها ، ولا توجب تصرفا في الواقع ابدا. .

ص: 250


1- الوسائل ، الجزء 5 الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص 329
2- الوسائل ، الجزء 5 الباب 8 من أبواب الخلل ، ص 317 الحديث 1. وفي متن هذا الخبر « متى شككت فخذ بالأكثر » وفي خبر 3 من هذا الباب. « إذا سهوت فابن على الأكثر ».

ورابعا :

انه لو كانت الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة أو استصحابها موسعة للطهارة الواقعية ، لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة وعدم القول بنجاسته بعد انكشاف الخلاف وان الملاقى ( بالفتح ) كان نجسا ، لأنه حين الملاقاة كان طاهرا بمقتضى التوسعة التي جاء بها الاستصحاب ، وبعد انكشاف الخلاف لم تحدث ملاقاة أخرى توجب نجاسة الملاقى ( بالكسر ) فينبغي القول بطهارته ، وهو كما ترى.

فظهر من جميع ما ذكرنا : ان التوسعة المدعاة في باب الأصول مما لا محصل لها ، ومعه لا محيص عن القول بعدم اقتضاء الأصول للاجزاء عند انكشاف الخلاف القطعي مط ، سواء كانت جارية في الشبهات الحكمية أو في الشبهات الموضوعية.

الجهة الرابعة :

في اقتضاء الماتى به بالامر الظاهري الشرعي للاجزاء عند انكشاف الخلاف الظني ، كما في موارد تبدل الاجتهاد والتقليد ، ولا يتفاوت الحال في البحث عن هذه الجهة بين كون الامر الظاهري مؤدى الطرق والامارات ، أو مؤدى الأصول العملية ، نعم : البحث في المقام مقصور على خصوص الطرق والامارات والأصول التي يكون مؤديها الأحكام الشرعية.

واما ما كانت جارية في الموضوعات الخارجية ، فلا اشكال في عدم اقتضائها الاجزاء ، كما لو كان الشيء مستصحب الطهارة أو الملكية ، ثم قامت البينة على النجاسة أو عدم الملكية ، فان البينة توجب نقض الآثار التي عمل بها بمقتضى الاستصحاب من أول الامر ، ولا يتوهم الاجزاء في مثل هذا. وهذا بخلاف ما إذا كانت الامارات والأصول قائمة على الأحكام الشرعية ، ثم انكشف الخلاف ، كما في موارد تبدل الاجتهاد ، فان الاجزاء في مثل ذلك وقع محل الخلاف ، وقد قيل فيها بالأجزاء ، وان كان الأقوى عندنا عدم الاجزاء ايض مط في جميع موارد تبدل الاجتهاد ، سواء كان تبدله لأجل استظهاره من الدليل خلاف ما استظهره أولا ، كما لو استظهر من الدليل الاستحباب أو الإباحة ثم عدل عن استظهاره واستظهر

ص: 251

الوجوب أو الحرمة ، أو كان تبدله لأجل عثوره على المقيد أو المخصص أو الحاكم أو المعارض الأقوى ، وغير ذلك من موارد تبدل الرأي ، فان مقتضى القاعدة في جميع ذلك عدم الاجزاء ، وان حال متعلق الطرق والامارات والأصول حال متعلق العلم عند انكشاف الخلاف ، وكذا حال الامارات والأصول حال نفس العلم إذا زال وتبدل بغيره. فلنا في المقام دعويان :

الأولى : اتحاد متعلق الامارات والأصول مع متعلق العلم من الجهة التي نحن فيها.

الثانية : اتحاد نفس الامارات والأصول مع العلم ، وان قيام الامارة على شيء كقيام العلم عليه ، ويتضح الوجه في كلتا الدعويين برسم أمور :

( الامر الأول )

انه ليس المراد من الحكم الظاهري الا عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والامارات والأصول ، وليس هناك حكمان : حكم واقعي وحكم ظاهري ، بان يكون للشارع انشائان وجعلان ، بل ليس الحكم الا الحكم الواقعي المجعول أزلا والحكم الظاهري عبارة عن احراز ذلك الحكم بالطرق والأصول المقررة الشرعية ، وتسميته ظاهريا لمكان احتمال مخالفة الطريق والأصل للواقع وعدم ايصاله إليه ، والا فليس الحكم الظاهري الا هو الحكم الواقعي الذي قامت عليه الامارات والأصول مط ، محرزة كانت الأصول أو غير محرزة ، وهذا هو الذي قام عليه المذهب ويقتضيه أصول المخطئة.

نعم : بناء على أصول المصوبة من المعتزلة ، من أن قيام الامارة يوجب حدوث مصلحة في المتعلق ، ويقع التزاحم بينها وبين المصلحة الواقعية ، وتكون مصلحة مؤدى الطريق غالبة على مصلحة الواقع ، يكون هناك حكمان وانشائان ، ويكون للشارع جعلان ، أحدهما متعلق بالواقع الأولى ، والثاني متعلق بمؤدى الطريق والأصل ، ولكن بناء على هذا لا ينبغي تسمية ذلك حكما ظاهريا ، بل يكون ح حكما واقعيا ثانويا كما لا يخفى وجهه ، وهذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة من وجوه التصويب التي ذكرها الشيخ ( قده ) في أول حجية الظن حيث ذكر للتصويب

ص: 252

وجوها ثلاثة : (1).

الأول التصويب الأشعري ، وانه لم يكن في الواقع حكم الا مؤدى الامارات والأصول.

الثاني التصويب المعتزلي ، وهو ما أشرنا إليه ، وحاصله انه وان كان هناك في الواقع حكم يشترك فيه العالم والجاهل ، الا انه قيام الامارة على الخلاف يحدث في المتعلق مصلحة غالبة على مصلحة الواقع ، ويكون الحكم الفعلي هو مؤديات الطرق والأصول.

الثالث التصويب الامامي وهو المصلحة السلوكية على ما يأتي الإشارة إليها.

وبالجملة ، بناء على أصول المخطئة ليس الحكم الظاهري أمرا في قبال الحكم الواقعي ، بل الحكم الظاهري هو عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والأصول.

( الامر الثاني )

ان جعل الطرق والامارات والأصول انما يكون في رتبة احراز الحكم الواقعي ، ومن هنا كان في طول الحكم الواقعي ولا يعارضه ويزاحمه ، فكما ان احراز الواقع بالعلم يكون في المرتبة المتأخرة عن الواقع ، كذلك ما جعله الشارع بمنزلة العلم من الطرق والامارات والأصول ، حيث إنه جعلها محرزة له تشريعا ، وفردا للعلم شرعا ، فكان الشارع بجعله للطرق والأصول خلق فردا آخر للعلم في عالم التشريع ، ونفخ فيها صفة الاحراز وجعلها علما ، فجعل الطرق والأصول انما يكون في واد الاحراز واقعا في رتبة العلم ، وهذا معنى حكومتها على الواقع ، فان معنى حكومتها عليه ، هو انها محرزة للواقع وموصلة إليه ، لا انها توجب توسعة أو تضييقا في ناحية الواقع.

وبالجملة : ليس حال الطرق والامارات والأصول الا كحال العلم في

ص: 253


1- راجع الرسائل ، أو مباحث حجية الظن. ص 24

كونه محرزا للواقع ، غايته ان العلم محرز بذاته ، وتلك محرزة بالجعل التشريعي.

( الامر الثالث )

بعد ما عرفت من أن جعل الامارات والأصول واقع في رتبة الاحراز ، يظهر لك ان طريقية الطريق ومحرزيته يتوقف على وجود العلم به ، بان يكون واصلا لدى المكلف عالما به موضوعا وحكما ، إذ لا معنى لكون الشيء طريقا وحجة فعلية مع عدم الوصول إليه ، لان طريقيته انما تكون لمحرزيته ومحرزيته تتوقف على الوصول ، وبذلك تمتاز الطرق والأصول عن الاحكام الواقعية ، فان ثبوت الاحكام الواقعية وتحققها لا يتوقف على العلم بها ، وانما العلم يكون موجبا لتنجيزها بخلاف الامارات والأصول ، فان أصل تحققها يتوقف على العلم بها.

لا أقول ان أصل انشائها وجعلها يتوقف على العلم بها ، فان ذلك واضح البطلان لاستلزامه الدور.

بل أقول تحقق المنشأ خارجا وثبوت وصف الحجية والطريقية والمحرزية للشيء فعلا يتوقف على الوصول والوجود العلمي ، فانشائها يكون نظير ايجاب الموجب الذي لا يتحقق ما أوجبه خارجا الا بقبول الاخر ، كما أن انشاء الاحكام الواقعية يكون نظير الايقاعات التي لا يتوقف تحقق منشئاتها على شيء.

وبالجملة : انشاء الطرق والأصول وان لم يتوقف على العلم ، الا ان واجدية المنشأ لصفة الطريقية والمحرزية وكونه طريقا فعلا يتوقف على العلم به ، ولا معنى لطريقية طريق لم يعلم به المكلف ، كما إذا كان هناك خبر عدل لم يعثر عليه ، فالخاص الذي لم يعثر عليه المكلف ولم يصل إليه لايكون حجة فعلية ، ولا طريقا محرزا ، بل الحجة الفعلية والطريق المحرز هو العام ، نعم بعد العثور على الخاص والوصول إليه يتبدل احرازه ويخرج العام عن الطريقية ، ويكون الخاص ح طريقا.

ولا يتوهم : ان العام المخصص واقعا الذي لم يعثر المكلف على مخصصه لم يكن حجة واقعا بل كان من تخيل الحجة ، فان ذلك واضح البطلان ، لأن المفروض ان الخاص لم يكن حجة فعلية ، وحيث لم تخل الواقعة عن حجة فالعام الذي كان قد عثر عليه هو الحجة فعلا ، كما أنه لو لم يعثر على العام أيضا كان الأصل الجاري في

ص: 254

المسألة هو الحجة.

وبالجملة : الحجة هو الطريق الواصل ليس الا ، ومن هنا كانت أصالة العموم متبعة عند الشك في المخصص ولو كان هناك مخصص في الواقع ، فإنه حيث لم يصل الخاص إليه كان العموم هو المرجع والحجة فعلا.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك الوجه في عدم الاجزاء عند تبدل الاجتهاد ، فان حقيقة تبدل الاجتهاد ليس الا تبدل الاحراز ، حيث كانت الطرق والأصول واقعة في مرتبة الاحراز ، فتبدل اجتهاده عبارة عن تبدل حجته وطريقه واحرازه ، وانه إلى الان كان الحجة هو العام ، والآن صار الحجة هو الخاص ، فيكون حاله حال تبدل الاحراز العلمي بغيره ، وليس حال ما قام عليه الطريق الا حال متعلق العلم عند مخالفته للواقع ، من حيث عدم ايجاب العلم في المتعلق شيئا من مصلحة أو مفسدة ، بل هو باق على ما هو عليه قبل تعلق العلم ، ولا يوجب تبدلا في الواقع ، فكذا الحال في متعلق الطريق ، فلا فرق بين تعلق العلم بشيء وبين تعلق الطريق به ، وكذا لا فرق بين تبدل العلم وتبدل الطريق ، فلا معنى للفرق بينهما من حيث الاجزاء وعدمه ، فكل من قال بعدم الاجزاء عند تبدل العلم يلزمه القول بعدم الاجزاء عند تبدل الاجتهاد. هذا إذا لم يعلم في استنباطه بعض الظنون الاجتهادية.

وأما إذا اعمل ذلك ، كما هو الغالب ، حيث إن الاستنباط غالبا يتوقف على الاستفادة وأعمال الرأي في الجمع بين الأدلة ومقدار مفادها ، فعدم الاجزاء يكون ح أوضح ، لان تبديل الاجتهاد في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى عدم صحة الاجتهاد الأول ، وعدم استناده إلى حجة شرعية ، بل هو مستند إلى فهمه ورايه وهو ليس حجة شرعية.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين القول بالسببية أو الطريقية ، لان المراد من السببية على وجه لا ترجع إلى التصويب هو انها توجب مصلحة سلوكية ، لا انها توجب مصلحة في المؤدى ، ومن المعلوم : ان المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء مع انكشاف الخلاف ، فان المراد من المصلحة السلوكية هي مصلحة تدارك الواقع ، حيث إن الشارع لمكان نصبه الطرق في حال تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع

ص: 255

وانفتاح باب العلم لديه قد فوت الواقع عليه فلابد من تداركه ، ومن المعلوم : ان تدارك الواقع انما يكون بالمقدار الذي يستند فوته إلى الشارع ، أي بمقدار سلوك الامارة مع كونها قائمة عنده ، فلو فرض انه قامت الامارة في أول الوقت على وجوب الجمعة ، فصلاها ثم بعد انقضاء فضيلة الوقت تبين مخالفة الامارة للواقع وان الواجب هو صلاة الظهر ، فالذي فات من المكلف في مثل هذا هو فضيلة أول الوقت ليس الا ، واما فضيلة أصل الوقت واصل الصلاة فلم تفت من المكلف ، لامكان تحصيلها. وكذا الكلام فيما إذا انكشف الخلاف بعد الوقت ، فإنه بالنسبة إلى القضاء لم يفت.

وبالجملة : المصلحة السلوكية تدور مدار البناء على مقدار اعمال الامارة ومقدار فوت الواقع. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القاعدة لا تقتضي الاجزاء عند تبدل الاجتهاد ، بل القاعدة تقتضي عدم الاجزاء.

وربما قيل بان القاعدة تقتضي الاجزاء لوجوه :
الأول.

لزوم العسر والحرج من القول بعدم الاجزاء ، وقد وقع الاستدلال بذلك في جملة من الكلمات بدعوى انه يكفي الحرج النوعي في نفى الحكم رأسا ، ولا يعتبر الحرج الشخصي حتى يدور الاجزاء مداره ، ونظير هذا وقع في التمسك بلا ضرر. وقد تكرر في جملة من الكلمات كون العبرة بالضرر والحرج الشخصي أو النوعي ، حتى أثبتوا جملة من الاحكام بواسطة استلزام عدمها الحرج في الجملة ، ولو بالنسبة إلى بعض الأشخاص وفي بعض الأحوال كمسئلتنا ، حيث أثبتوا الاجزاء بواسطة استلزام عدم الاجزاء الحرج في بعض المقامات ، وكان منشأ ذلك هو تعليل بعض الأحكام الشرعية الكلية بالضرر والحرج ، كما ورد في بعض اخبار الشفعة (1) تعليلها بنفي الضرر ، وطهارة الحديد بنفي الحرج ، ومن المعلوم ان عدم الشفعة ونجاسة الحديد لا يستلزم الضرر والحرج بالنسبة إلى جميع الأشخاص في جميع الأحوال ،

ص: 256


1- الوسائل ، الجزء 17 الباب 5 ، من أبواب الشفعة الحديث 1 ص 319

فتخيل ان الضرر والحرج المنفى هو الضرر والحرج النوعي لا الشخصي هذا.

ولكن الظاهر أن ذلك من جهة الاشتباه والخلط بين ما يكون حكمة التشريع ، وبين ما يكون علة الحكم ، فان الضرر والحرج المعلل بهما حكم الشفعة وطهارة الحديد انما يكونان حكمة للتشريع ، حيث إن الحكيم تعالى لمكان فضله على العباد وتوسعته على الناس جعل طهارة الحديد مع أن فيه مقتضى النجاسة ، وجعل الاخذ بالشفعة لحكمة استلزامه الضرر والحرج بالنسبة إلى نوع العباد ، ولكن هذه الحكمة صارت سببا لجعل حكم كلي إلهي على جميع العباد ، وليس من شان الحكمة الاطراد ، ففي مثل هذا لا معنى لدعوى الضرر الشخصي ، وليس لاحد الفتوى بنجاسة الحديد أو عدم الشفعة بالنسبة إلى من لم يكن في حقه ضرر وحرج ، لان الفتوى بذلك فتوى على خلاف حكم اللّه تعالى ، حيث جعل الشفعة وطهارة الحديد حكما كليا في حق جميع العباد ، فكيف يمكن الفتوى على خلاف ذلك؟ الا ان يكون مبدعا في الدين والعياذ باللّه. ولكن هذا غير الضرر المنفى بمثل قوله : لا ضرر ولا ضرار - الوارد في قضية سمرة بن جندب ، والحرج المنفى بقوله تعالى : ما جعل عليكم في الدين من حرج ، فان الضرر والحرج في مثل ذلك انما يكون علة لنفى الحكم الضرري والحرجي ، ويكون أدلة نفي الضرر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية المتكلفة لبيان احكام الموضوعات مط الشاملة لحالة الضرر والحرج ، ففي مثل هذا لا يمكن ان يكون الضرر والحرج نوعيا ، لان حكومتها على تلك الأدلة تكون بمنزلة تخصيصها وقصر دائرتها بغير حالة الضرر والحرج ، فيكون الحكم الأولى ثابتا في غير صورة الضرر والحرج ، ولا معنى لتوهم ان العبرة في ذلك بالضرر والحرج النوعي ، ولا يمكن الفتوى بنفي الحكم كلية في حق جميع العباد بعد تشريعه لمكان استلزامه الضرر والحرج بالنسبة إلى بعض العباد ، فان المفتى بذلك يكون مبدعا في الدين ، وكيف يمكن رفع الحكم الثابت في الشريعة لمكان استلزامه الضرر والحرج في الجملة؟ فالعبرة في ذلك لايكون الا بالضرر والحرج الشخصي.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه بعد تشريع الاحكام من وجوب صلاة الظهر في الوقت وقضائها في خارجه بالنسبة إلى كل أحد ، كيف يمكن القول بعدم وجوب

ص: 257

ذلك مط إعادة وقضاء بالنسبة إلى جميع العباد لمكان استلزام الإعادة والقضاء الحرج في الجملة في حق بعض الأشخاص في بعض الأحوال ، بل لابد في مثل ذلك من الاقتصار على المورد الذي يلزم منه الحرج.

وبالجملة : اثبات حكم كلي إلهي وهو الاجزاء مط بأدلة نفى الحرج لا يمكن ، لان أدلة نفي الحرج والضرر انما تنفى الحكم الضرري والحرجي ، وليس من شانها اثبات حكم في الشريعة.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدلوا بها للاجزاء ، هو انه لا ترجيح للاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول ، بعد ما كان كل منهما مستندا إلى الطرق الشرعية الظنية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الاستدلال ، فإنه ليس المقام من باب التعارض حتى يقال : انه لا موجب لترجيح أحدهما على الاخر ، بل المفروض ان الاجتهاد الأول قد زال بسبب الاجتهاد الثاني ، وكان المستنبط بالاجتهاد الثاني هو الحكم الإلهي الأزلي والأبدي ، والمستنبط بالاجتهاد الأول وان كان كذلك أيضا ، الا انه قد زال ، فلم يبق الا العمل على مقتضى الاجتهاد الثاني ، وليس ذلك ترجيحا للاجتهاد الثاني ، حتى يقال : انه ترجيح بلا مرجح.

الوجه الثالث :

هو ما حكى عن بعض الكلمات ، من أن المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ، فلا يمكن ان يرد الاجتهادان على صلاة ظهر هذا اليوم ، وح فإذا اجتهد في عدم وجوب السورة وصلى صلاة الظهر بلا سورة بمقتضى اجتهاده ، فالاجتهاد الثاني الذي يكون مؤداه وجوب السورة لا يتعلق بتلك الصلاة التي صلاها في ذلك اليوم ، بل يتعلق بصلاة سائر الأيام ، هذا.

ولكن لم يظهر لنا معنى محصل لقولهم : ان المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ، فإنه ان أريد عدم التحمل في زمان واحد فذلك ضروري ، لعدم تعلق اجتهادين في زمان واحد بمسألة واحدة ، وان أريد عدم التعلق ولو في زمانين فذلك واضح البطلان ، لتحملها الف اجتهاد ، ولم يكن مؤدى الاجتهاد صلاة هذا اليوم أو ذلك

ص: 258

اليوم ، بل مؤداه هو الحكم الكلي المتعلق بجميع الأيام ، وعليك بملاحظة سائر الوجوه التي استدلوا بها للاجزاء ، فإنها مما لا تسمن ولا تغنى.

فتحصل : ان مقتضى القاعدة عدم الاجزاء مط في جميع موارد تبدل الاجتهاد. وكذا الحال بالنسبة إلى المقلد إذا عدل من تقليده لموجب من موت ، أو خروج المقلد من أهلية التقليد ، أو غير ذلك من موجبات العدول ، فان حال المقلد حال المجتهد ، غايته ان طريق المجتهد هو الأدلة الاجتهادية والأصول العملية التي يجريها في الشبهات الحكمية ، وطريق المقلد هو رأى المجتهد ، وليس لرأى المجتهد موضوعية حتى يتوهم الاجزاء ، بل انما يكون طريقا صرفا كطريقية الأدلة بالنسبة إلى المجتهد ، كما لا يخفى.

ثم انك بعد ما عرفت من أن القاعدة لا تقتضي الاجزاء بل تقتضي عدمه ، فنقول : انه قد حكى الاجماع على الاجزاء ، ونحن وان لم نعثر على من ادعى الاجماع ، الا ان شيخنا الأستاذ مد ظله ادعاه ، ولكن لو فرض تحقق الاجماع ، فربما يشكل التمسك به من جهة احتمال كون الاجماع في المقام مدركيا ، لذهاب جمله إلى أن القاعدة تقتضي الاجزاء ، ومع هذا لا عبرة بهذا الاجماع.

ثم لو أغمضنا عن ذلك وقلنا بكفاية الاجماع على النتيجة ، فيقع الكلام في مقدار دلالة هذا الاجماع ، فنقول : لعل المتيقن من هذا الاجماع هو سقوط الإعادة والقضاء ، واما فيما عدا ذلك من الوضعيات - في باب العقود والايقاعات ، وباب الطهارة والنجاسة ، ومسألة الاقتداء وغير ذلك من المسائل العامة البلوى التي تتفرع على مسألة الاجزاء - فالامر فيها مشكل ، ولا بد من الفحص التام في كلمات الاعلام في المقام. هذا تمام الكلام في اقتضاء الامر الظاهري الشرعي للاجزاء.

واما اقتضاء الامر الظاهري العقلي للاجزاء ، فمجمل القول فيه ، هو ان المراد من الامر الظاهري العلم ، وما يلحق به من الأصول العقلية ، وما يعمله المجتهد من الظنون الاجتهادية والاستفادات ، حيث إنه في الجميع ليس أمرا شرعيا ظاهريا ، لما عرفت من أن المراد من الامر الشرعي هو الطرق والأصول الشرعية ، وما عدا ذلك يكون ملحقا بالعلم الذي يكون حجيته عقلية محضة ،

ص: 259

وعلى كل حال فلا ينبغي توهم الاجزاء في الامر العقلي ، بل لا يفيد شيئا سوى المعذورية ، وذلك أيضا إذا لم يكن مقصرا في المقدمات والا لا يفيد المعذورية أيضا ، من غير فرق بين تعلق العلم بالفروع أو الأصول ، وذلك واضح لا غبار عليه ، هذا تمام الكلام في مسألة الاجزاء.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، تعرض في المقام لبعض المسائل الأصولية التي لا طائل تحتها ، كمسألة ان الامر بالامر امر ، ومسألة انه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أم لا؟ ومسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ، ونحن قد اعرضنا عن ذكرها لأنه لا فائدة فيها وهو مد ظله أيضا قد طواها ولم يعتن بالبحث فيها.

والحمد لله أولا وآخرا

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة 10 شعبان سنه 1346.

ص: 260

القول في مقدمة الواجب

اشارة

وتنقيح البحث فيها يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

لا ينبغي الاشكال في كون المسألة من المسائل الأصولية ، وليست من المبادئ الأحكامية ، ولا من المسائل الفقهية ، وذلك لما تقدم من أن الضابط في مسألة الأصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بحيث تكون نتيجتها كبرى لقياس الاستنباط على وجه يستنتج منها حكم فرعى كلي ، وهذا المعنى موجود في المقام ، فان البحث في المقام انما يكون عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته ، لا عن نفس وجوب المقدمة ، بل يكون وجوب المقدمة نتيجة الملازمة على القول بها ، فلا وجه لجعل المسألة من المسائل الفقهية ، كما لا وجه لجعلها من المبادئ الأحكامية التي هي عبارة عن البحث عن الاحكام وما يلازمها ، كالبحث عن تضاد الأحكام الخمسة ، وتقسيم الحكم إلى الوضعي والتكليفي ، وغير ذلك مما عدوه من المبادئ الأحكامية ، في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية ، فان جعلها من المبادئ الأحكامية بلا موجب ، بعد امكان جعلها من المسائل الأصولية.

نعم : هي ليست من المسائل اللفظية ، كما يظهر من المعالم (رحمه اللّه) بل هي من المسائل العقلية ، ولكن ليست من المستقلات العقلية الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح ومناطاة الاحكام ، بل هي من الملازمات العقلية ، حيث إن حكم العقل في المقام يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة ، فيحكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب مقدماته ، وليس من قبيل حكم العقل بقبح القعاب من غير بيان الذي

ص: 261

لا يحتاج إلى توسيط حكم شرعي ، بل البحث في المقام نظير البحث عن مسألة الضد ومسألة اجتماع الأمر والنهي يتوقف على ثبوت امر أو نهى شرعي ، حتى تصل النوبة إلى حكم العقل بالملازمة كما في مسئلتنا ، أو اقتضاء النهى عن الضد كما في مسألة الضد ، أو جواز الاجتماع وعدمه كما في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، ولكن القوم لما لم يفردوا بابا للبحث عن الملازمات العقلية - مع أنه كان حقه ذلك أدرجوا المسألة وما شابهها في مباحث الألفاظ مع أنها ليست منها كما لا يخفى.

الامر الثاني :

ليس الوجوب المبحوث عنه في المقام بمعنى اللا بدية العقلية ، فان ذلك مما لا سبيل إلى انكاره إذ هو معنى المقدمية كما هو واضح ، وليس المراد من الوجوب أيضا الوجوب التبعي العرضي نظير وجوب استدبار الجدي عند وجوب استقبال القبلة ، حيث إن الاستدبار لم يكن واجبا ، وانما ينتسب الوجوب إليه بالعرض والمجاز لمكان الملازمة نظير اسناد الحركة إلى الجالس في السفينة ، فان هذا المعنى من الوجوب أيضا مما لا ينبغي انكاره ، بل هو يرجع إلى المعنى الأول من اللابدية ، وكذا ليس المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام الوجوب الاستقلالي الناشئ عن مبادئ مستقلة وإرادة متأصلة ، فان هذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به ، وكيف يمكن ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة مغفولا عنها ولا يلتفت إلى أصل مقدميتها ، بل ربما يقطع بعدمها ، مع أنها في الواقع تكون مقدمة ، وهذا المعنى من وجوبها يستدعى الالتفات إليها تفصيلا.

بل المراد من الوجوب في المقام : هو الوجوب القهري المتولد من ايجاب ذي المقدمة ، بحيث يريد المقدمة عند الالتفات إليها ولا يمكن ان لا يريدها ، فالمقدمة متعلقة لإرادة الآمر ، وليس اسناد الوجوب إليها بالعرض والمجاز بل يكون الاسناد على وجه الحقيقة ، ولكن ليست الإرادة عن مبادئ مستقلة ، بل يكون مقهورا في ارادتها بعد إرادة ذي المقدمة ولو على جهة الاجمال ، بحيث تتعلق الإرادة بالعنوان الكلي الذي يتوقف عليه ذو المقدمة وان لم يلتفت إلى المقدمات الخاصة ، ولكن المقدمات الخاصة تتصف بالوجوب حقيقة بعد انطباق العنوان عليها.

ص: 262

الامر الثالث :

في تقسيمات المقدمة : ولها تقسيمات باعتبارات مختلفة فمنها تقسيمها إلى الداخلية والخارجية ، والداخلية إلى الداخلية بالمعنى الأخص والداخلية بالمعنى الأعم. كما أن الخارجية أيضا تنقسم إلى الأعم والأخص. والمراد من الداخلية بالمعنى الأخص خصوص الاجزاء التي يتألف منها المركب ، والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما يعم الاجزاء والشرائط والموانع التي اعتبر التعبد بها داخلا في المأمور به.

وبعبارة أخرى : المراد من الداخلية بالمعنى الأخص ما كان كل من القيد والتقييد داخلا في حقيقة المأمور به وهويته ، وذلك يختص بالاجزاء لا غير ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأعم ، وهي ما كان ذات الشيء خارجا عن حقيقة المأمور به ، سواء كان التقييد والإضافة داخلا كالشرائط والموانع ، حيث يكون ذات الشرط والمانع خارجا والتقييد والإضافة داخلا ، أو كانت الإضافة أيضا خارجة كالمقدمات العقلية التي لا دخل لها في المأمور به أصلا ، كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود إلى السطح.

والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما كان التقييد داخلا ، سواء كان نفس القيد أيضا داخلا كالاجزاء أو كان نفسه خارجا كالشرائط ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأخص ، وهي ما كان كل من القيد والتقييد خارجا ، كالمقدمات العقلية ، فالشرط والمانع له جهتان : بجهة يكون من المقدمات الداخلية باعتبار دخول التقييد ، وبجهة يكون من المقدمات الخارجية باعتبار خروج ذاته.

ثم إن المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص تنقسم إلى علة ومعد ، والمراد من المعد ما كان له دخل في وجود الشيء ، من دون ان يكون وجود ذلك الشيء مترشحا منه بحيث يكون مفيضا لوجوده ، بل كان لمجرد التهيئة والاستعداد لإفاضة العلة وجود معلولها ، كدرجات السلم ما عدا الدرجة الأخيرة ، حيث إن كل درجة تكون معدة للكون على السطح ، كما تكون معدة أيضا للكون على الدرجة التي فوقها بمعنى انه يتوقف وجود الكون على الدرجة الثانية على الكون على الدرجة الأولى ، وقد

ص: 263

يطلق المعد على ما يكون له دخل في وجود المعلول ، من دون ان يكون له دخل في وجود الجزء اللاحق كالبذر ، حيث إن له دخلا في وجود الزرع ، ولا يتوقف وجود الشمس أو الهواء عليه ، وان توقف تأثيرهما عليه. ولكن فرق بين التوقف في التأثير ، وبين التوقف في الوجود ، كمثال السلم. وقد يطلق المعد بهذا المعنى على المعد بالمعنى الأخص. والمراد من العلة هو ما يترشح منه وجود المعلول وبإفاضته يتحقق.

ثم إن العلة تنقسم إلى بسيطة ، ومركبة ، والمركبة إلى ما تكون اجزائها متدرجة في الوجود ، وما لا تكون كذلك.

فالأول كالصعود على السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، حيث إن الصعود على السلم يكون متدرجا في الوجود.

والثاني كالنار المجاورة مع عدم البلة بالنسبة إلى الاحراق ، حيث تكون العلة مركبة من النار والمجاورة وعدم البلة ، ولكن ليست هذه الاجزاء متدرجة في الوجود ، بل يمكن ان توجد العلة بجميع اجزائها دفعة واحدة ، فان كانت العلة متدرجة في الوجود كانت العلة التامة هي الجزء الأخير منها التي يتعقبها وجود المعلول ، والاجزاء السابقة عليها تكون من المعدات. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن متدرجة في الوجود ، فان العلة التامة هو مجموع الاجزاء ، بل المعلول يستند إلى المقتضى وان فرض تأخره في الوجود عن الشرط وعدم المانع ، فظهر ان ما اشتهر من أن الشيء يستند إلى الجزء الأخير من العلة انما هو فيما إذا كانت اجزاء العلة متدرجة في الوجود.

وعلى كل حال ، لا اشكال في دخول المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص في محل النزاع ما عدا العلة التامة ، واما العلة التامة ففيها كلام يأتي انشاء اللّه تعالى ، وكذا لا اشكال في دخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل النزاع ، سواء جعلت من المقدمات الداخلية أو المقدمات الخارجية على اختلاف الاعتبارات كما تقدم.

واما دخول المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص أي الاجزاء في محل النزاع فلا يخلو عن كلام ، بل ربما حكى عن بعض خروجها عن حريم النزاع ، بل ربما

ص: 264

يستشكل في كون الاجزاء مقدمة ، مع أنه لا بد من المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة ، إذ لا يعقل ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فكيف تكون الاجزاء مقدمة للكل مع أنها ليست الا عين الكل إذ الكل عبارة عن نفس الاجزاء بالأسر ، وح تكون الاجزاء واجبة بالوجوب النفسي ولا معنى لوجوبها بالوجوب المقدمي بعد كونها عين الكل واتحادها معه هذا.

وقد دفع الاشكال الشيخ ( قده ) على ما في التقريرات (1) بما حاصله : ان الكل هو عبارة عن الاجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا ، فالاجزاء لها لحاظان : لحاظها بشرط لا فتكون اجزاء ومقدمة ، ولحاظها لا بشرط فتكون عين الكل وذا المقدمة ، فاختلفت المقدمة مع ذيها اعتبارا ولحاظا هذا.

وكان الشيخ ( قده ) قاس المقام بالهيولى والصورة ، والجنس والفصل ، والمشتق ومبدء الاشتقاق ، حيث إنهم في ذلك المقام يفرقون بين الهيولي والصورة ، وبين الجنس والفصل ، باللابشرطية والبشرط اللائية ، فان اجزاء الانسان مثلا ان لوحظت بشرط لا ، تكون هيولى وصورة ، ويغاير كل منهما الآخر ، ويمتنع حمل أحدهما على الاخر ، وحملهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وان لوحظت لا بشرط تكون جنسا وفصلا ويصح حمل أحدهما على الاخر ، وحمل كل منهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وكذا الحال بالنسبة إلى المشتق ومبدء الاشتقاق على ما تقدم تفصيله في مبحث المشتق هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان قياس الاجزاء في المقام بمثل الهيولي والصورة والجنس والفصل مع الفارق ، فان معنى اللابشرط الذي يذكرونه في ذلك المقام انما هو بمعنى لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه بنحو من الاتحاد ، سواء كان من قبيل اتحاد المشتق مع ما يجرى عليه من الذات على اختلاف أنواعه : من كونه

ص: 265


1- راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث مقدمة الواجب ، « وتحقيق ذلك أن يقال .. » ص 38 - 37

اتحادا صدوريا ، أو حلوليا ، أو غير ذلك ، أو كان من قبيل اتحاد الجنس والفصل ، فإنه في مثل هذا إذا لوحظ الشيء لا بشرط كان قابلا للحمل لمكان الاتحاد الذي بينهما ، وأين هذا مما نحن فيه من الاجزاء العرضية التي يكون كل جزء منها مبائنا للاخر وللكل؟ ولا يعقل ان يتحد الجزء مع الكل في الوجود وان لوحظ بألف لا بشرط ، ولا يمكن حمل الفاتحة على الصلاة ولا حمل الأنكبين على السكنجبين.

والسر في ذلك : هو ان المركب من الاجزاء العرضية الذي يكون التركيب فيه انضماميا لا يمكن فيه اتحاد الاجزاء بعضها مع بعض ولا بعضها مع الكل في الوجود ، بل لكل وجود مغاير ، سواء كان من المركبات الاعتبارية أو كان من المركبات الخارجية ، فلا يصح حمل الفاتحة على الصلاة وان لوحظت لا بشرط ، فان لحاظ الفاتحة لا بشرط ليس معناه لحاظها لا بشرط عما يتحد معها ، إذ لم تتحد هي مع شيء في الوجود حتى يمكن لحاظها كذلك ، كما أمكن لحاظ الجنس كذلك لمكان الاتحاد الذي بينه وبين الفصل ، بل المعنى المتصور من لحاظ الفاتحة لا بشرط انما هو لحاظها بنفسها ، سواء كانت منضمة إلى غيرها أو غير منضمة ، وهذا المعنى كما ترى لا يوجب ان تكون عين الكل ولا حملها عليه ، بل بعد بينهما كمال المباينة.

وهذا بخلاف التركيب الاتحادي بنحو من الاتحاد ، ولو كان من قبيل اتحاد المشتق مع الذات الذي هو أضعف من اتحاد الجنس والفصل ، فإنه لمكان الاتحاد الذي بينهما - حيث إن وجود العرض لنفسه عين وجوده لغيره - يمكن لحاظ الاجزاء لا بشرط ، أي لحاظها على ما هي عليها من الاتحاد من دون لحاظ تجردها عما اتحد معها ، فتكون بهذا اللحاظ عين الكل ويصح الحمل حينئذ ، كما يمكن لحاظها بشرط لا - أي لحاظها غير متحدة - فتكون مغايرة للكل ويمتنع الحمل ، وأين هذا من اجزاء المركب بالتركيب الانضمامي الذي ليس فيه شائبة الاتحاد؟ كما فيما نحن فيه.

وبالجملة : دعوى ان الاجزاء في المقام ان لوحظت لا بشرط تكون عين الكل ، ما كانت ينبغي ان تصدر من مثل الشيخ ( قده ) ولعل المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ ( قده )

ص: 266

والذي ينبغي ان يقال في المقام : هو ان الكل عبارة عن الاجزاء بالأسر ، أي مجموع الاجزاء منضما بعضها مع بعض ، فهي بشرط الاجتماع تكون عين الكل ، لا هي لا بشرط ، كما في التقرير ، والاجزاء انما تكون لا بشرط. واعتبار الكل والاجزاء على هذا الوجه مما لا اشكال فيه.

ولكن مع ذلك اشكال دخول الاجزاء في محل النزاع بعد على حاله ، لأنه هب ان الاجزاء انما تكون لا بشرط ، والكل يكون بشرط الانضمام ، الا ان اللابشرط لما كان يجتمع مع الف شرط من دون ان يكون ذلك موجبا لتبدل في ذاته وتغير في حقيقته ، فالفاتحة التي تكون لا بشرط هي بعينها الفاتحة التي تكون منضمة إلى السورة والركوع والسجود وغير ذلك من اجزاء الصلاة ، فان لا بشرطيتها لا يمنع عن انضمام الغير معها ، والمفروض ان الفاتحة التي تكون منضمة إلى غيرها واجبة بالوجوب النفسي المتعلق بالكل ، وليس هناك ذات أخرى وشيء آخر يكون واجبا بالوجوب المقدمي.

وحاصل الكلام : ان اعتبار الجزء لا بشرط واعتبار الكل بشرط الانضمام ، لا يدفع اشكال كون ما وجب بالوجوب النفسي يلزم ان يكون واجبا مقدميا لنفسه بناء على دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان الاجزاء التي اعتبرت لا بشرط هي بعينها تكون منضما بعضها مع بعض ، لما عرفت من أن اللاشرطية لا تنافى الانضمام ، وما يكون واجبا بالوجوب النفسي هو هذه الاجزاء المنضمة بعينها ، فيعود محذور كون الشيء واجبا مقدميا لنفسه الواجب بالوجوب النفسي حسب الفرض.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في تقريب الاشكال في الدورة السابقة على ما حكى عنه ، وكان الاشكال كان قويا في نظره سابقا ورجح قول من قال بخروج الاجزاء عن محل النزاع ، ولكنه في هذه الدورة قد ضعف الاشكال وبنى على دخول الاجزاء في محل النزاع.

وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان المراد من البشرط الشيئية التي هي عبارة عن الكل ليس مجرد انضمام الاجزاء بعضها مع بعض بمعنى مجرد الاجتماع في الوجود ، حتى يقال : ان لا بشرطية الاجزاء لا ينافي هذا الانضمام والاجتماع في

ص: 267

الوجود بل هي هي بعينها لان اللابشرط يجامع هذا الانضمام فلا يحصل المغايرة بين الاجزاء والكل ، بل المراد من البشرط الشيئية في المقام هو لحاظ الجملة شيئا واحدا على وجه يكون للاجزاء المجتمع حالة وحدة بها يقوم الملاك والمصلحة ، وهذا المعنى من البشرط الشيئية يباين اللابشرطية ويضاده ، إذ ذوات الاجزاء ح لم تكن ملحوظة بهذا اللحاظ ، بل هذا اللحاظ يوجب فناء الذوات واندكاكها في ضمن الوحدة على وجه لا تكون الذوات ملحوظة الا تبعا ، ولا بشرطية الجزء لا يمكن ان يجامع هذا المعنى من الاجتماع والانضمام ، بل الذي يجامعه هو مجرد الاجتماع في الوجود وانضمام بعضها مع بعض. ولكن قد عرفت انه ليس المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، بل الانضمام المعتبر هو الانضمام على وجه تكون الجملة شيئا واحدا.

والذي يدل على أن المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، هو انه لو نوى الصلاة لا على وجه لحاظ الوحدة ، بل نوى كل جزء جزء مستقلا واتى بالاجزاء على هذا الوجه متعاقبة ومنضما بعضها مع بعض كانت صلوته باطلة. فيظهر من ذلك : ان المعتبر في الكل ليس مجرد الانضمام ، بل لا بد من لحاظ الوحدة. وهذا المعنى من الانضمام كما ترى متأخر في الرتبة عن لحاظ ذوات الاجزاء لا بشرط ، إذ لا بد أولا من تصور ذوات الاجزاء وبعد ذلك يجعل الجملة شيئا واحدا ، فحصلت المغايرة بين الاجزاء والكل ، وتقدم الأول على الثاني. هذا غاية ما يمكن ان يوجه دعوى مقدمية الاجزاء للكل.

ولكن مع ذلك لا ينفع في دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان التقدم المدعى للاجزاء انما هو التقدم بحسب عالم اللحاظ والتصور ، واما بحسب عالم الوجود والتحقق فليس بين الاجزاء والكل تقدم وتأخر ، بل الاجزاء بوجودها العيني عين الكل ، وتوكن واجبة بنفس وجوب الكل ، وليس لها وجود آخر تكون به واجبة بالوجوب المقدمي ، فتأمل في المقام جيدا ، هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص ، واما المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص قد عرفت ان ما عدا العلة التامة منها داخلة في محل النزاع.

ص: 268

واما العلة التامة :

فقد يقال بخروجها عن محل النزاع ، نظرا إلى أن إرادة الآمر لا بد ان تتعلق بما تتعلق به إرادة الفاعل ، وإرادة الفاعل لا تتعلق بالمعلول لأنه ليس فعلا اختياريا له ، بل هو يتبع العلة ويترشح وجوده منها قهرا ، بل إرادة الفاعل انما تتعلق بالعلة التي هي فعل اختياري له ، ومقتضى الملازمة بين الإرادتين ان تكون العلة هي متعلقة لإرادة الآمر ، فتكون هي الواجبة بالوجوب النفسي ، ولا معنى لان تكون واجبة بالوجوب المقدمي ، وربما ينقل عن السيد المرتضى (رحمه اللّه) القول بذلك ، ولكن العبارة المحكية عنه لا تنطبق على ذلك فراجع.

وعلى كل حال الذي ينبغي ان يقال : هو انه تارة يكون لكل من العلة والمعلول وجود مستقل ، وكان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر كطلوع الشمس التي يكون علة لضوء النهار ، حيث إن لكل من الطلوع والضوء وجودا يخصه ، وان كان وجود الضوء مترشحا عن وجود الطلوع وكان متولدا منه ، الا انه مع ذلك يكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر.

وأخرى لايكون كذلك ، بل كان هناك وجود واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى ، وعنوان ثانوي ، كالالقاء والاحراق ، والغسل والطهارة ، حيث إنه ليس هناك الا فعل واحد ، ويكون هذا الفعل بعنوانه الأولى القاء أو غسلا ، وبعنوانه الثانوي احراقا أو تطهيرا ، وليس ما بحذاء الالقاء أو الغسل غير ما بحذاء الاحراق أو الطهارة ، بل هو هو ولذا يحمل أحدهما على الآخر فيقال : الالقاء احراق وبالعكس والغسل طهارة وبالعكس ، لما بين العنوانين من الاتحاد في الوجود.

فان كانت العلة على الوجه الأول بحيث يغاير وجودها وجود المعلول ، فالحق انها داخلة في محل النزاع ، وتكون واجبة بالوجوب المقدمي ، والذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وإرادة الفاعل انما تتعلق به لكونه مقدورا له ولو بالواسطة ، ولا يعتبر في متعلق التكليف أزيد من ذلك. ولا يمكن ان تكون العلة واجبة بالوجوب النفسي مع أن المصلحة والملاك قائمة بالمعلول ، بل الذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وهو الذي تتعلق به إرادة الفاعل والآمر ، و

ص: 269

العلة لا تكون واجبة الا بالوجوب المقدمي.

وان كانت العلة على الوجه الثاني أي لم يكن هناك وجودان منحازان ، بل كان هناك فعل واحد معنون بعنوانين طوليين ، فالحق انه ليس هناك الا وجوب نفسي تعلق بالفعل ، غايته انه لا بعنوانه الأولى بل بعنوانه الثانوي ، فان الامر بالاحراق امر بالالقاء والامر بالالقاء امر بالاحراق ، وكذا الحال في الغسل والطهارة والانحناء والتعظيم ، وغير ذلك من العناوين التوليدية ، وذلك لوضوح انه لم يصدر من المكلف فعلان يكون أحدهما الالقاء والاخر احراقا ، بل ليس هناك الا فعل واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى وعنوان ثانوي ، بل ليس ذلك في الحقيقة من باب العلة والمعلول ، إذ العلة والمعلول يستدعيان وجودين ، وليس هنا الا وجود واحد وفعل واحد ، فليس الاحراق معلولا للالقاء ، بل المعلول والمسبب التوليدي هو الاحتراق لا الاحراق الذي هو فعل المكلف ، وكذا لكلام في الغسل والتطهير ، حيث إن التطهير ليس معلولا للغسل ، بل المعلول هو الطهارة ، ومن ذلك ظهر ان اطلاق المسببات التوليدية على العناوين التوليدية لا يخلو عن مسامحة لان المسبب التوليدي ما كان له وجود يخصه غير وجود السبب كطلوع الشمس وإضاءة النهار ، وليس المقام من هذا القبيل ، مثلا فرق بين فرى الأوداج الذي يكون معنونا بعنوان القتل ، وبين اسقاء السم الذي يتولد منه القتل ، فان القتل في الأول يكون من العناوين التوليدية ، وفي الثاني يكون من المسببات التوليدية ، والأسباب التي جعلوها موجبة للضمان في مقابل المباشرة كلها ترجع إلى المسببات التوليدية ، فتأمل جيدا.

فالالقاء أو الغسل ليس واجبا بالوجوب المقدمي ، بل هو واجب بالوجوب النفسي ، غايته لا بعنوانه الأولى أي بما انه القاء أو صب الماء ، بل بعنوانه الثانوي أي بما انه احراق وافراغ للمحل عن النجاسة ، والذي يدل على أنه ليس هناك فعلان وليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، هو صحة حمل أحدهما على الاخر وصحة تعلق التكليف بكل منهما ، كما ورد : اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يوكل ، وورد أيضا وثيابك فطهر.

ص: 270

وبالجملة باب العناوين التوليدية ، ليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، فليس هناك الا واجب نفسي واحد تعلق بالفعل لا بما هو وبعنوانه الأولى ، بل بعنوانه الثانوي. هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية والخارجية بمعناهما الأعم والأخص.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى العقلية والعادية والشرعية. والمراد من الشرعية الشروط والموانع ، وقد تقدم انها مندرجة في المقدمات الداخلية أو الخارجية على اختلاف الاعتبارين. والمراد من العادية ما جرت العادة على التوقف عليها كنصب السلم ، وهي في الحقيقة ترجع إلى العقلية باعتبار وليس هذا تقسيما آخر للمقدمة ، بل تكون من الخارجية بالمعنى الأخص.

وقد تقسم المقدمة إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ترجع إلى مقدمة الوجود ، وهي تدخل في المقدمة الداخلية أو الخارجية.

وقد تقسم أيضا إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود ، ولا يخفى ان مقدمة العلم ليست من اقسام المقدمة المبحوث عنها في المقام ، بل هي مقدمة للعلم بتحقق الامتثال الذي يحكم به العقل في موارد العلم الاجمالي.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى المقارنة ، والمتقدمة ، والمتأخرة في الوجود ، وهي المعبر عنها بالشرط المتأخر ، وقد وقع النزاع في جوازه وامتناعه. وتحرير محل النزاع يتوقف على تقديم أمور :

( الامر الأول )

ينبغي خروج شرط متعلق التكليف عن حريم النزاع ، لان حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه وعدم الخروج عن عهدة التكليف الا به ، فكما انه لا اشكال فيما إذا كان بعض اجزاء المركب متأخرا عن الاخر في الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، كما إذا امر بمركب بعض اجزائه في أول النهار والبعض الاخر في آخر النهار ، كذلك لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا في

ص: 271

الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، ومجرد دخول الجزء قيدا وتقييدا في المركب وخروج الشرط قيدا لايكون فارقا في المقام بعد ما كان التقييد داخلا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان اشكال الشرط المتأخر انما هو لزوم الخلف والمناقضة ، وتقدم المعلول على علته ، وتأثير المعدوم في الموجود على ما سيأتي بيانه ، وشيء من ذلك لا يجرى في شرط متعلق التكليف ، لأنه بعد ما كان الملاك والامتثال والخروج عن عهدة التكليف موقوفا على حصول التقييد الحاصل بحصول ذات القيد ، فأي خلف يلزم؟ وأي معلول يتقدم على علته؟ أو أي معدوم يؤثر في الموجود؟ فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم المستحاضة؟ فان حقيقة الاشتراط يرجع إلى أن الإضافة الحاصلة بين الصوم والغسل شرط في صحة الصوم ، بحيث لايكون الصوم صحيحا الا بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل.

نعم لو قلنا : ان غسل الليل المستقبل موجب لرفع حدث الاستحاضة عن الزمان الماضي ، بحيث يكون غسل المغرب يوجب رفع الحدث من الظهر ، أو قلنا : ان غسل الليل يوجب تحقق الامتثال من السابق وان لم يوجب رفع الحدث عنه ، كان الاشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه كما لا يخفى ، الا ان حديث جعل الغسل شرطا للصوم لا يقتضى ذلك ، بل أقصاه انه لا يتحقق صحة الصوم الا به ، غايته انه لا على وجه الجزئية ، بل على وجه القيدية ، وذلك مما لا محذور فيه بعد ما كان الغسل فعلا اختياريا للمكلف وكان قادرا على ايجاده في موطنه ، فتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى قيود متعلق التكليف مما لا وجه له.

( الامر الثاني )

لا اشكال في خروج العلل الفائتة عن حريم النزاع ، فان العلل الفائتة غالبا متأخرة في الوجود عما تترتب عليه ، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة وحركة العضلات نحو ما تترتب عليه حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وتقدم المعلول على علته ، بل العلة والمحرك هو وجوده ا العلمي ، مثلا علم النجار بترتب النوم على السرير موجب لحركة عضلاته نحو صنع السرير ، وكذا علم المستقبل

ص: 272

بمجيئ زيد في الغد يوجب ارادته للاستقبال ، ولا اثر لوجودهما العيني في ذلك ، فان من لم يعلم بقدوم زيد في الغد لا يتحقق منه إرادة الاستقبال وان فرض قدومه في الغد ، كما أن علمه بقدومه يوجب إرادة الاستقبال وان فرض عدم قدومه ، فالمؤثر هو الوجود العلمي ، وكذا الحال في علل التشريع ، فان علل التشريع هي العلل الفائتة ولا فرق بينهما ، الا انهم اصطلحوا في التعبير عنها في الشرعيات بعلل التشريع وحكم التشريع ، وفي التكوينيات بالعلل الفائتة ، وعلى كل حال علم الآمر بترتب الحكمة موجب للامر وان كانت هي بوجودها العيني متأخرة عن الامر ، فما كان من العلل الفائتة والعلل التشريعية لا يندرج في الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام ، وذلك واضح.

( الامر الثالث )

ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعية ، كالتقدم ، والتأخر ، والسبق ، واللحوق ، والتعقب ، وغير ذلك من الإضافات والأمور الانتزاعية ، فلو كان عنوان التقدم والتعقب شرطا لوضع أو تكليف لايكون ذلك من الشرط المتأخر ، ولا يلزم الخلف وتأثير المعدوم في الموجود وتقدم المعلول على علته ، وذلك لان عنوان التقدم ينتزع من ذات المتقدم عند تأخر شيء عنه ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم عن شيء على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل في بعض المقامات مما لا يمكن ذلك ، كتقدم بعض اجزاء الزمان على بعض ، فان عنوان التقدم ينتزع لليوم الحاضر لتحقق الغد في موطنه ، فيقال : هذا اليوم متقدم على غد ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم لليوم الحاضر على مجيء الغد ، بل لا يصح لتصرم اليوم الحاضر عند مجيء الغد ، ولا معنى لاتصافه بالتقدم حال تصرمه وانعدامه. هذا حال الزمان ، وقس على ذلك حال الزمانيات الطولية في الزمان ، حيث يكون أحد الزمانيين مقدما على الاخر في موطن وجوده لمكان وجود المتأخر في موطنه ، فيقال زيد مقدم على عمرو ولو لم يكن عمرو موجودا في الحال ، بل يكفي وجوده فيما بعد في انتزاع عنوان التقدم لزيد في موطن وجوده.

ص: 273

( الامر الرابع )

لا اشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع مط بجميع أقسامها وشؤونها : من البسيطة ، والمركبة ، والتامة ، والناقصة ، والشرط ، والمقتضى ، وعدم المانع ، والمعد ، وكل ما يكون له دخل في التأثير ، سواء كان له دخل في تأثير المقتضى كالشرط وعدم المانع ، أو كان له دخل في وجود المعلول بحيث يترشح منه وجود المعلول كالمقتضى ، فان امتناع تأخر بعض اجزاء العلة عن المعلول من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى مؤنة برهان ، لان اجزاء العلة بجميع أقسامها تكون مما لها دخل في وجود المعلول على اختلاف مراتب الدخل حسب اختلاف مراتب اجزاء العلة من الجزء الأخير منها إلى أول مقدمة اعدادية ، ويشترك الكل في اعطاء الوجود للمعلول ، ومعلوم : ان فاقد الشيء لايكون معطي الشيء ، وكيف يعقل الإفاضة والرشح مما لا حظ له من الوجود.

وبالجملة : امتناع الشرط المتأخر في باب العلل العقلية أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصور معنى العلية والمعلولية. وعليك بمراجعة (1) ما علقه السيد

ص: 274


1- هذا إشارة إلى ما ذكره الفقيه الجليل السيد محمد كاظم الطباطبائي في التعليقة في دفع ما افاده الشيخ قدس سره في المكاسب من عدم الفرق في استحالة تأثير المتأخر في المتقدم شرطا كان أو سببا بين الأمور العقلية والشرعية. توضيح ذلك : ان صاحب الجواهر قدس سره التزم بكاشفية الإجازة في العقد الفضولي وذكر ان استحالة تأثير المتأخر في المتقدم سببا كان أو شرطا تختص بالأمور العقلية ، واما الاعتباريات ومنها المجعولات الشرعية ليست مجرى هذه القاعدة ، وذكر ان الشارع كثيرا ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبب كغسل الجمعة يوم الخميس واعطاء الفطرة قبل وقته فضلا عن تقدم المشروط على الشرط كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة و .. ودفعه الشيخ قدس سره : بأنه لا فرق فيما فرض شرطا أو سببا بين الشرعي وغيره ، وتكثير الامثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي. وأورد عليه السيد في حاشيته على المكاسب بما هذا لفظه : « ودعوى ان ذلك من المحال العقلي ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه مدفوعة. أولا : بان الوجه في الاستحالة ليس الا كونه معدوما ولا يمكن تأثير المعدوم في الموجود وهذا يستلزم عدم جواز تقدم الشرط أيضا على المشروط ، لأنه حال وجود المشروط معدوم ، وكذا تقدم المقتضى واجزائه ، ولازم هذا التزام ان المؤثر في النقل ( التاء ) من قوله : ( قبلت ) وان الاجزاء السابقة ليست بمؤثرة أو انها معدات. وثانيا : بامكان دعوى ان المؤثر انما هو الوجود الدهري للإجازة وهو متحقق حال العقد وانما تأخره في سلسلة الزمان. وثالثا : نقول : ان الممتنع انما هو تأثير المعدوم الصرف ، لا ما يوجد ولو بعد ذلك. ورابعا : على فرض تسليم الامتناع نقول : ان ذلك مسلم فيما إذا كان المؤثر تاما لا مجرد المدخلية ، فان التأخر في مثل هذا مما لا مانع منه ، وأدل الدليل على امكانه وقوعه اما في الشرعيات ففوق حد الاحصاء ، واما في العقليات فلان من المعلوم ان وصف التعقب مثلا متحقق حين العقد مع أنه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك ، فان كانت في علم اللّه موجودة فيما بعد فهو متصف الان بهذا الوصف والا فلا ، لا يقال : انه من الأمور الاعتبارية. لأنا نقول : لو لم يكن هناك معتبر أيضا يكون هذا الوصف متحققا ، وكذا الكلام في وصف الأولوية والتقدم مثلا يوم أول الشهر متصف الان بأنه أول ، مع أنه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك ومتصف بالتقدم فعلا مع أنه مشروط بمجيئ التأخر ، وهكذا الجزء الأول من الصلاة متصف بأنه صلاة إذا وجد في علم اللّه بقية الاجزاء ، وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أول الشروع يقال : انه مشتغل بالتصوير بشرط ان يأتي ببقية الاجزاء ، وهكذا امساك أول الفجر صوم لو بقى إلى الآخر ، وكذا لو هيأ غذاء للضيف يقال : انه فيه مصلحة وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك ، والا فهو من أول الامر متصف بأنه لغو ، وكذا لو حفر بئرا ليصل إلى الماء فإنه متصف من الأول بعدم اللغوية ان وصل إليه ، والا فباللغوية ، وهكذا إلى ما شاء اللّه من اتصاف شيء بوصف فعلى مع اناطته بوجود مستقبلي. بل أقول : لا مانع من أن يدعى مدع ان النفوس الفلكية والأوضاع السماوية والأرضية كما أن كل سابق معد لوجود اللاحق كذلك كل لاحق له مدخلية في وجود السابق. بل يمكن ان يقال : ان جميع اجزاء العالم مرتبطة بمعنى انه لولا هذا لم يوجد ذاك وبالعكس ، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم ، وهكذا ، فجميع العالم موجود واحد تدريجي ولا يمكن ايجاد بعضه من دون بعض والانصاف : انه لا ساد لهذا الاحتمال ولا دليل على بطلان هذا المقال .. » ( حاشية السيد على المكاسب. كتاب البيع. في تحقيق وجوه الكشف والنقل ص 150

الطباطبائي ره على المكاسب في باب الإجازة في العقد الفضولي ، ليظهر لك ما وقع في كلامه من الخلط والاشتباه.

إذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك ان محل النزاع في الشرط المتأخر انما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف ، وبعبارة أخرى : محل الكلام انما هو في موضوعات الاحكام وضعية كانت أو تكليفية ، فقيود متعلق التكليف ، و

ص: 275

العلل الفائتة ، والأمور الانتزاعية ، والعلل العقلية ، خارجة عن حريم النزاع.

وبعد ذلك نقول : ان امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الاحكام يتوقف على بيان المراد من الموضوع ، وهو يتوقف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، وقد تقدم منا شطر من الكلام في ذلك في باب الواجب المشروط والمطلق ، ولا بأس بالإشارة الاجمالية إليه ثانيا.

فنقول : القضايا الخارجية عبارة عن قضايا جزئية شخصية خارجية ، كقوله : يا زيد أكرم عمروا ، ويا عمرو حج ، ويا بكر صل ، وغير ذلك من القضايا المتوجهة إلى آحاد الناس من دون ان يجمعها جامع ، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فان الأشخاص والآحاد لم تلاحظ فيها ، وانما الملحوظ فيها عنوان كلي رتب المحمول عليه ، كما إذا قيل : أهن الجاهل ، وأكرم العالم ، فان الملحوظ هو عنوان الجاهل والعالم ويكون هو الموضوع لوجوب الاكرام من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد وعمرو وبكر ، بل إن كان زيد من افراد العالم أو الجاهل فالعنوان ينطبق عليه قهرا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، حيث يكون الموضوع فيها هو العنوان الكلي الجامع ويكون ذلك العنوان بمنزلة الكبرى الكلية ، ومن هنا يحتاج في اثبات المحمول لموضوع خاص إلى تأليف قياس ، ويجعل الموضوع الخاص صغرى القياس والعنوان الكلي كبرى القياس ، فيقال : زيد عالم وكل عالم يجب اكرامه فزيد يجب اكرامه ، وهذا بخلاف القضايا الخارجية ، فان المحمول فيها ثابت لموضوعه ابتداء من دون توسط قياس كما هو واضح ، وقد استقصينا الكلام في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والأمور التي تترتب عليه ، والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى الفرق ، حيث إن المقام أيضا من تلك الأمور المترتبة على الفرق بين القضيتين. ومجمل الفرق بينهما : هو ان الموضوع في القضية الحقيقية حملية كانت أو شرطية ، خبرية كانت أو انشائية ، هو العنوان الكلي الجامع بين ما ينطبق عليه من الافراد ، وفي القضية الخارجية يكون هو الشخص الخارجي الجزئي ، ويتفرع على هذا الفرق أمور تقدمت الإشارة إليها - منها : ان العلم انما يكون له دخل في القضية

ص: 276

الخارجية دون القضية الحقيقية.

وتوضيح ذلك : هو ان حركة إرادة الفاعل نحو الفعل ، أو الآمر نحو الامر انما يكون لمكان علم الفاعل والآمر بما يترتب على فعله وأمره ، وما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، وليس لوجود تلك القيود دخل في الإرادة ، بل الذي يكون له دخل فيها هو العلم بتحققها ، مثلا لو كان لعلم زيد دخل في اكرامه ، فمتى كان الشخص عالما بان زيدا عالم يقدم على اكرامه مباشرة أو يأمر باكرامه ، سواء كان زيد في الواقع عالما أو لم يكن ، وان لم يكن الشخص عالما بعلم زيد لا يباشر اكرامه ولا يأمر به وان كان في الواقع عالما ، فدخل العلم في وجوب اكرام زيد يلحق بالعلل الفائتة التي قد عرفت انها انما تؤثر بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، وهكذا الحال في سائر الأمور الخارجية ، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار لا نفس وجود الأسد واقعا ، وكذا العلم بوجود الماء في الطريق يوجب الطلب لا نفس الماء ، وهكذا جميع القضايا الشخصية حملية كانت أو انشائية المدار فيها انما يكون على العلم بوجود ما يعتبر في ثبوت المحمول ، لا على نفس الثبوت الواقعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لا دخل للعلم فيها أصلا ، لمكان ان الموضوع فيها انما هو العنوان الكلي الجامع لما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، والمحمول فيها انما هو مترتب على ذلك العنوان الجامع ، ولا دخل لعلم الآمر بتحقق تلك القيود وعدم تحققها ، بل المدار على تحققها العيني الخارجي ، مثلا الموضوع في مثل - لله على الناس حج البيت الخ - انما هو المستطيع ، فان كان زيد مستطيعا يجب عليه الحج ويترتب عليه المحمول ، ولو فرض ان الآمر لم يعلم باستطاعة زيد بل علم عدم استطاعته. ولو لم يكن مستطيعا لا يجب عليه الحج ولو فرض ان الآمر علم بكونه مستطيعا. فالقضية الخارجية انما تكون في طريق النقيض للقضية الحقيقية من حيث دخل العلم وعدمه. وان أردت توضيح ذلك فعليك بمراجعة ما سطرناه في الواجب المعلق. (1)

ص: 277


1- راجع بحث الواجب المعلق من مباحث تقسيمات الواجب من هذا الكتاب ، ص 170
إذا عرفت ذلك

فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الشخصية الخارجية ، بحيث يكون ما ورد في الكتاب والسنة اخبارات عن انشاءات لا حقة ، حتى يكون لكل فرد من افراد المكلفين انشاء يخصه عند وجوده ، فان ذلك ضروري البطلان كما أوضحناه فيما سبق ، بل هي انشاءات أزلية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، كما هو ظاهر ما ورد في الكتاب والسنة.

وحيث عرفت الفرق بين القضيتين ، وان المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الخارجية ، ظهر لك المراد من موضوعات الاحكام التي هي محل النزاع في المقام ، وانها عبارة عن العناوين الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها ، ويكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العلة إلى معلولها وان لم يكن من ذاك الباب حقيقة بناء على المختار من عدم جعل السببية ، الا انه يكون نظير ذلك من حيث التوقف والترتب ، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلى تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع على جهة الجزئية أو الشرطية عن الحكم التكليفي أو الوضعي ، بان يتقدم الحكم على بعض اجزاء موضوعه.

ومما ذكرنا ظهر ان ما صنعه في الكفاية (1) والفوائد (2) من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي والى عالم اللحاظ ، مما لا ماس له فيما هو محل النزاع ، وخروج عن موضوع البحث بالكلية ، فان تأثير الوجود العلمي انما يكون في العلل الفائتة ، لا في موضوعات الاحكام. وارجاع الشرط المتأخر في باب الاحكام إلى الوجود العلمي لا يستقيم ، الا إذا جعلنا الاحكام من قبيل القضايا الخارجية ، وأن يكون ما ورد في الكتاب اخبارا عن انشاء لاحق عند تحقق افراد المكلفين ،

ص: 278


1- راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، مباحث مقدمة الواجب منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة. ص 145 إلى 148
2- راجع الفوائد ، المطبوعة في آخر حاشية على الرسائل ص 291 ، فائدة : لا يخفى ان قضية الاشتراط تقدم الشرط على المشروط ..

فيكون لكل فرد انشاء يخصه عند وجوده ، وح يكون المناط هو علم الآمر بواجدية الفرد لمناط حكمه من كونه عالما مستطيعا ، أو كون هذا العقد مما يلحقه إجازة المالك ، وغير ذلك من العناوين التي تكون في القضايا الخارجية كلها من العلل الفائتة التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، على ما تقدم بيانه ، وليس في القضايا الخارجية طائفتان : طائفة تسمى بموضوعات الاحكام ، وطائفة تسمى بالعلل الفائتة وعلل التشريع ، كما كان في القضايا الحقيقية كذلك ، أي كان لكل قضية طائفتان : موضوع الحكم ، وعلة التشريع ، بناء على ما ذهبت إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فان جميع العناوين فيها تكون من علل التشريع ، وليس لها موضوع يترتب الحكم عليه سوى شخص زيد ، وما عدا شخص زيد لا دخل له في الحكم بوجوده العيني ، وانما يكون له دخل بوجوده العلمي ، ومن هنا تسالم الفقهاء : على أنه لو اذن لزيد في اكل الطعام أو دخول الدار لمكان علمه بان زيدا صديق له جاز لزيد اكل الطعام أو دخول الدار ، وان لم يكن في الواقع صديقا له ، بل كان عدوا له ، لان الاذن قد تعلق بشخص زيد ولا اثر لعلمه بصداقته في جواز الدخول ، وانما يكون العلم له دخل في نفس اذنه.

وهذا بخلاف ما إذا اذن لعنوان صديقه وقال : من كان صديقي فليدخل ، أو قيد الحكم بالصداقة وقال : يا زيد ادخل الدار ان كنت صديقي ، فإنه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدار إذا لم يكن صديقا وان علم الآذن بأنه صديق ، فإنه ليس المدار على علم الآذن ، بل المدار على واقع الصداقة ، من غير فرق بين اخذ الصداقة عنوانا أو قيدا من الجهة التي نحن فيها.

نعم : بينهما فرق من جهة أخرى : وهو انه لو اخذ الشيء على جهة العنوانية أوجب تعدى الحكم عن مورده إلى كل ما يكون العنوان منطبقا عليه ، فلو قال مخاطبا لزيد : يا صديقي ادخل الدار جاز لعمرو أيضا دخول الدار إذا كان صديقا ، الا إذا علم مدخلية خصوصية زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا كان قيدا ، فإنه لا يجوز لغير زيد دخول الدار وان كان مشاركا له في القيد ، و

ص: 279

تفترق العنوانية والقيدية أيضا في باب العقود ، حيث إن العقد على عنوان يوجب بطلان العقد عند تخلفه ، بخلاف العقد على مقيد ، فإنه عند تخلف القيد يوجب الخيار.

وعلى كل حال : قد أطلنا الكلام في ذلك ، لتوضيح ان العلم لا دخل له في القضايا التي تكون موضوعاتها العناوين الكلية. وانما العلم يكون له دخل في القضايا الشخصية. وارجاع الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام إلى الوجود العلمي وان المؤثر هو العلم ، لا يستقيم الا بجعل الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، ولكن هو ( قده ) لم يلتزم بذلك ، ولا يمكن الالتزام به ، لما تقدم من أن الضرورة قاضية بان الأحكام الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا معنى لارجاع الشرط المتأخر إلى عالم اللحاظ والوجود العلمي.

إذا عرفت ذلك ظهر لك : ان امتناع الشرط المتأخر من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى برهان ، بل يكفي في امتناعه نفس تصوره ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بجعل السببية ، أو لا نقول بذلك وقلنا : ان المجعول هو نفس الحكم الشرعي مترتبا على موضوعه ، فإنه بناء على جعل السببية يكون حال الشرعيات حال العقليات ، التي قد تقدم امتناع تأخر العلة فيها أو جزئها أو شرطها أو غير ذلك مما له أدنى دخل في تحقق المعلول ، عن معلولها.

واما توهم ان الممتنع هو تأخر المقتضى الذي يستند وجود المعلول إليه - دون تأخر الشرط حيث لا محذور في تأخره - ففساده غنى عن البيان ، وان كان ربما يظهر من بعض الكلمات القول به ، فإنه بعد فرض كون الشيء شرطا اما لتأثير المقتضى ، واما لقابلية المحل - على الوجهين في الشروط العقلية - كيف يعقل حصول اثر المقتضى مع عدم وجود شرطه؟ وهل هذا الا لزوم تقدم المعلول على علته؟ واما بناء على عدم جعل السببية كما هو المختار ، فلان الموضوع وان لم يكن علة للحكم ، الا انه ملحق بالعلة من حيث ترتب الحكم عليه ، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد فرض اخذه موضوعا ، للزوم الخلف ، وان ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا.

واما توهم ان امتناع الشرط المتأخر انما يكون في التكوينيات - دون

ص: 280

الاعتباريات والشرعيات التي أمرها بيد المعتبر والشارع ، حيث إن له ان يعتبر كون الشيء المتأخر شرطا لأمر متقدم - ففساده أيضا غنى عن البيان ، لأنه ليس المراد من الاعتبار مجرد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع ، غايته ان واقعها عين اعتبارها ، وبعد اعتبار شيء شرطا لشيء واخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كل شرط ، كيف يمكن تقدم الحكم على شرطه؟ وهل هذا الا خلاف ما اعتبره؟.

وبالجملة : بعد فرض اعتبار شيء موضوعا للحكم لا يمكن ان يتخلف ويتقدم ذلك الحكم على موضوعه ، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر. وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه : هو ان الشرط عنوان التعقب والوصف الانتزاعي ، وقد تقدم عدم توقف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه ، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب ، وان السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقب بالإجازة ، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا الوجه وان لم يلزم منه محذور عقلي ، ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة في الشرط المتأخر ، الا ان ارجاع الشرط إلى الامر الانتزاعي ووصف التعقب يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وأن يكون مما يساعد عليه العقل والاعتبار ، وليس لنا ارجاع كل شرط إلى عنوان التعقب.

نعم : يستقيم ذلك في باب المركبات الارتباطية التي اعتبرت الوحدة فيها ، كالصوم على ما تقدم بيانه في الواجب المعلق ، حيث قلنا : ان في باب الصوم ، لما كان ظرف التكليف وشرطه وامتثاله متحدا ، لمكان ان الصوم ليس الا عبارة عن الامساكات المتتابعة في آنات النهار المتصلة ، والتكليف بالامساك في كل آن مشروط بالقدرة عليه في ذلك الآن ، واما القدرة على الامساكات الاخر المتأخرة فليست شرطا للتكليف بالامساك في الآن السابق حتى يلزم اشتراط التكليف بأمر متأخر ، بل الشرط هو تعقب القدرة في الآن السابق بالقدرة في الآن اللاحق ، فالتكليف في كل آن يكون مشروطا بالقدرة على ذلك الآن نفسه ، ومشروطا أيضا

ص: 281

بتعقبها بالقدرة على الآن اللاحق لمكان اعتبار الصوم أمرا واحدا وكون امساكاته مرتبطا بعضها مع بعض ، فنفس اعتبار الوحدة والارتباطية يقتضى ان يكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر. وان أردت تفصيل ذلك فعليك بمراجعة ما ذكرناه في الواجب المعلق.

وبالجملة : اعتبار عنوان التعقب في الارتباطيات التي لها جهة وحدة مما يساعد عليه الاعتبار ، حيث إن أصل التكليف بالجزء السابق وحصول امتثاله بما انه جزء للمركب انما يكون بتعقب ذلك الجزء للاجزاء الاخر ، فاعتبار الوحدة في المكلف به يقتضى ذلك.

وليس الشأن في باب الإجازة كذلك ، لأن الاعتبار والعقل لا يساعد على انتقال المال عن مالكه من زمن العقد لمجرد انه يتعقبه الرضا والإجازة ، مع أن الرضا مقوم للانتقال ، حيث إنه لا يحل مال امرء الا عن طيب نفسه. وهل يمكن لاحد ان يقول : بإباحة مال الناس لمكان تحقق الرضاء منهم بعد ذلك؟ أو هل يفرق بين الإباحة وبين خروج المال عن ملكه؟ فدعوى ان الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب مما لا يساعد عليه لا العقل ، ولا الدليل ، ولا الاعتبار ، فلا محيص ح عن القول بالنقل وانه من حين الإجازة ينتقل المال إلى المشترى. الا ان يقوم دليل على ترتيب بعض الآثار من حين الإجازة من زمن العقد ، بان يقوم دليل على أنه حين ما أجاز المالك يكون النماء للمشتري من حين العقد ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى النقل ، لأنه من حين الإجازة ينتقل النماء السابق إلى المشترى ، كما ربما يدعى دلالة رواية عروة البارقي على ذلك ، وهذا هو المراد من الكشف الحكمي الذي اختاره الشيخ ( قده ) (1).

وربما حكى عن بعض المشايخ عدم الحاجة إلى قيام دليل في الكشف الحكمي ، بل نفس دليل نفوذ الإجازة واعتبارها يقتضى ترتيب الآثار من حين العقد عند إجازة المالك ، وذلك لان مفاد العقد هو النقل من حينه ، والإجازة انما 3

ص: 282


1- راجع المكاسب ، قسم البيع ، تحقيق وجوه الكشف من مباحث بيع الفضولي ص 133

تتعلق بما أنشأه العاقد ، فيكون مفاد الإجازة هو انفاذ ما أنشأه العاقد ، وقام الدليل على صحة انفاذ المالك ما أنشأه العاقد ، والمفروض ان العاقد انما أنشأ الملكية من حين العقد ، غايته ان أصل الملكية لا يمكن ان تكون حين العقد ، لاستلزامه المحذور المتقدم في الشرط المتأخر ، واما ترتيب الآثار من زمن العقد عند الإجازة فلا محذور فيه ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر غير دليل صحة الإجازة هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان العاقد لم ينشأ الملكية من حين العقد ، بل انشائه كان في ذلك الحين ، واما منشأه فهو أصل الملكية معراة عن الزمان ، وليس للعاقد تقييد الملكية من زمان خاص ، فان امر ذلك ليس بيده ، فهل ترى ان يكون للعاقد انشاء الملكية من قبل السنة؟.

وبالجملة : المنشأ هو أصل الملكية معراة عن الزمان ، والإجازة انما تتعلق بأصل الملكية المنشأة ، ودليل نفوذها لا يقتضى أزيد من تحقق الملكية ، ومقتضى ذلك هو النقل من حيث الملكية ومن حيث الآثار ، فالكشف الحكمي لا بد من قيام الدليل عليه ، والا فالقاعدة لا تقتضي أزيد من النقل.

وما استدل به على بطلان النقل وان القاعدة تقتضي الكشف الحقيقي : من أن العقد عدم حين الإجازة ، فلو قيل بالنقل يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وهذا هو الذي حكاه الفخر عن بعض ، وليس من كلام نفس الفخر - على ما حكاه شيخنا الأستاذ من عبارته - حيث نقل ( مد ظله ) ان الفخر بعد ما نقل الاستدلال بذلك رده والتزم بالنقل بعد التنزل والقول بصحة عقد الفضولي ، والا فهو منكر لأصل صحة الفضولي.

وعلى كل حال : ان الاستدلال للكشف بذلك واضح الفساد ، فان العقد بناء على كون الإجازة شرطا يكون حاله حال العقد في الصرف والسلم ، حيث تتوقف الملكية على القبض فيهما ، وليس المقام من باب التأثير والتأثر حتى يقال : يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، لان التأثير والتأثر انما يكون بناء على جعل السببية الذي قد أبطلناه.

واما بناء على أن المجعول هو الحكم على فرض وجود موضوعه فلا يلزم تأثير

ص: 283

المعدوم في الموجود ، بل غايته ان الشارع رتب الملكية على الايجاب والقبول والإجازة ، فيكون كل من الايجاب والقبول والإجازة جزء الموضوع ، ولا يلزم ان تكون اجزاء الموضوع مجتمعة في الزمان ، بل يكفي وجودها ولو متفرقة ، ويكون نسبة الجزء السابق إلى اللاحق نسبة المعد في اجزاء العلة التكوينية المتصرمة في الوجود ، حيث إن الجزء السابق انما يكون معدا واثره ليس الا الاعداد وهو حاصل عند وجوده ، فلا يلزم تأخر الأثر عن المؤثر ، بل اثر كل جزء انما يتحقق في زمان ذلك الجزء ، غايته ان الأثر يختلف ، فاثر الاجزاء السابقة على الجزء الأخير من العلة التامة انما هو الاعداد ، واثر الجزء الأخير هو وجود المعلول ، فليس في سلسلة اجزاء العلة المتدرجة في الوجود ما يلزم منه تأخر الأثر عن المؤثر وتأثير المعدوم في الموجود.

وبما ذكرنا ظهر فساد مقايسة الشرط المتأخر بالشرط المتقدم ، وتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى الشرط المتقدم ، وذلك لما عرفت من أن الشرط المتقدم كالجزء المتقدم مما لا اشكال فيه حيث إنه ليس اثر المتقدم الا الاعداد ، وهو حاصل مقارنا لوجود المتقدم ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في مقدمة الواجب. وبعد ذلك نقول : لا ينبغي الاشكال في وجوب المقدمة بالمعنى المتقدم ، لوضوح انه لا يكاد يتخلف إرادة المقدمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدمة وانه لا يمكن التوصل إلى المطلوب الا بها ، وان أردت توضيح ذلك ، فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فهل ترى انك لو أردت شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات يمكنك ان لا تريد تلك المقدمات؟ لا بل لابد من أن تتولد إرادة المقدمات من إرادة ذلك الشيء قهرا عليك ، بحيث لا يمكنك ان لا تريد بعد الالتفات إلى المقدمات ، والا يلزم ان لا تريد ذا المقدمة ، وهذا واضح وجدانا ، إرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل.

ودعوى انه لا موجب لإرادة المقدمات - بعد حكم العقل بأنه لابد من اتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها - فاسدة ، فإنه ليس كلامنا في الحاجة وعدم الحاجة ، بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الآمر قهرا ، بحيث لا يمكن ان لا يريدها ، فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدم

ص: 284

الحاجة ، حتى يقال : لا حاجة إلى ارادتها بعد حكم العقل.

نعم : لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها ، وكان الأقوى ح عدم وجوبها ، الا انه ليس الكلام في هذا النحو من الوجوب ، بل الكلام في الوجوب القهري التبعي الترشحي ، وهذا النحو من الوجوب مما لابد منه وان لم يكن له اثر على ما يأتي بيانه في ثمرة المسألة - الا ان عدم الثمرة لا يضر بهذا المعنى من الوجوب القهري ، وانما يضر بالوجوب الأصلي النفسي ، ونحن لا نقول به.

وبالجملة : بعد شهادة الوجدان بتعلق الإرادة بالمقدمة عند إرادة ذيها ، لا حاجة إلى إطالة الكلام في الاستدلال على ذلك بما لا يخلو عن مناقشة ، فلاحظ ما استدل به في المقام للطرفين ، والأولى إحالة الامر إلى الوجدان.

وينبغي التنبيه على أمور :
( الامر الأول )

لا اشكال في أن وجوب المقدمة يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، ولا يعقل ان يكون وجوبها مغايرا لوجوب ذيها ، لأن المفروض ان وجوبها انما تولد من ذلك ، فلا يمكن ان يتلون بلون مغاير ، وما يشاهد في بعض المقامات من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها فإنما هو لبرهان التفويت ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

( الامر الثاني )

اختلفوا في أن معروض الوجوب في باب المقدمة ما هو؟.

فقيل : ان معروضه هو ذات المقدمة مط.

وقيل : ان معروضه هو الذات الموصلة إلى ذيها.

وقيل : هو الذات عند إرادة ذيها ،

وقيل : هو الذات بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها ،

ولعل منشأ اعتبار القيود الزائدة على الذات هو استبعاد كون الواجب هو نفس الذات من غير اعتبار شيء ، مع أنه قد تكون الذات محرمة ويتوقف واجب أهم عليها ، كما لو فرض توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير ، فان القول بكون

ص: 285

التصرف واجبا مط ولو لم يكن من قصد المتصرف انقاذ الغريق - بل تصرف للعدوان ، أو للتنزه والتفرج - مما يأباه الذوق ولا يساعد عليه الوجدان ، وكذا يبعد ان يكون خروج من وجب عليه الحج من داره إلى السوق لقضاء حاجة واجبا ، بحيث يكون كلما خرج من داره قد اشتغل بفعل الواجب ، ويكون عوده إلى داره هدما لذلك الواجب ، فان هذا بعيد غايته.

ولمكان هذا الاستبعاد قيد صاحب المعالم (رحمه اللّه) (1) وجوب المقدمة بقيد إرادة ذيها ، فلا تتصف المقدمة بالوجوب الا عند إرادة ذيها. وقيد الشيخ ( قده ) (2) على ما في التقرير وجوبها بصورة قصد التوصل إلى ذي المقدمة. وقيد (3) صاحب الفصول بصورة التوصل بها إلى ذيها ، فيكون الواجب هو المقدمة الموصلة. كل ذلك يكون دفعا للاستبعاد المذكور هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، انه لا يمكن المساعدة على شيء من هذه القيود.

اما ما اختاره صاحب المعالم (رحمه اللّه) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة ، ففيه : ان اشتراط الوجوب بالإرادة ، اما ان يكون مقصورا على .

ص: 286


1- هذا ما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم في آخر بحث الضد. المعالم بحث الضد ص 77 قال : « وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها انما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر ». وقد صرح الشيخ قدس سره في التقريرات دفعا لهذا التوهم « ونحن بعد ما أعطينا الحجج الناهضة على وجوب المقدمة حق النظر واستقصينا التأمل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ... » ( مطارح الأنظار ، ص 70 )
2- مطارح الأنظار ص 70 قوله : « وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب ان يكون الاتيان بالواجب الغيري لأجل التوصل به إلى الغير أولا ، وجهان أقواهما الأول ... »
3- الفصول ، ص ، 87 التنبيه الأول. « ان مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها مقدمة الا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة ، لا بمعنى ان وجوبها مشروط بوجود فيلزم الا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه فان ذلك متضح الفساد ، كيف؟ واطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لاطلاق وجوبه وعدمه ، بل بمعنى ان وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب حتى أنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب والمطلوبية ، لعدم وجوبها على الوجه المعتبر ، فالتوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه ، وان لم اقف على من يتفطن له ».

وجوب المقدمة وليس هذا شرطا في وجوب ذيها ، واما ان يكون وجوب ذيها أيضا مشروطا بإرادته. فعلى الأول : يلزم ان يكون وجوب المقدمة مشروطا بشرط لايكون وجوب ذيها مشروطا به ، وهذا ينافي ما قدمناه في الامر الأول ، من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، قضية للتبعية والترشحية.

وعلى الثاني : يلزم إناطة التكليف بشيء بإرادة ذلك الشيء وهو محال ، لأنه يلزم ان يكون التكليف به واقعا في رتبة حٍصوله ، لحصول الشيء عند تعلق الإرادة به ، فلو تأخر التكليف عن الإرادة - كما هو لازم الاشتراط - يلزم ما ذكرنا : من وقوع التكليف في مرتبه حًصول المكلف به.

هذا مضافا : إلى أنه لا معنى لاشتراط التكليف بالإرادة ، لان التكليف انما هو بعث للإرادة وتحريكها ، فلا يمكن إناطة التكليف بها ، لاستلزام ذلك إباحة الشيء ، كما لا يخفى.

واما ما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة لا وجوبها ، فيكون قصد التوصل من قيود الواجب ، فهو يتلو كلام المعالم في الضعف.

والانصاف : ان المحكى عن الشيخ في المقام مضطرب غاية الاضطراب ، ولم يتحصل لنا مراد الشيخ (رحمه اللّه) كما هو حقه ، فان جملة من كلامه ظاهرة في أن قصد التوصل انما يكون شرطا في وقوع المقدمة على صفة العبادية ، بحيث لا تقع المقدمة عبادة الا إذا قصد بها التوصل إلى ذيها. وجملة أخرى من كلامه ظاهرة في أن الواجب هو عنوان المقدمة لا ذات ما يتوقف عليه الشيء بل بوصف كونه مما يتوقف عليه الشيء. وجملة من كلامه ظاهرة فيما ذكرناه : من أن قصد التوصل من قيود الواجب ، وانه يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب قصد التوصل إلى ذيها.

ثم إن الا عجب من ذلك ، ما فرعه على اعتبار قصد التوصل ، من بطلان الصلاة إلى بعض الجهات إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى الجهات الأربع فيمن كان تكليفه ذلك ، وانه لو صلى إلى بعض الجهات قاصدا للاقتصار عليه فبدا له الصلاة إلى سائر الجهات الاخر فلا يجزيه ، الا إذا أعاد ما صلاه أولا. فان تفريع ذلك

ص: 287

على اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة مما لم يظهر لنا وجهه ، حيث إن الكلام في المقام انما هو في مقدمة الواجب ، والتفريع انما يكون في مقدمة العلم ، ولا ملازمة بين البابين ، لأنه هب انه لم نعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، مع ذلك يقع الكلام في المقدمة العلمية ، وانه هل يعتبر في صحة المقدمة العلمية إذا كانت عبادة ان يكون قاصدا لامتثال الواجب المعلوم في البين على كل تقدير؟ أو انه لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي قصد امتثال الواجب على تقدير دون تقدير. وتظهر الثمرة ، فيما إذا تبين مطابقة ما اتى به للواقع ، فإنه بناء على الأول لا يكفي عن الواقع إذا لم يكن من قصده الامتثال على كل تقدير ، بل يجب عليه الإعادة. وبناء على الثاني يكفي ولا يجب عليه الإعادة. وأين هذا مما نحن فيه من اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة؟.

وبالجملة : المحكى عن الشيخ ( قده ) في المقام مضطرب من حيث المبنى ، ومن حيث ما فرع عليه ، وظني ان المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ.

وعلى كل حال : لا ينبغي الاشكال ، في أنه لا يعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، فان اعتبار القصد اما ان يكون في العناوين القصدية التي يتوقف تحقق عنوان المأمور به على القصد نظير التعظيم والتأديب وغير ذلك من العناوين القصدية ، واما عن جهة قيام الدليل على ذلك. وليس المقام من العناوين القصدية ، ولا مما قام الدليل عليه ، فمن أين يجئ اعتبار القصد في وقوع المقدمة على صفة الوجوب؟.

وتوهم ان الواجب هو عنوان المقدمة ، فلا بد من القصد إلى ذلك العنوان ، وقصده انما يكون بقصد التوصل إلى ذيها - والى ذلك ينظر بعض ما حكى عن الشيخ (رحمه اللّه) في المقام - واضح الفساد ، فان عنوان المقدمة ليس موضوعا للحكم بل الموضوع للحكم هو الذات ، ومقدميتها انما تكون علة لثبوت الحكم على الذات ، فهي تكون من قبيل علل التشريع. وبعبارة أوضح : جهة المقدمية انما تكون من الجهات التعليلية لا التقييدية ، وليست المقدمية واسطة في العروض بل هي واسطة في الثبوت.

ص: 288

وبالجملة : دعوى ان الواجب هو الذات المقيدة بقصد التوصل أو عنوان المقدمة مما لا يمكن المساعدة عليها ، وهي من الشيخ غريبة. هذا إذا أريد اعتبار قصد التوصل في مطلق المقدمات.

وأما إذا أريد اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة بالذات الذي صارت مقدمة لواجب أهم - كما ذكر شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ان ببالي حكاية ذلك عن الشيخ ( قده ) وانه خص اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة - فمما يمكن ان يوجه بدعوى ان وجوب المقدمة حينئذ لمكان حكم العقل حيث زاحم حرمتها واجب أهم ، والمقدار الذي يحكم به العقل هو ما إذا اتى بها بقصد التوصل إلى الواجب الأهم ، لا بقصد التنزه والتفرج والتصرف في ملك الغير عدوانا ، فان مثل ذلك يأبى العقل عن وجوبه. ولا يقاس ذلك بالمقدمة المباحة ، فان المقدمة المباحة لمكان وجوبها لمجرد توقف واجب عليها وكان ما يتوقف عليه هو الذات ، وحيث لم تكن الذات مقتضية لشيء بل كانت لا اقتضاء ، فتكون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصل ، لان اللامقتضى لا يزاحم المقتضى. واما المقدمة المحرمة فوجوبها انما هو لأجل المزاحمة ، والا فالذات بنفسها مقتضية للحرمة ، والمقدار الذي نرفع اليد عما يقتضيه الذات من الحرمة هو صورة قصد التوصل بها إلى الواجب الأهم لا مط. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة الشيخ ( قده ) على تقدير اختصاص اعتبار قصد التوصل بخصوص المقدمة المحرمة.

ولكن مع ذلك لا يتم ، لان وجوب المقدمة وان كان لأجل المزاحمة الا ان المزاحمة انما تكون بين الانقاذ الذي يتوقف على التصرف في ملك الغير وبين التصرف في ملك الغير ، ولا ربط لها بالقصد وعدم القصد.

وبعبارة أخرى : التصرف المؤدى إلى الانقاذ واقعا هو الذي يكون مزاحما لحرمة التصرف في ملك الغير ، لا التصرف الذي قصد به الانقاذ ، إذ لا يلزم التصرف الذي قصد به الانقاذ ان يترتب عليه الانقاذ ، ويرجع ح إلى تقييد حرمة التصرف بخصوص الصورة التي لا يترتب عليها الانقاذ ، وهو راجع إلى مسألة الترتب ، على ما سيأتي بيانه عن قريب انشاء اللّه تعالى.

ص: 289

واما ما افاده صاحب الفصول من اعتبار نفس التوصل فهو أوضح فسادا ، فان اعتبار التوصل ان اخذ قيدا للوجوب ، فيلزم ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجوب المقدمة ، لان قيدية التوصل انما تحصل بحصول ذي المقدمة ، وهو كما ترى يكون أردء من طلب الحاصل ، إذ يلزم ان يتأخر الطلب عن وجود المقدمة وعن وجود ذيها المتأخر عن وجودها ، ولكن الظاهر أن لايكون هذا مراد صاحب الفصول ، لأنه يصرح بان التوصل يكون قيدا للواجب لا للوجوب ، فلا يرد عليه ما ذكرنا.

نعم يرد عليه : انه يلزم حينئذ ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة ، وان لم يكن من شرائط وجوبها ، الا انه لا فرق في الاستحالة ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة لاستلزامه الدور ، فإنه يلزم ان يكون وجود كل من المقدمة وذي المقدمة متوقفا على الاخر.

هذا مضافا إلى أنه يلزمه القول بمقدمية الذات أيضا ، فان المقدمة ح تكون مركبة من أمرين : أحدهما الذات ، والاخر قيدية التوصل ، ولو على وجه دخول التقييد وخروج القيد ، فتكون الذات مقدمة لحصول المقدمة المركبة ، كما هو الشأن في جميع اجزاء المركب ، حيث يكون وجود كل جزء مقدمة لوجود المركب. مثلا لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدمة أو السير الموصل إلى الحج مقدمة ، فذات الوضوء والسير يكون مقدمة للوضوء الموصل والسير الموصل ، وان اعتبر قيد الايصال فيه أيضا يلزم التسلسل. ولا محيص بالآخرة من أن ينتهى إلى ما يكون الذات مقدمة.

فإذا كان الامر كذلك ، فلتكن الذات من أول الامر مقدمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصل.

وبالجملة : ان وصف التوصل للمقدمة لما لم يكن منوعا لها حال وجودها ، نظير الفصول بالنسبة إلى الأجناس ، بل يكون متأخر عن وجودها ، ويكون رتبة حصول الوصف رتبة وجود ذي المقدمة ، فلو اعتبر قيد التوصل يلزم ما ذكرنا من المحاذير المتقدمة.

ص: 290

ومن الغريب (1) ما استدل به على مدعاه بما حاصله : ان العقل لا يأبى ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى الحج ، دون ما لا يتوصل به إليه ، والضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك. وذلك لان الكلام في إرادة المقدمة التي تترشح من إرادة ذيها ، ومعلوم : ان مناط إرادة المقدمة انما هو توقف ذيها عليها ، بمعنى انها لولاها لما أمكن التوصل إلى ذي المقدمة ، واستلزام عدمها عدم ذيها ، وليس مناط وجوب المقدمة استلزام وجودها وجود ذيها ، فان الشأن في غالب المقدمات ليس كذلك ، فان الملازمة بين الوجودين انما يكون في العلة التامة بحيث لا يمكن التخلف بينها وبين معلولها ، فلو كان مناط وجوب المقدمة هو استلزام وجودها لوجود ذيها يلزم القول بوجوب خصوص العلة التامة ، وصاحب الفصول لا يقول بذلك. فيظهر من ذلك : انه ليس ملاك إرادة المقدمة الا استلزام عدمها عدم ذيها ، وهذا الملاك مطرد في جميع المقدمات موصلها وغير موصلها.

فتحصل : ان الامر المقدمي لا يدعو الا إلى ما يلزم من عدمه عدم الواجب ، فكل ما يعتبر زائدا على ذلك يكون خارجا عما يقتضيه الامر المقدمي.

وبذلك يظهر ما في استدلاله بجواز تصريح الآمر الحكيم بإرادة خصوص السير الموصل إلى الواجب ، فان التصريح بذلك انما يجوز إذا كان السير واجبا نفسيا مشروطا بشرط متأخر ، لما عرفت من أن اعتبار التوصل مما لا يقتضيه الامر المقدمي ، فاعتباره يكون أمرا زايدا ، ولا محالة يكون واجبا نفسيا ، فمجرد جواز تصريح الآمر بذلك لا يوجب ان يكون التوصل من مقتضيات الامر المقدمي ، بل يكون من الواجبات النفسية الخارجة عن محل الكلام ، فالذي يهم صاحب الفصول ، هو اثبات »

ص: 291


1- الفصول ص 87 قوله : « وأيضا لا يأبى العقل ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الحج له دون ما لا يتوصل به إليه وان كان من شأنه ان يتوصل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك كما انها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدمته على تقدير عدم التوصل بها إليه. »

ان التوصل ما يقتضيه الامر المقدمي ، وانى له باثبات ذلك بعد ما عرفت من أن ملاك إرادة المقدمة هو الاستلزام بين العدمين ، لا الملازمة بين الوجودين.

ثم انه استدل صاحب الفصول (1) أيضا على عدم المانع من اعتبار خصوص المقدمة الموصلة بجواز منع المولى من غيرها وقصر الرخصة عليها ، كما إذا قال : أنت مرخص في التصرف في ملك الغير المؤدى إلى انقاذ الغريق وممنوع عما عداه.

ورد بمنع ذلك ، وانه ليس للمولى قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة لاستلزامه التكليف بما لا يطاق وطلب الحاصل ، لان رتبة موصلية المقدمة رتبة حصول ذيها ، فلا يمكن ان يريدها بهذا القيد ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لو أغمضنا عما يرد على المقدمة الموصلة من المحاذير المتقدمة لم يتوجه على استدلاله ما ذكر من الرد ، لان قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة مما لا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، لأنه يكون من قبيل اشتراط الشيء بأمر متأخر ، فالتوصل وان تأخر وجوده عن وجود المقدمة ، وكان يحصل بالانقاذ مثلا ، الا انه اخذ شرطا في جواز المقدمة ، وهذا مما لا محذور فيه بعد ما كان الانقاذ فعلا اختياريا للمكلف ، فيكون شرطية التوصل كشرطية الغسل للصوم ، فلا يجوز له الدخول الا إذا كان من عزمه انقاذ الغريق.

ولا يرد على ذلك شيء أصلا لو قطعنا النظر عما تقدم من محاذير المقدمة الموصلة ، ولكن لا يمكن قطع النظر عن تلك المحاذير ، فإنها لازمة على القول باعتبار قيد التوصل لا محالة.

ثم انه ربما يوجه مقالة اعتبار المقدمة الموصلة بما حاصله : انه ليس المراد »

ص: 292


1- نفس المصدر قوله : « وأيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذ انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله. »

تقييد الواجب بخصوص الموصلة ، بان يكون التوصل قيدا للواجب ، بل يكون على وجه خروج القيد والتقييد معا ، ولكن مع ذلك لا تكون الذات مط واجبة بل الذات من حيث الايصال ، والمراد بالذات من حيث الايصال هو الذات في حال الايصال ، على وجه يلاحظ الآمر المقدمة وذا المقدمة توأمين ، من دون ان يكون أحدهما قيدا للآخر ، بل يلاحظ المقدمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلة ، فإنه لو كانت سلسلة العلة مركبة من اجزاء فكل جزء انما يكون جزء العلة إذا كان واقعا في سلسلة العلة لا واقعا منفردا ، فان لحاظ حالة انفراده ينافي لحاظه جزء للعلة ، بل انما يكون جزء العلة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة ، أي حالة وقوعه في سلسلة العلة من دون ان تؤخذ سائر الا جزأ قيدا له ، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدمي هي الذات ، لكن لا بلحاظ انفرادها ، ولا بلحاظ التوصل بها ، بان يؤخذ التوصل قيدا ، بل بلحاظها في حال كونها مما يتوصل بها أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأمية. وبذلك يسلم عن المحاذير المتقدمة ، فان تلك المحاذير انما كانت ترد على تقدير كون التوصل قيدا ، وبعد خروج قيدية التوصل لايكون فيه محذور. وقد تقدم (1) نظير هذا الكلام في المعاني الحرفية ، حيث كانت لصاحب الفصول في ذلك المقام عبارة خروج القيد والتقييد معا ، وقد وجهنا مراده من ذلك في ذلك المقام بما لا مزيد عليه فراجع. فيمكن ان يكون المقام أيضا من باب خروج القيد والتقييد معا.

وهذا وان لم يمكن ان ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول لتصريحه بأخذ التوصل قيدا ، الا انه يمكن ان ينطبق عليه كلام (2) أخيه المحقق صاحب الحاشية ، حيث إنه قد تكرر في كلامه نفى اعتبار قيد التوصل ، ومع ذلك يقول إن الواجب هو المقدمة من حيث الايصال ، فيمكن ان يكون مراده من قيد الحيثية ما ذكرنا من »

ص: 293


1- قد مر توجيه ذلك في المقام الثاني من المبحث الأول ص 55
2- راجع هداية المسترشدين في شرح معالم الدين ، الامر الرابع من الأمور التي ذكرها في خاتمة بحث مقدمة الواجب. « قد يتخيل ان الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى الواجب دون غيره ... »

خروج كل من القيد والتقييد على وجه لا يستلزم الاطلاق أيضا هذا. (1)

ولكن لا يخفى عليك ، انه ان كان المراد من الحيثية ، والتوأمية ، والحالية وغير ذلك مما شئت ان تعبر به ، هو نفى التقييد بالموصلة لحاظا وان أوجب التقييد بها نتيجة ، فسيأتي ان نتيجة التقييد بالموصلة أيضا لا يمكن كالتقييد اللحاظي ، وان أريد نفى نتيجة التقييد أيضا فمرجعه إلى أن معروض الوجوب هي الذات المهملة لا اطلاق فيها ولا تقييد لا لحاظا ولا نتيجة ، فهو حق لا محيص عنه ، فان امتناع التقييد عين امتناع الاطلاق ، لما سيأتي في محله من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة على ما هو الحق ، أو تقابل التضاد على ما هو المشهور قبل سلطان العلماء ، حيث جعلوا الاطلاق أمرا وجوديا مدلولا للفظ ، ولأجل ذلك قالوا ان التقييد يوجب المجازية وسيأتي ضعف ذلك في محله. وعلى كلا التقديرين يكون امتناع التقييد موجبا لامتناع الاطلاق ، وليس التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، حتى يقال : ان امتناع أحدهما يوجب ثبوت الآخر لئلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما سلكه الشيخ ( قده ) في المقام (2) وغير الشيخ ، حيث قالوا باطلاق القول بوجود المقدمة مط موصلة كانت أو غيرها ، لمكان امتناع التقييد بالموصلة ، فجعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق ، مع انك قد عرفت ان ذلك لا يعقل ، لان امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق أيضا. وقد سلك الشيخ قده (3) هذا المسلك أيضا في مسألة امتناع اعتبار قصد القربة في متعلق الامر و .

ص: 294


1- ولكن الظاهر أن مراد المحقق من الحيثية الحيثية التعليلية ، ويكون حيثية الايصال علة لعروض الوجوب على ذات المقدمة ولو لم تكن موصلة ، وظني ان المحقق يصرح بذلك منه.
2- راجع ما حققه الشيخ قدس سره في دفع مقالة صاحب الفصول من اطلاق القول بوجوب المقدمة لامتناع تقييده بالموصلة. مطارح الأنظار مباحث مقدمة الواجب ، « هداية ، زعم بعض الأجلة ... » ص 74
3- نفس المصدر. مبحث التعبدي والتوالي ص 58 وقد نقلنا ما افاده الشيخ قدس سره هناك ، من عدم جواز التمسك باطلاق الامر عند الشك في تقييده بقصد القربة ، لمكان امتناع تقييده به في هامش ص 158 فراجع.

امتناع تقييد الاحكام بالعلم بها ، حيث إنه استنتج الاطلاق من امتناع ذلك وقال : بأصالة التوصلية واشتراك الاحكام بين العالم بها والجاهل ، وقد عرفت ان امتناع الاطلاق ملازم لامتناع التقييد مط في المقام ، وفي مسألة اعتبار قصد القربة ، وفي مسألة العلم بالأحكام.

نعم : بين المقام وبين المسئلتين فرق ، وهو ان الممتنع في تينك المسئلتين انما هو الاطلاق والتقييد اللحاظي ، لا نتيجة الاطلاق والتقييد ، فإنه بمكان من الامكان ، بل هو ثابت كما في مسألة الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، حيث كان الحكم مخصوصا بالعالم به بنتيجة التقييد ، وفيما عدا ذلك كان الحكم يعم العالم والجاهل بنتيجة الاطلاق لقيام الدليل على كل ذلك. واما في المقام فلا يمكن فيه ، لا الاطلاق والتقييد اللحاظيان ، ولا نتيجة الاطلاق والتقييد ، بل معروض الوجوب يكون مهملا ثبوتا ، وذلك لان خطاب المقدمة انما يتولد من خطاب ذيها ، فهو تابع لخطاب ذي المقدمة ، ويكون له ما يكون له ، ولا يكون له ما لايكون له ، وسيأتي انشاء اللّه تعالى في مبحث الترتب ، ان كل خطاب لا يمكن ان يكون مط أو مقيدا بالنسبة إلى حالتي حصول متعلقه وعدم حصوله أي حالتي اطاعته وعصيانه ، فان ذلك لا يعقل لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، بل يكون الخطاب من هذه الجهة مهملا ثبوتا ليس له تعرض إلى ذلك ، إذ الشيء لا يمكن ان يكون متعرضا لحالة وجوده أو عدمه ، وسيأتي برهان ذلك انشاء اللّه تعالى ، فإذا كان خطاب ذي المقدمة بالنسبة إلى حالة حصوله وعدم حصوله مهملا ، فلا بد ان يكون خطاب المقدمة بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها أيضا مهملا ، قضية للتبعية والترشحية.

وليس خطاب المقدمة مع خطاب ذيها خطابين ، حتى يقال : ان الممتنع هو الاطلاق والتقييد في كل خطاب بالنسبة إلى متعلق نفسه ، واما بالنسبة إلى متعلق خطاب آخر فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، فلا مانع من اطلاق أو تقييد خطاب المقدمة بحصول متعلق خطاب ذيها ، وربما يختلج ذلك في جملة من الأذهان.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الممكن هو اطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إلى

ص: 295

متعلق خطاب آخر مغاير له ، كاطلاق خطاب الصلاة بالنسبة إلى الصوم وعدمه ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، لان خطاب المقدمة لم يكن مغايرا لخطاب ذيها ، لمكان التولد والتبعية فلابد ان يكون تابعا له فيما هو مهمل فيه ، كما كان تابعا له في الاطلاق والاشتراط ، فإذا كان خطاب المقدمة مهملا بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصوله ، فلا يمكن تقييد المقدمة بالموصلة التي هي بمعنى الحصول ، ولا اطلاقها لا لحاظا ولا نتيجة. فتصل النوبة ح إلى الخطاب الترتبي ، وتكون حرمة المقدمة فيما إذا كانت محرمة واباحتها فيما إذا كانت مباحة لولا عروض وصف توقف الواجب عليها مشروطة بعصيان خطاب ذي المقدمة وعدم انقاذ الغريق ، فيتحقق الترتب بين الخطاب الا إلى الذي كان للمقدمة ، وبين خطاب ذيها المتولد منه خطاب المقدمة ، وببركة الخطاب الترتبي يرتفع ما ذكرناه من استبعاد كون مطلق التصرف في ملك الغير واجبا ولو لم يتوصل به إلى انقاذ الغريق.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة ، وبعده لم يبق لنا من مباحث المقدمة الواجبة ما يهمنا البحث عنه ، لان أكثر المباحث التي تعرضوا لها في مقدمة الواجب قد تقدم منا الكلام فيها ، نعم ينبغي ختم المسألة بذكر أمرين :

الامر الأول :

في الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة.

فمنها : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم ، حيث إن ترك تلك العبادة يكون مقدمة لذاك الواجب ، وعلى القول بوجوب المقدمة يكون الترك واجبا ، فيكون الفعل منهيا عنه فلا يصلح لان يتقرب به فيفسد ، فلا تصح الصلاة إذا توقف إزالة النجاسة عن المسجد على تركها ، لان تركها يكون واجبا من باب كونه مقدمة لإزالة النجاسة ، فيكون فعلها منهيا عنه فلا تصح ، هذا.

وقد أشكل على هذه الثمرة بما حاصله : انه مبنى أولا : على أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ، وسيأتي فساد ذلك. وثانيا : انه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة ، بل لو لم نقل بوجوب المقدمة أو بمقدمية الترك لكانت العبادة فاسدة أيضا لمكان عدم الامر بها ، حيث إن ضدها و

ص: 296

هو الإزالة مثلا يكون مأمورا به ، ولا يمكن الامر بالضدين ، فلا تكون الصلاة مأمورا بها ، وعدم الامر بها يكفي في فسادها. وسيأتي البحث عن ذلك انشاء اللّه تعالى في مبحث الضد.

ثم إن صاحب الفصول (1) أنكر هذه الثمرة على طريقته من القول بالمقدمة الموصلة ، وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان مطلق ترك الصلاة مثلا لم يكن واجبا بالوجوب المقدمي ، حتى يكون نقيضه - وهو فعل الصلاة - منهيا عنه ، بل الواجب هو الترك الموصل للإزالة ، ومع فعل الصلاة لا تحصل الإزالة ، ومع عدم حصولها لايكون ترك الصلاة واجبا ، ومع عدم وجوب تركها لايكون فعلها منهيا عنه ، ومع عدم النهى لا تفسد ، هذا.

وقد أشكل (2) عليه الشيخ ( قده ) على ما في التقرير بما حاصله : ان فعل الصلاة وان لم يكن ح نقيض الترك الموصل ، لان نقيض الأخص أعم كما أن نقيض الأعم أخص ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وترك الترك الموصل له افراد ، منها النوم والأكل والشرب ، ومنها الصلاة ، فالصلاة تكون أحد افراد النقيض المنهى عنه ، ومعلوم ان النهى عن الكلي يسرى إلى افراده ، فتكون الصلاة منهيا عنها ، غايته انه لا بخصوصها بل بما انها من أحد افراد نقيض الواجب.

والحاصل انه لو كان مط ترك الصلاة واجبا بالوجوب المقدمي لإزالة النجاسة ، فنقيض مط الترك ترك الترك وهو متحد خارجا مع فعل الصلاة ، فتكون الصلاة بما انها نقيض الترك الواجب منهيا عنها. واما لو كان الترك الخاص واجبا أي الترك الموصل للإزالة ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وهو الذي يكون منهيا عنه لكونه نقيض الواجب ، وترك الترك الموصل المنهى عنه له افراد ،

ص: 297


1- الفصول - مسألة الضد « إذا تقرر هذا فاعلم أن جماعة زعموا ان ثمرة النزاع في الضد الخاص تظهر ... » ص 96
2- مطارح الأنظار ، مبحث مقدمة الواجب ، تذنيب ، « إذا تقرر ذلك نقول : ان الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك .... » ص 76

منها الصلاة ، فتكون الصلاة منهيا عنها. فلا فرق في فساد الصلاة بين ان نقول مط الترك واجب ، أو خصوص الترك الموصل - بعد البناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الضد الاخر - هذا.

وقد أورد عليه المحقق الخراساني ره (1) في كفايته بما حاصله : انه فرق بين القول بوجوب مط الترك وبين القول بوجوب الترك الموصل ، فإنه على الأول يكون نقيضه ترك الترك ، وترك الترك وان كان مفهوما غير الصلاة ، الا انه خارجا عين الصلاة ، لان ترك ترك الصلاة ليس هو الا عبارة عن الصلاة. وهذا بخلاف ما إذا كان الترك الخاص واجبا ، فان نقيض الترك الخاص ترك الترك الخاص ، والصلاة ليست من افراد هذا النقيض بحيث يحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي وتتحد معه خارجا ، بل هي من المقارنات ، فان رفع الترك الخاص قد يجامع فعل الصلاة وقد لا يجامعها ، كما إذا ترك الصلاة والإزالة معا ، ومعلوم ان النهى عن شيء لا يسرى إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه ، هذا. وقد ارتضى شيخنا الأستاذ مد ظله ما ذكره المحقق في المقام واستجوده ، فتأمل.

ومنها : برء النذر باتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب بناء على القول بوجوب المقدمة ، هذا.

ولكن لا يخفى ان مسألة برء النذر لا تصلح ان تكون ثمرة للمسألة الأصولية ، لان ثمرتها ما تقع في طريق الاستنباط ، وتكون كبرى قياس الاستنباط ، ومسألة برء النذر هي بنفسها حكم فرعى ، مع أن البرء يتبع قصد الناذر ، فقد يقصد نذر الواجب النفسي فلا يحصل بفعل الواجب المقدمي ، وقد لا يقصد ذلك.

ومنها : حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة ، حيث يحصل به الاصرار ، لمكان ترك عدة واجبات بناء على وجوب المقدمة.

وفيه ، ان الواجب مهما تعددت مقدماته ليس فيه الا عصيان واحد وإطاعة واحدة ، ويكون تركه بترك أول مقدمة له ، حيث يمتنع الواجب ح عليه فلا يحصل

ص: 298


1- كفاية الأصول ، « قلت : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ... » ص 193

الاصرار.

ومنها : صلاحية وقوع التعبد بها ، بناء على وجوبها وذلك بقصد أمرها. وفيه ، انه قد تقدم ان الامر الغيري يكون التعبد به بتعبد امر ذي المقدمة ، وليس هو بما انه امر غيري مما يتعبد به ما لم يرجع إلى التعبد بأمر ذيها.

ومنها : عدم جواز اخذ الأجرة عليها ، بناء على عدم جواز اخذ الأجرة على الواجبات.

وفيه ، انه ليس مط الواجب مما لا يجوز اخذ الأجرة عليه ، بل تختلف الواجبات في ذلك ، فربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه المصدري فيجوز اخذ الأجرة عليه ، وربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه الاسم المصدري فلا يجوز اخذ الأجرة عليه ، على ما أوضحناه في محله ، وجواز اخذ الأجرة على المقدمات يتبع وجوب ذي المقدمة ، فلو كان الواجب فيها هو الفعل بمعناه الاسم المصدري لا يجوز اخذ الأجرة حتى على مقدماتها ، لأنه قد خرجت المقدمات عن تحت سلطانه ، ولو لمكان اللا بدية العقلية ، فتكون الإجارة عليها من قبيل وهب الأمير ما لا يملك. وان كان الواجب في ذي المقدمة هو الفعل بمعناه المصدري يجوز اخذ الأجرة على مقدماتها ولو قلنا بوجوبها ، لان وجوبها لا يزيد على وجوب ذيها ، كما لا يخفى.

ومنها : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني ره من لزوم اجتماع الأمر والنهي على القول بوجوب المقدمة ، فيما إذا كانت المقدمة محرمة.

وقد أورد عليه : بأنه لايكون من ذاك الباب ، بل من باب النهى في العبادة أو المعاملة. والانصاف ان ما نسب إلى الوحيد باطلاقه غير تام ، وكذا ما أورد عليه ، وتوضيح ذلك : هو انه تارة : تكون المقدمة في نوعها محرمة بحيث لايكون للمكلف مندوحة ، كما إذا انحصر الانقاذ بالتصرف في ملك الغير ، ففي مثل هذا يقع التزاحم بين وجوب الانقاذ وحرمة التصرف ، وينبغي مراعاة الأهم أو سائر مرجحات باب التزاحم ، ولا يندرج هذا الا في باب اجتماع الأمر والنهي ، لا في باب النهى من العبادة أو المعاملة. وأخرى : لا تكون المقدمة في نوعها محرمة بل كان لها افراد مباحة ، فتارة : يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، كما إذا نهى عن سير

ص: 299

خاص للحج ، فهذا يندرج في باب النهى عن العبادة ان كانت المقدمة عبادية ، أو المعاملة ان لم تكن كذلك.

وأخرى : لا يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، بل كان المنهى عنه عنوانا كليا انطبق على بعض افراد المقدمة ، كما في السير على الدابة المغصوبة في الحج ، حيث إن الواجب بالوجوب المقدمي هو السير الذي له افراد والمنهى عنه هو الغصب الذي له افراد أيضا ، وقد اجتمع كل من عنوان الواجب والحرام في السير على الدابة المغصوبة ، فهذا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي ، وليس من باب النهى عن العبادة أو المعاملة ، ولا يتوقف اندراجه في باب الاجتماع على أن يكون الواجب بالوجوب المقدمي هو عنوان المقدمة حتى يمنع عن ذلك بل يكفي ان يكون الواجب عنوانا كليا ذا افراد ، كالمثال المتقدم فتأمل جيدا.

ثم انه لا ثمرة في ادراج المسألة بباب اجتماع الأمر والنهي ، فإنه ان كانت المقدمة توصلية فالغرض منها يحصل بمجرد فعلها ، قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو لم نقل. وان كانت عبادية فلما كان وجوبها مترشحا عن وجوب ذيها وكان لها افراد مباحة فالوجوب انما يترشح إلى المقدمة المباحة لامحة ، ومعه لا يصح التعبد بها على كل حال ، فتأمل.

الامر الثاني :

لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسألة الأصولية ، ولا من حيث المسألة الفقهية. اما من حيث المسألة الأصولية ، فلان البحث فيها من هذه الحيثية انما كان في الملازمة وعدمها ، ومعلوم : ان الملازمة وعدم الملازمة ليست مجرى لأصل من الأصول ، لعدم الحالة السابقة لها ، بل إن كانت فهي أزلية ، وان لم تكن فكذلك.

واما من حيث المسألة الفقهية ، فلان وجوب المقدمة وان لم يكن عند عدم وجوب ذيها ، فتكون بهذا الاعتبار مجرى للاستصحاب عند وجوب ذيها والشك في وجوبها ، الا انه لا اثر لهذا الاستصحاب بعد ما فرض كونها مقدمة وانه مما لا بد منها ، لمكان التوقف.

ص: 300

والحاصل : انه بعد ما تقدم من أنه لا يترتب على البحث في وجوب المقدمة ثمرة عملية أصلا ، بل كان البحث علميا صرفا ، فلا تكون المسألة مجرى لأصل من الأصول ، بعد ما كانت الأصول مجعولة في مقام العمل ، وذلك واضح.

هذا تمام الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد واله.

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الحاد يعشر من شهر ذي القعدة.

القول في اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضده

اشارة

وتنقيح البحث فيه يستدعى تقديم أمور.

الامر الأول :

لا اشكال في أن المسألة من مسائل الأصول ، وليست من المبادئ الأحكامية ، وان كان فيها جهتها ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في عدها من المبادئ بعد ما كان نتيجتها تقع في طريق الاستنباط ، على ما تكرر منا في ضابط المسألة الأصولية.

الامر الثاني :

ليست المسألة من المباحث اللفظية ، لوضوح ان المراد من الامر العنوان الأعم من اللفظي واللبي المستكشف من الاجماع ونحوه ، بل هي من المباحث العقلية ، وليست من المستقلات العقلية ، بل هي من الملازمات - على ما تقدم شرح ذلك في أول البحث عن وجوب المقدمة - وذكرها في المباحث اللفظية لكون الغالب في الأوامر كونها لفظية.

الامر الثالث :

المراد من الاقتضاء في العنوان الأعم من كونه على نحو العينية ، أو التضمن ، أو الالتزام بالمعنى الأخص أو الأعم ، لان لكل وجها بل قائلا. كما أن المراد من الضد ليس خصوص الامر الوجودي ، وان كان الظاهر منه ذلك ، بل المراد منه مطلق المعاند الشامل : للنقيض بمعنى الترك ، وللامر الوجودي الخاص المعبر عنه

ص: 301

بالضد الخاص ، وللقدر المشترك بين الأضداد الوجودية ان كان للشيء اضداد متعددة ، وهو المعبر عنه بالضد العام في كلام جملة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : البحث يقع في مقامين :

المقام الأول

في اقتضاء الامر النهى عن ضده بمعنى النقيض ، والظ انه لا خلاف في اقتضائه ، انما الكلام في كيفية الاقتضاء.

فربما قيل : انه بنحو العينية ، وان الامر بالصلاة عين النهى عن تركها ، لان النهى عن الترك عبارة عن طلب ترك الترك ، وهو عين طلب الفعل خارجا ، حيث إنه لا فرق بين ان يقول : صل ، وبين ان يقول : لا تترك الصلاة ، فان العبارتين تؤديان معنى واحدا ، وهو طلب وجود الصلاة في الخارج ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعفه ، فإنه ان كان المراد من عدم الفرق بين العبارتين : انهما يكونان بمنزلة الانسان والبشر لفظين مترادفين ، وكان ما بإزاء أحدهما عين ما بحذاء الآخر مفهوما وخارجا ، ففساده غنى عن البيان ، لوضوح ان مدلول لا تترك الصلاة أو اطلب منك ترك ترك الصلاة غير مدلول صل ، لان معاني مفردات تلك الجملة غير معنى جملة صل ، فلا يكون هناك اتحاد مفهومي. وان كان المراد : ان النتيجة واحدة والمقصود هو طلب وجود الصلاة ، فهو مما لا ينفع القائل بالعينية ، فان حديث العينية ان يكون قوله : صل - عين قوله : لا تترك الصلاة ، وذلك لايكون الا بدعوى الاتحاد المفهومي ، وقد عرفت ، انه مما لا سبيل إلى دعواه.

وربما قيل : انه بنحو التضمن ، بتوهم ان معنى الوجوب مركب من الاذن في الفعل مع المنع من الترك ، فيدل على المنع من الترك تضمنا.

وفيه ، انه ليس معنى الوجوب مركبا بل هو بسيط بالهوية لا تركيب فيه أصلا ، وانما الوجوب عبارة عن مرتبة من الطلب ، وبذاته يمتاز عن الاستحباب ، بل قد تقدم في أول الأوامر (1) انه ليس الفرق بين الوجوب والاستحباب باختلاف

ص: 302


1- بحث الأوامر - الامر الخامس ص 134

المرتبة أيضا ، وانما الوجوب حكم عقلي ، والشددة والضعف انما تكون في ملاكات الاحكام لا في نفسها ، فراجع. فلا دعوى العينية تستقيم ولا دعوى التضمن.

نعم : لا بأس بدعوى اللزوم بالمعنى الأخص ، حيث إن نفس تصور الوجوب والحتم والالزام يوجب تصور المنع من الترك والانتقال إليه ، وذلك معنى اللازم بالمعنى الأخص.

والحاصل : انه سواء قلنا : بان الوجوب عبارة عن مرتبة شديدة من الطلب ، أو قلنا : بان الوجوب عبارة عن حكم العقل بلزوم الانبعاث من بعث المولى ، يلزمه المنع من الترك ، كما لا يخفى. وعلى كل حال الامر في ذلك سهل ، لان الظاهر عدم ترتب ثمرة عملية على ذلك ، كما هو واضح.

المقام الثاني

في اقتضاء الامر للنهي عن ضده الوجودي ، سواء كان الضد الخاص ، أو القدر المشترك بين الأضداد الوجودية. فقد قيل : بالاقتضاء أيضا على نحو العينية ، أو الاستلزام بالمعنى الأخص أو الأعم ، على اختلاف الأقوال في ذلك.

نعم : لا يعهد القول بالتضمن في هذا المقام ، ولا سبيل إلى دعواه. والأقوى في هذا المقام عدم الاقتضاء مطلقا.

وقد استدل القائل بالاقتضاء بوجهين :

الوجه الأول : استلزام وجود الضد المأمور به لعدم الضد الآخر ان كان الضدان مما لا ثالث لهما ، ولعدم كل من الأضداد الآخران كان هناك ثالث ، لوضوح انه لا يمكن الجمع بين الضدين أو الأضداد في الوجود ، فوجود كل ضد يلازم عدم الأضداد الاخر ، والمتلازمان لابد ان يكونا متوافقين في الحكم ، فلو كان أحد الضدين واجبا لابد ان يكون عدم الاخر أيضا واجبا ، قضية للتوافق ، فإذا كان عدمه واجبا كان وجوده محرما ، فيثبت المقصود من كونه منهيا عنه ، هذا.

وفيه ، ان المتلازمين لا يلزم ان يكونا متوافقين في الحكم ، بل الذي لابد منه هو ان لا يكونا متخالفين في الحكم ، بان يكون أحد الضدين واجبا والاخر محرما ، و

ص: 303

الا كان بين الدليلين تعارض ان كانت الملازمة دائمية ، وان كانت اتفاقية كان من التزاحم.

وبالجملة ، حديث الملازمة لا يقتضى أزيد من عدم المخالفة بين حكمي المتلازمين ، واما التوافق ، فلا ، بل يمكن ان لايكون أحد المتلازمين محكوما بحكم ملازمه أصلا هذا.

ولكن يمكن ان يقال : في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ( بناء على أن يكون السكون والافتراق وجوديين ) ان الامر بأحد الضدين يلازم الامر بعدم ضده الاخر ، فان الحركة وان لم تكن مفهوما عين عدم السكون ، ولا الاجتماع عين عدم الافتراق مفهوما ، الا انه خارجا يكون عدم السكون عبارة عن الحركة ، وعدم الافتراق عبارة عن الاجتماع بحسب المتعارف العرفي ، وان كان بحسب العقل ليس كذلك ، لوضوح انه عقلا لايكون عدم السكون عين الحركة ، بل يلازمها ، فان العدم لا يتحد مع الوجود خارجا ولايكون هو هو مفهوما وعينا ، ولكن بحسب المتعارف العرفي يكون الحركة عبارة عن عدم السكون ، ويكون الامر بأحدهما أمرا بالآخر ، بحيث لا يرى العرف فرقا بين ان يقول - تحرك - وبين ان يقول - لا تسكن - ويكون مفاد إحدى العبارتين عين مفاد الأخرى ، فيكون حكم الضدين الذين لا ثالث لهما حكم النقيضين ، من حيث إن الامر بأحدهما امر بعدم الآخر ، وان كان في النقيضين أوضح من جهة ان عدم العدم في النقيضين هو عين الوجود خارجا ، وليس الامر في الضدين كذلك ، الا ان العرف لا يرى فرقا بينهما ، والاحكام انما تكون منزلة على ما هو المتعارف العرفي ، فدعوى ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص فيما لا ثالث لهما ليس بكل البعيد ، واما فيما كان لهما ثالث فالامر بأحد الأضداد لا عقلا يلازم النهى عن الأضداد الاخر ولا عرفا ، إذ لايكون صل بمعنى لا تبع مثلا ولا بمعنى لا تأكل حتى عند العرف.

وتوهم انه وان لم يقتض النهى عن كل واحد من الأضداد الوجودية بخصوصه عرفا ، الا انه يقتضى النهى عن الجامع بين أضداده الوجودية ، فان الضد المأمور به مع ذلك الجامع يرجع إلى الضدين الذين لا ثالث لهما ، فيكون ذلك الجامع

ص: 304

منهيا عنه ، ولمكان انطباق ذلك الجامع على كل واحد من الأضداد الوجودية يسرى النهى إلى كل واحد من تلك الأضداد ، لسراية النهى أو الامر المتعلق بالكلي إلى افراده ، فيكون كل واحد من تلك الأضداد الوجودية منهيا عنه ، غايته انه لا بخصوصه ، بل لمكان انطباق المنهى عنه عليه ، فيصح ان يقال : ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص مط ، سواء كان الضدان مما لا ثالث لهما أو لم يكن فاسد.

فإنه يرد عليه :

أولا : ان هذا الجامع ليس من الأمور المتأصلة التي يتعلق بها التكليف كالكلي الطبيعي ، بل هو من الأمور الانتزاعية ، والنهى عن الجامع الانتزاعي يكون نهيا عن منشأ الانتزاع ، ومنشأ الانتزاع في المقام ليس الا الأضداد الخاصة ، ولا ملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن شيء منها.

وثانيا : ان النهى عن كل جامع وكلي انما يكون بلحاظ المرآتية لما ينطبق عليه في الخارج ، كما أن الامر بكل جامع يكون كذلك ، لوضوح ان الكلي بما هو هو من غير لحاظه مرآة لما في الخارج لا يتعلق به امر ولا نهى ، لأنه كلي عقلي لا موطن له الا العقل ويمتنع امتثاله ، وفي المقام يكون المرئي بذلك الجامع انما هو الأضداد الخاصة ، والامر بشيء لا يلازم النهى عن شيء منها كما هو واضح. فتأمل ، فان ما افاده مد ظله في المقام لا يخلو عن اشكال.

هذا كله ، إذا كان بين الشيئين تناقض أو تضاد ، وقد عرفت ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن النقيض باللازم بالمعنى الأخص ، ويقتضيه بالنسبة إلى الضدين الذين لا ثالث لهما باللازم بالمعنى الأعم ، حيث لم يكن بوضوح النقيض كما عرفت ، وفي الضدين الذين لهما ثالث لا يقتضيه أصلا. واما فيما إذا كان بين الشيئين عدم وملكة فالظاهر أنه ملحق بالنقيضين في الموضوع القابل لهما ، حيث إن الامر بأحدهما يلازم النهى عن الآخر باللزوم بالمعنى الأخص ، فالامر بالعدالة يلزمه النهى عن الفسق ، كما لا يخفى.

* * *

ص: 305

الوجه الثاني :

من الوجهين الذين استدل بهما القائل باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ، هو مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر ، فيكون عدمه واجبا لوجوب مقدمة الواجب ، فيكون وجوده منهيا عنه وهو المقصود. اما وجه كون عدم الضد مقدمة لوجود الآخر ، فلما بين المتضادين من التمانع ، ومعلوم ان عدم المانع من اجزاء علة وجود الشيء ، وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بالإشارة إلى مسألة مقدمية ترك أحد الضدين للآخر التي وقعت معركة للآراء بين المتقدمين والمتأخرين. فنقول : الأقوال في هذه المسألة على ما يظهر منهم خمسة :

(1) قول بمقدمية وجود أحد الضدين لعدم الآخر ومقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر ، فتكون المقدمية من الطرفين وهذا هو الذي ينسب إلى الحاجبي والعضدي.

(2) وقول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ولا عكس ، وهذا هو الذي ينسب إلى المحقق القمي ، وصاحب الحاشية ، والسبزواري وغيرهم ، وعلى ذلك بنوا اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص.

(3) وقول بمقدمية الوجود للعدم ولا عكس ، وعليه يبتنى شبهة الكعبي من نفى المباح.

(4) وقول بنفي المقدمية من الجانبين لا مقدمية الوجود للعدم ولا مقدمية العدم للوجود وهذا هو الذي اختاره بعض المحققين والذي ينبغي البناء عليه ، على ما سيأتي.

(5) وقول بالتفصيل بين الضد الموجود فيتوقف وجود الآخر على رفع الموجود وعدمه فيكون عدم الضد الموجود من اجزاء علة وجود الضد الآخر ، وبين ما لم يكن أحد الضدين موجودا ، فإنه لا توقف ح من الجانبين.

اما القول الأول ، ففساده غنى عن البيان ، لاستلزامه الدور الذي لا يخفى على أحد.

واما القول الثاني ، فقد عرفت ان عمدة استدلالهم عليه هو تمانع الضدين

ص: 306

وان عدم المانع من اجزاء علة وجود الشيء ، وتوضيح فساده يتوقف على بيان المراد من المانع الذي يكون عدمه من اجزاء العلة.

فنقول : المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضى ، بحيث انه لولاه لاثر المقتضى اثره من افاضته لوجود المعلول ، فيكون الموجب لعدم الرشح والإفاضة هو وجود المانع ، وهذا المعنى من المانع لا يتحقق الا بعد فرض وجود المقتضى بما له من الشرائط فإنه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع ، ويكون عدم الشيء مستندا إلى وجود المانع ، واما قبل ذلك فليس رتبة المانع ، لوضوح انه لايكون الشيء مانعا عند عدم المقتضى أو شرطه ، فلا يقال للبلة الموجودة في الثوب انها مانعة عن احتراق الثوب الا بعد وجود النار وتحقق المجاورة والمماسة بينها وبين الثوب ، فح يستند عدم احتراق الثوب إلى البلة الموجودة فيه ، واما مع عدم النار أو عدم المجاورة فيكون عدم الاحتراق مستندا إلى عدم المقتضى أو شرطه ، فان الشيء يستند إلى أسبق علله ، ولا يصح اطلاق المانع على البلة مع عدم وجود النار ، فرتبة المانع متأخرة عن رتبة المقتضى والشرط ولا يقال للشيء انه مانع الا بعد وجود المقتضى والشرط ، فكما ان المعلول مترتب على علته بجميع اجزائها فيقال : وجدت العلة فوجد المعلول ويتخلل بينهما فاء الترتب ، كذلك اجزاء العلة من المقتضى والشرط وعدم المانع تكون مترتبة ، فيقال : وجد المقتضى فوجد شرطه فلم يكن ما يمنعه ، فالشرط والمانع متأخران عن المقتضى ، والمانع متأخر عن الشرط أيضا. ومرادنا من ترتب اجزاء العلة ليس ذواتها في الوجود فان ذلك واضح البطلان لوضوح انه يمكن وجود ذات البلة في الثوب قبل وجود النار ، كما أنه يمكن وجود النار والمجاورة دفعة واحدة ، بل مرادنا من الترتب في الاستناد والتأثير على وجه يصح اطلاق الشرط أو المانع على الشيء ، وقد عرفت الترتب في التأثير وصحة الاطلاق وانه لا يصح اطلاق كون الشيء شرطا أو مانعا الا بعد وجود المقتضى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه مما يتفرع على ما قلناه من تأخر رتبة المانع عن المقتضى والشرط ، هو عدم امكان جعل أحد الضدين شرطا والآخر مانعا ، وان مثل هذا الجعل ممتنع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في رسالة اللباس المشكوك عند

ص: 307

بيان كون اللباس من محلل الاكل شرطا أو ان كونه من محرم الاكل مانعا ، حيث أوضحنا بما لا مزيد عليه في ذلك أنه لا يمكن الجمع بين هذين الجعلين فراجع. (1).

ومما يتفرع على ما قلناه : من تأخر رتبة المانع عن وجود المقتضى والشرط ، هو عدم امكان مانعية وجود أحد الضدين للآخر ، لان مانعية وجود أحدهما لوجود الآخر انما يمكن بعد فرض وجود المقتضى لكلا الضدين ، لان كون وجود أحدهما مانعا لايكون الا بعد تحقق علته التامة من المقتضى والشرط وعدم المانع ، حتى يتحقق له وجود ليكون مانعا من وجود الآخر ، فالمقتضي لهذا الضد الذي فرض مانعا لابد ان يكون موجودا ، ثم فرض مانعية هذا الضد للضد الاخر لايكون الا بعد وجود مقتضيه ، لما تقدم من أنه لايكون الشيء مانعا عن وجود الشيء الا بعد وجود مقتضى ذلك الشيء ، ففرض مانعية أحد الضدين للآخر لايكون الا بعد فرض وجود المقتضى لكل من الضدين وذلك محال. لأنه كما لا يمكن اجتماع الضدين ، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضى الضدين لمضادة مقتضيهما أيضا ، وبعد عدم امكان اجتماع مقتضى الضدين لا يمكن كون أحدهما مانعا عن الآخر ، لما عرفت من توقف المانعية على ذلك ، فالمانعية موقوفة على فرض محال ، وهو اجتماع كل من مقتضى الضدين ، من غير فرق بين المقتضيات التكوينية الخارجة عن القدرة والإرادة وبين المقتضيات الإرادية ، فان تعلق الإرادة بايجاد كل من الضدين محال ، سواء كانت إرادة شخص واحد أو إرادة شخصين ، فان المقتضى في الشخصين يكون هو الإرادة القاهرة والغالبة على إرادة الاخر ، فتخرج الإرادة المغلوبة عن كونها مقتضية فعلا ، فلا يمكن وجود المقتضى لكل من الضدين مط.

ومن الغريب ان المحقق الخونساري ، والمحقق صاحب الحاشية ، قد حاولا دفع الدور الوارد على القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر - على ما سيأتي بيانه - بذلك ، أي بامتناع اجتماع المقتضيين للضدين ، ومع ذلك ذهبا إلى المقدمية ، و

ص: 308


1- راجع ما الفه المحقق النائيني قدس سره في حكم اللباس المشكوك فيه المطبوع في آخر الجزء الثاني من كتاب « منية الطالب في حاشية المكاسب » ، الامر الثالث من مقدمة البحث ، ص 243

الحال ان ما دفعا به الدور يهدم أساس المقدمية ، لما عرفت من أن امتناع اجتماع المقتضيين يوجب ان لايكون وجود أحد الضدين مانعا عن وجود الاخر ، فلا يكون عدمه من اجزاء علة وجوده ، فلا يجتمع القول بالمقدمية مع القول بامتناع اجتماع المقتضيين.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك انه لا سبيل إلى القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر.

هذا كله ، مضافا إلى ما يرد على القول بالمقدمية من لزوم الدور ، فإنه لو كان عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر ، كان وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر ، وذلك لأنه لا موجب لدعوى مقدمية العدم للوجود الا كون وجود أحدهما مانعا عن وجود الآخر ليكون عدمه من اجزاء العلة ، فإذا كان وجود أحد الضدين مانعا عن وجود الاخر ، فيكون علة لعدم الاخر ، لان كل مانع يكون سببا لعدم ما لولاه لوجد ، فيلزم ان يكون وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر وعدم أحدهما من اجزاء علة وجود الآخر وان لم يكن تمام علته ، الا انه لا فرق في الاستحالة ولزوم الدور بين ان يكون كل من طرفي التوقف علة تامة للآخر ، وبين ان يكون أحدهما علة تامة والآخر جزء العلة كما في المقام ، حيث إن وجود أحد الضدين علة تامة لعدم الاخر لكونه مانعا ، وعدم أحد الضدين من اجزاء علة وجود الآخر لكونه من قبيل عدم المانع الذي هو جزء العلة ، فالقول بمقدمية العدم للوجود موجب للدور المحال. وقد أجيب عن هذا الدور بوجوه :

أحدها : ما حكى عن المحقق الخونساري وصاحب الحاشية (1) من امكان منع مانعية أحد الضدين لوجود الآخر حتى يكون علة لعدمه ، لان مانعيته له .

ص: 309


1- حكاه الشيخ قدس سره في التقريرات ، راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث الضد ، ص 102. هداية المسترشدين ، مبحث الضد ، ما افاده في مقام الجواب عن الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها لنفى المقدمية ، وهو محذور الدور ، « ان وجود الضد من موانع وجود الضد الآخر ... ».

فرع وجود المقتضى له ، ولا يمكن فرض وجود المقتضى له مع وجود المقتضى للآخر - على ما تقدم بيانه - فلا دور.

وتوهم انه يفرض وجود المقتضى والشرط للضد الآخر فيكون وجود هذا الضد مانعا فيعود محذور الدور ، فاسد ، لاستحالة هذا الفرض وامتناع صلاحية وجود الضد لان يكون مانعا عن الاخر وعلة لعدمه على هذا الفرض المحال ، فان فرض وجود المقتضى له ممنوع ، أي لا نسلم امتناع مثل هذه الصلاحية الفرضية ، لان ذلك لا يوجب دورا فعليا ، فتأمل ، فإنه يكفي في الدور الصلاحية. ولقد أجادوا في منع كون أحد الضدين مانعا عن الآخر ، وفي عدم امكان اجتماع المقتضيين ، الا انهم غفلوا عن أن لازم ذلك انكار المقدمية من الطرفين ، وذهبوا إلى مقدمية العدم للوجود.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه لا يمكن القول بمقدمية العدم للوجود ، ومنه يظهر فساد القول الثالث من مقدمية الوجود للعدم.

واما التفصيل بين الضد الموجود فيتوقف وجود الاخر على رفعه ، وبين فراغ المحل عن كلا الضدين فلا توقف من الجانبين ، فهو الذي ينسب إلى المحقق الخونساري ، وحكى ميل الشيخ إليه ، ولعل منشأ التوهم هو ما يشاهد بالوجدان من أن وجود البياض في مكان مشغول بالسواد يتوقف على رفع السواد واعدامه ، فيكون اعدام السواد من مقدمات وجود البياض.

ولكن لا يخفى عليك ، ان مناط الاستحالة مطرد في الضد الموجود والضد المعدوم ، فإنه لا يفرق الحال في كون الشيء مقدمة بين ان يكون موجودا وبين ان يكون معدوما ، فإنه في كلا الحالين يكون مقدمة ، لان مناط المقدمية هو كونه مما يتوقف عليه الشيء ، فإذا امتنع كون الشيء مقدمة في حال عدمه امتنع كونه مقدمة في حال وجوده أيضا ، فان صعود السلم مقدمة للكون على السطح في كل حال.

ومن الغريب ، ان المحقق الخونساري مع اعترافه بامتناع اجتماع المقتضيين للضدين كيف ذهب إلى ذلك ، مع أنه يلزمه القول باجتماع المقتضيين ، فان الضد الموجود انما يكون وجوده بوجود المقتضى ، ومع وجود مقتضيه كيف يمكن وجود

ص: 310

مقتضى الآخر حتى يكون عدم الموجود ورفعه من مقدمات وجود الآخر؟ الا ان يقول : باستغناء الضد الموجود في بقائه عن المؤثر والمقتضى ، وانما الذي يحتاج إلى المقتضى هو الحدوث واما البقاء فلا يحتاج إلى ذلك بل هو يبقى بنفسه ، فلا يكون بقاء وجود الضد الموجود مجامعا لوجود مقتضيه حتى يمتنع وجود مقتضى الاخر ، هذا.

ولكن مع أن هذه المقالة من أصلها فاسدة ، لوضوح ان الموجب لحاجة الشيء في حدوثه إلى المؤثر ليس هو الا الامكان ، وذلك بعينه يقتضى الحاجة في بقائه إلى المؤثر لبقائه على صفة الامكان ، والا يلزم تعطيل الباري تعالى ، وما مثل به من الحجر واللون حيث إن بقائه لا يحتاج إلى مؤثر فليس كذلك بل يحتاج أيضا إلى ذلك ، غايته انه في بعض المقامات تكون العلة المحدثة هي المبقية ، مثلا في مثل الحجر يكون الميل إلى المركز موجبا لبقائه في المكان ، وفي مثل اللون يكون الموجب هو ما أودعه اللّه تعالى في طبعه من أنه لا يزول الا برافع ، وبالجملة : كون المحدثة هي المبقية غير كون البقاء لا يحتاج إلى مؤثر ، كما لا يخفى.

ثم إن ذلك على تقدير تسلميه فهو في الأمور التكوينية الخارجة عن الإرادة ، واما في الأمور الإرادية فلا يمكن ذلك ، لان الفعل الإرادي لابد ان يكون حدوثه وبقائه بالإرادة ، فبقاء الصلاة انما تكون ببقاء ارادتها ، ومع ذلك كيف يجامع إرادة ضدها من الإزالة ، وهل هو الا اجتماع المقتضيين؟ فلو كان وجود الإزالة متوقفا على عدم الصلاة ورفعها يلزم ما فر منه : من اجتماع المقتضيين.

فالانصاف : انه لا فرق في الاستحالة بين كون المحل ، مشغولا بأحد الضدين أو كونه خاليا عنها ، وانه ليس في البين توقف ومقدمية أصلا ، ومجرد تمانع الضدين في الوجود لا يقتضى المقدمية ، بل هو مجرد التعاند في الوجود حسب ذاتهما ، ولكن العلة المحدثة لأحدهما هي الطاردة للآخر ، وليس التعاند بين الضدين أقوى من التعاند بين النقيضين ، بل تعاند النقيضيين أقوى وأشد وأتم ، ومع ذلك ليس بين النقيضين ترتب وتوقف ومقدمية ، والا يلزم توقف الشيء على نفسه ، فكذلك ليس بين الضدين ترتب وتوقف لاستلزام توقف الشيء على نفسه أيضا كالنقيضين. وكما أن العلة للوجود هي الطاردة للعدم في النقيضيين ، فكذلك العلة

ص: 311

لوجود أحد الضدين هي الطاردة للاخر ، سواء كان المحل فارغا عنه أو مشغولا به.

وبما ذكرنا اندفعت شبهة الكعبي أيضا ، وهي انتفاء المباح بدعوى ان ترك الحرام يتوقف على فعل وجودي لعدم خلو الانسان عنه ، فيكون الفعل مقدمة لترك الحرام. وجه الدفع : هو ان ترك الحرام لا يتوقف على فعل وجودي ، بل يتوقف على الصارف عنه ، والفعل لايكون الا من المقارنات ، نعم لا مضايقة في وجوب الفعل إذا توقف بقاء الصارف عليه ، كما إذا توقف بقاء الصارف عن الزناء على الخروج عن الدار بحيث لولاه لوقع في الزنا ، فالالتزام بوجوب الخروج في مثل هذا الفرض لا محذور فيه ولا يلزم نفى المباح رأسا. مع أنه يمكن المنع حتى في هذا الفرض ، لان الصارف لم يكن واجبا شرعيا حتى يجب ما يتوقف عليه ، بل هو واقع في مرحلة الامتثال الذي يكون الحاكم به العقل ، فتأمل جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الامر بالشيء لا يقتضى النهى عن ضده الخاص فيما كان للضد ين ثالث ، كما هو الغالب ، لا من جهة الملازمة ولا من جهة المقدمية ، كما مر. ثم انهم عدوا للنزاع في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ثمرات :

منها : وهي العمدة - فساد الضد إذا كان عبادة بناء على الاقتضاء لأنه يكون من النهى في العبادة ، وعدم فساده بناء على عدم الاقتضاء. وعن البهائي (1) انكار هذه الثمرة ، والقول بان الفساد لا يتوقف على القول بالاقتضاء ، بل يكفي في الفساد عدم الامر بالضد ، حيث إن صحة العبادة تتوقف على الامر بها ، وبعد ما لم يكن الضد مأمورا به لامتناع الامر بالضدين فلا محالة من أن يقع فاسدا ، هذا. وحكى (2) عن المحقق الكركي (3) وجماعة ممن تأخر عنه : المنع عن .

ص: 312


1- راجع زبدة الأصول ، المطلب الأول من المنهج الثالث بحث الضد ، ص 82.
2- ولا يخفى عليك انه ليس في عبارة المحقق تصريح بهذا البيان والتفصيل ، بل له كلام في شرح قول العلامة ببطلان الصلاة في أول وقتها لمن كان عليه دين واجب الأداء فورا يظهر منه ان اطلاق الامر بالموسع يعم الفرد المزاحم للمضيق ولازم كلامه ذلك هو ما ذكرناه من التفصيل في المقام ، كما أن له كلاما يظهر منه صحة الامر الترتبي ، فراجع كلامه وتأمل في ما افاده من جواب الاشكالات التي أوردها على نفسه - منه.
3- راجع « جامع المقاصد في شرح القواعد » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.

اطلاق مقالة البهائي ره من فساد الضد لو قلنا بتوقف العبادة على الامر ، بل ذلك انما يتم في خصوص المتزاحمين المضيقين إذا كان أحدهما أهم ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في اخر الوقت لواجب آخر أهم ، فان في مثل هذا يتم كلام البهائي من فساد الصلاة بناء على توقف صحة العبادة على الامر بها ، لأنه لا امر بها ح مع مزاحمتها لواجب أهم. واما لو فرض وقوع التزاحم بين مضيق وموسع ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في بعض أوقات وجوبها لواجب آخر مضيق ، ففي مثل هذا يمكن القول بصحة الفرد المزاحم من الصلاة لذلك الواجب ، ولو قلنا بتوقف صحة العبادة على الامر.

وحاصل ما يمكن من توجيه ما افاده المحقق هو انه : لما تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، لا على نحو السريان كما في النهى عن الطبيعة كانت القدرة على ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد ما كافية في تعلق الامر بالطبيعة ، لخروجه بذلك عن قبح التكليف بما لا يطاق ، ولا يتوقف الامر بالطبيعة على القدرة على جميع افرادها ، بل يكفي في صحة تعلق الامر بالطبيعة تمكن المكلف من صرف الايجاد حتى لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، وبعد تعلق الامر بالطبيعة تكون جميع الافراد متساوية الاقدام في الانطباق ، لان انطباق الكلي على افراده قهري ، وبعد الانطباق يكون الاجزاء عقليا ، وحينئذ لا مانع من الاتيان بذاك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة مثلا بداعي امتثال الامر المتعلق بالطبيعة ، ولا يتوقف صحته على تعلق الامر به بالخصوص ، حتى يقال : بعد الامر بالإزالة لا يمكن الامر بذاك الفرد المزاحم لاستلزامه الامر بالضدين ، بل يكفي في صحته تعلق الامر بالطبيعة ، وبعد ذلك يكون الانطباق قهريا والاجزاء عقليا. فلو قلنا : ان صحة العبادة تتوقف على الامر بها كان الضد الموسع صحيحا إذا كان عبادة ، نعم لو قلنا : ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده كان ذلك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة منهيا عنه ، وبعد تعلق النهى به يخرج عن قابلية انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، فلا يصلح ان يأتي به بداعي الامر بالطبيعة ، لان هذا الداعي انما يصح في الافراد المنطبقة لا الافراد الغير المنطقة.

فظهر ان نفى الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدم اقتضائه

ص: 313

بناء على توقف صحة العبادة على الامر - كما عن البهائي ره - على اطلاقه لا يستقيم ، بل هو مختص بالمضيقين المتزاحمين ، واما في المضيق والموسع فالثمرة تظهر على ما بينا. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة المحقق ومن وافقه.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فإنه لو كان وجه اعتبار القدرة في التكاليف هو مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز لكان الامر كما ذكر ، حيث إنه يكفي في صحة التكليف بالطبيعة القدرة على ايجادها ولو في ضمن فرد ما ، ولكن هناك وجه آخر في اعتبار القدرة وهو اقتضاء الخطاب ذلك ، حيث إن البعث والتكليف انما يكون لتحريك إرادة المكلف نحو أحد طرفي المقدور ، بل حقيقة التكليف ليس الا ذلك ، فالقدرة على المتعلق مما يقتضيه نفس الخطاب ، بحيث انه لو فرض عدم حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وقلنا بمقالة الأشاعرة من نفى التحسين والتقبيح العقليين ، لقلنا باعتبار القدرة في متعلق التكليف لمكان اقتضاء الخطاب والبعث ذلك ، حيث إن حقيقة الخطاب هي البعث وتحريك الإرادة نحو أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفيه ، وحينئذ يدور سعة دائرة المتعلق وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ولا يمكن ان يكون دائرة المتعلق أوسع من دائرة القدرة ، فالفرد المزاحم لواجب مضيق لا يمكن ان يعمه سعة المتعلق لعدم سعة قدرته ذلك حسب الفرض ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، ومجرد انطباق طبيعة الصلاة على ذلك الفرد لا ينفع بعد عدم انطباق الصلاة المتعلقة للطلب عليه. فدعوى انه لا يحتاج الفرد إلى القدرة عليه بعد القدرة على ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد ما - لان الانطباق يكون ح قهريا والاجزاء عقليا - مما لا تستقيم ، بعد ما كان الخطاب يقتضى القدرة على المتعلق بحيث يدور سعة دائرة المتعلق أو ضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ، وبعد عدم القدرة على ايجاد الطبيعة في ضمن الفرد المزاحم لواجب مضيق تخرج تلك الحصة من الطبيعة عن متعلق الامر ، فلا يمكن ايجاد الفرد امتثالا للامر المتعلق بالطبيعة ، فلو قلنا بتوقف العبادة على الامر يبطل ذلك الفرد المزاحم ولا يمكن تصحيحه.

تبصرة :

لا يخفى عليك ان ما قلناه : من أن كل خطاب يقتضى القدرة على متعلقه ،

ص: 314

لا يلزم منه ان يكون القدرة المعتبرة في جل التكاليف شرعية حتى ينافي تقسيم القدرة إلى شرعية وعقلية وترتيب ما يترتب على هذا التقسيم من الثمرات كما سيأتي ، وذلك لان مرادنا من القدرة الشرعية ما اخذت في لسان الدليل بحيث يستكشف منه ان لها دخلا في ملاك الحكم ومناطه ، كما في قوله (1) تعالى ، « لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، حيث قيد الوجوب بالاستطاعة في نفس الدليل ، وأين هذا مما نقوله في المقام من اقتضاء كل خطاب القدرة على متعلقه ، فان ذلك لا يوجب ان تكون القدرة شرعية.

وحاصل الضابط بين القدرة التي نسميها شرعية والقدرة التي نسميها عقلية ، هو انه إذا اخذت القدرة في موضوع الخطاب المستكشف من ذلك مدخليتها في ملاك الخطاب كانت القدرة حينئذ شرعية ، سواء اخذت في موضوع الخطاب صريحا كما في آية الحج ، أو كانت مستفادة من خطاب آخر كما في آية الوضوء - على ما سيأتي بيانه - وان لم تؤخذ في موضوع الخطاب ، بل كانت مما يقتضيه نفس الخطاب ، اما لمكان قبح مخاطبة العاجز عقلا ، واما لمكان كون الخطاب هو البعث والتحريك نحو المقدور - على ما بيناه - كانت القدرة عقلية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك : ان بناء على توقف صحة العبادة على الامر بها يكون الحق مع البهائي من عدم الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدم اقتضائه ، إذ لا امر بالضد على كل حال ، فالعبادة لا تصح مطلقا ، الا ان الشأن في أصل المبنى ، لوضوح انه لا يتوقف صحة العبادة على الامر بها ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام ، وان لم يؤمر بها فعلا لمانع. ومن هنا قلنا : يكفي قصد الجهة في العبادة ولا يحتاج إلى قصد امتثال الامر ، خلافا للمحكى عن صاحب الجواهر (2) حيث اعتبر خصوص قصد امتثال الامر في صحة العبادة ، ويلزمه القول ببطلان الضد إذا كان عبادة. ولكن الانصاف : ان الالتزام بذلك

ص: 315


1- آل عمران ، الآية 97.
2- قدم كلام صاحب الجواهر قدس سره في المقام في هامش ص 150

بلا موجب ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام سواء امر بها فعلا كما إذا لم يتزاحم ما هو أهم منها ، أو لم يؤمر بها فعلا كما في صورة المزاحمة ، فوجود الامر وعدمه سيان في ذلك.

ولكن مع ذلك لا تظهر الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لأنه هب ان الضد يكون منهيا عنه ، ولكن لما كان النهى غيريا لمكان الملازمة أو المقدمية - على الوجهين الذين بنوا عليهما النهى عن الضد - لم يكن ذلك موجبا لخلل في الملاك ، بل الضد يكون باقيا على ما هو عليه من الملاك لولا المزاحمة ، وليس النهى في المقام عن ملاك يقتضيه ، كما في باب النهى عن العبادة ، وباب الاجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى ، فان النهى في البابين يكون استقلاليا عن ملاك يتقضيه ولم يبق معه الملاك المصحح للعبادة ، لأنه لا يتعلق النهى الاستقلالي بالعبادة الا لمكان اقوائية ملاك النهى والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها ، ومعه لايكون في العبادة ملاك تام يقتضى صحة العبادة. وهذا بخلاف النهى الغيري المتعلق بالعبادة ، فإنه لما لم يكن عن مفسدة تقتضيه بل كان لمجرد المزاحمة لواجب آخر أهم والوصلة إليه كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التام المقتضى لصحتها.

ومما ذكرنا ظهر فساد ما تسالموا عليه من فساد العبادة بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لما عرفت من أنه لا فساد حتى بناء على الاقتضاء لصحة الضد بالملاك لذي لا يضره النهى الغيري.

واما توهم انه لا طريق لنا إلى احراز الملاك ، لتعارض الامر بالإزالة مثلا مع الامر بالصلاة ، وبعد تقديم الامر بالإزالة ، اما لضيق وقتها ، واما لأهميتها ، لم يبق مجال لاستكشاف الملاك للصلاة كما هو الشأن في جميع موارد التعارض ، حيث إنه لا يمكن القول ببقاء الملاك لاحد المتعارضين عند تقديم الآخر لاحد موجبات التقديم.

ففساده غنى عن البيان ، لوضوح انه ليس المقام من باب التعارض ، بل من باب التزاحم ، وكم بين البابين من الفرق بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر.

ص: 316

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتفصيل الكلام في التزاحم واحكامه ، حيث إن الاعلام أهملوا ذلك ، مع أنه مما يترتب عليه فروع كثيرة ، وكان حقه ان يفردوا له عنوانا مستقلا. وعلى كل حال : ان تفصيل القول في التزاحم يقع في مقامات ثلاثة :

المقام الأول
اشارة

في الفرق بين التزاحم والتعارض.

وتوضيح الفرق : هو انه يفترق باب التعارض عن باب التزاحم من جهات :

( الجهة الأولى )

هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت ، بحيث لا يمكن جمعهما في مرحلة الجعل والتشريع ، لاستلزامه التناقض واجتماع الإرادة والكراهة في نفس الآمر بالنسبة إلى متعلق واحد ، أو لزوم التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم ، كما إذا أوجب القيام دائما وأوجب القعود كذلك ، أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا أوجب استقبال المشرق وحرم استدبار المغرب ، أو غير ذلك مما لا يمكن فيه الجمع بين الحكمين ثبوتا لتعاندهما في مقام تشريع الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، بحيث يلزم من الجمع : اما اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد ، واما لزوم التكليف بما لا يطاق ، كل ذلك في مقام الجعل والتشريع.

وهذا بخلاف باب التزاحم ، فإنه لم يكن بين الحكمين المتزاحمين منافرة وتعاند في مقام الجعل والتشريع ، بل كان بينهما كمال الملائمة والموافقة ، وانما نشأ التعاند في مقام فعلية الحكمين وتحقق موضوعهما خارجا ، كالمزاحمة بين انقاذي الغريقين ، أو بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها ، أو غير ذلك من اقسام التزاحم على ما يأتي بيانه ، فإنه لا محذور في تشريع انقاذ كل غريق ، أو تشريع حرمة التصرف في ملك الغير ووجوب انجاء المؤمن من الهلكة ، إذ لا ربط لاحد الحكمين بالآخر ، بل شرع كل منهما على موضوعه المقدر وجوده من دون ان يستلزم ذلك التشريع اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، أو التكليف بما لا يطاق ، بل اتفق التزاحم في مقام

ص: 317

الفعلية كما إذا اتفق انه صار التصرف في ملك الغير مقدمة لانجاء المؤمن ، أو اتفق عدم التمكن من انقاذ كل من الغريقين ، فان هذا الاتفاق لا يضر بذلك التشريع والجعل أصلا.

( الجهة الثانية )

هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الاخر - بأحد وجوه التقديم المذكورة في محلها - ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه. وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه ، مثلا في العامين من وجه ، لو حكمنا أكرم العلماء على لا تكرم الفساق في مورد الاجتماع يكون نتيجة التحكيم هو رفع حكم لا تكرم عن موضوعه ، حيث إنه مع بقاء زيد العالم مثلا على فسقه ومع قدرة المكلف على اكرامه يرتفع حكمه. واما في مثل الغريقين ، لو قدمنا أحدهما على الآخر لاحد موجبات التقديم في باب التزاحم تكون نتيجة التقديم هو سلب قدرة المكلف عن انقاذ الاخر وتعجيزا مولويا بالنسبة إليه ، لوجوب صرف قدرته إلى الأهم ، فعدم وجوب انقاذه لعدم قدرته عليه ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي.

( الجهة الثالثة )

هي ان المرجحات لاحد المتعارضين على الاخر كلها ترجع ، اما إلى باب الدلالة ، واما إلى باب السند. واما في باب التزاحم : فالمرجحات هي أمور آخر لا ربط لها بباب الدلالة والسند ، بل ربما يقدم ما هو أضعف دلالة وسندا على ما هو الأقوى ، نعم : ربما يكون بعض المرجحات مرجحا لكلا البابين ، لكن لا بمناط واحد بل بمناطين ، كالأهمية مثلا ، حيث إنه في باب التعارض تكون مرجحة أيضا في بعض الأحيان ، كما قيل فيما لو تعارض الأمر والنهي قدم جانب النهى ، لأهمية التحرز عن المفسدة ، أو أولوية دفعها عن جلب المصلحة. وفي باب التزاحم أيضا يقدم ما هو الأهم ، لكن مناط التقديم ليس من جهة ان في النهى مفسدة ، بل امر آخر بحسب ما يقتضيه المقام ، وكتقديم ما لا بدل له على ماله البدل ، فإنه في باب التعارض يقدم ذلك من باب ان ما لا بدل له يكون حاكما ومبينا لما له البدل ، كما في مثل تقديم العام الأصولي والمطلق الشمولي على المطلق البدلي. وفي باب التزاحم

ص: 318

أيضا يقدم ما لا بدل له ، لكن لا بذلك المناط ، بل بمناط ان ماله البدل لا يصلح ان يكون معجزا مولويا لما لا بدل له ، بخلاف العكس - على ما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى وبالجملة : المرجحات في أحد البابين أجنبية عن المرجحات في الباب الاخر.

( الجهة الرابعة )

هي ان التزاحم انما يكون باعتبار الشرائط المعتبرة في التكليف التي يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع ، فمثل العقل والبلوغ من الأمور التكوينية المعتبرة في التكليف لا يقع فيها التزاحم ، بل الذي يقع فيه التزاحم هو خصوص القدرة ، حيث إن للشارع تعجيز العبد وصرف قدرته إلى أحد الواجبين في عالم التشريع ، وان كان قادرا في عالم التكوين.

وان شئت قلت : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك ، بل كانت من شرائط حسن الخطاب ، فمثل البلوغ والعقل اللذين لهما دخل في ثبوت الملاك ليسا موقعا للتزاحم ، وانما الذي يكون موقع التزاحم هو خصوص القدرة التي هي من شرائط حسن الخطاب ،

نعم : قد يتفق التزاحم في غير باب القدرة ، كما في بعض فروع الزكاة مثل ما إذا كان مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ، ثم ملك واحدة أخرى ، فمقتضى القاعدة الأولية هو انه عند انقضاء حول الخمس والعشرين يؤدى خمس شياه ( لكل خمس شاة ) وبعد انقضاء ستة أشهر الذي به يتم حول الستة والعشرين يؤدى ( بنت لبون ) زكاة الست والعشرين ، فيلزمه في كل ستة أشهر زكاة. ولكن بعد ما قام الدليل على أنه لا يزكى المال في عام مرتين ، يقع التزاحم بين حول النصاب الخمس والعشرين والست والعشرين ولا بد من سقوط ستة أشهر من حول أحدهما ، ولعله يتفق التزاحم في غير هذا المورد ، الا ان الغالب في باب التزاحم هو التزاحم في القدرة.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض ، وان بينهما بونا بعيدا ، بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر ، فلا محل بعد ذلك لان يقال : ان الأصل في الدليلين المتنافيين هو التزاحم ، أو التعارض ، إذ لم يكن مورد

ص: 319

يصلح لكل منهما حتى يبحث عما هو الأصل عند الشك.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أيضا ضعف ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين ، والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى ، وجعل مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من باب التزاحم لوجود المقتضى لكل منهما ، وليسا من باب التعارض. وذلك لان مجرد تزاحم المقتضيين لا يصحح الاندراج في باب التزاحم المقابل لباب التعارض ، والا لكان جميع موارد التعارض من باب التزاحم ، لكاشفية كل دليل عن ثبوت المقتضى لمؤداه ، فيلزم ان يكون جميع موارد تعارض الدليلين من تزاحم المقتضيين.

فالعبرة في التزاحم انما يكون بتزاحم الحكمين في مقام الفعلية لا تزاحم المقتضيين ، والا فقد يتزاحم المقتضيان ثبوتا في نفس الامر ولا محالة يقع الكسر والانكسار بينهما ، فينشأ الحكم على طبق أحدهما ان ترجح في نظره أحد المقتضيين ، والا فعلى كل منهما تخييرا. وليس ذلك من تزاحم الحكمين ، ولذا يعتبر في باب التزاحم ان يكون المكلف عالما بالحكم واصلا إليه ، لان الحكم الذي لم يصل إلى المكلف لا يمكن ان يكون مزاحما لغيره ، لان المزاحمة انما تنشأ من شاغلية كل من الحكمين عن الآخر واقتضاء صرف القدرة إليه ، والحكم الغير الواصل لايكون شاغلا لنفسه ، فكيف يكون شاغلا عن غيره؟ فالتزاحم لايكون الا بعد العلم والوصول. وهذا لا ربط له بتزاحم المقتضيين ، لان تزاحم المقتضيين انما يكون في عالم الثبوت ونفس الامر من دون دخل لعلم المكلف وجهله ، فارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين مما لا يستقيم ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى في مبحث اجتماع الأمر والنهي.

المقام الثاني

في منشأ التزاحم وهو أمور خمسة :

الأول : تضاد المتعلقين ، بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد ، بحيث لا يمكن للمكلف فعلهما ، كما في الغريقين ، والإزالة والصلاة ، وأمثال ذلك مما اجتمع المتعلقان في زمان واحد.

ص: 320

الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في أحدهما فقط. والفرق بين هذا وسابقه : هو ان عدم القدرة في هذا الوجه ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفي سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف في حد ذاته عاجزا لولا اتحاد الزمان.

الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي ، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

الرابع : اتحاد المتعلقين وجودا ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز ، وسيأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي انشاء اللّه تعالى توضيح هذا الوجه والفرق بينه وبين الاتحاد المصداقي ، كالعالم الفاسق ، وان الثاني ليس من باب التزاحم.

الخامس : صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الاخر ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه. وليعلم ان هذه الأمور انما تكون من باب التزاحم إذا كان وقوعها اتفاقيا لا دائميا ، بحيث اتفق تضاد المتعلقين واجتماعهما في الزمان ، أو اتفق عدم قدرة المكلف على جمعهما ، أو اتفق تلازم المتعلقين ، أو اتحادهما ، أو مقدمية أحدهما للاخر.

وأما إذا كان التضاد أو التلازم أو الاتحاد أو غير ذلك من الأمور المذكورة دائميا ، فيخرج عن باب التزاحم ويندرج في باب التعارض ، على ما تقدم من الضابط بين البابين ، فان دائمية ذلك توجب امتناع جعل الحكمين وتشريعهما ثبوتا ، كما لا يخفى. وليعلم أيضا ان التزاحم انما يتحقق بعد البناء على كون الاحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقية. واما لو قلنا بجعلها على نهج القضايا الخارجية فالتزاحم غير معقول ، بل جميع ذلك يكون من التعارض ، لأنه يرجع إلى امتناع الجعل أيضا كما لا يخفى وجهه.

المقام الثالث
اشارة

في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور :

ص: 321

( الامر الأول )

ترجيح ما لا بدل له ، على ما له البدل عرضا ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له ، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب تعييني ، فإنه لا اشكال في تقديم ما لا بدل له على ما له البدل ، بل هذا في الحقيقة خارج عن باب التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي ، لان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فان الواجب المضيق يقتضى صرف القدرة له في زمانه ، والواجب الموسع لا يقتضى صرف القدرة في ذلك الزمان ، لأن المفروض انه موسع ، فلا معنى لمزاحمته للمضيق ، وذلك واضح.

( الامر الثاني )

من المرجحات ، ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، والمراد من القدرة الشرعية هي ما إذا اخذت في لسان الدليل ، كما في الحج وأمثاله مما قيد المتعلق بالقدرة في نفس الخطاب. والسر في ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، هو ان الغير المشروط بها يصلح لان يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، حيث إن وجوبه لم يكن مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية ، والمفروض انها حاصلة فلا مانع من وجوبه ، ومع وجوبه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية عن تحت سلطانه وقدرته شرعا ، للزوم صرف قدرته في ذلك ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب ، لانتفاء شرط وجوبه ، وهو القدرة.

والحاصل : ان ما يكون مشروطا بالقدرة العقلية يصلح ان يكون معجزا مولويا عما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان وجوبه لا يتوقف على أزيد من القدرة العقلية الحاصلة بالفرض ، ومع التعجيز المولوي لم يتحقق شرط وجوب الواجب الاخر ، وهذا من غير فرق بين فعلية وجوب ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية لمكان تحقق شرائط وجوبه ، وبين ما إذا كان مشروطا بشرط لم يتحقق بعد ، غايته ان المزاحم لما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية نفس وجوب الواجب الغير المشروط بها على الأول ، أي إذا كان وجوب الغير فعليا قد تحقق زمان امتثاله. وعلى الثاني يكون المزاحم هو الخطاب الطريقي العقلي وهو خطاب احفظ قدرتك.

وبعبارة أخرى : المزاحم هو عدم جواز تفويت القدرة ، فان وجوب حفظ

ص: 322

القدرة وعدم جواز تفويتها لا يتوقف على فعلية وجوب ما يجب حفظ القدرة له ، على ما تقدم تفصيله في المقدمات المفوتة. وكذا لافرق بين ان يكون الغير المشروط بالقدرة الشرعية أهم مما يكون مشروطا بها ، أو مساويا له ، أو أضعف منه ، لأنه على جميع التقادير يكون معجزا مولويا ، اما بنفسه ، واما بخطاب لزوم حفظ القدرة له ، فأي واجب فرض يكون مقدما على الحج مثلا عند المزاحمة ، سواء كان أهم من الحج أو أضعف ، وسواء كان وجوبه فعليا ، أو مشروطا بشرط يتحقق بعد ذلك. كل ذلك لمكان عدم اشتراط ذلك الواجب بالقدرة الشرعية.

ثم إن في المقام اشكالا ربما يختلج في البال ، وحاصله : انه لا طريق لنا إلى معرفة تقييد المتعلق بالقدرة شرعا وعدم تقييده ، لأنه في غير المقام لو شك في التقييد وعدمه فالاطلاق يدفعه ، واما في المقام فلا سبيل إلى دفع احتمال التقييد باطلاق الخطاب.

اما أولا : فلما عرفت من أن كل خطاب بنفسه يقتضى القدرة على متعلقه ، لان حقيقة الخطاب ليس الا ترجيح أحد طرفي المقدور ، فاعتبار القدرة على المتعلق وتقييده بها انما يكون من مقتضيات نفس الخطاب ، بناء على ما هو الحق عندنا من أن المدرك في اعتبار القدرة انما هو اقتضاء الخطاب ذلك ، لا مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز. وعليه بنينا فساد مقالة المحقق الكركي من صحة اتيان الفرد الواجب الموسع المزاحم للمضيق امتثالا للامر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا فيجزى عقلا. ومع اقتضاء كل امر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك باطلاق الامر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة ، حتى يقال : ان القدرة المعتبرة فيه عقلية لا شرعية ، فيقدم على ما قيد بالقدرة الشرعية عند المزاحمة ، بل نتيجة اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقة هو ان القدرة في جميع التكاليف تكون شرعية ، وليس لنا ما يكون القدرة المعتبرة فيه عقلية محضة ليترتب عليها ما يترتب.

واما ثانيا : فلانه هب ان اقتضاء الخطاب ذلك لا يوجب تقييد المتعلق شرعا بالقدرة ، الا انه لا أقل من أن يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من التمسك بالاطلاق ، لأنه لا اشكال في صلاحية اقتضاء الخطاب

ص: 323

لان يكون مقيدا شرعا ، وكفاية اكتفاء الشارع بذلك عن التصريح بتقييد المتعلق بالقدرة ، ومع هذه الصلاحية كيف يجوز التمسك باطلاق المتعلق على عدم اخذ القدرة قيدا له؟.

واما ثالثا : فلان التمسك بالاطلاق في رفع ما شك في قيديته في سائر المقامات انما هو لأجل مقدمات الحكمة ، التي منها لزوم نقض الغرض ، وايقاع المكلف في خلاف الواقع ، لو كان المشكوك في الواقع قيدا ، فمن عدم بيانه نستفيد انه لم يكن في الواقع قيدا. وهذا البيان في المقام لا يتمشى لان المتعلق لو كان في الواقع مقيدا بالقدرة وكانت القدرة لها دخل في ملاكه لم يلزم من اهمال ذكر القدرة نقض الغرض ولا ايقاع المكلف في خلاف الواقع لأنه لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع. فلا مجال ح للتمسك بالاطلاق لعدم قيدية القدرة.

وهذا الاشكال يرد على كلا المسلكين في كيفية اعتبار القدرة ، من كونها من مقتضيات الخطاب كما هو الحق عندنا ، أو كونها من باب حكم العقل بقبح مطالبة العاجز ، لان مقدمات الحكمة لا تجرى على كل تقدير.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاشكال يوجب هدم أساس ما قلناه من صحة الضد إذا كان عبادة بالملاك كما عليه بعض الاعلام ، أو بالامر الترتبي كما هو الحق عندنا ، لأنه لا طريق لنا إلى استكشاف الملاك واشتمال الصلاة مثلا على المصلحة الا من ناحية اطلاق الامر وعدم تقييد المتعلق بالقدرة ، فلو لم يكن للامر اطلاق كما حرر في وجه الاشكال ، فمن أين يمكن استفادة الملاك في صورة سقوط الامر للمزاحمة؟ حتى نقول ان سقوط الامر لا يوجب سقوط الملاك فتصح العبادة به أو بالامر الترتبي.

وبالجملة : بعد تقييد المتعلق بالقدرة ، أو احتمال تقييده - على اختلاف وجوه تقرير الاشكال ، حيث إن على بعض وجوهه يوجب التقييد ، كما هو مقتضى الوجه الأول ، وعلى بعض وجوهه يحتمل التقييد كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - لا يمكن دعوى بقاء الملاك عند سقوط الامر بالمزاحمة.

ولعله لأجل ذلك حكى عن صاحب الجواهر : المنع عن ثبوت الملاك ، بعد

ص: 324

المنع عن كفايته في صحة العبادة واحتياج العبادة إلى الامر. فعلى كل من قال بصحة العبادة بالملاك أو بالامر الترتبي دفع هذا الاشكال. كما أنه يتوقف على دفعه دعوى ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها عند المزاحمة ، لان مقتضى الاشكال هو ان جميع التكاليف مشروطة بالقدرة الشرعية ، فليس هناك واجب لم يكن مشروطا بها حتى يقدم على ما يكون مشروطا بها ، هذا.

والذي ينبغي ان يقال في حل الاشكال على الوجه الأخير من وجوه تقريره : هو انه ليس من مقدمات الحكمة لزوم ايقاع المكلف في خلاف الواقع ، حتى يقال في المقام انه لا يلزم ذلك ، بل الذي نحتاج إليه في مقدمات الحكمة هو كون المتكلم في مقام بيان مراده ، وحيث لم يبين القيد فلا بد ان يكون مراده الاطلاق.

والحاصل : انه يكفي في صحة التمسك بالاطلاق مجرد عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد بيان مراده. ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى توسيط لزوم وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، مع أنه في المقام أيضا يلزم ذلك لو كانت القدرة المعتبرة قيدا في المتعلق ، لوضوح ان المراد من القدرة الأعم من القدرة العقلية المقابلة للعجز العقلي ، أو القدرة الشرعية المقابلة للعجز الشرعي ، فلو كان المتعلق مقيدا ثبوتا بالقدرة عليه وعدم العجز عنه ومع ذلك لم يبينه في لسان الدليل واخل ببيان ذلك يلزم أحيانا وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، لأنه ربما يتخيل المكلف انه قادر على ايجاد المتعلق شرعا فيأتي به ، مع أنه عاجز عنه شرعا ، فيلزم وقوعه في خلاف الواقع من جهة عدم تقييد المولى المتعلق بالقدرة ، فإنه لو قيده بذلك لم يلزم ذلك. مثلا لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها وعدم العجز عنها ولو شرعا ، بان اعتبر فيها عدم العجز الشرعي عنها ، ومع ذلك أخل ببيان ذلك في لسان الدليل ، فقد يكون الشخص عاجزا عن الصلاة شرعا لمكان مزاحمتها بالأهم ، ومع هذا يغره اطلاق الامر بالصلاة وعدم تقييدها بالقدرة عليها فيأتي بها ، مع أنه لو لم يخل ببيان التقييد لم يأت بها ، فالاتيان بها وايقاع الشخص في مخالفة الواقع انما جاء من قبل الاطلاق.

فدعوى : ان اعتبار القدرة في المتعلق لا يضر بايراد الكلام مطلقا ولا قبح في

ص: 325

الاخلال ببيانه لأنه لا يلزم منه مخالفة الواقع ، فاسدة جدا. فالانصاف انه لو كان المدرك في اعتبار القدرة في التكاليف مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز وأغمضنا عن أن ذلك من مقتضيات نفس الخطاب ، لكان التمسك بالاطلاق في رفع احتمال قيدية القدرة ودخلها في الملاك في محله. فالتقرير الثالث من وجوه تقرير الاشكال ساقط.

نعم : يبقى التقرير الأول والثاني منه ، وقد عرفت ان هذين التقريرين انما يردان بناء على المختار : من أن اعتبار القدرة ليس لمجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بل لمكان اقتضاء الخطاب ذلك.

والتحقيق في حل الاشكال بناء على المختار هو ان هذا الاقتضاء الآتي من قبل الخطاب لا يمكن ان يكون مقيدا للمتعلق وغير صالح لذلك ، وتوضيح ذلك : هو ان للاطلاق جهتين : جهة اثباته للمراد ، وجهة كشفه عن قيام الملاك بالمتعلق.

والمحرز للجهة الأولى هو مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم ذكر القيد ، فلا بد ان يكون مراده الاطلاق. وهذه المقدمات وحدها لا تنفع في احراز الجهة الثانية ، لأنه لا يمكن اثبات كون المتكلم في مقام بيان ما قام به الملاك ومتى كان المتكلم في مقام بيان ذلك بل يحتاج في اثبات قيام الملاك بالمتعلق إلى مقدمة أخرى وهي : ما ذهب إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في مسألة المتعلقات ، ولولا هذه المقدمة لم يكن لنا طريق إلى قيام الملاك بالمتعلق ، فاطلاق الامر بضميمة تلك المقدمة يكون كاشفا عن قيام الملاك بذات المتعلق والمادة ، فلا بد ان يكون ذات المتعلق مما قام به الملاك ثبوتا ، ليتطابق عالم الاثبات وعالم الثبوت ، والكاشف والمنكشف ، فالاطلاق يكشف عن قيام الملاك بما يرد عليه الهيئة ، والذي يرد عليه الهيئة هو نفس المتعلق بلا قيد وان كان بورود الهيئة يتقيد ، فالتقييد الآتي من قبل الهيئة لا ينافي اطلاق ما يرد عليه الهيئة.

والذي ينفعنا في المقام في استكشاف الملاك وعدم قيدية القدرة هو الثاني ، والمفروض ان الكلام فيما إذا كان ما يرد عليه الهيئة مط غير مقيد بالقدرة ، وان كان يتقيد بورود الهيئة. فيصح التمسك بالاطلاق في قيام الملاك بالمتعلق وعدم

ص: 326

تقييده بالقدرة ، فتكون القدرة المعتبرة في مثل هذا عقلية لا شرعية ، وينحصر القدرة الشرعية بما إذا قيد المتعلق بالقدرة ، كما في مثال الحج. فارتفع الاشكال بحذافيره ، فتأمل في المقام جيدا.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من مرجحات باب التزاحم. وقد ظهر لك : ان المرجح الثاني ما كان أحد المتزاحمين غير مشروط بالقدرة الشرعية فإنه يقدم على ما كان مشروطا بها.

( المرجح الثالث )

ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له البدل شرعا ، كما إذا زاحمت الطهارة المائية واجبا آخر لا بدل له ، فإنه يقدم ما لا بدل له على ما له البدل. والسر في ذلك واضح ، لان كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة والتمكن ، لأنه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وعدم التمكن منه ، ولازم ذلك هو تقييد ذلك الواجب بصورة التمكن والقدرة ، سواء وقع التصريح بذلك في لسان الدليل - كما في قوله تعالى : فان لم تجدوا ماء فتيمموا ، حيث إنه قيد التيمم بصورة عدم وجدان الماء فيستفاد منه تقييد الوضوء بصورة وجدان الماء والتمكن منه - أو لم يقع التصريح بذلك في لسان الدليل.

وبالجملة : نفس جعل البدلية الطولية يقتضى التقييد بالقدرة ، فتكون النسبة بين هذا المرجح والمرجح السابق العموم المطلق ، لان كل ماله البدل يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، وليس كل ما يكون مقيدا بالقدرة الشرعية له البدل ، كما هو واضح.

فالوضوء إذا زاحم واجبا آخر من واجبات الصلاة يسقط وينتقل التكليف إلى التيمم ، من غير فرق في ذلك بين الوقت وغيره ، فلو دار الامر بين الوضوء وادراك ركعة أو أزيد من الوقت وبين التيمم وادراك جميع الوقت ، قدم الوقت وتيمم ليدرك جميع الوقت.

واما توهم ان الوقت أيضا مما ثبت له البدل ، حيث إن الظاهر من

ص: 327

قوله : (1) من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت جميعا ، هو بدلية الركعة من الوقت عن جمع الوقت ، فيكون الوقت أيضا مقيدا بالقدرة كتقييد الوضوء بها ، فلا وجه لتقديمه على الوضوء عند المزاحمة ، بل لا بد اما من التخيير ، واما من ملاحظة الأهمية على الوجهين الآتيين في تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة الشرعية - ولعله لذلك حكى عن بعض الاعلام تقديم الوضوء عند مزاحمته للوقت - فهو في غاية الفساد ، لوضوح ان الوقت غير مقيد بالقدرة من أول الامر كتقييد الوضوء بها كذلك ، بل بعد فرض تحقق العجز عن المكلف وعدم تمكنه من الوقت واداركه له ، جعل الشارع ادراك الركعة من الوقت بمنزلة ادراك جميع الوقت.

والحاصل : انه فرق بين تقييد الشيء من أول الامر بالقدرة اما بلا واسطة واما بواسطة جعل البدلية ، وبين جعل شيء بدلا عن شيء بعد فرض تحقق العجز خارجا وعدم تمكن المكلف منه كذلك ، أي بعد فرض عدم التمكن خارجا ، فان الثاني لا يقتضى التقييد بالقدرة شرعا ، بل أقصاه جعل البدلية بعد فرض العجز عن القدرة العقلية. ومسألة من أدرك ركعة من الوقت فقد الخ يكون من هذا القبيل ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، قد ظهر : ان المرجح الثالث من مرجحات باب التزاحم هو ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له الدبل. وفي هذه المرجحات الثلاثة لا يلاحظ مسألة الأهمية والمهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني. فيقدم ما لا بدل له أو ما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية ، على ماله البدل أو المشروط بالقدرة الشرعية وان تأخر زمان امتثاله أو زمان خطابه ، إذا فرض تمامية ملاكه ، كالصلاة قبل الوقت ، حيث تقدم منا في الواجب المعلق : انه يستفاد من وجوب حفظ الماء قبل الوقت تمامية ملاك الصلاة قبله ، وان الوقت شرط للخطاب بالصلاة لا لملاكها.

وحينئذ لو فرض قبل الوقت انه توجه عليه تكليف له بدل أو مشروط بالقدرة الشرعية وكان الاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الصلاة في وقتها ،

ص: 328


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة ، ولعله مصطاد من روايات الباب ، راجع الوسائل باب 30 من أبواب المواقيت والمستدرك باب 24 منه.

فمقتضى القاعدة ترك الاشتغال بذلك الواجب ووجوب حفظ قدرته للصلاة في وقتها كما تقدم. نعم لو فرض عدم ثبوت الملاك للصلاة قبل وقتها وكان ملاكها كخطابها مشروطا بالوقت ، كان اللازم الاشتغال بذلك الواجب الذي له بدل أو المشروط بالقدرة الشرعية ، حيث لا مزاحم له فعلا ، بل في الحقيقة هذا خارج عما نحن فيه ، فتأمل. (1).

فتحصل : انه في هذه المرجحات الثلاث لا يلاحظ الأهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني ، نعم : لو فرض تساوى المتزاحمين من هذه المرجحات ، بان كان كل من المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو كان كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فتصل النوبة ح إلى الترجيح بالأهمية والمهمية ، والسبق واللحوق.

وتفصيل ذلك : هو ان لو تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات الثلاثة المتقدمة ، فاما ان يكون الواجبان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية. فان كان الأول ، فلا يخلو اما ان يتقدم زمان امتثال أحدهما أو لا يتقدم ، فان تقدم زمان امتثال أحدهما فهو المتقدم ، وفي مثل هذا لا يلاحظ أهمية المتأخر وعدم أهميته ، لأن المفروض انه ليس هناك الا ملاك واحد ، حيث إنه لا يمكنه الجمع بينهما ، وكانت القدرة في كل منها معتبرة في الملاك ، ومع عدم القدرة على كل منهما لا يتحقق الملاك في كل منهما ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا موقع لملاحظة الأهمية والمهمية ، فان لحاظ ذلك يستدعى ثبوت ملاكين ، فلا محيص من ترجيح المتقدم زمان امتثاله ، لقدرته عليه فعلا وعدم ما يوجب سلب قدرته عنه شرعا. فلو فرض انه نذر صوم يوم الخميس ، وصوم يوم الجمعة ، وبعد ذلك عرض له ما يمنعه من الجمع بين صوم اليومين ، ودار امره بين صوم أحدهما وترك الآخر ، كان مقتضى القاعدة تقديم صوم يوم الخميس وترك صوم يوم الجمعة ، لتقدم زمان امتثال الأول وعدم مانع شرعي عنه ، لاعتبار القدرة

ص: 329


1- وجهه : هو انه يمكن ان يقال بلزوم حفظ القدرة في هذا الفرض أيضا ، للعلم بتحقق الملاك التام بعد ذلك ، فيكون اشتغاله بذلك الواجب موجبا لتفويت الملاك في موطنه ، فتأمل - منه.

الشرعية في كل منهما ، حيث إن خطاب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية ، لان دليل الوفاء بالنذر تابع لما التزم به المكلف على نفسه ، وما التزم به المكلف على نفسه هو الفعل المقدور ، فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام فالخطاب يرد على الفعل الذي اخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا ، فتأمل جيدا.

وبعد ما ظهر ان النذر مشروط بالقدرة الشرعية ، ففي الفرع المتقدم - من تزاحم الواجبين المشروط كل منها بالقدرة الشرعية مع تقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر - فقد عرفت ان المتقدم زمان امتثاله هو المتقدم ، وكذا إذا فرض اتحاد زمان امتثالهما ولكن تقدم زمان خطاب أحدهما ، كما إذا وجب عليه فعل شيء معين في وقت خاص مشروط بالقدرة الشرعية ، وصادف توجه واجب آخر مشروط بالقدرة الشرعية في ذلك الوقت ، فإنه يقدم الأول لمكان سبق خطابه ، فيكون خطاب السابق قد شغل ذلك الوقت ، فلم يبق موقع للواجب الآخر ، الا إذا كان السابق مشتملا على خصوصية توجب تأخره وتعين امتثال اللاحق خطابه ، كما في النذر وشبهه ، حيث إنه يعتبر فيه ان لايكون موجبا لتحليل حرام أو تحريم حلال ، سواء كان نفس متعلقه حراما ، كما إذا نذر ما يحرم فعله لولا النذر ، أو كان ملازما لذلك (1) كما إذا نذر ما يوجب تفويت واجب لولا النذر. كما لو نذر زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة قبل أشهر الحج ، ثم حصلت له الاستطاعة في أشهر الحج ، فان مقتضى القاعدة انحلال النذر وتعين الحج عليه ، وان تقدم خطاب الوفاء بالنذر وكان كل من النذر والحج مشروطا بالقدرة الشرعية.

والسر في ذلك : هو ان النذر في المقام يوجب تفويت الحج الواجب لولا النذر ، وتفويت الواجب كذلك يوجب انحلال النذر ، والمفروض ان الحج لولا

ص: 330


1- ولا يخفى عليك ان الظاهر من تحليل الحرام هو ان يكون نفس المتعلق موجبا لذلك ، بان نذر ما هو حرام أو نذر ترك واجب ، لا ما إذا استلزم ذلك كما في المقام ، فتأمل. منه

النذر كان واجبا لحصول ما هو شرط وجوبه وهو الاستطاعة ، فلا مانع من وجوبه سوى النذر ، والنذر لا يصلح ان يكون مانعا ، لأنه قد اعتبر في انعقاد النذر ان لايكون موجبا لتحليل الحرام ولو بالاستلزام ، فالنذر والحج وان اشتركا في اخذ القدرة الشرعية في متعلقهما ، الا ان النذر قد اشتمل على خصوصية أوجبت عدم مزاحمته للحج وتقدم الحج عليه ، وتلك الخصوصية هي عدم كونه موجبا لتحليل ما هو حرام أو واجب لولا النذر ، والحج واجب لولا النذر فلا بد من انحلاله.

فانحلال النذر في مثل هذا ليس لمكان اعتبار الرجحان في متعلقه حال الفعل حتى يستشكل بأنه يكفي الرجحان حال النذر ، وزيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة في حال النذر كانت راجحة لعدم تحقق الاستطاعة بعد ، فلا موجب لانحلاله. أو يفرض الكلام في العهد واليمين الذين لا يعتبر الرجحان في متعلقهما - ولعله لذلك حكى انه كان عمل صاحب الجواهر ( قده ) على ذلك ، حيث كان ينذر قبل أشهر الحج زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج في اشهره - بل إن انحلال النذر انما هو لمكان استلزامه تفويت واجب لولا النذر.

فان قلت :

ان هذه الخصوصية لا تختص بالنذر ، بل ورد في باب الشروط والصلح وغير ذلك أن لايكون موجبا لتحليل الحرام أو تحريم الحلال. وح يلزم وجوب الحج عليه إذا آجر نفسه قبل أشهر الحج لعمل كذائي في يوم عرفة ، ثم حصلت الاستطاعة له ، فان مقتضى ما تقدم هو بطلان الإجارة ووجوب الحج عليه ، مع أن الظاهر أنه لا يمكن الالتزام به ، وان سبق الإجارة يوجب عدم تحقق الاستطاعة ، فلا يتحقق موضوع وجوب الحج.

قلت :

فرق بين التكليف والوضع ، وكلامنا في المقام من الحيثية الأولى ، وان التكليف بالوفاء بالنذر لا يزاحم تكليف الحج ، فلو فرض ان هناك جهة أخرى من وضع وملكية بحيث كان عمله مملوكا للغير فذلك امر آخر لا ربط له بالجهة التي نحن فيها ، فتأمل.

ص: 331

وحاصل الكلام : ان تصحيح عمل صاحب الجواهر ره لايكون الا بأمرين :

الأول : ان مثل هذا النذر لا يوجب تحليل الحرام ، بل الموجب له هو ما كان متعلقه حراما والمقام ليس كذلك.

الثاني : كفاية الرجحان حال النذر في انعقاده ، وزيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة حال النذر كانت راجحة ، لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك الحال.

وكل من الامرين محل منع.

اما الامر الأول : فقد عرفت كفاية كون المتعلق مما يوجب تفويت واجب لولا النذر في اندراجه في كونه محللا للحرام.

واما الامر الثاني : فلان المستفاد من أدلة النذر هو اعتبار ان يكون متعلق النذر حال الفعل راجحا ولا عبرة بحال النذر ، وزيارة الحسين علیه السلام حال فعلها مع كون الشخص مستطيعا يجب عليه الحج لولا النذر ليست راجحة ، ولذا لا يصح نذرها بعد أشهر الحج ، وليس المراد من الرجحان هو الرجحان الذاتي ، حتى يقال : ان زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة راجحة ذاتا ولو مع الاستطاعة ، ولذا لو ترك الحج وزار الحسين علیه السلام يوم عرفة فقد يثاب لزيارته وليس ذلك الا لمكان رجحانها الذاتي ، بل المراد من الرجحان المعتبر في متعلق النذر هو الرجحان الفعلي ، بحيث يكون مما رغب فيه شرعا ، وزيارة الحسين علیه السلام في حق المستطيع ليست مما رغب فيها ، ولذا لا يصح نذرها في حال كونه مستطيعا اتفاقا. فيظهر منه ان الرجحان الذاتي لا ينفع.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام. وعليك بالتأمل في أطراف المسألة وفي أدلة النذر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان المتزاحمين المشروطين بالقدرة الشرعية يقدم منهما ما هو الأسبق امتثالا أو خطابا ، والا فالتخيير. ولا يلاحظ في مثل هذا الأهمية والمهمية ، فإنه ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا معنى لملاحظة الأهمية ، فتأمل.

ص: 332

ولا يخفى عليك : ان التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية عند التساوي غير التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية عند التساوي ، فان التخيير في القدرة العقلية انما هو لمكان تقييد كل من الاطلاقين بعدم فعل الاخر ، من دون سقوط أصل الخطابين على أقوى المسلكين فيه كما يأتي ، ولكن في القدرة الشرعية التخيير انما هو لسقوط الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، لمكان وجود ملاك تام في البين وعدم العلم بمتعلقه ، فيكون التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية كالتخيير في المشروطين بالقدرة العقلية على المسلك الاخر الذي هو خلاف التحقيق عندنا ، وسيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى.

واما المتزاحمان المشروطان بالقدرة العقلية : فان كان أحدهما أهم قدم على الآخر سواء تقدم زمان امتثاله أو خطابه أو تأخر ، للزوم حفظ القدرة له فيكون خطابه أو خطاب ( احفظ قدرتك ) معجزا مولويا عن المهم. واما ان لم يكن في البين أهمية ومهمية فالسابق امتثاله هو المقدم ، ولا تصل النوبة إلى التخيير سواء كان من قبيل المقدمة وذيها ، أو كان من قبيل القيام في الركعة الأولى والثانية ، وسواء تنجز التكليف بالمتأخر كمثال القيام أولا ، كما إذا كان المتأخر مشروطا بشرط لم يحصل بعد ، فإنه على جميع التقادير يقدم ما هو الأقدم امتثالا ، الا إذا كان المتأخر أهم ، كما إذا دار الامر بين القيام حال الفاتحة ، أو القيام قبل الركوع ، حيث إن الثاني أهم لركنية ، فان أهمية المتأخر يوجب التعجيز المولوي عن المتقدم ، لمكان انه يتولد من أهمية خطاب ( احفظ قدرتك ) فيكون عاجزا شرعا عن المتقدم.

وأما إذا لم يكن المتأخر أهم كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية أو التصرف في ارض الغير لانقاذ مال الغير حيث إنه ليس انقاذ مال الغير أهم من التصرف في ارض الغير ، فمقتضى القاعدة تقديم قيام الركعة الأولى وان أوجب القعود في الثانية ، وترك التصرف في ارض الغير وان أوجب تلف مال الغير المتوقف عليه. والسر في ذلك : هو انه ليس له معجز مولوي عن القيام في الركعة الأولى ، أو ترك التصرف في ارض الغير ، لعدم أهمية المتأخر حتى يلزم حفظ القدرة له ، فليس

ص: 333

خطاب المتأخر شاغلا مولويا عن المتقدم. وإذا لم يكن للمتقدم شاغل مولوي كان هو المتعين ، لحصول القدرة عليه بالفعل ، فلا موجب لتركه ليحفظ قدرته للمتأخر.

وبالجملة : التخيير انما يكون في الواجبين المتساويين من حيث عدم أهمية أحدهما مع اتحاد زمان امتثالهما ، لصلاحية الاشتغال بكل منهما للتعجيز عن الآخر. فالتعجيز في العرضيين انما يكون بالاشتغال بأحدهما لا بنفس الخطاب ، وانما يكون التعجيز بالخطاب إذا كان أحدهما أهم.

واما في غير ذلك فالتعجيز انما يكون بالاشتغال ، لعدم صلاحية الخطاب للتعجيز ، لتساوي كل من الخطابين ، والتعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر انما يكون في العرضيين.

واما في الطوليين المتقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر ، فلا يتصور فيه التعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم لتقدم زمان امتثاله ، وبالاشتغال به يحصل التعجيز عن المتأخر.

فتحصل : انه لا موقع للتخيير في الطوليين ، ولعل منشأ القول بالتخيير هو توهم سقوط الخطابين في المتزاحمين ، واستكشاف العقل من تمامية الملاك في كل منهما وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما خطابا تخييريا شرعيا. واما بناء على المختار : من أن التخيير في المتزاحمين العرضيين انما هو لمكان اشتراط اطلاق كل من الخطابين بعدم فعل الآخر مع بقاء أصل الخطاب ، فلا معنى للتخيير في الطوليين ، إذ ليس المتأخر في رتبة المتقدم حتى يقيد به اطلاق خطاب المتقدم. وسيأتي بيان وجه المختار وضعف القول الأول ، وما يتفرع على القولين من الفروع التي :

منها : تعدد العقاب عند ترك الكل بناء على المختار ، ووحدته بناء على القول الاخر.

ومنها : دوران الامر بين التعيين والتخيير عند احتمال أهمية أحدهما ، بناء على سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، فيبنى : اما على البراءة ، أو الاشتغال ، على القولين في مسألة دوران الأمريين التعيين والتخيير.

واما بناء على المختار : من تقييد الاطلاقين ، فلا محيص من القول بالاشتغال

ص: 334

عند أهمية أحدهما ، للقطع بتقييد غير محتمل الأهمية والشك في تقييد محتمل الأهمية ، فيرجع الشك فيه إلى الشك في المسقط.

هذا إذا تقدم زمان امتثال أحد المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقلية. وأما إذا اتحد زمان امتثالهما كالغريقين فحينئذ تصل النوبة إلى الترجيح بالأهمية ، فأي منهما أهم يقدم ، لان الامر بالأهم يكون معجزا مولويا عن غيره. ومسألة الأهمية يختلف باختلاف ما يستفاد من الأدلة ومناسبة الحكم والموضوع ، فما كان لحفظ بيضة الاسلام يقدم على كل شيء ، وما كان من حقوق الناس يقدم على غيره ، كما أن ما كان من قبيل الدماء والفروج يقدم على غيره ، واما فيما عدا ذلك فاستفادة الأهمية يحتاج إلى ملاحظة المورد وملاحظة الأدلة.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الترجيح بالأهمية ، انما هو بعد فقد المرجحات السابقة : من البدلية واللابدلية ، والاشتراط بالقدرة الشرعية وعدم الاشتراط ، وغير ذلك من المرجحات السابقة ، وعند فقد جميع المرجحات يكون الحكم هو التخيير. هذا تمام الكلام في تزاحم الحكمين في التكليف الاستقلالية.

واما الكلام في التزاحم في باب القيود والواجبات الغيرية ، كما لو دار الامر بين ترك جزء أو شرط ، أو دار الامر بين ترك شرط أو شرط آخر ، أو جزء وجزء آخر ، فله عرض عريض ويحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المقام ، وان كان شيخنا الأستاذ قد تعرض له في هذا المقام على سبيل الاجمال ، الا انا قد اعرضنا عن بيانه لاجمال ما ذكره ( مد ظله ) في هذا المقام. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة الترتب التي هي من فروع باب التزاحم ، ووقعت معركة الآراء بين الاعلام خصوصا في زماننا الحاضر.

وينبغي أولا تنقيح ما هو محل النزاع في المقام فنقول : قد عرفت ان اقسام التزاحم خمسة.

الأول : تضاد المتعلقين ، لاجتماعهما في زمان واحد ، كالغريقين.

الثاني : قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون ان يكون بينهما مضادة ، لاختلاف زمانهما ، كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية.

ص: 335

الثالث : تلازم المتعلقين كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

الرابع : مقدمية أحد المتعلقين للآخر ، كالتصرف في ارض الغير لانجاء مؤمن.

الخامس : اتحاد المتعلقين في الوجود ، كالصلاة في الأرض المغصوبة. وعنوان النزاع في مسألة الترتب في كلمات الاعلام وان كان في خصوص القسم الأول ، وهو ما إذا كان التزاحم لأجل تضاد المتعلقين ، الا ان الظاهر عدم اختصاص مسألة الترتب بذلك ، بل تجرى في بعض الأقسام الاخر وان لم تجر في جميع الأقسام الخمسة. فالأولى جعل الكلام في باب الترتب في مسائل خمس حسب اقسام التزاحم ، وافراد كل قسم بالبحث عن جريان الترتب فيه.

المسألة الأولى :

في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيها لأجل تضاد المتعلقين ، وكان أحدهما أهم من الآخر ، بحيث يكون اطلاق الامر بالأهم على حاله ، والامر بالمهم يقيد بصورة عصيان الأهم وتركه. فيرجع النزاع في الترتب إلى أن تقييد المهم بذلك مع بقاء اطلاق الأعم هل يوجب رفع غائلة التمانع والمطاردة ، والتكليف بالمحال ، وخروج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية؟ كما هو مقالة مصحح الترتب. أو ان هذا التقييد لا يوجب رفع تلك الغائلة ، بل التكاليف بالمحال بعد على حاله ، ولا يخرج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية بذلك التقييد. بل رفع تلك الغائلة لايكون الا بسقوط الامر بالمهم رأسا كما هو مقالة منكر الترتب. والأقوى هو الأول.

وينبغي ان يعلم أنه لا يختص الترتب بخصوص الأهم والمهم ، بل يجرى في الموسع والمضيق أيضا ، وعلى كل حال ان تنقيح البحث فيه يستدعى رسم مقدمات :

المقدمة الأولى :

لا اشكال في أن الذي يوجب وقوع المكلف في مضيقة المحال واستلزام التكليف بما لا يطاق ، انما هو ايجاب الجمع بين الضدين ، إذ لولا ايجاب الجمع على

ص: 336

المكلف لم يقع المكلف في مضيقة المحال. فالمحذور كل المحذور انما ينشأ من ايجاب الجمع بين الضدين. ولا اشكال أيضا في أنه لابد من سقوط ما هو منشأ ايجاب الجمع ليس الا ، ولا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك. وهذان الأمران مما لا كلام فيهما. فالكلام كله في أن الموجب لايجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين واجتماعهما وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقق شرطهما؟ أو ان الموجب لايجاب الجمع ليس نفس الخطابين بل الموجب هو اطلاق كل من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه.

والحاصل : انه لا اشكال في أن الموجب لايجاب الجمع في غير باب الضدين انما هو اطلاق الخطابين لحالتي فعل متعلق الاخر وعدمه ، كالصلاة والصوم ، فان الموجب لايجاب الجمع بينهما انما هو اطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه ، واطلاق خطاب الصوم وشموله لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الاطلاقين ايجاب الجمع بين الصلاة والصوم على المكلف. ولو كان كل من خطاب الصوم والصلاة مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، لما كانت النتيجة ايجاب الجمع بين الصوم والصلاة. وهذا في غير الضدين واضح. فيقع الكلام في أن حال الضدين حال غيرهما في أن الموجب لايجاب الجمع بينهما هو اطلاق كل من الخطابين حتى يكون هو الساقط ليس الا؟ أو ان الموجب لذلك هو فعلية الخطأ بين مع وحدة زمان امتثالهما حتى يكون الساقط أصل الخطابين. وعلى ذلك يبتنى المسلكان في التخيير في المتزاحمين المتساويين من حيث المرجحات ، من حيث كون التخيير عقليا ، أو شرعيا ، فإنه لو كان المقتضى لايجاب الجمع هو اطلاق الخطابين فالساقط هو الاطلاق ليس الا مع بقاء أصل الخطابين ، ويكون التخيير لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة على متعلقة ، فيكون كل من الخطابين بالضدين مشروطا بترك الآخر ، لحصول القدرة عليه عند ترك الآخر وينتج التخيير عقلا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بان المقتضى لايجاب الجمع هو أصل الخطابين ووحدة زمان امتثالها ، فإنه ح لابد من سقوط كلا الخطابين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، ولمكان تمامية الملاك في كل منهما يستكشف

ص: 337

العقل خطابا شرعيا تخيريا بأحدهما ، ويكون كسائر التخييرات الشرعية كخصال الكفارات ، غايته ان التخيير الشرعي في الخصال يكون بجعل ابتدائي ، وفي المقام يكون بجعل طارئ. ويكون وزان التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية وزانه في المشروطين بالقدرة الشرعية ، حيث تقدم ان التخيير فيهما يكون شرعيا.

وعلى ذلك أيضا يبتنى وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا ، فإنه بناء على سقوط الخطابين لايكون هناك الا عقاب واحد ، لان الواجب شرعا ح هو أحدهما. واما بناء على اشتراط الاطلاقين فيتعدد العقاب ، لحصول القدرة على كل منهما ، فيتحقق شرط وجوب كل منهما ، فيعاقب على ترك كل منهما. وربما يترتب على ذلك ثمرات اخر قد تقدمت الإشارة إلى بعضها.

فتحصل : ان الذي ينبغي ان يقع محل النفي والاثبات ، هو ان الموجب لايجاب الجمع ما هو؟ هل اطلاق الخطابين؟ أو فعليتهما؟ وعلى الأول يبتنى صحة الترتب ، وعلى الثاني يبتنى بطلانه.

ومن الغريب : ما صدر عن الشيخ ( قده ) حيث إنه في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ينكر الترتب غاية الانكار (1) ولكن في مبحث التعادل والتراجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي وفقد المرجح ، حيث قال في ذلك المقام ، في ذيل قوله : « فنقول وباللّه المستعان قد يقال بل قيل : ان الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما » ما لفظه : « لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة ، والمفروض ان كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع ايجاد الآخر ، فكل منهما مع ترك الاخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ، ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الاخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة. وهذا مما يحكم به بديهة العقل ، كما في كل واجبين .

ص: 338


1- راجع تفصيل ما افاده الشيخ قدس سره في المقام في مباحث مقدمة الواجب من مطارح الأنظار ، الهداية التي تكلم فيها عن صحة اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرم مقدم عليه وعدمها ، ص 54 إلى 57.

اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله الا تعيين الاخر عليه كذلك » (1) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.

وهذا كما ترى صريح في أن التخيير في الواجبين المتزاحمين انما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه وتحقق القدرة في حال ترك الآخر ، فيجب كل منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتب من الجانبين مع أنه ( قده ) أنكره من جانب واحد وليت شعري ان ضم ترتب إلى ترتب آخر كيف يوجب تصحيحه.

وبالجملة : هذه المناقضة من الشيخ غريبة. وعلى كل حال ، فقد تحصل من المقدمة الأولى : ان العمدة هو اثبات ما يوجب ايجاب الجمع بين الضدين على المكلف ، حتى يكون هو الساقط.

المقدمة الثانية :

الواجب المشروط بعد تحقق شرطه حاله حاله قبل تحقق شرطه ، من حيث إنه بعد على صفة الاشتراط ، ولا يتصف بصفة الاطلاق ، ولا ينقلب عما هو عليه. وذلك لما عرفت في الواجب المشروط : من أن الشرط فيه يرجع إلى الموضوع ، فيكون الواجب المشروط عبارة عن الحكم المجعول على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية. وليست الاحكام من قبيل القضايا الشخصية ، بل هي احكام كلية مجعولة أزلية على موضوعاتها المقدرة ، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عما هو عليه ، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا ، ولا الحكم عن كونه مجعولا على موضوعه. ووجود الشرط في الواجب المشروط عبارة عن تحقق موضوعه خارجا ، وبتحقق الموضوع خارجا لا ينقلب الواجب المجعول الأزلي عن الكيفية التي جعل عليها ، ولا يتصف بصفة الاطلاق بعد ما كان مشروطا ، لان اتصافه بذلك يلزم خروج ما فرض كونه موضوعا عن كونه موضوعا. فوجوب الحج انما أنشأ أزلا مشروطا بوجود موضوعه الذي هو العاقل البالغ المستطيع ، وهذا لا يفرق الحال فيه ، بين تحقق الاستطاعة لزيد أو عدم تحققها ، إذ ليس لزيد حكم يخصه حتى يقال : انه

ص: 339


1- فرائد الأصول ( الرسائل ) ، مباحث التعادل والتراجيح ، المقام الأول في المتكافئين. ص 416.

لا معنى لكون وجوب الحج بالنسبة إلى زيد المستطيع مشروطا بالاستطاعة ، بل لابد من أن يكون الخطاب بالنسبة إلى زيد ح مط. وهو كذلك لو كانت الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، وعليه يكون الشرط من علل التشريع لا من قيود الموضوع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في الواجب المشروط والمعلق ، وتقدم بطلان ذلك وان الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية.

فما في بعض الكلمات : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط مبنى على ذلك المبنى الفاسد : من كون الأحكام الشرعية قضايا جزئية. واما بناء على ما هو الحق عندنا ، فالواجب المشروط دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه وفعليته.

وبعبارة أخرى : الشرط دائما يكون من وسائط العروض ، لا وسائط الثبوت. وبذلك ظهر فساد ما في بعض الألسن : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط. فالامر بالمهم المشروط بعصيان الامر بالأهم دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه. نعم يصير فعليا عنده. وعلى ذلك تبتنى طولية الامر بالمهم بالنسبة إلى الامر بالأهم وخروجه عن العرضية ، كما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى. والمحقق الخراساني ( قده ) مع اعترافه (1) برجوع الشرط إلى الموضوع الذي عليه يبتنى الواجب المشروط ، وأنه يكون قسيما للواجب المطلق - كما أوضحناه (2) في محله - ذهب في جملة من الموارد إلى كون الشرط من وسائط الثبوت ، وانه من قبيل العلل للتشريع كما يظهر من ارجاعه الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي - على ما تقدم تفصيله - (3) وكما يظهر منه في المقام (4) حيث جعل الامر بالمهم بعد تحقق 3

ص: 340


1- راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ص 152 -
2- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الامر الأول ص 170
3- الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية ص 276 وراجع الكفاية ، الجلد الأول. مباحث مقدمة الواجب. منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر.
4- كفاية الأصول. الجلد الأول ، الامر الرابع من الأمور التي رسمها في مقدمة بحث الضد ، ص 213

شرطه في عرض الامر بالأهم. وذلك لا يستقم الا بعد القول بصيرورة الواجب المشروط مطلقا بعد تحقق شرطه. ويظهر منه ذلك أيضا في موارد أخر لعله نشير إليها في محلها.

المقدمة الثالثة

قسموا الواجب إلى موسع ومضيق وعرفوا الأول بما إذا كان الزمان المضروب لفعل الواجب أوسع من الفعل ، وبعبارة أخرى : ما كان له افراد وابدال طولية بحسب الزمان. ويقابله المضيق وهو ما إذا كان الزمان المضروب للفعل بقدره ، أي ما لايكون له بدل طولي بحسب الزمان.

ثم إن المضيق على قسمين : قسم اخذ فيه الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال الانقضاء ، سواء كان ذلك الشيء من مقولة الزمان ، أو من مقولة الزماني ، أي يكون انقضاء ذلك الشيء وسبقه شرطا للتكليف. ولعل باب الحدود والديات من هذا القبيل ، بناء على أن يكون التكليف بالحد مضيقا ، فان الشرط لوجوب الحد هو انقضاء القتل من القاتل وتحققه منه ، ولا يتوجه التكليف بالحد حال تلبس القاتل بالقتل ، بل يعتبر انقضاء القتل منه ولو آنا ما. ولو ناقشت في المثال فهو غير عزيز ، مع أن مع المقصود في المقام مجرد تصور اخذ الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال انقضائه ، وجد له في الشريعة مثال أو لم يوجد.

ويمكن تصوير ذلك في الواجب الموسع أيضا ، بان يؤخذ الشيء شرطا للتكليف بالموسع بلحاظ حال الانقضاء ، وان لم نعثر على مثال له ، أو قلنا ان الحد من الواجبات الموسعة. والمقصود انه لا اختصاص لما قلناه بالمضيق.

وقسم اخذ الشيء فيه شرطا بلحاظ حال وجوده ، ولا يعتبر فيه الانقضاء ، فيثبت التكليف مقارنا لوجود الشرط ، ولا يتوقف ثبوته على انقضاء الشرط ، بل يتحد زمان وجود الشرط وزمان وجود التكليف وزمان امتثاله ويجتمع الجميع في آن واحد حقيقي. وأغلب الواجبات المضيقة في الشريعة من هذا القبيل ، كما في باب الصوم ، حيث إن الفجر شرط للتكليف بالصوم ، ومع ذلك يثبت التكليف مقارنا لطلوع الفجر ، كما أن زمان امتثال التكليف بالصوم أيضا يكون من أول

ص: 341

الطلوع ، لان الصوم هو الامساك من أول الطلوع ، ففي الآن الأول الحقيقي من الطلوع يتحقق شرط التكليف ونفس التكليف وامتثاله ، بمعنى ان ظرف أمثاله أيضا يكون في ذلك الآن وان لم يتحقق الامتثال خارجا وكان المكلف عاصيا ، الا ان اقتضاء التكليف بالصوم للامتثال انما يكون من أول الفجر ، ففي أول الطلوع تجتمع الأمور الثلاثة : شرط التكليف ، ونفس التكليف ، وزمان الامتثال. ولا يتوقف التكليف على سبق تحقق شرطه آنا ما. كما أنه لا يتوقف الامتثال على سبق التكليف آنا ما ، بل يستحيل ذلك.

اما استحالة تقدم زمان شرط التكليف على نفس التكليف ، فلما عرفت من رجوع كل شرط إلى الموضوع. ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى معلولها ، أي من سنخ العلة والمعلول ، وان لم يكن من العلة والمعلول حقيقة ، الا ان الإرادة التشريعية تعلقت بترتب الاحكام على موضوعاتها نحو تعلق الإرادة التكوينية بترتب المعلولات على عللها. فيستحيل تخلف الحكم عن موضوعه ، كاستحالة تخلف المعلول عن علته ، لان مع التخلف يلزم : اما عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا وهو خلف ، واما تأخر المعلول عن علته وهو محال. ولذا قلنا بامتناع كل من الشرط المتقدم والمتأخر ، وانه يعتبر في شرط المتكليف ان يكون مقارنا له زمانا ، وان تأخر عنه رتبة ، وذلك لان الآن المتخلف اما ان يكون له دخل في ثبوت الحكم ، واما ان لايكون ، فان كان له دخل فيلزم ان لايكون ما فرض كونه تمام الموضوع أو الجزء الأخير منه كذلك ، بل كان انقضاء ذلك الآن هو الجزء الأخير من الموضوع. وان لم يكن لذلك الآن دخل يلزم تخلف المترتب عما رتب عليه وتأخر المعلول عن علته ، وذلك واضح.

واما استحالة تأخر زمان الامتثال عن التكليف ، فلان التكليف هو الذي يقتضى الامتثال ويكون هو المحرك ، فيكون نسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح ، وغير ذلك من العلل والمعلولات التكوينية.

نعم : الفرق بين المقام ، والعلل التكوينية ، هو انه لا يتوسط في سلسلة العلل التكوينية العلم ولا الإرادة بل يوجد المعلول بعد علته التكوينية من دون دخل

ص: 342

للعلم والإرادة في ذلك. واما في المقام فيتوسط بين الامتثال والتكليف علم الفاعل بالتكليف وارادته الامتثال ، إذ مع عدم العلم بالتكليف ، أو عدم إرادة الامتثال ، يستحيل تحقق الامتثال. الا انه على كل تقدير لا يخرج التكليف عن كونه واقعا في سلسلة العلل ، غايته ان العلم والإرادة أيضا واقعة في سلسلتها ، ولا يتفاوت في استحالة تخلف المعلول عن علته زمانا بين قلة ما يقع في سلسلة العلة وكثرته. فالامتثال المعلول للتكليف والعلم والإرادة يستحيل ان يتخلف عن ذلك زمانا ، وانما التخلف في الرتبة فقط. فلا يعقل سبق زمان التكليف على زمان الامتثال. وقد تقدم منا في الواجب المعلق امتناع فعلية التكليف قبل زمان امتثاله ، لان الزمان المتخلل ، اما ان يكون لانقضائه دخل في فعلية التكليف فيستحيل فعلية التكليف قبل انقضائه ، واما ان لايكون له دخل فيستحيل تأخر الامتثال عنه أي اقتضائه للامتثال.

وبالجملة : مقتضى البرهان ، هو ان لا يتخلف التكليف عن الشرط ، ولا الامتثال عن التكليف زمانا ، بل يتقارنان في الزمان ، وان كان بينهما تقدم وتأخر رتبي ، هذا.

ولكن حكى عن بعض الاعلام : انه لا بد في هذا القسم من المضيق ( وهو ما إذا اتحد زمان وجود الشرط والتكليف والامتثال ، كالصوم وكصلاة الآيات ) من تقدير سبق التكليف آنا ما قبل زمان الامتثال ، ليتمكن المكلف من الامتثال ، ولا يمكن ان يقارن التكليف لزمان الامتثال.

بل يظهر (1) من المحقق الخراساني في الواجب المعلق : انه يعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات فراجع.

ص: 343


1- الكفاية المجلد الأول ص 163 ، قوله : « مع أنه لا يكاد يتعلق البعث الا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة ان البعث انما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بان يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا الا بعد البعث بزمان ، فلا محاله يكون البعث نحو امر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ».

وقد يوجه ذلك : بأنه لولا السبق يلزم : اما التكليف بالحاصل ، واما التكليف بالمتعذر ، لأنه ان كان المكلف في الآن الأول الحقيقي من الفجر ممسكا فتوجه التكليف إليه في ذلك يكون من الطلب الحاصل ، وان لم يكن ممسكا فيتعذر عليه التكليف بالامساك في آن الطلوع ، فلا بد من سبق التكليف على الطلوع آنا ما ليتمكن المكلف من الامساك في أول الفجر منبعثا عن التكليف السابق ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا :

فلانه لا موجب لهذا التقدير ، لان توقف الانبعاث على البعث ليس بأزيد من توقف المعلول على علته ، فكما ان وجود المعلول يكون مستندا إلى علته المقارنة له في الوجود ويكون صادرا عنها ، فكذلك الانبعاث يكون مستندا إلى البعث المقارن له في الوجود ويكون حاصلا بذلك البعث.

ودعوى انه يكون من تحصيل الحاصل ممنوعة ، فإنه لو كان الانبعاث حاصلا بنفسه لا عن البعث كان من تحصيل الحاصل ، وليس الامر كذلك ، بل يكون حاصلا عن البعث ، والا فيمكن تقريب ذلك بالنسبة إلى العلل والمعلولات التكوينية أيضا ، بان يقال : ان المعلول حاصل في زمان علته فتكون العلة علة لما هو حاصل. وكما يجاب عن ذلك بان المعلول حاصل من قبل علته المقارنة له في الوجود المتقدمة عليه في الرتبة ، كذلك يقال في المقام : ان الانبعاث حاصل من قبل البعث المقارن له في الوجود المتقدم عليه رتبة. فلا يتوقف الانبعاث على سبق البعث زمانا.

نعم : يتوقف على سبق العلم بالبعث في زمانه ، فإنه لو لم يكن عالما بتحقق البعث في أول طلوع الفجر لم يكن يصدر عنه الانبعاث والامساك من أول الطلوع. ومن هنا قلنا بوجوب تحصيل العلم بالأحكام قبل أوقاتها لمن لا يتمكن من تحصيله في وقتها ، كالمضيقات مط ، وكالموسعات في بعض الأحيان.

والحاصل : ان الذي يتوقف عليه الانبعاث في أول الفجر ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر. وأظن أن الذي أوجب القول بتقدير التكليف آنا ما قبل الفجر في هذا القسم من المضيقات ، هو ملاحظة

ص: 344

عدم امكان تحقق الانبعاث من أول الفجر الا بسبق التكليف عليه. ولكن هذا خلط بين سبق التكليف وبين سبق العلم به. والذي يتوقف عليه الانبعاث هو سبق العلم ، لا سبق التكليف ، والا فسبق التكليف لا يوجب تحقق الانبعاث من دون سبق العلم ، كما لا يخفى. فتقدير سبق التكليف آنا ما يكون بلا موجب.

واما ثانيا :

فلان سبق التكليف لا اثر له ، ويكون لغوا إذ المكلف انما ينبعث عن البعث المقارن لا عن البعث السابق ، لان البعث السابق ، اما ان يكون مستمرا إلى زمان الانبعاث ، واما ان لا يكون. فان لم يكن مستمرا لا يعقل الامتثال والانبعاث ، إذ لا يمكن امتثال تكليف معدوم ، وان كان مستمرا فالذي يوجب الانبعاث هو استمراره وانحفاظه إلى زمان الانبعاث ، فوجوده السابق لغو والانبعاث دائما يكون عن البعث المقارن.

واما ثالثا :

فلان سبق التكليف ولو آنا ما لا يعقل ومن المستحيل ، كما تقدمت الإشارة إليه في المقام ، وتقدم تفصيله في الواجب المعلق وعليه بنينا امتناع الواجب المعلق ، فراجع. (1).

واما رابعا :

فلانه لا اختصاص لهذا التقدير بهذا القسم من المضيقات ، بل يلزم القول بسبق التكليف حتى في الموسعات ، لوضوح صحة الصلاة المقارنة لأول الزوال حقيقة ، بحيث شرع فيها في الان الأول الحقيقي من الزوال ، فإنه وان لم يلزم ذلك ، الا انه لا اشكال في الصحة. ولو فعل ذلك فيلزم تقدير سبق التكليف بالصلاة على الزوال ليكون الامتثال عن التكليف السابق ، مع أن الظاهر أن القائل بالتقدير لم يلتزم به في الموسعات ، فيطالب حينئذ بالفرق.

ص: 345


1- راجع مباحث مقدمة الواجب ، ما افاده المصنف قدس سره في امتناع الواجب المعلق. ص 186
فتحصل من جميع ما ذكرنا :

انه لا يتوقف التكليف بالمضيقات على سبقه على زمان امتثالها ، بل يستحيل ذلك ، وانه لا بد من اجتماع التكليف والشرط والامتثال في زمان واحد حقيقي ، ويكون التقدم والتأخر بالرتبة فقط.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : دفع بعض الاشكالات التي أشكلوها على الخطاب الترتبي.

منها :

انه يتوقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث أبطلنا كلا منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي.

وهذا الاشكال انما يكون من القائل بالتقدير ، وانه يعتبر سبق التكليف على زمان الامتثال في الواجبات المضيقة. فالاشكال انما يرد على ذلك المبنى الفاسد. ووجه الابتناء : هو انه لما كان الكلام في الخطاب الترتبي واقعا في المتزاحمين المضيقين الذين كان أحدهما أهم ، فكان كل من خطاب الأهم والمهم مضيقا ، ولما كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم ، وكان زمان عصيانه هو زمان امتثال المهم ، كما هو لازم التضييق ، فلا يمكن ان يكون الخطاب بالمهم مقارنا لزمان عصيان الأهم ، لأنه زمان امتثاله. فلا بد ان يتقدم الخطاب بالمهم آنا ما على عصيان الأهم ، لما تقدم من اعتبار سبق التكليف في المضيقات ، فيلزم كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، لأنه باعتبار سبق زمان التكليف على زمان الامتثال يكون من الواجب المعلق ، إذ لا نعني بالواجب المعلق الا ما يكون ظرف الامتثال فيه متأخرا عن ظرف التكليف ، ويكون الامتثال معلقا على مضى ذلك الآن الذي قدر سبق التكليف عليه. وباعتبار ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وقد سبقه يكون من الشرط المتأخر ، فالخطاب الترتبي يتوقف على كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر هذا. ولكن لا يكاد ينقضي تعجبي من هذا الاشكال.

اما أولا :

فلا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، بل يجرى في جميع

ص: 346

المضيقات ، فان الصوم مثلا بناء على سبق التكليف به على الفجر يلزم أيضا كونه من الواجب المعلق والشرط المتأخر. فباعتبار سبق التكليف على زمان الامتثال يلزم الواجب المعلق. وباعتبار اشتراط التكليف بالصوم بالفجر يلزم الشرط المتأخر ، فهذا الاشكال بناء على التقدير يرد في جميع المضيقات ، بل في الموسعات أيضا ، بناء على ما تقدم من أن التقدير في المضيقات يلزمه التقدير في الموسعات أيضا ، ولا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، فما يجاب به عن الاشكال في سائر المقامات يجاب به أيضا في الخطاب الترتبي.

واما ثانيا :

فلما عرفت من أن الاشكال مبنى على ذلك المبنى الفاسد ، وهو تقدير سبق التكليف ، وقد أوضحنا فساده. فلا اشكال في المقام ، كما لا اشكال في سائر المضيقات ، فضلا عن الموسعات.

ومنها :

ان خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لم يلزم محذور طلب الجمع ، لان امتثال خطاب المهم اعتبر في زمان خلو المكلف عن الأهم ، فلا يعقل اقتضائه لطلب الجمع. واما ان اخذ الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب - أي كون المكلف ممن يعصى - فيلزم محذور طلب الجمع ، لان خطاب المهم يكون فعليا قبل عصيان الأهم إذا كان ممن يعصى بعد ذلك ، فلم يعتبر في ظرف امتثاله خلو المكلف عن الأهم ، بل يلزم اجتماع كل من الأهم والمهم في زمان واحد ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعفه ، لما فيه :

أولا :

انه لا موجب لجعل الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب الا بناء على اعتبار سبق التكليف آنا ما مع عدم القول بالشرط المتأخر ، فيستقيم ح ان يكون الشرط هو الوصف الانتزاعي ، لأن المفروض ان خطاب المهم لا بد ان يكون قبل زمان امتثاله وهو زمان عصيان الأهم ، ولا يمكن ح ان يكون نفس العصيان شرطا ، لاستلزامه الشرط المتأخر ، فلا بد ان يكون الشرط هو العنوان الانتزاعي. الا انه قد

ص: 347

تقدم فساد المبنى ، وان تقدير سبق التكليف بلا موجب بل مستحيل. وحينئذ لا يتم جعل الشرط هو العنوان المنتزع ، بل يكون الشرط هو نفس العصيان ، وقد اعترف انه بناء على ذلك لا يلزم طلب الجمع.

وثانيا :

لو فرض ان الشرط هو الوصف الانتزاعي فلا يلزم أيضا طلب الجمع ، لان الوصف انما انتزع من العصيان الذي هو زمان خلو المكلف عن الأهم ، فمعنى كونك ممن تعصى : كونك ممن تخلو عن فعل الأهم. ومع ذلك كيف يلزم طلب الجمع؟ ومجرد اجتماع الخطابين في زمان وفعليتهما بتحقق شرطهما لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل إن أساس الترتب انما هو على اجتماع الخطابين في زمان ، فغاية ما يلزم من اخذ الشرط الوصف الانتزاعي هو اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم في زمان واحد ، وهذا مما لا محيص عنه في الخطاب الترتبي. بل لو اخذ نفس العصيان شرطا فلا بد ان يؤخذ على وجه يجتمع فيه كل من خطاب الأهم والمهم ، وذلك بان يكون الشرط هو التلبس بالعصيان الذي يكون خطاب الأهم في حاله محفوظا ، لا تحقق العصيان بمعنى الانقضاء والمضي الذي يكون خطاب الأهم عنده ساقطا ، لسقوط كل خطاب بعصيانه.

وبالجملة : لا فرق بين ان يكون الشرط هو نفس العصيان أو الوصف الانتزاعي ، في اجتماع كل من الخطابين في زمان واحد ، وفي عدم اقتضائهما لطلب الجمع بعد ما اعتبر في خطاب المهم خلو المكلف عن فعل الأهم ، سواء كان الشرط نفس ذلك ، أو كان هو منشأ انتزاع ما هو الشرط كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

المقدمة الرابعة :

التي هي أهم المقدمات ، بل عليها يبتنى أساس الترتب ، هي ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير والانقسامات يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

الأول :

ما كان انحفاظه بالاطلاق أو التقييد اللحاظي ، وذلك بالنسبة إلى كل

ص: 348

تقدير وانقسام يمكن لحاظه عند الخطاب ، وذلك انما يكون في التقادير والانقسامات المتصورة في المتعلق مع قطع النظر عن ورود الخطاب ، بحيث أمكن وقوع المتعلق مقترنا بتلك التقادير وان لم يتعلق به خطاب أصلا ، كقيام زيد وقعوده ، وطيران الغراب وعدمه ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالاطلاق اللحاظي ، وكالوقت ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالتقييد اللحاظي ، لمكان امكان ايقاع الصلاة عند قيام زيد وقعوده ، وفي الوقت وخارجه ، ولو لم يتعلق بها امر ، فيمكن لحاظ هذه التقادير عند الخطاب والامر بالصلاة ، فلو لاحظ تقديرا خاصا كان ذلك تقييدا لحاظيا ، كما لاحظ الوقت عند الامر بالصلاة. وان لم يلاحظ تقديرا خاصا ، بل ساوى في امره لكلتا حالتي وجود التقدير وعدمه يكون ذلك اطلاقا لحاظيا ، كما ساوى في امره بالصلاة في كلتا حالتي قيام زيد وقعوده.

الثاني :

ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق أو التقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير وانقسام لاحق للمتعلق بعد تعلق الخطاب به ، بحيث لايكون لذلك التقدير وجود الا بعد ورود الخطاب كتقدير العلم والجهل بالخطاب ، حيث إن تقدير العلم والجهل بالأحكام لايكون الا بعد ورود الخطاب ، لأنه بعد ورود الخطاب ، يتحقق تقدير العلم والجهل بذلك الخطاب ، فلا وجود لهذا التقدير قبل الخطاب. فلا يمكن فيه الاطلاق أو التقييد اللحاظي ، بل لابد اما من نتيجة الاطلاق ، كما في تقديري العلم والجهل ، حيث يكون الخطاب محفوظا في كلا التقديرين بنتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد كما في العلم والجهل أيضا بالنسبة إلى خصوص مسئلتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، لان الاهمال الثبوتي في مثل هذه التقادير لا يعقل ، لان الملاك والمصلحة الباعثة للامر بالصلاة اما : ان يكون محفوظا في كلا الحالين ، أي حالة وجود التقدير وعدمه ، فلابد من نتيجة الاطلاق كما في العلم والجهل بعد قيام الأدلة والضرورة على اشتراك العالم والجاهل في الاحكام الا في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات ، واما : ان يكون الملاك محفوظا في تقدير خاص دون عدمه فلا بد من نتيجة التقييد.

ص: 349

الثالث :

ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد. وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب ، وهو الفعل أو الترك الذي يطالب به أو بنقيضه ، حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هوية ذاته ، لا باطلاقه لحاظا أو نتيجة ، إذ لا يعقل الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري فعل متعلق الخطاب وتركه ، بل يؤخذ المتعلق معرى عن حيثية فعله وتركه ويلاحظ نفس ذاته ، فيحمل عليه بالفعل ان كان الخطاب وجوبيا ، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا. فيكون البعث نحو فعل المتعلق أو تركه نظير حمل الوجود أو العدم على شيء ، حيث إنه يؤخذ ذلك الشيء معرى عن الوجود والعدم ، فيحمل عليه الوجود تارة ، والعدم أخرى ، ويقال مثلا زيد موجود أو معدوم. ولا يعقل تقييد زيد بالوجود في حمل الوجود عليه ، ولا تقييده بالعدم ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى الوجود والعدم ، للزوم حمل الشيء على نفسه في الأول ، واجتماع النقيضيين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث.

وكذا يقال في المقام : انه لا يمكن تقييد المتعلق بالفعل في مقام البعث إليه ، ولا تقييده بالترك ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى تقديري الفعل والترك ، لاستلزامه طلب الحاصل في الأول ، وطلب الجمع بين النقيضين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث ، فلا بد من لحاظ ذات المتعلق مهملا معرى عن كلا تقديري الفعل والترك ، فيخاطب به بعثا أو زجرا. وليس فيه تقييد ولا اطلاق لا لحاظا ولا نتيجة ، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا في كلتا حالتي الفعل والترك ما لم تتحقق الإطاعة أو العصيان ، فإنه عند ذلك يسقط الخطاب. وانحفاظ الخطاب في كلا التقديرين انما يكون باقتضاء ذاته ، لأنه بنفسه يقتضى فعل المتعلق وطرد تركه ، فيكون وجود الخطاب في الحالين لمكان نفسه ولأنه خطاب بالفعل أو الترك. وبذلك يظهر لك : ان الفرق بين هذا التقدير الذي يكون الخطاب محفوظا عنده ، وبين سائر التقادير التي يكون الخطاب محفوظا عندها أيضا من وجهين :

الأول : ان نسبة تلك التقادير إلى الخطاب نسبة العلة إلى معلولها ، بمعنى ان

ص: 350

تلك التقادير تكون علة أو ملحقة بالعلة بالنسبة إلى الخطاب ، ويكون الخطاب بمنزلة المعلول لها. فان اخذ تلك التقادير قيدا وشرطا للخطاب ، فلمكان رجوع الشرط إلى الموضوع وكون الموضوع علة لترتب الخطاب عليه يكون ذلك التقدير علة للخطاب. وان أطلق الخطاب بالنسبة إلى تقدير فذلك التقدير وان لم يكن علة للخطاب - لعدم اخذ ذلك التقدير شرطا - الا انه يجرى مجرى العلة من حيث إن الاطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فهما في مرتبة واحدة ، فإذا كان التقييد علة للخطاب ، فالاطلاق الواقع في رتبته يجرى مجرى العلة من حيث الرتبة ، فتأمل.

وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلق وتركه ، فان الامر يكون فيه بالعكس ، حيث إن التقدير معلول الخطاب والخطاب يكون علة له ، لان الخطاب يقتضى فعل متعلقه وطرد تركه ، فيكون تقديرا الفعل والترك معلولي الخطاب بالنسبة إلى الفعل من حيث الوجود ، وبالنسبة إلى الترك لمكان اقتضائه عدم الترك.

الثاني : ان الخطاب بالنسبة إلى سائر التقادير يكون متعرضا ومتكفلا لبيان امر آخر غير تلك التقادير. غايته انه تعرض لذلك الامر عند وجود تلك التقادير ، فان خطاب الحج يكون متعرضا لفعل الحج من الاحرام والطواف وغير ذلك عند وجود الاستطاعة ، وليس لخطاب الحج تعرض لتقدير الاستطاعة. وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك فان الخطاب بنفسه متكفل لبيان هذا التقدير ومتعرض لحاله ، حيث إنه يقتضى فعل المتعلق وعدم تركه ، وليس للخطاب تعرض لشيء آخر سوى هذا التقدير ، بخلاف سائر التقادير فان الخطاب فيها متعرض لشيء آخر غير تلك التقادير.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : انه يترتب على ما ذكرناه ( من الفرق بين تقديري الفعل أو الترك المطالب به بالخطاب أو بنقيضه وبين سائر التقادير ) طولية الخطابين ، وخروجها من العرضية. وذلك لان خطاب الأهم حينئذ يكون متعرضا لموضوع خطاب المهم وطاردا ومقتضيا لهدمه ورفعه في عالم التشريع ، لان موضوع خطاب المهم هو عصيان خطاب الأهم وترك امتثاله ، وخطاب الأهم دائما يقتضى طرد الترك ورفع

ص: 351

عصيانه ، لان البعث على الفعل يكون زجرا عن الترك ، فخطاب الأهم يقتضى طرد موضوع المهم ورفعه. واما خطاب المهم فهو انما يكون متعرضا لحال متعلقه ولا تعرض له لحال موضوعه ، لان الحكم لا يتكفل حال موضوعه من وضع أو رفع ، بل هو حكم على تقدير وجوده ومشروط به ، ولا يخرج عن هذا الاشتراط إلى الاطلاق ولو بعد تحقق موضوعه ، لما عرفت : من أن الواجب المشروط لا يصير مط بعد تحقق شرطه. فلسان خطاب المهم هو : انه ان وجد موضوعي وتحقق خارجا فيجب فعل متعلقي. ولسان خطاب الأهم هو : انه ينبغي ان لا يوجد موضوع خطاب المهم وان لا يتحقق. وهذان اللسانان كما ترى ليس بينهما مطاردة ومخالفة ، وليسا في رتبة واحدة ، بل خطاب الأهم يكون مقدما في الرتبة على خطاب المهم ، لان خطاب الأهم واقع في الرتبة السابقة على موضوع خطاب المهم السابق عليه ، فهو متقدم عليه برتبتين أو ثلاث ، ولا يمكن ان ينزل خطاب الأهم عن درجته ويساوي خطاب المهم في الرتبة ، وكذا لا يمكن ان يصعد خطاب المهم من درجته ويساوي خطاب الأهم ، بل كل منهما يقتضى مرتبة لا يقتضيها الآخر. ومع هذا الاختلاف في الرتبة كيف يعقل ان يكونا في عرض واحد؟.

فاتضح من المقدمة الثانية والمقدمة الرابعة ، طولية الخطابين المترتبين وخروجهما عن العرضية.

بقى في المقام : بيان ان هذين الخطابين المترتبين لا يقتضيان ايجاب الجمع ، فلا يبق محذور في الخطاب الترتبي. والمقدمة الخامسة التي سنذكرها هي المتكفلة لبيان عدم اقتضائهما ايجاب الجمع. ففي الحقيقة المقدمات التي يتوقف عليها صحة الخطاب الترتبي هي ثلث : المقدمة الثانية ، والمقدمة الرابعة ، والمقدمة الخامسة. واما المقدمة الأولى ، فهي لبيان تحرير محل النزاع. والمقدمة الثالثة ، لبيان دفع بعض ما تخيل : من توقف الخطاب الترتبي عليه ، من كونه موقوفا على الواجب المعلق والشرط المتأخر ، على ما تقدم تفصيله.

المقدمة الخامسة :

تنقسم موضوعات التكاليف وشرائطها ، إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع

ص: 352

والرفع التشريعي ، والى ما يمكن ان تناله ذلك.

فالأول : كالعقل ، والبلوغ ، والوقت ، وغير ذلك من الأمور التكوينية الخارجية التي لا يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع.

والثاني : كالاستطاعة في الحج ، وفاضل المؤنة في الخمس والزكاة ، فإنها وان كانت من الأمور التكوينية أيضا ، الا انها قابلة للوضع والرفع التشريعي ، فإنه يمكن رفع الاستطاعة بخطاب شرعي كوجوب أداء الدين ، حيث إنه بذلك يخرج عن كونه مستطيعا. وكذا الحال بالنسبة إلى فاضل المؤنة.

ثم إن الموضوع والشرط ، اما ان يكون لحدوثه دخل في ترتب الحكم وبقائه ، من دون ان يكون لبقائه دخل في بقاء الحكم ، كالسفر والحضر ، بناء على أن العبرة بحال الوجوب لا الأداء ، فان ثبوت السفر أو الحضر في أول الوقت يكون له دخل في وجوب القصر أو التمام وان زال السفر أو الحضر عنه ، فان الحكم يبقى وان زالا. وهذا القسم من الموضوع انما يكون قابلا للدفع فقط لا للرفع ، إذ ليس له بقاء حتى يكون قابلا للرفع.

واما ان يكون لبقائه أيضا دخل في بقاء الحكم ، بحيث يدور بقاء الحكم مدار بقاء الموضوع ، كما في المثال لو قلنا بان العبرة بحال الأداء ، فح يكون بقاء وجوب القصر لمن كان مسافرا في أول الوقت مشروطا ببقاء السفر إلى زمان الأداء ، ويسقط وجوب القصر بسقوط السفر.

واما ان يكون لبقائه في مقدار من الزمان دخل في بقاء الحكم ، كاشتراط وجوب الصوم بالحضر إلى الزوال فيكون بقاء الحضر إلى الزوال شرطا لبقاء وجوب الصوم إلى الغروب. وهذان القسمان قابلان لكل من الدفع والرفع ، كما لا يخفى.

وعلى كل حال : الموضوع القابل للوضع والرفع التشريعي ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع الاختياري أيضا بحيث يكون اختيار الموضوع بيد المكلف له ان يرفعه ليرتفع عنه التكليف ، واما ان لايكون قابلا للوضع والرفع الاختياريين ، بل كان أمرا وضعه ورفعه بيد الشارع فقط ، واما ان يكون امر رفعه بيد المكلف واختياره فقط وليس بيد الشارع.

ص: 353

فالأول : كالسفر فإنه للمكلف رفعه باختيار الحضر ، فيرتفع عنه وجوب القصر. وللشارع أيضا رفعه بايجاب الإقامة عليه فلا يجب عليه القصر أيضا.

والثاني : كالاستطاعة فإنه ليس للمكلف رفعها وتفويتها بعد حدوثها ، فلو فوتها لم يسقط عنه وجوب الحج ، بل يستقر في ذمته ، ولكن للشارع رفعها بخطاب مثل وجوب أداء الدين مثلا فيسقط عنه وجوب الحج.

والثالث : لم نعثر له على مثال.

ثم إن الخطاب الرافع لموضوع خطاب آخر ، اما ان يكون بنفس وجوده رافعا ، كالتكاليف المالية التي توجب ان تكون متعلقها من المؤن كخطاب أداء الدين إذا كان من عام الربح لا من العام الماضي ( وأما إذا كان من العام الماضي فأدائه وامتثال التكليف يكون رافعا لموضوع الخمس لا نفس اشتغال الذمة به ) فيرتفع موضوع وجوب الخمس الذي هو عبارة عن فاضل المؤنة ، فان نفس تلك التكاليف توجب جعل متعلقاتها من المؤن ، فيخرج الربح عن كونه فاضل المؤنة ، ولا يتوقف صيرورتها من المؤن على امتثالها ، بل نفس وجود الخطاب رافع لموضوع خطاب الخمس.

واما ان يكون بامتثاله رافعا كخطاب الأهم فيما نحن فيه ، حيث يكون بامتثاله رافعا لموضوع خطاب المهم لا بوجوده ، على ما سيأتي بيانه.

فهذه جملة الأقسام التي يهمنا تنقيحها في المقام ، ليعلم الموارد التي يلزم ايجاب الجمع من اجتماع الخطابين ، والموارد التي لا يلزم ذلك. والا فالأقسام المتصورة في موضوعات التكاليف أكثر من ذلك.

وحاصل التقسيم : هو ان الموضوع لحكم ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع التشريعي ، واما ان لايكون قابلا لذلك. والأول : اما ان يكون قابلا لكل من الدفع والرفع ، واما ان يكون قابلا للدفع فقط. وعلى كلا التقديرين : اما ان يكون قابلا للرفع الاختياري أيضا ، واما ان لا يكون. والرفع التشريعي اما ان يكون بنفس التكليف ، واما ان يكون بامتثاله. وقد تقدم أمثلة ذلك كله فينبغي ح التكلم في احكام هذه الأقسام.

ص: 354

فنقول :

فما كان الموضوع لخطاب مما لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ، فالخطاب المجامع لهذا الخطاب يقتضى ايجاب الجمع على المكلف ، إذا كان كل من الخطابين مط بالنسبة إلى حالتي فعل الآخر وتركه.

وان لم يكونا مطلقين ، بل كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بفعل الآخر ، فلا يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع. مثلا لو جامع خطاب آخر لخطاب الصلاة في وقتها ، فاما ان يكون كل من خطاب الصلاة وذلك الخطاب الاخر المجامع له مط بالنسبة إلى حالتي فعل متعلق الاخر وتركه ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا دون الآخر.

فان كان كل منهما مط ، فلا محالة يقتضيان ايجاب الجمع ، فان أمكن للمكلف جمع المتعلقين وجبا معا ، كالصوم المجامع للصلاة خطابا وامتثالا ويمكن للمكلف الجمع بينهما أيضا. والمفروض ان كلا من الخطابين أيضا مطلق فيجب الجمع بينهما. وان لم يكن للمكلف الجمع بينهما ، اما لتضاد المتعلقين ، واما لقصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما ، فلا محالة يكون الحكم فيه هو التخيير ، على ما تقدم تفصيله.

وان كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الاخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، فلا يعقل ان يقتضيا ايجاب الجمع ، لأن المفروض ان التكليف بكل منهما مقيد بعدم الآخر ، فيكون حكمه حكم الاحكام التخييرية الأولية ، كخصال الكفارات ، بل يكون هو هو بناء على أن الاحكام التخييرية عبارة عن اشتراط التكليف بكل فرد بعدم فعل الاخر ، كما هو أحد الوجوه في تصوير الواجب التخييري ، على ما تقدم بيانه. وكذا الحال ان كان أحدهما بالخصوص مشروطا بعدم فعل الآخر ، فإنه أيضا لا يلزم منه ايجاب الجمع كما هو واضح. وكيف يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع ، مع أن الجمع لايكون مطلوبا ، بحيث لو أمكن للمكلف الجمع بينهما لم يقعا على صفة المطلوبية ، بل لو قصد بكل منهما امتثال الامر كان من التشريع المحرم ، بل لا يقع الامتثال بكل منهما لو كان كل منهما مشروطا بعدم فعل

ص: 355

الآخر ، لعدم تحقق شرط التكليف في كل منهما ، فلا يكون كل منها متعلق التكليف وذلك كله واضح. هذا إذا كان موضوع الخطاب غير قابل للتصرف التشريعي.

وأما إذا كان قابلا لذلك ، فالخطاب المجامع له ان لم يكن متعرضا لموضوع الآخر : من دفع أو رفع ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق طابق النعل بالنعل. فان كان كل من الخطابين مط يلزم ايجاب الجمع ، فان أمكن وجب ، وان لم يمكن فالتخيير. وان لم يكن كل منهما مط فلا يلزم ايجاب الجمع ، لاتحاد المناط في هذا القسم والقسم السابق في ذلك. ومجرد كون الموضوع في هذا القسم قابلا للدفع والرفع التشريعي لايكون فارقا بين القسمين ، ما لم يكن أحد الخطابين متعرضا لدفع موضوع الآخر أو رفعه.

وهذا من غير فرق ، بين ان يكون الموضوع قابلا للرفع الاختياري أيضا ، أو لم يكن. فإنه يلزم ايجاب الجمع على المكلف أيضا إذا كان كل من الخطابين مطلقا. ومجرد انه يمكنه رفع الموضوع اختيارا لا يرتفع عنه محذور ايجاب الجمع ، إذا استلزم ايجاب الجمع محذورا ، كما إذا كان بين المتعلقين تضاد ، فان القدرة المعتبرة في التكاليف انما هو القدرة على متعلقاتها ، لا على موضوعاتها ، ولا اثر للقدرة على موضوعاتها ، فهل ترى انه يصح تكليف المسافر بالمحال من جهة انه قادر على رفع السفر؟.

والحاصل : ان قبح التكليف بما لا يطاق انما هو بالنظر إلى المتعلق فالعبرة به ، لا بالموضوع. فاجتماع التكليفين الموجبين لايجاب الجمع على المكلف مع عدم قدرة المكلف على الجمع قبيح ولو فرض ان امر الموضوع بيد المكلف وان له رفعه ، ليرتفع عنه أحد التكليفين.

وبذلك ظهر : ان تصحيح الامر الترتبي - بان العصيان الذي هو موضوع خطاب المهم امر اختياري للمكلف ، له رفعه بعدم عصيان الأهم وإطاعته فلا مانع من اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم - فاسد جدا. لما عرفت : من أن القدرة على رفع الموضوع لا اثر لها في قبح التكليف بما لا يطاق ، فالخطاب الترتبي لا يمكن تصحيحه بذلك. هذا إذا كان الخطاب المجامع لخطاب آخر غير متعرض لموضوع

ص: 356

الآخر من دفع ورفع.

وأما إذا كان متعرضا له ، فاما ان يكون نفس الخطاب رافعا أو دافعا لموضوع الآخر ، واما ان يكون امتثاله. فان كان الأول ، فهذا مما يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية ، ولا يعقل ان يكون كل من الخطابين فعليا ، لان وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر ، فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى يقع المزاحمة بينهما. بل أحد الخطابين يكون مقدما على الآخر بمرتبتين ، فإنه يكون مقدما على موضوع الآخر ، كما هو مقتضى رفعه له ، والموضوع أيضا يكون مقدما على ما يستتبعه من الخطاب ، فالخطاب الرافع لموضوع الاخر يكون مقدما على الآخر بمرتبتين. ومع هذا كيف يعقل ان يقع التزاحم بين الخطابين؟ فخطاب أداء الخمس لا يعقل ان يزاحم خطاب أداء الدين ، بعد ما كان خطاب أداء الدين رافعا لموضوع خطاب الخمس وذلك واضح.

وان كان الثاني ، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعا لموضوع الآخر ، فهذا هو محل البحث في الخطاب الترتبي ، حيث يتحقق اجتماع كل من الخطابين في الفعلية ، لأنه ما لم يتحقق امتثال أحد الخطابين الذي فرضنا انه رافع لموضوع الآخر بامتثاله لا يرتفع الخطاب الآخر ، لعدم ارتفاع موضوعه بعد ، فيجتمع الخطابان في الزمان وفي الفعلية بتحقق موضوعهما ، فيقع البحث حينئذ عن أن اجتماع مثل هذين الخطابين أيضا يوجب ايجاب الجمع حتى يكون من التكليف بالمحال ، أو لا يوجب ذلك؟.

والحق انه لا يوجب ذلك لجهتين. وينبغي أولا التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيث للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها تكون من الخطاب الترتبي.

منها :

ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى الزوال ، فلو فرض انه عصى هذا الخطاب وأقام ، فلا اشكال في أنه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به ، فيكون في الآن الأول الحقيقي من الفجر قد توجه إليه كل من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ، ولكن مترتبا ، يعنى ان وجوب الصوم يكون مترتبا على عصيان حرمة

ص: 357

الإقامة ، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة أيضا لأن المفروض حرمة الإقامة عليه إلى الزوال ، فيكون الخطاب الترتبي محفوظا من الفجر إلى الزوال. فيكون عين الخطاب الترتبي فيما نحن فيه من مسألة الضدين ، ان قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه يكون خطاب الصوم حينئذ مترتبا على عصيان خطاب الإقامة بلا توسيط شيء ، كترتب خطاب المهم على عصيان خطاب الأهم حذو النعل بالنعل.

نعم : لو قلنا بان الإقامة قاطعة لموضوع السفر ، كالمرور على الوطن ، كان خطاب الصوم مترتبا على موضوع الحاضر وغير المسافر ، لا على عصيان حرمة الإقامة. ولكن يكون عصيان حرمة الإقامة علة لتحقق ما هو موضوع وجوب الصوم ، حيث إن بعصيان حرمة الإقامة يتحقق عدم السفر وعنوان الحاضر ، وبتحقق ذلك العنوان يتحقق خطاب الصوم ، فيتوسط بين عصيان خطاب الإقامة وخطاب الصوم هذا العنوان. بخلاف ما إذا قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه لا يتوسط بين الخطابين شيء أصلا.

ولكن على كل حال وتقدير : ان توسط العنوان لا يدفع المحذور لو كان هناك محذور ، فإنه يجتمع كل من خطاب حرمة الإقامة ووجوب الصوم في الآن الأول من الفجر. غايته انه بناء على قاطعية الإقامة لحكم السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على نفس عصيان خطاب الإقامة. ولو كانت قاطعة لموضوع السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على ما يكون عصيان خطاب الإقامة علة له.

ومنها :

ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أول الزوال ، فيكون وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان وجوب الإقامة ، حيث إنه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجه عليه خطاب القصر. وكذا لو فرض حرمة الإقامة ، فان وجوب التمام يكون مترتبا على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها :

وجوب الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين

ص: 358

من عام الربح. وأما إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدين بنفس وجوده رافعا لخطاب الخمس لا بامتثاله ، على ما تقدم.

ومنها :

غير ذلك من الفروع التي لا مفر للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها كلها تتوقف على الخطاب الترتبي. ولا فرق بين الفروع المتقدمة وبين ما نحن فيه ، سوى ان الفروع المتقدمة تكون في ممكني الجمع ، حيث لا تضاد بين المتعلقين ، فيمكنه الجمع بين ترك الإقامة والصوم معا ، حيث لا تضاد بينهما من حيث أنفسهما وان كان بعد النهى الشرعي عن الصوم في السفر لا يمكنه الصوم الصحيح في السفر ، الا ان هذا غير التضاد بحسب ذاتهما ، كما فيما نحن فيه ، حيث إن الكلام في الخطاب الترتبي ، لا فيما إذا كان بين المتعلقين تضاد. ولكن امكان الجمع وعدم امكانه لا يوجب فرقا فيما هو ملاك الاستحالة كما لا يخفى. فان استحال الخطاب الترتبي ففي الجميع لا بد ان يستحيل ، والا ففي الجميع أيضا ينبغي الالتزام به. والغرض من هذا التطويل التنبيه على أن الخطاب الترتبي ليس بعزيز الوجود في الفقه.

فلنرجع إلى ما كنا فيه : من أن الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، وما لم يكن مقتضيا لايجاب الجمع لا وجه لاستحالته. اما عدم اقتضائه لايجاب الجمع فمن وجهين. ولا بد أولا من معرفة معنى الجمع وما يوجب ايجابه.

فنقول : اما الجمع فهو عبارة عن اجتماع كل منهما في زمان امتثال الآخر ، بحيث يكون امتثال أحد الخطابين مجامعا في الزمان لامتثال الاخر ، كمجامعة الصلاة للصوم وبالعكس.

واما الذي يوجب ايجاب الجمع فهو أحد أمرين :

اما تقييد كل من المتعلقين بحال فعل الاخر ، أو تقييد أحدهما بحال الآخر ، كتقييد القراءة بحال القيام.

واما اطلاق كل من الخطابين لحال فعل الاخر ، كاطلاق الامر بالصلاة في حال فعل الصوم وبالعكس ، فان الاطلاق ينتج نتيجة التقييد في اقتضائه ايجاب الجمع.

ص: 359

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك ان الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل يقتضى نقيض ايجاب الجمع ، بحيث لايكون الجمع مطلوبا لو فرض امكانه ، لمكان ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، ومع هذا كيف يقتضيان ايجاب الجمع؟ فلو اقتضيا ايجاب الجمع والحال هذه يلزم من المحالات ما يوجب العجب في كل من طرف الواجب الذي هو المهم ووجوبه ، أي يلزم المحال في كل من طرف الطلب والمطلوب.

اما استلزام المحال في طرف المطلوب : فلان مطلوبية المهم ووقوعه على هذه الصفة انما تكون في ظرف عصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، بداهة ان ما يكون قيدا للطلب يكون قيدا للمطلوب ، لا بمعنى انه يكون من قيود المادة التي يجب تحصيلها ، حتى يقال : ان ذلك ينافي كونه قيدا للطلب ، بل بمعنى انه يقتضى وقوع المطلوب عقيب وجود القيد ، كوقوع الحج على صفة المطلوبية عقيب الاستطاعة ، فوقوع المهم على صفة المطلوبية يكون بعد عصيان الأهم ، بحيث يعتبر فيه ذلك. فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم وامتثاله أيضا ، كما هو لازم ايجاب الجمع ، يلزم الجمع بين النقيضين ، إذ يلزم ان يعتبر في مطلوبية المهم وقوعه بعد العصيان ، ويعتبر أيضا في مطلوبيته وقوعه في حال عدم العصيان ، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيدا في المهم ، وهذا كما ترى يستلزم الجمع بين النقيضين.

واما استلزام المحال في طرف الوجوب : فلان خطاب الأهم يكون من علل عدم خطاب المهم ، لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع خطاب الأهم والمهم وصار خطاب المهم في عرض خطاب الأهم كما هو لازم ايجاب الجمع ، لكان من اجتماع الشيء مع علة عدمه. وح اما ان تقول : بأنه قد خرجت العلة عن كونها علة للعدم ، واما ان تقول : قد خرج العدم عن كونه عدما ، واما ان تقول : ببقاء العلة على عليتها والعدم على عدمه ومع ذلك اجتمعا ، وكل هذا كما ترى يلزم منه الخلف والمناقضات العجيبة.

فدعوى ان الخطاب الترتبي يقتضى ايجاب الجمع مساوقة لدعوى وقوع الخلف واجتماع النقيضين من جهات عديدة.

ص: 360

مضافا إلى أن البرهان المنطقي يقتضى أيضا عدم ايجاب الجمع ، فان الامر الترتبي المبحوث عنه في المقام إذا أبرزناه بصورة القضية الحملية يكون من المنفصلة المانعة الجمع لا مانعة الخلو. وذلك لان الضابط في كون القضية مانعة الجمع ، هو كون الحكم فيها بتنافي النسبتين بحيث يمتنع اجتماعهما ، كقولك : ان فاض ماء الشط فاما ان يغرق الزرع واما ان يسيل الماء إلى الأودية ، حيث يمتنع اجتماع كل من غرق الزرع وسيلان الماء إلى الأودية ، فان سيلان الماء إلى الأودية يوجب عدم غرق الزرع ، لنقصان ماء الشط بتوجه مائه إلى الأودية ، فلا يصل الماء إلى الزرع ليغرقه ، فغرق الزرع ينافي سيلان الماء إلى الأودية ، ولا يمكن اجتماعهما ، بل غرق الزرع مترتب على عدم السيلان ولا غرق مع السيلان.

وحينئذ نقول في المقام : ان امر الأهم له نسبتان ، كما تقدم منا في أول مبحث الأوامر من أن هيئة افعل تتضمن نسبتين : نسبة المادة إلى الآمر بالنسبة الطلبية ، ونسبتها إلى الفاعل بالنسبة التلبسية. والتنافي في الامر الترتبي انما يكون بين النسبة الطلبية في جانب المهم والنسبة الفاعلية في جانب الأهم ، لا النسبة الطلبية في جانبه فان المفروض انحفاظ طلب الأهم عند طلب المهم. فلا تنافى بين النسبتين الطلبيتين ، كما في باب الوضوء والتيمم ، حيث إن التنافي هناك بين النسبة الطلبية للتيمم والنسبة الطلبية للوضوء ، وكان طلب التيمم مترتبا على عدم طلب الوضوء. وهذا بخلاف المقام ، فان التنافي فيه انما يكون بين النسبة الطلبية من جانب المهم والنسبة الفاعلية من جانب الأهم. فصورة القضية الحملية تكون هكذا : اما ان يكون الشخص فاعلا للأهم ، واما ان يجب عليه المهم ، فهناك تناف بين وجوب المهم وفعل الأهم ، ومع هذا التنافي كيف يعقل ايجاب الجمع؟ مع أن ايجاب الجمع يقتضى عدم التنافي بين كون الشخص فاعلا للأهم وبين وجوب المهم عليه. بل لا بد ان يكون كذلك فضلا عن عدم التنافي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الامر الترتبي لا يعقل اقتضائه لايجاب الجمع ، حتى يقال باستحالته وانه تكليف بالمحال لعدم القدرة على الجمع بين الضدين ، وذلك لوجوه ثلاثة :

ص: 361

الأول :

ان الامر الترتبي لا يختص بالضدين الذين لا يمكن جمعهما في الوجود ، بل يجرى في ممكني الجمع أيضا ، كما في مثل الإقامة والصوم ، والدين والزكاة ، وغير ذلك من الأمثلة المتقدمة. فكما ان الامر الترتبي في ممكني الجمع لا يتقضى ايجاب الجمع ، فكذلك في ممتنعي الجمع كالضدين.

ودعوى ان الأمثلة المذكورة مجرد فرض لا تحقق له في الخارج فلا تصلح ان تجعل دليلا على امكان الخطاب الترتبي واضحة الفساد ، فان مبنى الاستنباط على فرض الاحكام على نهج القضايا الحقيقية. فهذه الدعوى أشبه شيء بما يقال : من أن الغراب لا يقع في البئر فلا معنى لتقدير ما ينزح له عند فرض وقوعه في البئر.

الثاني :

ان الامر الترتبي لو اقتضى ايجاب الجمع يلزم من الجمع بين المتنافيين في كل من طرف الوجوب والواجب ومن الخلف في طرف الوجوب ، ما لا يخفى ، على ما تقدم تفصيله.

الثالث :

ان ايجاب الجمع ينافي البرهان المنطقي ، كما تقدم. فهذه الوجوه الثلاثة كلها تقتضي ان الامر الترتبي لا يوجب ايجاب الجمع ، وبعد ذلك لا ينبغي لمن هو من أفضل العلماء الاصغاء إلى دعوى امتناع الخطاب الترتبي من جهة استلزامه ايجاب الجمع.

نعم بقى في المقام : بعض الاشكالات التي ربما تختلج في الذهن ونحن نوردها بلسان ( ان قلت ) ونجيب عن كل واحد منها.

فان قلت :

ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ، بل يكفي فيه ثبوت الاطلاق من طرف واحد. وفي المقام وان كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، الا ان خطاب الأهم مطلق ويعم كلتا حالتي فعل المهم وعدمه. ففي رتبه تحقق خطاب المهم وهي رتبة عصيان الأهم ، يكون خطاب

ص: 362

المهم مقتضيا لايجاد متعلقه وباعثا نحوه ، وفي تلك الرتبة يكون خطاب الأهم محفوظا حسب الفرض فيقتضى ايجاد متعلقه والبعث إليه ، فتكون نتيجة الخطابين البعث نحو الضدين ، ونتيجة ذلك هو ايجاب الجمع ، فإنه حال اشتغال المكلف بفعل المهم المطالب به يطالب بفعل الأهم أيضا حسب اطلاقه ، ومع هذا كيف لا يلزم ايجاب الجمع؟.

قلت :

دعوى ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ويكفي فيه الاطلاق من طرف واحد ، مساوقة لدعوى جواز اجتماع النقيضين ، لما عرفت : من أن ايجاب الجمع معناه انه في حال الاشتغال بكل من متعلقي الخطابين يطالب بالآخر ويؤمر به ، وفي المقام في حال الاشتغال بالأهم لا يطالب بالمهم ولا يتعلق الامر به ، فيكون نسبة المهم إلى الأهم في حال الاشتغال بالأهم كنسبة المباحات إليه ، ومع هذا كيف يلزم ايجاب الجمع؟.

والحاصل : ان ايجاب الجمع لايكون الا إذا كان هناك مطلوبان ، بحيث لو فرض محالا امكان الجمع بينهما ، كان كل منهما مطلوبا ويقع محبوبا. وفي المقام لو فرض محالا انه جمع المكلف بين الأهم والمهم كان المهم لغوا ، ولا يقع على صفة المطلوبية ، لعدم تحقق ملاك وجوبه من ترك الأهم ، فإذا لم يكن هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، غايته انه في حال فعل الأهم يكون هو المطلوب ، وفي حال تركه يكون المهم مطلوبا وان كان طلب الأهم لم يسقط ، فكيف يقال انه يجب الجمع ، وهل هذا الا تناقض؟.

فان قلت :

لا يصح الخطاب المولوي الشرعي الا إذا أمكن ان يكون داعيا نحو الفعل ، وباعثا إليه. وداعوية الخطاب بالنسبة إلى غالب نفوس البشر انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب ، إذ قل ما يكون نفس الخطاب بما هو خطاب صادرا من المولى المنعم داعيا نحو الامتثال ، الا بالنسبة إلى الأوحدي ، بل ينحصر ذلك بالأولياء المقربين الذين لا يعبدون اللّه خوفا من النار أو طمعا في الجنة بل وجدوه

ص: 363

اهلا للعبادة فعبدوه. واما ما سوى ذلك فالعبادة انما تكون للخوف من العقاب والطمع في الثواب ، فلا بد ان يكون كل خطاب الزامي مولوي مستتبعا لاستحقاق العقاب ليصلح ان يكون داعيا ، والا خرج عن المولوية إلى الارشادية.

وحينئذ نقول : ان الخطابين المترتبين ، اما ان يستتبعا عقابين ، واما ان لا يستتبعا الا عقابا واحدا. فان استتبعا عقابين يلزم ان يكون العقاب على غير المقدور ، وهو في الاستحالة كالخطاب بغير المقدور ، لوضوح انه لا يمكن للمكلف امتثال الخطابين المترتبين ، لتضاد متعلقهما ، فلا يمكنه الجمع في الامتثال. فإذا امتنع امتثالهما امتنع بالعقاب على تركهما ، لاستلزام العقاب على الممتنع وغير المقدور ، فلا بد ح من الالتزام بوحدة العقاب عند ترك امتثال الخطابين ، ومعلوم ان العقاب حينئذ يكون على ترك الأهم لا على ترك المهم ، فيخرج خطاب المهم عن كونه مولويا ، لامتناع ما يستتبعه من العقاب ، ويكون ارشاديا محضا لادراك مصلحته. فظهر ان الخطاب الترتبي لو لم يكن محالا من جهة اقتضائه لايجاب الجمع ، فهو محال من جهة ما يستتبعه من العقاب.

قلت :

منشأ امتناع تعدد العقاب في المقام ليس الا من جهة انه ليس هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، لا مطلوبان ، لعدم الامر بالجمع حتى يكون هناك مطلوبان ، كما تقدم من أنه حال فعل الأهم لايكون المطلوب الا هو ، وفي حال تركه لايكون المطلوب الا المهم ، وان لم يسقط طلب الأهم بعد ، والمطلوب الواحد لا يستتبع الا عقابا واحدا.

وحينئذ نقول : ان المطلوب الواحد لا يستلزم وحدة العقاب دائما لما فيه.

أولا : نقضا بالواجبات الكفيائة ، وتعاقب الأيادي ، فإنه ليس هناك الا مطلوب واحد وهو دفن الميت مثلا أو تكفينه ، أو أداء مال الناس في تعاقب الأيادي. وهذا المطلوب الواحد لا يمكن ان يجتمع المكلفون على امتثاله ، بل لا يصلح الخطاب الكفائي أو خطاب أداء مال الناس الا لامتثال واحد. وذلك الامتثال الواحد لا يمكن ان يصدر الا من مكلف واحد ، ومع ذلك عند ترك الجميع يتعدد

ص: 364

العقاب ، حسب تعدد المكلفين وذوي الأيادي ، فكيف تعدد العقاب مع عدم امكان تعدد الامتثال؟ فما يجاب به عن ذلك في ذلك المقام ، نجيب به في المقام.

وثانيا : حلا وحاصله : ان العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة كل خطاب بالنسبة إلى كل مكلف في حد نفسه وبحيال ذاته ، بمعنى انه يلاحظ الخطاب هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر ، ويلاحظ كل مكلف أيضا هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع مكلف آخر ، فان كان متعلق ذلك الخطاب الملحوظ وحده مقدورا بالنسبة إلى ذلك المكلف الملحوظ وحده ، فعند تركه وعصيانه يستحق العقاب ، والا فلا. واما ملاحظة اجتماع الخطاب لخطاب آخر ، أو اجتماع المكلف مع مكلف آخر ، واعتبار القدرة على المجموع من متعلقي الخطابين ، أو مجموع المكلفين ، فهو مما لا عبرة به ولا موجب لهذا اللحاظ ، بل العبرة انما هي بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه لكل مكلف كذلك.

نعم : لو تعلق التكليف في مكان بالجمع بين الشيئين ، أو اجتماع المكلفين في شيء واحد ، فلا بد حينئذ ان يكون الجمع بين الشيئين مقدورا ، ليصح التكليف به ، وكذا اجتماع المكلفين. الا ان هذا يحتاج إلى دليل بالخصوص على اعتبار الجمع. ومع عدم قيامه ، فالعبرة بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر وكل مكلف كذلك. ومن المعلوم : تحقق القدرة في كل من متعلق الخطابين المترتبين في حد نفسه وكل مكلف في الواجب الكفائي وفي أداء مال الناس من حيث نفسه ، فعند ترك كلا المتعلقين يستحق عقابين. وكذا عند ترك الكل للواجب الكفائي أو أداء مال الناس يستحق الجميع للعقاب ، لتحقق شرط استحقاق العقاب ، وهو القدرة على كل متعلق في حد نفسه وقدرة كل مكلف على امتثال الواجب الكفائي وأداء الدين. وان لم تتحقق القدرة على الاجتماع بعد عدم تعلق التكليف بالاجتماع ، فضم لفظ الاجتماع في المقام مما لا معنى له. مع أنه لو فرض ان للاجتماع دخلا في العقاب ، فالذي له دخل هو الجمع في العصيان لا الجمع في الامتثال ، فان العقاب انما يكون مترتبا على العصيان ، لا على الامتثال.

ص: 365

فالذي يعتبر فيه القدرة هو الجمع في العصيان ، والمفروض انه قادر على الجمع في العصيان بترك الأهم والمهم ، إذ ليس الكلام في الضدين الذي لا ثالث لهما ، فعند جمعه في العصيان لابد ان يتعدد عقابه ، كما أنه لابد عند اجتماع المكلفين في ترك الواجب الكفائي من استحقاق كل منهم العقاب. فلا محيص في المقام من الالتزام بتعدد العقاب عند ترك كل من الأهم والمهم ، ولا محذور فيه أصلا.

فان قلت :

هب انه أمكن الخطاب الترتبي من حيث الخطاب والعقاب ، الا انه مجرد الامكان لا يكفي في الوقوع ، بل لابد من إقامة الدليل عليه. نعم : الخطاب الترتبي في مثل الإقامة والصوم لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس أدلة وجوب الصوم على من كان مقيما في أول الفجر إلى الزوال يكفي في اثبات الامر الترتبي عند عصيان حرمة الإقامة ، ولكن في مثل الضدين لم يقم دليل على وجوب المهم عند عصيان الأهم. فالقائل بالترتب لابد له من إقامة الدليل على ذلك.

قلت :

نفس الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين مع قطع النظر عن تزاحمهما كافية في اثبات الامر الترتبي ، لأن المفروض ان لكل من الأهم والمهم حكما بحيال ذاته مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما ، وكان الدليل المتكفل لذلك الحكم مط يعم حالتي فعل الآخر وعدمه ، فإذا وقع التزاحم بينهما من حيث قدرة المكلف وعدم تمكنه من الجمع الذي كان يقتضيه الاطلاق ، فان لم يكن لاحد الحكمين مرجح من أهمية أو غيرها ، فلابد من سقوط كلا الاطلاقين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وتكون نتيجة الخطابين بعد سقوط اطلاقهما ( لمكان اعتبار القدرة ) هو التخيير عقلا. وان كان لأحدهما مرجح ، كالأهمية فيما نحن فيه ، فالساقط هو اطلاق المرجوح فقط ، مع بقاء اطلاق الراجح على حاله. واما أصل الخطاب بالمرجوح فلا موجب لسقوطه إذ من اطلاقه نشئت المزاحمة لا من أصل وجوده ، والضرورات تتقدر بقدرها ، فإذا سقط اطلاقه يبقى مشروطا بترك الراجح ، وهو المراد من الامر الترتبي. فالمتكفل لاثبات الامر الترتبي هي الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين من

ص: 366

حيث أنفسهما ، بضميمة حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة وقبح ترجيح المرجوح على الراجح أو مساواته له. فإنه من هذه الأمور الثلاثة ينتج اشتراط خطاب المهم بترك الأهم ، كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، وهي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن تضاد المتعلقين.

وينبغي التنبيه على أمور :
الامر الأول :

قد عرفت في أول البحث ، ان مورد البحث في الامر الترتبي انما هو فيما إذا كان الملاك لكل من الامرين - من المترتب والمترتب عليه - ثابتا ومتحققا عند التزاحم ، بحيث لو منعنا عن الامر الترتبي أمكن تصحيح العبادة بالملاك ، بناء على كفاية ذلك في صحة العبادة ، وعدم القول بمقالة صاحب الجواهر : من توقف الصحة على الامر وعدم كفاية الملاك على ما هو المحكى عنه. والسر في اعتبار الملاك في الامر الترتبي واضح ، فإنه لو لم يكن ملاك امتنع الامر ، لتوقف الامر على الملاك ، على ما عليه العدلية.

ومن ذلك يظهر : امتناع الامر الترتبي في المتزاحمين الذي كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان المزاحم المشروط بذلك يكون خاليا عن الملاك ، لما تقدم : من أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك ، فعند انتفائها ينتفى الملاك ، ومع انتفائه يمتنع الامر الترتبي.

وهذا من غير فرق بين استفادة اعتبار القدرة الشرعية من دليل متصل كما في الحج ، أو بدليل منفصل كما في الوضوء ، حيث إن الامر الوضوئي وان لم يقيد بالقدرة في لسان دليله ، الا انه من تقييد الامر التيممي بذلك يستفاد تقييد الامر الوضوئي بالقدرة. وهذا بعد تفسير الوجدان المأخوذ في آية التيمم بالتمكن ، فان مقتضى المقابلة بين الوضوء والتيمم من حيث تقييد التيمم بعدم التمكن من الماء يستفاد ان الوضوء مشروط شرعا بالتمكن ، والا لم تتحقق المقابلة بين الوضوء والتيمم ، ولزم ان يكون ما في طول الشيء في عرضه ، وأن يكون التفصيل غير قاطع للشركة ، وبطلان كل ذلك واضح. مع أن نفس بدلية التيمم للوضوء يقتضى

ص: 367

اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية ، على ما تقدم في مرجحات التزاحم : من أن لازم البدلية الشرعية ذلك. فاستفادة اعتبار القدرة الشرعية في الوضوء تكون من وجهين : من تقييد التيمم بعدم التمكن ، ومن بدلية التيمم للوضوء. وح لو فرض انتفاء القدرة الشرعية للوضوء ، بحيث انتقل تكليفه إلى التيمم - كما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة - كان وضوئه خاليا عن الملاك ، فلو عصى وتوضأ كان وضوئه باطلا ، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك ، ولا بالامر الترتبي. ومن الغريب ما حكى عن بعض الأعاظم في حاشيته على النجاة : من القول بصحة الوضوء والحال هذه ، ولا يخفى فساده.

الامر الثاني :

الامر الثاني : (1).

قد عرفت أيضا ان مورد الخطاب الترتبي انما هو في التكليفين المتزاحمين الذين لا يمكن الجمع بينهما لمكان عدم القدرة ، وتزاحم التكاليف انما يكون بعد تنجزها ووصولها إلى المكلف وكونها محرزة لديه بأنفسها ، اما بالاحراز الوجداني العلمي ، واما بالطرق المحرزة للتكاليف : من الطرق والامارات والأصول المحرزة ، فلا يتحقق التزاحم فيما إذا لم تكن التكاليف واصلة إلى المكلف وكانت مجهولة لديه ، وان كان بالجهل التقصيري ، بحيث كان الواجب عليه الاحتياط أو التعلم ، فان مجرد ذلك لا يكفي في التزاحم لعدم خروج التكليف بذلك عن كونه مجهولا. والعقاب انما يكون على ترك التعلم عند مصادفته لترك الواقع ، لا مطلقا كما هو المحكى من المدارك ، على ما فصلنا القول في ذلك في محله.

والحاصل : انه في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتبي ، لعدم المزاحمة بين التكليفين ، وان فرض استحقاق العقاب على ترك التكليف المجهول في .

ص: 368


1- لا يخفى عليك : ان شيخنا الأستاذ مد ظله عدل عما افاده في هذا التنبيه بكلا التقريبين الآتيين ، والتزم بالآخرة بجريان الخطاب الترتبي في كل ما يكون منجزا ، ولو كان من جهة وجوب التعلم ، سواء في ذلك الشبهات الموضوعية والحكمية. نعم : في خصوص مسئلتي الجهر والاخفات وما شابههما لا يجرى الخطاب الترتبي لكون التضاد فيهما دائميا وكونه يلزم الامر بالحاصل ، على ما بيناه في المتن ، فراجع - منه.

صورة كون الجاهل مقصرا. وكيف يعقل الخطاب الترتبي مع أنه عبارة عن اخذ عصيان أحد التكليفين شرطا للتكليف الآخر؟ ومعلوم ان الجاهل بالتكليف وان كان عن تقصير لا يرى نفسه عاصيا ولا يلتفت إلى ذلك ، إذ الالتفات إلى كونه عاصيا يتوقف على العلم بالتكليف ، فيخرج عن كونه جاهلا ، فلا يعقل ان يقال : أيها العاصي للتكليف المجهول يجب عليك كذا ، فإنه بمجرد التفاته إلى كونه عاصيا ينقلب جهله بالتكليف إلى كونه عالما به.

وهذا نظير ما قلنا في محله : من أنه لا يعقل تكليف الناسي لجزء بالفاقد له ، لأنه بمجرد الالتفات إلى كونه ناسيا يخرج عن كونه ناسيا. ومن هنا ظهر : ان تصحيح عبادة تارك الجهر أو الاخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي - كما عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء - (1) مما لا يستقيم. إذ لا يعقل ان يقال : أيها العاصي بترك الجهر أخفت أو بالعكس ، لان التفاته إلى كونه عاصيا يستدعى العلم بوجوب الجهر عليه ومع علمه بوجوب الجهر لا يصح الاخفات منه ، إذ صحة الاخفات مقصورة بصورة الجهل بوجوب الجهر عليه.

ولا يتوهم : ان لا يتوقف صحة التكليف بالاخفات على الالتفات إلى كونه عاصيا للجهر ، بل يكفي كونه عاصيا في الواقع ، كما حكى عن الشيخ ( قده ) نظير هذا في الناسي (2) وقال بصحة تكليف الناسي وان لم يلتفت إلى كونه ناسيا ، بل يرى نفسه ذاكرا إلى أنه يقصد الامر المتوجه إليه واقعا ، غايته انه يتخيل انه ذاكر

ص: 369


1- قال في مقدمة كشف الغطاء : « ان انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة وان استلزم المعصية ، وأي مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والاخفات والقصر والاتمام .. » ( مقدمات كشف الغطاء ، البحث الثامن عشر من المقصد الأول من الفن الثاني ، ص 27
2- ذكر المحقق المقرر قدس سره في المجلد الثاني من الفوائد ، في الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر « هذا ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره في مسائل الخلل وهو إلى الان لم يطبع » الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر ، الجهة الأولى من المقام الثاني ص 70 الطبعة القديمة

فيكون من قبيل الخطاء في التطبيق. وفي المقام يجرى هذا الكلام أيضا.

وذلك لأنه لا يصح التكليف الا فيما إذا أمكن الانبعاث عنه ، ولا يمكن الانبعاث عن التكليف الا بعد الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رتب التكليف عليه. وفي المقام لا يعقل الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف بالاخفات الذي هو كون الشخص عاصيا للتكليف الجهري ، وكذا الكلام في الناسي. وقد أوضحنا الكلام في ذلك وفساد كون المقام من باب الخطاء في التطبيق في تنبيهات الأقل والأكثر ، فراجع.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الأولى تحت عنوان ( الامر الثاني ) وفي الليلة الثانية قرر ما يلي :

الامر الثاني : يعتبر في الخطاب الترتبي ان يكون التكليف في المترتب عليه منجزا واصلا إلى المكلف بنفسه وجدانا ، أو بالطرق المحرزة من الامارات والأصول المحرزة. فلو لم يكن منجزا - كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة ، أو كان منجزا ولكن ما كان واصلا إلى المكلف بنفسه ، كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى الاحتياط ، كباب الدماء والفروج والأموال ، وكالشبهات الحكمية قبل الفحص والتعلم ، وكما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي - لم يكن موقع للخطاب الترتبي.

اما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة فمن جهات ثلث :

الأولى : ان التكليف الواقعي المجهول غير قابل لان يكون محركا وباعثا مولويا نحو متعلقه ، فلا يكون مزاحما للتكليف الاخر ، وبعبارة أخرى : التكليف الواقعي المجهول لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

الثانية : انه لا يتحقق عصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب ، لأن المفروض ان الشبهة مورد البراءة فلا عصيان له.

الثالثة : انه لا يمكن تحقق العلم بالخطاب المترتب ، لمكان عدم العلم بما هو موضوعه : من كونه عاصيا للخطاب المترتب عليه ، لان العلم بالعصيان فرع العلم بالتكليف ، والمفروض انه جاهل به.

ص: 370

واما الشبهات الحكمية قبل الفحص ، والشبهات التي تكون مجرى الاحتياط ، فلا يجرى فيها الخطاب الترتبي من جهتين :

الأولى : انه لا يتحقق عصيان التكليف المجهول ، حيث لا عقاب على نفس التكليف المجهول ، بل العقاب على ترك التعلم والاحتياط عند المصادفة.

الثانية : انه لا يتحقق العلم بالخطاب المترتب ، لعدم تحقق ما هو موضوعه من عصيان الخطاب المترتب عليه.

واما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فمن جهة واحدة لا يجرى فيها الخطاب الترتبي ، وهي الجهة الأخيرة أعني من عدم امكان حصول العلم بالخطاب الترتبي ، لعدم العلم بعصيان الخطاب المترتب عليه ، وان كان منجزا بالعلم الاجمالي وتحقق عصيانه في صورة المصادفة ، حيث إنه لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع كان عاصيا له ومعاقبا عليه ، لا على ترك الاحتياط ، بخلاف الشبهات البدوية.

هذا ما قرره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الثانية. وحيث انه يرد على هذا التقرير من الاشكال ما لا يخفى ، عدل مد ظله عن هذا التقرير في الليلة الثالثة والتزم بجريان الخطاب الترتبي في جميع الشبهات الموضوعية التي لا تجرى فيها البراءة ، وفي الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الاجمالي أو التي تكون مجرى الاحتياط ، كما إذا بنينا على الاحتياط في الشبهات التحريمية ، كما عليه الأخباريون حتى بعد الفحص. نعم في خصوص الشبهات الحكمية التي يجب فيها الفحص قال : بعدم جريان الخطاب الترتبي. (1)

اما تصحيح عبادة الجاهل بالجهر والاخفات والقصر والاتمام ، بالخطاب الترتبي فلا يمكن ، لان التضاد بين القصر والاتمام والجهر والاخفات

ص: 371


1- والذي يقوى في النظر : جريان الخطاب الترتبي حتى في ذلك أيضا ، الا إذا كان الجاهل مركبا قاطعا بعدم الحكم ، فان مثل هذا لا مجال فيه لجريان الخطاب الترتبي ، وان فرض كون الجاهل مقصرا معاقبا ، فتأمل جيدا - منه.

يكون دائميا ، بعد ما كان الواجب في اليوم فريضة واحدة ، اما جهرية أو اخفائية ، واما القصر أو الاتمام ، فليس في عالم التشريع الا حكم واحد وملاك واحد. ولو فرض ان كلا من الجهر والاخفات ذو ملاك في الواقع ، فلا بد من وقوع الكسر والانكسار بين الملاكين في عالم التشريع وانشاء الحكم على طبق أقوى الملاكين. وقد عرفت : ان مورد البحث عن الترتب انما هو بعد ثبوت الملاكين وتشريع الحكم على طبق كل منهما على نهج القضايا الحقيقية ووقوع التزاحم والتضاد بينهما اتفاقا ، لمكان عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما. وأين هذا مما إذا كان التضاد دائميا ، فإنه يكون حينئذ من باب التعارض ، لا التزاحم ، على ما تقدم من الفرق بينهما. والتضاد في مسألتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، يكون من التضاد الدائمي ، بحيث لو ورد الدليل على وجوب كل منهما كان الدليلان متعارضين ، وذلك بعد ما كان الواجب في اليوم صلاة واحدة واضح. فلا تندرج المسألة في صغرى التزاحم ، حتى يجرى فيها الخطاب الترتبي.

هذا كله ، مضافا إلى أن الامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالجهر والاخفات في القراءة ، مما لا يعقل - مع قطع النظر عما ذكرنا - فإنه يكون من الامر بالحاصل ، لان ترك الجهر يلازم خارجا الاخفات فيها فلا معنى للامر بالاخفات مثلا عند ترك الجهر ، لان الاخفات عند ترك الجهر يكون حاصلا بنفسه ، فلا يعقل ان يكون الامر به باعثا مولويا.

والحاصل : انه كما لا يعقل الامر بأحد النقيضين عند عدم الآخر - لان عدم أحد النقيضين عين وجود الآخر خارجا ، وان لم يكن عينه مفهوما ( على ما تقدم في بعض المباحث السابقة ) فلا يعقل ان يقال مثلا : لا تغصب الغصب الصلواتي ، وان غصبت الغصب الصلواتي فصل ، فإنه يكون من تحصيل الحاصل - كذلك لا يعقل الامر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما عند عدم الآخر ، فان عدم أحد الضدين وان لم يكن خارجا عين وجود الضد الآخر ، كما كان في النقيضين كذلك ، الا انه يلازمه خارجا ، فيلزم أيضا الامر بالحاصل. فالامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما لا يعقل ، كما في النقيضين.

ص: 372

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه يرد على ادراج مسألة جاهل القصر والاتمام والجهر والاخفات في صغرى الترتب ودفع الاشكال الوارد فيها الناشئ عن الالتزام باستحقاق العقاب مع القول بصحة الصلاة بذلك أمور ثلاثة :

الأول : ان مورد الامر الترتبي انما يكون بعد نحو تنجز التكليف بكل من الواجبين ووصول كل من التكليفين إلى المكلف وصولا وجدانيا أو بأحد طرقه ، والمفروض في المسألة كون الشخص جاهلا بوجوب الاخفات عليه.

الثاني : ان مورد الترتب انما هو في التضاد الاتفاقي ، والمسألة تكون من التضاد الدائمي.

الثالث : ان مورد الامر الترتبي في الضدين الذين لهما ثالث ، والمسألة مما لا ثالث لهما ، فتأمل جيدا.

الامر الثالث :

ان عقد الكلام في المسألة وان كان في المتزاحمين المضيقين كالغريقين ، الا انه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا حال مزاحمة المضيق للموسع ، كمزاحمة أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد للصلاة ، فإنه يجرى في الموسع أيضا الامر الترتبي ، بناء على ما اخترناه سابقا : من خروج الفرد من الموسع المزاحم للمضيق عن اطلاق الامر بالطبيعة وعدم اندراجه تحت الطبيعة المأمور بها. فإنه ح يصح ان يقال : ان خروجه عن تحت الاطلاق ليس مطلقا ، سواء اشتغل بالمضيق أو لم يشتغل ، بل إن الخروج مقصور على صورة الاشتغال بالمضيق ، واما عند عدم الاشتغال به وعصيانه فالاطلاق يعمه.

ويكون الفرق بين المضيقين والموسع والمضيق ، هو انه في المضيقين أصل الامر بالمهم يكون مشروطا بعصيان الأهم ، وفي الموسع والمضيق اطلاق الامر بالموسع على وجه يشمل الفرد المزاحم للمضيق يكون مشروطا بعصيان المضيق ، لا أصل الامر ، لان جميع افراد الموسع لم تكن مزاحمة للمضيق ، حتى يكون أصل الامر به مشروطا بعصيان المضيق. ولكن هذا إذا قلنا : بخروج الفرد المزاحم عن اطلاق الامر لمكان اشتراط كل امر بالقدرة على متعلقه ، حيث إن الامر يكون بعثا لاحد

ص: 373

طرفي المقدور وتحريكا لاحد جانبي الاختيار ، فإنه حينئذ نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي.

واما بناء على ما اختاره المحقق الكركي قده (1) « من أن تعلق الامر بالطبيعة مع القدرة عليها في الجملة ولو في بعض الافراد يكفي في صحة الفرد المزاحم للمضيق ، لانطباق الطبيعة عليه قهرا ، ويتحقق الاجزاء عقلا » فلا نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي ، بل نفس الامر الأول بالصلاة يكفي في صحة الفرد المزاحم. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ، فراجع. (2)

الامر الرابع :

الخطاب المترتب عليه ، تارة : يكون آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار في وعاء الزمان حتى يكون لعصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب أيضا نحو بقاء واستمرار ، بل يكون عصيانه دفعيا آنيا ولو عرفا ، لعدم قابلية بقاء الموضوع حتى يستمر عصيانه ، كانقاذ الغريق الذي لو لم يبادر إليه يوجب موت الغريق الموجب لسقوط التكليف. وأخرى : لايكون كذلك ، بل يكون له نحو بقاء واستمرار بحيث يستمر عصيانه ويبقى مع عدم الامتثال ، لبقاء الموضوع ، كأداء الدين حيث إنه يستمر الخطاب والعصيان ببقاء الدين ، ولا يسقط الا بأدائه.

فان لم يكن للخطاب المترتب عليه بقاء ولا يكون لعصيانه استمرار ، فهذا الذي تقدم الكلام عنه : من أن الخطاب المترتب يكون مشروطا بعصيان الخطاب المترتب عليه ، من دون استلزامه للشرط المتأخر ، بل يكون الشرط الذي هو العصيان مقارنا للامر المترتب ، سواء كان الامر المترتب أيضا كالمترتب عليه آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار ، كالغريقين الذين كان أحدهما أهم ، أو كان الامر المترتب له نحو

ص: 374


1- راجع ما افاده المحقق الثاني قدس سره في جامع المقاصد ، في شرح قول العلامة قدس سره في القواعد « ولا يصح الصلاة في أول وقتها ممن عليه دين واجب الأداء .. » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.
2- راجع ما افاده المصنف في تحقيق ثمرات الاقتضاء وعدمه ص 312 - 313 من هذا الكتاب.

بقاء واستمرار لتدرج امتثاله في الوجود وليس آني الحصول ، كالصلاة حيث إن فعلها ليس آني الحصول ، بل هو متدرج في الوجود حسب تدرج الاجزاء. غايته انه في مثل هذا يكون الامر بالجزء الأول من الصلاة المقارن لعصيان انقاذ الغريق من الامر الترتبي ، واما الامر بساير الاجزاء الاخر ، التي يكون وجودها بعد تحقق عصيان الامر المترتب عليه ، فلا يكون من الامر الترتبي ، لعدم بقاء الامر المترتب عليه ، لفرض تحقق عصيانه وانعدام موضوعه بموت الغريق مثلا. فمثل الحمد والركوع والسجود الذي يكون ظرف وجوده بعد موت الغريق ، لايكون امره من الامر الترتبي ، بل الامر بالتكبير يكون من ذلك ، لمقارنة وجودها لعصيان الامر بالانقاذ. وذلك واضح.

وأما إذا كان للخطاب المترتب عليه نحو بقاء ، وكان لعصيانه استمرار ، فان كان امتثال الخطاب المترتب دفعيا ليس متدرجا في الزمان - كالأمر برد السلام مثلا المترتب على الامر بترك أداء الدين أو إزالة النجاسة من المسجد مثلا - فهذا أيضا مما لا اشكال فيه ، فإنه يكون في حال رد السلام عاصيا لخطاب الإزالة ، ويكون عصيان الإزالة أيضا من الشرط المقارن لوجوب رد السلام ، وان كان العصيان يبقى بعد سقوط الامر برد السلام ، لمكان امتثاله.

وأما إذا كان امتثال الامر المترتب تدريجي الوجود كالصلاة ، وكان لعصيان الامر المترتب عليه استمرار وبقاء - كأداء الدين وإزالة النجاسة عن المسجد - فربما يستشكل في مثل هذا بتوقف الامر المترتب على الشرط المتأخر ، وحيث امتنع الشرط المتأخر امتنع الخطاب الترتبي.

وجه التوقف : هو توهم ان الامر بالمتدرج مشروط باستمرار عصيان الامر المترتب عليه إلى آخر جزء من المتدرج الذي فرض تعلق الامر الترتبي به ، مثلا الامر بالصلاة بالامر الترتبي يكون مشروطا باستمرار عصيان الامر بالإزالة إلى آخر الصلاة ، فيكون عصيان الامر بالإزالة في حال التسليمة شرطا للامر بالتكبيرة ، إذ لولا العصيان في ذلك الحال لما تعلق الامر بالتكبيرة ، فيكون تعلق الامر الترتبي بالتكبيرة مشروطا بشرط مقارن ، وهو عصيان الامر بالإزالة في حال التكبيرة ،

ص: 375

ومشروطا بالشرط المتأخر أيضا ، وهو العصيان في حال التسليمة ، وحيث كان المختار امتناع الشرط المتأخر كان اللازم امتناع الامر الترتبي. وارجاع الشرط إلى عنوان التعقب انما يكون بعد مساعدة الدليل والاعتبار عليه ، والمفروض انه لم يقم دليل بالخصوص على ثبوت الامر الترتبي في جميع موارد التدريجيات ، حتى يقال : ان دلالة الاقتضاء تقتضي كون الشرط هو عنوان التعقب ، بل قد تقدم ان نفس الأدلة الأولية تقتضي الخطاب الترتبي ، بعد اشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، ومعلوم : ان اقتضاء الأدلة الأولية ذلك انما هو فيما إذا لم يلزم من الخطاب الترتبي امر غير معقول : من الشرط المتأخر. واما مع استلزامه ذلك ، فالأدلة ح لا تقتضي الخطاب الترتبي ، وتقل فائدة البحث عنه ح ، لان الغالب في الخطابات الترتبية كون متعلقاتها تدريجية ، مع استمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فيلزم في الغالب من الخطاب الترتبي الشرط المتأخر.

أقول : ضعف هذا الاشكال مما لا يكاد يخفى ، لوضوح ان هذا ليس اشكالا مخصوصا بالامر الترتبي ، بل توهم هذا الاشكال مطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود ، كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، وغير ذلك من المركبات الارتباطية ، لوضوح ان الامر بكل جزء مشروط بالقدرة على الاجزاء اللاحقة ، فيلزم الشرط المتأخر في جميع المركبات ، ولو لم يكن هناك امر ترتبي. ولا يلزم من القول بالامر الترتبي اشكال زائد على الاشكال المطرد ، فان الامر المترتب المتعلق بما يكون تدريجي الحصول أيضا يكون مشروطا ببقاء القدرة إلى آخر الاجزاء ، غايته ان القدرة على الاجزاء اللاحقة انما تكون باستمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فليس في الامر الترتبي اشكال سوى اشكال اعتبار بقاء القدرة إلى آخر الاجزاء في الامر بأول الاجزاء في المركبات الارتباطية ، هذا.

وقد تقدم الجواب عن هذا الاشكال المطرد ، وبيان ضعف توهم استلزام الامر بالمركب للشرط المتأخر في بعض المباحث المتقدمة. وحاصل الجواب : هو ان لازم اعتبار الوحدة في المركب من عدة اجزاء متدرجة في الوجود ، هو ان تكون القدرة على كل جزء في حال وجوده شرطا بوجودها العيني الخارجي ، وبالنسبة إلى

ص: 376

الاجزاء الاخر من السابقة واللاحقة يكون الشرط هو التقدم والتأخر. مثلا الامر بالتكبيرة مشروط بالقدرة عليها خارجا وتعقبها بالقدرة على سائر الأجزاء. وكذا الامر بالحمد مشروط بالقدرة عليها خارجا وسبقها بالقدرة على التكبيرة وتعقبها بالقدرة على الاجزاء المتأخرة. فشرطية التعقب والتقدم مما يقتضيه نفس الامر بالمركب بعد اعتبار الوحدة فيه واخذه على جهة الارتباطية. فالقول بان الشرط في مثل هذا هو عنوان التعقب ليس قولا بلا دليل ، بل نفس دليل المركب بعد اعتبار الوحدة فيه يقتضى ذلك ، وعليه يساعد الاعتبار. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في مسألة الشرط المتأخر ، فراجع. (1) وعلى كل حال : لا يرد على الامر الترتبي في التدريجيات اشكال زائد على الاشكال في المركبات ، والجواب واحد في الجميع.

وحينئذ نقول : ان الامر بأول جزء من متعلق الامر المترتب مشروط بعصيان الامر المترتب عليه بالشرط المقارن وبتعقبه باستمرار العصيان إلى آخر الاجزاء. ولا محذور فيه أصلا ، لان شرطية عنوان التعقب انما تستفاد من نفس اعتبار الوحدة في متعلق الامر المترتب.

ثم لا يخفى عليك : ان الامر الترتبي قد يثبت من أول الشروع في العمل التدريجي ويستمر إلى آخره ، وقد يحدث في أثناء العمل ، وربما ينعكس الامر ، بحيث يكون الامر المترتب مترتبا عليه لو حدث في الأثناء ، بعد ما كان مترتبا لو كان من أول العمل. مثلا في إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة يختلف الحال فيها. فتارة : يعلم بنجاسة المسجد قبل الدخول في الصلاة ، وأخرى : يعلم به في أثناء الصلاة.

فان كان عالما بها قبل الصلاة مع سعة الوقت ، يكون ح الامر بالصلاة من أولها إلى آخرها مترتبا على عصيان الإزالة ، لأنه يكون من مزاحمة الموسع والمضيق. وقد تقدم ان الامر بالموسع يكون مترتبا على عصيان الامر بالمضيق. وهذا الامر الترتبي محفوظ من أول الصلاة إلى آخرها ، فله بعد الشروع في الصلاة قطع الصلاة

ص: 377


1- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث الشرط المتأخر ص 280 - 281

للاشتغال بالإزالة ، بل يجب عليه قطعها لبقاء موضوع الإزالة واستمرار عصيانها إلى آخر الصلاة ، فلا يحرم قطع مثل هذه الصلاة. ولا موقع للتمسك بحرمة الابطال ، بعد ما كان الامر الترتبي محفوظا من أول الصلاة إلى آخرها. فأقصى ما يقتضيه الامر الترتبي هو صحة الصلاة لو لم يقطعها ، ولا يقتضى حرمة قطعها. هذا إذا كان عالما بالنجاسة قبل الصلاة.

واما ان كان جاهلا بها ، فحيث لم يتنجز عليه الامر بالإزالة لمكان الجهل بها ، كان دخوله في الصلاة ليس بالامر الترتبي بل بأمرها الأولى ، وتوجه عليه حرمة الابطال وقطع الصلاة. فإذا علم بنجاسة المسجد في الأثناء ، فيكون كما لو حدثت النجاسة في المسجد في الأثناء ، ومن حين العلم يتوجه عليه الامر بالإزالة ، فتقع المزاحمة ح بين الامر بالإزالة مع حرمة قطع الصلاة ، وكل منهما يكون من المضيق. ودعوى أهمية حرمة القطع من وجوب الإزالة ليس بكل البعيد ، فيكون الامر بالإزالة حينئذ مترتبا على عصيان الامر باتمام الصلاة ، مع أنه كان مترتبا عليه لو كان عالما بالنجاسة من أول الصلاة. وهذا ما قلناه : من أن الامر قد ينعكس ويكون المترتب مرتبا عليه.

ثم إن هناك فرعا محكيا عن الفصول ، يناسب ذكره في المقام (1) وهو انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة ، على نحو يحرم عليه الاغتراف منها للوضوء ، وذلك فيما إذا لم يكن بقصد التخليص - على ما سيأتي ضابط التخليص - فان اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، فهذا مما لا اشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه ، وان عصى في أصل الاغتراف ، الا انه بعد العصيان والاغتراف يكون واجدا للماء ، فيجب عليه الوضوء. وأما إذا لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط ، فالمحكي عن صاحب الفصول : انه لا مانع من صحة وضوئه ح بالامر

ص: 378


1- راجع الفصول ، تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى الواجب والمشروط ، بيان وجه الفرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي .. » ص 81

الترتبي ، فإنه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية والثالثة التي تتم بها الغسلات الثلث للوضوء ، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة إذا كان مما يستمر عصيانه لإزالة إلى آخر الصلاة ، فان المصحح للامر بالصلاة ، انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها حال وجوده ، لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك الحال وتعقبه بالعصيان بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، على ما تقدم بيانه. وفي الوضوء يأتي هذا البيان أيضا ، فان القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة ، لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة ، والعصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين ، فيجرى في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : الفرق بين باب الوضوء ، وباب الصلاة ، فان الصلاة لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية على اجزائها ، المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة ، فلا مانع من الامر الترتبي فيها. واما في الوضوء ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون شرعية ومما لها دخل في الملاك ، ولا قدرة شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المغصوبة ، ولا ملاك له حينئذ ، فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له ، بعد ما لم يكن في ذلك الحال واجدا لماء مباح شرعا يكفي للوضوء ، فلا يجرى في الوضوء الامر الترتبي. هذا إذا لم يكن الاغتراف للتخليص. وأما إذا كان للتخليص ، فلا اشكال في جواز الاغتراف دفعة واحدة ، بل بدفعات - على اشكال في الأخير - فيكون مكلفا بالوضوء ولا ينتقل تكليفه إلى التيمم.

ثم انه ليس المراد من التخليص مجرد القصد والنية ، بل ضابطه ان يكون الماء الموجود في الآنية المغصوبة ملكا له لا مباحا ، وكان وقوعه في الآنية لا باختياره ، فإنه ح له تخليص مائه عن الآنية وان استلزم التصرف فيها.

وأما إذا كان مباحا ، أو كان وقوعه في الآنية بسوء اختياره ، ففي مثل هذا لا يجوز له التصرف في الآنية. اما فيما إذا كان الماء مباحا فواضح ، حيث إنه لا ربط له به حتى يجوز له التصرف في الآنية. واما فيما إذا كان ملكا له فلان الماء وان لم يخرج عن ملكه ، الا انه هو بسوء اختياره سلب سلطنته عن ملكه ، فليس له

ص: 379

التصرف في الآنية لاخراج مائه من دون اذن صاحبها ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، مع ما يستتبعها من التنبيهات.

المسألة الثانية :

هي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية. وقد تقدم حكم التزاحم في ذلك ، وان المتأخر ان كان أهم يجب حفظ القدرة له ، ويكون بأهميته شاغلا مولويا عن المتقدم. وان لم يكن أهم وجب صرف القدرة إلى المتقدم ، وليس مخيرا في صرف القدرة في أيهما شاء ، فان التخيير انما يكون في المتزاحمين العرضيين ، لا الطوليين. وقد تقدم ان عدم التخيير في المقام من ثمرات كون التخير في المتزاحمين المتساويين عقلا باعتبار اشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، لا شرعيا على ما تقدم تفصيله - فراجع - فلا موجب لإعادته.

والغرض في المقام هو بيان جريان الخطاب الترتبي فيما إذا كان المتأخر أهم الذي فرضنا وجوب حفظ القدرة إليه. فلو خالف وعصى ولم يحفظ القدرة إليه ، فهل يجب صرف القدرة إلى المتقدم بالخطاب الترتبي ، أو ان المقام لا يجرى فيه الخطاب الترتبي؟.

والأقوى : ان الخطاب الترتبي في هذه المسألة مما لا يمكن ولا يعقل ، وتوضيح ذلك هو ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخر واخذ عصيانه شرطا للامر بالمتقدم ، واما ان يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه ، وهو وجوب حفظ القدرة له ، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطا للامر بصرف القدرة إلى المتقدم.

فان كان الأول ، فيرد عليه - مضافا إلى استلزامه للشرط المتأخر من دون قيام دليل عليه بالخصوص ليرجع الشرط إلى وصف التعقب ، فإنه في التدريجيات التي قلنا فيها ان الامر بالاجزاء السابقة مشروط باستمرار العصيان إلى الاجزاء اللاحقة وارجعنا الشرط إلى عنوان التعقب انما كان من جهة ان استمرار العصيان

ص: 380

عبارة أخرى عن استمرار القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط هو عنوان التعقب ، لمكان اعتبار الوحدة في الاجزاء التدريجية ، وأين هذا مما نحن فيه؟ من جعل عصيان الواجب المتأخر شرطا للمتقدم ، فان هذا لا ربط له بباب اشتراط الواجب بالقدرة حتى نلتجي إلى ارجاع الشرط إلى عنوان التعقب كما لا يخفى - ان ذلك لا يجدى في رفع المزاحمة ، فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ولو كان أهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه ، وهو لزوم حفظ القدرة له وعدم صرفها في غيره ، إذ لولا ذلك لما كاد يقع مزاحمة بين المتقدم ، والمتأخر ، لعدم اجتماعهما في الزمان ، فالمزاحم هو خطاب وجوب حفظ القدرة ، ومعلوم : انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة ، لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب - احفظ قدرتك - فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها ، وخطاب - احفظ قدرتك - موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر ، فتأمل.

وان كان الثاني ، أي لو حظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب - احفظ قدرتك - فهو وان كان يسلم عن اشكال الشرط المتأخر الا انه يرد عليه : ان عدم حفظ القدرة للمتأخر لايكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه ، وذلك الفعل الوجودي اما نفس المتقدم ، أو فعل آخر. فان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع ، فإنه مع صرف قدرته في المتقدم يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك إلى الركعة المتأخرة مثلا وقمت في الركعة الأولى فقم فيها. وهذا كما ترى يلزم تحصيل الحاصل.

وان صرف قدرته في فعل آخر كما إذا صار حمالا بحيث يمتنع عليه القيام في الركعة الثانية مع ذلك الفعل ، يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك للقيام في الركعة الثانية وصرت حمالا فقم في الركعة الأولى. وهذا أيضا كما ترى يلزم طلب الممتنع ، لأنه مع صرف قدرته في ذلك يتعذر عليه القيام في الركعة الأولى.

وان كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر : المعنى الجامع بين صرف

ص: 381

القدرة إلى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك ، يلزم كلا المحذورين ، من طلب الحاصل ، والتكليف بالممتنع.

ولا يقاس المقام بالإزالة والصلاة ، حيث قلنا : انه يصح الامر بالصلاة عند ترك الإزالة ، ولا يلزم من ذلك طلب الحاصل ، ولا التكليف بالممتنع. مع أنه يمكن هذا التقريب في ذلك أيضا ، بان يقال : ان تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصل ، فيلزم طلب الحاصل ، وان اشتغلت بغيرها يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. فان قياس المقام بذلك فاسد جدا ، لوضوح ان ترك الإزالة لا يلازم الصلاة ، ولا فعلا آخر مضادا لها ، بل كل فعل وجودي يفرض فإنما هو مقارن لترك الإزالة ، لا عينه ولا يلازمه ، لتمكن المكلف من عصيان الامر بالإزالة مع عدم اشتغاله بفعل وجودي أصلا ، كما تقدم في رد شبهة الكعبي. وليست الافعال الوجودية من مصاديق ترك الإزالة ، إذ الوجود لايكون مصداقا للعدم ، فمع فرض تركه للإزالة يمكنه ان لا يشتغل بفعل وجودي ، فلا مانع من امره بالصلاة ح عند ترك الإزالة ، ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب بالممتنع ولو فرض انه اشتغل بفعل وجودي آخر ، لأنه لم يقيد الامر الصلواتي بصورة الاشتغال بالصلاة ، أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى يلزم ذلك ، بل الامر الصلواتي كان مقيدا بترك الإزالة فقط ليس الا. وقد عرفت ان الافعال الوجودية ، لا هي عين ترك الإزالة مفهوما أو مصداقا ، ولا ملازمة بينهما.

وهذا بخلاف المقام ، فان ترك حفظ قدرته للمتأخر لايكون الا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن المتأخر ، لوضوح انه لو لم يشتغل بفعل وجودي كذلك تكون قدرته إلى المتأخر محفوظة ، فالفعل الوجودي يكون ملازما لعدم انحفاظ القدرة ، ولا يكون الفعل الوجودي مقارنا. وحينئذ يرجع الكلام السابق : من أن ذلك الفعل الوجودي ، اما ان تفرضه هو المتقدم ، أو فعل آخر مضاد ، أو الجامع بين الافعال الوجودية الموجبة لسلب القدرة عن المتأخر ، وعلى كل تقدير يلزم أحد المحاذير المتقدمة.

وبتقريب آخر : ان الحكم في المقام عقلي ، وليس هناك دليل لفظي. و

ص: 382

العقل يستقل بقبح صرف القدرة إلى غير المتأخر الذي فرضناه أهم وبلزوم حفظ القدرة إلى المتأخر. ومعلوم ان كل فعل وجودي يفرض كونه موجبا لعدم القدرة على المتأخر ، فإنما هو من مصاديق صرف القدرة إلى غير المتأخر ، ومعلوم ان قبح الشيء يسرى إلى مصاديقه ، ولا مجال للامر الترتبي في مثل هذا.

فالمقام نظير ما سيأتي من عدم جريان الترتب في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، حيث نقول في ذلك : انه لا يمكن تصحيح الصلاة بالامر الترتبي بعد تقديم جانب النهى ، فلا يصح ان يقال : لا تغصب وان غصبت فصل. فان المراد من قوله ( ان غصبت ) ان كان خصوص الغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل ، وان كان غير ذلك يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. وليس ذلك الا لمكان ان كل فعل وجودي يفرض فإنما يكون من مصاديق الغصب ، فالصلاة أيضا تكون مصداقا للغصب ، لا مقارنة له ، كما في الصلاة والإزالة. فالصلاة تكون منهيا عنها بنفس النهى عن الغصب. ويرجع الامر الترتبي في ذلك إلى قوله : لا تغصب الغصب الصلواتي وان فعلت ذلك فصل ، وهو كما ترى يلزم طلب الحاصل. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء اللّه.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الامر الترتبي لا يجرى في المسألة الثانية من مسائل التزاحم ، وهي ما كان التزاحم فيه لقصور قدرة المكلف ، لا لتضاد المتعلقين.

المسألة الثالثة :

من مسائل الترتب هي : ما إذا كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها. والأقوى جريان الترتب فيها.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو ان المقدمة ، اما ان تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق. واما ان تكون مقارنة في الوجود لذيها كالتصرف في الماء الذي وقع الغريق فيه لانقاذه ، وكترك أحد الضدين لوجود الآخر ، بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر فينبغي عقد الكلام في مقامين :

ص: 383

( المقام الأول )

في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها. والكلام فيها يقع من جهات :

الجهة الأولى :

قد تقدم ان المقدمة المحرمة ذاتا بحسب حكمها الأولى لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب ، بل إن كان وجوب ذي المقدمة أهم من حرمة المقدمة ، ففي مثل هذا تسقط حرمتها وتجب بالوجوب المقدمي. وان لم تكن أهم فحرمة المقدمة باقية على حالها ، ولا تصل النوبة إلى التخيير في صورة التساوي. وقد تقدم أيضا ان ذلك من ثمرات كون التخيير في الواجبين المتزاحمين المتساويين عقليا أو شرعيا ، وانه بناء على المختار : من كون التخيير عقليا ، لا يتحقق التخيير بين المقدمة وذيها ، بل إن كان ذو المقدمة أهم كان بأهميته موجبا للتعجيز عن المقدمة وسلب القدرة عنها فتجب. وان لم تكن أهم فلا معجز مولوي يوجب سقوط الحرمة عن المقدمة ، بل يكون حرمتها الحالية معجزا عن وجوب ذيها ، فلا يجب وتبقى الحرمة على حالها. ولا يختص هذا بالمقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، بل يجرى في المقدمة المقارنة أيضا ، لوضوح ان التصرف في ماء الغير انما يجب إذا توقف عليه واجب أهم : من انقاذ نفس محترمة أو تلف مال كثير. وأما إذا لم يكن الواجب أهم ، فحرمة التصرف تبقى على حالها ، إذ ليس له معجز مولوي عن ذلك ، فتأمل.

هذا إذا كانت المقدمة محرمة ذاتا ، وأما إذا كانت مباحة أو مستحبة أو مكروهة ، فلا اشكال في سقوط كل من هذه الأحكام عند كونها مقدمة لواجب ، لان الوجوب لا يمكن ان يزاحمه الإباحة والاستحباب والكراهة.

الجهة الثانية :

قد تقدم في مبحث مقدمة الواجب : ان الذوق والاعتبار يأبى عن وقوع المقدمة المحرمة الذاتية على صفة الوجوب والمطلوبية الغيرية مطلقا ولو لم يقصد بها فعل ذي المقدمة ولا ترتب عليها ذلك ، لوضوح انه لا يمكن الالتزام بكون التصرف في ارض الغير واجبا لمجرد انه توقف انقاذ الغريق عليه ، مع أن الشخص لم يتصرف لأجل ذلك ، بل قصد في تصرفه النزهة والعدوان والتفرج. فان دعوى كون

ص: 384

التصرف مع هذا واجبا ومطلوبا يكذبها الوجدان والاعتبار ، ولأجل ذلك تشتتت الآراء فيما هو الواجب من المقدمة ، وسلك كل مسلكا. فذهب صاحب المعالم إلى أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها ، وذهب صاحب الفصول إلى المقدمة الموصلة ، وذهب الشيخ ( قده ) إلى اعتبار قصد التوصل. (1) كل ذلك لأجل استبعاد كون المقدمة واجبة مط. وقد تقدم منا بيان فساد ذلك كله ، وانه لا يمكن اعتبار قيد التوصل أو قصد التوصل في وجوب المقدمة ، أو في وقوعها على صفة الوجوب بحيث يكون قيدا للواجب ، لاستلزام تلك المحاذير المتقدمة.

ولنا في المقام مسلك آخر به يحسم مادة الاشكال ، ويوافق عليه الذوق والاعتبار وهو : ان الحرمة الذاتية التي كانت للمقدمة لم تسقط مطلقا ، بل سقط اطلاقها لحالتي فعل ذي المقدمة وتركها مع انحفاظ الحرمة في صورة ترك ذي المقدمة ، بل انحفاظ كل حكم كان للمقدمة ذاتا ولو لم يكن الحرمة ، بل كان الحكم هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب.

وبالجملة : الدعوى هو ان كل حكم كان للمقدمة مع قطع النظر عن عروض وصف المقدمية عليها فهو محفوظ في حال ترك ذي المقدمة ، أعني الواجب الذي فرضناه أهم. وذلك لايكون الا بالامر الترتبي الذي قد تقدم الكلام عنه ، وعن امكانه بل وقوعه. نعم : يختص الامر الترتبي في المقام ببعض الاشكالات ، التي لا ترد على الامر الترتبي في سائر المقامات. وحاصل تلك الاشكالات يرجع إلى أمرين :

الأول : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة ، والوجوب والحرمة متضاد ان لا يمكن اجتماعهما.

الثاني : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، لان الحرمة ح تكون مشروطة بعصيان ذي المقدمة المتأخر زمانا عن المقدمة ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في المقام ، حتى نرجعه إلى وصف التعقب. هذا

ص: 385


1- قدم تحقيق ذلك في هامش ص 286 من هذا الكتاب

وسيتضح لك دفع الاشكالين بما سنذكره في الجهة الثالثة التي نذكره فيها مقدمتين لبيان جريان الامر الترتبي في المقام.

( المقدمة الأولى )

لا اشكال في أن الامر بالمقدمة انما يكون في رتبة كون المولى بصدد تحصيل مراده من ذي المقدمة وفي مرتبة الوصول إلى غرضه ومطلوبه النفسي ، فإنه في هذه المرتبة تنقدح إرادة المقدمة في نفس المولى ، لوضوح ان إرادة المقدمة لا تكون الا لمكان الوصول إلى ذيها ، فتكون واقعة في رتبة الوصول إلى ذي المقدمة وكون المولى بصدد تحصيله ، لا في رتبة اليأس عن ذي المقدمة وعدم الوصول إليه ، فان هذه المرتبة ليست مرتبة انقداح إرادة المقدمة في نفس المولى ، وذلك واضح.

( المقدمة الثانية )

قد تقدم في المقدمة الرابعة من مقدمات الترتب : انه لا يعقل الاطلاق والتقييد لحاظا ونتيجة بالنسبة إلى حالتي فعل الواجب وتركه ، وان هذا الانقسام ليس كسائر الانقسامات اللاحقة للمتعلق مما يمكن فيها الاطلاق والتقييد اللحاظي أو نتيجة الاطلاق والتقييد ، لاستلزامه طلب الحاصل ، أو طلب النقيضين ، على ما تقدم تفصيله. ولكن هذا في كل واجب بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه.

واما بالنسبة إلى حالتي فعل واجب آخر وتركه ، فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، بل لا محيص عنه إذ لا يعقل الاهمال الثبوتي بالنسبة إلى ذلك ، الا ان هذا انما يكون في الواجبين الملحوظين على جهة الاستقلالية والاسمية ، كالصوم والصلاة ، حيث لا محيص : اما من اطلاق الامر بالصوم لحالتي فعل الصلاة وتركها ، واما من تقييده بإحدى الحالتين. وكذا الامر بالصلاة.

وأما إذا كان أحد الواجبين ملحوظا على جهة التبعية والحرفية ، كالأمر المقدمي فهو في الاطلاق ، والاشتراط ، والاهمال ، تابع للامر بذى المقدمة. وانه كل ما يكون الامر بذى المقدمة مطلقا أو مقيدا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا يكون مطلقا أو مقيدا بالنسبة إلى ذلك الشيء وكل ما يكون الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا مهمل بالنسبة إليه. والسر في ذلك واضح ، لان

ص: 386

الامر المقدمي انما يتولد من الامر بذى المقدمة ، ويكون معلولا له ومترشحا منه ، وليس ناشئا عن مبادئ استقلالية ، بل يكون انشائه قهرا على المولى ، بحيث لا يمكن ان لا ينشأه بعد انشاء الامر بذى المقدمة ، على ما تقدم بيانه في مقدمة الواجب. فإذا كان كذلك ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي تابعا في الاطلاق والاشتراط والاهمال للامر بذيها ، كما يكون تابعا في أصل وجوده ، فلا يقاس الامر بالمقدمة مع الامر بذيها بالامر بالصلاة والصوم حيث قلنا : انه في مثل الصلاة والصوم لا بد من الاطلاق أو التقييد ، من دون ان يكون الاطلاق في أحدهما تابعا للاطلاق في الآخر ، فان بين الامر المقدمي وذيها وبين الامر بالصلاة والصوم بونا بعيدا.

نعم : ان لوحظ الامر المقدمي معنى اسميا صح القياس ، الا ان الامر المقدمي لم يلاحظ معنى اسميا ، فلا بد ح من التبعية المذكورة. وحيث كان الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي أيضا مهملا بالنسبة إلى حالتي فعل ذي المقدمة وتركه ، فلا يكون فيه اطلاق ولا تقييد بالنسبة إلى ذلك ، بل يكون الامر المقدمي كالأمر بذيها مقتضيا في عالم التشريع لرفع الترك عن ذي المقدمة وطاردا له. وبعد ما عرفت ذلك ، يتضح جريان الامر الترتبي في باب المقدمة وذيها ، وانه لا مانع من انحفاظ حرمة المقدمة أو كل حكم فرض لها ولو كان هو الإباحة في مرتبة ترك ذي المقدمة وعصيان امره ، بحيث يكون الحكم الأصلي لها مترتبا على عصيان ذي المقدمة ، فان هذه الرتبة ليست رتبة الامر بالمقدمة. لأنا قد فرضنا ان الامر بالمقدمة مهمل بالنسبة إلى حالة ترك ذي المقدمة وعصيانه ، بل الامر بالمقدمة يكون في الرتبة السابقة على ذلك ، وهي رتبة الوصول إلى ذي المقدمة ، لا على وجه يكون مقيدا بذلك ، حتى يرجع إلى المقدمة الموصلة ، بل هو واقع في تلك الرتبة مع كونه مهملا بالنسبة إلى حالتي الفعل والترك. فارتفع الاشكال الأول الذي ذكرنا انه مختص بالامر الترتبي في المقام ، وهو لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في المقدمة ، لان الحكمين وان اجتمعا في المقدمة زمانا الا انهما قد اختلفا بالرتبة ، حيث إن الامر واقع في رتبة الوصول ، والنهى واقع في رتبة الياس وترك الوصول بعصيان ذي المقدمة. ولا مانع من اجتماع الحكمين

ص: 387

المتضادين في الزمان مع اختلافهما بالرتبة ، إذ ليس عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين مما قام عليه دليل لفظي ، حتى نتمسك باطلاقه ونقول : لا يكفي اختلاف الرتبة بل الحكم في المقام عقلي والعقل لا يمنع عن الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. إذ امتناع اجتماع الضدين انما هو لمكان انه يرجع إلى اجتماع النقيضين ، ويعتبر في النقيضين الممتنعي الجمع وحدة الرتبة.

فتحصل : انه لا مانع من كون المقدمة محكوما بحكمين متضادين ، مع كونهما مختلفي الرتبة.

نعم : يبقى اشكال استلزام الامر الترتبي في المقام للشرط المتأخر الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص. ولكن هذا الاشكال أيضا مندفع بان الشرط المتأخر في المقام مما يحكم به العقل ويستقل به ، بعد ما بينا سابقا : من اباء الذوق والاعتبار عن اتصاف المقدمة بالمطلوبية مط على أي وجه اتفقت ولو كان التصرف في ارض الغير مثلا لأجل التنزه والتفرج ، وبعد ما بيناه من أن الامر بالمقدمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها ، لا في رتبة اليأس عنه ، وبعد ما كان كل مقدمة منقسمة في حد ذاتها إلى ما يتعقبها وجود ذي المقدمة وما لا يتعقبها ، فان هذه الأمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخر ، فهو مما قام عليه دليل بالخصوص ، غايته انه ليس شرعيا بل عقليا.

والحاصل : انه لا يختص اعتبار الشرط المتأخر بمعنى التعقب بباب القدرة ، بل يجرى في المقام أيضا ، لان صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخر ( بمعنى التعقب ) بعد ما كان الوجدان شاهدا على عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية كيف ما اتفقت. وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخر ، وأوجب الامر الترتبي. فليس اعتبار الشرط المتأخر في المقام من جهة اقتضاء الامر الترتبي ذلك ، حتى يقال : انه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الامر الترتبي ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخر ، بل الموجب للذهاب إلى الامر الترتبي في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخر فيه ، وهو تلك المقدمات العقلية فلا تغفل.

ص: 388

ولا تقس المقام بالمسألة المتقدمة التي أنكرنا جريان الامر الترتبي فيها لمكان استلزام الشرط المتأخر ، وهي ما إذا كان التزاحم لأجل قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، وذلك لان المقدمات العقلية الجارية في المقام لم تكن جارية في تلك المسألة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

( المقام الثاني )

ما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها ، وله أمثلة كثيرة ، ولكن المثال المهم الذي يترتب عليه الأثر ، هو باب الضدين ، بناء على مقدمية ترك أحدهما لفعل الآخر. والأقوى جريان الامر الترتبي فيه أيضا. واشكال استلزام الامر الترتبي للشرط المتأخر لا يجرى في المقام ، لأن المفروض كون المقدمة مقارنة بحسب الزمان.

نعم : اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد يجرى ، كالمقدمة المتقدمة بحسب الزمان. ويزداد الاشكال في الضدين ، حيث إنه يلزم اجتماع الحكمين في كل من طرف الأهم والمهم ، حيث إنه كما أن ترك المهم يكون مقدمة لفعل الأهم فيجب من باب المقدمة مع أنه حرام لغرض وجوب فعل المهم بمقتضى الامر الترتبي ، فيكون ترك الصلاة واجبا بالوجوب الغيري وحراما نفسيا لغرض وجوب الصلاة. كذلك يكون ترك الأهم مقدمة لفعل المهم الذي فرضناه واجبا بالامر الترتبي ، فيجب ترك الأهم بالوجوب المقدمي مع أنه يحرم لوجوب فعل الأهم. فاشكال اجتماع الحكمين المتضادين يأتي في كل من الأهم والمهم بناء على المقدمية. ولكن يندفع الاشكال في طرف المهم بما دفعنا به الاشكال في المقدمة المتقدمة بحسب الزمان.

وحاصله : ان ترك المهم وان كان حراما نفسيا وواجبا مقدميا ، الا ان وجوبه المقدمي انما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهم ، والحرمة انما تكون في مرتبة تركه وعصيانه ، فتختلف رتبة الوجوب والحرمة ولا مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة.

واما الاشكال في طرف الأهم فلا يندفع بذلك ، لان الامر في طرف الأهم

ص: 389

ليس ترتبيا حتى يتحقق اختلاف الرتبة ويصح اجتماع كل من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة ، بل إن الامر في طرف الأهم هو الامر الأولى الذاتي. الا ان الذي يسهل الخطب هو ان ترك الأهم لايكون واجبا بالوجوب المقدمي أصلا ، بل ليس حكمه الا الحرمة ، فان ترك الأهم وان كان مقدمة وجودية لفعل المهم ، الا انه مع ذلك يكون مقدمة وجوبية له أيضا ، لان وجوب المهم مشروط بترك الأهم ، ومعلوم ان المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي ، فترك الأهم حرام ليس الا ، ولا يجتمع فيه الحكمان المتضادان.

نعم لو قيل : بان المقدمة الوجوبية أيضا تجب بالوجوب المقدمي يلزم ذلك ، الا انه لا يعقل القول بذلك لما فيه :

أولا : من أن المقدمة الوجوبية تكون علة لثبوت الوجوب على ذيها ، ولا يعقل ان يؤثر المعلول في علته ، لان التأثير يستدعى سبق الرتبة ، والمعلول لا يعقل ان يسبق علته في الرتبة ، بل هو متأخر عنها.

وثانيا : ان المقدمة الوجوبية لا بد ان تؤخذ مفروضة الوجود ، ومع اخذها مفروضة الوجود لا يعقل ان تجب بالوجوب المقدمي لاستلزامه طلب الحاصل.

وثالثا : انه يلزم من وجوب المقدمة الوجوبية ان يتقدم زمان وجوب ذيها على موطنه ، وذلك في كل مقدمة تكون سابقة التحقق في الزمان على موطن وجوب ذي المقدمة ، مثلا لو كان قيام زيد في أول طلوع الشمس مقدمة وجوبية لوجوب الصلاة في أول الزوال ، فلو وجب قيام زيد مع ذلك بالوجوب المقدمي يلزم تقدم وجوب الصلاة على موطنه ، وان يتحقق من أول الشمس ليترشح منه الوجوب إلى المقدمة. وهذا خلف ، لأنا فرضنا ان موطن وجوب الصلاة هو الزوال. فالمقدمة الوجوبية لا يمكن ان تتصف بالوجوب المقدمي لهذه الجهات الثلث. فترك الأهم الذي يكون مقدمة وجوبية للمهم لا يجب بالوجوب المقدمي من الجهات الثلث.

نعم : الجهة الأخيرة لا ترد ، بناء على القول بالتقدير وفرض سبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم آنا ما ، على ما تقدم تفصيله. فإنه لا يلزم من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي تقدم وجوب ذي المقدمة على موطنه وزمانه ، لأنا قد

ص: 390

فرضنا ان موطن وجوب ذي المقدمة الذي هو المهم سابق على مقدمته الوجوبية الذي هو ترك الأهم ، فلا يلزم الخلف من وجوب المقدمة الوجوبية.

ولكن مع ذلك لا يعقل ان يكون ترك الأهم واجبا بالوجوب المقدمي ، لكفاية الجهتين الأوليين في امتناعه ، وهما العمدة لاطرادها في جميع المقدمات الوجوبية واختصاص الجهة الثالثة بالمقدمة السابقة في الزمان على ذيها.

وكان المحقق الرشتي (رحمه اللّه) لم يلتف إلى الجهتين الأوليين ، واقتصر على الأخيرة ، فأنكر على المحقق صاحب الحاشية الذي أجاب (1) عن اشكال لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم بناء على المقدمية والامر الترتبي بما ذكرنا : من أن ترك الأهم مقدمة وجوبية فلا تجب ، بما حاصله : انه لا مانع من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي ، بعد القول بالتقدير وسبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم ، لأنه لا يلزم بناء على هذا القول سبق وجوب ذي المقدمة على موطنه. وحيث إن المحقق صاحب الحاشية من القائلين بالتقدير ، فأنكر (2) عليه المحقق الرشتي : بأنه يلزمك القول بوجوب ترك الأهم مقدمة لوجود المهم ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم. وجعل المحقق الرشتي هذا هو المانع عن الامر الترتبي ، وكانه سلم ان الامر الترتبي لا مانع عنه سوى ذلك ، وتخيل ان هذا المانع مما لا دافع عنه. وأنت خبير بأنه لو انحصر المانع عن الامر الترتبي بذلك فالامر فيه هين ، لأنه أولا مبنى على التقدير الذي قد تقدم فساده بما لا مزيد عليه ، وثانيا ان المانع عن وجوب المقدمة الوجوبية لا ينحصر بالجهة الثالثة ، بل الجهتان الأوليان هما العمدة في المنع ، فترك الأهم لا يعقل ان يجب بالوجوب المقدمي ، حتى يجتمع فيه الحكمان المتضادان. فتحصل : انه لا مانع من الامر الترتبي ، حتى بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده من جهة المقدمية ، فتأمل جيدا.

ص: 391


1- راجع هداية المسترشدين - بحث الضد - في بيان الثمرة المتفرعة - على الخلاف في المسألة. « فان قلت : ان المنافاة حاصلة في المقام .. »
2- بدايع الأفكار - المقصد الأول من المقاصد الخمسة - بحث الضد ، القول في ثمرات المسألة ، اما الاشكال الخامس .. » ص 391
المسألة الرابعة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل لملازمة بين المتعلقين. والأقوى عدم جريان الامر الترتبي في ذلك ، لأنه يلزم منه طلب الحاصل. فإنه لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبار الجدي هو المأمور به الأصلي ، وأريد اثبات وجوب استقبال الجدي بالامر الترتبي عند عصيان استقبال القبلة ، لزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله. فلا يصح ان يقال : ان لم تستقبل القبلة فاستقبل الجدي لان عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجا ، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله. وان ناقشت في المثال فعليك بمثال الجهر والاخفات ، وقد تقدم الكلام عن ذلك في الامر الثاني في رد مقالة الشيخ كاشف الغطاء (1).

المسألة الخامسة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الامر الترتبي فيه أيضا ، لأنه يلزم اما طلب الممتنع ، واما طلب الحاصل. فإنه لو قال : لا تغصب وان غصبت فصل ، فالمراد من ( ان غصبت ) ان كان العزم والقصد على الغصب ، فهذا لايكون من الامر الترتبي ، لان شرط الامر الترتبي هو التلبس بالعصيان ، لا العزم على العصيان ، والا لزم الامر بالضدين على وجه المحال كما لا يخفى. وان كان المراد منه التلبس بالعصيان خارجا وفعلية الغصب منه ، فان كان المراد التلبس بالغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل بالعينية لا بالملازمة ، وان كان المراد التلبس بغير الصلاة يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في طي المباحث السابقة. (2)

فتحصل : ان الامر الترتبي لا يجرى الا في مسئلتين من مسائل التزاحم ، إحديهما مسألة الضدين ، وثانيهما مسألة المقدمة وذيها. واما فيما عدى ذلك من

ص: 392


1- راجع الامر الثاني من تنبيهات الترتب ، ص 369
2- تقدم تفصيل هذا البحث في المسألة الثانية ص 380

المسائل الثلث الآخر فلا يعقل فيها الترتب أصلا.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الثلثا تاسع عشر من شهر ربيع المولود سنة 1347.

وانا الأحقر الجاني محمد على بن حسن الكاظمي الخراساني.

ص: 393

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

وفيه مباحث : المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى لا اشكال في أن متعلقات النواهي كمتعلقات الأوامر انما هي الطبايع الكلية ، وان كان المطلوب في باب الأوامر هو وجود الطبيعة ، وفي باب النواهي هو الترك. وليس المطلوب في باب النواهي هو الكف ، بتوهم ان نفس الترك امر عدمي ، والعدم خارج عن الاختيار ، فلا يصح ان يتعلق التكليف به. وذلك لان نفس العدم الأزلي وان كان خارجا عن الاختيار الا ان ابقاء العدم واستمراره امر اختياري ، وهو المطلوب في النواهي ، وهذا لا اشكال فيه.

انما الاشكال في أن المطلوب في باب النواهي ، هل هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي؟ بحيث يتحقق عصيانه بأول وجود الطبيعة ويسقط النهى حينئذ رأسا ، أو ان المطلوب هو العام الاستغراقي الانحلالي؟ بحيث تكون جميع وجودات الطبيعة مبغوضة ويكون لكل وجود عصيان يخصه. ولا اشكال في امكان كل من الوجهين في عالم الثبوت ، بل قد ذكرنا في رسالة المشكوك ، انه يتصور وجهان آخران في باب النواهي.

أحدهما : ان يكون المطلوب هو ترك مجموع الافراد ، بمعنى ان ارتكاب جميع الافراد مبغوض ، فلا يتحقق عصيانه الا بارتكاب الجميع. كما ربما يدعى ظهور مثل قوله - لا تأكل كل رمانة في البستان - في ذلك ، فلو اكل جميع رمانات البستان الا واحدة لم يكن فاعلا للمنهي عنه.

ثانيهما : ان يكون المطلوب في النهى على نحو القضية المعدولة المحمول ، بحيث يكون المطلوب في مثل لا تشرب الخمر هو كون الشخص لا شارب الخمر ، على وجه

ص: 394

يكون وصفا للمكلف. ففي عالم الثبوت يمكن ان يكون المطلوب بالنهي على أحد وجوه أربعة. واما في مقام الاثبات والاستظهار ، فلا اشكال في أن الوجهين الأخيرين خلاف ظواهر النواهي. واما الوجهان الأولان ، فاستظهار كون المطلوب بالنهي هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي مبنى على استظهار كون المطلوب بالنهي هو خلو صفحة الوجود عن الطبيعة المنهى عنها ، بحيث يلاحظ خلو الصفحة معنى اسميا ، ويكون المبغوض هو اشتغال صفحة الوجود بالطبيعة ، فيكون مفاد النهى ح هو السلب الكلي.

ومقتضى مقابلة النهى للامر ، هو ان يكون مفاد النهى السلب الكلي ، حيث إن المطلوب في باب الأوامر هو صرف الوجود على نحو الايجاب الجزئي ، لا مطلق الوجود على نحو الايجاب الكلي ، فان ظاهر تعلق الامر بالطبيعة يقتضى ان يكون المطلوب ايجاد الطبيعة وخروجها عن كتم العدم إلى عرصة الوجود ، وذلك يتحقق بأول وجود الطبيعة ، الا ان تقوم قرينة على إرادة مطلق الوجود. والايجاب الجزئي انما يقابل السلب الكلي ، حيث إن نقيض الموجبة الجزئية هو السالبة الكلية ، هذا.

ولكن الظاهر في باب النواهي ، ان يكون النهى لأجل مبغوضية متعلقه لقيام المفسدة فيه ، لا ان المطلوب هو خلو صفحة الوجود عنه ، بل مبغوضية الطبيعة بافرادها أوجبت النهى عنها ، ومبغوضية الطبيعة تسرى إلى جميع افرادها ، فينحل النهى حسب تعدد الافراد ويكون لكل فرد معصية تخصه ، من غير فرق بين ان يكون للنهي تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تشرب الخمر ، أو ليس له تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تكذب. غايته ان الانحلال فيما إذا كان له تعلق بموضوع خارجي يكون بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق ، فيكون كل فرد من افراد الشرب الذي يمكن ان يقع الشرب عليه لكل فرد من افراد الخمر مبغوضا ومتعلقا للنهي. وفيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي يكون الانحلال في ناحية المتعلق فقط. وعلى كل حال ، لا ينبغي التأمل في أن الظاهر في باب النواهي هو ان يكون المطلوب فيها هو ترك كل فرد فرد ، على نحو العام الاستغراقي. ودلالة النهى

ص: 395

على ذلك في الافراد العرضية مما لا اشكال فيه.

واما الافراد الطولية : فدلالة النهى عليها مبنية على أن يكون نفس تعلق النهى بالطبيعة يقتضى نهى جميع الافراد العرضية والطولية ، بحيث يكون مفاد صيغة النهى في مثل قوله : لا تشرب الخمر ، هو ان يكون شرب الخمر في كل آن آن مبغوضا ، فيدل النهى على المنع في الافراد الطولية أيضا ، ويكون العموم الزماني مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة ، بلا حاجة إلى استفادة العموم الزماني من دليل الحكمة بل النهى وضعا يدل على ذلك ، ويكون مصب العموم الزماني هو المتعلق لا الحكم.

وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، في - التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب - عند تعرض الشيخ ( قده ) لمقالة المحقق الكركي (رحمه اللّه) في مفاد أوفوا بالعقود ، من أن المرجع بعد تخصيص العام في بعض الأزمنة بالنسبة إلى بعض الافراد والشك في الزمان الزائد هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص ، وبينا الفرق بين استفادة العموم الزماني من نفس مفاد النهى ، أو من دليل الحكمة. وقد اختار شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام كون العموم الزماني في باب النهى مستفادا من دليل الحكمة ، وفي ذلك المقام اختار كونه مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة. فراجع ذلك المقام لكي تكون على بصيرة.

ثم إن القوم قد تعرضوا في باب النواهي لبعض المباحث التي لا يهمنا البحث عنها. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، التي وقعت معركة الآراء قديما وحديثا فنقول : ومن اللّه التوفيق. المبحث الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي.

والقوم وان عنونوا النزاع على هذا الوجه ، الا انه ليس ظاهر العنوان مرادا قطعا ، فان ظاهر العنوان يعطى ان يكون النزاع في تضاد الأمر والنهي وعدمه ، مع أن تضاد الاحكام بأسرها امر مفروغ عنه غير قابل للنزاع فيه. بل المبحوث عنه في المقام ، هو أصل لزوم الاجتماع وعدمه ، لا جوازه وعدمه. فالأولى تبديل العنوان بان يقال : إذا اجتمع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود ، فهل يلزم من

ص: 396

الاجتماع كذلك ان يتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر؟ كما هو مقالة القائل بالامتناع ، أو لا يلزم ذلك؟ كما هو مقالة القائل بالجواز. وسيأتي ما هو المراد من الاجتماع ايجادا ووجودا.

ثم إن البحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين.

المقام الأول :

هو ما عنونا به المسألة ، من أن اجتماع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود هل يوجب ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو لمكان اطلاق كل منهما لمتعلق الآخر؟ فيمتنع صدور مثل هذا الأمر والنهي وتشريعهما معا بلحاظ حال الاجتماع ، ويكون بين الدليلين المتكفلين لذلك تعارض العموم من وجه. أو انه لا يلزم من الاجتماع المذكور تعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فلا يمتنع تشريع مثل هذا الأمر والنهي ، ولا يكون بينهما تعارض. وبعبارة أخرى : البحث في المقام الأول ، انما هو في أن جهة الأمر والنهي هل تكون تقييدية مكثرة للموضوع؟ فلا تعلق لأحدهما بالآخر ، أو ان الجهة تعليلية؟ فيتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر.

المقام الثاني :

هو انه بعد ما كانت الجهتان تقييديتين ولا يتعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ولا يكون بين الدليلين تعارض ، فهل وجود المندوحة للمكلف وتمكنه من ايجاد الصلاة خارج الدار الغصبية يجدى في رفع غائلة التزاحم بين الامر والنهى؟ ويكفي في انطباق المأمور به والمنهى عنه على الجامع وهو الصلاة في الدار الغصبية فتصح الصلاة. أو ان وجود المندوحة لا يجد في ذلك؟ ولا ينطبق المأمور به على المجمع. والبحث عن المقام الثاني هو عين البحث المتقدم مع المحقق الكركي (رحمه اللّه) من أن القدرة على الطبيعة المأمور بها في الجملة ولو في ضمن فرد ما يكفي في انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم بالأهم فيكون الاجزاء عقليا - على ما (1)

ص: 397


1- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مبحث الضد ص 312 - 313

تقدم تفصيله في بعض مقدمات الترتب - والمحقق الكركي (رحمه اللّه) وان كانت مقالته في وجود المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، الا ان جهة البحث مشتركة بين الافراد الطولية والعرضية ، حيث إن العبرة بوجود المندوحة وتمكنه من فعل ما لايكون مزاحما بالأهم منه ، سواء في ذلك الافراد الطولية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مزاحما لأداء الدين أو إزالة النجاسة ، أو الافراد العرضية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مجامعا للغصب.

وعلى كل حال : البحث عن المقام الثاني ، انما يكون بعد الفراغ عن المقام الأول كما عرفت ، إذ لا يتفاوت الحال في البحث عن المقام الأول بين وجود المندوحة وعدمه ، فان البحث في ذلك المقام يكون بحثا عن عالم التشريع والثبوت ، الذي لا يتفاوت الحال فيه بين وجود المكلف والمندوحة وعدمه ، فاعتبار المندوحة انما تنفعنا في البحث عن المقام الثاني.

ومن هنا يمكن ان يستظهر من اخذ قيد المندوحة في عنوان النزاع - كما عليه قاطبة المتقدمين - ان النزاع انما كان في المقام الثاني ، وان المقام الأول كأنه كان مفروغا عنه ، وانه لا كلام في جواز الاجتماع من الجهة الأولى. ولكن المتأخرين كأنهم أهملوا البحث عن المقام الثاني ، وخصوا النزاع بالمقام الأول. ولكن نحن نتكلم في كل من المقامين على حده.

والأقوى عندنا في المقام الأول الجواز ، وان الاتحاد لا يوجب تلعق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، وفي المقام الثاني عدم كفاية المندوحة في رفع التزاحم. ولنقدم امام المقصود مقدمات : منها ما يشترك فيها كلا المقامين ، ومنها ما تختص بالمقام الأول ، ومنها ما تختص بالمقام الثاني. اما المقدمات المشتركة.

فمنها :

ان الظاهر كون المسألة من المبادئ ، لا من المسائل الأصولية ، ولا من مسائل علم الكلام ، ولا من المسائل الفقهية.

اما عدم كونها من المسائل الكلامية والفقهية فواضح ، فلان البحث في

ص: 398

المقام ليس عن امكان الاجتماع وامتناعه ، حتى يكون البحث عن مسألة كلامية ، حيث إن علم الكلام هو المتكفل لبيان حقايق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها. وكان توهم ، كون المسألة كلامية نشأ عن ظاهر العنوان ، حيث إن ظاهره يعطى كون البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، فتخيل كون البحث راجعا إلى مسألة كلامية ، الا انه قد تقدم ان البحث في المقام راجع إلى أصل الاجتماع وعدمه ، لا إلى جوازه وامتناعه.

وكذا ليس البحث في المقام راجعا إلى صحة الصلاة في الدار الغصبية وعدم الصحة أو حرمتها وعدم الحرمة حتى تكون المسألة فقهية ، فان جهة البحث ليست ذلك ، وان كانت النتيجة تنتهي بالآخرة إلى ذلك ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة فقهية ما لم تكن الجهة المبحوث عنها مما تتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، وذلك واضح.

واما عدم كون المسألة من المسائل الأصولية ، فلان البحث فيها وان كان راجعا إلى باب الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، كالبحث عن مقدمة الواجب ، واقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده - وان كان الفرق بين المسألة وتلك المسائل ، هو ان البحث في تلك المسائل عن لازم خطاب واحد ، وفي هذه المسألة عن لازم خطابين أعني خطاب الامر وخطاب النهى - الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة أصولية ما لم تكن الكبرى المبحوث عنها بنفسها واقعة في طريق الاستنباط ، بحيث تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ويستنتج منها حكم كلي فقهي. والكبرى المبحوث عنها في المقام لا تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ، فان الكبرى المبحوث عنها انما هي اقتضاء اتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود وتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر. وهذا كما ترى يكون بحثا عن صغرى التعارض. وفي المقام الثاني أعني كفاية المندوحة يكون بحثا عن صغرى التزاحم ، فتكون المسألة من مبادئ مسائل التعارض والتزاحم. فان حقيقة البحث في المقام ، يرجع إلى البحث عما يقتضى تعارض الأمر والنهي - في مورد الاجتماع واتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود - وعدم ما يقتضى تعارضهما ، أو تزاحم

ص: 399

الأمر والنهي عند وجود المندوحة وعدم التزاحم. وهذا بحث عن وجود ما هو الموضوع لمسائل التعارض والتزاحم ، وأين هذا من المسألة الأصولية؟.

والحاصل : ان البحث عن الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، تارة : يكون بحثا عن المسألة الأصولية ، كالبحث عن مسألة الضد ومقدمة الواجب ، فان المبحوث عنه في هذه المسألة عن اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، واقتضاء ايجاب الشيء لايجاب مقدماته يكون بحثا عن كبرى قياس الاستنباط ، ويستنتج منه حكم كلي فقهي ، وهو فساد الضد إذا كان عبادة ، ووجوب مقدمة الواجب. وأخرى : لايكون البحث عن الملازمات العقلية بنفسه بحثا عن مسألة أصولية ، لعدم وقوع المبحوث عنه كبرى لقياس الاستنباط ، كما في المقام.

فان المبحوث عنه فيما نحن فيه في المقام الأول انما هو استلزام تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر عند اتحاد المتعلقين ، فيكون الأمر والنهي متعارضين ، أو عدم استلزام ذلك فلا تعارض. وثبوت التعارض وعدمه لا يقع بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التعارض من الترجيح والتخيير. وفي المقام الثاني : انما هو في كفاية وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدم كفايته ، فيكون بحثا عما يقتضى وجود التزاحم وعدمه وهو أيضا ليس بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التزاحم.

فالانصاف : ان البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية ، لرجوع البحث فيه إلى البحث عما يقتضى وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم ، وليس بحثا عن المسألة الأصولية ، ولا عن المبادئ الاحكامية التي هي عبارة عما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة ، ككون الحكم تكليفيا أو وضعيا ، وان الحكم الوضعي قابل للجعل أو غير قابل. وقد كان بناء شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) سابقا على أن البحث في المقام راجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، الا انه عدل عن ذلك وجعل البحث راجعا إلى المبادئ. والامر في ذلك سهل.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي المفاهيم والعناوين الكلية ، التي يكون

ص: 400

موطنها العقل بما ان موطنها العقل ، لامتناع انطباق تلك المفاهيم على الحقايق الخارجية ، بل هي من المعقولات الثانوية الممتنعة الصدق على الخارجيات ، فلا يعقل ان يتعلق بها التكليف. بل تلك المفاهيم انما تكون كليات عقلية ليس موطنها الا العقل ، وهي باعتبار ذلك الموطن متباينة دائما ، ليس بينها نسبة التساوي ، أو العموم من وجه ، أو العموم المطلق ، بل متعلقات التكاليف انما هي المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لحقايقها الخارجية القابلة الصدق والانطباق على الخارجيات ، التي تكون بهذا الاعتبار كليات طبيعية ، وبذلك يصح ملاحظة النسبة بينها ، فتارة : يكونان متلازمين في الصدق فيكون النسبة هي التساوي. وأخرى : لا يكونان كذلك ، فاما ان يتصادقا في مورد أصلا فالنسبة تكون هي التباين ، وأخرى يتصادقان في مورد ويفترقان في مورد آخر فالنسبة تكون هي العموم من وجه ان كان الافتراق من الجانبين ، والا فالعموم المطلق ، على ما سيأتي من ضابطة النسب الأربع. وملاحظة النسبة كذلك لايكون الا في الكليات الطبيعية الملحوظة مرآة لما في الخارج ، لا الكليات العقلية.

ثم إن المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لما تنطبق عليه من الخارجيات ، تارة : تكون متأصلة في عالم العين سواء كانت من مقولة الجواهر أو الاعراض ، وأخرى : تكون متأصلة في عالم الاعتبار ، بحيث يكون وجودها عين اعتبارها ممن بيده الاعتبار. وللامر الاعتباري نحو وجود متأصل في عالمه نحو وجود المتأصل في عالم العين ، وان كان وجود الامر الاعتباري أضعف من وجود الامر العيني ، الا ان ذلك لا يلحقه بالانتزاعيات التي ليس لها وجود الا بوجود منشأ انتزاعها ، وتكون من خارج المحمول ، بل الانتزاعي امر والاعتباري امر آخر ، وليس الاعتباري عين الانتزاعي ، وان كان ربما يطلق أحدهما على الآخر ، الا ان ذلك لا يخلو عن مسامحة. فالامر الاعتباري مقابل للامر الانتزاعي ، حيث إن للأول نحو وجود في وعاء الاعتبار وليس للثاني وجود ، بل الموجود هو منشأ الانتزاع ، سواء كان المنشأ من الأمور المتأصلة في عالم العين ، أو كان من الأمور المتأصلة في عالم الاعتبار ، فان الامر الاعتباري يصلح ان يكون منشأ لانتزاع امر ، كصلاحية الامر العيني لذلك.

ص: 401

فالعنوان الملحوظ على وجه المرآتية يكون على اقسام ثلاثة : متأصل في عالم العين ، ومتأصل في عالم الاعتبار ، ومنتزع عن أحدهما ، وهو باقسامه يصلح ان يتعلق به التكليف ، غايته ان التكليف بالانتزاعي يكون تكليفا بمنشأ الانتزاع ، إذ هو المقدور الذي تتعلق به إرادة الفاعل ، والانتزاعي انما يكون مقدورا بواسطته ، وذلك كله واضح. (1).

ومنها :

ان العناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين الجزئي لا يعقل ان يتصادقا على متحد الجهة ، فان جهة الصدق والانطباق في أحد العنوانين لا بد ان تغاير جهة الصدق والانطباق في الآخر ، والا لامتنع صدق أحدهما بدون صدق الآخر ، وكانا متلازمين في الصدق والانطباق ولم يحصل بينهما افتراق. فإنه بعد فرض وحدة الجهة يكون الموجب لانطباق أحد العنوانين على شيء هو الموجب لانطباق العنوان الآخر عليه ، فلا يعقل الافتراق من جانب أو من جانبين ، فافتراق العنوانين في الصدق والانطباق يكشف عن تعدد جهة الصدق في مورد الاجتماع ، فلا يعقل تصادق عنوانين على متحد الجهة مع فرض امكان افتراق أحد العنوانين عن الآخر ولو في الجملة ومن جانب واحد.

ولا ينتقض ذلك بالباري تعالى حيث إنه ينطبق عليه عناوين متباينة بالتباين الجزئي ، مع أنه تعالى ليس فيه تعدد جهة لكونه تعالى بسيطا كل البساطة ، ومع ذلك ينطبق عليه عنوان العالم والقادر ، مع أن بينهما العموم من وجه : وذلك لأنه لا يقاس التراب مع رب الأرباب ، فان العناوين المنطبقة عليه تعالى كلها راجعة إلى الذات ، فهو بذاته قادر ، وعالم ، وحى قيوم ، وليس العلم أو القدرة مغايرا للذات.

والحاصل : ان القياس ليس في محله ، فان مقام الباري تعالى مقام لا تصل

ص: 402


1- ولا يخفى عليك ان هذه المقدمة وما يتلوها من المقدمات ليس لها كثير ربط بالمقام الثاني ، بل ينبغي جعلها من مقدمات المقام الأول كما لا يخفى - منه.

إليه الأوهام ، ولا يمكن تعقل حقيقة انطباق تلك العناوين عليه ، فلا يصح جعل ذلك نقضا للبرهان العقلي الفطري الذي هو - عدم امكان انطباق العناوين المتباينة المفترقة في الصدق على متحد الجهة - وهذا يكفي في تصديقه نفس تصوره ، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

نعم : ينبغي بيان مناط تصادق العناوين وعدم تصادقها وانه كيف يتصادق بعض العناوين دون بعض.

فنقول : لا اشكال في أن صدق أي عنوان على أي شيء لا بد ان يكون لجهة تقتضي ذلك الصدق ، سواء كانت تلك الجهة راجعة إلى الذات كصدق الانسان على زيد ، أو إلى امر خارج عن الذات كصدق العالم عليه ، إذ لا يعقل صدق عنوان من دون ان يكون هناك جهة الصدق ، والا لصدق كل شيء على كل شيء.

ثم إن جهة صدق أحد العنوانين ، اما ان تكون متباينة مع جهة صدق العنوان الآخر ، واما ان لا تكون متباينة. وما كانت متباينة ، فاما ان يكون بينهما مضافا إلى التباين منافرة ومضادة ، واما ان لا يكونا كذلك ، بل كان بينهما مجرد المخالفة والمغايرة. والمخالفة والمغايرة ، اما ان تكون من قبيل المغايرة الجنسية والفصلية وما يلحق بذلك بحيث يكون التخلف من إحدى الجهتين دون الأخرى ، واما ان لا تكون من هذا القبيل بل كان التخلف من الجهتين. فهذه جملة ما يمكن ان يتصور عقلا في الجهات الموجبة لصدق العناوين على حقايقها الخارجية ، ولا خامس لهذه الأقسام ، فان الحصر عقلي لا استقرائي.

فان لم يكن بين الجهتين مباينة ومخالفة : فلا محالة يتلازم العنوانان في الصدق ، فان عدم التلازم يكشف عن تخلف إحدى الجهتين عن الأخرى ، مع أن المفروض عدم المخالفة بينهما ، فلا بد ان يكون بين العنوانين تلازم في الصدق ويكون العنوانان متساويين في الانطباق ، بحيث انه كلما صدق أحدهما صدق الآخر كما في الانسان والضاحك.

وان كان بين الجهتين مخالفة ومباينة : فان كان التخالف على وجه التنافر والتضاد ، كالفصول المنوعة للأجناس - حيث إن بين الفصول والصور النوعية

ص: 403

كمال المنافرة والمضادة ، لان الجنس لا يمكن ان يتحمل فصلين ويعتوره صورتان مجتمعتان - فلا محالة يكون بين العنوانين تباين كلي ، كالانسان والشجر ، حيث إن جهة صدق الانسان هي الفصل المقوم له والصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، وجهة صدق الشجر أيضا هي الفصل والصورة النوعية التي يكون بها الشجر شجرا ، وبين الصورتين كمال المنافرة والمضادة ، فلامحة يكون بين الانسان والشجر تباين كلي.

وان لم يكن بين الجهتين تنافر وتضاد ، بل كان بينهما مجرد المخالفة : فان كان التخلف من إحدى الجهتين دون الأخرى ، كما إذا كان إحدى الجهتين جهة الجنسية والأخرى جهة الفصلية - حيث إن التخلف انما يكون من جهة الفصلية لامكان تحمل الجنس فصلا آخر دون جهة الجنسية ، لعدم امكان القاء الفصل جهة الجنسية ، كما يتضح ذلك في مثل الحيوان والانسان - فلامحة يكون بين العنوانين العموم المطلق. وان كان التخلف من جانب كل من الجهتين ، فيكون بين العنوانين العموم من وجه.

ومما ذكرنا ظهر ان نسبة العموم من وجه لا يعقل ان تتحقق بين العنوانين الجوهريين ، لان جهة صدق العنوان الجوهري على شيء انما يكون باعتبار ماله من الصورة النوعية التي بها يكون الشيء شيئا ، وقد عرفت : ان الصور النوعية متباينة بالتباين الكلي لا يمكن ان يجتمعا ، نعم : جهة الجنسية والفصلية يمكن اجتماعهما. والنسبة بين الجهة الجنسية والفصلية دائما تكون العموم المطلق. فالعموم من وجه لا بد ان يكون ، اما بين الجوهري والعرضي كالانسان والأبيض ، واما بين العرضيين كالعالم والفاسق. ومعلوم : ان جهة الصدق والانطباق في العرضيين المجتمعين انما تكون هي مبدء الاشتقاق ، حيث إن المبدء هو العلة لتولد عنوان المشتق منه ، ويكون انطباق العالم على زيد من جهة علمه ، وانطباق الفاسق عليه من جهة فسقه ، فالعلة لانطباق العنوانين الذين يكون بينهما العموم من وجه ليست الا مبدء الاشتقاق ، وذلك المبدء هو الذي أوجب حدوث نسبة العموم من وجه بين العنوانين ، حيث لم يكن بين المبدئين منافرة ومضادة ، وقد تقدم في المشتق انه لا فرق بين المشتق ومبدء

ص: 404

الاشتقاق الا باللابشرطية والبشرط اللائية ، حيث إن العرض ان لوحظ لا بشرط عما يتحد معه يكون عنوانا عرضيا محمولا ، وان لوحظ بشرط لايكون عرضا مفارقا غير محمول. فالعرض هو الذي يكون عرضيا عند ملاحظته لا بشرط ، ويكون هو العلة لصدق العرضي المشتق منه على الذات فجهة الصدق في المشتقات ليست الا مبدء الاشتقاق.

ومن هنا ظهر : ان الجهتين اللتين أوجبتا صدق العنوانين العرضيين على شيء لا تكونان الا تعليليتين ، ولا تصلحان ان تكونا تقييديتين ، لما عرفت : من أن المبدء دائما يكون علة لصدق المشتق على الذات المتحدة معه ، فجهة انطباق عنوان العالم على زيد وكذا جهة انطباق الفاسق عليه تكون تعليلية ، ويقال : زيد عالم وفاسق ، لعلة علمه وفسقه. هذا بالنسبة إلى العناوين الاشتقاقية.

واما بالنسبة إلى نفس المبادئ الاشتقاقية ، فلا يعقل اتحاد بعضها مع بعض ، ولا اتحادها مع الذات القائمة بها ، فإنها من هذه الحيثية تكون بشرط لا دائما ، ولا يعقل ان تلاحظ المبادئ بعضها مع بعض لا بشرط ، إذ المبادئ كلها متباينة ، والعلم على أي وجه لوحظ يكون غير الفسق ، وكذا الفسق يكون غير العلم ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على الذات ، فلا يقال : زيد علم ولا العلم فسق.

والحاصل : ان العرض بالنسبة إلى الذات القائم بها يصح لحاظه لا بشرط فيكون عنوانا مشتقا يصح حمله على الذات المنطبق عليها ، ويصح لحاظه بشرط لا فيكون مفارقا لا يصح حمله على الذات. فصحة لحاظه لا بشرط أو بشرط لا انما يكون بالنسبة إلى الذات القائم بها ، واما بالنسبة إلى عرض آخر فدائما يكون بشرط لا ، إذ لا ربط بينهما ، لعدم قيام عرض بعرض آخر ، فلا يصح لحاظ العلم لا بشرط بالنسبة إلى الفسق ، وان صح لحاظه لا بشرط بالنسبة إلى الذات القائم بها. وح فلا يعقل الاتحاد بين المبادئ.

نعم : تختلف المبادئ من حيث امكان اجتماع بعضها مع بعض في الوجود وعدم امكانه ، لان المبادئ ان كانت مقولة الكيف ، كالعلم ، والفسق ، والحلاوة ، والبياض ، فلا يعقل اجتماع بعضها مع بعض في الوجود ، بحث يكون مبدء مجامعا

ص: 405

لمبدء آخر في الوجود ، على وجه يلتصق به ويتحد معه في الوجود بنحو من الاتحاد ، لوضوح ان مثل العلم لا يلتصق بالفسق ولا يتحد معه بوجه من الوجوه. نعم هما يجتمعان في الذات التي يقومان بها ، فيكون زيد مثلا مجمعا للعلم والفسق ، بمعنى انه وجد فيه كل من المبدئين ، ولمكان وجود المبدئين فيه انطبق عليه عنوان العالم والفاسق ، الا ان اجتماعهما في الذات غير اجتماع العلم مع الفسق على وجه الالتصاق والتركيب ، بحيث يتركب العلم مع الفسق ويكونان بمنزلة شيء واحد وما بحذاء أحدهما عين ما بحذاء الآخر ، فان ذلك امر غير معقول في مثل ذلك.

واما ان كانت من الافعال الصادرة عن الشخص - بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء لا بالمعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول من معنى الفعل - فيمكن اجتماع المبادئ بعضها مع بعض ، على وجه يكون فعل واحد مصداقا لمبدئين ، ويتركب أحدهما مع الآخر ويلتصق به ، بحيث لايكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. وذلك كما في مثل الصلاة والغصب ، حيث يمكن ان يوجدا بفعل واحد وحركة فاردة ، وتكون تلك الحركة مجمعا لكل من الصلاة والغصب ، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر ، مع ما هما عليه من المغايرة وعدم الاتحاد ، لما تقدم : من أنه لا يعقل اتحاد المبدئين وملاحظتهما لا بشرط بالنسبة إلى الآخر الذي هو ملاك الاتحاد ، كما في العناوين المشتقة ، فيكون التركيب في مثل الصلاة والغصب نظير التركيب في الهيولي والصورة.

ومنها :

ان العناوين المجتمعة تارة : تكون من العناوين الاشتقاقية ، وأخرى : تكون من المبادئ. وما تكون من المبادئ تارة : يكون اجتماعها لا على وجه الانضمام والتركيب ، بل كان ما بحذاء أحدهما خارجا غير ما بحذاء الآخر وكان كل منهما قابلا للإشارة الحسية إليه وكان اجتماعهما مجرد واجدية الموضوع لهما واجتماعهما فيه ، سواء كان ذلك من جهة تلازمهما في الوجود ، كالاستقبال والاستدبار للقبلة والجدى ، حيث إنه وان وجد كل من استقبال القبلة واستدبار الجدي في الشخص ، الا ان الاستقبال انما يكون باعتبار مقاديم البدن والاستدبار

ص: 406

باعتبار مآخيره ، وكان لكل منهما ما بحذاء غير ما بحذاء الآخر وقابلا للإشارة الخارجية إليه وان كانا متلازمين في الوجود. أو كان ذلك من جهة الاتفاق والمقارنة من دون ان يكون بينهما تلازم ، كالعلم والفسق المجتمعين في زيد ، حيث إنه وان اجتمعا في زيد ، الا انه كان لكل منهما ما بحذاء في الخارج غير ما بحذاء الآخر ، وقابل للإشارة إليه.

وأخرى : يكون اجتماعهما على جهة التركيب والانضمام والالتصاق ، وذلك كما في الصلاة والغصب وأمثال ذلك مما كان المبدء من الأفعال الاختيارية ، حيث إنه وان اجتمعا في الدار الغصبية ، الا ان اجتماعهما يكون على وجه الانضمام والتركيب بينهما ، وكان الموجود في الدار الغصبية مركبا منهما على وجه لا يمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر. هذا مع ما هما عليه من المغايرة ، بحيث لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا تكون الصلاة غصبا ولا الغصب صلاة ، لما تقدم من أن المبادئ بالقياس إلى أنفسها تكون بشرط لا ، وان كان بالقياس إلى الذات التي تقوم بها يصح لحاظها لا بشرط.

وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية ، فإنها ملحوظة لا بشرط بالنسبة إلى أنفسها وبالنسبة إلى الذات القائمة بها. ومن هنا كان التركيب فيها تركيبا اتحاديا بحيث يصح حمل كل من العنوانين على الآخر ، وحملهما على الذات ، وحمل الذات عليهما ، فيقال : زيد عالم وفاسق ، والعالم والفاسق زيد ، والعالم فاسق ، والفاسق عالم ، لمكان اتحاد الجميع بحسب الخارج. وهذا بخلاف التركيب بين المبادئ فيما إذا كان بينهما تركيب ، فان التركيب بينها يكون انضماميا ، لا اتحاديا ، لاعتبارها بشرط لا ، فلا اتحاد بينها حتى يصح حمل بعضها على بعض ، لان العرض لا يعقل ان يقوم بعرض آخر حتى يمكن فيهما الاتحاد. فالتركيب بين المبادئ يكون نظير التركيب بين المادة والصورة ، حيث إن التركيب فيهما يكون انضماميا ، لا اتحاديا ، لمكان انهما أيضا ملحوظان بشرط لا ، كالمبادئ ، وان كان بين المبادئ والصورة والهيولي فرق وهو : ان اجتماع المبادئ انما يكون في الموضوع القائمة به ، إذ لا جامع بينها سوى ذلك ، والموضوع في مثل الصلاة والغصب هو الشخص. وهذا بخلاف اجتماع المادة والصورة ،

ص: 407

فان اجتماعهما يكون باعتبار كون الهيولي مركب الصورة ومحلا لها ، وهدا لمكان ان الهيولى قوة محضة والصورة فعلية محضة ، والا فالجواهران الفعليان أيضا كالعرضيين لا يعقل ان يقوم أحدهما بالآخر. وعلى كل حال : جهة تشبيه اجتماع المبادئ باجتماع الهيولي والصورة في مجرد كون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، كما أن التركيب بين العناوين المشتقة نظير التركيب بين الجنس والفصل من حيث كونه اتحاديا ، حيث إن الجنس والفصل أيضا ملحوظان لا بشرط كالعناوين المشتقة.

ومنها : ان التركيب الاتحادي يقتضى ان تكون جهة الصدق الانطباق فيه تعليلية ، ولا يعقل ان تكون تقييدية ، لان الجهة لا تكون مكثرة للموضوع ، فانا قد فرضنا كون التركيب اتحاديا ، ومع التركيب الاتحادي لا تكثر لوحدة الموضوع.

وبالجملة : علم زيد وفسقه لا يوجب ان يكون زيد العالم غير زيد الفاسق ، بل هو هو ، وانما يكون العلم والفسق علة لانطباق العالم والفاسق عليه. وهذا بخلاف التركيب الانضمامي فان الجهة فيه تكون تقييدية ولا تصلح ان تكون تعليلية ، لأنا قد فرضنا عدم الاتحاد بين العنوانين. والجهتان في التركيب الانضمامي هما عبارة عن نفس العنوانين المجتمعين ، وليس هناك عنوان آخر حتى يصح كون الجهة تعليلية.

وبالجملة : لازم عدم اتحاد العنوانين هو كون الجهة تقييدية ، والمراد من التقييد في المقام غير التقييد المراد منه في باب المطلق ، بمعنى ان التقييد في باب المطلق انما يرد على الماهية الجنسية أو النوعية ، ويوجب تضييق دائرة الماهية ، ويجعلها منقسمة إلى نوعين أو صنفين. والتقييد في المقام انما يرد على الشخص ، ويوجب اندراج الشخص تحت نوعين أو صنفين باعتبار الجهتين اللتين هما فيه. ففي مثل الصلاة في الدار الغصبية التي اجتمع فيها عنوان الغصب وعنوان الصلاة تكون كل من الجهتين اللتين هما عبارة عن الصلاة والغصب مقيدة لذلك الموجود في الدار وموجبة لاندراجه تحت نوعين ، أي مقولتين ، على ما سيأتي بيانه.

فظهر : ان هذه المقدمات الثلث الأخيرة كلها متلازمة ، وترتضع من ثدي

ص: 408

واحد ، فان لازم كون العنوانين ملحوظين على وجه اللابشرطية ، هوان يكون التركيب بينهما اتحاديا وكون الجهتين تعليليتين ، كالعالم ، والفاسق ، والمصلى ، والغاصب. ولازم لحاظها بشرط لا كون التركيب بينهما انضماميا وكون الجهتين تقييديتين ، كالصلاة والغصب ، وما شابه ذلك من المبادئ التي أمكن التركيب بينها ، لا مثل العلم والفسق الذين ليس بينهما تركيب.

فان قلت :

انه بناء على هذا يلزم ان لايكون بين المبادئ نسبة العموم من وجه ، لان ضابط العموم من وجه هو تصادق العنوانين على جهة الاتحاد الموجب لصحة الحمل ، فمثل الصلاة والغصب ينبغي ان لا تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، لعدم الاتحاد المصحح لحمل أحدهما على الآخر.

قلت :

لا يختص العموم من وجه بصورة تصادق العنوانين على جهة الاتحاد ، بل ضابط العموم من وجه هو تصادق العنوانين على جهة التركيب ، سواء كان التركيب اتحاديا أو انضماميا. مع أنه ليس كلامنا في المقام في التسمية والاصطلاح ، بل كلامنا في المقام فيما يمكن في العناوين وبيان أنحاء تصادقها عقلا ، واما التسمية فهي بيدك ما شئت فسم. والغرض في المقام : الفرق بين تصادق مثل العالم والفاسق ، وتصادق مثل الصلاة والغصب. والذي يدل على أن التصادق في مثل العالم والفاسق يكون على وجه التركيب الاتحادي وفي مثل الصلاة والغصب يكون على وجه الانضمام ، هو ان العناوين الاشتقاقية ليس الموجود منها في مادة الافتراق هو تمام ما هو الموجود في مادة الاجتماع ، بل الموجود في مادة الافتراق نفس الجهة وتبدل تلك الذات التي كان العنوانان قائمين بها بذات أخرى ، حيث إن الذي يكون عالما هو بكر ، والذي يكون فاسقا هو عمرو ، والذي يكون عالما وفاسقا هو زيد ، فهناك ذوات ثلث بحسب مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، ولا يكون تمام ما هو مناط الصدق في مادة الاجتماع من المبدء والذات محفوظا في مادة الافتراق. وهذا بخلاف مثل الصلاة والغصب ، فان تمام ما هو مناط صدق الصلاة بهويتا و

ص: 409

حقيقتها محفوظ في مادة الافتراق ، من دون نقصان شيء أصلا ، وكذا في مادة الافتراق في جانب الغصب. ولو كان التركيب في مثل الصلاة والغصب اتحاديا وكانت الجهة تعليلية ، لكان ينبغي ان يكون مثل العناوين الاشتقاقية موجبا لان لايكون في مادة الافتراق الصلاة بتمامها محفوظة ، كما لا يخفى.

ومنها :

ان مورد البحث انما هو فيما إذا كان بين العنوانين العموم من وجه ، فان في العموم المطلق يلزم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ان لم نقل بالتخصيص ، وان قلنا بالتخصيص فلا اجتماع ، فلو قال ( صل ولا تغصب بالصلاة ) كان الفرد من الصلاة الجامع للغصب خارجا من اطلاق الامر بالصلاة ، والا لزم ان يكون فعلا موردا لحكمين متضادين.

فما ذكره (1) في الفصول وغيره من جريان البحث في العموم المطلق فمما لا وجه له ، بل لابد ان تكون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وذلك أيضا ليس على اطلاقه ، بل لابد ان تكون نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف بإرادة واختيار الذين تعلق بهما الطلب الأمري والنهيي ، كما في مثل الصلاة والغصب.

وأما إذا كانت النسبة بين الموضوعين - كما في العالم والفاسق في مثل قوله : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق - فهو خارج عن محل البحث ، وان توهم أيضا دخوله فيه ، الا انه لا ينبغي التأمل في خروجه لما عرفت : من أن التركيب في مثل ذلك يكون على جهة الاتحاد ، ويكون متعلق الامر بعينه هو متعلق النهى ، من غير فرق بين العام الأصولي ، أو الاطلاق الشمولي ، أو الاطلاق البدلي ، أو بالاختلاف ، فإنه

ص: 410


1- قال في الفصول : « ثم لافرق في موضع النزاع بين ان يكون بين الجهتين عموم من وجه كالصلاة والغصب ، وبين ان يكون بينهما عموم مطلق مع عموم المأمور به ، كما لو امره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص فتحرك إليه ، فان الحركة والتداني طبيعتان متخالفتان ، وقد أوجدهما في فرد واحد والأولى منها أعم ... » راجع الفصول ، بحث الاجتماع ، في تحرير محل النزاع ، ص 126

في الجميع ينبغي اعمال قواعد التعارض. وليس من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بل مسألة الاجتماع انما تكون فيما إذا كانت النسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين من المكلف بإرادة واختيار ، بحيث يجتمع الفعلان بتأثير واحد وإيجاد فارد.

ومن ذلك ينقد ح أيضا انه ليس من ( مسألة الاجتماع ) ما إذا كانت النسبة بين العناوين المتولدة من الفعل الصادر عن المكلف ، كما إذا كان للفعل عنوانان توليديان تكون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، كما لو أكرم العالم المأمور باكرامه والفاسق المنهى عنه بفعل واحد تولد منه كل من الاكرامين ، كما لو قام بقصد التعظيم لكل من العالم والفاسق ، فان تعظيم كل منهما وان اجتمعا بتأثير واحد ، وكان اجتماع التعظيمين على وجه التركيب الانضمامي ، لا الاتحادي - فان تعظيم زيد غير تعظيم عمرو ، وكل منهما يكون بالإضافة إلى الآخر بشرط لا ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر - الا انه لما كان التعظيمان من المسببات التوليدية التي لم تتعلق إرادة المكلف بها أولا وبالذات ، لكونها غير مقدورة له بلا واسطة ، فلا جرم يكون متعلق التكليف هو السبب الذي يتولد منه ذلك ، لا بما هو هو ، بل بما انه معنون بعنوان التعظيم - على ما تقدم تفصيله في بعض المباحث السابقة - والمفروض ان السبب هو فعل واحد بالحقيقة والهوية ، ويكون العنوان المتولد منه بمنزلة العلة غير موجب لتكثر السبب ، بل العنوانان التوليديان يكونان من قبيل العلم والفسق القائمين بزيد ، من حيث إنهما لا يوجبان تكثرا في الذات ، بل الوحدة فيها محفوظة والجهتان تعليليتان. وباب العناوين التوليدية بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن تعدد العناوين لا يوجب تعدد المعنون ، والمفروض ان المعنون هو الفعل الاختياري الذي تعلق به الطلب ، فيجتمع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ، ولابد حينئذ من اعمال قواعد التعارض ، ولا يكون من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فتأمل. (1) .

ص: 411


1- سيأتي في بعض الأمور اللاحقة ان ذلك على اطلاقه ممنوع ، بل بعض العناوين التوليدية تندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي منه.

ولا يتوهم : ان الصلاة والغصب في الدار الغصبية يكونان كذلك ، أي يكون الغصب من العناوين التوليدية ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة ان الغصب الذي هو عبارة عن التصرف في ارض الغير بنفسه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلف أولا وبالذات ، وليس من العناوين التوليدية ، مع أن المناقشة في المثال ليس بسديد. فان لم يعجبك مثال الصلاة والغصب لمسألة الاجتماع - مع أنه من أوضح أمثلتها - فعليك بمثال آخر ، لان المثال ليس بعزيز.

والمقصود هو : ان مسألة الاجتماع ، انما تكون فيما إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف أولا وبالذات ، لا بين العناوين المتولدة عن الفعل ، ولا بين الموضوعين ، كالعالم والفاسق. بل نفس كون النسبة بين الفعلين العموم من وجه لا يكفي ما لم يكن التركيب بينهما على جهة الانضمام ، والا فربما تكون النسبة كذلك مع كون التركيب اتحاديا ، كما في مثل قوله : أنفق على أقاربك ، أو اشرب الماء ، ولا تغصب ، فان التركيب في مورد الاجتماع من شرب الماء المغصوب أو انفاق الدرهم المغصوب يكون على وجه الاتحاد ، فان الفرد من الماء الذي يشربه مصداق لكل من الشرب والغصب ، ويكون نفس شرب الماء غصبا ، فيتحد متعلق الأمر والنهي ، ولابد في مثل ذلك من اعمال قواعد التعارض ، وليس من مسألة اجتماع الأمر والنهي.

والسر في ذلك : هوان كلا من الأمر والنهي تعلق بموضوع خارجي ، ويكون الاتحاد من جهة هذا التعلق ، حيث إن المأمور به هو شرب الماء ، والمنهى عنه هو التصرف في مال الغير الذي من جملة افراده الماء الذي يكون من جملة افراد المأمور به ، فيتحد المتعلقان. نعم : الشرب من حيث كونه شربا وفعلا اختياريا للمكلف مع قطع النظر من متعلقه لا يتحد مع القصد. ومن هنا لو شرب الماء المباح في ارض الغير كان من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا يشتبه عليك الامر ، فتأمل جيدا.

ومنها :

انه بعد ما ظهر من أن التركيب بين المبادئ لايكون الا على وجه

ص: 412

الانضمام ، ولا يمكن ان يكون على وجه الاتحاد - حيث إن المبادئ دائما تكون بشرط لا بالنسبة إلى أنفسها ، أي بعضها مع بعض - فربما بتوهم في مثل الصلاة والغضب : ان الصلاة وان كانت بشرط لا بالنسبة إلى الغصب وكذا الغصب بالنسبة إلى الصلاة ، الا ان كلا من الصلاة والغصب يكون لا بشرط بالنسبة إلى الحركة الموجودة في الدار المغصوبة ، ويتحد كل من الصلاة والغصب في تلك الحركة وتكون تلك الحركة صلاة وغصبا ، فيعود اجتماع تعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، لان تلك الحركة حركة واحدة بالهوية ، وينطبق عليها كل من الصلاة والغصب ، كانطباق العالم والفاسق على زيد ، من غير فرق بينهما ، سوى ان كلا من العالم والفاسق يكون لا بشرط بالنسبة إلى الآخر ، ولا بشرط بالنسبة إلى زيد. واما في مثل الصلاة والغصب ، فاللابشرطية انما تكون بالنسبة إلى الحركة التي تقوم بها كل من الصلاة والغصب فقط ، ولكن النتيجة واحدة ، وهي استلزام اتحاد متعلق الأمر والنهي وتواردهما على واحد شخصي وهو المعنون بعنوان الصلاة والغصب ، والموجه بذلك هو الحركة الشخصية. فالمقدمات السابقة كلها تكون عقيمة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد التوهم ، لوضوح ان الغصب لا يعقل ان يكون قائما بالحركة ، فان الحركة لا تكون موضوعا للصلاة والغصب ، لان موضوعيتها لذلك اما ان يكون من قبيل موضوعية الجنس للفصل والمادة للصورة ، واما ان يكون من قبيل موضوعية المعروض لعرضه ، وكل منهما لا يعقل ، لان الجنس لا يعقل ان يتحمل فصلين ، والعرض لا يعقل ان يقوم بعرض ، مع أن الحركة في كل مقولة تكون عين تلك المقولة ، وليست هي مقولة مستقلة ، مع أن الاعراض بسيطة ليست مركبة وكان ما به الامتيار فيها عين ما به الاشتراك ، فلا يعقل ان يكون الغصب قائما بالحركة. الا ان يدعى ان الغصب من العناوين التوليدية ، وهو بمراحل عن الواقع ، بل الغصب هو بنفسه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلف بلا واسطة. وليس الغصب من مقولة الفعل باصطلاح أهل المعقول ، بل الغصب انما يكون من مقولة الأين ، وليس الغصب الا عبارة عن شاغلية الشخص للمكان ، فهو قائم بالشخص ، ويكون الغصب عبارة عن الكون الصلواتي الذي هو عبارة عن شاغلية

ص: 413

المكان ، وأين هذا من قيام الغصب بالحركة واتحاده معها؟ فليست الحركة معنونة بعنوان الغصب وموجهة به ، وليس اجتماع الصلاة والغصب من قبيل اجتماع العناوين في المعنونات والجهات في الموجهات ، بل ليس هناك الا نفس العنوانين والجهتين ، من دون ان يكون هناك معنون وموجه يكون الغصب والصلاة قائمين به ، والغصب والصلاة انما يكونان قائمين بالشخص ، ويكون هو الموضوع ، نظير قيام العلم والفسق بزيد ، وان كان بينهما فرق من حيث عدم التركيب في مثل العلم والفسق ، بخلاف الصلاة والغصب ، على ما تقدم تفصيله.

فان قلت :

ان التركيب بين الصلاة والغصب على أي وجه يكون ، بعد ما لم يكن هناك جامع بينهما وكانا متباينين بالهوية والحقيقة وليسا من مقولة واحدة ، فمن أين جاء التركيب بينهما؟ وليس تركيبهما نحو تركيب المادة والصورة ، فان التركيب هناك لمكان ان المادة صرف القوة وفعليتها تكون بالصورة ، وفي المقام كل من الصلاة والغصب يكون فعليا.

قلت :

التركيب في المقام انما يكون لأجل تشخص كل من الصلاة والغصب بالآخر ويجرى كل منهما بالنسبة إلى الآخر مجرى المشخص ، فتكون الصلاة متشخصة بالغصب ، ويكون الغصب متشخصا بالصلاة. ومن المعلوم : ان كل طبيعي يوجد في الخارج لابد ان يكون محفوفا بمشخصات عديدة من مقولات متعددة ، وكل واحد من تلك المشخصات لابد ان يكون مندرجا تحت عنوان كلي ، ويكون من أحد مصاديقه. مثلا المشخص المكاني مندرج تحت مقولة الأين ، والمشخص الزماني مندرج تحت مقولة متى ، وغير ذلك من المشخصات. والمشخصات ، تارة : تكون ملتفتا إليها ، وأخرى : تكون مغفولا عنها ، ولكن مع ذلك لا محيص من وقوع الطبيعي محفوفا بمشخص. ففي المقام تكون كل من طبيعة الصلاة والغصب ، متشخصة بالأخرى ، أي يكون وجود كل من الصلاة والغصب مشخصا للآخر ، والتشخص بذلك يكون في رتبة وجودهما ، ويكون من المشخص للصلاة هو الفرد

ص: 414

الغصبي ، وبالعكس.

ومنها :

ان العناوين المجتمعة في فعل المكلف وما هو الصادر عنه بايجاد واحد لا تخلو : اما ان تكون من العناوين القابلة للحمل مستقلا والمتأصلة في الصدق ، كالصلاة والغصب ، حيث إن كلا من الصلاة والغصب قابل للحمل على فعل المكلف ، ويكون هو الصادر عنه ابتداء ، وليسم مثل هذه العناوين بالمقولات المستقلة ، وتسميتها بذلك لا ينافي كونها من المقولات النسبية التي لا تكون مستقلة في التعقل ، كالكم والكيف ، حيث إنهما مستقلان في التعقل ، من دون توقف تعقلهما على تعقل امر آخر ، بخلاف ما عداهما من المقولات النسبية ، حيث إن تعقلها يتوقف على تعقل المنتسبين ، ولكن عدم استقلالها في التعقل لا ينافي استقلالها في الحمل والصدق على ما هو الصادر من الشخص ابتداء ، كما لا يخفى.

واما ان لا تكون من العناوين المستقلة ، بمعنى انها لا تكون هي الصادرة عن المكلف ابتداء ، بل كانت من متعلقات الفعل ومتمماته ، كالإضافات اللاحقة لفعل المكلف : من الظرفية ، والابتدائية ، والانتهائية ، كما تقول : ضرب زيد في الدار ، وسير زيد من البصرة ، وانتهائه إلى الكوفة ، وكون اكله استعمالا لآنية الذهب والفضة ، وغير ذلك من المتعلقات مما يكون الظرف فيها لغوا ، حيث إنه في ظرف اللغو دائما يكون من اجتماع المقولتين ، غايته ان إحدى المقولتين تكون من متعلقات الأخرى ومتمماتها ، بخلاف الظرف المستقر ، حيث إنه ليس فيه الا مقولة واحدة ، كقولك : زيد في الدار ، بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، حيث إنه اجتمع فيه عنوانان أحدهما : الضرب ، والآخر : اضافته إلى الدار ، وكما في الاكل من آنية الذهب والفضة ، حيث إنه اجتمع فيه أيضا الاكل والاستعمال ، وليس الاكل عين الاستعمال ، بل هناك مقولتان مجتمعتان ، غايته ان إحداهما تكون من متممات الأخرى ، لان الاستعمال لايكون الا بإضافته إلى الاكل أو الشرب أو غير ذلك من وجوه الاستعمالات.

وهناك قسم آخر من العناوين المجتمعة ، وهو اجتماع العناوين التوليدية

ص: 415

مع أسبابها. ونحن سابقا وان قلنا بخروجها عن محل الكلام ، الا ان الأقوى دخولها في محل البحث في غير العناوين القصدية ، كالتعظيم والتوهين ، فلو كان الالقاء مثلا مأمورا به والاحراق منهيا عنه ، فالقى المكلف ما امر بالقائه في النار فيكون من اجتماع الأمر والنهي ، لان الالقاء بنفسه لايكون احراقا ، والا كان كل القاء احراقا ، بل الالقاء انما يكون احراقا باعتبار اضافته إلى النار ، فيكون من اجتماع المقولتين لا محالة. وكذا الحال لو فرض ان هناك عنوانين توليديين لسبب واحد ، فان السبب الواحد لا يعقل ان يتولد منه عنوانان ، الا ان يكون فيه جهتان من الإضافة ، فيتعدد السبب حسب تعدد الجهة ، وتكون الجهة تقييدية لا محالة ، على ما تقدم من الضابط. وعلى كل حال : جميع هذه الأقسام الثلاثة من اجتماع العنوانين يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا تغفل وتأمل جيدا.

ومنها : انهم قد بنوا المسألة على كون متعلقات الاحكام ، هل هي الطبايع أو الافراد؟ وقد أنكر بعض الاعلام هذا الابتناء ، وأفاد انه لا يفترق الحال في الجواز والامتناع ، بين ان نقول بتعلق الاحكام بالطبايع ، أو الافراد ، هذا.

ولكن الحق : هو ان يقال : انه يختلف الحال في ذلك على بعض وجوه تحرير النزاع في مسألة تعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد ، ولا يختلف الحال على بعض الوجوه الآخر.

وتفصيل ذلك : هو ان النزاع في كون متعلقات الاحكام الطبايع أو الافراد يمكن ان يكون مبنيا على وجود الطبيعي وعدمه ، وان القائل بتعلق الاحكام بالافراد مبناه على عدم وجود الكلي الطبيعي وانه انتزاعي صرف ، بخلاف القائل بتعلق الاحكام بالطبايع ، فإنه يقول بوجود الكلي الطبيعي ، وعلى هذا لا تبتنى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على ذلك ، بل إن للبحث عن المسألة مجالا ، سواء قلنا بوجود الكلي الطبيعي ، أو لم نقل ، غايته انه بناء على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلق للأحكام هو منشأ الانتزاع ، ويجرى فيه ما يجرى على القول بوجود الطبيعي : من كون الجهة تقييدية أو تعليلية ، وان التركيب اتحادي أو انضمامي ، لوضوح ان انتزاع الصلاة لابد ان يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب ، هذا.

ص: 416

ولكن يبعد ان يكون النزاع بتعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد مبنيا على وجود الطبيعي وعدمه ، إذا لظاهر ان من يقول بتعلق الاحكام بالافراد ، لا ينكر وجود الطبيعي. فلا بد ان يرجع نزاعهم في ذلك إلى امر آخر. ومعلوم : انه ليس المراد من تعلق الاحكام بالافراد تعلقها بالافراد الشخصية ، لاستلزام ذلك طلب الحاصل حيث إن فردية الفرد انما يكون بالتشخص ، والتشخص يساوق الوجود.

ولا يمكن أيضا ان يكون مراد القائل بتعلق الاحكام بالافراد ، تعلقها بها على وجه يكون التخيير بينها شرعيا ، بحيث تكون الخصوصيات الشخصية مطلوبة على البدل ، فيكون قوله ( صل ) بمنزلة قوله : صل في هذا المكان أو في ذلك المكان ، وفي هذا الزمان أو ذلك الزمان ، وهكذا. بحيث يكون قوله ( صل ) بمنزلة الف ( صل ) فان سد باب التخيير العقلي بمكان من الفساد.

فالذي يمكن ان يكون محل النزاع على وجه يرجع إلى امر معقول : هو ان يكون النزاع في سراية الامر بالطبيعة إلى الامر بالخصوصيات ولو على النحو الكلي ، أي خصوصية ما ، بحيث تكون الخصوصية داخلة تحت الطلب تبعا ، نظير تعلق الإرادة التبعية بالمقدمة وان لم يكن من ذلك. فالقائل بتعلق الاحكام بالافراد يدعى السراية والتبعية ، القائل بتعلق الاحكام بالطبايع يدعى عدم السراية وان المأمور به هو الطبيعة المعراة عن كل خصوصية ، أي الساذجة الغير الملحوظ معها خصوصية أصلا ، ولا يسرى الامر إلى الخصوصيات بوجه من الوجوه. فلو كان النزاع في تعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد على هذا الوجه ، فالحق ان مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتنى على ذلك ، وتكون من مقدمات المسألة ، فإنه بعد ما عرفت : من أن كلا من متعلق الأمر والنهي يجرى بالنسبة إلى الآخر مجرى المشخص ، لو قيل بتعلق الاحكام بالافراد بالمعنى المتقدم من سراية الامر إلى الخصوصية ولو تبعا ، فلا مجال للنزاع في جواز الاجتماع ، لأنه يلزم ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو بالتبعية ، فيمتنع الاجتماع ، ولو قلنا بتعلق الاحكام بالطبايع ، من دون ان يسرى الامر إلى الخصوصيات كان للنزاع مجال ، من جهة وجود المتعلقين بتأثير واحد. فظهر : ان منع ابتناء المسألة على تلك المسألة باطلاقه لا يستقيم.

ص: 417

نعم : ابتناء المسألة على مسألة أصالة الوجود أو الماهية مما لاوجه له ، فإنه لا يفرق الحال فيما نحن فيه ، بين ان نقول : بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهية ، فإنه حتى على القول بأصالة الوجود يجرى النزاع ، من جهة دعوى اتحاد وجود المتعلقين أو عدم اتحاده ، وان لكل منهما حظا من الوجود يخصه لأربط له بالآخر ، وان كان المترائي وجودا واحدا بالعدد ، الا انه في الحقيقة وجودان منضمان ، فلا ربط للمسألة بمسألة أصالة الوجود أو الماهية.

كما أن ابتناء المسألة ، على كون كل من الدليلين متكفلا للمناط والمصلحة التي أوجبت الامر والمفسدة التي أوجبت النهى مما لاوجه له ، فان البحث في المقام لا يتوقف على المناط والمصلحة والمفسدة ، حيث إن البحث يجرى ولو قلنا بمقالة الأشاعرة وأنكرنا المصالح والمفاسد ، بل الذي يتوقف عليه البحث في المقام ، هو ان يكون الموجود في مورد الاجتماع تمام ما هو موضوع الامر وتمام ما هو موضوع النهى ، من دون ان يكون أحدهما فاقدا لقيد اعتبر فيه. فراجع ما ذكره في الكفاية في هذا المقام وما وقع منه من الخلط والاشتباه وتقسيمه الحكم إلى : اقتضائي ، وانشائي ، وفعلي ، وتصويره كون الحكم انشائيا بعد تحقق موضوعه. فان ذلك كله لا نعقله. وتقدم منا في بحث الواجب المشروط : المعنى الصحيح للانشاء والفعلية ، فراجع (1) ولعله يأتي أيضا ما يتعلق بمراتب الاحكام وفسادها في بعض المباحث.

إذا عرفت ما مهدناه لك من المقدمات فاعلم : ان المسألة ذات أقوال : ثالثها : التفصيل بالامتناع عرفا والجواز عقلا.

ورابعها : التفصيل بين الأوامر النفسية فالامتناع ، والأوامر الغيرية فالجواز. وقد استدل لكل من الجواز والامتناع بوجوه ، لا بأس أولا بالإشارة إلى جملة منها وبيان ما فيها من الخلل ثم نذكر ما عندنا من الوجه الصحيح ، فنقول : قد استدل للجواز بوجوه :

ص: 418


1- راجع الجزء الأول ، مباحث تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الجهة الثانية من الامر الأول ص 174

منها : ما افاده المحقق القمي ( قده ) : من أن متعلقات الأوامر والنواهي هي الطبايع ، والفرد انما يكون مقدمة لوجودها ، فالفرد من الصلاة الموجود في الدار الغصبية انما يكون مقدمة لوجود الطبيعة المأمور بها ، ومقدمة الواجب ليست واجبة ، فلم يجتمع هناك الوجوب والحرمة. ولو قيل : بوجوب المقدمة ، فوجوبها يكون غيريا تبعيا ، ولا مانع من اجتماع الوجوب الغيري مع النهى النفسي ، وانما المانع هو اجتماع الوجوب النفسي مع النهى النفسي ، على ما صرح به في مبحث مقدمة الواجب (1) هذا.

ص: 419


1- قوانين الأصول ، بحث الاجتماع ، الوجه الأول من الوجوه التي استدل بها لجواز الاجتماع ، ص 77. واليك نص ما افاده في المقام : « ان الحكم انما تعلق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه ، فمتعلق الامر طبيعة الصلاة ومتعلق النهى طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما المكلف بسوء اختياره في شخص واحد ولا يرد من ذلك قبح على الآمر لتغاير متعلق المتضادين ، فلا يلزم التكليف بالمتضادين ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة. فان قلت : الكلي لا وجود له الا بالفرد ، فالمراد بالتكليف بالكي هو ايجاد الفرد وان كان متعلقا بالكلي على الظاهر ، وما لا يمكن وجوده في الخارج يقبح التكليف بايجاده في الخارج. قلت : ان أردت عدم امكان الوجود في الخارج بشرط لا فهو مسلم ولا كلام لنا فيه ، وان أردت استحالة وجوده لا بشرط فهو باطل جزما ، لان وجود الكلي لا بشرط لا ينافي وجوده مع الف شرط فإذا تمكن من اتيانه في ضمن فرد فقد تمكن من اتيانه لا بشرط ، غاية الامر توقف حصوله في الخارج على وجود الفرد والممكن بالواسطة لا يخرج عن الامكان وان كان ممتنعا بدون الواسطة وهذا كلام سار في جميع الواجبات بالنسبة إلى المقدمات ، فالفرد هنا مقدمة لتحقق الكلي في الخارج فلا غاية في التكليف به مع التمكن عن المقدمات. فان قلت : سلمنا ذلك ، لكن نقل ان الامر بالمقدمة اللازم من الامر بالكلي على ما بنيت عليه الامر يكفينا ، فان الامر بالصلاة امر بالكون ، والامر بالكون امر بهذا الكون الخاص الذي هو مقدمة الكون الذي هو جزء الصلاة ، فهدا لكون الخاص مأمور به وهو بعينه منهي عنه لأنه فرد من الغصب ، والنهى عن الطبيعة يستلزم النهى عن جميع افراده ولو كان ذلك أيضا من باب مقدمة الامتثال بمقتضى النهى فان مقدمة الحرام حرام أيضا فعاد المحذور وهو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي. قلت : نمنع أولا وجوب المقدمة ، ثم نسلم وجوبه التبعي الذي بيناه في موضعه ولكن غاية الامر حينئذ توقف الصلاة على فرد ما من الكون ، لا الكون الخاص الجزئي وانما اختار المكلف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرم ». وقد بين في المقدمة السابعة من المقدمات التي مهدها لتحقيق وجوب مقدمة الواجب ، في مبحث المقدمة ،ص 49. « واما الوجوب المذكور أي وجوب المقدمة فلما كان هو أيضا تبعيا كاصل الخطاب به بمعنى انه لازم لأجل التوصل إلى ذي المقدمة ، وحكمه حكم الخطابات الأصلية التوصلية كانقاذ الغريق واطفاء الحريق وغسل الثوب النجس للصلاة ، فلم يحكم بكونه واجبا أصليا ولم يثبت له احكام الواجب الأصلي الذاتي ، فلا عقاب عليه لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي كما سنشير إليه ، ويجتمع مع الحرام لأجل كونه توصليا نظير الانقاذ والغسل الواجبين لاستخلاص النفس المحترمة والصلاة في الثوب الطاهر ولذلك يحصل المطلوب بالحرام أيضا ، بل بفعل الغير أيضا .. »

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا : فلان الفرد لايكون مقدمة لوجود الطبيعي ، بل هو عينه خارجا. ولو قيل : ان المحقق لم يدع مقدمية الفرد للطبيعة مطلقا ، بل ادعى ذلك في طرف الامر فقط ، بقرينة قوله ( انه بناء على وجوب المقدمة يلزم اجتماع الامر الغيري مع النهى النفسي ) فلو كان مدعاه مقدمية الفرد مطلقا ، لكان في طرف النهى أيضا نهى غيري ، فمن ذلك يعلم : ان ما قاله من المقدمية مقصور على طرف الامر ، وحينئذ لابد ان يكون مراده من الامر خصوص الامر المطلوب منه صرف الوجود ، لا الامر الانحلالي ، لأنه لافرق بين الأوامر الانحلالية والنواهي الانحلالية من حيث عدم مقدمية الفرد للطبيعة. والذي يمكن ، هو الفرق بين الأوامر المطلوب منها صرف الوجود ، كالصلاة ، وبين الأوامر والنواهي الانحلالية ، حيث إنه تصح دعوى كون الفرد مقدمة لتحقق صرف الوجود ، بحيث يكون الفرد من المحصلات والمحققات لصرف الوجود.

ففيه : ان ذلك وان كان توجيها لكلامه ، الا انه مع ذلك لا يستقيم ، بداهة ان الفرد في صرف الوجود أيضا لم يكن مقدمة ، بل هو عينه. نعم : لو قلنا بعدم وجود الكلي الطبيعي وانه انتزاعي صرف ، كان الفرد مقدمة لانتزاعه ، كما هو الشأن في جميع الأمور الانتزاعية ، حيث يكون منشأ الانتزاع مقدمة لانتزاعها ، ولكن لا المحقق قائل بعدم وجود الطبيعي ، ولا يمكن القول به. فدعوى مقدمية الفرد مما لا أساس لها مطلقا.

ص: 420

واما ثانيا : فلان دعوى عدم وجوب المقدمة مما يكذبها الوجدان ، ولا يمكن القول به ، كما تقدم في بحث مقدمة (1) الواجب.

واما ثالثا : فلان دعوى : ان الممنوع هو اجتماع الوجوب النفسي مع النهى النفسي لا الوجوب الغيري ، فمما لا شاهد عليها ، ضرورة انه لافرق بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري بعد ما كان مطلق الوجوب مضادا من حيث الاقتضاء للحرمة ، حيث إن الوجوب يقتضى البعث ، والحرمة تقتضي الزجر ، والتدافع بين الاقتضائين مما لا يخفى. نعم : لو سقط أحدهما عن اقتضائه أمكن الاجتماع ، وذلك لايكون الا بالامر الترتبي ، كما تقدم في مسألة المقدمة المحرمة.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي الموجودات الخارجية ، بل الصور الذهنية ، والصور الذهنية متباينة لا اتحاد بينها.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاستدلال بظاهره في غاية الفساد ، لوضوح ان الصور الذهنية ، بما هي صور ذهنية ، لا يعقل ان يتعلق بها الطلب والتكليف ، لأنها كليات عقلية غير منطبقة على الخارجيات ، ولا تحمل عليها ، كما تقدم في المقدمات ، بل الصور الذهنية انما تتعلق بها التكاليف بلحاظ المرآتية لما في خارج ، والاتحاد والاجتماع بين المتعلقات انما يكون بهذا اللحاظ.

ومنها :

ان الاجتماع انما يكون مأموريا لا آمريا ، بمعنى ان المأمور جمع بين متعلق الامر ومتعلق النهى بسوء اختياره ، والآمر لم يجمع بين المتعلقين في امره ، حيث إن الآمر اخذ متعلق الامر أمرا مباينا لمتعلق النهى ، وكان أحدهما الصلاة والآخر الغصب ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

وهذا الوجه كسابقه في وضوح فساده ، فان المأمور انما جمع في مقام الامتثال ، ولا بد ان يكون الامتثال على طبق المأمور به ، فلو لم يجمع الآمر بين المتعلقين

ص: 421


1- راجع مباحث مقدمة الواجب ، بيان وجوب المقدمة ص 284

ولو بالاطلاق الشمولي أو البدلي ، فكيف يمكن للمكلف الجمع في الامتثال؟ مع أنه ان كان المراد من ( ان الآمر لم يجمع بين المتعلقين ) هو ان المتعلقات لا تكون بلحاظ الخارج ، رجع إلى أن الصور الذهنية بما انها صور ذهنية متعلقات الطلب ، وقد عرفت فساد ذلك. وان كان المراد : انه لم يجمع مع كونها مرآة لما في الخارج ، فالاجتماع لا محالة يكون آمريا لا مأموريا ، مع أنه لو بنينا على أن الاجتماع مأموري يلزم سد باب التعارض من وجه ، فإنه دائما يكون الاجتماع مأموريا وفي مقام الامتثال ، فيلزم ان لا يتحقق مورد للتعارض من وجه ، وتكون جميع الموارد من باب التزاحم. فهذا الوجه أيضا ليس بشيء ، وان حكى انه كان هو المعتمد عليه في عصر شريف العلماء.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام انما تكون هي الماهيات الواقعة في رتبة الحمل ، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل ، ولا الواقعة في الرتبة المباينة للحمل التي تكون بتلك الرتبة كليات عقلية ، كما أن الواقعة في رتبة نتيجة الحمل تكون من الأمور الخارجية وتكون تلك الرتبة رتبة الاتحاد ورتبة عينية الكلي لمصداقه. فلو كان المتعلق للحكم هي الماهية الواقعة في هذه الرتبة ، يلزم اتحاد المتعلقين ، لان هذه الرتبة كما عرفت رتبة عينية كل كلي لمصداقه ، والمفروض ان المصداق واحد ، فيلزم اتحاد المتعلقين. وأما إذا كان متعلق الحكم هو الماهية بلحاظ الرتبة السابقة على الحمل القابلة للحمل ، فلا يلزم حينئذ اتحاد المتعلقين ، لان هذه الرتبة رتبة مغايرة الموضوع للمحمول المصححة للحمل ، فلا اتحاد.

وبعبارة أوضح : متعلقات التكاليف انما تكون هي الصور الذهنية ، القابلة الصدق على الخارجيات ، الممكنة الانطباق عليها ، وهي بهذا المعنى متغايرة لا اتحاد بينها. والتي بينها اتحاد ، هي المنطبقة على الخارجيات انطباق المحمول على موضوعه ، المعبر عنه بنتيجة الحمل. ولعل هذا مراد من قال : ان ظرف عروض الاحكام على متعلقاتها انما هو الذهن ، وظرف اتصاف المتعلقات بالمطلوبية هو الخارج. والاتحاد انما يكون في ظرف الاتصاف ، لا في ظرف العروض ، هذا.

ص: 422

ولكن لا يخفى عليك : فساد هذا الوجه أيضا ، فان واقع الامر لا يخلو عن أحد وجهين : فإنه اما ان يكون متعلقات الاحكام هي الصور الذهنية بما انها صور ذهنية ، واما ان تكون هي بما انها مرآة لما في الخارج فانية فيه فناء الوجه في ذي الوجه والمرآة في المرئي. فان كان الأول ، يلزم ان تكون المتعلقات هي الكليات العقلية ، وهذا مما لا يعقل. وان كان الثاني يلزم محذور الاتحاد ، لاتحاد المرئي وذي الوجه ، وتعدد المرآت والوجه لا اثر له ، بعد ما لم يكن هو الملحوظ استقلالا والمتعلق للحكم بنفسه. فدعوى ان متعلقات الاحكام انما تكون الماهيات الواقعة في رتبة الحمل لا الواقعة في نتيجة الحمل ، مما ليس لها محصل.

ويتلو هذا الوجه في الضعف ، دعوى : ان متعلقات الاحكام هي الماهيات الغير المتحصلة وهي ليست متحدة بعضها مع بعض ، والاتحاد انما يكون بين الماهيات المتحصلة ، فان هذا عبارة أخرى عن الوجه السابق ، ولا يكون له معنى محصل ، فان متعلقات الاحكام وان كانت هي الماهيات الغير المتحصلة ، الا ان الامر بها انما يكون بلحاظ التحصل ، وهي في مقام التحصل متحدة.

والحاصل : ان الأمر والنهي ، انما يكونان بعثا لتحصيل الطبيعة ، أو عدم تحصيلها. وبالجملة : هذه الوجوه كلها مشتركة في المعنى ، وانما التفاوت بالتعبير ، وهي جميعا ناظرة إلى أن الاحكام من العوارض الذهنية للصور الذهنية ، وليست من العوارض الخارجية ، وانما الخارج يكون ظرف الاتصاف ، لا العروض ، بل ظرف العروض هو الذهن ليس الا ، وان كان المتصور الذهني ملحوظا على وجه المرآتية لما في الخارج.

والجواب عن الكل أيضا مشترك بأنه بعد تسليم اتحاد المتعلقين في الخارج وكون التركيب بينهما اتحاديا - كما هو مبنى الوجوه - لا سبيل إلى دعوى تغاير متعلق الأمر والنهي ، من جهة كون المتعلقات هي الصور الذهنية ، فان الصور الذهنية الملحوظة مرآة لما في الخارج يكون العبرة فيها بالمرئي وذي الوجه. فلو كانت وجوه الجواز هذه ، فالحق مع المانعين. والذي ينفع في المقام هو اثبات عدم الاتحاد بين المتعلقين في الخارج وكون التركيب بينهما انضماميا ، لا اتحاديا ، على ما سيأتي

ص: 423

توضيحه.

واما أدلة المانعين : فعمدتها ما ذكره المحقق الخراساني ( قده ) في كفايته (1) وحاصل ما افاده في وجه المنع يتركب من مقدمات ، بعضها مسلمة ، ككون متعلقات التكاليف هي الكليات الطبيعية ونفس المعنونات ، لا العناوين والكليات العقلية. وبعضها ممنوعة أشد المنع ، ككون تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وانه يمكن انطباق العناوين المتعددة على ما ليس فيه جهة وان ذلك لا يوجب عدم بساطته. فإنه قد تقدم في المقدمات ان ذلك غير معقول ، وقياسه بصفات الباري مع الفارق ، بل لا بد من تعدد الجهة عند تعدد العنوان ، غايته انه يمكن ان تكون الجهة تعليلية ، ويمكن ان تكون تقييدية. فالمهم اثبات هذا المعنى.

وإذ قد عرفت عدم تمامية ما استدل به للجواز والامتناع ، فينبغي حينئذ بيان وجه المختار ، وهو وان تقدمت الإشارة إليه في ضمن المقدمات ، الا اننا نزيده في المقام وضوحا.

وحاصله : ان اجتماع المبادئ والمقولات ، لا يعقل ان يكون على نحو الاتحاد ، بحيث يكون ما بحذاء أحدهما في الخارج عين ما بحذاء الآخر حتى يلزم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، وذلك لما عرفت : من بساطة المقولات وعدم تركبها من مادة وصورة ، بحيث كان ما به الاشتراك فيها غير ما به الامتياز ، بل إن ما به الاشتراك فيها يكون عين ما به الامتياز ، ويكون السواد مثلا بهوية ذاته يمتاز عن البياض ، مع اشتراكهما في كون كل منهما لونا ، ولكن يمتازان أيضا بنفس اللون ، وليس اللون فيهما من قبيل الجنس ويكون هناك فصل مميز لأحدهما عن الآخر. وكذا الحال في سائر المقولات ، من غير فرق بين ان تكون من مقولة الكم والكيف ، أو من المقولات النسبية : من الفعل ، والانفعال ، والإضافة ، والأين ، ومتى ، والوضع ، والنسبة المتكررة ، فإنها جميعا تكون بسائط خارجية ، ويكون ما به الاشتراك فيها

ص: 424


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 248 قوله قدس سره « وتحقيقه على وجه يتضح به ... » إلى ص 253

عين ما به الامتياز ، وحينئذ لا يعقل التركيب الاتحادي بينها ، لان التركيب الاتحادي يستدعى ان يكون ما به الامتياز غير ما به الاشتراك حتى يتحدا في الموضوع في مادة الاجتماع ، ويفترقا عنه في مادة الافتراق ، ويستدعى كل منهما موضوعا غير موضوع الآخر ، كما في - العالم والفاسق - المجتمعين في زيد ، والمفترقين في عمرو وبكر ، ويكون ما به يمتاز العالم عن الفاسق في مادة الافتراق مغايرا لما يشتركان فيه في مادة الاجتماع.

وهذا بخلاف المبادئ ، فان امتيازها واشتراكها في مادة الاجتماع والافتراق يكون بنهج واحد ، ويكون امتيازها بهوية ذاتها وبنفس حقيقتها مجتمعة ومفترقة ، والا كان ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم تركبها.

وحينئذ نقول : أي مقولتين فرض اجتماعهما فلا محالة انهما يكونان في عين اجتماعهما ممتازتين ، ويكون ما بحذاء إحديهما في الخارج غير ما بحذاء الأخرى ، وهذه المغايرة تكون بهوية ذاتهما ، من دون ان تكون هذه المغايرة بالفصول المنوعة لها ، بان يكون هناك ما هو بمنزلة الجنس لهما ، فان ذلك كله غير معقول ، بل هما على حد سواء اجتمعا أو افترقا ، وتكون الهوية والحقيقة محفوظة بتمامها وكمالها في صورتي الافتراق والاجتماع ، فكل ما تستحق الصلاة من الحقيقة والهوية محفوظا في صورة اجتماعها مع الغصب وفي صورة افتراقها عنه ، وكذا الحال في الغصب ، من دون ان تكون الصلاة المجامعة مع الغصب مغايرة مع الصلاة المفترقة عنه بجنس أو فصل ، وانما المغايرة تكون بالخصوصيات الفردية ، حيث إنها في صورة الاجتماع متشخصة بالغصب ، وفي صورة الافتراق متشخصة بأمر آخر : من كونها في المسجد ، أو الدار ، والخصوصيات الشخصية لا ربط لها بالحقيقة وليست مما يتعلق بها الطلب ، لا أصالة ولا تبعا ، كما عرفت من أن الاحكام متعلقة بنفس الطبايع والحقائق ، بلا سراية إلى الخصوصيات. والمفروض امتياز الحقائق مجتمعة ومفترقة ، وبعد ذلك لا يهمنا البحث عن أن الصلاة من أي مقولة ، والغصب من أي مقولة ، فإنهما من أي مقولة يفرضان على كل حال هما متعددان بحسب الحقيقة والمقولة كتعدد هما بحسب المفهوم. والظاهر أن تكون أفعال الصلاة من مقولة الوضع ، سواء قلنا ان

ص: 425

المأمور به في مثل الركوع والسجود هو الهيئة ، كما هو مختار الجواهر (1) أو الفعل كما هو المختار (2) فان المراد من ( الفعل ) ليس هو الفعل باصطلاح أهل المعقول ، بل الفعل الصادر عن المكلف ، فيكون الانحناء إلى الركوع أوضاعا متلاصقة متصلة.

وبذلك يندفع ، توهم اجتماع الصلاة والغصب في الحركة ، مع وحدتها وكونها من أصول الأكوان الأربعة التي لابد منها في كل جسم وعدم خلوه عن أحدها. وفي هذا الأصل الكوني قد اجتمع عنوان الغصب والصلاة ، مع أنه كون واحد.

وجه الدفع هو انه : ان كان المراد من وحدة الحركة وحدتها بالعدد ، بحيث تعد حركة واحدة ، فهذا مما لا ينفع. وان كان المراد من وحدة الحركة وحدة الحركة الصلواتية والحركة الغصبية بالهوية والحقيقة ، فهذا مما لا يعقل ، لاستدعاء ذلك اتحاد المقولتين ، لان الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة. فلو كانت الحركة حركة واحدة حقيقة وهوية يلزم عينية الصلاة للغصب ، وهو كما ترى بمكان من الفساد ، لان المقولات تكون بشرط لا بعضها مع بعض ، فلا يعقل الاتحاد فيها ، كما تقدم.

وبالجملة : الحركة لا يعقل ان تكون بمنزلة الجنس للصلاة والغصب ، بحيث يشتركان فيها ويمتازان بأمر آخر ، لما عرفت من أنه يلزم التركيب في الاعراض ، مع كونها بسيطة. وليست هي أيضا عرضا آخر غير المقولات ، لأنه يلزم قيام العرض بالعرض ، وهو محال. فلا بد ان تكون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة. وحينئذ نقول : كما أن الصلاة مغايرة بالحقيقة والهوية للغصب ، فكذا الحركة الصلواتية مغايرة 4

ص: 426


1- إشارة إلى ما اختاره صاحب الجواهر قدس سره من أن الركوع هو الانحناء الخاص والحالة الخاصة من التقوس والسجود القسم الخاص من الخضوع والانحناء بالمعنى الاسم المصدري ( راجع جواهر الكلام الجزء 10 الخامس من أفعال الصلاة الركوع ص 74 ، الواجب السادس السجود ص 123 الجزء 9 تحقيق القول في القيام المتصل بالركوع. ص 238.
2- راجع تفصيل ما افاده قدس سره في المقام ، الجزء الثاني من تقرير أبحاثه في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره . الفصل الثالث في القيام ص 60 الفصل الخامس في الركوع ص 194

للحركة الغصبية ، بعين مغايرة الصلاة والغصب ، ويكون في المجمع حركتان : حركة صلواتية ، وحركة غصبية. وليس المراد من الحركة رفع اليد ووضع اليد وحركة الرأس والرجل ووضعهما ، فان ذلك لا دخل له في المقام حتى يبحث عن انها واحدة أو متعددة ، بل المراد من الحركة : الحركة الصلواتية والحركة الغصبية ، وهما متعددتان لا محالة. وحاصل البرهان على ذلك يتركب من أمور بديهية :

الأول : بساطة المقولات ، وان ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.

الثاني : تغاير المقولات بحسب الحقيقة والهوية ، واعتبارها بشرط لا بالنسبة إلى أنفسها ، وان كانت بالنسبة إلى موضوعها يمكن لحاظها لا بشرط.

الثالث : كون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة ، وليست هي بمنزلة الجنس للمقولات ، حتى يلزم التركيب فيها ، ولا هي أيضا من الاعراض المستقلة ، حتى يلزم قيام عرض بعرض. وبعد هذه الأمور الواضحة ، كيف يعقل اتحاد متعلق الأمر والنهي وتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فإنه يلزم الخلف ، إذا الاتحاد يوجب عدم تباين المقولات وان ما به اشتراكها غير ما به امتيازها.

هذا كله ، مضافا إلى أن نسبة المكان إلى المكين والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل ان تختلف بين ان يكون المكين من مقولة الجواهر أو من مقولة الاعراض. وكما لا يعقل التركيب الاتحادي بين الجوهر والإضافة في قولك : زيد في الدار ، فكذلك لا يعقل التركيب الاتحادي بين الضرب والإضافة في قولك : ضرب زيد في الدار ، أو الصلاة والإضافة في قولك : صلاة زيد في الدار. وكما لايكون زيد غصبا ، كذلك لا تكون الصلاة غصبا ، أو الضرب غصبا ، لما عرفت من وحدة الإضافة والنسبة في الظرف المستقر والظرف اللغو ، وانه لا تختلف بين ان يكون طرف الإضافة من مقولة الجواهر ، أو مقولة الاعراض ، وذلك واضح. وبعد هذا لا ينبغي الشبهة في جواز اجتماع الأمر والنهي ، وعدم لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى وبذلك يمتاز باب اجتماع الأمر والنهي عن باب التعارض بالعموم من وجه ، حيث إن اجتماع العنوانين في باب التعارض يكون على وجه

ص: 427

التركيب الاتحادي ، كالعالم والفاسق ، وفي باب اجتماع الأمر والنهي على وجه التركيب الانضمامي. وبين البابين بون بعيد.

ومن الغريب : ما افاده بعض الاعلام من أن الفرق بين البابين انما هو باشتمال كل من الحكمين على المقتضى في باب اجتماع الأمر والنهي ، وعدم اشتمال أحدهما على ذلك في باب التعارض بالعموم من وجه ، فان الفرق بذلك مما لا محصل له ، لما فيه :

أولا : ان المسألة لا تبتنى على المقتضيات والملاكات ، بل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي أعم من ذلك ، فان النزاع جار حتى لو قلنا بمقالة الأشاعرة من عدم الملاكات.

وثانيا : انه عدم ثبوت المقتضى لاحد الحكمين لايكون ضابطا لباب التعارض ، ضرورة انه مع العلم بعدم المقتضى لأحدهما يعلم بكذب أحد الدليلين ، ومعه يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ولا يكون حينئذ من باب التعارض ، ولا يجرى فيه شيء من احكام التعارض ، بل لابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي حينئذ.

وثالثا : انه لا طريق لنا إلى احراز المقتضى والملاك الا بالدليل ، حيث إن كل دليل كاشف عن ثبوت المقتضى ، وليس لنا طريق سوى ذلك الا بالهام أو وحى. والدليلان في باب اجتماع الأمر والنهي وفي باب التعارض من وجه سيان في الكاشفية ، فمن أين صار الدليلان في مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق متعارضين؟ وفي مثل صل ولا تغصب من مسألة اجتماع الأمر والنهي؟ وإحالة الامر إلى الاجماع كما ترى ، لأنه ليس في جميع موارد البابين اجماع يمكن الاعتماد عليه.

وبالجملة : ارجاع المايز بين البابين إلى المقضيات والملاكات مما لا يستقيم ، بل المايز بين البابين هو ما ذكرنا من أن اجتماع المتعلقين في باب الاجتماع يكون على وجه الانضمام ، وفي باب التعارض يكون على وجه الاتحاد. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تندرج في صغرى التعارض ، لكون

ص: 428

التركيب فيها انضماميا.

وبعد ذلك ينبغي التنبيه على أمور.

الأول :

انه لو قلنا : بالتركيب الاتحادي وامتناع اجتماع الأمر والنهي ، فلا محالة تندرج المسألة في صغرى التعارض ، للزوم تعلق الامر حينئذ بعين ما تعلق به النهى ، واستلزامه لاجتماع الضدين في واحد شخصي عددا وهوية ، وعليه لا بد من اعمال قواعد التعارض.

ومن الغريب (1) ان الشيخ ( قده ) قال : ان المسألة بناء على الامتناع تكون من صغرى التعارض ، ومع ذلك يجعلها من صغرى التزاحم عند ذكر الوجه الثالث للجواز. وحيث كان المطلوب في ( صل ) هو صرف الوجود ويكون الاطلاق فيه )

ص: 429


1- فإنه قدس سره قد أفاد في التقريرات في مقدمة بحث الاجتماع : « وقد يظهر من بعض آخر ان البحث فيها يرجع إلى البحث عن مقاصد الأصول ، فإنها يستنبط منها صحة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها ، وليس بشيء فان الصحة والفساد لا يترتبان على الجواز والعدم ، بل التحقيق ان الصحة متفرعة على عدم التعارض والتناقض بين مدلولي الأمر والنهي وتشخيص ذلك موقوف على مسألة الجواز والامتناع ، فهذه المسألة من مباني المسألة الأصولية وهي وجود التعارض وتحقق التناقض بين الأدلة وعدمه .. » ( مطارح الأنظار - مقدمة بحث اجتماع الأمر والنهي ص 124 ). وذكر في الوجه الثالث من وجوه الجواز. « فان قلت : فعلى ما ذكرت من أن الآمر لا بد وأن يكون الفرد المحرم خارجا عن مطلوبه ومقصوده أيضا يلزم فساد الصلاة في الدار المغصوبة ولو في حال النسيان والاضطرار ، لا بواسطة امتناع الامتثال بالمحرم بل بواسطة امتناع الامر كما هو قضية التقييد مع أن المشهور ان المانعين يحكمون بصحتها ، وكذا صحة نظائرها كصلاة الصبي بناء على كونها تشريعية في الدار المغصوبة وقد سمعت فيما تقدم كلام المقدس الأردبيلي طيب اللّه رمسه. قلت : ان المخصص لو كان لفظا كما في قولك : أكرم العلماء الا زيدا كان الوجه عدم اكرام زيد في جميع الأحوال ، واما لو كان المخصص عقلا فلابد من الاقتصار على قدر يقضيه ، وليس وجه التخصيص بالافراد الغير المحرمة في المقام الا مناقضة الطلب التحريمي والطلب الوجوبي ، وبعد ارتفاع التحريم بواسطة النسيان فلا مانع من القول بالصحة والاخذ باطلاق الامر بالصلاة ، فيكون ذلك من باب التزاحم كانقاذ الغريقين فان عدم تعلق التكليف بكل واحد منهما على سبيل الاجتماع ليس الا بواسطة وجود المصلحة فيهما على وجه سواء مع امتناع الاجتماع منهما ، وإذا فرضنا ارتفاع المانع صح الامر من غير اشكال. » ( نفس المصدر ، ص 148 )

بدليا ، وفي ( لا تغصب ) مطلق الوجود ويكون الاطلاق فيه شموليا ، وكان الاطلاق الشمولي مقدما عند التعارض مع الاطلاق البدلي ، حيث إن مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي موجبة لخروج الافراد عن كونها متساوية الاقدام في الاطلاق البدلي ، على ما بيناه في محله (1) فلابد حينئذ من تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا الفرد المجامع للغصب ، ويكون المأمور به حينئذ هو الصلاة المقيدة بان لا تكون في الدار الغصبية ، وهذا التقييد راجع إلى مرحلة الثبوت والواقع ، كما هو الشأن في جميع الاطلاقات والمقيدات ، حيث إن دليل المقيد كاشف عن عدم تعلق إرادة الآمر بما تضمنه المطلق ، ولا دخل لعلم المأمور وجهله بذلك ، فان علم المأمور وجهله انما ينفع في باب التزاحم ، لا في باب التعارض ، كما تقدم تفصيله في مبحث التزاحم (2) ولازم ذلك هو فساد الصلاة في الدار الغصبية ، سواء علم المكلف بغصبية الدار أو لم يعلم ، لأنه لم يأت بما هو المأمور به. مع أن الظاهر تسالم الفقهاء على صحة الصلاة في الدار الغصبية عند الجهل بالغصب ، وهذا يكشف عن عدم ادراجهم المسألة في صغرى التعارض ، وذلك لايكون الا بالبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي. ويدل على ذلك اخذهم في عنوان البحث قيد المندوحة ، فان المندوحة لا دخل لها بالتعارض ، وانما تنفع في باب التزاحم ، لان الضابط في باب التعارض ، هو عدم امكان تشريع الحكمين الذين تكفلهما الدليلان في عالم الثبوت والتشريع ، كان هناك مكلف أو لم يكن ، حصلت القدرة أو لم تحصل ، فاعتبار المندوحة لا دخل له بباب التعارض.

نعم : هي تنفع في باب التزاحم ، حيث إن التزاحم انما يكون باعتبار القدرة ، فيتوهم حينئذ ان القدرة على ايجاد الطبيعة في الجملة تكفى في صحة الفرد المزاحم للأهم أو المضيق ، على ما تقدم من مقالة المحقق الكركي وسيأتي توضيحه أيضا.

ص: 430


1- راجع الجزء الرابع من الفوائد ، التعادل والتراجيح ، المبحث الخامس ، ص 272 - 273 الطبعة القديمة
2- راجع بحث الضد ، المقام الأول في الفرق بين التزاحم والتعارض ص 317

وبالجملة : التسالم على اخذ قيد المندوحة في عنوان المسألة وعلى صحة الصلاة في الدار الغصبية عند الجهل بالغصب ، يكشف كشفا قطعيا عن كون الجواز من الجهة الأولى كان عندهم مفروغا عنه.

وما يقال : من أن الصحة عند الجهل انما هي لوجود الملاك والمقتضى ، حيث إنه يعتبر في مورد الاجتماع ثبوت كل من ملاك الحكمين ، وبذلك حصل المايز بين باب الاجتماع وباب التعارض من وجه ، فليس بشيء ، لان ثبوت الملاك المغلوب بما هو أقوى منه والمسكور بغيره في عالم الجعل والتشريع - بحيث كان الحكم المنشأ في عالم الثبوت والواقع هو خصوص ما كان واجدا للملاك الغالب والمقتضى الأقوى - لا يصلح ان يكون موجبا للصحة ، فان الموجب للصحة ، هو الملاك التام الذي لايكون مكسورا بما هو أقوى منه في عام الجعل والتشريع.

والحاصل : ان تصحيح العبادة بالملاك انما يكون بعد الفراغ عن ثبوت حكمها وتشريعه مطلقا ، غايته انه وقع التزاحم بين ذلك الحكم وبين حكم آخر في مقام الامتثال وصرف القدرة عند عدم تمكن المكلف من كلا الامتثالين ، والتزاحم بين الحكمين امر ، وبين المقتضيين امر آخر ، بينهما بون بعيد ، فان تزاحم الحكمين على ما عرفت ، انما يكون في مقام الفعلية وتحقق الموضوع بعد الفراغ عن تشريعهما على طبق موضوعاتهما المقدر وجودها ، وفي هذا القسم من التزاحم يكون لعلم المكلف وجهله دخل ، حيث إن الحكم المجهول لا يصلح ان يكون مزاحما لغيره ، فإنه لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

واما تزاحم المقتضيين ، فإنما يكون في مقام الجعل والتشريع ، حيث يتزاحم المقتضيان في نفس الآمر وارادته ، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام ، ويكون لعلم الآمر وجهله دخل في تزاحم المقتضيين ، حيث لو لم يعلم الآمر بثبوت المقتضيين ، لا يعقل ان يقع التزاحم بينهما في إرادة الآمر. وعلم المكلف وجهله أجنبي عن ذلك ، فان عالم الجعل والتشريع انما يكون بيد الآمر ، والمأمور أجنبي عنه ، فيكون لعلم الآمر وجهله دخل ، كما أن عالم الامتثال وصرف القدرة وأعمالها يكون بيد المكلف ، والآمر أجنبي عنه ، فيكون لعلم المأمور دخل.

ص: 431

واما دعوى : انه بعد ما كان لكل من الحكمين مقتض في عالم الثبوت فلا مانع من انشاء كل من الحكمين على طبق المقتضى ويكون الحكم في كل منهما اقتضائيا وكان الحكم الفعلي هو ما يكون ملاكه أقوى وأتم ، ففسادها غنى عن البيان ، بداهة ان المقتضى المزاحم بما هو أقوى منه دائما ، لا يصلح لانشاء حكم على طبقه ، لأنه.

أولا : يلزم اللغوية ، إذا لحكم الذي لا يصير فعليا ولا يجب امتثاله بوجه من الوجوه يكون تشريعه لغوا ، مثلا لو فرض ان العالم له اقتضاء الاكرام ، والفاسق له اقتضاء عدم الاكرام ، ففي غير مورد التصادق لا مزاحمة بين المقتضيين ، واما في مورد التصادق فيتزاحم المقتضيان ، فان لم يكن أحدهما أقوى ، فلابد من الحكم بالتخيير ثبوتا ، وان كان أحدهما أقوى - كما لو فرض ، ان العلم أقوى ملاكا للاكرام من الفسق لعدم الاكرام - فلا بد حينئذ من انشاء الحكم على طبق الأقوى وتشريع وجوب اكرام العالم مطلقا بحيث يشتمل مورد التصادق وعدم تشريع حرمة اكرام الفاسق مطلقا ، بل لابد من تخصيص دائرة التشريع بما عدا مورد التصادق. وتشريعه مطلقا - حتى في مورد التصادق ولكن الحكم الفعلي يدور مدار الأقوى ، ويكون الحكم الفعلي في مورد التصادق هو وجوب الاكرام - يوجب اللغوية ، إذ لا اثر للتشريع المطلق ، مع أنه لا تصل النوبة إلى امتثاله في مورد التصادق ، لأن المفروض ان الحكم الفعلي غيره. (1).

وثانيا : ان ذلك غير معقول ، لان إرادة الآمر في عالم الثبوت ، اما ان تتعلق باكرام العالم الفاسق ، واما ان تتعلق بعدم اكرامه ، ولا يعقل الاهمال الثبوتي ، فان تعلقت ارادته باكرام العالم الفاسق لأقوائية ملاكه ، فلابد ان لا تتعلق ارادته بعدم ه

ص: 432


1- لا يخفى عليك ان القائل بهذه المقالة يدعى : انه في صورة الجهل لايكون الحكم الذي ملاكه أتم وأقوى فعليا ، بل الحكم الفعلي هو الذي يكون ملاكه انقص واضعف ، فيظهر لتشريعه اثر في صورة الجهل ، فهو على مبناه من معنى الحكم الفعلي صحيح لا يرد عليه شيء من الايرادات ، نعم الاشكال الذي يرد عليه هو فساد المبنى وان معنى الحكم الفعلي ليس ذلك ، على ما تقدم بيانه. منه

الاكرام ، لامتناع اجتماع النقيضين ، ومع عدم تعلق ارادته بعدم الاكرام في مورد التصادق والاجتماع ، كيف يعقل ان يكون محكوما بحرمة الاكرام؟ حتى نسميه حكما اقتضائيا. وقس على ذلك مسألة الصلاة والغصب ، فإنه بناء على الامتناع ، يكون حالهما حال العالم والفاسق.

والحاصل : ان تشريع الحكم على وجه الاهمال لا يعقل في عالم الثبوت ، وان كان الاهمال في عالم الاثبات والدليل ممكنا ، من جهة انه لم يكن فعلا بصدد بيان تمام غرضه ، بل اعتمد على المبين المنفصل. واما في عالم الثبوت ، فذلك امر غير معقول ، إذ لا يعقل ان لا يدرى الآمر الملتفت أين تعلقت ارادته ، وتعلق الإرادتين المتضادتين في مورد الاجتماع والتصادق لا يعقل ، فلابد ان تكون الإرادة واحدة ، اما ان تتعلق بوجود الاكرام ، واما ان تتعلق بعدمه. وبعد ذلك ما معنى انشاء الحكمين على طبق كلا المقتضيين وكون الحكم الفعلي هو الأقوى ملاكا؟ وهل للحكم معنى غير الإرادة؟ وهل هذا الا عبارة عن القول باهمال متعلق الإرادة؟ أو اجتماع الإرادتين المتضادتين؟.

وثالثا : هب ، انه سلمنا ذلك كله وقلنا بهذا المحال ، ولكن مع ذلك لا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك ، لا في مقام تشريع الحكمين على طبق كلا المقتضيين ، ولا في مقام فعلية الحكم بالمعنى المذكور ، لان فعلية الحكم على هذا تدور مدار ما هو الأقوى ملاكا ، وهو امر واقعي لا دخل فيه لعلم المكلف وجهله ، فبأي وجه صحت الصلاة في الدار الغصبية في صورة الجهل؟ مع أن الحكم الفعلي بناء على هذا المبنى الفاسد ، هو حرمة الغصب ، لأقوائية ملاكه ، والملاك الثابت في الصلاة لا يصلح لذلك ، لمغلوبيته وانكساره بالأقوى ، فتأمل (1) جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه بناء على الامتناع لا محيص عن القول بفساد ه

ص: 433


1- وجهه هو ما تقدم منا في الحاشية السابقة ، من أنه في صورة الجهل لايكون الحكم فعليا ، فلعلم المكلف وجهله دخل في فعلية الحكم وعدمه فالمهم هو منع دخل علم المكلف وجهله في فعلية الحكم ، بل فعلية الحكم تدور مدار تحقق موضوعه ، على ما أوضحناه في محله. منه

الصلاة ، وتندرج المسألة في باب التعارض ، وتكون بعد تقديم جانب النهى من صغريات النهى في العبادة. وقد عرفت انه لابد من تقديم جانب النهى ، لكون الاطلاق فيه شموليا ، دون الامر.

واما بناء على الجواز ، فتكون المسألة مندرجة في باب التزاحم. والحكم فيه وان كان أيضا تقديم جانب الحرمة ، الا انه بملاك آخر ، وهو تقديم مالا بدل له على ماله البدل - على ما تقدم تفصيله في مرجحات باب التزاحم - ويكون لعلم المكلف وجهله حينئذ دخل في ذلك ، لما عرفت من أن المزاحمة تتوقف على الاحراز والوجود العلمي ،

فظهر مما ذكرنا : ان القول بصحة الصلاة في الدار الغصبية في صورة الجهل والنسيان لا يجتمع مع القول بالامتناع. ومن هنا يمكن ان نستكشف ان المشهور بنائهم على الجواز ، لقولهم بصحة الصلاة في صورة الجهل ، مضافا إلى اعتبار قيد المندوحة ، التي لا تنفع الا بعد الفراغ من الجهة الأولى ، كما أشرنا إليه.

التنبيه الثاني :

قد استدل لجواز اجتماع الأمر والنهي بوقوعه في الشرعيات كثيرا ، وجعلوا موارد العبادات المكروهة من ذلك الباب ، بتقريب : ان الاحكام بأسرها متضادة ، ولا اختصاص لذلك بالوجوب والحرمة ، وقد اجتمع في العبادات المكروهة الوجوب والكراهة ، أو الاستحباب والكراهة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاستدلال بذلك لما عرفت : من أن مورد البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، هو ما إذا كان بين المتعلقين العموم من وجه ، والنسبة بين المتعلقين في العبادات المكروهة هو العموم المطلق ، فلا ينبغي جعلها من موارد اجتماع الأمر والنهي.

نعم : ينبغي البحث عن كيفية تعلق الكراهة بالعبادة ، وانه ما المراد من الكراهة فيها ، فهل هي بمعناها المصطلح؟ أو انها بمعنى الأقل ثوابا؟ كما قيل. فنقول - ومن اللّه التوفيق - تعلق النهى التنزيهي بالعبادة يكون على اقسام ثلاثة :

الأول : ما إذا تعلق الامر بعنوان ، والنهى التنزيهي بعنوان آخر ، وكان

ص: 434

بين العنوانين العموم من وجه ، كالأمر بالصلاة والنهى عن الكون في بيوت الظلمة ، وهذا القسم يكون داخلا في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، غايته ان النهى تارة يكون تحريميا ، وأخرى يكون تنزيهيا ، نعم يختلف النهى التحريمي والتنزيهي من جهة أخرى ، كما سنبين.

الثاني : ان يكون بين متعلق النهى التنزيهي ومتعلق الامر العموم المطلق ، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

الثالث : ان يتعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، وذلك كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، كالنهي عن النوافل المبتدئة في الأوقات الخاصة ، وكالنهي عن صوم يوم عاشوراء وأمثال ذلك ، مما تكون نفس العبادة المأمور بها منهيا عنها بالنهي التنزيهي ، وينبغي البحث عن كل واحد من هذه الأقسام مستقلا ، فنقول :

اما القسم الأول :

فحاصل الكلام فيه : هو ان التنزيهي ليس كالنهي التحريمي مما يوجب تقييد متعلق الامر بما عدا مورد الاجتماع مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ، أو قلنا بامتناعه. اما لو قلنا بالجواز فواضح. واما لو قلنا بالامتناع ، فلان منشأ التقييد في النهى التحريمي انما هو لمكان منافاة المنع عن كل وجود للطبيعة - الذي تضمنه النهى التحريمي المتعلق بالطبيعة بلحاظ مطلق الوجود - مع الرخصة المستفادة من اطلاق الامر بأي وجود من وجودات الطبيعة ، لان تعلق الامر بالطبيعة بلحاظ صرف الوجود لا محالة يتضمن الرخصة بالنسبة إلى أي وجود يفرض من الطبيعة وأي فرد يأتي به المكلف ، لمكان انطباق الطبيعة المأمور بها على كل فرد ، وليس المأتى به في الخارج هو عين متعلق الامر ، لأنه لو كان المأمور به عين ذلك وكان هو الواجب لما جاز تركه إلى بدل ، والمفروض جواز تركه إلى بدل ، فالمأتي به لايكون هو عين متعلق الامر ، بل متعلق الامر هو الطبيعة المنطبقة على المأتى به انطباق الطبيعي على افراده ، والامر بالطبيعة يقتضى الرخصة باتيان الفرد المأتى به بمقتضى الاطلاق ، والمفروض ان النهى التحريمي لمكان اطلاقه الشمولي يقتضى المنع و

ص: 435

عدم الرخصة في اتيان ذلك الفرد ، فيحصل التدافع بين كل من اطلاق الامر واطلاق النهى ، من حيث ما يقتضيانه : من الرخصة وعدم الرخصة. فلا بد حينئذ من اطلاق متعلق الامر بما عدا ذلك الفرد ، لقوة اطلاق النهى من حيث كونه شموليا ، ويخرج ذلك الفرد من صلاحيته لانطباق الطبيعة المأمور بها عليه.

وهذا بخلاف النهى التنزيهي ، فان النهى التنزيهي لا يقتضى المنع وعدم الرخصة عن ذلك الفرد ، بل النهى التنزيهي بنفسه يقتضى الرخصة والمفروض ان الامر أيضا يقتضى الرخصة بذلك الفرد ، فلا تدافع بين ما يقتضيه اطلاق الامر ، وما يقتضيه اطلاق النهى التنزيهي ، وبعد عدم التدافع لا موجب لتقييد اطلاق الأوامر بما عدا المجمع ، بل اطلاق الامر بعد محفوظ على حاله ، من دون تصرف فيه. وذلك لا ينافي التضاد بين الوجوب والكراهة ، فان التضاد بينهما انما يمنع عن اجتماعهما في امر واحد شخصي ، بحيث تتعلق الكراهة بعين ما تعلق به الوجوب ، كما إذا كان هناك شيء واحد تعلق به الوجوب بحيث لا يرضى الآمر بتركه ، وتعلق به الكراهة بحيث يرضى بتركه ، من غير فرق بين ان يكون ذلك الشيء متعلقا للوجوب والكراهة ، بالنصوصية ، أو بالاطلاق ، بان يكون كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا يعم جميع الافراد ، فإنه يلزم أيضا تعلق الامر والكراهة في واحد شخصي.

وأما إذا لم يتعلق الامر الوجوبي بعين ما تعلق به النهى الكراهتي - لا بالنصوصية ولا بالاطلاق الشمولي ، بحيث ينحل إلى جميع الافراد والوجودات التي تفرض للطبيعة ، بل تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وتعلق النهى الكراهتي بالطبيعة على نحو مطلق الوجود - فلم تجتمع الكراهة مع الوجوب حتى يلزم اجتماع الضدين ، لما عرفت : من أن الافراد فيما إذا كان المطلوب صرف الوجود ليست هي بنفسها متعلق الامر ، والا للزم الاتيان بجميعها ، وليس المطلوب ومتعلق الامر ( أحدها ) على نحو الواجب التخييري الشرعي ، بل كان كل فرد من الافراد مما تنطبق عليه الطبيعة ، لمكان الاطلاق. وانطباق الطبيعة على فرد انما يقتضى الرخصة في اتيانه بحيث يجوز تركه إلى بدل ، لا تعينه ، كما إذا كان المطلوب مطلق الوجود. والرخصة في الفرد لا ينافي كراهته ، لأنها أيضا تتضمن الرخصة.

ص: 436

فالقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي لا يلزمه التقييد واخراج المجمع عن اطلاق الامر فيما إذا كان النهى تنزيهيا ، كما كان يلزمه فيما كان النهى تحريميا ، للمنافاة بين الرخصة في اتيان الفرد المستفادة من اطلاق الامر ، وعدم الرخصة فيه المستفاد من اطلاق النهى ، كما عرفت.

ولا يتوهم : ان القائل بالامتناع ، انما يقول به لأجل لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، ومع العينية لا يفرق الحال بين ما إذا كان النهى تحريميا أو كان تنزيهيا ، لثبوت المضادة بين جميع الأحكام الخمسة.

وذلك : لان المراد من حديث العينية ، ليس هو ان المأتى به من الفرد هو عين ما تعلق به الأمر والنهي ، لوضوح ان الامر لم يتعلق بالمأتى به ، بل تعلق الامر بالطبيعة بما انها مرآة لما في الخارج ، ويكون المأتى به مما ينطبق عليه الطبيعة بمقتضى اطلاقها. وقد عرفت : ان الاطلاق لا يقتضى أزيد من الرخصة في كل فرد مع جواز تركه إلى بدل ، لمكان كون الافراد متساوية الاقدام في انطباق الطبيعة على كل منها. والنهى التحريمي يوجب دفع هذا التساوي ، والا لزم اجتماع الرخصة واللارخصة ، والنهى التنزيهي لا يرفع هذا التساوي لبقاء الرخصة على حالها ، فتأمل جيدا. فإنه لا يخلو عن دقة ولطافة.

هذا إذا كان بين متعلق الأمر والنهي التنزيهي العموم من وجه.

واما القسم الثاني :

وهو ما إذا كان بين المتعلقين العموم المطلق ، كصل ، ولا تصل في الحمام ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق ، لما عرفت سابقا : من أن القسم السابق بناء على الامتناع يكون من صغريات مسألة النهى عن العبادة ، وقد عرفت ان النهى التنزيهي عن العبادة لا يقتضى التقييد وليس كالنهي التحريمي. ففي مثل قوله : صل ، ولا تصل في الحمام ، يكون كل من الامر الوجوبي والنهى التنزيهي على حاله ، حيث إن الامر الوجوبي باطلاقه يقتضى الرخصة في الصلاة في الحمام. والنهى التنزيهي لا ينافي هذه الرخصة ، ولا يلزم أيضا اتحاد متعلق الامر الوجوبي والنهى التنزيهي وعينية أحدهما للآخر ، حتى يلزم اجتماع الضدين ، فان الامر الوجوبي

ص: 437

تعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، والامر المتعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا يقتضى أزيد من الرخصة في ايجاد الطبيعة في ضمن أي حصة ، وهذا لا ينافي النهى التنزيهي عن حصة خاصة ، لأنه أيضا يقتضى الرخصة.

وهذا هو السر فيما يصنعه الفقهاء في مقام الجمع بين الاخبار : من حمل النهى على التنزيه والكراهة ، ولا يعاملون النهى التنزيهي معاملة التعارض من وجه أو المطلق ، ولا يحملون المطلق على المقيد في مثل أعتق رقبة ولا تعتق الكافرة ، إذا استفادوا منه كون النهى تنزيهيا وكذا لا يعملون قواعد التعارض من وجه في مثل : أكرم عالما ، ولا تكرم الفاسق ، إذا كان النهى للتنزيه. بل ربما يجمعون بين الاخبار المتعارضة بحمل النهى فيها على التنزيه ، ويستشكلون بأنه لا شاهد على هذا الجمع. واشكالهم من حيث عدم ما يدل على أن النهى تنزيهي ، لا من حيث إن النهى التنزيهي بعد الفراغ عن كونه تنزيهيا لا يوجب الجمع بين الاخبار المتعارضة ، بل ذلك عندهم مفروغ عنه ، وانما ينازعون في الصغرى. فاحفظ ما ذكرناه فإنه يفتح به باب من أبواب الفقه في مقام الجمع بين الاخبار.

وما قيل : من أن التنزيهي في باب العبادات انما يكون بمعنى أقل ثوابا ، فهو بظاهره مما لا يستقيم ، لأنه ليس معنى النهى التنزيهي أقلية الثواب ، ولا موجب لاخراج النهى عن ظاهره من المولوية إلى الارشادية وجعله بمنزلة الاخبار عن قلة الثواب ، بل النهى على ظاهره من المولوية. نعم هو كاشف عن وجود حزازة ومنقصة في تلك الحصة من الطبيعة. وبهذا المعنى تكون جميع الأوامر والنواهي كاشفة وارشادا إلى المصالح والمفاسد ، ومع ذلك تكون الأوامر والنواهي مولوية.

بقى الكلام في القسم الثالث :

وهو ما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، كصوم يوم عاشوا. والتوجيه الذي ذكرناه في القسمين الأولين لا يجرى في هذا القسم ، لان صوم يوم عاشوراء بما انه صوم يوم عاشورا مستحب ، لاستحباب صوم كل يوم بالخصوص ، ومعه لا يعقل ان يتعلق به النهى التنزيهي ، لما بين الأمر والنهي من التضاد ، وان

ص: 438

كان أحدهما استحبابيا والآخر تنزيهيا.

وما قيل في توجيه ذلك : من أنه يمكن ان يكون ترك صوم يوم عاشوراء ملازما لعنوان راجح ، أو سببا توليديا له ، فيكون الترك كالفعل راجحا ومستحبا وان كان الترك أرجح ، لمواظبة الأئمة علیهم السلام وأصحابهم عليه.

فاسد ، فإنه لا يعقل ان يكون كل من الفعل والترك راجحا ومستحبا شرعا ، لان المتيقن من وقوع الكسر والانكسار بين الجهات والمصالح هو ما إذا كانت الجهات بين النقيضين : من فعل شيء وتركه ، وكيف يعقل عدم وقوع الكسر والانكسار بين النقيضين؟ مع وقوعهما بين الضدين الذين لا ثالث لهما والمتلازمين في الوجود دائما. فإذا كان هذا حال المتضادين والمتلازمين ، فما ظنك في النقيضين.

وبالجملة : لا يعقل ان لا يقع الكسر والانكسار بين الجهات في باب النقيضين ، ولا يعقل ان يكون كل من النقيضين مأمورا به بالامر الاستحبابي ويكون كل من الفعل والترك راجحا مبعوثا إليه شرعا ، فلا محيص من وقوع الكسر والانكسار إذا كان في كل من الفعل والترك مصلحة. وحينئذ اما ان تغلب إحدى المصلحتين على الأخرى ، فيكون البعث نحوها فقط. واما ان لا تغلب ، فيكون الحكم هو التخيير ليس الا. فهذا الوجه الذي افاده في التقرير (1) وتبعه صاحب (2) الكفاية مما لا يحسم مادة الاشكال.

فالأولى في التوجيه ، هو ان يقال : ان مركب النهى التنزيهي غير مركب الامر الاستحبابي ، وان مركب الامر الاستحبابي هو نفس العمل وذات الصوم ، ومركب النهى التنزيهي هو التعبد بالعمل والتقرب به إليه تعالى ، فيكون الصوم مستحبا ، ومع ذلك يكون التعبد به مكروها. ولا منافاة بينهما ، إذ لم يتحد مركب الامر الاستحبابي ومركب النهى التنزيهي ، حتى يلزم اجتماع الضدين.

ص: 439


1- مطارح الأنظار ، بحيث الاجتماع ، الهداية التي تكلم فيها عن حجج المجوزين. المقام الثاني في تصوير الكراهة في العبادات. قوله : « الثالث لا يبعد ان يكون حاسما لمادة الاشكال وهو .. » ص 135
2- كفاية الأصول ، الجلد الأول ، بحث الاجتماع قوله : « اما القسم الأول فالنهي تنزيها عنه .. » ص 255

فالمقام يكون نظير تعلق الامر النفسي بصلاة الظهر ، مع الامر المقدمي بها ، من حيث كونها مقدمة وجودية لصلاة العصر ، فان الامر النفسي متعلق بذات صلاة الظهر ، والامر المقدمي تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها ، إذ ليست ذات صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر ، بل صلاة الظهر المأتى بها بداعي أمرها وبما انها متعبد بها تكون مقدمة لصلاة العصر ، فيختلف مركب الامر المقدمي مع مركب الامر النفسي. ولا يكون من اجتماع المثلين ، ولا من اتحاد الامرين ، كاتحاد الامر بالوفاء بالنذر مع الامر بصلاة الليل عند نذرها ، لوحدة متعلق الامرين في مثل هذا ، فان المنذور هو فعل ذات صلاة الليل ، لا صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، فان وصف الاستحباب لا يدخل تحت النذر ، إذ لا يمكنه بعد النذر اتيان صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لصيرورتها واجبة بالنذر ، والمنذور لا بد ان يكون مقدورا للناذر في ظرف الامتثال ، فلابد ان يكون متعلق النذر هو ذات صلاة الليل ، والامر الاستحبابي أيضا تعلق بالذات ، فيتحد متعلق الامر الاستحبابي المتعلق بالذات مع متعلق الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالنذر ، ومعلوم ان الامر الاستحبابي يندك حينئذ في الامر الوجوبي ، كما أن الامر التوصلي الآتي من قبل النذر يكتسب التعبدية ، فيكتسب كل من الامر الوجوبي والاستحبابي من الاخر ما يكون فاقدا له ، فالامر الوجوبي يكتسب التعبدية ، والامر الاستحبابي يكتسب الوجوب ، لان الفاقد يكون من قبيل اللامقتضى ، والواجد يكون من المقتضى. ولا يعقل في مثل هذا بقاء الامر الاستحبابي على حاله ، لما عرفت من وحدة المتعلقين ، فيلزم اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد.

وهذا بخلاف مثل الامر الآتي من قبل الإجارة إذا آجر الشخص نفسه لما يكون مستحبا على الغير أو واجبا ، فأن الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالعقود انما يكون متعلقا بالعمل بوصف كونه مستحبا على الغير أو واجبا عليه ، لا بما هو ذات العمل حتى يلزم اجتماع الضدين أو المثلين ، لان الشخص انما صار أجيرا لتفريغ ذمة الغير ، ولا يحصل ذلك الا بقصد الامر المتوجه إلى ذلك الغير ، فيكون متعلق الإجارة هو العمل المأمور به بوصف كونه كذلك.

ص: 440

والمقام بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن الامر الاستحبابي انما يكون متعلقا بذات الصوم في يوم عاشوراء ، أو الصلاة عند طلوع الشمس. والنهى التنزيهي غير متعلق بذلك ، بل تعلق بالتعبد بالصوم والصلاة في ذلك اليوم والوقت ، لما في التعبد بهما من التشبه ببني أمية وعبدة الشمس ، حيث إن بنى أمية لعنهم اللّه انما كانوا يتعبدون بصوم يوم عاشوراء ويتقربون به إلى اللّه ، وكذا عبدة الشمس كانوا يتعبدون بعملهم في أول الشمس ، فيكون المنهى عنه بالنهي التنزيهي هو ما كان عليه عمل أولئك ، وليس هو الا التعبد ، فيكون التعبد مكروها مع كون العمل مستحبا ، إذ لا منافاة بين كراهة التعبد ورجحان تركه وبين استحباب العمل ورجحان فعله.

نعم : لو كان النهى تحريميا ، كان ذلك منافيا لاستحباب العمل ، لان حرمة التعبد لا يجامع صحة العمل. بخلاف كراهة التعبد المتضمن للرخصة ، فتأمل في ما ذكرناه جيدا. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالعبادات المكروهة.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، أراد ان يتعرض للتنبيه الثالث ، المتعلق بالمضطر والمتوسط في الأرض المغصوبة ، ولكنه اعرض عن ذلك واخره ، لان له تعلقا بكلا المقامين المبحوث عنهما في مسألة اجتماع الأمر والنهي. والأولى عطف عنان الكلام إلى المقام الثاني ، وهو انه هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم والتكليف بما لا يطاق ، أو انه لا يكفي؟ والأقوى في هذا المقام عدم الكفاية. وان كان مقتضى ما تقدم عن المحقق الكركي ( قده ) - من كفاية القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في بعض الافراد في صحة تعلق التكليف بها وانطباقها على الفرد المزاحم للمضيق أو الأهم ويتحقق الاجزاء عقلا - هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وان كان فرق بين المقام وبين ما افاده المحقق ( قده ) من حيث إن المراد بالمندوحة في المقام انما هي بالنسبة إلى الافراد العرضية ، حيث إن للمكلف ايجاد الصلاة في الدار المباحة وفي المسجد وفي الدار الغصبية ، فتكون الصلاة في الدار الغصبية من أحد افراد الصلاة العرضية. والمراد من المندوحة في مقالة

ص: 441

المحقق ( قده ) هي المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، لان كلامه انما كان في الواجب المضيق المزاحم لبعض افراد الواجب الموسع في بعض الوقت. ولكن هذا الفرق لايكون فارقا في المناط ، فان مناط كفاية المندوحة في الافراد الطولية ، هو القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في غير الفرد المزاحم للمضيق ، وهذا المقدار يكفي في حسن التكليف عقلا ، إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق لقدرة الفاعل على ايجاد الطبيعة ولو في الجملة. فلا مانع من شمول اطلاق الامر بالصلاة للفرد المزاحم للإزالة ، وتنطبق الطبيعة المأمور بها عليه قهرا فيتحقق الاجزاء عقلا. وهذا الكلام كما ترى يجرى في الافراد العرضية أيضا ، لتمكن المكلف من ايجاد الصلاة مثلا في غير الدار الغصبية ، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف بالصلاة ، ويكون الفرد المأتى به من الصلاة في الدار الغصبية مما تنطبق عليه الطبيعة ، هذا.

ولكن أصل المبنى عندنا فاسد ، كما تقدم في مبحث الترتب ، حيث إن القدرة المعتبرة في التكاليف لا ينحصر مدركها بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، بل القدرة معتبرة ولو لم يحكم العقل بذلك ، لمكان اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقه ، حيث إن حقيقة الخطاب هو البعث على أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفي الممكن ، فيعتبر في التكليف - مضافا إلى قدرة الفاعل التي يحكم بها العقل - القدرة على الفعل التي يقتضيها الخطاب. والفرد المزاحم للإزالة أو للغصب فيما نحن فيه ليس مقدورا عليه ، لان المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فلا تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها بما انها مأمور بها ، لان الانطباق من حيث السعة والضيق يدور مدار سعة القدرة وضيقها ، وليس للقدرة سعة تشمل الفرد ، على ما تقدم تفصيله في مبحث الترتب. وعليه لا تصح الصلاة في الدار الغصبية باطلاق الامر بالصلاة كما أنه لا يمكن تصحيحها بالامر الترتبي كما تقدم أيضا في ذلك المبحث ، لاستلزامه الامر بتحصيل الحاصل ، أو الامر بالمحال ، إذ لا معنى لقوله : لا تغصب وان غصبت بالصلاة فصل ، لأنه يكون من تحصيل الحاصل ، أو ان غصبت بغير الصلاة فصل ، لأنه يكون من طلب المحال ، على ما مر تفصيله.

واما تصحيحها بالملاك فربما يتوهم انه لا مانع عنه ، ولازم ذلك صحة

ص: 442

الصلاة في الدار الغصبية ، ولو عن علم وعمد ، مع أن الظاهر تسالم الاعلام على عدم الصحة حينئذ ، كتسالمهم على الصحة في صورة الجهل والنسيان. فيتوجه في المقام اشكال ، من حيث إنه لو بنينا على الامتناع في المقام الأول ، يلزم القول ببطلان الصلاة في صورة الجهل والنسيان ، ولو بنينا على الجواز ، يلزم القول بصحتها في صورة العلم والعمد ، ولا يمكن الالتزام بكل من القولين ، لتسالمهم على الخلاف ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال ، بأنه ليس لازم القول بالجواز في المقام الأول ، هو الصحة في صورة العمد ، لان الصلاة في الدار الغصبية وان كانت مشتملة على الملاك ، الا انها لمكان اتحادها مع الغصب في الايجاد والصدور كان ذلك مانعا عن التقرب بها ، لبغضها الفاعلي وعدم اتصاف صدورها منه بالحسن الفاعلي ، لخلطه بين المأمور به والمنهى عنه في الايجاد والصدور. والحسن الفعلي لا يكفي في التقرب ما لم ينضم إليه الحسن الفاعلي ، بحيث يصدر من الفاعل حسنا. وليس خلط الصلاة بالغصب واتحادها معه في الايجاد كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة ، فان النظر إلى الأجنبية لا ربط له بجهة ايجاد الصلاة ، بخلاف الغصب المتحد معها في الايجاد. فالقول بجواز اجتماع الأمر والنهي لا يلازم القول بصحة الصلاة في صورة العلم والعمد ، كما كان القول بالامتناع يلازم القول بالبطلان في صورة الجهل والنسيان ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا كان للمكلف مندوحة ، بحيث كان يمكنه فعل الصلاة في المكان المباح. وأما إذا لم يكن للمكلف مندوحة بل انحصر مكان الصلاة في الدار الغصبية ، فترجيح الغصب بكونه مما لا بدل له لا يجرى في الفرض ، لان الصلاة أيضا مما لا بدل لها حسب الفرض ، بل لابد من اعمال سائر مرجحات باب التزاحم. وقبل بيان ذلك ، لابد من التنبيه على امر ، وان كان حقه ان يذكر في المقام الأول ، الا انه قد فاتنا ذكره هناك.

وحاصل ذلك الامر : هو انه لو فرض تعلق الامر بعنوان وتعلق النهى بعنوان آخر ، وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، ولكن كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا ، فهل

ص: 443

يندرج ذلك في المسألة المبحوث عنها؟ ويتأتى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق في الفرض المذكور ، أو انه لا يندرج في ذلك؟ بل لابد من القول بتعارض الأمر والنهي في مورد التصادق وأعمال قواعد التعارض.

الحق هو الثاني ، لان التلازم بين متعلق الامر ومتعلق النهى في مورد التصادق دائمي ، ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم إذا كان التلازم دائميا ، لعدم قدرة العبد على امتثالهما ، كما في الضدين. فكما لا يجوز الامر بالقيام والقعود في زمان واحد ، كذلك لا يجوز الامر باستقبال المشرق والنهى عن استدبار المغرب في زمان واحد ، لأنه لا يعقل امتثال كل من الأمر والنهي ، والتكليف الغير القابل للامتثال لا يعقل تشريعه ، وذلك واضح.

فالأقوى اعمال قواعد التعارض ، فيما إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، سواء كان التركيب في مورد الاجتماع من التركيب الاتحادي ، أو من التركيب الانضمامي ، وبعد هذا لا تصل النوبة إلى اعمال مرجحات باب التزاحم.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه ، وهو انه لو لم يكن للمكلف مندوحة وانحصرت الصلاة في الدار الغصبية ، فهذا تارة : يكون بسوء اختياره كمن توسط في الأرض المغصوبة اختيارا وضاق الوقت الا عن الصلاة فيها. وأخرى : يكون لا بسوء اختياره كالمحبوس في الدار الغصبية. فان كان عدم المندوحة لا بسوء اختياره فهذا مما لا اشكال في صحة الصلاة منه في الدار الغصبية وسقوط قيدية لزوم عدم ايقاعها في المكان المغصوب مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي - كما هو المختار - أو قلنا بامتناعه.

اما بناء على القول بالامتناع : فلان القيدية انما استفيدت من تعلق النهى بالصلاة في الدار الغصبية ، لما عرفت : من أنه بناء على الامتناع يكون مورد التصادق من صغريات النهى في العبادة ، والقيدية المستفادة من الحرمة النفسية تدور مدار الحرمة. وليست كالقيدية المستفادة من النواهي الغيرية ، مثل قوله : لا تصل في غير المأكول ، حيث قلنا ان الظاهر منها هو القيدية المطلقة ، سواء تمكن المكلف منها

ص: 444

أولم يتمكن ، غايته انه مع عدم التمكن من القيد يسقط التكليف عن المقيد ، الا ان يقوم دليل على عدم سقوطه بسقوط القيد ، فيستفاد منه كون القيدية مخصوصة بحال التمكن ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن هذا في القيدية المستفادة من النهى أو الامر الغيري. واما القيدية المستفادة من النهى النفسي فهي تابعة للنهي ، وبعد سقوط النهى بالاضطرار تسقط القيدية فقط ، ولا موجب لسقوط المقيد ، هذا.

ولكن للتأمل في ذلك مجال ، لان القيدية وان استفيدت من النهى ، الا انها ليست معلولة للنهي ، بل هي معلولة للملاك الذي أوجب النهى. فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة ، وهو الملاك ، وسقوط أحد المعلولين بالاضطرار لا يوجب سقوط المعلول الآخر.

فالأولى ان يقال : ان القيدية المستفادة من النهى النفسي أيضا تقتضي القيدية المطلقة. وقد ذكرنا شطرا من الكلام في ذلك في رسالة المشكوك. وسيأتي انشاء اللّه البحث عنه أيضا في مسألة النهى في العبادات.

ولكن هذا لا اثر له في باب الصلاة ، لان الظاهر من قوله علیه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، هو كون قيدية كل قيد مقصورة بحال التمكن ، سواء كانت القيدية مستفادة من النهى الغيري ، أو من النهى النفسي. هذا كله بناء على الامتناع. واما بناء على الجواز فسقوط القيدية عند الاضطرار أولى ، من جهة انه بناء على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفت. والقيدية المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة ، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيدية لا محالة. وليس هناك ملاك اقتضى القيدية في صورة التزاحم ، حتى يقال : انه لا موجب لسقوط القيدية بسقوط المزاحم ، كما كان الامر في النهى النفسي كذلك - على ما عرفت - بل القيدية في باب التزاحم انما تكون معلولة للمزاحم ، وبعد سقوط المزاحم تسقط القيدية لا محالة ، ففساد الصلاة في الدار الغصبية لم يكن لها موجب الا حرمة الغصب ومزاحمة الصلاة للغصب ، بناء على الجواز ، وبعد الاضطرار إلى الغصب لايكون هناك مزاحم حتى يقتضى فساد الصلاة ، فالمحبوس في الدار الغصبية تصح

ص: 445

صلوته.

وتقييد بعض بما إذا لم تستلزم الصلاة تصرفا زائدا لم يظهر لنا وجهه ، فان شاغلية الشخص للمكان لا يختلف بين كونه قائما أو قاعدا أو نائما ، ولا يزيد بذلك أو ينقص ، فليس صلاة المحبوس تصرفا زائدا على ما إذا كان قاعدا ، بل لا يعقل ان يكون تصرفه في حال الصلاة زائدا على تصرفه في حال العقود ، وان كان العرف ربما يعد الصلاة لمكان اشتمالها على الهوى والجلوس والركوع والسجود تصرفا زائدا على ما إذا كان ساكنا ، الا ان لا عبرة بالنظر العرفي ، بعد ما كان تصرفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص.

هذا إذا كان محبوسا في الدار المغصوبة. وأما إذا دخل في الدار الغصبية لا عن اختيار ، ولكن كان مختارا في الخروج عنها ، فاللازم هو الصلاة في حال الخروج ماشيا إذا ضاق وقتها ، وليس له المكث فيها للصلاة ، لأنه اختياري محرم ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : ان المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب ، بحيث كان غير متمكن من ترك الغصب ، كالمحبوس. واما لو كان متمكنا من ترك الغصب ، ولكن كان غير متمكن من الصلاة الا في المغصوب ، بحيث دار الامر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب ، فهذا خارج عما نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بد من ملاحظة الأهمية والمهمية ، ولا يجرى فيه قوله علیه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، لأنه انما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرمة ذاتا ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا لم يكن عدم المندوحة بسوء الاختيار ، وأما إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، كمن توسط أرضا مغصوبة باختياره ، فالكلام فيه تارة : يقع من حيث الحكم التكليفي وان خروجه هل يكون مأمورا به أو منهيا عنه؟ وأخرى : يقع من حيث صحة الصلاة في حال الخروج وعدمها.

اما الجهة الأولى :

فقد وقعت معركة الآراء وتعددت فيها الأقوال.

فقول : بان الخروج واجب ليس الا ولا يعاقب عليه ، وهو المنسوب

ص: 446

إلى الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1).

وقول : بأنه واجب وحرام بمعنى انه مأمور به ومنهي عنه ، وهو المنسوب إلى أبى هاشم ، وحكى أيضا عن المحقق القمي (2).

وقول : بأنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه ، بمعنى انه يعاقب عليه لا بالنهي الفعلي ، بل بالنهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج ، وهو المنسوب إلى صاحب الفصول (3).

وقول : بأنه غير مأمور به ولا منهي عنه بالنهي الفعلي ، ولكن يعاقب عليه ويجرى عليه حكم المعصية مع الزام العقل بالخروج لكونه أقل محذورا ، من دون ان يكون مأمورا به شرعا ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني في كفايته (4).

وقول : بأنه منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بمأمور به شرعا.

والأقوى من هذه الأقوال هو القول الأول الذي اختاره الشيخ ( قده ) : فان مبنى سائر الأقوال هو كون المقام من صغريات قاعدة - الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار - وسيتضح فساد ذلك ، وان المقام ليس مندرجا في ذلك.

ولكن لو بنينا على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحق ما عليه المحقق الخراساني ( قده ) : من أنه ليس بمأمور به شرعا ولا منهيا عنه مع كونه يعاقب عليه ، وذلك لان الامتناع بالاختيار انما لا ينافي الاختيار عقابا ، لا خطابا ، فإنه

ص: 447


1- مطارح الأنظار ، ص 151 قوله قدس سره « والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيا عنه ولا يفترق فيه النهى السابق واللاحق »
2- قوانين الأصول ، التنبيه الثاني ص 86 قوله قدس سره « الثالث انه مأمور به ومنهى عنه أيضا ، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو الأقرب .. »
3- الفصول ، ص 140 قوله قدس سره « والحق انه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص ، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنه عاص به بالنظر إلى النهى السابق .. »
4- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 263 « والحق انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به .. »

يستحيل الخطاب بالممتنع وان كان امتناعه بسوء الاختيار ، حيث إنه لا يصلح الخطاب للداعوية والباعثية ، ومع هذا كيف يصح الخطاب؟.

ودعوى ان الخطاب في مثل هذا يكون تسجيليا ليس فيه بعث حقيقي مما لا نعقلها ، فان الخطاب التسجيلي من المولى الحكيم مما لا يعقل ، بل يتوقف صحة الخطاب من الحكيم على امكان ان يكون داعيا ومحركا لعضلات العبد ، وان لم يكن بمحرك فعلى ، كالخطابات المتوجهة إلى العصاة والكفار. واما الخطاب الذي لا يمكن ان يكون داعيا ومحركا فهو مستحيل من الحكيم. فدعوى : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، فاسدة جدا.

ومنه يظهر فساد القول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، مضافا إلى اقتضاء ذلك للامر بالنقيضين والنهى عنهما كما لا يخفى.

واما القول بكونه مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية عليه - لمكان النهى السابق الساقط - فهو أيضا مما لا يعقل ، لان اختلاف زمان الأمر والنهي مع تواردهما على شيء واحد بلحاظ حال وجوده مما لا اثر له ، لوضوح ان النهى عن الخروج في الزمان السابق على الدخول انما يكون بلحاظ حال وجود الخروج ، ومع كونه بهذا اللحاظ منهيا عنه كيف يكون مأمورا به؟ وهل هذا الا توارد الأمر والنهي على شيء واحد؟.

ودعوى : انه لا مانع من كون الخروج منهيا عنه قبل الدخول على نحو المعلق - بان يكون النهى فعليا وكان المنهى عنه استقباليا - لا تصحح هذا القول ، فان المعلق انما يقتضى تقدم زمان فعلية الحكم على زمان امتثاله ، ولكن مع استمرار الحكم إلى زمان الامتثال لا مع انقطاعه ، والمفروض من صاحب هذا القول هو سقوط النهى في حال الخروج ، وانما يجرى عليه حكم المعصية.

فظهر : انه بناء على كون المقام من صغريات قاعدة - الامتناع بالاختيار - لا محيص عن القول بان الخروج غير مأمور به ولا منهى عنه في الحال ، وان كان منهيا عنه قبل الدخول. ويجرى على الخروج حكم المعصية من حيث العقاب ، الا ان الشأن في كون المقام مندرجا تحت تلك القاعدة ، فان دعوى ذلك في غاية السقوط لما

ص: 448

فيها : (1).

أولا : ان الخروج غير ممتنع للتمكن من تركه ، والذي امتنع عليه هو مقدار من الكون في المغصوب ، الذي يحصل بالخروج تارة وبتركه أخرى ، ولكن ذلك لا يوجب امتناع الخروج ، لان الاضطرار إلى الجامع لا يلازم الاضطرار إلى ما يحصل به.

والحاصل : ان الاضطرار إلى مقدار من الغصب غير الاضطرار إلى الخروج ، ومحل الكلام هو امتناع الخروج. واما الاضطرار إلى الكون الغصبي في الجملة فسيأتي الكلام فيه ، فدعوى : ان الخروج مما يكون من الامتناع بالاختيار ، واضحة الفساد.

وثانيا : ان مورد قاعدة الامتناع بالاختيار ، هو ان يكون التكليف بالممتنع بالنسبة إلى المقدمة الاعدادية ، التي بتركها حصل الامتناع مطلقا ، بحيث تكون تلك المقدمة من المقدمات الوجودية ، على وجه لايكون الخطاب مشروطا بها ولا الملاك ، كالسير بالنسبة إلى الحج ، فان الحج وان كان مشروطا بالزمان من يوم عرفة امتثالا وخطابا - على ما هو الحق عندنا من امتناع الواجب المعلق - الا انه غير مشروط بالنسبة إلى السير. ومن هنا قلنا : ان السير واجب لا بالوجوب المقدمي الآتي من قبل وجوب الحج ، بل بالوجوب الطريقي الناشئ عن ملاك وجوب الحج ، على وجه يكون من قبيل متمم الجعل ، حيث إنه لا يمكن للآمر استيفاء ملاك الحج الا بأمرين : امر بالحج ، وامر بالسير إليه. وعلى كل حال ، ليس السير مقدمة وجوبية للحج ، بحيث يكون الملاك والخطاب مشروطا به ، فتركه حينئذ يوجب امتناع الحج عليه في يوم عرفة ، ويكون من الامتناع بالاختيار.

وأما إذا كان الواجب بالنسبة إلى تلك المقدمة الاعدادية مشروطا خطابا

ص: 449


1- ولا يخفى عليك : ان صاحب الكفاية لم يجعل الخروج مما امتنع على المكلف ، وانما يكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول ، وبعد الدخول لمكان الزام العقل به لا يعقل بقاء النهى ، بل لا بد من سقوطه ، وان يعاقب عليه. فالمهم في رد مقالة الكفاية ، هو اثبات ان الخروج لم يكن منهيا عنه قبل الدخول فتأمل - منه

وملاكا ، فترك تلك المقدمة الاعدادية وان كان يوجب امتناع الواجب ، الا انه ليس من صغريات تلك القاعدة. مثلا لو فرض ، ان السير كان مقدمة وجوبية للحج ، بحيث كان الحج واجبا إذا كان الشخص في الحرم واتفق وقوع السير منه ، فترك مثل هذا السير لا يوجب العقاب على ترك الحج ، وان امتنع عليه. وفي المقام يكون الدخول في الدار الغصبية من المقدمات التي يتوقف عليها أصل الخطاب بالخروج ، إذ لا يعقل الخروج الا بالدخول ، فلا يعقل النهى من الخروج الا مشروطا بالدخول ، ولا يتحقق للخروج ملاك النهى الا بعد الدخول ، فهو مشروط بالدخول خطابا وملاكا ، والمفروض انه بعد الدخول ليس الخروج منهيا عنه حسب تسليم الخصم. فمتى كان الخروج منهيا عنه؟ حتى يندرج تحت تلك القاعدة.

وبعبارة أخرى : الدخول يكون موضوعا للخروج ، حيث إنه لا موضوع للخروج بدون الدخول ، فكيف يعقل النهى عنه قبل الدخول؟ حتى يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

وبتقريب آخر : ( وان شئت فاجعله وجها ثالثا لفساد كون المقام من صغريات تلك القاعدة ) وهو ان امتناع الخروج انما يكون بترك الدخول لا بفعل الدخول ، فهو عكس قاعدة - الامتناع بالاختيار - لان مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان مخالفة الامر المقدمي يوجب امتناع ذي المقدمة ، كترك السير في مثال الحج. واما في المقام ، فامتثال النهى المقدمي وترك الدخول يوجب امتناع الخروج لعدم تحقق موضوعه ، لا فعل الدخول فان فعل الدخول موجب للتمكن من الخروج ، لا انه موجب لامتناعه.

وثالثا أو رابعا : انه يعتبر في مورد القاعدة ، ان يكون الفعل الممتنع عليه بالاختيار حال امتناعه غير محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع ، بل لا بد ان لايكون محكوما بحكم ، أولو كان محكوما بحكم لكان هو الحكم السابق على الامتناع ، كما يدعيه القائل بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا. مثلا الحج حال امتناعه على الشخص بترك المسير ، اما غير محكوم بحكم أصلا ، كما هو مقالة من يقول : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكا فقط ،

ص: 450

أو محكوما بحكم الوجوب كما هو مقالة من يقول : انه لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا.

واما لو فرض ان الفعل الممتنع حال امتناعه محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع فهو لايكون من صغريات تلك القاعدة ، كما في المقام ، حيث إن الخروج عن الدار الغصبية مما يحكم بلزومه العقل. وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه ، سواء قلنا : انه حكمه من باب اختيار أقل المحذورين ، كما قيل : أو قلنا : انه من باب وجوب رد المغصوب ، كما هو الأقوى على ما سيأتي. وعلى كل حال : يكون الخروج حال وقوعه مما يلزم به العقل ، ومعه كيف يندرج في قاعدة - الامتناع بالاختيار -.

هذا كله إذا كانت الدعوى ان الخروج مما يكون ممتنعا بالاختيار.

وأما إذا كانت الدعوى ان مقدارا من الكون الغصبي ممتنع ، فهي حق ، إذ لا محيص من مقدار من الكون الغصبي ، سواء مكث في الدار الغصبية أو خرج ، الا ان الكون الغصبي المتحقق في ضمن الخروج لايكون منهيا عنه بوجه من الوجوه وفي زمان من الأزمنة ، بل هو يكون واجبا في جميع الحالات ، لوجوب رد المغصوب إلى صاحبه بالضرورة من الدين. وكونه هو الذي أوقع نفسه في هذا التصرف الغصبي بسوء اختياره - حيث دخل في الدار عن اختيار - لا يوجب كون الخروج حال وقوعه مبغوضا ، كمن شرب دواء مهلكا وانحصر حفظ نفسه بشرب الخمر ، فان شرب الخمر في هذا الحال يكون واجبا عقلا وشرعا ، لتوقف حفظ النفس عليه ، وان كان بسوء اختياره أوقع نفسه في شرب الخمر. لمكان شربه الدواء المهلك. فالعقاب ( لو كان ) انما يكون في شرب ذلك الدواء لو كان شرب الخمر من الأمور التي لم يرد الشارع وقوعها في الخارج لما فيه من المفسدة ، فإنه ح يحرم على الشخص ادخال نفسه في موضوع يوجب شرب الخمر.

وليس ذلك كشرب المرأة الدواء الموجب للحيض المستلزم لعدم أمرها بالصلاة ، حيث إنه يمكن القول بجواز شربها للدواء ، إذ لم يعلم من مذاق الشارع مبغوضية ايقاع الشخص نفسه في موضوع يوجب عدم تكليفه بالصلاة. وهذا بخلاف

ص: 451

شرب الخمر ، فان ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليف بشرب الخمر مبغوض للشارع ، كما أن ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه بالتصرف في مال الغير مبغوض للشارع ، فالدخول في الدار الغصبية يكون مبغوضا ومحرما من جهتين : من جهة كونه هو بنفسه تصرفا في ملك الغير ، ومن جهة استلزامه للتصرف الخروجي ، بخلاف مثل شرب الدواء الموجب لشرب الخمر فإنه محرم من جهة استلزامه شرب الخمر ، وليس له جهة أخرى إذا كان الدواء في حد نفسه مما يجوز شربه.

والحاصل : انه ينبغي ان يقع التكلم في الدخول من جهة ان حرمته تكون من جهتين ، لا في الخروج فان الخروج واجب على كل حال. وليس وجوبه من باب حكم العقل باختيار أقل المحذورين ، فان مناط حكم العقل بلزوم الخروج عن ملك الغير في صورة ما إذا كان الدخول فيه بالاختيار ، وفي صورة ما إذا كان الدخول فيه بلا اختيار امر واحد ، وهو لزوم فراغ ملك الغير ورده إلى صاحبه ، الذي يحصل بالتخلية في غير المنقول. وليس حكم العقل بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بالاختيار بمناط يغاير مناط حكمه بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بغير الاختيار - حيث إنه في الأول يكون من باب أقل المحذورين ، وفي الثاني يكون من باب رد المغصوب ورفع اليد عنه - حتى يكون الثاني واجبا شرعا وعقلا دون الأول ، بل مناط حكم العقل معلوم عندنا مطرد في جميع اقسام الغصب من المنقول وغيره ، وانه في الجميع يجب رد المغصوب إلى أهله شرعا وعقلا ، غايته انه في المنقول يكون الرد بالقبض ، وفي غيره يكون برفع اليد والتخلية.

فظهر : انه لا محيص عن القول بان الخروج عن الدار الغصبية فيما إذا توسطها بالاختيار مأمور به ليس الا ، ولا يجرى عليه حكم المعصية. هذا تمام الكلام في الحكم التكليفي.

واما الحكم الوضعي :

وهو صحة الصلاة في حال الخروج عند ضيق الوقت ، فمجمل الكلام فيه : هو انه ان قلنا بان الخروج مأمور به ولا يجرى عليه حكم المعصية ، فلا اشكال في

ص: 452

صحة الصلاة في حال الخروج وكونها مأمورا بها ، نعم لا بد من ملاحظة عدم وقوع تصرف زائد على الخروج ، فيؤمى للركوع والسجود.

واما ان قلنا بجريان حكم المعصية عليه ، فبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي يقع التزاحم بين المأمور به والمنهى عنه ، حيث إن القيام في حال المشي يكون واجبا من جهة كونه من اجزاء الصلاة ، والساقط هو الاستقرار في حال القيام لا أصل القيام ، ولمكان انه يقتضى اشغال ملك الغير يكون منهيا عنه ، ولو بالنهي السابق الساقط ، حيث إن الكلام فيما إذا كان الخروج معصية حكمية ، فيقع التزاحم بين الامر بالقيام وبين النهى عن اشغال المكان حاله ، ولمكان - ان الصلاة لا تسقط بحال - يمكن ان يقال بوجوب الصلاة وسقوط قيدية القيام ، فتكون الصلاة في مثل هذا خالية عن القيام ، ان نقول ببقاء القيام على جزئيته للصلاة ويكون مأمورا به وان كان من جهة شاغليته لمكان الغير معصية ، أو نقول بأنه لا يجرى عليه حكم المعصية في مثل هذا الفرض لأهمية الصلاة ، فتأمل.

واما بناء على الامتناع ، فيكون نفس هذا القيام بما انه قيام معصية ومبغوضا للشارع ، ومعه ينبغي ان نقول بعدم صحة الصلاة ، وان كان يمكن ان يقال بسقوط قيدية القيام ، لمكان ان الصلاة لا تسقط بحال - فتأمل في المقام ، فإنه بعد لا يخلو عن اشكال ، ويحتاج إلى زيادة بيان. وشيخنا الأستاذ مد ظله لم يستوف الكلام في الحكم الوضعي على ما ينبغي. ونسئل اللّه حسن العاقبة والتوفيق لما يحب ويرضى. وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق المتعلقة بمبحث اجتماع الأمر والنهي في ليلة الثلثا غرة جمادى الأولى سنة 1347.

ص: 453

فصل في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

اشارة

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

قد أطالوا البحث في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي مع أنه ما كان ينبغي إطالة البحث عن ذلك ، فان الفرق بين المسئلتين جلى لا يكاد يخفى ، لما عرفت : من أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو ما إذا تعلق الامر بعنوان والنهى بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، والبحث فيه يكون عن اتحاد المتعلقين وعدم اتحادهما. والموضوع في هذه المسألة هو ما إذا تعلق النهى ببعض ما تعلق الامر به على وجه تكون النسبة بين المتعلقين العموم المطلق ، ويكون البحث فيها عن اقتضاء النهى للفساد. فموضوع كل من المسئلتين مع جهة البحث فيه يفترق عن موضوع الأخرى وعن جهة البحث فيها.

نعم : من لم يعتبر في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي كون النسبة العموم من وجه انحصر الفرق بين المسئلتين عنده في جهة البحث ، لا في الموضوع ، الا انه قد تقدم فساد ذلك وانه لابد في مسألة اجتماع الأمر والنهي من كون النسبة هي العموم من وجه.

نعم : بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب النهى تندرج مسألة الاجتماع في صغرى مسألة النهى عن العبادة وتكون من افرادها ، الا ان ذلك لا يوجب اتحاد المسئلتين.

ثم انه لا اشكال في كون المسألة من مسائل علم الأصول وليست من المبادئ ، فإنها تقع كبرى في قياس الاستنباط ابتداء. وليست كمسألة اجتماع

ص: 454

الأمر والنهي ، حيث تقدم انها تكون من مبادئ مسألة التعارض والتزاحم وليست هي بنفسها من المسائل. واما مسألة النهى عن العبادة والمعاملة فهي بنفسها من المسائل ، ويستنتج منها فساد العبادة أو المعاملة.

وبذلك يظهر فرق آخر بين المسئلتين وذلك واضح ، كوضوح ان المسألة ليست من مباحث الألفاظ ، بل البحث فيها انما يكون عن الملازمات العقلية للأحكام ، خصوصا بناء على ما هو التحقيق عندنا من أن الفساد يدور مدار عدم الامر والملاك معا ، ولا يكفي فيه عدم الامر كما حكى عن الجواهر ، فإنه لا دخل للفظ بالملاك ، بل الملاك امر واقعي تكويني لا بد من استكشاف عدمه في العبادة من مقدمات ، على ما سيأتي بيانها. والنهى بنفسه لا يكفي في الفساد مع قطع النظر عن كونه كاشفا عن عدم الملاك ، سواء كان مدلول اللفظ أو لم يكن ، كالنهي المستفاد من الاجماع والعقل.

نعم : لو قلنا بأنه يكفي في الفساد عدم الامر ولا يحتاج إلى عدم الملاك كان النهى بنفسه دالا على عدم الامر ، ومع ذلك لا دخل للفظ ، فان النهى الواقعي يدل على عدم الامر ، سواء كان الدال على النهى لفظا أو عقلا أو اجماعا ، فلا موجب لعد المسألة من مباحث الألفاظ. وكان حق الاعلام ان يعقدوا بابا مستقلا للبحث عن الملازمات العقلية ، ويبحثوا فيه عن هذه المسألة وما شابهها مما يكون البحث فيه عن الملازمات العقلية للأحكام الشرعية ، كمسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد. الا انهم لما لم يعقدوا لذلك بابا مستقلا ادرجوا هذه المسائل في مباحث الألفاظ.

الامر الثاني :

ينبغي خروج النهى التنزيهي عن حريم النزاع ، فإنه قد تقدم في مسألة الأمر والنهي انه لا يقتضى الفساد ، لان الرخصة الوضعية بالنسبة إلى الاتيان بأي فرد ( المستفادة من تعلق الامر بالطبيعة ) لا تنافى النهى التنزيهي المتضمن للرخصة أيضا ، على ما عرفت سابقا.

نعم : لو تعلق النهى التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه

ص: 455

الفساد مجال ، من جهة ان ما يكون مرجوحا ذاتا لا يصلح ان يتقرب به ، الا ان النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلقة بالعبادات لم تتعلق بذات العبادة على وجه يتحد متعلق الأمر والنهي ، على ما تقدم تفصيله. فالقول بان النهى التنزيهي كالنهي التحريمي داخل في حريم اقتضاء النهى للفساد ضعيف جدا.

ثم انه لا اشكال في دخول النهى النفسي في حريم النزاع ، وهل يختص النزاع به أو يعم النهى الغيري أيضا؟ والذي ينبغي ان يقال : هو ان النهى الغيري المسوق لبيان المعانعية كالنهي عن الصلاة في غير المأكول خارج عن مورد النزاع ، لأنه بنفسه يقتضى الفساد ، حيث يدل على دخل عدم ما تعلق النهى به في حقيقة المأمور به ، وانتفاء الشيء بوجود مانعه ضروري غير قابل للنزاع فيه.

واما النهى الغيري التبعي المستفاد من الامر بالشيء - بناء على اقتضائه النهى عن ضده - وأمثال ذلك من النواهي التبعية المتعلقة بالعبادة ، ففي دخوله في محل النزاع كلام ، من جهة كونه غير كاشف عن عدم الملاك ، بل غايته انه يوجب عدم الامر مع قطع النظر عن الامر الترتبي ، ومع عدم كشفه عن عدم الملاك لا يوجب الفساد ، بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة ، وسيأتي البحث في ذلك.

فظهر : ان المراد من النهى في عنوان النزاع هو النهى التحريمي النفسي ، أو الغيري التبعي ، على ما فيه من الكلام.

واما العبادة : فالمراد بها في المقام معناها الأخص ، أي الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ويتقرب بها منه تعالى.

والمراد من المعاملة : هي الانشائيات الأعم من العقود والايقاعات ، لا خصوص العقود ، ولا المعاملة بالمعنى الأعم الشاملة لمثل احياء الموات ، والحدود ، والمواريث ، وغير ذلك من الموضوعات لآثار شرعية ، فان النهى التحريمي فيها لا يوجب الفساد ، فان النهى عن الاحياء بالآلة الغصبية مثلا لا يوجب فساد الاحياء ، وذلك واضح. الا إذا كان النهى ارشاد إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيى ، وهذا خارج عما نحن فيه.

واما المراد من الفساد : فهو عبارة عن عدم ترتب الأثر المطلوب من الشئ

ص: 456

عليه. ومن هنا كان التقابل بين الصحة والفساد تقابل العدم والملكة لا التضاد ، على ما سيأتي بيانه.

الامر الثالث :

للصحة اطلاقان : اطلاق في مقابل العيب ، واطلاق في مقابل الفساد ، كما يقال : ان هذا الجوز صحيح ، أي غير معيوب ، وأخرى يقال : صحيح ، أي غير فاسد. والمراد من الصحة في المقام هو ما يقابل الفساد. وحيث كانت الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على الماهيات بعد وجودها ، فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، وحيث لم يكن الفساد أمرا وجوديا فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل التضاد ، وانحصر ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فيكون المراد من الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر المطلوب منه ، والفاسد ما لم يترتب عليه ذلك الأثر. وحينئذ لا بد ان يكون المورد قابلا لان يتصف بالصحة والفساد ، فيحمل عليه الصحيح تارة ، والفساد أخرى. فالبسائط لا تتصف بالصحة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، إذ فساد الشيء انما هو باعتبار عدم ترتب الأثر ، وذلك انما يكون باعتبار فقدانه بعض ما اعتبر فيه : من جزء ، أو شرط. وهذا انما يتصور في المركبات. واما البسائط ، فهي ان كانت موجودة فلامحة تكون صحيحه ، إذ ليس لها جزء أو شرط ، حتى يتصور فقدانه. وان لم تكن موجودة فلا تتصف ، لا بالصحة ، ولا بالفساد ، لما عرفت : من أن الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على وجود الشيء.

ثم انه ليس كل مركب ذي حكم شرعي مما يتصف بالصحة والفساد ، فان موضوعات التكاليف مع كونها مركبة لا تتصف بالصحة والفساد ، فمثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مع كون الموضوع فيه مركبا من العقل والبلوغ والاستطاعة ، لا يتصف بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم ، كالبسائط. والذي يتصف بالصحة والفساد هي متعلقات التكاليف وما يلحق بها من الأسباب كالعقد المركب من الايجاب والقبول ، والايقاع المشتمل على الشرائط المعتبرة فيه ، حيث إن المتعلق أو العقد يمكن ان يكون صحيحا باعتبار انطباقه على ما يترتب عليه الأثر ، ويمكن ان يكون فاسدا باعتبار عدم الانطباق. كما أن اجزاء المتعلق والعقد

ص: 457

أيضا تتصف بالصحة والفساد باعتبار اثرها الاعدادي ، ولا يلزم ان يكون الشيء صحيحا باعتبار كونه علة تامة للأثر المطلوب منه والمرغوب فيه ، بل يكفي ان يكون على وجه الاعداد ، كما هو الشأن في جميع متعلقات التكاليف ، حيث تكون من المعدات للمصالح التي من اجلها امر بها ، وليست هي علة تامة لذلك ، بحيث تكون المصالح من قبيل المسببات التوليدية لتلك المتعلقات ، والا كانت نفس الملاكات متعلقة للتكليف ، وكان فعل المكلف من قبيل المحصل والسبب لذلك ، وذلك يكون بمراحل عن الواقع وان توهمه بعض الاعلام ، وقد تقدم منا مرارا فساد التوهم.

فظهر : انه ليس المراد من الصحيح هو ما يكون علة تامة لترتب الأثر الذي لأجله صار متعلقا للتكليف ، بل يكفي ان يكون معدا لذلك. وان شئت قلت : ان المراد من الصحيح هو كون المأتى به في مقام الامتثال والخروج من عهدة التكليف مطابقا لما تعلق التكليف أو الوضع به ، لوضوح ان الذي يتصف بالصحة والفساد هو ما يوجد في الخارج من الافراد ، لا العنوان الكلي المتعلق للتكليف أو الوضع ، فان ذلك لا يتصف بالصحة والفساد ، واما المتصف بهما هو المأتى به في وادى الفراغ ، وما يلحق بذلك مما يأتي به في وادى الانشاء.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : انه بعد ما كان الصحيح عبارة عما ترتب الأثر والملاك عليه في باب العبادات ، فكيف قلتم بكون الأثر والملاك لم يتعلق به التكليف وكان متعلق التكليف هو الاجزاء والشرائط؟ فان ذلك ينافي لحاظ الصحة باعتبار ترتب الأثر.

وجه الدفع : هو ان لحاظ الصحة بهذا الاعتبار لا ينافي خروج الأثر عن دائرة التكليف ، بل يكفي في ذلك كون الأثر حكمة التشريع ، فإنه بعد ما كان الصحيح عبارة عن كون المأتى به مطابقا لما تعلق التكليف به أو الوضع به ، فلا فرق بين كون الأثر مما تعلق التكليف به ، أو لم يتعلق.

نعم يبقى في المقام اشكال : وهو ان ألفاظ المعاملات انما تكون موضوعة لنفس المسببات ، لا للأسباب ، فالبيع اسم للنقل ، والنكاح اسم للازدواج ، وهكذا سائر ألفاظ المعاملات. ومن المعلوم : ان المسببات تكون بسائط لا تتصف بالصحة

ص: 458

والفساد ، بل بالوجود والعدم ، فان النقل مثلا اما ان يكون حاصلا واما ان لايكون ، ولا معنى لحصوله فاسدا. وحينئذ ينبغي خروج المعاملات عن حريم النزاع ، لان الذي يتصف بالصحة والفساد هو الأسباب ، حيث تكون مركبة من الايجاب والقبول ، وهذا ليس بيعا ، والذي يكون بيعا لا يتصف بالصحة والفساد ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ، بما تقدم منا في الصحيح والأعم عند دفع اشكال التمسك بالاطلاقات لنفى شرطية ما شك في المعاملات بناء على كونها موضوعة للمسببات.

وحاصل ما ذكرناه في ذلك المقام ، هو ان العقد المؤلف من الايجاب والقبول في باب المعاملات ليس من قبيل العلل والأسباب ويكون النقل والانتقال في البيع معلولا له ، بل الايجاب والقبول انما يكون آلة لحصول النقل ، ويكون النقل هو الصادر عن المنشى ابتداء ، غايته انه لا بنفسه بل بآلته ، ويكون قوله ( بعت ) ايجادا للنقل بنفس القول ، لا ان القول علة لحصول النقل ، بحيث يكون هناك أمران ممتازان ، بل ليس هناك الا شيء واحد وفعل فارد صادر عن المنشى ، ويكون ذلك الفعل بما انه فعل صادر عن الشخص بمعناه المصدري ايجابا للبيع والنقل ، وبمعناه الاسم المصدري يكون بيعا ونقلا. ومن المعلوم : انه لا فرق بين المصدر واسم المصدر الا بالاعتبار ، فهذا القول ( ايجاب ) باعتبار صدوره وايجاده عن الشخص ، و ( نقل ) باعتبار انه اثر ذلك الصدور والايجاد. فحصول النقل من قوله ( بعت ) نظير حصول الكتابة من مد القلم على القرطاس ، وحصول قطع الخشب من اعمال النجار المنشار ، واشتراك الكل في كونها من الايجاد بالآلة. غايته ان القلم والمنشار آلة تكوينية ، بخلاف قوله ( بعت ) وحينئذ يكون المتصف بالصحة والفساد هو نفس الايجاب والقبول بما انه آلة لحصول النقل وبذلك يدخل في حريم النزاع في المقام. كما أنه بذلك يظهر وجه التمسك بالاطلاقات ، فراجع ما ذكرناه (1) في مبحث

ص: 459


1- راجع الجزء الأول من الفوائد ، بحث الصحيح والأعم ص 79 - 80. « واما المعاملات .. »

الصحيح والأعم.

فظهر : ان المعاملات تتصف بالصحة والفساد ، وان قلنا بكونها أسماء للمسببات.

ثم انه ربما يتوهم : ان الصحة والفساد في المعاملات من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بخلاف الصحة والفساد في العبادات ، فإنهما منتزعان عن مطابقة المأتى به للمأمور به وعدم المطابقة. وربما يقال : بأنهما مطلقا من المنتزعات الغير المتأصلة بالجعل في العبادات والمعاملات. وقد يقال : أيضا بأنهما مطلقا من المتأصلات في الجعل ، كالملكية والزوجية.

والأقوى : كونهما من الأمور الانتزاعية مطلقا في العبادات والمعاملات ، كالسببية والشرطية والجزئية والعانعية ، وانما المجعول هو منشأ الانتزاع. وهذا أيضا ليس على اطلاقه ، بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول شرعي.

وتفصيل ذلك : هو ان الاتيان بكل من متعلق الامر الواقعي الأولى ، والواقعي الاضطراري الثانوي ، والظاهري ، يكون مجزيا كل عن امره عقلا ، وينطبق عليه تكوينا ، ومن هذا الانطباق ينتزع وصف الصحة وكون ما اتى به صحيحا ، فالصحة في مثل هذا تنتزع عن كون المأتى به منطبقا على ما هو المأمور به ، حسب اختلاف المأمور به من كونه : واقعيا أوليا ، أو ثانويا ، أو ظاهريا. وكون المأتى به منطبقا على المأمور به ليس أمرا مجعولا شرعيا ، وانما المجعول الشرعي هو تعلق الامر بما ينطبق على المأتى به ، واما كون المأتى به منطبقا عليه أو غير منطبق فهو يدور مدار واقعه ، والصحة والفساد تنتزع من نفس الانطباق وعدمه. فلا الصحة والفساد في مثل هذا مجعولان شرعيان ، ولا منشأ الانتزاع مجعول شرعي.

هذا إذا كان الشيء منطبقا على المأمور به أو غير منطبق. وأما إذا شك في الانطباق وعدم الانطباق ، فللشارع حينئذ الحكم بالبناء على الانطباق ، كما هو شأن الأصول الجارية في وادى الفراغ ، ومن حكم الشارع بالانطباق ينتزع وصف الصحة ، فيكون منشأ الانتزاع في مثل هذا مجعولا شرعيا ، حيث إن الشارع حكم بكون المأتى به منطبقا على المأمور به حسب ما أدى إليه الأصل. ولكن هذه الصحة

ص: 460

الظاهرية المنتزعة عن حكم الشارع بانطباق المأتى به على المأمور به انما تكون إذا لم ينكشف الخلاف ، وأما إذا انكشف الخلاف وتبين عدم الانطباق فالصحة تنعدم ، بناء على ما هو الحق من عدم اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء.

نعم : للشارع أيضا بعد انكشاف الخلاف الحكم بالصحة ، ومرجع الصحة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما اتى به امتثالا للواقع عن الواقع وهذه ترجع إلى الصحة الواقعية بوجه.

وعلى كل حال : الصحة والفساد أينما كانا فإنما يكونان من الانتزاعيات.

ودعوى انها في المعاملات من الاحكام المجعولة فاسدة ، فان المجعول في باب المعاملات هو ترتب الأثر عند تحقق سببه ، وهذا لا يتصف بالصحة والفساد ، بل المتصف بهما هو الفرد المأتى به من المعاملة. وهذا الفرد انما يتصف بالصحة عند انطباقه على ما يكون مؤثرا ، وقد عرفت : ان الانطباق يكون أمرا واقعيا ومنه ينتزع الصحة ، فحال الصحة في المعاملات حالها في العبادات.

الامر الرابع :

البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهى عنه لولا النهى ، بحيث كان صحيحا لولا النهى لمكان اندراجه تحت اطلاق دليل العبادة أو المعاملة ، كما يظهر من المحقق القمي (رحمه اللّه) بل يصح البحث عن اقتضاء النهى للفساد ولو كان المنهى عنه لولا النهى مشكوك الصحة والفساد من جهة الشبهة الحكمية أو المفهومية ، وكان الأصل العملي فيه يقتضى الفساد. مثلا لو كان ( صوم الوصال ) أو ( المقامرة ) مشكوك الصحة والفساد من جهة : عدم الدليل ، أو تعارض الدليلين ، أو غير ذلك من أسباب الشك ، فلا اشكال في أن الأصل عند الشك في ذلك هو الفساد ، لأصالة عدم مشروعية صوم الوصال ، وأصالة عدم ترتب الأثر من النقل والانتقال في المقامرة ، إذا فرض ان أوفوا بالعقود لا يعم المقامرة ، وعمومات الصوم لا تشمل صوم الوصال. ولكن مع ذلك لو تعلق النهى عن صوم الوصال أو المعاملة القمارية ، كان للبحث عن اقتضاء مثل هذا النهى للفساد مجال.

ص: 461

ولا يتوهم : انه لا معنى للبحث عن ذلك بعد ما كان مقتضى الأصل الفساد ، لأنه بناء على اقتضاء النهى للفساد يكون الفساد مستندا إلى الدليل الاجتهادي الحاكم على الأصل العملي ، وان كان موافقا له في المؤدى كما حقق في محله. فدعوى ان مورد البحث يختص فيما إذا كان هناك مقتض للصحة مما لا شاهد عليها.

الامر الخامس :

لا أصل في نفس الجهة المبحوث عنها لو شك فيها ، سواء كان البحث عن اقتضاء النهى الفساد من حيث الدلالة اللفظية ، أو كان من حيث الملازمات العقلية ، إذا لملازمة العقلية لو كانت فهي أزلية فليس لها حالة سابقة ، فلا أصل يحرز الملازمة وعدم الملازمة ، وكذلك لا أصل لنا يعين دلالة اللفظ وعدم دلالته لو شك في الدلالة ، وذلك واضح. هذا بالنسبة إلى المسألة الأصولية المبحوث عنها في المقام.

واما بالنسبة إلى المسألة الفرعية المستنتجة عن المسألة الأصولية ، ففي العبادات يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لأن الشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في مانعية المنهى عنه عن العبادة ، ويندرج في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويكون المرجع هو البراءة فيها أو الاشتغال ، كل (1) على مسلكه.

هذا إذا كان هناك امر بالعبادة مع قطع النظر عن النهى. واما لو لم يكن امر بها فالشك في اقتضاء النهى للفساد يوجب الشك في مشروعية العبادة ، والأصل يقتضى عدم المشروعية ، فتأمل.

واما في المعاملات : فالشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في

ص: 462


1- وقد أطلق شيخنا الأستاذ مد ظله القول باندراج المقام في مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر ، ولكن ينبغي التفصيل ، بين ما إذا تعلق النهى بنفس العبادة ، وبين ما إذا تعلق بجزئها أو شرطها ، فإنه لو تعلق بنفس العبادة لا يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لاقتضاء النهى حرمة العبادة على كل حال وان شك في اقتضائه الفساد ، ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، إذ ليس هناك شيء وراء العبادة تعلق النهى به يشك في مانعية ، حتى ينفى بالأصل ، فتأمل جيدا. منه

صحة المعاملة ، والأصل يقتضى عدم الصحة ، لأصالة عدم ترتب الأثر عليها ، الا إذا كان هناك اطلاق أو عموم يقتضى الصحة وترتب الأثر فتدبر جيدا.

وإذ تمهدت هذه المقدمات ، فالكلام في اقتضاء النهى للفساد يقع في مقامين :

المقام الأول :

في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد.

وتعلق النهى عن العبادة يتصور على وجوه : إذ قد تكون العبادة منهيا عنها لذاتها ، وقد تكون منهيا عنها لجزئها على وجه يكون الجزء واسطة في الثبوت ، وقد تكون منهيا عنها لشرطها كذلك ، وقد تكون لوصفها الخارج كذلك. وقد يكون نفس الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف منهيا عنه ، وكان النهى عن العبادة المشتملة على ذلك الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف ، بالعرض والمجاز.

وقبل ذكر حكم هذه الأقسام ، لا بأس بالإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة.

فمنها : انه كيف يعقل ان تكون العبادة منهيا عنها؟ مع أن العبادة ما توجب القرب إليه تعالى ، ولا يعقل النهى عن ذلك.

ومنها : ان النهى عن العبادة لا يجتمع مع الامر بها ، ومع عدم الامر بها تكون العبادة فاسدة لعدم مشروعيتها ، فلا تصل النوبة إلى اقتضاء النهى للفساد ، بل الفساد يستند إلى أسبق علله ، وهو عدم المشروعية.

ومنها : انه لا يمكن النهى عن العبادة لذاتها ، حيث إن ذات العبادة بما انها ذات لم يتعلق بها النهى ، بل لا بد ان تكون هناك خصوصية أوجبت النهى ، كصلاة الحايض ، وصوم العيدين ، وأمثال ذلك مما كانت نفس العبادة منهيا عنها. فجعل النهى عن العبادة لذاتها قسيما للنهي عن العبادة لوصفها لا يستقيم ، بل دائما يكون النهى عن العبادة لوصفها ، ولو كان ذلك مثل الحيض في الحائض والزمان في العيدين ، هذا. ولكن لا يخفى عليك ضعف جميع ذلك.

اما الأول :

فلانه ، ليس المراد من تعلق النهى بالعبادة الفعلية ، بل المراد تعلق النهى بما

ص: 463

كان من سنخ الوظائف التي يتعبد بها ، بحيث لو لم يتعلق بها نهى وتعلق بها امر كان أمرها أمرا عباديا لا يسقط الا بالتعبد به والتقرب إليه تعالى ، من غير فرق بين ما كان ذاتا عبادة ، كالسجود لله - لو فرض تعلق النهى به - وما لم يكن كذلك ، كالصوم والصلاة ، فان السجود لله بوصف كونه مما يتقرب به إليه تعالى فعلا لا يعقل تعلق النهى به ، بل تعلق النهى به موجب لعدم كونه مقربا ، وان كان مقربا لولا النهى ، كما هو الحال في مثل الصلاة والصوم.

واما الثاني :

فلانه قد تقدم ان الفساد لولا النهى كان من جهة أصالة عدم المشروعية ، واما لو تعلق النهى بها كان الفساد من جهة قيام الدليل الاجتهادي عليه ، والأصل لا يقاوم الدليل ، مضافا إلى أنه ربما تكون العبادة مندرجة تحت اطلاق ما دل على مشروعيتها في نوعها ، فيكون الفساد مستندا إلى النهى ليس الا ، كما لا يخفى.

واما الثالث :

فلان ذلك مناقشة مثالية. والمقصود : ان النهى قد يتعلق بذات العبادة لأجل خصوصية نوعية قائمة بذاتها ، وان كانت تلك الخصوصية من قبيل أوصاف المكلف الآتي بالعبادة ، كالحيض. وأخرى : يتعلق النهى بالعبادة لأجل خصوصية صنفية أو شخصية خارجة عن الذات لاحقة لها. والمناقشة بان الحيض ليس من الخصوصيات المنوعة للذات لا أهمية لها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا ، سواء كان لذاتها ، أو لجزئها ، أو لشرطها ، أو لوصفها ، إذا كانت هذه من الوسائط الثبوتية ، سواء قلنا : بكفاية عدم الامر لفساد العبادة - كما يحكى عن الجواهر - أو عدم كفاية ذلك بل يتوقف الفساد على عدم الملاك أيضا - كما هو المختار - وسواء كان اطلاق الامر بدليا ( كصل ) أو شموليا ( كأكرم العالم ) لو فرض انه امر عبادي فإنه على جميع هذه التقادير النهى يقتضى الفساد ، فإنه لا محيص عن تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا مورد النهى بعد ما كانت النسبة بين المتعلقين العموم المطلق وكان متعلق النهى أخص ، فإنه لولا التقييد يلزم الغاء النهى بالمرة ، أو اجتماع

ص: 464

الضدين ، وكلاهما لا يمكن. فالتقييد مما لا بد منه ، فلا امر ، ومع عدم الامر ، فان قلنا بمقالة صاحب الجواهر ، ففساد العبادة المنهى عنها واضح لا يحتاج إلى تجشم برهان.

واما بناء على المختار : فكذلك أيضا لأنه وان قلنا بكفاية الملاك في صحة العبادة ، الا انه ليس كل ملاك مصححا للعبادة ، بل لا بد ان يكون الملاك تاما في عالم ملاكيته ، بحيث انه لم يكن مغلوبا ومقهورا بما هو أقوى منه ، إذا الملاك المغلوب غير صالح للعبادية ، والا لما صار مغلوبا. ومن المعلوم : ان النهى عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة في العبادة أقوى من مصلحتها لو فرض انه كان فيها جهة مصلحة ، والا فمن الممكن ان لايكون في العبادة المنهى عنها جهة مصلحة أصلا ، وعلى تقدير ثبوتها فهي مغلوبة بما هو أقوى منها الذي أوجب النهى عنها ، إذ لو كانت مساوية أو أقوى من مفسدة النهى لما تعلق بها النهى ، فإذا كانت المصلحة مغلوبة سقطت عن صلاحيتها للتقرب ، وكانت العبادة فاسدة لا محالة. وينحصر تصحيح العبادة بالملاك بما إذا كان عدم الامر بها لأجل عدم القدرة عليها لمكان المزاحمة ، لا ما إذا كان عدم الامر بها من جهة التقييد والتخصيص.

هذا إذا تعلق النهى بنفس العبادة

وأما إذا تعلق بجزئها : فالأقوى انه كذلك أي يقتضى الفساد ، سواء كان الجزء من سنخ الافعال ، أو كان من سنخ الأقوال. وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهى عنه ، كما إذا اقتصر على قرائة سورة العزيمة بناء على كونها منهيا عنها ، أو لم يقتصر ، كما إذا قرء سورة أخرى بعد قرائة العزيمة أو قبلها. وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا ، كما إذا قلنا بحرمة القران بين السورتين في الصلاة ، أو كان لا بشرط ، كما إذا قلنا بجواز القران. فإنه على جميع هذه التقادير يكون المنهى عنه مفسدا للعبادة ، لان النهى عن جزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء ، وتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة. ونفس اعتبار العبادة بشرط لا عن شيء يقتضى فساد العبادة الواجدة لذلك الشيء ، لعدم كون الواجد له من افراد المأمور به بل المأمور به غيره ، فالآتي بالمنهى عنه غير آت بالمأمور به. مضافا إلى أنه يعمه أدلة الزيادة ، و

ص: 465

يكون قد زاد في صلوته مثلا فتفسد. ومضافا إلى أنه يعمه أيضا أدلة التكلم إذا كان المنهى عنه من سنخ الأقوال ، فإنه وان لم يخرج بالنهي عن كونه قرآنا مثلا ولا يدخل في كلام الآدمي ، الا انه بعد النهى عنه يخرج عن أدلة جواز القرآن والذكر في الصلاة ، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في اطلاقات مبطلية مطلق التكلم من غير تقييد بكلام الآدمي ، والقدر الخارج عن هذا الاطلاق هو التكلم بالقرآن والذكر الجائز ، ويبقى الذكر أو القرآن المنهى عنه داخلا تحت الاطلاق.

وبما ذكرنا يظهر : انه لا فرق في بطلان الصلاة بقرائة العزيمة ، بين ما إذا قرئها بعد الحمد في مكان السورة ، أو قرئها في حال التشهد ، أو الركوع ، أو غير ذلك ، إذ مناط الفساد مطرد بعد ما كانت العزيمة منهيا عنها في الصلاة مطلقا وفي جميع الحالات ، فتأمل جيدا.

هذا إذا تعلق النهى بالجزء. وأما إذا تعلق بالشرط فهو كتعلقه بالوصف ، إذ الشرط يرجع إلى الوصف. ومجمل القول في ذلك : هو ان الوصف المنهى عنه تارة : يكون متحدا مع العبادة في الوجود وليس له وجود استقلالي مغاير للموصوف ، كالجهر والاخفات في القراءة ، حيث إنه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة ، بل هو من كيفياتها. وأخرى : يكون للوصف وجود مغاير ، كالتستر والاستقبال في الصلاة. فان كان على الوجه الأول ، فالنهي عنه في الحقيقة يرجع إلى النهى عن العبادة الموصوفة بذلك الوصف ، ويندرج فيما تقدم من اقتضاء النهى للفساد ، كما لا يخفى. وأما إذا كان على الوجه الثاني ، فالنهي عنه لا يقتضى فساد العبادة ، حيث إنه لا موجب له ، إذ أقصى ما يقتضيه ذلك النهى هو حرمة ذلك الوصف والشرط ، ووقوع شيء محرم في أثناء العبادة لا يوجب فسادها إذا لم تقيد العبادة بالخالي عنه ، فيكون حال الوصف المنهى عنه في العبادة حال النظر إلى الأجنبية في أثناء العبادة ، وغير ذلك من المقارنات.

نعم : إذا كان الشرط المنهى عنه عبادة يكون الشرط فاسدا وبفساده تفسد العبادة المشروطة به أيضا ، والسر في ذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان النهى عن العبادة نفسيا. وأما إذا كان غيريا تبعيا ، كالنهي المتولد من الامر بالشيء ، فقد تقدم

ص: 466

في مبحث الضد انه لا يقتضى الفساد ، الا إذا قلنا بتوقف العبادة على الامر ولم نقل بالامر الترتبي ، على ما تقدم. هذا تمام الكلام في النهى عن العبادة. وينبغي التنبيه على أمرين :

الامر الأول :

ان مقتضى القاعدة كون النهى عن العبادة موجبا لفسادها مطلقا ، وانه مانع من صحتها ، من غير فرق بين صورة الاضطرار والنسيان الموجب لارتفاع الحرمة واقعا ، لان المعانعية ليست معلولة للحرمة حتى تدور مدارها ، بل هي والحرمة كلاهما معلولان للجهة التي أوجبت النهى : من المفسدة والمبغوضية الواقعية التي لا ترتفع بالاضطرار والنسيان.

هدا ، ولكن المحكى عن المشهور خلاف ذلك ، حيث حكى عنهم : انه لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلوته ، وكذا في صورة النسيان. وكذا حكى عنهم : انه لو شك في كون اللباس حريرا ، أو كون الشيء ذهبا ، المستتبع للشك في حرمة لبسه المستتبع للشك في مانعيته ، فبأصالة الحل والبرائة يرتفع الشك في المانعية ، كما هو الشأن في كل شك سببي ومسببي ، حيث إن الأصل الجاري في الشك السببي رافع للشك المسببي ، ولا يجرى الأصل فيه موافقا كان أو مخالفا ، هذا.

ولنا في كل من المحكى عن المشهور نظر. اما في الأول : فلما فيه.

أولا : ان الموجب للمانعية ليس الا التضاد بين اطلاق الامر والحرمة ، إذ لولا التضاد لما كان وجه للمانعية وفساد العبادة ، وقد تقدم في مبحث الضد ان الضدين في عرض واحد ، ليس بينهما طولية وترتب ، وليس وجود أحدهما مقدمة لعدم الآخر ، ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر. فيكون في المقام عدم الامر بالعبادة مع حرمتها في رتبة واحدة ، وليست الحرمة مقدمة لعدم الامر ، ولا عدم الامر مقدمة للحرمة ، فلو كان عدم الحرمة وارتفاعها في صورة الاضطرار والنسيان موجبا للامر بالعبادة ، يلزم كون عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر. وكان المشهور غفلوا عن مبناهم من عدم المقدمية في باب الضد ، والتزموا في المقام بان ارتفاع الحرمة

ص: 467

عن العبادة موجب لثبوت الامر بالعبادة ، مع أن هذا عين القول بالمقدمية ، فتأمل جيدا.

وثانيا : انه هب ان الحرمة في طول الامر وبينهما ترتب ، الا ان المانعية ليست معلولة للحرمة ومسببة عنها ، حتى يكون ارتفاعها موجبا لارتفاع المانعية ، بل المانعية والحرمة معا معلولان لعلة ثالثة ، وهي الملاك والمفسدة التي أوجبت الحرمة وأوجبت المعانعية ، ومن المعلوم : ان ارتفاع أحد معلولي علة ثالثة لا يوجب ارتفاع المعلول الآخر الا إذا ارتفعت نفس العلة. والاضطرار والنسيان لا يوجبان الا رفع الحرمة ، واما الملاك والمفسدة فهو بعد على حاله.

الا ان يقال : ان الاضطرار والنسيان حيث وردا في حديث الرفع كان رفعهما في الدليل كاشفا عن عدم لملاك. ولكن هذا لا يستقيم ، لورود حديث الرفع مورد الامتنان فهو لا ينافي بقاء الملاك والمفسدة ، ويكون المرفوع هو الحرمة فقط.

واما في الثاني : فلما فيه أولا : ما عرفت من أن المانعية ليست مسببة عن الحرمة ، حتى يكون جريان أصالة الحل عند الشك في الحرمة موجبا لرفع الشك في المانعية ، بل الشك في المانعية بعد على حاله ، ولا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا يكفي جريان الأصل في الحرمة.

وثانيا : هب ، ان المعانعية مسببة عن الحرمة ، الا انه ليس كل أصل جار في السبب يكون رافعا للشك المسببي ، بل لا بد ان يكون المسبب من الآثار الشرعية المترتبة على السبب ، بحيث يكون التعبد بالسبب تعبدا بالمسبب ، كما في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرية. وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، لان الحلية المجعولة بأصالة الحل تكون من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار إلى اكل ما هو محرم الاكل ، كالأرنب ، غايته ان الحلية المجعولة في حال الاضطرار تكون واقعية ، والمجعولة بأصالة الحل تكون ظاهرية. ومن المعلوم : ان حلية اكل لحم الأرنب عند الاضطرار لا توجب عدم مانعية المتخذ منه من اللباس للصلاة ، لان الأرنب بعد محرم الاكل ، أي خلقه اللّه تعالى محرم الاكل ، كما خلق الغنم محلل الاكل ، وهذه الحرمة الاقتضائية المجعولة لذات الأرنب لا ترتفع بالحلية المجعولة في حال الاضطرار ، كما أن

ص: 468

الحلية المجعولة للغنم بحسب الذات لا ترتفع بالحرمة العارضة له بسبب الجلل أو الوطي ، إذ لا تنافي بينهما ، فان أحدهما حلية أو حرمة اقتضائية وضعية ذاتية ، والأخرى حلية أو حرمة تكليفية فعلية عارضية. والمانعية في غير المأكول على تقدير كونها معلولة للحرمة ، فإنما هي معلولة لتلك الحرمة الذاتية الاقتضائية ، وهي كما لا ترتفع بالاضطرار ، كذلك لا ترتفع بأصالة الحل عند الشك في كون الحيوان محلل الاكل أو محرمه ، لما عرفت : من أن الحلية المجعولة بأصالة الحل من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار المجامعة للحرمة الذاتية. فاجراء أصالة الحل لا ينفع في رفع الشك في المانعية ، بل إن الشك في المانعية بعد على حاله ، الا ان يدعى ان أصالة الحل تثبت الحلية الواقعية الاقتضائية ، وهو بمكان من الفساد بحيث لا يخفى. وهذا بالنسبة إلى مانعية غير المأكول واضح.

واما فيما نحن فيه. من مانعية الحرير والذهب ، فان كانت حرمة لبس الحرير والذهب في الصلاة ( نظير حرمة اكل لحم الأرنب ) المحفوظة في حال الاضطرار إلى لبس الحرير والذهب ، فأصالة الحل لا تنفع في رفع الشك في المانعية ، كما في غير المأكول. وأما إذا لم يكن للبس الحرير والذهب الا حرمة واحدة وحكم فارد ترتفع في حال الاضطرار إلى لبسهما ، فبجريان أصالة الحل يرتفع الشك في المانعية ، على تقدير تسليم كون المانعية معلولة للحرمة. وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله إلى أن الحرمة في لبس الحرير والذهب نظير الحرمة في غير المأكول ، وحينئذ تكون المانعية المستفادة من الحرمة كالمانعية المستفادة من النهى الغيري ، في أنها لا ترتفع بالاضطرار والنسيان ، وعند الشك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا تنفع أصالة الحل ، فتأمل في المقام جيدا.

الامر الثاني :

محل الكلام في اقتضاء النهى للفساد ، انما هو فيما إذا كان النهى متعلقا بالعبادة ابتداء ، أي كانت العبادة محرمة ذاتا. وأما إذا كان النهى عنها من جهة قبح التشريع ، أي الحرمة المأتية من قبل قبح التشريع ، فهل هو كذلك؟ أي يقتضى الفساد ، أو انه لا يقتضيه؟ أو التفصيل بين العبادة فيقتضيه ، والمعاملة فلا

ص: 469

يقتضيه ، ومحل الكلام انما هو في العبادة أو المعاملة التي كانت في الواقع مشروعة وممضاة ، أي كانت مما تعلق بها الامر والامضاء ولكن المكلف لم يعلم بذلك وأسندها إلى الشارع تشريعا.

والحق في مثل هذا ، التفصيل بين العبادة والمعاملة ، ففي المعاملة : حرمة التشريع لا تقتضي الفساد ، لأنه هب انه كان اصدارها قبيحا عقلا ومحرما شرعا ، الا ان حرمة الاصدار ومبغوضية الايجاد لا تقتضي الفساد ، على ما سيأتي في المقام الثاني.

واما في العبادة : فالحرمة التشريعية كالحرمة الذاتية تقتضي الفساد لقبح التشريع عقلا المستتبع بقاعدة الملازمة للحرمة الشرعية. وحكم العقل بقبح التشريع لا يدور مدار الواقع ، بحيث إذا كانت العبادة في الواقع مشروعة كان المكلف متجريا ، بل تمام مناط حكم العقل بقبح التشريع هو الاسناد إلى المولى ما لم يعلم أنه منه ، من غير فرق بين ان يعلم أنه ليس منه ، أو يظن ، أو يشك. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح التصرف في مال الغير ، بحيث يكون له حكم واقعي وحكم طريقي في صورة الشك ، على ما بيناه في محله. فنفس عدم العلم بان الشارع لم يأمر بالعبادة يتحقق تمام موضوع حكم العقل بقبح التشريع ، ويتبعه الحرمة الشرعية. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح المعصية مما لا يستتبع حكما شرعيا فان قبح المعصية من جعل بذاته كحجية العلم ، ليس يقبل جعلا شرعيا ، موافقا أو مخالفا. بخلاف قبح التشريع ، فإنه قابل لجعل حكم مخالف ولا محذور فيه ، إذ يصح للشارع تجويز التشريع ، فهذا يدل على أن قبح التشريع ليس مما لا يستتبع بقاعدة الملازمة حكما شرعيا ، فحكم العقل بقبح التشريع يقتضى الحرمة الشرعية. وليس قبح التشريع أيضا من الآثام القلبية ، بحيث لا يسرى إلى العمل والفعل المتشرع به ، بل الفعل يكون مبغوضا وقبيحا ، غايته انه لا لذاته ، بل القبيح هو جهة الاصدار والايجاد ، وهذا المقدار يكفي في فساد العبادة لجهة بغضها الفاعلي. وقد تقدم منا : ان العبادة تحتاج إلى حسنها الفعلي والفاعلي معا ، ولا يكفي حسنها الفعلي ، فالحرمة التشريعية وان لم تناف المطلوبية الذاتية لكونهما في مرتبتين ،

ص: 470

الا انها تنافى حسنها الفاعلي فتفسد ، فتأمل.

المقام الثاني في النهى عن المعاملة

ومجمل القول في ذلك : ان النهى عن المعاملة تارة يكون للارشاد إلى عدم حصولها ، فهذا لا اشكال في كونه موجبا لفسادها ، سواء تعلق بناحية السبب ، أو بناحية المسبب. فان تعلق بناحية السبب فهو يقتضى عدم ترتب المسبب على ذلك السبب ، وان تعلق بناحية المسبب فهو يقتضى عدم حصوله في الخارج. وهذا مما لا اشكال فيه ، فان النهى الارشادي حيث ما تعلق يقتضى الفساد ، حيث إنه ارشاد إلى الفساد.

وأما إذا كان النهى عن المعاملة مولويا مفاده الحرمة ، فتارة : يتعلق بالسبب ، وأخرى : يتعلق بالمسبب ، وثالثة : يتعلق بآثار المسبب : من التصرف في الثمن والمثمن ، وغير ذلك من الآثار المترتبة على المعاملة. والتعبير بالسبب والمسبب لا يخلو عن مسامحة ، لما تقدم من أنه ليس باب العقود والايقاعات من الأسباب والمسببات ، بل هي من باب الايجاديات ، والايجاب والقبول بمنزلة الآلة لذلك ، ويكون المنشأ بنفسه هو الصادر عن المكلف ابتداء ، وهو الموجد له في وعاء الاعتبار ، لا ان الصادر عنه هو السبب ، حتى يكون النقل والانتقال من المسببات التوليدية. وقد تقدم تفصيل ذلك. فالمراد من تعلق النهى بالسبب تعلقه بالايجاد بمعناه المصدري ، ويكون المحرم المنهى عنه هو ايجاد المعاملة وانشائها والاشتغال بها ، كالبيع وقت النداء ، حيث إن المحرم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء ، لا النقل والانتقال. والمراد من تعلقه بالمسبب تعلقه بالموجد ، بمعناه الاسم المصدري ، ويكون المحرم المبغوض هو المنشأ والنقل والانتقال ، كبيع المسلم والمصحف للكافر ، حيث إن المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر ، لا انشاء النقل ، ومبغوضية الانشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر ، وهو النقل والانتقال.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان النهى لو كان عن نفس الايجاد والانشاء والاشتغال بالمعاملة ، فهو لا يقتضى الفساد ، إذ حرمة الايجاد لا يلازم مبغوضية الموجد وعدم تحققه. واما لو تعلق النهى بنفس المنشأ والموجد ، فهو يقتضى الفساد

ص: 471

لخروج المنشأ حينئذ عن تحت سلطانه ، ولا قدرة عليه في عالم التشريع ، والمانع التشريعي كالمانع العقلي.

والحاصل :

ان الأمر والنهي الشرعيين موجبان لخروج متعلقهما عن سلطة المكلف ، ويكون في عالم التشريع مقهورا على الفعل أو الترك ، ومن هنا كان اخذ الأجرة على الواجبات حراما ، لخروج الفعل بالايجاب الشرعي عن تحت قدرته وسلطانه ، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الأجرة عليه ، الا إذا تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار كما في الصناعات النظامية ، فإنه له اخذ الأجرة على عمله ، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدري عن تحت سلطانه ، لعدم تعلق الايجاب به ، بل تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار وعدم احتكار العمل. وأما إذا تعلق الامر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدري فقد خرج العمل عن تحت سلطانه ، كما أنه لو تعلق النهى بنفس العمل فإنه أيضا يخرج عن تحت سلطانه ، ويكون النهى مخصصا لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى ذلك يبتنى عدم جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها في ضمن العقد ، أو نذر البيع من زيد أو شرط ذلك ، فإنه لا يصح بيعه من غير زيد.

والسر في جميع ذلك : هو ان النذر ، والشرط ، والامر والنهى ، موجب لخروج المتعلق عن دائرة السلطنة ، ومخصص لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) ومن شرائط صحة المعاملة السلطنة وعدم الحجر. ودعوى ان الوجوب والحرمة لا ينافيان السلطنة ضعيفة غايته ، فإنه لا معنى لبقاء السلطنة مع المنع الشرعي ، كما لا معنى لبقاء السلطنة مع سلبها عن نفسه بنذر أو شرط ، بعد ما دل الدليل على لزوم الوفاء بالنذر والشرط. وقد عرفت : ان جميع ذلك مندرج تحت جامع واحد وملاك فارد ، وهو ان الممنوع عنه شرعا موجب لسلب السلطنة. وبعض ما يترتب على ذلك من الفروع كأنه متسالم عليه عند الأصحاب ، وان كان بعضه الآخر لا يخلو عن خلاف. هذا إذا تعلق النهى بنفس المنشأ. وأما إذا تعلق بآثاره ، كقوله : ثمن العذرة أو الكلب سحت ، فهو يكشف أيضا انا عن عدم ترتب المنشأ وعدم تحققه. و

ص: 472

من الغريب : ان بعض الاعلام سلم دلالة النهى عن الآثار على الفساد ، وأنكر دلالة النهى عن نفس المنشأ على الفساد ، مع أن الثاني أولى ، فتأمل جيدا.

ثم انه ربما يستدل على الفساد ، ببعض الاخبار (1) المعللة لعدم فساد نكاح العبد بدون اذن مولاه : بأنه لم يعص اللّه وانما عصى سيده.

تقريب الاستدلال : هو ان الظاهر من الرواية ، ان الشيء إذا كان معصية لله تعالى فهو فاسد ، ولا يصححه إجازة الغير ، والنهى التحريمي المتعلق بالمعاملة يوجب كون المعاملة معصية لله فتفسد. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن المعاملة مما نهى عنها الشارع ابتداء ، بل كان نهيه عنها يتبع حق الغير ، لكونها تصرفا في سلطان الغير وتضييعا لحقه ، فهذا لا يقتضى الفساد ، لان الحق راجع إلى الغير ، فله اسقاط حقه وإجازة المعاملة. فهذه الرواية تكون من أدلة جريان الفضولي في كل ما يكون متعلقا لحق الغير ، ولا يختص الفضولي بما إذا كانت الرقبة ملكا للغير ، بل مطلق تعلق حق الغير بالرقبة ، ولو لأجل الرهانة ، أو الخيار ، أو الجناية ، يوجب كون المعاملة معصية لذلك الغير المستتبع لمعصية اللّه تعالى ، لمكان تضييع حق الغير ، وليست معصية اللّه تعالى فيما إذا كانت المعاملة مما تعلق بها حق الغير سوى كونه تضييعا لحق الغير وتفويتا لسلطنته. وهذا بخلاف ما إذا كانت المعاملة بنفسها معصية اللّه تعالى وتصرفا في سلطنته تعالى ، لمكان النهى عنها والبعث إلى تركها ، فان مثل هذه المعصية توجب الفساد.

فيكون متحصل مفاد الرواية : ان المعاملة ان كانت معصية اللّه تعالى ابتداء ولم تكن معصية لغيره تعالى فهي فاسدة ولا تتحقق. وان كانت معصية للغير ، لمكان كونها تصرفا في سلطنة الغير ، فهي لا تقع فاسدة ، بل أمرها يرجع إلى ذلك الغير ، فان أجاز نفذت. وبذلك يندفع ما يقال : من أن معصية السيد أيضا معصية اللّه ، فتدل الرواية على أن معصية اللّه لا توجب فساد المعاملة ، والمراد من قوله : لم يعص اللّه ، هو انه ليس نكاح العبد مما لم يشرع اللّه تعالى كالنكاح في العدة ، فأقصى ما تدل عليه

ص: 473


1- الوسائل ، الجزء 14 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ص 523

الرواية هو ان المعاملة ان كانت مما لم يشرعها اللّه تعالى فهي تقع فاسدة ، وان كانت مما شرعها اللّه تعالى في نوعها ولكن نهى عن بعض افرادها لخصوصية هناك ، كالنكاح بلا اذن السيد ، فهذه المعاملة لا تقع فاسدة ، فالرواية أدل على الصحة من دلالتها على الفساد.

وجه الدفع : هو ان معصية السيد وان كانت معصية اللّه تعالى الا انه قد عرفت ان المراد من كونها معصية اللّه ليس الا كون المعاملة تضييعا لحق السيد وتصرفا في سلطنته ، حيث إن العبد مملوك للمولى وليس له سلطنة على شيء ، فالرواية تدل على أن كل ما يكون تصرفا في سلطنة الغير. فأمره راجع إلى الغير ، وكل ما يكون تصرفا في سلطان اللّه تعالى فهو يقع فاسدا. والمعاملة المنهى عنها شرعا تكون تصرفا في سلطانه تعالى ومعصية له فتقع فاسدة ، لكونها خروجا عن وظيفة العبودية. كما أن اطلاق المعصية على معصية السيد تكون بهذه العناية ، حيث إن العبد خرج عن وظيفته بنكاحه بلا اذن سيده ، فتأمل جيدا.

تنبيه

حكى عن أبي حنيفة : دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة ، وقد تبعه في خصوص المعاملة بعض أصحابنا ، بتقريب : ان متعلق النهى كمتعلق الامر لا بد ان يكون مقدورا بعد النهى ، ليمكن موافقة النهى ومخالفته ، ومعلوم : ان النهى لم يتعلق بالعبادة أو المعاملة الفاسدة ، إذ لا حرمة في اتيان العبادة أو المعاملة الفاسدة ، فالمنهى عنه لا بد ان يكون صحيحا حتى بعد النهى ليمكن مخالفة النهى ، فلو اقتضى النهى الفساد يلزم ان يكون النهى سالبا لقدرة المكلف ، وموجبا لرفع قدرة المكلف على مخالفته ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاشكال. اما في العبادات : فلان النهى فيها لم يتعلق بما هو عبادة فعلية ، بل تعلق بشيء لو امر به لكان امره عباديا ، على ما تقدم بيانه ، والمكلف قادر على فعل متعلق النهى ومخالفته ولو بعد النهى. والذي لايكون قادرا عليه ، هو فعل ما يكون عبادة فعلية ، وليس هذا متعلق النهى ، وذلك واضح. واما في المعاملة : فلان متعلق النهى هو المبادلة التي يتعاطاها العرف وما

ص: 474

هي بيدهم ، لا المبادلة الصحيحة ، فان المبادلة العرفية لا تتصف بالصحة والفساد ، بل الصحة والفساد انما ينتزعان من امضاء الشارع لتلك المبادلة وعدم امضائها ، وما ينتزع عن الحكم الشرعي لا يعقل ان يؤخذ في متعلق ذلك الحكم ، والمبادلة العرفية مقدورة للمكلف ولو بعد النهى الشرعي ، كما هو المشاهد ان بايع الخمر مع علمه بالفساد والنهى الشرعي حقيقة يبيع الخمر ويقصد المبادلة ، بحيث يكون بيعه للخمر مع علمه بالفساد كبيعه له مع عدم علمه به ، بل مع علمه بالصحة. وكذا سائر المبادلات العرفية التي تكون منهيا عنها ، فان جميعها مقدورة ومما يتعلق بها القصد حقيقة ، والنهى الشرعي يوجب فسادها ، أي عدم تحقق المبادلة خارجا شرعا ، وان تحققت عرفا. فدعوى ان النهى من المعاملة يقتضى الصحة ضعيفة جدا ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في في النهى عن العبادة والمعاملة. وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة 25 ج 1 سنة 1347.

ص: 475

المقصد الثالث : في المفاهيم

اشارة

وقبل الخوض في المقصد ينبغي تقديم مقدمة.

وهي : ان المفهوم - على ما عرفت منا مرارا - عبارة عن المدرك العقلاني الذي يدركه العقل عند الالتفات إلى الشيء ، حيث إن لكل شيء وجودا عقلانيا على طبق وجوده الخارجي ، سواء كان ذلك الشيء من الماديات ، أو المجردات. وسواء كان جزئيا ، أو كليا. وذلك المدرك العقلاني يكون بسيطا ، وليس مركبا من مادة وصورة ، إذ المادة والصورة تكون من شؤون الوجود الخارجي ، واما الوجود العقلاني فهو مجرد عن ذلك لا تركيب فيه. وذلك المدرك هو المعبر عنه : بالمفهوم ، والمدلول ، والمعنى ، والمقصود ، كل من جهة ، الا ان الجميع يشير إلى امر فارد وشيء واحد.

والمفهوم ، كما يكون في الألفاظ ، الأفرادية ، كذلك يكون في الجمل التركيبية ، حيث إنه كما أن للمفردات معنى ومفهوما مدركا عقلانيا ، كزيد ، وعمرو ، وانسان ، وشجر ، كذلك يكون للجمل التركيبية معنى ومفهوم ، كزيد قائم ، والنهار موجود ، وغير ذلك. وكما أن للألفاظ المفردة معنى مطابقيا ومعنى التزاميا ، فكذلك يكون للجمل التركيبية معنى مطابقي ومعنى التزامي. وكما أن لازم المعنى الافرادي تارة : يكون بينا أخص ، وأخرى : يكون أعم ، فكذلك لازم المعنى التركيبي ينقسم إلى هذين القسمين.

واما الدلالة التضمنية فهي لا واقع لها ، سواء في الألفاظ الأفرادية أو الجمل التركيبية لما عرفت : من أن المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني الذي يكون بسيطا مجردا عن المادة وليس له جزء ، فالدلالة التضمنية لا أساس لها وان كانت مشهورة في الألسن ، بل الدلالة اما ان تكون مطابقية ، واما ان تكون التزامية.

ص: 476

واللازم في الدلالة الالتزامية ، اما ان يكون لازما بالمعنى الأخص ، واما ان يكون لازما بالمعنى الأعم. واللازم بالمعنى الأعم ، سواء كان في المعاني الأفرادية أو في الجمل التركيبية ، ليس من المداليل اللفظية لان اللفظ لا يدل عليه ولا ينتقل الذهن إليه بواسطة اللفظ ، بل يحتاج إلى مقدمة عقلية.

ومن هنا قلنا : ان مسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد ، ليست من المباحث اللفظية ، لكون اللازم فيها لازما بالمعنى الأعم ، لتوقف اللزوم على توسيط حكم العقل. ولعل دلالة الاقتضاء كقوله تعالى : واسئل القرية ، ودلالة الإشارة والايماء كدلالة الآيتين على أن أقل الحمل يكون ستة أشهر ، ودلالة قوله صلی اللّه علیه و آله : كفر ، عقيب قول السائل ( هلكت وأهلكت جامعت أهلي في نهار شهر رمضان ) على علية الجماع للتكفير - إذ لو العلية لبطل الاقتران - كل ذلك يكون اللازم فيه من اللازم بالمعنى الأعم ، فلا يكون من الدلالة اللفظية. وعلى تقدير تسليم كون بعضها من الدلالة اللفظية فهو ليس من المنطوق والمفهوم المبحوث عنه في المقام ، إذ المراد من المنطوق : هو ما دل عليه الجملة التركيبية بالدلالة المطابقية ، والمراد من المفهوم : هو ما دلت عليه الجملة التركيبية بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص. فما لم يكن مدلولا مطابقيا للجملة ولا مدلولا التزاميا بالمعنى الأخص ، لايكون من المنطوق والمفهوم ، سواء قلنا : بأنه مدلول اللفظ - كما قيل في مثل دلالة الإشارة - أو قلنا : بأنه خارج عن مدلول اللفظ وكان من اللازم بالمعنى الأعم. فما يظهر من بعض من ادراج مثل دلالة الإشارة في المنطوق فاسد. كما أن ما يظهر من بعض من ادراجها في المفهوم فاسد أيضا ، فإنها وان قلنا بأنها من الدلالة اللفظية تكون خارجة عن المفهوم والمنطوق ، ولا مانع من ثبوت الواسطة بين المنطوق والمفهوم.

وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، من جهة انه بحث يرجع إلى الاصطلاح.

والمقصود في المقام بيان ان المراد من المنطوق : هو المدلول المطابقي للجملة التركيبية ، والمراد من المفهوم : هو المدلول الالتزامي لها على وجه يكون بينا بالمعنى الأخص. ولعله إلى ذلك يرجع ما عن بعض من تعريف المنطوق بما دل عليه اللفظ

ص: 477

في محل النطق ، والمفهوم : بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، بان يكون المراد من محل النطق ولا محله هو المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي. وبعد ذلك لا يهمنا البحث وإطالة الكلام في التعريفات التي ذكروها للمنطوق والمفهوم ، مع ما يرد عليها من عدم الانعكاس والاطراد ، فإنها تعاريف لفظية قلما تسلم عن الاشكال. كما لا يهمنا البحث عن أن المنطوق والمفهوم من صفات الدال أو المدلول ، وانما المهم هو البحث عن الجمل التي يكون لمدلولها المطابقي لازم بالمعنى الأخص ، المعبر عنه بالمفهوم.

وينبغي ان يعلم : ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا ، أي انه بحث عن أصل ثبوت المفهوم واللازم ، لا عن حجيته ، لان حجيته بعد ثبوته مفروع عنها ولا كلام فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان هناك جملا تركيبية وقع النزاع في ثبوت اللازم والمفهوم لها.

الفصل الأول في مفهوم الشرط

والبحث عن القضية الشرطية تارة : يقع في معنى الشرط ، وأخرى : في مفاد القضية الشرطية أي المدلول المطابقي لها ، وثالثة : في ثبوت المفهوم لها أي المدلول الالتزامي.

اما معنى الشرط : فهو يطلق على معنيين :

أحدهما : المعنى الحدثي ( أي الجعل ) وهو بهذا المعنى يكون متصرفا يشتق منه الشارط والمشروط وغير ذلك ، وهو المراد من قوله علیه السلام : (1) شرط اللّه قبل شرطكم ، وقوله علیه السلام : في الدعاء ولك شرطي ان لا أعود في معصيتك. ولا يختص هذا المعنى من الشرط بان يكون في ضمن عقد ، وان كان يظهر من القاموس ذلك.

وثانيهما : ما يلزم من عدمه العدم ، مع قطع النظر عن استلزام وجوده

ص: 478


1- الوسائل ، الجزء 17 الباب 22 من أبواب موانع الإرث الحديث 1 ص 409

الوجود ، وهو بهذا المعنى جامد لا يتصرف. ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر ، إذ البحث عن ذلك لا ربط له بالمقام.

واما مفاد الجملة الشرطية ، وان الشرط إلى أي شيء يرجع ، فقد تقدم البحث عن ذلك مفصلا في الواجب المشروط (1) وقلنا : ان التعليق لا يرجع إلى النسبة ، وان كان يظهر من عبارة التهذيب ذلك ، حيث عرف القضية الشرطية : بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى. بل التعليق والشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، لا نفس المحمول بمعناه الافرادي ، حتى يرجع التقييد إلى المادة ويكون شرط الواجب ، بل يرجع إلى المحمول المنتسب. وبذلك دفعنا اشكال : ان النسبة معنى حرفي والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد لان التقييد يستدعى لحاظ المقيد معنى اسميا ، فراجع ما تقدم منا في الواجب المشروط. والمهم في المقام ، هو البحث عن المدلول الالتزامي للقضية الشرطية ، المعبر عنه بالمفهوم.

فاعلم : ان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية يتوقف :

على كون الترتب بين الجزاء والشرط ناشئا عن علاقة ثبوتية في نفس الامر والواقع ، وليس الترتب بينهما لمجرد الاتفاق والمصادفة ، كما في قولك : إذا كان الانسان ناطقا فالحمار ناهق ، إذ لا علاقة بين نهيق الحمار ونطق الانسان في نفس الامر ، بل العلاقة بينهما تكون علاقة جعلية لحاظية.

وعلى ان يكون الترتب ترتب العلية والمعلولية ، بان تكون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة العلية والمعلولية لا علاقة التلازم والتضايف ، وأن تكون العلة هو المقدم والشرط لا التالي والجزاء ، وأن يكون الشرط علة منحصرة لا يخلفه شرط آخر ، ولا يكون لشيء آخر دخل في عليته.

فإذا تمت هذه الأمور للقضية الشرطية كان لها مفهوم ، وإذا انتفى أحد هذه الأمور لم يكن للقضية مفهوم. والسر في اعتبار هذه الأمور واضح ، فإنه لو لم يكن بين

ص: 479


1- راجع الجزء الأول من الكتاب مبحث تقسيمات الواجب. الامر الثاني من بحث الواجب المشروط ص 178

الجزاء والشرط علقة ثبوتية وكانا متقارنين من باب الاتفاق ، لم يكن انتفاء الشرط مستتبعا لانتفاء الجزاء ، إذ لا مدخلية للشرط حينئذ في وجود الجزاء.

وكذا لو فرض ان بينهما علاقة ثبوتية ولكن لم تكن تلك العلاقة علاقة العلية والمعلولية بل كانت علاقة التلازم ، فإنه أيضا لا يقتضى انتفاء الشرط انتفاء الجزاء ، لان انتفاء أحد المتلازمين لا يستلزم انتفاء اللازم الآخر. الا إذا كان التلازم دائميا ، بحيث كانا معلولين لعلة ثالثة منحصرة ، فان انتفاء أحد المتلازمين في مثل هذا يقتضى انتفاء الآخر ، الا ان القضية الشرطية حينئذ لا تدل على هذا الوجه من التلازم ، فان العلة لم تكن مذكورة في القضية حتى يستفاد منها الانحصار أو عدم الانحصار ، وأقصى ما تقتضيه القضية الشرطية - بناء على عدم استفادة علية الشرط للجزاء - هو مجرد التلازم بين الشرط والجزاء ، واما كونه على هذا الوجه أو على ذلك الوجه فليس للقضية الشرطية دلالة عليه ، ولا بد في اثبات ذلك من الخارج ، فيخرج عما نحن فيه : من دلالة نفس القضية الشرطية على المفهوم. وكذا لو فرض عدم دلالة القضية الشرطية على كون الشرط علة منحصرة ، فان انتفاء الشرط في مثل ذلك أيضا لا يقتضى انتفاء الجزاء ، لامكان ان يخلفه شرط آخر. فالمهم هو اثبات ظهور القضية الشرطية في كون الشرط علة منحصرة ، اما وضعا واما اطلاقا.

فنقول : اما دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وانه ليس ذلك محض الاتفاق ، فمما لا ينبغي الاشكال فيها ، بل لا يبعد كون دلالتها على ذلك بالوضع ، لعدم صحة مثل - إذا كان الانسان ناطقا كان الحمار ناهقا - بلا عناية ، بل يتوقف على لحاظ عناية وعلاقة جعلية لحاظية. والا فان نفس القضية الشرطية تقتضي ان يكون بين الشرط والجزاء علاقة لزومية ، فان لم يكن ذلك بالوضع - كما هو ليس ببعيد - فلا أقل من ظهورها العرفي في ذلك.

واما دلالة القضية الشرطية على كون العلقة بين الجزاء والشرط علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء ، فهي وان لم تكن بالوضع وليس لنفس القضية الشرطية ظهور عرفي في ذلك ، الا انه لا يبعد دعوى الظهور السياقي في ذلك ، حيث إن سوق الكلام من جعل الشرط مقدما والجزاء تاليا ، هو ان يكون الكلام على وفق

ص: 480

ما هو الواقع بمقتضى تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ، فإنه لو كان الجزاء علة للشرط ، أو كانا معا معلولين لعلة ثالثة ، لكان الكلام مسوقا لبيان البرهان الآني ، ويتوقف ذلك على كون المتكلم في مقام الاستدلال على انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء ، حسب ما يقتضيه الاستدلال الآني ، وهذا يحتاج إلى مؤنة خارجية ، والا فان طبع الكلام يقتضى كون المقدم هو المقدم والتالي هو التالي في الواقع وعالم الثبوت ، فيكون الكلام قد سيق على طبق الواقع.

والانصاف : ان دعوى الظهور السياقي للقضية الشرطية في كون الشرط علة للجزاء قريبة جدا لا مجال لانكارها ، ولكن هذا بنفسه لا يكفي في ثبوت المفهوم للقضية ما لم يكن الشرط علة منحصرة ، واثبات الانحصار لا يمكن الا بدعوى اطلاق الشرط واجراء مقدمات الحكمة لاثبات انحصاره ، بتقريب : انه لو لم يكن الشرط وحده علة منحصرة لكان على المولى الحكيم ، الذي فرض انه في مقام البيان ، ان يقيد اطلاق الشرط بكلمة الواو ، أو بكلمة أو ، ليبين بذلك ان الشرط ليس بعلة وحده ، بل يشاركه في عليته شيء آخر ولو عند الاجتماع ، أو ان الشيء الفلاني أيضا علة ، وحيث لم يبين ذلك يستفاد منه ان الشرط وحده علة ، سواء سبقه شيء آخر أو لم يسبقه ، قارنه شيء أو لم يقارنه ، وهو معنى كون الشرط علة منحصرة ، هذا.

ولكن الانصاف : ان هذا التقريب لا يستقيم ، لأنه أولا : ان مقدمات الحكمة انما تجرى في المجعولات الشرعية ، ومسألة العلية والسببية غير مجعولة ، على ما تقدم منا مرارا ، وانما المجعول هو المسبب على تقدير وجود سببه ، فلا معنى للتمسك باطلاق الشرط على كونه علة منحصرة.

وثانيا : ان القضية الشرطية لا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط ، وكون وجوده معلولا لوجوده ، بل غاية ما تدل عليه القضية الشرطية ، هو الترتب بين الجزاء والشرط ووجود الجزاء عند وجود الشرط. وهذا المعنى لا يتفاوت الحال فيه ، بين كون الشرط علة منحصرة ، أو غير منحصرة ، فان الجزاء يكون مترتبا على الشرط على نسق واحد ، سواء كان هناك شرط آخر ، أو لم يكن. بل لو فرض دلالة القضية الشرطية على استناد الجزاء إلى الشرط وكونه معلولا له لم يكن أيضا موقع للتمسك

ص: 481

باطلاق الشرط وجريان مقدمات الحكمة على الانحصار ، فان استناد المعلول إلى علته المنحصرة وغير المنحصرة على نسق واحد ، إذ في العلة الغير المنحصرة يكون المعلول مستندا إليها ، على نحو استناده إلى المنحصرة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان هذه الكلمات كلها أجنبية عن مسألة استظهار المفهوم للقضية الشرطية ، بل استظهار المفهوم لها يحتاج إلى بيان آخر. وحاصله : هو انه قد عرفت ان المفهوم عبارة عما يكون لازما للكلام ، ويكون الكلام دالا عليه بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص ، والدلالة الالتزامية للكلام لا تكون الا إذا كان الكلام مشتملا على خصوصية توجب ذلك ، بحيث تكون تلك الخصوصية مما أنيط بها المحمول في الكلام ، سواء كان المحمول من سنخ الأحكام الشرعية ، أو غيرها ، على وجه يدور المحمول مدار تلك الخصوصية ، فإنه عند ذلك يدل الكلام بالدلالة الالتزامية على انتفاء المحمول عند انتفاء الخصوصية ، فلو لم تكن تلك الخصوصية مما أنيط بها المحمول لايكون انتفاء الخصوصية موجبا لانتفاء المحمول. وهذا المعنى لا يختص بالقضية الشرطية ، بل في جميع القضايا التي تكون من ذوات المفهوم لابد ان تكون على هذا الوجه ، أي تكون مشتملة على خصوصية قد أنيط بها المحمول ، وليست القضية الشرطية تختص بذلك ، فان كل قضية حملية تتضمن القضية الشرطية يكون موضوعها المقدم ومحمولها التالي. ومن هنا قلنا : ان كل شرط يرجع إلى الموضوع ، ويكون معنى ( ان جائك زيد فأكرمه ) هو ان زيد الجائي يجب اكرامه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان الشرط الذي تتضمنه القضية الشرطية ، تارة : يمكن ان يناط به المحمول منوطا بذلك الشرط ، وأخرى : لا يمكن جعل الإناطة ، بل يكون المحمول بنفسه منوطا بالشرط تكوينا ، بحيث لا يعقل تحققه بدون تحقق الشرط ، فان كان الشرط على الوجه الثاني فليس للقضية مفهوم ، لان القضية تكون حينئذ مسوقة لبيان فرض وجود الموضوع ، مثل : ان رزقت ولدا فاختنه ، وان ركب الأمير فخذ ركابه ، حيث لا يعقل ختان الولد واخذ ركاب الأمير الا بعد تحقق الشرط ، فالمحمول في مثل هذا لا يمكن ان يقيد بالشرط ويناط به ، إذا التقييد فرع امكان الاطلاق. والمحمول الذي يتوقف على الشرط عقلا لا يمكن فيه الاطلاق ، فهو

ص: 482

بنفسه مقيد تكوينا. وهذا هو السر في عدم المفهوم للقضية اللقبية ، من جهة ان الاشتراط الذي يتضمنه اللقب ليس الا فرض وجود الموضوع ، فمثل قوله : أكرم زيدا معناه انه ان وجد زيد فأكرمه ، والاكرام يتوقف عقلا على وجود زيد.

وان كان الشرط ، على الوجه الأول ، كمجيئ زيد ، وركوبه ، وجلوسه ، وغير ذلك من الحالات التي لا يتوقف اكرامه عليها عقلا ، فلا محالة يكون الجزاء مقيدا بذلك الشرط في عالم الجعل والتشريع ، ومعنى التقييد هو إناطة الجزاء بذلك الشرط ، ومقتضى اناطته به بالخصوص هو دوران الجزاء مداره وجودا وعدما ، بمقتضى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، حيث إنه قيد الجزاء بذلك الشرط بخصوصه ، ولم يقيد بشيء آخر ، لا على نحو الاشتراك بان جعل شيء آخر مجامعا لذلك الشرط قيدا للجزاء ، ولا على نحو الاستقلال بان جعل شيء آخر موجبا لترتب الجزاء عليه ولو عند انفراده وعدم مجامعته لما جعل في القضية شرطا ، ومقتضى ذلك هو دوران الجزاء مدار ما جعل شرطا في القضية ، بحيث ينتفى عند انتفائه ، وهو المقصود من تحقق المفهوم للقضية.

فمقدمات الحكمة انما تجرى في ناحية الجزاء من حيث عدم تقييده بغير ما جعل في القضية من الشرط ، لا في الشرط ، حتى يرد عليه ما تقدم من الاشكال.

والحاصل : ان اطلاق الجزاء في المقام بالنسبة إلى ما عدا الشرط في اقتضائه المفهوم يكون كاطلاق الوجوب في اقتضائه النفسية العينية التعيينية ، من غير فرق بين المقامين أصلا ، حيث إن مقدمات الحكمة انما تجرى لاستكشاف المراد ، وان المراد النفس الأمري هو ما تضمنه الكلام بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان ، كما هو الأصل الجاري عند العقلاء في محاوراتهم ، حيث إن الأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام بيان مراده النفس الأمري ، الا ان تكون هناك قرينة نوعية على الخلاف ، وفي المقام مقتضى تقييد الجزاء بالشرط هو كون المتكلم في مقام البيان.

ودعوى انه في مقام البيان من هذه الجهة دون سائر الجهات والقيود ، فاسدة فإنه لو بنى على ذلك لا نسد باب التمسك بالاطلاقات في جميع المقامات ، إذ ما من

ص: 483

مورد الا ويمكن فيه هذه الدعوى. ومقتضى كونه في مقام البيان وعدم تقييد الجزاء بقيد آخر هو ان الجزاء مترتب على ذلك الشرط فقط ، من دون ان يشاركه شرط آخر أو ينوب عنه. وبعد ذلك لا ينبغي التوقف في ثبوت المفهوم للقضية الشرطية التي لا يتوقف الجزاء فيها على الشرط عقلا ، فتأمل جيدا. وينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول :

ان المراد من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط - المعبر عنه بالمفهوم - هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه ، لا شخصه ، فان انتفاء الشخص انما يكون بانتفاء موضوعه عقلا ، من غير فرق في ذلك بين القضية الشرطية ، والوصفية ، واللقبية. فالذي تمتاز بها القضية الشرطية عن القضية اللقبية ، انما هو انتفاء سنخ الحكم في القضية الشرطية عند انتفاء الشرط ، دون القضية اللقبية ، حيث إن القضية الشرطية تدل على انتفاء سنخ الحكم ، بخلاف القضية اللقبية ، من غير فرق بين كون الجزاء في القضية الشرطية بصورة الاخبار ، كما إذا قال : ان جائك زيد يجب عليك اكرامه ، أو بصورة الانشاء كما إذا قال : ان جاء زيد أكرمه.

وتوهم الفرق بينهما - بان الشرط في الصورة الأولى انما كان شرطا للوجوب ، فبانتفاء الشرط ينتفى أصل الوجوب ونوعه ، وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فان الشرط انما كان شرطا للانشاء المستفاد منه الوجوب وانتفاء الشرط انما يوجب انتفاء الانشاء الخاص ، وهذا لا يقتضى انتفاء نوع الوجوب وسنخه - ضعيف غايته ، لما عرفت سابقا من أن الشرط لا يرجع إلى الهيئة وان قلنا بان الموضوع له في الحروف عام لان المعنى غير قابل للتعليق والتقييد فان التقييد والتعليق يقتضى لحاظ الشيء معنى اسميا ، بل الشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، أي المحمول في رتبة الانتساب ، على ما تقدم تفصيله في الواجب المشروط ، فالمعلق عليه هو وجوب الاكرام على جميع الصور ، وهو الذي ينتفى بانتفاء الشرط.

ومما ذكرنا ظهر : انه لا يبتنى التوهم المذكور على كون الوضع في الحروف خاصا ، ولا جوابه على كون الوضع فيها عاما ، فتأمل جيدا.

ص: 484

الامر الثاني :

ان المفهوم يتبع المنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه ، وانما التفاوت بينهما بالسلب والايجاب ، فالموضوع في المفهوم هو الموضوع في المنطوق ، والمحمول فيه هو المحمول فيه. فلو قال : ان جائك زيد في يوم الجمعة راكبا فأكرمه ، كان مفهومه ان لم يجئك زيد في يوم الجمعة راكبا فلا تكرمه. ويكفي في انتفاء وجوب الاكرام انتفاء أحد القيود المأخوذة في المنطوق فينتفى وجوب الاكرام إذا جاء زيد في يوم الجمعة غير راكب.

والسر في ذلك هو ما عرفت : من أن المفهوم تابع للمنطوق موضوعا ومحمولا ونسبة ، سوى ان المنطوق قضية موجبة أو سالبة ، والمفهوم عكس ذلك ، أي يكون مفهوم الايجاب السلب ومفهوم السلب الايجاب ، ولازم ذلك هو انه لو كان المنطوق سالبة كلية كان مفهومه موجبة جزئية ، لان نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، كما أن نقيض الموجة الكلية سالبة جزئية.

ومن هنا ربما يستشكل في الحكم بنجاسة الماء القليل ، بمفهوم قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، حيث إن المنطوق سالبة كلية ، لمكان إفادة النكرة في سياق النفي العموم ، فمفاد المنطوق هو عدم نجاسة الكر بكل نجاسة ، ويكون مفهومه هو انه إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه شيء ، والنكرة في سياق الاثبات لا تفيد العموم ، فأقصى ما يقتضيه المفهوم ، هو نجاسة الماء القليل في الجملة بنجاسة ما ، ولا يفيد نجاسته بجميع النجاسات ، هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المباحث الفقهية الأصولية انما يبتنى على الاستظهارات العرفية من الأدلة ، بخلاف المباحث المنطقية ، فإنها تبتنى على البراهين العقلية ، وربما يكون بين نظر الفقيه ونظر المنطقي العموم من وجه. فقد يكون نقيض السالبة الكلية موجبة كلية بحسب ما يستظهر من الدليل ، مع أنه بنظر المنطقي يكون النقيض موجبة جزئية كما في المقام ، فان المستفاد من المنطوق في مثل قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، هو عموم السلب ، لا سلب العموم ، أي يكون الظاهر من قوله : لم ينجسه شيء ، لم ينجسه كل فرد فرد من أنواع النجاسات :

ص: 485

من البول ، والدم ، والمنى وغير ذلك ، ويكون المنطوق في قوة قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه الدم ، والبول ، والغائط ، وهكذا ، لوضوح ان المراد من الشيء هو أنواع النجاسات ، لا كل شيء في العالم ، فيكون المفهوم إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه الدم ، والبول والغائط ، وغير ذلك ، فيكون دليلا على نجاسة الماء القليل بجميع أنواع النجاسات. وليست النكرة في سياق النفي كلفظة ( كل ) وما شابهها من أدوات العموم التي يكون لها معنى اسمى ، حتى يصح لحاظها على نحو العام المجموعي ويكون المنفى هو سلب العموم ، كقوله : لا تأكل كل رمانة في البستان ، بل العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي انما هو بمقدمات الحكمة ، حسب ما يقتضيه المقام ، والمنفي في المثال انما هو أنواع النجاسات ، أي كل فرد فرد منها ، ويلزمه ما ذكرنا من كون المفهوم من مثل هذا المنطوق هو الايجاب الكلي ، لا الجزئي. مع أنه يكفي الايجاب الجزئي في اثبات نجاسة ماء القليل في الجملة في قبال عدم نجاسته أصلا ، كما هو المدعى ، والمسألة فقهية ليس المقام محل تفصيلها.

الامر الثالث :

لو تعدد الشرط ، على وجه كان شرطية كل منهما تنافى شرطية الآخر ، اما لتباين الشرطين ، أو لحصول أحدهما قبل حصول الآخر دائما ، كما في خفاء الاذان والجدران ، الذي تجعل كل منهما شرطا لوجوب القصر ، مع أن خفاء الاذان دائما يحصل قبل خفاء الجدران على ما قيل ، فهل اللازم رفع اليد عن استقلال كل منهما في السببية وجعل كل منهما جزء السبب؟ أو ان اللازم رفع اليد عن انحصار كل منهما في السبيية وجعل كل منهما سببا مستقلا. فعلى الأول : يكون الحكم في المثال هو انحصار وجوب التقصير عند خفاء كل من الاذان والجدران معا ، ولا يكفي خفاء أحدهما. وعلى الثاني : يكفي خفاء أحدهما في الحكم. ولكن الوجه الثاني في مثل المثال لا يستقيم ، لأن المفروض حصول خفاء الاذان دائما قبل حصول خفاء الجدران ، فيلزم لغوية جعل خفاء الجدران شرطا ، لعدم وصول النوبة إليه ابدا. نعم فيما إذا كان بين الشرطين التباين في الجملة - ولو بالعموم من وجه - يجرى فيه كل من الوجهين.

ص: 486

والبحث في المقام تارة : يقع في خصوص المثال من حيث المسألة الفقهية. وأخرى : يقع في كلي ما كان من هذا القبيل من حيث المسألة الأصولية.

اما البحث عن المقام الأول : فهو وان كان خارجا عما نحن فيه الا انه لا بأس بالإشارة إليه فنقول :

انه لا تنافى في مثل قوله : إذا حفى الاذان فقصر ، وإذا خفى الجدران فقصر ، من حيث إن الظاهر من خفاء الجدران هو خفاء صورة الجدران لا شبحها ، فهو من هذه الجهة لا اجمال فيه. واما خفاء الاذان فلما كان له مراتب : مرتبة خفاء فصوله في مقابل تميزها على وجه يمتاز كل فصل عن الآخر ، ومرتبة خفاء مجموع الاذان في مقابل تميزه بنفسه وان الصوت صوت اذان ، ومرتبة خفاء الهمهمة في مقابل عدم خفائها ، بحيث لا يظهر من الصوت بنفسه كونه اذانا ، بل يستفاد كونه صوت اذان من القرائن.

ومقتضى الجمع بين الدليلين وحمل المجمل على المبين ، هو حمل خفاء الاذان على المرتبة التي تنطبق على خفاء الجدران ، ولا يبعد ان تكون تلك المرتبة حين خفاء الاذان المجموع من حيث المجموع ، لا خفاء خصوص الفصول ، ولا خفاء الهمهمة ، فيرتفع التنافي بين الشرطين ، وتفصيله موكول إلى محله.

واما البحث عن المقام الثاني : فمجمله انه وان قيل فيه وجوه أربعة أو خمسة : من تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى ، ومن رفع اليد عن المفهوم في كل منهما ، وغير ذلك ، كما لا تخفى على المراجع. الا ان الانصاف : ان ذلك تطويل بلا طائل ، بل لا محصل لبعض الوجوه ، فان تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى لا يستقيم ، إذ ليس المفهوم قضية مستقلة يمكن تقييدها ما لم يقيد أولا المنطوق ، فان المفهوم تابع للمنطوق في جميع القيود ، فلا يعقل تقييد المفهوم بلا تقييد المنطوق.

فالتحقيق ، هو ان يقال : انه بعد ما كان الشرط ظاهرا في العلة التامة المنحصرة ، وكان تعدد الشرط ينافي ذلك ، فلابد اما : من رفع اليد عن كونه علة تامة وجعله جزء العلة ، فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفى الجزاء عند انتفائهما معا ، ويكون قوله : مثلا ، إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجدران

ص: 487

فقصر ، بمنزلة قوله : إذا خفى الاذان والجدران فقصر. واما : من رفع اليد عن كونه علة منحصرة مع بقائه على كونه علة تامة ، فيكون الشرط أحدهما تخييرا ، ويكون المثال بمنزلة قوله : إذا خفى الاذان أو خفى الجدران فقصر ، ويكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء ، مع قطع النظر عن كون خفاء الاذان يحصل قبل خفاء الجدران دائما. وحينئذ لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين ، اما ظهور الشرط في كونه علة تامة ، واما ظهوره في كونه علة منحصرة. وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر ولا أحدهما حاكما على الآخر - لمكان ان كلا من الظهورين انما يكون بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، على ما تقدم - كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الاجمالي من ورود التقييد على أحد الاطلاقين.

وربما يتوهم ان ظهور الشرط في كونه علة تامة أقوى من ظهوره في الانحصار ، لان دلالة القضية على استناد الجزاء إلى الشرط انما يكون بالنصوصية فلابد ان يكون الشرط في الجملة ولو في مورد مما يستند إليه الجزاء ، واستناده إليه لايكون الا بان يكون الشرط علة تامة لترتب الجزاء ولو في مورد ، إذ استناد الشيء إلى جزء العلة ليس استنادا حقيقيا ، بل الاستناد الحقيقي هو ما يكون إلى تمام العلة. ولو تصرفنا في ظهور الشرط في كونه علة تامة وجعلناه جزء العلة يلزم ان لا يستند الجزاء إليه ابدا ولو في الجملة ، فظهور القضية في كون الشرط علة تامة ربما يدعى كونه بالنصوصية ، بخلاف ظهورها في الانحصار ، فإنه لايكون بتلك المثابة ، بل انما هو بالاطلاق ، فلابد من رفع اليد عن ظهوره في الانحصار والقول بكفاية أحد الشرطين.

وقد حكى : ان شيخنا الأستاذ مد ظله مال إلى هذا الوجه في الدورة السابقة ، ولكن عدل عنه في هذه الدورة ، وافسد التوهم المذكور بما حاصله : ان أصل استناد الجزاء إلى الشرط انما يكون بالاطلاق ، إذ من اطلاق الشرط وعدم ذكر شيء آخر معه يستفاد الاستناد ، ولولا الاطلاق لما كاد يستفاد الاستناد ، وهذا لا ينافي ان حقيقة الاستناد انما يكون في استناد الشيء إلى علته التامة ، فان ذلك بعد الفراغ عن الاستناد وان الجزاء يكون مستندا إلى الشرط ، وهذا المعنى انما يكون بالاطلاق ،

ص: 488

فظهور القضية في كون الشرط علة تامة كظهورها في الانحصار ، في أن كلا منهما يكون بالاطلاق.

وتوهم ان تقييد العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة يستلزم تقييد الانحصار أيضا - فإنه لا يعقل الانحصار مع كونه جزء العلة ، وهذا بخلاف تقييد الانحصار ، فإنه لا يلزم منه تقييد العلية التامة ، كما لا يخفى ، فيدور الامر بين : تقييد واحد ، وتقييدين ، ومعلوم ان الأول أولى ، فلا بد من تقييد الانحصار - فاسد أيضا ، فان تقييد العلة التامة يوجب رفع موضوع الانحصار ، لا انه يوجب تقييدا زايدا ، وهذا نظير ما تقدم في الواجب المشروط : من أن تقييد الهيئة يوجب رفع موضوع اطلاق المادة ، لا انه يوجب تقييدا زايدا. فراجع ما ذكرناه في ذلك المقام. (1).

فتحصل : انه لا محيص من اعمال قواعد العلم الاجمالي في المقام.

وما ربما يتوهم أيضا ، ان رتبة تقييد العلية التامة مقدمة على رتبة تقييد الانحصار - لوضوح ان كون الشيء علة منحصرة أو غير منحصرة انما يكون بعد كون الشيء علة تامة ، ومقتضى تقدم الرتبة هو ارجاع القيد إلى العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة - فهو في غاية الفساد ، فان تقدم الرتبة لا ينفع بعد العلم الاجمالي بورود التقييد على أحد الاطلاقين ، وليس تقدم الرتبة موجبا لانحلال هذا العلم الاجمالي ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :

لو تعدد الشرط واتحد الجزاء ، فهل اللازم تعدد الجزاء وفعله عقيب كل شرط؟ أولا ، بل يكتفى بفعل الجزاء مرة واحدة. وهذا هو العنوان المعروف بمسألة تداخل الأسباب ، أو تداخل المسببات. ولتوضيح البحث عن ذلك ينبغي تقديم أمور :

الأول : في المراد من تداخل الأسباب والمسببات.

اما المراد من تداخل الأسباب : فهو ان اجتماع الأسباب المتعددة لا يقتضى الا ايجاد جزاء واحد ، بمعنى ان الأسباب التي هي عند الانفراد تقتضي ايجاد

ص: 489


1- راجع الامر الثاني من مباحث الواجب المشروط ص 178

جزاء واحد ، فعند الاجتماع لا تقتضي أيضا الا ايجاد جزاء واحد ، لا انها يقتضى كل سبب ايجاد جزاء حتى يتعدد الجزاء حسب تعدد الأسباب. وهذا من غير فرق بين ان تكون الأسباب المجتمعة مندرجة تحت نوع واحد - كما إذا تعدد منه النوم أو البول - أو انها غير مندرجة تحت نوع واحد - كما إذا نام ، وبال - فهذا معنى تداخل الأسباب.

واما معنى تداخل المسببات : فهو عبارة عن الاكتفاء بايجاد جزاء واحد وعدم وجوب التعدد ، بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب واقتضاء كل سبب جزاء ، الا انه في مقام الامتثال يكتفى بجزاء واحد ، فان ذمته وان اشتغلت بالمتعدد الا انه صح تفريغها عن المتعدد بالواحد.

وتظهر الثمرة بين تداخل الأسباب وتداخل المسببات بالرخصة والعزيمة فإنه لو قلنا : بتداخل الأسباب ، لا يجوز له ايجاد الجزاء متعددا ، إذ لم تشتغل ذمته الا بجزاء واحد ، فالزايد يكون تشريعا محرما. ولو قلنا : بتداخل المسببات فله ايجاد الجزاء متعددا ، وله أيضا الاكتفاء بالواحد. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم تداخل الأسباب والمسببات ، فإنه لا بد له من ايجاد الجزاء متعددا حسب تعدد السبب.

الثاني :

مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب ، هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، لأن الشك في تداخل الأسباب يرجع إلى الشك في اقتضاء السبب الثاني لتعقبه بالجزاء وتوجه التكليف به زائدا على التكليف المتوجه بالسبب الأول. واما الشك في تداخل المسببات ، فالأصل فيه يقتضى الاشتغال لرجوع الشك فيه إلى الشك في فراغ الذمة بايجاد جزاء واحد ، مع أنها قد كانت مشغولة بالمتعدد. والمرجع في ذلك هو الاشتغال ليس الا. هذا في باب التكاليف.

واما باب الوضعيات فربما يختلف الأصل فيه. مثلا لو شك في اقتضاء العيب للخيار زائدا على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس ، فمقتضى الأصل وان كان عدم ثبوت خيار العيب ، ولكن يمكن ان يقال : ان مقتضى الأصل بقاء الخيار

ص: 490

بعدم الثلاثة أيام ، فتأمل حيدا.

الثالث :

الجزاء المأخوذ في القضية الشرطية : اما ان يكون قابلا للتعدد - كالوضوء والغسل - واما ان لايكون قابلا للتعدد - كالقتل والخيار - حيث إنه لا يمكن تكرر القتل وكذا الخيار ، فان الخيار ليس الا ملك فسخ العقد واقراره وهذا امر واحد لا يمكن فيه التعدد.

ثم إن الجزاء الغير القابل للتعدد : اما ان يكون قابلا للتقيد بالسبب كالخيار ، حيث إنه قابل للتقيد : بالمجلس والحيوان والعيب والغبن وغير ذلك من أسباب الخيار. ومعنى تقيده بالسبب ، هو انه يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس فيسقطه أو يصالح عليه ، ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان. وكذا في القتل لأجل حقوق الناس ، فلو قتل زيد عمروا وبكرا وخالدا ، فقتل زيد قصاصا وان لم يقبل التعدد ، الا انه قابل للتقيد بالسبب ، أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله لعمرو ، فلو أسقط ورثة عمرو حق القود لم يسقط حق ورثة بكر وخالد.

واما ان لايكون قابلا للتقيد بالسبب ، كقتل زيد إذا كان له أسباب متعددة راجعة إلى حقوق اللّه تعالى كما إذا كان محاربا ، وزانيا محصنا ، ومرتدا ، وغير ذلك من أسباب القتل ، فان قتل زيد لا يتقيد بهذه الأسباب ، إذ لا اثر لتقيده ، فان حقوق اللّه تعالى غير قابلة للاسقاط حتى يظهر للتقيد بالسبب اثر. نعم في المثال يتأكد وجوب قتل زيد من جهة اجتماع تلك الأسباب ، ولكن التأكد غير التقيد بالسبب ، كما لا يخفى.

ثم انه لا اشكال في دخول القسم الأول - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتعدد - في محل النزاع في تداخل الأسباب والمسببات وعدم التداخل. وكذا لا ينبغي الاشكال في دخول القسم الثاني - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتقيد بالسبب - في محل النزاع أيضا ، إذ يتحقق اثر للقول بعدم التداخل باعتبار قابلية الاسقاط من جهة خاصة ، مع بقاء الجزاء من سائر الجهات كما عرفت. واما القسم الثالث : فهو خارج عن محل النزاع ، إذ لا اثر عملي فيه للقول بالتداخل وعدم

ص: 491

التداخل ، ومجرد قابليته للتأكد لا يوجب اثرا عمليا ، كما هو واضح.

الرابع :

ربما يبتنى النزاع في المقام على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات ، فعلى الأول : فالأصل التداخل ، وعلى الثاني : فالأصل عدم التداخل.

ولكن الانصاف : ان قضية كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات مما لا محصل لها ، فإنه ان كان المراد من الأسباب الشرعية هي موضوعات التكاليف ، فدعوى كونها مؤثرة أو معرفة مما لا ترجع إلى محصل ، لان موضوع التكليف ليس بمؤثر ولا معرف ، الا إذا كان المراد من المؤثر عدم تخلف الأثر عنه فيستقيم ، لان الحكم لا يتخلف عن موضوعه ، الا ان اطلاق المؤثر على هذا الوجه مما لا يخلو عن مسامحة.

وان كان المراد من الأسباب المصالح والمفاسد فهي مؤثرة باعتبار ( من حيث تبعية الاحكام لها ) ومعرفة باعتبار ( من حيث إنها لا تقتضي الاطراد والانعكاس ) كما هو شأن الحكمة ان كان المراد من المعرف هذا المعنى ، أي عدم الاطراد والانعكاس. وعلى كل حال : الكلام في المقام انما هو في الشروط الراجعة إلى موضوعات التكاليف ، واطلاق المعرف على ذلك مما لا معنى له.

الخامس :

قد يقال : ان القول بعدم تداخل المسببات والأسباب يستلزم القول بتعدد التكليف والمكلف به ، في مثل قوله : صم يوما وصم يوما ، مع أن المحكى عن المشهور : القول بكفاية صوم يوم واحد في المثال وحمل الطلب الثاني على التأكيد لا التأسيس. ومن هنا ربما يتوهم : المنافاة بين المحكى عن المشهور في مثل المثال ، وبين المحكى عنهم في مسألة تداخل الأسباب والمسببات ، حيث إنهم ذهبوا إلى عدم التداخل ، ويتخيل ان القول بكفاية صوم يوم واحد في المثال يرجع إلى القول بتداخل الأسباب ، حيث إن كل طلب سبب لايجاد متعلقه ، فالاكتفاء بصوم واحد يرجع إلى تداخل الطلبين واقتضائهما ايجاد متعلق واحد ، هذا.

ولكن التحقيق : ان المثال ليس من تداخل الأسباب والمسببات ، فان

ص: 492

المثال لما كان المتعلق واحدا ، وهو صوم اليوم ، ولم يكن هناك ظهور لفظي في تعدد التكليف والطلب ، لان قوله ثانيا : صم يوما ، لايكون ظاهرا في التأسيس الا من جهة الظهور السياقي ، والظهور السياقي لا يقاوم الظهور اللفظي في وحدة المتعلق ، بل الظهور اللفظي في وحدة المتعلق أقوى من الظهور السياقي في كون الطلب الثاني للتأسيس ، ولأجل ذلك يحمل على كونه للتأكيد. ولو سلم انه ليس بأقوى ، فلا أقل من أنه يوجب التوقف. وأين هذا من مسألة تداخل الأسباب التي سيأتي ان الظهور اللفظي فيها يقتضى عدم التداخل ، فلا ملازمة بين المسئلتين.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : ان الأصل اللفظي يقتضى عدم تداخل الأسباب والمسببات. اما عدم تداخل الأسباب فتوضيحه : هو ان تعلق الطلب بصرف الوجود من الطبيعة وان كان مدلولا لفظيا ، الا ان عدم قابلية صرف الوجود للتكرر ليس مدلولا لفظيا ، حتى يعارض ظاهر القضية الشرطية في تأثير كل شرط لجزاء غير ما اثره الآخر ، بل من باب حكم العقل بان المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله ثانيا. واما ان المطلوب واحد أو متعدد ، فلا يحكم به العقل ، ولا يدل عليه اللفظ ، ولذا اختلف في دلالة الامر على المرة والتكرار. وبعبارة أخرى : وضعت صيغة الامر لطلب ايجاد الطبيعة ، والعقل يحكم بان ايجاد الطبيعة يحصل باتيانها مرة فلا موجب لاتيانها ثانيا ، وهذا لا ينافي ان يكون المطلوب ايجادها مرتين ، بحيث يكون امتثال كل مرة كافيا لامتثال مطلوب ، أي لو دل الدليل على أن المطلوب متعدد لا يعارضه حكم العقل على أن امتثال الطبيعة يحصل باتيانها ، لان كل مطلوب يحصل امتثاله باتيانه مرة عقلا. اما ان المطلوب متعدد أولا ، فلا يحكم به العقل. فإذا دل ظاهر الشرطيتين على تعدد المطلوب لا يعارضه شيء أصلا.

ومما ذكرنا انقدح : ما في تقديم ظهور القضيتين من جهة كونه بيانا لاطلاق الجزاء ، لأنه على ما ذكرنا ظهور الجزاء في الاكتفاء بالمرة ليس من باب الاطلاق أصلا ، حتى يقع التعارض ، بل يكون ظهور القضية الشرطية في تأثير الشرط مستقلا في الجزاء رافعا حقيقة لموضوع حكم العقل : بان المطلوب واحد يحصل امتثاله باتيانه مرة ، وواردا عليه ، بل على فرض ظهور الجزاء في المرة يكون ظهور الشرطية

ص: 493

حاكما عليه ، كما لا يخفى.

نعم : لو شك في الطلب الواحد ، كقوله : صل ، أو الجزاء المترتب على شرط واحد ، كقوله : إذا سهوت فاسجد سجدتي السهو ، انه يكفي المرة أم يجب تعدد الصلوات والسجدات ، فاطلاق الامر يقتضى حصول الامتثال بالمرة. وأين هذا مما إذا تعدد الامر أو الشرط؟ لأنه لا يمكن ان يكون الاطلاق متكفلا لوحدة الطلبين ، أو تأثير الشرطين اثرا واحدا. فتأمل في ذلك لئلا تخلط بين المقامين.

ثم إن عدم ظهور القضيتين في الاتحاد لا ينافي ما تقدم : من حكومة ظهور الامر في تعلقه بصرف الوجود في نحو ( صم يوما صم يوما ) على الظهور السياقي ، للفرق بين البابين ، فان الامر في مقام الجزاء حيث إنه متفرع على الشرط فيقتضى تعدد الشرط تعدد الجزاء. وهذا بخلاف الامر الابتدائي المكرر ، فإنه ليس ظاهرا في التعدد الا من جهة الظهور السياقي المحكوم بظهور تعلق الامر بصرف الوجود. واما الثاني فعلى فرض ظهور الجزاء في القضيتين في الاتحاد ، أي هذه الحقيقة التي جعلت جزاء في مثل ( إذا بلت توضأ ) بعينها هي التي جعلت جزاء فيما إذا تكرر منه البول ، والحقيقة الواحدة لا تقبل التكرار ، فيكون الجزاء الممكن فيه التعدد كالجزاء الذي لا يمكن فيه التعدد من لزوم التداخل في الأسباب.

ولكنا نقول : ان الجملة الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين ، وذلك لأنه لا شبهة ان القضية الشرطية كالقضية الحقيقة ، فكما ان قوله : المستطيع يحج - عام لمن استطاع في أي وقت ، فكذلك قوله : ان استطعت فحج ، لان كل قضية حقيقية راجعة إلى الشرطية ، وبالعكس ، غاية الامر انهما متعاكسان. فالشرطية تتضمن عنوان الموضوع ، لان نتيجة ( ان استطعت ) هو ( المستطيع ) وهي صريحة في الاشتراط. والحقيقية تتضمن الشرط ، وهي صريحة في عنوان الموضوع. ولازم الانحلالية ان يترتب على كل شرط جزاء غير ما رتب على الآخر. فعلى هذا لا اشكال في عدم التداخل ، حتى في مورد تعدد الشرط من جنس واحد ، فضلا عما إذا تعدد من الأجناس المختلفة ، فيصير هذا الظهور قرينة للجزاء ، ويصير بمنزلة ان يقال : إذا بلت فتوضأ وإذا بلت ثانيا فتوضأ وضوء آخر ، كما إذا تحقق منه النوم والبول.

ص: 494

ثم إن ظهور كل شرط في تأثيره اثرا غير اثر الشرط الآخر لا يختص بالأدلة اللفظية ، بل يمكن استفادته من اللبيات ، لان المدار على ظهور الشرط في الانحلالية ، فإذا كان الدليل عليه لفظيا فاستفادة الانحلالية اما : بالوضع ، كالعموم الأصولي المستفاد من الأسماء المتضمنة للشرط ، كمتى وانى وأين وإذا ومهما وحيثما ، وهكذا. واما : بالاطلاق ، ك ( إن ) وأخواتها ، فان استفادة كون مدخولها علة تامة لترتب الجزاء عليه بالاطلاق ، وإذا كان الدليل عليه لبيا ، فاستفادة الانحلال كأصل الاشتراط يمكن قيام الاجماع عليه ، أو دلالة العقل عليه.

ان قلت :

سلمنا ظهور كل شرط في كونه تمام السبب للجزاء ، الا ان الجزاء حيث إنه لم يترتب بوجوده على الشرط حتى يمكن التعدد - فان وجوده هو مقام امتثاله - بل رتب من حيث حكمه وهو لا يقبل التعدد. وبعبارة واضحة : وجود الاكرام لم يعلق على المجيئ حتى يمكن ان يتعدد ، بل وجوبه الذي هو حكمه علق عليه ، وغاية تأثير كل سبب ان يتأكد الحكم ، لان الوجوب لا يمكن فيه التعدد.

قلت :

قد بينا في المقدمات : ان الوجوب - وهو المعنى النسبي المستفاد من الهيئة - غير قابل للتعليق ، بل المعلق هو محصل الجملة ، وهو طلب الايجاد الذي يتحقق بايقاع نسبة المادة إلى الفاعل في مقام الانشاء. وبعبارة واضحة : قد تقدم في مبحث الأوامر (1) ان مفاد صيغة الامر ليس طلب الفعل كما هو المشهور ، لأنه ليس معنى ( صل ) اطلب منك الصلاة ، بل وضعت صيغة الامر لنسبة المادة إلى الفاعل انشاء وتشريعا ، فكون المتكلم في مقام التشريع ملقيا نسبة المادة إلى الفاعل يوجب ان يتحقق بنفس هذا الالقاء مصداق للطلب ، ففي مقام التشريع يطلب الشارع ايجاد الصلاة ، والايجاد قابل للتكرر.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما برهن عليه العلامة - على ما يحكى عنه - لعدم تداخل الأسباب فنقول : هو ( قده ) أتم البرهان بمقدمات ثلث ، والمقدمتان منها صريحتان في كونهما من برهان عدم التداخل في الأسباب ، والثالثة ظاهرة فيه ، لا

ص: 495


1- راجع تفصيل هذا البحث في الامر الثالث من المقصد الأول ، الجزء الأول من الفوائد ص 129

صريحة ، لامكان رجوعها إلى برهان عدم التداخل في المسبب.

المقدمة الأولى : انه لا اشكال ، في أن ظاهر القضية الشرطية ، هو كون الشرط مؤثرا في الجزاء.

والثانية : ان ظاهر كل شرط ان يكون اثره غير اثر الشرط الاخر.

والثالثة : ان ظاهر التأثير ، ان الأثر هو تعدد الوجود لا تأكد المطلوب.

والعمدة من هذه المقدمات هي الأولى ، لان المقدمتين الأخيرتين واضحتان. اما الثانية : فلانه ، بعد ثبوت الأولى لا بد ان يكون اثر كل شرط غير اثر الآخر ، لان معنى تأثير الشرط التأثير بالاستقلال لا الانضمام. واما الثالثة : فلان التأكيد وان كان مغايرا لغير المؤكد ، الا انه في الحقيقة راجع إلى وحدة الأثر ، فمهما أمكن التعدد في المسبب لا موجب لتأثير الشرط التأكد.

نعم : مع حفظ المقدمتين وعدم امكان التعدد يجب المصير إلى التأكيد.

واما المقدمة الأولى : فعمدة المناقشة فيها مناقشة فخر المحققين : (1) من ابتنائها على كون العلل الشرعية مؤثرات ، لأنها بناء على كونها معرفات ، لا تأثير للشرط في الجزاء. ولكن ظهر مما ذكرنا : ان التداخل وعدمه لا يبتنى على هذا النزاع ، بل لا محصل لهذا النزاع أصلا ، لان علل التشريع ليست عللا حقيقية ، فلا يمكن النزاع فيها والقول بأنها مؤثرات. واما موضوعات الاحكام ، فليست الا كالعلل الحقيقية ولا يمكن ان تكون معرفات. وبالجملة لا وجه لهذه المناقشة أصلا.

ثم انه ، قد ذكرنا ضابطا مميزا بين العلل للجعل وبين موضوعات المجعول في غير مبحث. واجماله : ان كل ما لا يمكن ان يجعل عنوانا لفعل المكلف ويلقى إليه لعدم تميزه بين مورد حصوله وعدم حصوله ، كاختلاط المياه والنهى عن الفحشاء ، فهذا لا يمكن ان يكون موضوعا الذي قد يعبر عنه بالعلة للمجعول ، بل يجب ان يكون علة للجعل وملاكا له ، فهذا غير مطرد ولا منعكس.

وما أمكن ان يلقى إلى المكلف ، كاسكار الخمر ، لامكان تمييز المكلف بين حصوله وعدم حصوله ، فهذا يلاحظ فيه لسان الدليل ، فان اخذ فيه علة للجعل والتشريع ، فهو لا يطرد ولا ينعكس ، كقولهم علیهم السلام أتدري لم جعل أو لم شرع

ص: 496


1- راجع إيضاح الفوائد الجزء 1 ص 48

كذا ، ولم صار ماء الاستنجاء لا بأس به لان الماء أكثر من القذر ، وأمثال هذه القضايا التي صنف الصدوق ( قده ) لها كتاب على حدة ، وسماه علل الشرايع. وان اخذ فيه علة للمجعول ، كقوله علیه السلام الخمر حرام لأنه مسكر ، فهذا هو العلة التي يتعدى عن مورد معلولها إلى المشارك معه في هذه العلة.

فتحصل مما ذكرنا ان عمدة برهان القائل بالتداخل ، هو ان صرف الشيء لا يتكرر. وهذا الكلام مما لا ريب فيه بعد اثبات ان متعلق الامر هو الطبيعة المشتركة بين المرة والتكرار ، لا خصوص المرة ، ولا التكرار ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ، فبالاطلاق يثبت انه أراد القدر الجامع ، وبحكم العقل يثبت ان القدر الجامع إذا تحقق لا مجال لامتثاله ثانيا.

ولكن فيه أولا : ان هذا لا ينافي ظهور القضية الشرطية في تأثير كل شرط اثرا غير اثر الشرط الآخر ، لان كون صرف الشيء لا يتكرر لايكون مستندا إلى ظهور لفظي ، حتى يعارض ظهور الشرطية. وبعبارة أخرى : حكم العقل مفاده ان المطلوب الواحد لا يتكرر ، فلا يعارض ظهور ما دل على تعدد المطلوب. وثانيا : ان ظهوره في عدم التكرار بالاطلاق وعدم موجب التعدد ، ويكفي ظهور الشرطيتين في بيان موجب التعدد.

واما المقام الثاني :

فالحق فيه أيضا عدم التداخل ، لأنه بعد ما ظهر ان كل سبب يؤثر غير ما اثره الآخر ، فمع امكان التعدد في المسبب لا موجب للتداخل ، ولا وجه لدعوى أصالة التداخل. فالاكتفاء في الامتثال بمسبب واحد ، مع القول بعدم التداخل في الأسباب ، لا بد فيه اما : من ثبوت دليل عليه ، كالاكتفاء بغسل واحد إذا اجتمع عليه حقوق (1) لقيام الدليل الواضح على كفاية غسل واحد ، اما مطلقا ، واما لو نوى الجميع ، واما لو كان في الأسباب الجنابة. وعلى أي حال : ان ثبوته بالدليل غير دعوى أصالة التداخل. واما : من كون المسبب مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، كضيافة الهاشمي العالم ، لو قال : أكرم هاشميا وأضف عالما ، فان اطلاق كل دليل حيث إنه يشمل مورد الاجتماع يوجب عدم البأس باتيان المجمع ، لامتثال الاكرام

ص: 497


1- المراد من الحقوق هو حقوق اللّه تعالى.

الذي بينه وبين الضيافة عموم من وجه في العالم الذي بينه وبين الهاشمي عموم من وجه. ولا يبتنى صحة الامتثال بالمجمع على مسألة الاجتماع ، لان موضوع تلك المسألة في الحكمين المتضادين. والمتماثلان وان كان كالمتضادين الا انه إذا بقى الحكمان باثنينيتهما ، واما مع اتحادهما كما في الحكمين الانحلاليين ، كقوله : أكرم العلماء وأكرم السادات ، واجتمع في مصداق واحد عنوان العالم والسيد ، أو في البدليين كما في امتثالهما باتيان المجمع ، فيتحدان ويؤثر كلاهما بوصف الاجتماع اثرا واحدا.

وبالجملة : تداخل المسبب لا بد ان يثبت بدليل ، أو يصدق الامتثال في اتيان واحد إذا كان بين العنوانين عموم من وجه. والكلام الذي نحن بصدد تنقيحه مفروض فيما كان بين الأسباب تباين ، كالبول والنوم ، أو الجماع والاكل ، أو تساو كتعدد النوم أو الاكل ، مع اتحاد المسبب بحسب المفهوم. ثم انه ينبغي التنبيه على أمرين :

الأول : ان هذا الذي ذكرنا من عدم تداخل الأسباب ، انما هو بمقتضى القواعد اللفظية ، فأصالة عدم التداخل تامة لو لم يقم دليل على خلافها ، كما في كل أصل قام الدليل على خلافه.

فمن جملة ما قام الدليل فيه على خلاف هذا الأصل موجبات الوضوء ، وبعض موجبات الكفارة. اما الوضوء : فقيام الدليل على كفاية وضوء واحد لجميع أسبابه موجب لاستكشاف أحد أمور ثلاثة فيه.

أولها : كون سبب الوضوء هو العنوان الواحد الحاصل بأحد النواقض ، بمعنى كون النواقض محصلة لهذا العنوان ، ونفس ذلك العنوان هو السبب ، وهذا غير قابل للتعدد بتعدد محصلاته ، ويعبر عنه بالقذارة المعنوية والحالة الحدثية. ثم انه إذا تحقق المحصلان في عرض واحد ، فالعنوان مستند إلى وصف الاجتماع ، ولو تحققا طولا فمستند إلى أول الوجود منهما ، كما لا يخفى.

ثانيها : كون السبب هو صرف الوجود من النواقض ، لا مطلق وجوده ، فأول سبب حصل في الخارج هو المؤثر في الوضوء ، دون ما يتحقق ثانيا وثالثا.

ثالثها : ان المسبب - وهو الطهارة الحاصلة بأول وضوء - غير قابل للتعدد ولا التأكد ولا الانتساب إلى سبب من حيث والى سبب آخر من حيث آخر ، فيخرج المورد عن محل النزاع. ولكنه لا يخفى : ان هذا الاحتمال في باب الوضوء لا

ص: 498

يتطرق ، لأنه ثبت : ان الوضوء على الوضوء نور على نور.

واما باب بعض الكفارات : فهو في غير الجماع ، كالأكل والشرب ونحوهما ، لأنه ورد في الدليل ( من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه الكفارة ) والمفطر صادق بأول وجود من المفطرات ، وهو عنوان غير قابل للتعدد ، فكل من شرب واكل وارتمس ، يصدق عليه انه أفطر بمجرد تحقق أول المفطرات ، فاكله بعد شربه غير قابل للتأثير. ولا ينافي ذلك وجوب الامساك على المفطر أو استحبابه ، لأنه حكم تعبدي من جهة احترام شهر رمضان ، لا لامكان الافطار ثانيا لبقاء الصوم.

وبالجملة : لا ينافي الأصل قيام الدليل على خلافه ، كما أن أصالة عدم تداخل المسببات - أي عدم كفاية امتثال واحد لأسباب متعددة مؤثرة - لا ينافي قيام الدليل على كفايته ، كما في الأغسال ، وكما لو لم يكن المسبب قابلا للتعدد والتأكد ولا التقيد ، كما إذا اجتمع حقوق اللّه تعالى في القتل ، فإنه لا يمكن ان يتقيد القتل بحق دون حق ، لان حقه تعالى غير قابل للعفو ، حتى يتقيد بسبب غير تقيده بسبب آخر ، وكما في تداخل المسببين في ضيافة العالم الهاشمي.

الثاني :

انه قيل : بتعدد حقايق الأغسال ، كما هو المشهور. وقيل : باتحادها ، كما هو المحكى عن الأردبيلي ( قده ) وتابعيه. ومعنى اتحاد حقيقتها ان ما يوجبه الجنابة من الغسل عين ما يوجبه الحيض أو مس الميت أو الجمعة ، وهكذا. ثم انه وان اختلف القولان بحسب الآثار الفقهية والأحكام الشرعية ، ككفاية غسل واحد حتى الجمعة عن جميع الأغسال ولو لم ينو غيرها ، وكفاية كل غسل عن الوضوء بناء على الاتحاد ، وعدم كفايته في كلا المقامين بناء على التغاير ، الا انه ليس المقام مقام البحث عن الحكم الفرعي وبيان ان المختار هو التعدد كما هو المشهور ، لظاهر الاخبار (1) بأنه « إذا اجتمع عليه حقوق أجزئك غسل واحد » الظاهر في أن الموجب للغسل متعدد. ولا معنى لاتحاد حقيقة الغسل مع تعدد موجبه ، لأنه لو كان ما

ص: 499


1- الوسائل ، الجزء 1 الباب 43 من أبواب الجنابة الحديث 1 ص 526

توجبه الجنابة عين ما يوجبه الحيض للزم ان يكون السبب واحدا أيضا ورجوع جميع الأسباب إلى حدث واحد ، كموجبات الوضوء ، على ما عرفت ، لعدم امكان ترتب معلول واحد على علل مختلفة ، كما برهن في محله. بل المهم في المقام ، انما هو بيان الحكم الأصولي على المسلكين.

فنقول : لو قلنا بالاتحاد ، فلا محيص عن الالتزام بالتداخل وعدم تأثير كل ما هو السبب في الظاهر ولو قلنا بأصالة عدم التداخل في الأسباب والمسببات ، لعدم قابلية المورد لتعدد الوجود ، لان محل النزاع في باب التداخل هو ما لو كان الجزاء المترتب على الأسباب واحدا مفهوما وقابلا للتعدد مصداقا ، أو بحكم المتعدد المصداق من التأكيد أو التقييد. والمفروض - بناء على الاتحاد - ان ما يوجبه الجنابة من الغسل عين ما يوجبه الحيض. ولو قلنا بالتباين فلا محيص عن الالتزام بعدم التداخل ولو قلنا بأصالة التداخل في باب الأسباب والمسببات ، لما عرفت ان مورد النزاع هو المتحد في المفهوم القابل لتعدد الوجود ، ومعنى متحد المفهوم المتعدد في الوجود هو المشترك المعنوي ، كالرقبة المترتب عتقها على الافطار والظهار. وهذا بخلاف متباين الحقيقة المترتب أحد المتباينين على سبب كالوضوء مثلا على البول ، والمباين الآخر كالكفارة عل سبب آخر كالافطار ، فإنه لا معنى في هذا المقام للتداخل.

ثم انه بناء عل التباين ، كما هو المختار ، فمقتضى القاعدة عدم كفاية غسل واحد عن الأسباب المتعددة ، الا انه قام الدليل على أنه لو نوى الجميع بغسل واحد يجزى ، كما أنه قام الدليل على كفاية نية الجنابة لجميع الأغسال ولو لم ينو غيرها. فالأول : كقوله في كتاب (1) حريز : إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزئك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة إلى آخر الحديث ، فان قوله : إذا اغتسلت - باطلاقه يشمل لو كان المتعدد هو الأغسال المستحبة ، أو الواجبة ، أو المركب منهما ، لا سيما بقرينة ذيل هذا الخبر ( فإذا اجتمعت لله عليك أجزئها عنك غسل واحد ) واما اعتبار نية الجميع ، فلقوله علیه السلام ( للجنابة والجمعة ) الظاهر في لحاظ الجنابة

ص: 500


1- الوسائل ، الجزء 1 الباب 43 من أبواب الجنابة الحديث 1 ص 526

والجمعة وغيرهما في الغسل.

والثاني : كقوله علیه السلام (1) « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزء عنه ذلك عن كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » فان اطلاقه يشمل ما لو لم يلتفت الجنب حين غسل الجنابة إلى أسباب آخر. وبالجملة : لو قام الدليل كذلك لكشف عن كفاية نية الشيء عن اتيانه عن الأسباب المتعددة ، ويصير المميز للأسباب هو النية.

الفصل الثاني : في مفهوم الوصف

ولا يخفى : ان عنوان محل البحث ، وان جعل في كلمات الأساطين - كالكفاية بل التقرير - هو الأعم ، ولكن الحق هو اختصاص محل النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف دون غيره ، فان غيره ليس الا كمفهوم اللقب ، فان اثبات حكم لموضوع بعد فرض كونه لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع لا فرق فيه ، بين ان يكون الموضوع في القضية شخصيا كأكرم زيدا ، أو كليا كجئ بانسان ، أو اشتقاقيا كأكرم عالما ، فكما لا يدل اثبات حكم لزيد على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غيره ، فكذلك اثبات حكم للعالم لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير العالم. وتوهم ان المشتق مأخوذ فيه الذات بناء على قول ، أو متضمن لها على آخر - فكان الموضوع قد ذكر في القضية - من أعجب الغرائب.

وبالجملة : الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحا ، انما هو لخروج الكلام عن اللغوية ، وتقريبه : ان الحكم لو لم يختص بمورد الوصف وكان ثابتا له وللفاقد لما كان لذكر الوصف وجه. وهذا لا يجرى في مثل أكرم عالما ، فان ذكر موضوع الحكم لا يحتاج إلى نكتة غير اثبات الحكم له ، لا اثباته له وانتفائه عن غيره. وبالجملة : الوصف الغير المعتمد على الموصوف ليس الا اللقب.

فالأولى ان يجعل العنوان هكذا : لو نعت موضوع القضية بنعت ، فهل يدل ذكر النعت بعد المنعوت على انتفاء الحكم عن ذات المنعوت الغير المتصف بهذا

ص: 501


1- الوسائل - الجزء الباب 43 - من أبواب الجنابة - الحديث 1 - 2 - ص 526

الوصف مطلقا؟ أو لا يدل مطلقا؟ أو يفصل بين ما إذا كان مبدء الاشتقاق للوصف علة للحكم فله الدلالة وبين ما لم يكن كذلك؟ أي التفصيل بين الوصف المشعر بعلية مبدء اشتقاقه للحكم ، وعدمه.

والحق : عدم الدلالة مطلقا ، وذلك لما ظهر في مفهوم الشرط : من أن كون القضية ذات مفهوم انما يتصور فيما إذا كان القيد راجعا إلى الحكم ، بالمعنى المعقول الذي بيناه ، وهو تقييد المتحصل من الجملة ، لا ذات الانتساب الذي هو معنى حرفي. واما لو كان القيد راجعا إلى عقدي الوضع والحمل - أي لو كان القيد واردا قبل الانتساب وكان مقيدا لاحد المنتسبين - فلا يتصور ثبوت المفهوم للقضية ، وفي المقام لا يمكن ارجاع القيد الا إلى الموضوع ، فيكون كالشرطية التي سيقت لفرض وجود الموضوع ، فلا مجال لتوهم المفهوم فيها. وبالجملة : القيد في المقام ليس كالقيد في باب القضية الشرطية ، ولا كالغاية التي يمكن ان تكون غاية للحكم.

ان قلت :

فلا وجه على هذا ، لحمل المطلق على المقيد ، فإنه لا وجه للحمل الا كون التقييد بالمنفصل كالتقييد بالمتصل ، ولا شبهة ان التقييد بالمتصل يوجب اختصاص الحكم بالمقيد ، فكذلك المنفصل ، ولو لم يكن الوصف ذا مفهوم لما كان وجه لحمل المطلق على المقيد وبعبارة أخرى : من اجل ظهور المقيد في اختصاص الحكم به ، لان الأصل في القيد الاحترازية ، يحمل المطلق على المقيد.

قلت :

حمل المطلق على المقيد ليس من جهة المفهوم ، بل من جهة التنافي بين التعين الذي يكون المقيد نصا فيه ، والتخيير الذي يكون المطلق ظاهرا فيه مع وحدة التكليف. والا فان مجرد اختصاص الحكم بالرقبة المؤمنة في المقيد ليس الا مثل ان يذكر المقيد ابتداء من دون ذكر المطلق ، فلا يفيد التقييد الا تضييق دائرة موضوع الحكم. وهذا ليس معنى المفهوم ، فإنه يجب ان يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع بأي سبب فرض.

وبعبارة أخرى : كون الموضوع خاصا وامرا مخصوصا غير دلالة القضية على

ص: 502

انتفاء الحكم من غير هذا الموضوع. ومن هنا ظهر : ان كون الأصل في القيد احترازيا - لا للفوائد الاخر التي تذكر لمجيئ القيد - لا يفيد اثبات المفهوم ، فان الاحترازية ان كانت بمعنى دلالة القيد على انتفاء الحكم عن ذات المقيد الخالي عن هذا القيد ، فالمسلم منها انما هو في الحدود ، لان بناء التعريف على الاطراد والانعكاس ، دون غيرها ، وان كانت بمعنى دلالته على اختصاص الحكم بالمقيد ، فهذا لا يفيد الا اختصاص هذا الحكم بهذا الموضوع الخاص ، لا نفيه عن غيره.

فان قلت :

حمل المطلق على المقيد في المطلق المطلوب منه صرف وجوده وان لم يكن من باب المفهوم ، الا انه في المطلق الانحلالي يكون التقييد مستلزما للمفهوم لامحة ، فان تقييد وجوب الزكاة في مطلق الغنم بالسائمة ، معناه نفيها عن المعلوفة ، فكون القيد احترازيا لا يستقيم الا باخراج المعلوفة من دليل المطلق ، وهذا عين المفهوم.

قلت :

أولا : لا موجب للتقييد في المطلق الانحلالي لو كان القيد منفصلا ، نعم في المتصل لا مناص عن اختصاص الحكم بمورد القيد ، وذلك لعدم التنافي بين تعلق الزكاة بمطلق الغنم وتعلقها بالسائمة.

وثانيا : على فرض تسليم التقييد ، ان التقييد ليس الا قصر دائرة الحكم على الموضوع المقيد ، لا نفيه عما عداه. وفرق بين اثبات حكم لموضوع خاص مع سكوته عن غير هذا الموضوع ، واثباته له ونفيه عما عداه ، والثاني هو المفهوم ، لا الأول. ولذا لو دل دليل ثالث على تعلق الزكاة بالمعلوفة ، فبناء على التقييد لا تعارض بين المقيدين ، ونتيجة تقييد الحكم بكليهما هو الاطلاق ، لاستيعابهما جميع افراد المطلق. وبناء على المفهوم يتعارضان ، لان اثبات الحكم في السائمة مع القول بالمفهوم معناه : عدم ثبوت الزكاة في المعلوفة.

ثم انه لا اشكال في أن محل البحث هو فيما لو كان بين الموصوف والصفة عموم مطلقا أي كان الموصوف عاما والصفة أخص منه ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموضوع ، أي وجد الموصوف كالغنم ولم يكن

ص: 503

سائمة. واما الافتراق من جانب الوصف ، أي وجدت السائمة ولم تكن غنما ، فهذا غير داخل في محل النزاع ، لان كون الوصف ذا مفهوم معناه تخصيص موصوفه به واخراج سائر افراد الموصوف عن ثبوت هذا الحكم لها ، لا تخصيص موصوف خارج عن هذين التركيبين. فلا بد من ملاحظة التقييد بالنسبة إلى الإبل السائمة وعدم وجوب الزكاة في معلوفها من ملاحظة نفس دليل تعلق الزكاة بالإبل ، وهذا واضح. وقول الشافية لا يعتنى به. واستفادة العلية من وصف خاص خارج عن ظهور الكلام بحسب طبعه.

الفصل الثالث : في مفهوم الغاية

وتنقيحه يتوقف على تحرير نزاع آخر وقع في باب الغاية ، وهو انه. هل الغاية داخلة في المغيى مطلقا ، أم لا مطلقا ، أو التفصيل بين أدواتها ، أو التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيى وعدمه؟ ولا يخفى : انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج. وكون لفظة الغاية والنهاية دالة على دخول الغاية - لان نهاية الشيء كابتدائه من حد الشيء ، وحد الشيء من اجزائه لا انه أول جزء من خارج الشيء - لا يفيد اثبات الوضع ( لحتى والى ) فإنهما لم يوصفا لما يستفاد من هذا اللفظ الأسمى. والأمثلة التي تذكر للدخول أو الخروج لا تفيد اثبات الوضع ، فان استفادة الدخول أو الخروج من هذه الأمثلة انما هي لقرائن خاصة خارجية. فدعوى ظهور الأداة في الدخول أو الخروج أو التفصيل دعوى بلا برهان. وليس هنا أصل لفظي يدل على الدخول أو الخروج ، فالمرجع عند الشك هو الأصول العملية.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في ثبوت المفهوم للغاية ، وقد ذكرنا في مفهوم الشرط : ان كون القضية ذات مفهوم مرجعه إلى تقييد الحكم ، وعدم كونها كذلك مرجعه إلى رجوع القيد إلى أحد عقدي الوضع أو الحمل. وبعبارة أخرى : لو كان التقييد - سواء كان للموضوع أو المحمول - قبل الاستناد فهذا يرجع إلى مفهوم اللقب. ولو كان في رتبة الاسناد - أي قيد الحكم وهو اسناد المحمول إلى الموضوع أي تقييد الجملة لا تقييد المفردات - فهذا يرجع إلى ثبوت المفهوم ، فهذان الأمران مما لا نزاع فيهما. فالأليق في النزاع ان يكون البحث في احراز الصغرى ، وان الغاية غاية للحكم

ص: 504

أو الموضوع.

والظاهر : ان الغاية قيد للحكم ، الا ان تقوم قرينة على خلافه ، لان قوله علیه السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام ، مع قوله (1) « عز اسمه » : وأتموا الصيام إلى الليل - بنسق واحد. فكما ان الحكم لو جعلت غايته المعرفة تكون الغاية قيدا للحكم ، فكذلك سائر الأمثلة التي جعلت فيها الغاية غاية بعد اسناد المحمول إلى موضوعه.

وكون الغاية قيد للموضوع - وأخرت عن الجملة لعدم امكان تقديمها - لا يصغى إليه ، لامكان تبديل هذا التركيب إلى آخر بان يقال : الصيام إلى الليل أتمه ، والسير من البصرة إلى الكوفة أوجده ، فجعل الغاية بعد اسناد المحمول إلى الموضوع كاشف عن رجوعها إلى الجملة ، لا إلى مفردات الكلام.

وبالجملة : ظاهر القضية بحسب القواعد العربية رجوع الغاية إلى اسناد المحمول إلى الموضوع ، فكأنه جعل وجوب اتمام الصيام مغيى بغاية الليل ، فيقتضى رجوع الغاية إلى الحكم انتفائه عما بعد الغاية ، وينفى ثبوت حكم آخر من سنخ هذا الحكم لليل.

الفصل الرابع : في مفهوم الحصر

لا يخفى : ان النزاع فيه أيضا يرجع إلى أن الحصر حصر للحكم ، أو للموضوع. ولا اشكال في أن مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد. وما نقل عن نجم الأئمة : ان رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء منحصر بان يخرج المستثنى قبل الاسناد ، كلام لا ينبغي صدوره عن جنابه ، لأنه لا تناقض ابدا بين المستثنى منه والمستثنى حتى يتوقف رفعه على جعل الاخراج قبل الاسناد ، لان الكلام يحمل على ما هو ظاهر فيه بعد تماميته بمتمماته : من لواحقه وتوابعه ، بل لو عول المتكلم على بيان مرامه بقرينة منفصلة لا تعد القرينة مناقضة لذي القرينة.

ص: 505


1- البقرة ، 178

وبالجملة : هذا التناقض المتوهم يجرى بين قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات ، مع ذي القرائن والعمومات والمطلقات ، ولا اختصاص له بباب الاستثناء ، مع أنه لا وقع لهذا التوهم أصلا. فاخذ الاخراج قبل الاسناد الذي يرجع في المآل إلى أن كلمة ( الا ) صفتية وبمعنى الغير لا استثنائية ، لا وجه له ، بعد ظهورها في الاستثنائية في القضايا المتعارفة ، لأنها لو كانت صفتية لاقتضى مجيء الاستثناء قبل الحكم ، بان يقال : القوم الا زيد أي الموصوف بغير زيد جاؤوا ، كما ورد هكذا في الآية المباركة : لو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا.

وبالجملة : فالنزاع في الحقيقة راجع في قوله : جاء القوم الا زيد - إلى أن قوله ( الا زيد ) من قيود القوم؟ حتى تكون ( الا ) صفتيه ، فيكون محصل المعنى : ان القوم الذين هم غير زيد جاءوا ، فلا يكون لهذه القضية مفهوم ، لان اثبات حكم لموضوع خاص لا يدل على انتفاء سنخه عن غير هذا الموضوع. أو من قيود الحكم؟ حتى تكون ( الا ) استثنائية ويكون للقضية مفهوم ، لان اثبات حكم القوم واخراج زيد عن هذا الحكم الثابت لعشيرته مع أنه منهم موضوعا عين المفهوم ، لان المدعى ليس الا دلالة القضية على عدم ثبوت الحكم المذكور للقوم نفيا واثباتا لزيد وخروج حكمه عن حكمهم. وعلى هذا فلا اشكال انه إذا قال : له على عشرة الا درهما فهو اقرار بالتسعة ، ولو قال : له على عشرة الا درهم بالرفع فهو اقرار بالعشرة ، لان مقتضى القواعد العربية التي يجب حمل كلام المتكلم عليها لا على الغلط ان يجعل الدرهم بالرفع صفة للعشرة ، فكأنه قال : العشرة التي هي غير الدرهم على ، هذا في الاثبات. واما في النفي فحيث انه يجوز الوجهان في الاستثناء الواقع بعده ، فلو قال : ما له على عشرة الا درهم أو الا درهما ، فيحمل على اقراره بالدرهم ، فما أفادوه في أنه على النصب لم يكن اقرارا بشيء لا وجه له.

والعجب مما يحكى عن (1) المسالك ، فإنه مع اعترافه بان كلمة الا

ص: 506


1- راجع المسالك ، المجلد الثاني ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ، ما افاده في شرح قول المحقق قدس سره في الشرايع « ولو قال : ماله عندي شيء الا درهم كان اقرارا بدرهم .. » ص 171

استثناء حمله على الاخراج قبل الاسناد فكان النفي دخل على المستثنى والمستثنى منه ، ومرجع الكلام إلى أن المقدار الذي هو عشرة الا درهما ليس على ، وبعبارة أخرى : التسعة ليس على ، لان العشرة الا الدرهم هي التسعة. ولا يخفى : انه مع كون كلمة ( الا ) استثنائية لا يعقل ان يكون الاخراج قبل الاسناد ، فإنها يكون حينئذ وصفية ، ورفع اشكال التناقض ليس باخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الاسناد. وبالجملة : مع أن القواعد العربية تساعد النصب بعد النفي أيضا ، فحمل ( الا ) على الوصفية لا وجه له. ومجرد كونه مطابقا لأصل البراءة لا يقتضى صرف الكلام عن ظاهره واخراجه عن كونه اقرارا ، فما افاده في الجواهر (1) هو الأقوى ، وهو ثبوت الدرهم على كل تقدير من الرفع والنصب.

ثم لا يخفى : انه يمكن ان يكون منشأ توهم أبي حنيفة : كون الموضوع له للفظة ( الا ) هو الأعم من الصفتية والاستثنائية ، والا فإنها لو كانت موضوعة للاستثناء لم يمكن توهم عدم ثبوت المفهوم للقضية. والأمثلة التي ذكرها لعدم الإفادة هي في الإفادة أظهر من عدمها ، لان قوله علیه السلام (2) لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، أو الا بطهور - مثلا - لو كان المراد من الصلاة هي الجامعة لجميع الشرائط الا الطهور ، فيفيد نفى الصلواتية عن فاقدة الطهور كون الصلاة المفروضة ( أي الجامعة مع الطهور ) صلاة ، ولا محذور فيه. ولو كان المراد من الصلاة الأعم من الجامع والفاقد فاثبات الصلواتية بمجرد وجدان الطهارة وحدها أيضا لا محذور فيه ، لان معناه ان الصلاة من هذه الجهة صلاة ، ولا ينافي عدم كونها كذلك من جهة فقد سائر الشروط والاجزاء. وبعبارة أخرى : بناء عليه ، الحصر إضافي ولا بأس به.

فتحصل مما ذكرنا : ان القيد لو كان راجعا إلى عقد الوضع والحمل ، أي كان التقييد قبل الاسناد ، فبانتفاء الموضوع المقيد أو المحمول المقيد لا ينتفى الحكم عن موضوع آخر ، وانتفاء الحكم عن هذا الموضوع عقلي لا ربط له بالمفهوم. والسر في

ص: 507


1- جواهر الكلام الجزء 35 ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ص 88
2- المستدرك الجلد الأول الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة الحديث 5 ص 274

ذلك : ان التقييد لا يوجب الا تضييق دائرة الموضوع أو المحمول ، وثبوت حكم لموضوع خاص لا يلازم انتفائه عن موضوع آخر. ولو كان راجعا إلى الحكم - أي المتحصل من الجملة أي كان التقييد في رتبة الاسناد - فالحكم المقيد ينتفى بانتفاء قيده بالملازمة ، وهذا هو المفهوم. ولا فرق فيما ذكرنا بين مفهوم الغاية ، والحصر ، أو غيرهما.

نعم : لا يمكن في باب الشرط ارجاع القيد إلى الموضوع ، لان أداة التعليق وضعت لتعليق جملة على جملة ، فمرجع النزاع فيه إلى كون القضية مسوقة لغرض وجود الموضوع ، أو لتحديد الحكم. فعلى هذا لو رجع الحصر إلى الاسناد - وكان الاخراج في رتبة قوله : جاء القوم الا زيدا - يدل على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ، ومحل النزاع انما هو في ( الا ) الاستثنائية لا الوصفية ، فالقول بعدم دلالة القضية على المفهوم مرجعه إلى استعمال ( الا ) الاستثنائي في الوصف ، والمصير إليه من دون قرينة عليه لا وجه له.

ثم إن هنا اشكالا ، في إفادة كلمة ( لا إله إلا اللّه ) التوحيد ، وحاصله : ان خبر ( الا ) لو قدر ( موجود ) فلا دلالة لهذه الكلمة على عدم امكان اله آخر ، ولو قدر ( ممكن ) فلا دلالة لها على وجود الباري تعالى وان دلت على عدم امكان آلهة أخرى.

ولا يخفى : ان هذا الاشكال انما نشأ من قول أكثر النحويين ان خبر ( لا ) مقدر ، ولذا عدوها من نواسخ المبتدأ والخبر ، وجعلوا الفرق بين لا النافية للجنس ولا المشبهة بليس ، هو الفرق بين لولا الغالبية ولولا الغير الغالبية ، فان لولا الغالبية حيث إن خبرها من أفعال العموم أي الوجود المطلق ، فيجب ان يكون محذوفا كقوله : لولا علي لهلك عمر ، ومنشأ وجوب حذفه دلالة الكلام عليه ، فيكون ذكره لغوا ، كحذف الفاعل في فعل الامر ، والمضارع المخاطب منه ، والمتكلم وحده ، ومع الغير. ولولا الغير الغالبية حيث إن خبرها فعل خاص وجب ذكره كقوله علیه السلام : لولا قومك حديثوا عهد بالاسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين. وقالوا : ان لولا الغالبية هي لا النافية للجنس المركبة مع لو ، وغيرها هي المشبهة بليس المركبة مع لو.

ص: 508

وبالجملة : ( لولا ) على قسمين : قسم يمتنع فيها جوابها بمجرد وجود المبتدأ بعدها ، وهذا القسم لا بد ان يكون خبر المبتدأ وهو الكون المطلق ، نحو لولا على ، ويجب ان يكون محذوفا لتعيين المحذوف. وقسم يمتنع فيها جوابها لا بمجرد وجود المبتدأ ، بل لنسبة الخبر إلى المبتدأ ، وهذا القسم خبر المبتدأ امر خاص ، ويجب ان يذكر ، الا ان يدل قرينة عليه. ولا النافية للجنس هي لولا الغالبية ، فيجب ان يكون خبره الوجود المطلق المحذوف ، فيكون معنى ( لا إله إلا اللّه ) لا اله موجود.

وحاصل الكلام : حيث إنهم عدوا كلمة ( لا ) من نواسخ المبتدأ والخبر فالتجأوا إلى تقدير الخبر. ولكن الالتزام بذلك بلا موجب ، فان كلمة ( لا ) كما وضعت لمعنى حرفي رابطي ، كذلك وضعت لمعنى استقلالي ، وهو نفى الحقيقة والهوية ، أي وضعت تارة : للنفي الربطي وعدم وصف لموضوع ، وأخرى : لنفى المحمول ، أي عدم الشيء. كما أن الافعال الناقصة ، مثل ( كان ) قد تكون ناسخة وهي الرابطة الزمانية ، وقد تكون تامة وغير محتاجة إلى الخبر ، بل قيل ( ان ) النافية من الافعال الناقصة كليس أيضا لها جهتان : ربطي ، وهو ليس الناقصة ، وغير ربطي ، وهو ليس التامة. وهذا الكلام في ( ليس ) وان لم يكن بصحيح ، بل ليس وضعها الا وضع الحروف ، ربطي صرف وضعت لنفى شيء عن موضوع في الحال ، واستعمالها في نفى الوجود مسامحة ، الا ان هذا التقسيم للأفعال الناقصة التي وضعها وهيئتها كهيئة الافعال تام ، فإنها قد تكون زمانية ، وأخرى منسلخة عنها وتكون أداة ربطية. وعلى أي حال : فلا النافية للجنس ، حيث إنها وضعت لنفى هوية الشيء المعراة عن الوجود والعدم ، فلا خبر لها ، لا انه محذوف دل عليه الكلام ، فيصير معنى الكلمة الشريفة نفى هوية واجب الوجود واثباته لذاته تعالى ، ونفى واجب الوجود واثبات فرد منه هو عين التوحيد ، لان غيره لو كان واجب الوجود لوجب وجوده لوجوبه ذاتا ، فلو لم يكن غيره تعالى واجب الوجود ، فاما : ممتنع الوجود ذاتا ، واما : ممكن الوجود ذاتا ، وكلاهما ليسا بواجب الوجود ذاتا ، فانحصر الواجب فيه تعالى.

وعلى أي حال : سواء قلنا بتقدير خبر لا ، أو لم نقل به لعدم احتياجه إليه ، لا يرد الاشكال على كلمة التوحيد ، اما بناء على عدم التقدير فلما ذكرنا ، واما بناء

ص: 509

عليه فكذلك ، سواء قدر ممكن ، أو موجود ، لان المراد من الاله المنفى هو واجب الوجود. فلو قدر ممكن فنفى الامكان عن غيره تعالى واثبات الامكان له مساوق لوجوده تعالى ، لأنه لو أمكن وجوده لوجب ، لأن المفروض انه واجب الوجود ، فلو لم يمتنع لوجب. ولو قدر موجود فنفى الوجود عن غيره ملازم لامتناع غيره ، لأنه لو لم يمتنع لوجب وجوده بالملازمة التي بيناها : من أنه لو خرج الشيء عن الامتناع وأمكن لوجب وجوده ، لأن المفروض انه واجب الوجود.

ثم انه لا اشكال في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، كإفادة الاستثناء له ، اما : لأنه بمعنى ما والا ، واما : لأنها مركبة من كلمة ( ان ) التي للتحقيق واثبات الشيء وكلمة ( ما ) التي لنفى الشيء ، والنفي يرد على تالي انما ، والاثبات على الجزء الآخر. وقوله علیه السلام : انما الأعمال الخ بمنزلة لا عمل الا بنية. نعم سائر أداة الحصر مثل ( بل ) وتعريف المسند إليه ، فأفادتها له انما هي بقرائن المقام ، لا الوضع ، ولا القرينة العامة.

ص: 510

المقصد الرابع : في العام والخاص

اشارة

وفيه مباحث. وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

العموم هو الشمول وسريان المفهوم لجميع ما يصلح الانطباق عليه. وهذا الشمول والسريان قد يكون مدلولا لفظيا ، وقد يكون بمقدمات الحكمة. والمقصود بالبحث في المقام هو الأول ، لان المتكفل للبحث عن الثاني هو مبحث المطلق والمقيد. ولا فرق بين هذين القسمين من الشمول سوى انه عند التعارض يقدم الشمول اللفظي على الشمول الاطلاقي ، لان الشمول اللفظي يصلح ان يكون بيانا للمطلق الذي علق الحكم فيه على الطبيعة ، فلا تجرى فيه مقدمات الحكمة. وسيجيئ توضيحه في بعض المباحث الآتية. والغرض في المقام : هو بيان ان البحث انما هو في الشمول الذي يكون مدلولا لفظيا ، المعبر عنه بالعام الأصولي ، في مقابل الاطلاق الشمولي ، كلفظة ( كل ) وما رادفها ، من أي لغة كان ، حيث إن الشمول في مثل ذلك مدلول للفظ بحسب الوضع. وبعد ما عرفت : من أن معنى العموم هو الشمول اللفظي ، فلا حاجة إلى اتعاب النفس وتعريف العموم بما لا يسلم عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس ، فان مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى التعريف.

الامر الثاني :

قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ونزيده في المقام وضوحا ، لابتناء كثير من المباحث الآتية على ذلك.

فنقول : القضية الحقيقية ، هي ما كان الحكم فيها واردا على العنوان

ص: 511

والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج ، بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع لها. وبذلك تمتاز القضية الحقيقية عن القضية الطبيعية ، حيث إن الحكم في القضية الطبيعية وارد على نفس الطبيعة ، لا بلحاظ وجودها الخارجي ، بل بلحاظ تقررها العقلي ، كما في قولك : الانسان نوع ، أو كلي ، وغير ذلك من القضايا الطبيعية. وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فان الحكم فيها وان رتب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقررها العقلي ، بل بلحاظ تقررها الخارجي ، وهو معنى لحاظ العنوان مرآة لما في الخارج.

ومما ذكرنا ظهر : المايز بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية أيضا ، فان الحكم في القضية الحقيقية كما عرفت مترتب على الخارج بتوسط العنوان ، واما في القضية الخارجية فالحكم فيها ابتداء مترتب على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فان الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضا انما يكون مترتبا على الافراد الخارجية ابتداء ، من دون ان يكون هناك بين الافراد جامع اقتضى ترتب الحكم عليها بذلك الجامع ، كما في القضية الحقيقية. ولو فرض ان هناك جامعا بين الافراد الخارجية فإنما هو جامع اتفاقي ، كما في قولك : كل من في العسكر قتل ، وكل ما في الدار نهب ، فان قولك : كل من في العسكر قتل ، بمنزلة قولك : زيد قتل ، عمرو قتل ، وبكر قتل ، وليس بين قتل زيد وعمرو وبكر جامع عنواني اقتضى ذلك الجامع قتل هؤلاء ، بل اتفق ان كلا من زيد وعمرو وبكر كان في المعركة ، واتفق انهم قتلوا ، وأين هذا من القضية الحقيقية التي يكون فيها جامع بين الافراد؟ بحيث متى تحقق ذلك الجامع ترتب الحكم ، سواء في ذلك الافراد الموجودة والتي توجد بعد ذلك. ولأجل ذلك تقع القضية الحقيقية كبرى لقياس الاستنتاج ، وتكون النتيجة ثبوتا واثباتا موقوفة على تلك الكبرى ، بحيث يتوصل بتلك الكبرى بعد ضم الصغرى إليها إلى امر مجهول يسمى بالنتيجة ، كما يقال : هذا خمر وكل خمر يحرم ، فان حرمة هذا الخمر انما يكون ثبوتا موقوفا على حرمة كل خمر ، كما أن العلم بحرمة هذا الخمر يكون موقوفا على العلم بحرمة كل خمر ، فالعلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، اما العلم بكلية الكبرى فلا يتوقف

ص: 512

على العلم بالنتيجة ، بل العلم بكلية الكبرى يكون موقوفا على مباد اخر : من عقل ، أو كتاب ، أو سنة.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فإنها لا تقع كبرى القياس بحيث تكون النتيجة موقوفة عليها ثبوتا ، وان كان قد يتوقف عليها اثباتا ، كما يقال للجاهل بقتل زيد : زيد في العسكر ، وكل من في العسكر قتل ، فزيد قتل ، فان العلم بقتل زيد وان كان يتوقف على العلم بقتل كل من في العسكر الا انه لا يتوقف على ذلك ثبوتا ، إذ ليس مقتولية كل من في العسكر علة لمقتولية زيد ، بل علة مقتولية زيد هو امر آخر بملاك يخصه ، فالقضية الكلية الخارجية ليست كبرى لقياس الاستنتاج بحيث تكون كليتها علة لتحقق النتيجة.

ومما ذكرنا ظهر : اندفاع الدور الوارد على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج ، فان منشأ توهم الدور ليس الا تخيل توقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة ، مع أن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والحال انه قد عرفت ان العلم بكلية الكبرى في القضايا الحقيقية لا يتوقف على العلم بالنتيجة ، بل يتوقف على مباد أخر : من عقل أو كتاب ، أو سنة ، أو اجماع.

والقضايا المعتبرة في العلوم انما هي القضايا الحقيقية ، ولا عبرة بالقضايا الخارجية ، لان القضية الخارجية وان كانت بصورة الكلية ، الا انها عبارة عن قضايا جزئية لا يجمعها عنوان كلي ، كما عرفت. فالقياس الذي يتألف من كبرى كلية على نهج القضية الحقيقية لايكون مستلزما للدور ، لما تقدم من أن النتيجة ثبوتا واثباتا تتوقف على كلية الكبرى ، ولا عكس. والقياس الذي يتألف من قضية خارجية أيضا لا يستلزم الدور ، فان النتيجة ثبوتا لا يتوقف على الكبرى ، بل ثبوت النتيجة له مبادئ أخر لا ربط لها بالكبرى ، على عكس نتيجة القضية الحقيقية.

وكان من توهم الدور في الشكل الأول قد خلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والحال انه قد عرفت انه لا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى. وقد وقع الخلط في عدة موارد بين القضيتين ، قد أشرنا إلى جملة منها في الشرط المتأخر ، وسيأتي جملة منها في محله أيضا.

ص: 513

ثم إن العموم والكلية كما تكون على نهج القضية الحقيقية وعلى نهج القضية الخارجية ، كذلك التخصيص تارة : يكون تخصيصا أنواعيا ، وأخرى : يكون تخصيصا افراديا ، سواء كان التخصيص بالمتصل أو بالمنفصل. والتخصيص الانواعي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الحقيقية ، كما أن التخصيص الافرادي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الخارجية ، بل القضية الخارجية لا تصلح الا للتخصيص الافرادي ، لما عرفت : من أن القضية الخارجية ما ورد الحكم فيها على الافراد ، فالتخصيص فيها انما يكون تخصيصا أفراديا ، ولو فرض ان المخصص سيق بصورة الأنواعي ، كما لو قال : كل من في العسكر قتل الا من كان في الجانب الشرقي ، فالمراد به أيضا الافرادي ، فهو بمنزلة قوله : الا زيد وعمرو وبكر ، كما أن أصل القضية كانت بهذا الوجه.

نعم : القضية الحقيقية تصلح لان يرد عليها المخصص الافرادي ، كما تصلح لان يرد عليها المخصص الأنواعي. ولا اشكال في أن التخصيص الأنواعي انما يهدم اطلاق مصب العموم ومدخوله ، واما التخصيص الافرادي فهو كذلك ، أي يرد على مصب العموم ، أو انه يرد على نفس العموم ويوجب هدمه ، ويكون التصرف في ( كل ) لا في ( العالم ) في قولك : أكرم كل عالم. والنتيجة وان كانت واحدة الا ان الصناعة اللفظية تختلف. وعلى كل حال : لما كانت الأحكام الشرعية كلها على نهج القضايا الحقيقية ، كان التخصيص الوارد في الأحكام الشرعية كلها من التخصيصات الأنواعية ، الا ما كان من قبيل خصائص النبي صلی اللّه علیه و آله .

الامر الثالث :

قسموا العموم إلى : عموم استغراقي ، وعموم مجموعي ، وعموم بدلي الذي هو بمعنى أي. وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أن العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافى الشمول لا تخلو عن مسامحة. وعلى كل تقدير : العموم بمعنى الشمول ليس الا الاستغراقي والمجموعي ، وتقسيم العموم إلى هذين القسمين ليس باعتبار معناه الافرادي بحيث يكون التقسيم إلى ذلك باعتبار وضع العموم بمعناه الافرادي ، بل التقسيم إلى ذلك انما يكون باعتبار الحكم ، حيث إن الغرض من الحكم تارة : تكون

ص: 514

على وجه يكون لاجتماع الافراد دخل ، بحيث تكون مجموع الافراد بمنزلة موضوع واحد ، وله إطاعة واحدة باكرام جميع افراد العلماء ، في مثل قوله : أكرم كل عالم ، وعصيانه يكون بعدم اكرام فرد واحد. وأخرى : يكون الغرض على وجه يكون كل فرد فرد من العالم موضوعا مستقلا ، وتتعدد الإطاعة والعصيان حسب تعدد الافراد ، وذلك أيضا واضح ، لان العموم بمعناه الافرادي بحسب الوضع ليس الا الشمول ، فالتقسيم إلى المجموعية والاستغراقية انما هو باعتبار ورود الحكم على العموم.

ثم انه ان كان هناك قرينة على أن المراد هو الاستغراقي أو المجموعي فهو ، والا فالأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية ، لان المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعا واحدا. وهذا من غير فرق بين اقسام العموم ، سواء كان العموم مدلولا اسميا للأداة ، ككل وما شابها ، أو عرفيا ، كالجمع المحلى باللام ، بناء على أن العموم وتعيين أقصى مراتب العلماء في قوله : أكرم العلماء ، انما هو لإفادة الألف واللام ذلك ، حيث لايكون هناك عهد - ويلحق بذلك الأسماء التي تتضمن المعنى الحرفي ، كأسماء الاستفهام والشرط - أو سياقيا كالنكرة الواقعة في سياق النفي بلاء النافية للجنس ، فان العموم في جميع هذه الأقسام انما يكون على نحو العموم الاستغراقي الانحلالي ، ولا يحمل على المجموعي الا إذا قامت قرينة على ذلك ، والسر في ذلك واضح.

اما في مثل - أكرم كل عالم - مما كان العموم فيه معنى اسميا ، فان مفاد ( كل ) انما هو استيعاب ما ينطبق عليه مدخولها ، والمدخول ينطبق على كل فرد فرد من افراد العالم ، فهي تدل على استيعاب كل فرد فرد من افراد العالم ، وهو معنى الاستيعاب الانحلالي.

واما العموم السياقي فكذلك ، فان العموم انما يستفاد من ورود النفي أو النهى على الطبيعة وهو يقتضى انتفاء كل ما يصدق عليه الطبيعة وتنطبق عليه ، وكل فرد فرد من افراد الجنس مما تنطبق عليه الطبيعة ، فيقتضى انتفاء كل فرد فرد ، وهو معنى الاستغراق.

واما العموم المستفاد من الجمع المحلى باللام وما يلحق به من الأسماء

ص: 515

المتضمنة للمعاني الحرفية ، فقد يتوهم ان ظاهره يقتضى المجموعي ، لان مدخول اللام هو الجميع ، فان مثل زيدون ، أو علماء ، لا ينطبق على كل فرد فرد ، بل ينطبق على كل جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق ، وغاية ما يستفاد من اللام ، هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب مع حفظ معنى الجمعية ، فاللام توجد معنى في المدخول كان فاقدا له ، وهو أقصى المراتب ، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفية التي توجد معنى في الغير ، وذلك يقتضى العموم المجموعي ، لا الاستغراقي.

وقد أفاد شيخنا الأستاذ مد ظله في دفع التوهم بما حاصله : ان أداة العموم من الألف واللام ان كان نفس الجمع ، بحيث كان ورود أداة العموم متأخرا عن ورود أداة الجمع : من الألف والتاء ، والواو والنون ، على المفرد لكان للتوهم المذكور مجال ، ولكن كيف يمكن اثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد انما يكون في مرتبة واحدة ، فالألف واللام تدل على استغراق افراد مدخولها ، وهو المفرد ، غايته انه لا مطلق المفرد حتى يقال : ان المفرد المحلى باللام لا يدل على العموم ، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم. والحاصل : ان مبنى الاشكال انما هو ورود أداة العموم على الجمع ، واما لو كانت أداة العموم واردة على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع ، فأداة العموم تدل على استغراق افراد ذلك المفرد ، ويكون حال الجمع المحلى باللام حال ( كل ) في الدلالة على استغراق الافراد على نحو الانحلال ، فتأمل. فان المقام يحتاج إلى بيان آخر.

الامر الرابع :

ذهب بعض إلى أن تخصيص العام يوجب المجازية مطلقا ، وبعض قال بذلك في خصوص المنفصل. وعليه رتبوا عدم حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، لاجماله بعد تعدد مراتب المجاز.

والحق : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، كما أن تقييد المطلق لا يقتضى ذلك ، وان قال به من تقدم على سلطان المحققين (رحمه اللّه) وقد استقرت طريقة المحققين من المتأخرين على عدم اقتضاء التخصيص والتقييد للمجازية. اما تقييد المطلق : فسيأتي الكلام فيه في محله انشاء اللّه.

ص: 516

واما تخصيص العام : فقد أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية ان العام لم يستعمل الا في العموم ، غايته ان العموم ليس بمراد بالإرادة الجدية النفس الامرية ، فالتخصيص انما يقتضى التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، والحقيقة المجاز انما تدور مدار الاستعمال ، لا مدار الإرادة الواقعية ، ففي مثل أكرم كل عالم لم تستعمل أداة العموم الا في الاستغراق واستيعاب جميع افراد العالم ، غايته انه لم تتعلق الإرادة الجدية باكرام جميع الافراد ، بل تعلقت الإرادة باكرام ما عدى الفاسق ، والمصلحة اقتضت عدم بيان المراد النفس الأمري متصلا بالكلام فيما إذا كان المخصص منفصلا ، ويكون العام قد سيق لضرب القاعدة ، ليكون عليه المعول قبل بيان المخصص والعثور عليه.

وبذلك وجه الشيخ ( قده ) (1) في مبحث التعادل والتراجيح ، العمومات الواردة في لسان الأئمة السابقين علیهم السلام ، والمخصصات الواردة في لسان الأئمة اللاحقين علیهم السلام ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله لم يرتض هذا الوجه. وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان حقيقة الاستعمال ليس الا القاء المعنى بلفظه ، بحيث لايكون الشخص حال الاستعمال ملتفتا إلى الألفاظ ، بل هي مغفول عنها ، وانما تكون الألفاظ قنطرة ومرآة إلى المعاني ، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، فالمستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، والا كان هازلا. ودعوى : ان العام قد سيق لبيان ضرب القاعدة مما لا محصل لها ، فان أداة

ص: 517


1- فرائد الأصول ، مبحث التعادل والتراجيح المقام الرابع المسألة الأولى ، ص 433. قال قدس سره : « فالأوجه هو الاحتمال الثالث ( كون المخاطبين بالعام تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا ) فكما ان رفع مقتضى البراءة العقلية ببيان التكليف كان على التدريج كما يظهر من الاخبار والآثار مع اشتراك الكل في الاحكام الواقعية ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز ان يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات وان كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك. »

العموم والمدخول انما سيقت لبيان الحكم النفس المري ، وليست القاعدة جزء مدلول الأداة ولا جزء مدلول المدخول.

نعم : قد يعبر عن العام بالقاعدة ، الا ان المراد من القاعدة هي القاعدة العقلائية : من حجية الظهور ، وأصالة العموم. وقد تكون القاعدة مجعولة شرعية ، كاصالة الطهارة والحل ، وأمثال ذلك من الاحكام الظاهرية. وأين هذا من العام المسوق لبيان الحكم الواقعي؟ والحاصل : ان تفكيك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا محصل له ، بل العام قبل ورود التخصيص عليه وبعده يكون على حد سواء في تعلق الإرادة به وان هناك إرادة واحدة متعلقة بمفاده ، فهذا الوجه ليس بشئ.

بل التحقيق ، هو ان يقال : ان كل من أداة العموم ومدخولها لم يستعمل الا في معناه ، والتخصيص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل ، وسواء كان التخصيص أنواعيا أو أفراديا ، وسواء كانت القضية حقيقية أو خارجية ، لا يوجب المجازية ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

اما في الأداة : فلان الأداة لم توضع الا للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول ، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول ، أو ضيقه. فلا فرق بين ان يقال : أكرم كل عالم ، وبين ان يقال : أكرم كل انسان ، فان لفظة ( كل ) في كلا المقامين انما تكون بمعنى واحد ، مع أن الثاني أوسع من الأول وذلك واضح.

واما في المدخول : فلان المدخول لم يوضع الا للطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية ، فالعالم مثلا لايكون معناه الا من انكشف لديه الشيء ، من دون دخل العدالة ، والفسق ، والنحو ، والمنطق فيه أصلا. فلو قيد العالم بالعادل أو النحوي أو غير ذلك من الخصوصيات والأنواع ، لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ العالم ، لأنه لم يرد من العالم الا معناه ولم يستعمل في غير من انكشف لديه الشيء ، والخصوصية انما استفيدت من دال آخر. وعلى هذا لا يفرق الحال بين ان يكون القيد متصلا بالكلام ، أو منفصلا ، أو لم يذكر تقييد أصلا لا متصلا ولا منفصلا ، ولكن كان المراد من العالم هو العالم العادل مثلا ، فإنه في جميع ذلك لم يستعمل العالم الا في

ص: 518

معناه ، فمن أين تأتى المجازية؟ وأي لفظ لم يستعمل في معناه؟ حتى يتوهم المجازية فيه. وهذا في التخصيص الأنواعي واضح لا سترة فيه.

نعم : في التخصيص الافرادي ربما يتوهم استلزامه المجازية ، سواء كان ذلك في القضية الحقيقية أو في القضية الخارجية ، من جهة ان التخصيص الافرادي لا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة كما في التخصيص الأنواعي ، من جهة ان المدخول كما تقدم لم يوضع الا للطبيعة ، فالتخصيص الافرادي انما يصادم نفس الأداة ، حيث إن الأداة موضوعة لاستيعاب افراد المدخول ، والتخصيص الافرادي يوجب عدم استيعاب الافراد ، فيلزم استعمال لفظ الأداة في خلاف ما وضع له. والذي يدل على وضع الأداة لاستيعاب افراد المدخول هو تقديم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، بعد اشتراكهما في الحاجة إلى مقدمات الحكمة لسريان الحكم إلى جميع الأنواع ، ولكن بالنسبة إلى افراد النوع الواحد يكون السريان مدلولا لفظيا في العام الأصولي ، وبحسب مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي ، فيكون زيد العالم الفاسق الذي تعارض فيه قوله : أكرم عالما ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، مندرجا تحت العام الأصولي بالدلالة اللفظية ، وتحت الاطلاق الشمولي بمقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح للبيان ، والدلالة اللفظية في العام الأصولي تصلح ان تكون بيانا ، فيحكم في المثال المتقدم بعدم وجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، فتأمل.

وهذا لايكون الا من جهة ان لفظ ( كل ) يدل على استيعاب الافراد. فيكون التخصيص الافرادي مصادر ما لمفاد الأداة واستعمالا لها في خلاف ما وضعت له. هذا. ولكن الأقوى : ان التخصيص الافرادي أيضا لا يوجب المجازية. اما في القضية الحقيقية : فلان الافراد ليست مشمولة للفظ ابتداء ، بحيث يكون مثل أكرم كل عالم بمدلوله اللفظي يدل على اكرام زيد ، وعمرو ، وبكر ، وغير ذلك ، والا لما احتجنا في القضية الحقيقية إلى تأليف القياس ، واستنتاج حكم الافراد من ضم الكبرى إلى الصغرى.

والحاصل : ان كل فرد في القضية الحقيقية انما يعلم حكمه وبواسطة تأليف القياس وتطبيق الكبرى الكلية عليه ، فهذا يدل على أن اللفظ بنفسه ابتداء لا يدل على

ص: 519

حكم الافراد ، بل التخصيص الافرادي أيضا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة. والسر في تقدم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، ليس من جهة ان العام الأصولي بنفسه متكفل لحكم الافراد ابتداء ، بل التقدم من جهة ان القضية الشرطية التي تتكفلها القضية الحقيقة في الاطلاق الشمولي انما تكون بمقدمات الحكمة ، وفي العام الأصولي انما تكون مفاد نفس اللفظ. مثلا في مثل أكرم العالم اللفظ لا يدل على أزيد من وجوب اكرام الطبيعة ، واما الشمول والاستيعاب ، بحيث كلما وجد في العالم عالم يجب اكرامه فإنما يستفاد من مقدمات الحكمة ، واما مفاد مثل أكرم كل عالم فهو بنفسه يدل على أنه كلما وجد في العالم عالم فأكرمه بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. فالفرق بين العام الأصولي والاطلاق الشمولي هو هذا ( فتأمل ) لا ان العام الأصولي ابتداء يدل على شمول الافراد ، حتى يكون التخصيص الافرادي موجبا لاستعمال أداة العموم في غير ما وضعت له ، بل التخصيص الافرادي كالأنواعي يرد على المصب ويضيق دائرته. هذا في القضية الحقيقية.

واما التخصيص الافرادي في القضية الخارجية : فالتوهم المذكور وان كان فيها أمس من جهة ان القضية الخارجية ابتداء متكفلة لحكم الافراد ، بلا حاجة إلى تأليف القياس ثبوتا وان احتاج إليه في بعض الأحيان اثباتا ، كما تقدم ، الا انه مع ذك التخصيص الافرادي في القضية الخارجية لا يوجب المجازية أيضا ، للعلم بان استعمال أداة العموم ومدخولها في القضية الحقيقية الخارجية انما يكون بنهج واحد ، وليس للأداة في القضية الخارجية وضع واستعمال مغاير لوضع الأداة واستعمالها في القضية الحقيقية. وانقسام القضية إليهما ليس باعتبار اختلاف الوضع والاستعمال ، بل الاختلاف انما يكون باعتبار اللحاظ ، حيث لحاظ الافراد الموجودة الفعلية في القضية الخارجية ، وعدم لحاظ الموجودة بالفعل في القضية الحقيقية. واختلاف اللحاظ انما يكون باختلاف الملاك في القضيتين ، حيث إن الملاك الذي أوجب ترتب المحمول على الموضوع في القضية الحقيقية انما يكون مطردا في جميع افراد الموضوع ، ليس هناك الا ملاك واحد قائم بالجميع ، سواء كانت موجودة بالفعل أو الذي توجد بعد ذلك. بخلاف الملاك في القضية الخارجية ، فان

ص: 520

هناك ملاكات متعددة حسب تعدد الافراد ، فإذا لم يختلف كيفية الوضع والاستعمال في القضيتين ، فكيف يوجب التخصيص المجازية في الخارجية ولا يوجبه في الحقيقية؟ فالتخصيص الافرادي في القضية الخارجية أيضا يرد على المصب والمدخول ويوجب تضييق دائرته.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، وانما هو يوجب تضييق دائرة المصب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل.

ومما ذكرنا ، ظهر المناقشة فيما افاده الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) في وجه حجية العام فيما بقى بعد التخصيص ، بعد تسليم المجازية : من أن دلالة العام على كل فرد غير منوطة بالدلالة على الافراد الاخر إلى آخر ما ذكره ( قده ) فإنه يرد على ظاهر ما افاده : ان العام لا دلالة له على الافراد في القضية الحقيقية ، وانما يكون الدلالة على الافراد في القضية الخارجية ، الا ان يكون مراده من الافراد الأنواع ، أو يكون كلامه في الخارجية. مع أنه لم يظهر وجه تسليمه المجازية ، فإنه لا يمكن توجيه المجازية بوجه من الوجوه. هذا كله ، مضافا إلى ما أورد عليه : من أنه بعد تسليم المجازية لا مجال لدعوى بقاء دلالة العام على الافراد الباقية من جهة ان دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الافراد الاخر. وذلك لان دلالة العام على الافراد الباقية انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت ضمنية ، لان العام حسب الفرض كان

ص: 521


1- مطارح الأنظار ، مبحث العام والخاص ، هداية 1 ص 190. قوله : « والأولى ان يجاب بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي انما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لان المانع في مثل المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حد ساير المجازات حتى يحتاج إلى معين آخر بعد الصرف مع تعددها ، فان الباقي متعين على حسب تعين الجميع عند عدم المخصص مطلقا. »

موضوعا لجميع الافراد على نحو الاجتماع ، كما هو لازم تسليم المجازية ، والتخصيص يوجب عدم بقاء دلالته على الجميع ، والدلالة على الباقي لم تكن مستقلة حتى تبقى بعد التخصيص ، هذا.

ولكن يمكن توجيه مقالة الشيخ ( قده ) بما لا يرد عليه ذلك ، بتقريب : ان توهم المجازية في العام المخصص لايكون الا بدعوى : ان المركب من الأداة والمدخول موضوع لجميع الافراد ، بحيث يكون للمركبات وضع وراء وضع المفردات. فإنه لا تستقيم دعوى المجازية الا بذلك. وحينئذ نقول : لو سلمنا هذه الدعوى الفاسدة ، فغاية ما يلزم من التخصيص هو خروج بعض افراد الموضوع له عن العموم ، ولكن خروج بعض الافراد لا يقتضى عدم دلالة العام على الافراد الباقية ، إذ دلالة العام على الافراد ليست على وجه الارتباطية ، بحيث يكون خروج البعض موجبا لانعدام الدلالة بالنسبة إلى الباقي ، بل العام يدل على كل فرد بدلالة مستقلة ، لما تقدم : من أن الأصل في العموم هو الانحلال ، فالعام لامحة يدل على الباقي ، سواء خرج بعض الافراد عنه أو لم يخرج ، والمجازية انما جاءت من قبل خروج بعض الافراد ، لا من قبل دخول الباقي.

ونظير العام في الدلالة على الباقي ، الإشارة بلفظ ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، مع عدم إرادة جميع آحاد تلك الجماعة بل بعضها ، فان عدم إرادة البعض لا يوجب عدم وقوع الإشارة على الافراد ، بل الإشارة وقعت على تلك الافراد لامحة. وليست دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة من قبيل دلالة الأسد على الرجل الشجاع ، بحيث تكن دلالة مجازية صرفة أجنبية عن المعنى الموضوع له ، بل دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة دلالة حقيقية ، فكذلك دلالة العام على الافراد الباقية تكون دلالة حقيقية ، وان خرج بعض الافراد عنه.

هذا ما تحصل لي من توجيه شيخنا الأستاذ مد ظله لمقالة الشيخ ( قده ) ولكن بعد في النفس من ذلك شيء ، فان تسليم المجازية لا يمكن الا بدعوى وضع العام لجميع الافراد ، فإرادة البعض منه ينافي الموضوع له لامحة. وحينئذ يصح ان يقال : ان العام لا دلالة له على الباقي بعد التخصيص ، لان دلالته كانت على الجميع من حيث

ص: 522

المجموع ، فتأمل.

وعلى كل حال : نحن في غنى عن هذه المقالات ، لما عرفت : من أن التخصيص لا يقتضى المجازية أصلا ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنشرع في مباحث العام والخاص.

المبحث الأول :

بعد ما عرفت من أن التخصيص لا يوجب المجازية ، فلا ينبغي الاشكال في حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، إذ مبنى الاشكال في ذلك هو المجازية. وقد تقدم فساد المبنى ، وذلك واضح.

المبحث الثاني :

إذا كان المخصص مجملا مفهوما ، فتارة : يكون الاجمال من جهة دورانه بين المتباينين ، وأخرى : يكون بين الأقل والأكثر ، وعلى كلا التقديرين ، فتارة : يكون المخصص متصلا ، وأخرى : يكون منفصلا.

وحكم هذه الأقسام : هو انه لو كان المخصص متصلا ، فالعام يسقط عن الحجية بالنسبة إلى محتملات المخصص مطلقا ، سواء دار امره بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، لسراية اجمال المخصص إلى العام ، وعدم انعقاد ظهور له ، لاحتفافه بالمخصص المجمل ، فلا يكون للعام دلالة تصديقية على معنى بحيث يصح ان يخبر بمفاده ، ويترجم بلفظ آخر أو لغة أخرى. وما لم يحصل للكلام هذه الدلالة لايكون له ظهور في معنى ، ومع عدم الظهور لايكون حجة. فسقوط العام عن الحجية في المخصص المتصل ليس من جهة العلم بالتخصيص حتى يقال : ان العلم بالتخصيص انما يوجب سقوط العام عن الحجية في المتباينين ، لا في الأقل والأكثر لعدم العلم بتخصيص الأكثر - كما سيأتي بيانه في المخصص المنفصل - بل من جهة اجمال العام وعدم انعقاد ظهور له ، وذلك واضح.

واما لو كان المخصص منفصلا : ففي صورة دورانه بين المتباينين يسقط العام عن الحجية أيضا في جميع الأطراف المحتملة ، فإنه وان انعقد للعام ظهور ، الا انه بعد العلم بالتخصيص يخرج العام عن كونه كبرى كلية ، ولا تجرى فيه أصالة

ص: 523

العموم ، لان أصالة العموم انما تجرى في صورة الشك ، ولا مجال لها مع العلم بالتخصيص. وبعبارة أخرى : يعلم أن الظهور المنعقد للعام ليس بمراد بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة. وحيث إن ذلك البعض تردد امره بين فردين ، أو افراد ، ولا معين في البين ، فلامحة يسقط العام عن الحجية في جميع الافراد المحتملة ، وذلك أيضا واضح.

واما لو دار امر المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر : فبالنسبة إلى الأكثر العام بعد باق على حجيته ، وأصالة العموم جارية فيه ، وانما سقطت حجية العام في خصوص الأقل المتيقن التخصيص ، لأنه بالنسبة إلى الأكثر يكون شكا في التخصيص ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم وعدم التخصيص بعد ما انعقد ظهور للعام. فلو قال : أكرم العلماء ، ثم ورد : لا تكرم فساق العلماء ، وتردد الفاسق بين ان يكون خصوص مرتكب الكبيرة ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة العام سقط عن الحجية ، للعلم بخروجه على كل حال. واما بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة فيشك في خروجه ، ومقتضى أصالة العموم عدم خروجه.

وتوهم : ان الخارج هو عنوان الفاسق لا خصوص مرتكب الكبيرة - والعام ليس كبرى كلية بالنسبة إلى عنوان الفاسق للعلم بخروج هذا العنوان عن العام ، فلا مجال للتمسك بأصالة العموم بالنسبة إلى من شك في دخوله تحت عنوان الفاسق - فاسد ، لان الخارج ليس مفهوم الفاسق بل واقع الفاسق ، وحيث لم يعلم أن مرتكب الصغيرة مندرج في الفاسق الواقعي يشك لامحة في تخصيص العام واقعا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم.

تنبيه : لو ورد عام وورد خاص ، ودار امر الخاص بين ان يكون مخصصا ، أو غير مخصص ، كما لو قال عقيب قوله أكرم العلماء : لا تكرم زيدا ، وكان هناك زيد عالم وزيد جاهل ، ولم يعلم أن مراده من قوله : لا تكرم زيدا أي منهما ، فالمرجع في مثل هذا أيضا أصالة العموم ، للشك في التخصيص ، وذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان المخصص مجملا مفهوما.

ص: 524

وأما إذا كان مجملا مصداقا ، كما لو تردد زيد بين ان يكون فاسقا أو غير فاسق ، لأجل الشبهة المصداقية ، ففي الرجوع إلى العام وعدم الرجوع ، خلاف. والأقوى : عدم الرجوع إليه.

اما في القضايا الحقيقية : فالامر فيها واضح ، من جهة ان عنوان العام قبل العثور على المخصص كان تمام الموضوع للحكم الواقعي بمقتضى أصالة العموم المحرزة لعدم دخل شيء في موضوع الحكم غير عنوان العام وانه يتساوى في ترتب الحكم كل انقسام ونقيضه من الانقسامات المتصورة في عنوان العام ، ويكون مفاد قوله : أكرم العلماء - بمقتضى أصالة العموم - هو وجوب اكرام كل عالم ، سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، وسواء كان نحويا أو غير نحوي. وهكذا الحال في جميع الانقسامات اللاحقة لعنوان العالم ، ولكن بعد العثور على المخصص يخرج عنوان العام عن كونه تمام الموضوع ويصير جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو عنوان الخاص ، وتسقط أصالة العموم بالنسبة إلى ما تكفله الخاص ، وينهدم التسوية في بعض الانقسامات التي كانت في العام ، ولا يكون مفاد العام وجوب اكرام العالم سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، بل يكون مفاد العام بضميمة المخصص هو وجوب اكرام العالم الغير الفاسق ، فيكون أحد جزئي الموضوع عنوان ( العالم ) وجزئه الآخر ( غير الفاسق ) فكما انه لو شك في عنوان العام من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام بالنسبة إلى المشتبه ، كذلك لو شك في عنوان الخاص من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام لاحراز حال المشتبه ، لأنه لا فرق حينئذ بين مشكوك العلم وبين مشكوك الفسق ، بعد ما كان لكل منهما دخل في موضوع الحكم. وكل دليل لا يمكن ان يتكفل وجود موضوعه ، بل الدليل انما يكون متكفلا لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه ، ولأجل ذلك كانت القضية الحملية متضمنة لقضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وحاصل الكلام : ان القضايا الحقيقية غير متعرضة للافراد ، وانما يكون الحكم فيها مترتبا على العنوان بما انه مرآة لما ينطبق عليه من الخارجيات ، وليس لها تعرض لحال المصاديق ، ومع هذا كيف يمكن ان نحرز بالعام حال المشتبه بالشبهة

ص: 525

المصداقية؟ وكيف تجرى فيه أصالة العموم؟ مع ما عرفت من أن أصالة العموم انما تكون لاحراز المراد واقعا ولا تحرز المصاديق أصلا ، وهذا في القضايا الحقيقية واضح.

واما القضايا الخارجية : فقد يتوهم صحة التمسك فيها بالعام في الشبهات المصداقية ، من جهة ان القضية الخارجية وان سيقت بصورة الكبرى الكلية ، الا انه قد تقدم ان الحكم فيها ابتداء يرد على الافراد بلا توسط عنوان ، والعنوان المأخوذ في ظاهر القضية ليس له دخل في مناط الحكم ، فالعام في القضية الخارجية بنفسه ابتداء متكفل لحكم الافراد ، وقد تعرض العام لحكم الفرد المشتبه قبل ورود التخصيص ، وبعد ورود الخاص يشك في خروج الفرد المشتبه عن حكم العام ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم. فلو قال : أكرم كل من في الدار ، ثم قال : لا تكرم من كان في الطرف الشرقي منها ، أو قال : لا تكرم أعدائي الذين هم في الدار ، وتردد حال زيد بين ان يكون من الطرف الشرقي أو غيره ، أو تردد بين ان يكون من الأعداء أولا ، فحيث ان قوله أولا ( أكرم كل من في الدار ) قد شمل زيدا وتعرض لوجوب اكرامه ، ولم يعلم خروجه بعد ذلك عن حكم العام ، كان اللازم وجوب اكرامه لأصالة العموم وعدم التخصيص ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لا فرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، في عدم التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، للعلم بان كيفية استعمال العام والخاص يكون فيهما على نهج واحد ولا يكون الاستعمال في القضية الخارجية على نحو يغاير نحو الاستعمال في القضية الحقيقية وان المناط في عدم صحة الرجوع إلى العام فيهما واحد لا يختلف. غايته ان أصالة العموم في القضية الحقيقية قبل العثور على المخصص انما كانت محرزة لكون عنوان العام تمام الموضوع للحكم الواقعي ، وفي القضية الخارجية كانت محرزة لكون المتكلم لم يحرز ان في الدار عدوا له بعد العلم بأنه لا يريد اكرام عدوه ، وبعد ورود الخاص يعلم أن المتكلم أحرز ان له عدوا في الدار. كما أن بعد ورود الخاص في القضية الحقيقية يعلم أن عنوان العام لم يكن تمام الموضوع للحكم الواقعي ، وبعد ما علم المخاطب ان المتكلم لا يريد اكرام العدو وانه

ص: 526

محرز لوجود عدو له في الدار ، يعلم : انه لا يريد اكرام كل من في الدار بل خصوص من لم يكن له عدوا وانه ليس مجرد الوجود في الدار موجبا لاكرامه بل يعتبر عدم عداوته. فالمشكوك عداوته لا يعلم اندراجه تحت قوله : أكرم كل من في الدار بضميمة قوله : لا تكرم عدوى.

والحاصل : ان العنوان في القضايا الخارجية وان لم يكن له دخل في مناط الحكم ، الا انه على أي حال لوحظ مرآة لما تحته من الافراد ، والافراد التي تكون تحته هي ما عدى عنوان الخاص ، وحينئذ فالمشكوك لا يحرز كونه من افراد العام الذي لايكون معنونا بعنوان الخاص ، فيكون حال القضية الخارجية كحال القضية الحقيقية.

ولا ينتقض ما ذكرناه في القضية الخارجية ، بمثل قوله : أكرم ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، وبعد ذلك قال : لا تكرم هؤلاء مشير إلى جماعة من تلك الجماعة التي أشار إليها أولا ، ثم شك في شمول ( هؤلاء ) الثاني لبعض ما شمله ( هؤلاء ) الأول ، فإنه لا اشكال في مثل هذا في الاخذ بما شمله ( هؤلاء ) الأول فيما عدى المتيقن خروجه وادراج المشكوك في الإشارة الأولى في وجوب اكرامه. وذلك : لان ما ذكر من المثال يكون من قبيل اجمال المخصص مفهوما ، لا مصداقا ، لرجوع الشك فيه إلى أصل وقوع الإشارة الثانية إلى المشكوك من حيث تردد مقدار الإشارة. والمثال المنطبق على الشبهة المصداقية ، هو ما إذا علم أن الإشارة الثانية وقعت على عشرة افراد من تلك الجماعة المشار إليها أولا ، ثم تردد حال زيد بين ان يكون من جملة العشرة ، أولا ، وفي مثل هذا قطعا لا يجب اكرام زيد ، ولا يجوز الرجوع في حكمه إلى الإشارة الأولى ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا ظهر : ان ما يستدل به القائل بصحة التعويل على العام في الشبهات المصداقية - من أن المتكلم في القائه العام كأنه قد جمع النتايج وذكر حكم الافراد بعبارة العام ، فكل فرد من افراد العام قد ذكر حكمه بذكر العام ، ومن جملة الافراد الفرد المشكوك ، وحيث لم يعلم دخول الفرد المشكوك في الخاص وجب ترتب ما ذكره أولا من حكم الفرد المشكوك - فإنما هو يناسب القضية الخارجية ، لا

ص: 527

القضية الحقيقية ، فان القضية الحقيقية ليس لها تعرض لحكم الافراد ، وانما سيقت لبيان الكبرى الكلية ، وانما يعلم حكم النتايج والافراد بعد ضم الصغرى إليها. والقضية الخارجية قد عرفت الحال فيها ، وان الاستدلال لا يتم فيها أيضا.

كما أنه ظهر مما ذكرنا أيضا : ضعف ما استدل به القائل بذلك : من أن عنوان العام مقتض لثبوت الحكم على افراده ، وعنوان الخاص مانع ، ويجب الاخذ بالمقتضى إلى أن يحرز المانع. لمنع كل من الصغرى والكبرى. اما الصغرى : فلانه لا طريق إلى احراز كون عنوان العام مقتضيا والخاص مانعا ، لامكان ان يكون عنوان الخاص جزء المقتضى. واما الكبرى : فلان قاعدة المقتضى والمانع لا أساس لها كما حقق في محله.

وكذلك ظهر ضعف الاستدلال على ذلك : بان العام حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك لكونه من افراد العام ، والخاص ليس بحجة فيه للشك في كونه فردا له ، فيجب الاخذ بالحجة ، لان اللاحجة لا تزاحم الحجة. وذلك : لان عنوان العام بعد ما صار جزء الموضوع لمكان الخاص لايكون حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، ويكون الفرد المشكوك بالنسبة إلى كل من العام والخاص على حد سواء في عدم الحجية ، ولا تجرى فيه أصالة العموم ، على ما تقدم.

وقياس الأصول اللفظية بالأصول العملية - حيث إنه عند الشك في كون الشيء حلالا أو حراما يتمسك بمثل أصالة الحل ، فكذلك عند الشك في اندراج الفرد المشكوك فيما هو المراد من العام يتمسك بمثل أصالة العموم - قياس مع الفارق ، لان الأصول العملية مجعولة في مرتبة عدم الوصول إلى الواقع واليأس عنه ، بخلاف الأصول اللفظية ، فإنها واقعة في طريق احراز الواقع والوصول إليه واستخراج المراد النفس الأمري منها ، والمفروض انه قد أحرز المراد الواقعي من العام وهو العالم الغير الفاسق مثلا ، واما كون زيد عالما غير فاسق فهو أجنبي عن المراد الواقعي ، حتى تجرى فيه أصالة العموم.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في عدم جواز التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، سواء في ذلك المخصص المتصل والمنفصل والقضية الحقيقية والخارجية.

ص: 528

ثم انه ربما يتوهم : ان الوجه في حكم المشهور بالضمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية ، هو التعويل على العام في الشبهة المصداقية. بل قد يتخيل ان ذلك يكون من الرجوع إلى العام مع الشك في مصداق العام الذي لم يقل به أحد ، بناء على أن يكون المستفاد من قوله ( على اليد ) خصوص اليد العادية ، ولا يعم اليد المأذون فيها من أول الامر ، فتكون اليد المأذون فيها خارجة بالتخصص ، لا بالتخصيص.

وبالجملة ، ان قلنا : انه لا يستفاد من عموم ( على اليد ) الا خصوص اليد العادية ، كانت اليد المشكوك كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى نفس عنوان العام ، كما إذا شك في عالمية زيد عند قوله : أكرم العلماء. وان قلنا : ان قوله ( على اليد ) يعم اليد العادية والمأذون فيها ويكون اليد المأذون فيها خارجة بالتخصيص ، كانت اليد المشكوك كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى عنوان المخصص ، كما إذا شك في فاسقية زيد في مثل قوله : أكرم العلماء الا فساقهم. وعلى كلا التقديرين لا يصح الحكم بالضمان عند الشك في حال اليد ، خصوصا على الأول. مع أن المشهور قالوا بالضمان ، وليس ذلك الا من جهة تعويلهم على العام في الشبهة المصداقية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ذهاب المشهور إلى ذلك ليس لأجل صحة التعويل على العام في الشبهة المصداقية ، بل لأجل ان هناك أصلا موضوعيا ينقح حال المشكوك ويدرج المشكوك تحت عنوان العام ، فيتمسك بالعام لاثبات حكمه ، وهو أصالة عدم اذن المالك ورضاه بالتصرف. فيكون المقام من صغريات الموضوعات المركبة المحرز بعض اجزائها بالأصل ، وبعضها الآخر بالوجدان. والأصل الموضوعي في مثل المقام يجرى بلا اشكال ، لكونه مسبوقا بالتحقق بمفاد ليس التامة. والأثر مترتب على مؤدى الأصل بما هو كذلك ، وليس من المقامات التي يكون الأثر فيها مترتبا على مفاد ليس الناقصة ، حتى يستشكل في جريان الأصل من جهة عدم كون مؤداه مسبوقا بالتحقيق كما في مثل أصالة عدم قرشية المرأة ، ولا بأس ببسط الكلام في هذا المقام ليتضح خلط بعض الاعلام.

ص: 529

فنقول : ان العنوان الذي تكفله دليل المقيد والمخصص اما : ان يكون من العناوين اللاحقة لذات موضوع العام ، بحيث يكون من أوصافه وانقساماته ، كالعادل والفاسق بالنسبة إلى العالم ، وكالقرشية والنبطية بالنسبة إلى المرأة. واما : ان يكون من مقارنات الموضوع ، بحيث لايكون من انقسامات ذاته ، بل من الانقسامات المقارنة ، كما إذا قيد وجوب اكرام العالم بوجود زيد ، أو مجيئ عمرو ، أو فوران ماء الفرات ، وما شابه ذلك. فان وجود زيد ، ومجيئ عمرو ، وفوران ماء الفرات ، ليس من أوصاف العالم والانقسامات اللاحقة له لذاته ، بل يكون من مقارناته الاتفاقية ، أو الدائمية ، ولا يمكن ان يكون نعتا ووصفا للعالم ، فان وجود زيد بنفسه من الجواهر لايكون نعتا للعالم ، ومجيء عمرو وفوران ماء الفرات يكون وصفا لعمرو ولماء الفرات ، لا للعالم ، وذلك واضح.

فان كان عنوان المقيد والمخصص من الأوصاف اللاحقة لذات الموضوع ، فلامحة يكون موضوع الحكم في عالم الثبوت مركبا من العرض ومحله ، إذ العام بعد ورود التخصيص يخرج عن كونه تمام الموضوع للحكم لا محالة ويصير جزء الموضوع ، وجزئه الآخر يكون نقيض الخارج بدليل المخصص. ففي مثل قوله : أكرم العلماء الا فساقهم - يكون الموضوع هو العالم الغير الفاسق ، ويكون العالم أحد جزئي الموضوع ، وجزئه الآخر غير الفاسق ، ولما كان غير الفاسق من أوصاف العالم ونعوته اللاحقة لذاته ، كان موضوع الحكم مركبا من العرض ومحله.

وان كان عنوان المقيد والمخصص من المقارنات ، يكون موضوع الحكم مركبا أيضا ، لكن لا من العرض ومحله ، بل اما ان يكون مركبا من جوهرين ، أو عرضين لمحلين ، أو من جوهر وعرض لمحل آخر ، أو من عرضين لمحل واحد ، وأمثلة الكل واضحة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه ان كان الموضوع مركبا من غير العرض ومحله بل من الأمور المتقارنة في الزمان ، كان الأصل الجاري في اجزاء المركب هو الوجود والعدم المحمولين بمفاد كان وليس التامتين ، لان الأمور المتقارنة في الزمان لا رابط بينها سوى الاجتماع في عمود الزمان ، فمجرد احراز اجتماعها في الزمان يكفي في

ص: 530

ترتب الأثر ، سواء كان احرازها بالوجدان ، أو بالأصل ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل.

نعم : لو كان موضوع الأثر هو العنوان البسيط المنتزع ، أو المتولد من اجتماع الاجزاء في الزمان - كعنوان التقديم ، والتأخر ، والتقارن ، والقبلية ، والبعدية ، وقضية الحال ، وغير ذلك من العناوين المتولدة من اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان - كان احراز بعض الاجزاء بالوجدان وبعضها بالأصل لا اثر له ، من جهة انه لا يثبت ذلك العنوان البسيط الذي هو موضوع الأثر ، الا بناء على القول بالأصل المثبت.

وذلك كما في قوله علیه السلام : لو أدرك المأموم الامام قبل رفع رأس الامام. فان استصحاب عدم رفع رأس الامام عن الركوع إلى حال ركوع المأموم لا يثبت عنوان القبلية. وكما في قوله : يعزل نصيب الجنين من التركة فان ولد حيا اعطى نصيبه. فان استصحاب حياته إلى زمان الولادة لا يثبت عنوان الحالية وانه ولد في حال كونه حيا.

وبالجملة : لا يجرى الأصل فيما إذا كان الموضوع للأثر هو العنوان البسيط المنتزع. ولكن كون الموضوع هو ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص أو استظهاره من الدليل ، والا فالعنوان الأولى الذي يحصل من الأمور المتغايرة ليس الا اجتماعها في الزمان. واما سائر العناوين المتولدة من الاجتماع في الزمان فجعلها موضوعا للأثر يحتاج إلى عناية زائدة ، وقد عرفت : انه إذا كان نفس اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان موضوعا للأثر ، كان الأصل في تلك الأجزاء بمفاد كان التامة وليس التامة جاريا بلا اشكال فيه ، إذا الأصل يثبت هذا الاجتماع.

ومما ذكرنا يظهر : وجه حكم المشهور بالضمان عند الشك في كون اليد يد عادية ، من جهة ان موضوع الضمان مركب من اليد والاستيلاء الذي هو فعل الغاصب ومن عدم اذن المالك ورضاه الذي هو عرض قائم بالمالك ، وأصالة عدم رضاء المالك تثبت كون اليد يد عادية ، إذ اليد العادية ليست الا عبارة عن ذلك ، وهذا المعنى يتحقق بضم الوجدان إلى الأصل.

فليس حكمهم بالضمان من جهة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ،

ص: 531

بل من جهة جريان الأصل الموضوعي المنقح حال المشتبه. وقس على ذلك سائر الموضوعات المركبة من غير العرض ومحله ، فإنه في الجميع يكفي احراز الاجزاء بالأصول الجارية بمفاد كان أو ليس التامتين ، الا إذا كان العنوان المتولد موضوعا للأثر ، فان الأصل يكون حينئذ مثبتا ، كما عرفت.

وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله ، فالأصل بمفاد كان وليس التامتين لا اثر له ، بل لا بد ان تكون الجهة النعتية والوصفية مسبوقة بالتحقق ، حتى يجرى الأصل بمفاد كان أو ليس الناقصتين ، لان العرض بالنسبة إلى محله انما يكون نعتا ووصفا له ، ويكون للجهة النعتية والتوصيفية دخل لامحة ، ولا يمكن اخذ العرض شيئا بحيال ذاته في مقابل المحل القائم به ، إذ وجود العرض بنفسه ولنفسه عين وجوده لمحله وبمحله ، فلا محيص من اخذ العرض بما هو قائم بمحله موضوعا للحكم ، وهذا لايكون الا بتوصيف المحل به. فكل أصل أحرز التوصيف والتنعيت كان جاريا ، وهذا لايكون الا إذا كانت جهة التوصيف مسبوقة بالتحقق بعد وجود الموصوف ، وهذا انما يكون بالنسبة إلى الأوصاف اللاحقة لموصوفها بعد وجود الموصوف ، كالفسق ، والعدالة ، والمشي ، والركوب ، وغير ذلك.

واما الأوصاف المساوق وجودها زمانا لوجود موصوفها ، كالقرشية والنبطية ، وغير ذلك ، فلا محل فيها لجريان الأصل بمفاد كان وليس الناقصتين ، لعدم وجود الحالة السابقة. والأصل بمفاد كان وليس التامتين وان كان جاريا الا انه لا يثبت جهة التوصيف الا على القول بالأصل المثبت. ففي مثل أكرم العلماء الا فساقهم ، يكون الموضوع مركبا من العالم الغير الفاسق ، وعند الشك في فسق زيد العالم تجرى أصالة عدم فسقه بمفاد ليس الناقصة إذا كان عدم فسق زيد مسبوقا بالتحقق ، أو أصالة فسقه بمفاد كان الناقصة إذا كان فسقه مسبوقا بالتحقق ، ويترتب على الأول وجوب اكرامه ، وعلى الثاني عدم وجوبه. وسيأتي في مبحث الاستصحاب ( انشاء اللّه ) انه لا فرق في مورد جريان الاستصحاب ، بين ان يكون المستصحب نفس موضوع الحكم ، أو نقيضه.

والاشكال : بأنه لا معنى لاستصحاب نقيض موضوع الحكم - إذ الأثر

ص: 532

الشرعي مترتب على وجود الموضوع ولا اثر لنقيضه - ضعيف غايته ، فإنه يكفي في جريان الاستصحاب اثبات عدم الأثر الشرعي ، والا لا نسد باب الاستصحابات العدمية بالنسبة إلى الاحكام ، إذ عدم الحكم ليس مجعولا شرعيا. وسيأتي تفصيل ذلك في محله انشاء اللّه. وعلى أي حال : ان كان الوجود أو العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، فلا اشكال في جريان الأصل فيه بما انه وجود وعدم نعتي ، وأما إذا لم يكن مسبوقا بالتحقق ، فلا محل للأصل فيه ، وذلك - كالمرأة القرشية - فان عروض وصف القرشية للمرأة مساوق زمانا لوجود المرأة ، فهي اما ان توجد قرشية واما ان توجد غير قرشية ، وليس العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، لان سبق تحقق العدم النعتي يتوقف على وجود الموضوع آنا ما فاقدا لذلك الوصف ، وأما إذا لم يكن كذلك كالمثال فلا محل لاستصحاب العدم النعتي.

نعم : استصحاب العدم الأزلي يجرى ، لان وصف القرشية كان مسبوقا بالعدم الأزلي لامحة ، لأنه من الحوادث ، الا ان الأثر لم يترتب على العدم الأزلي ، بل على العدم النعتي ، واثبات العدم النعتي باستصحاب العدم الأزلي يكون من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، إذ عدم وجود القرشية في الدنيا يلازم عقلا عدم قرشية هذه المرأة المشكوك حالها.

ودعوى : ان عدم القرشية لم يؤخذ جزء الموضوع الا بمعناه الأزلي لا بمعناه النعتي ، قد عرفت ضعفها ، فإنه بعد ما كانت القرشية من الأوصاف اللاحقة لذات المرأة ، لا يمكن اخذها الا على جهة النعتية ، هذا.

وللمحقق الخراساني (1) ( قده ) كلام في المقام يعطى صحة جريان الأصول العدمية في مثل هذه الأوصاف ، لكن لا مطلقا ، بل فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا ، أو كان من قبيل الاستثناء ، لا ما إذا كان متصلا بالكلام على وجه التوصيف ، فان في مثله لا يجرى الأصل. مثلا تارة : يقول : أكرم العالم الغير الفاسق ، أو

ص: 533


1- كفاية الأصول ، المجلد الأول ص 346 - 345 « ايقاظ ، لا يخفى ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل ، أو كالاستثناء من المتصل ...

ان المرأة الغير القرشية تحيض إلى خمسين. وأخرى : يقول : أكرم العالم الا فساقهم ، أو بدليل منفصل يقول : لا تكرم فساق العلماء ، أو يقول : المرأة تحيض إلى خمسين الا القرشية أو بدليل منفصل يقول : المرأة القرشية تحيض إلى ستين. ففي الأول : لا بد ان يكون الأصل بمفاد ليس الناقصة جاريا ، بحيث تكون النعتية مسبوقة بالتحقق ، ولا اثر للأصل بمفاد ليس التامة. وفي الثاني : يكفي جريان الأصل بمفاد ليس التامة ولا يحتاج إلى اثبات جهة النعتية.

ووجه هذا التفصيل - على ما يظهر في كلامه - ان التقييد في الأول يوجب تنويع العام وجعله معنونا بنقيض الخاص ، والأصل الجاري فيه لا بد ان يكون بمفاد ليس الناقصة على ما بيناه. وهذا بخلاف الثاني ، فإنه حيث لم يكن عنوان القيد وصفا ونعتا لعنوان العام في الكلام ، فلا يوجب التقييد تنويع العام ، بل العام بعد باق على اللاعنوانية ويتساوى فيه كل عنوان. نعم : لا بد ان لايكون عنوان الخاص مجامعا لعنوان العام ، لمكان التخصيص. وحينئذ يكفي نفى عنوان الخاص بأي وجه أمكن نفيه في ترتب الأثر ، لأن المفروض انا لا نحتاج إلى اثبات عنوان خاص ووصف مخصوص للعام ، حتى لا يكفي نفى عنوان الخاص في اثبات ذلك للعام ، بل العام بعد باق على لا عنوانيته ، غايته انه خرج عنه عنوان الخاص ، فيكفي في ثبوت الأثر نفى عنوان الخاص ولو بمفاد ليس التامة ، فصح حينئذ ان يقال : الأصل عدم تحقق الانتساب بين هذه المرأة وبين قريش ، فيحكم على المرأة انها ممن تحيض إلى خمسين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما افاده ( قده ).

اما أولا : فلان التقييد لا يعقل ان لا يوجب تنويع العام وجعله معنونا بعنوان نقيض الخاص ، إذ التقييد يوجب هدم الاطلاق ويخرج عنوان العام عن التسوية بين انقساماته اللاحقة له لامحة ، لان الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يجتمعا ، مع ما بينهما من تقابل العدم والملكة الذي هو في المحل القابل يكون مثل تقابل الايجاب والسلب ، من حيث عدم امكان الاجتماع والارتفاع ، وان كان بينهما فرق من جهة امكان ارتفاع الموضوع في تقابل العدم والملكة ، فلا يصدق على الجدار انه

ص: 534

أعمى أو بصير ، بل يصح سلبهما عنه ، لان الجدار ليس موضوعا للعمى والبصر من جهة انتفاء القابلية ، بخلاف تقابل السلب والايجاب ، فإنه لا يعقل ارتفاع موضوعه ، من جهة ان موضوعه الماهيات المتصفة اما بالوجود واما بالعدم ، كما سيأتي بيانه في محله انشاء اللّه. ولكن بالنسبة إلى المحل القابل يكون حكم تقابل العدم والملكة حكم تقابل السلب والايجاب ، فلا يعقل ان يكون الانسان أعمى وبصيرا ولا لا أعمى ولا لا بصيرا ، فالتقييد يوجب هدم أساس الاطلاق لامحة ، ويوجب تعنون العام بنقيض الخاص ثبوتا وفي نفس الامر.

ومجرد ان القيد لايكون وصفا ونعتا اصطلاحيا لا يوجب ان لايكون كذلك ثبوتا ، بل لا يعقل ان لايكون بعد ما لم يكن القيد من الانقسامات المقارنة زمانا لعنوان العام بل كان من الانقسامات اللاحقة له ومن أوصافه ونعوته ، ومع هذا كيف لا يوجب التقييد تنويع العام؟ وكيف صح له ( قده ) ان يقول : لما لم يكن العام معنونا بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص؟ مع أن قوله ( قده ) « لم يكن ذلك بعنوان الخاص » هو عين التوصيف والتنعيت ، مع ما في قوله ( قده ) « بل بكل عنوان » من المسامحة ، إذ العام لا يعقل ان يكون معنونا بكل عنوان ، لما بين العناوين من المناقضة ، فكيف يكون معنونا بكل عنوان؟ بل العام يكون بلا عنوان وذلك يساوى كل عنوان يطرء عليه الذي هو معنى الاطلاق ، ولكن بعد ورود التقييد يخرج عن التساوي ويصير معنونا بنقيض الخاص.

وثانيا : انه أي فائدة في تغيير مجرى الأصل وجعل مجرى الأصل الانتساب الذي هو من الأمور الانتزاعية؟ فإنه لو كان الأثر مترتبا على العدم الأزلي ، فليجعل مجرى الأصل عدم القرشية بالعدم الأزلي بمفاد ليس التامة. وان كان العدم الأزلي لا يكفي بل يحتاج إلى العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فلا اثر لجعل مجرى الأصل عدم الانتساب بمعناه الأزلي ، وبمعناه النعتي غير مسبوق بالتحقق. مع أن قوله ( قده ) « أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش » هو عين العدم النعتي ، فتغيير العبارة ما أفاد شيئا.

وبالجملة : في مثل الأوصاف اللاحقة للذات لا ينفع الا العدم النعتي ، ولا

ص: 535

يجرى الأصل الا بمفاد ليس الناقصة ، ولا اثر للعدم الأزلي الا على القول بالأصل المثبت.

فما افاده صاحب الكفاية ( قده ) من كفاية العدم الأزلي وجريان الأصل بمفاد ليس التامة مما لا يمكن المساعدة عليه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

هذا كله فيما إذا كان المخصص لفظيا ، وقد تبين عدم صحة التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، الا إذا كان هناك أصل موضوعي ينقح حال المشتبه.

وأما إذا كان المخصص لبيا من اجماع ، أو عقل ضروري ، أو نظري ، فقد تداول في لسان المتأخرين جواز التمسك بالعام عند الشبهة المصداقية فيه. والظاهر : ان أول من أفاد ذلك هو الشيخ ( قده ) على ما في التقرير ، وتبعه من تأخر عنه ، هذا. (1)

ولكن التحقيق : انه لا فرق في ذلك بين المخصص اللبي والمخصص اللفظي فإنه على كل حال يكون نقيض الخارج قيدا للموضوع ، ولا يصح التعويل على العام مع الشك في الموضوع ، فبعد ما ثبت كون الشيء مخصصا لا يفرق الحال فيه بان يكون دليل المخصص لفظيا ، أو لبيا. والظاهر : ان لايكون مراد الشيخ ( قده ) ومن تبعه هذا المعنى من المخصص ، أي ما كان قيدا للموضوع ، وان كان التعبير بالمخصص اللبي يعطى ذلك ، الا انه من المسامحة في التعبير. فالأولى ان يقال : انه لو ورد عام ، وعلم أن المولى لا يريد جميع ما ينطبق عليه عنوان العام كيفما اتفق ، فان كان الذي لم يتعلق ارادته به من العناوين التي لا تصلح الا ان تكون قيدا للموضوع - ولم يكن احراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه من وظيفة الآمر والمتكلم ، بل كان من وظيفة المأمور والمخاطب - ففي مثل هذا يكون حال المخصص اللبي كالمخصص اللفظي ، في عدم صحة التعويل على العام فيما شك كونه من مصاديق الخارج ، وذلك كما في

ص: 536


1- مطارح الأنظار ، الهداية الثالثة من مباحث العام والخاص ص 192 وتبعه في ذلك صاحب الكفاية قدس سره بالنسبة إلى خصوص المخصص اللبي المنفصل. واما فيما كان كالمتصل بحيث يصح ان يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فاختار فيه عدم حجية العام في المصداق المشتبه معللا بأنه لا ينعقد معه ظهور للعام الا في الخصوص. ( كفاية الأصول ، الجلد الأول ، ص 343 )

مثل قوله علیه السلام : انظروا إلى رجل قد روى حديثنا الخ ، حيث إنه عام يشمل العادل وغيره ، الا انه قام الاجماع على اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه في القضاء ، فتكون العدالة قيدا في الموضوع ، ولا يجوز الرجوع إلى العموم عند الشك في عدالة مجتهد ، كما إذا كان اعتبار العدالة بدليل لفظي.

وان كان الذي لم يتعلق ارادته به من العناوين التي لا تصلح ان تكون قيدا للموضوع - وكان احرازها من وظيفة الآمر والمتكلم ، بان كان من قبيل الملاكات - ففي مثل هذا يجوز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية. وذلك كما في مثل قوله علیه السلام : اللّهم العن بنى أمية قاطبة ، حيث يعلم أن الحكم لا يعم من كان مؤمنا من بنى أمية ، لان اللعن لا يصيب المؤمن ، فالمؤمن خرج عن العام لانتفاء ملاكه ، لمكان ان ملاك اللعن هو الشقاوة ، فكأن قوله علیه السلام : اللّهم العن بنى أمية قاطبة - قد تكفل ملاك الحكم بنفسه وهو الشقاوة ، ومعلوم ان السعيد يقابل الشقي ، فليس في السعيد ملاك الحكم ، ولكن احراز ان في بنى أمية سعيدا انما هو من وظيفة المتكلم ، حيث لا يصح له القاء مثل هذا العموم ، الا بعد احراز ذلك ، ولو فرض انه علمنا من الخارج ان ( خالد بن سعيد ) مثلا كان سعيدا مؤمنا ، كان ذلك موجبا لعدم اندراجه تحت العموم ، ولكن المتكلم لم يبينه لمصلحة هناك اقتضت ذلك ، فلا يجوز لنا لعنه لمكان علمنا بعدم ثبوت ملاك الحكم فيه. وأما إذا شككنا في ايمان أحد من بنى أمية فاللازم الاخذ بالعموم وجواز لعنه ، لأنه من نفس العموم يستكشف انه ليس بمؤمن وان المتكلم أحرز ذلك ، حيث إنه من وظيفته كان احراز ذلك ، فلو لم يحرز ان المشكوك شقي لما ألقى العموم كذلك ، ولا ينافي ذلك علمنا بايمان بعض الافراد لو فرض علمنا بذلك ، فان عدم جواز اللعن انما هو لمكان علمنا بعدم ارادته من العموم ، وأين هذا مما إذا شك في ايمان أحد؟ فان أصالة العموم تكون حينئذ جارية ، ويكون المعلوم الخروج من التخصيص الافرادي ، حيث إنه لم يؤخذ عنوانا قيدا للموضوع ، ولم يخرج عن العموم الا بعض الافراد التي يعلم عدم ارادته من العموم.

والحاصل : ان الضابط الكلي في صحة التعويل على العام عند الشبهة

ص: 537

المصداقية ، هو ان الخارج لا يمكن ولا يصح اخذه قيدا لموضوع الخارج ، كما في المثال حيث إنه لا يصح ان يقال : اللّهم العن بنى أمية قاطبة الا الخير منهم أو العنوا بنى أمية الا الخير منهم ، فان مثل حكم اللعن بنفسه لا يصلح ان يعم المؤمن ، حتى يكون خروج الخير من باب التخصيص والتنويع. بخلاف خروج الفاسق عمن يعتبر قضائه ، فإنه يصلح ان يكون قيدا ، بل لا يصلح الا لذلك. وفي هذا القسم من المخصص اللبي لا يفرق الحال فيه بين ان يكون من العقل الضروري ، أو النظري ، أو لاجماع ، فإنه في الجميع يصح التعويل على العام في الشبهات المصداقية. كما أنه في القسم الأول أيضا لا يفرق الحال فيه في أنحاء لمخصص اللبي في عدم الصحة.

هذا كله إذا علم أن الخارج من أي قبيل من المخصص ، هل هو مما اخذ قيدا للموضوع أو مما لم يؤخذ؟ وأما إذا شك في ذلك - وذلك في كل مخصص صلح ان يؤخذ قيدا ويوكل احرازه بيد المخاطب وصلح أيضا ان يكون من قبيل الملاكات ويكون احرازه من ناحية الآمر والمتكلم - فهل في هذا القسم يرجع إلى العموم في الشبهة المصداقية مطلقا؟ أولا يرجع مطلقا؟ أو يفصل بين أنحاء المخصص اللبي من كونه عقلا ضروريا ، أو غيره؟ مثال ذلك : ما إذا قال : أكرم جيراني ، وعلم بعدم إرادة اكرام العدو من الجيران ، فان العداوة يمكن ان تكون مثل الايمان والسعادة من قبيل الملاكات ويكون الآمر قد أحرز انه ليس في جيرانه عدو ، ويمكن ان تكون من العناوين الراجعة إلى قيود الموضوع ويكون الآمر قد أو كل احرازها بيد المخاطب كعدالة المجتهد.

والأقوى : في مثل هذا هو التفصيل بين ما إذا كان الدليل الدال على اعتبار الصداقة وعدم العداوة في ( اكرام الجيران ) هو العقل الضروري الفطري ، وبين ما إذا كان عقلا نظريا أو اجماعا. ففي الأول : لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لان العقل الضروري بمنزلة المخصص المتصل ، ولمكان احتمال كون العداوة من قيود الموضوع يكون العقل الضروري مانعا عن الرجوع إلى العام ، لأنه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية. والفرق بين هذا ، وبين القسم الأول مما علم كون الخارج من قيود الموضوع ، هو انه في الأول يكون الكلام مما يعلم باحتفافه بالقرينة

ص: 538

إذا كان الدليل من العقل الضروري ، وفي هذا القسم يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، والنتيجة واحدة.

وأما إذا كان الدليل من العقل النظري ، أو الاجماع ، فهو بمنزلة المخصص المنفصل لا يوجب اجمال العام ، ويرجع إليه. ومجرد احتمال كون العداوة من قيود الموضوع لا اثر له ، بعد ما كان الكلام ظاهرا في اكرام جميع افراد الجيران ، فتأمل فيما ذكرناه.

المبحث الثالث :

من مباحث العام والخاص ، انه لا اشكال في عدم جواز الاخذ بالأصول اللفظية - من أصالة العموم والاطلاق - قبل الفحص عن المقيد والمخصص ، كما لا يجوز الاخذ بالأصول العملية قبل الفحص عن أدلة الاحكام وان كان بين البابين فرق ، من جهة ان الفحص في الأصول العملية انما يكون فحصا عن أصل الحجة ، حيث إن حجية الأصول العملية مقصورة على ما بعد الفحص وليس لها مقتضى قبل الفحص ، فالفحص فيها يكون لاحراز المقتضى لجريانها ، لان الأصول العملية اما ان يكون مدركها العقل : من قبح العقاب بلا بيان ، واما ان يكون مدركها الشرع : من حديث الرفع ، ولا تنقض اليقين بالشك.

اما العقل : فواضح ان حكمه بقبح العقاب انما هو بعد الفحص وحركة العبد على طبق ما يقتضيه وظيفة العبودية من البحث عن مرادات المولى. وحكم العقل بوجوب الفحص يكون من صغريات حكمه بوجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، حتى لا يلزم افحام الأنبياء ، وذلك واضح.

واما النقل : فلو سلم اطلاق أدلة الأصول لما قبل الفحص ، الا انه قام الاجماع على اعتبار الفحص ، وانه لا مجرى للأصول الا بعد الفحص. مع أنه يمكن منع اطلاقها من جهة انه لا يمكن تشريع حكم يوجب افحام النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ما عرفت : من أن الفحص في المقام يكون من صغريات الفحص عن معجزة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فتأمل. وسيأتي لذلك مزيد بيان في محله انشاء اللّه. هذا في الأصول العملية.

ص: 539

واما في الأصول اللفظية : فالفحص فيها انما يكون فحصا عما يزاحم الحجية وعما يعارضها بعد الفراغ عن حجيتها وثبوت المقتضى لها ، لبناء العقلاء على الاخذ بها في محاوراتهم العرفية ، فالفحص فيها يكون فحصا عن المانع ، لا عن المقتضى. وعلى كل حال : تشترك الأصول اللفظية مع الأصول العملية في أصل وجوب الفحص.

ثم انه قد ذكر لوجوب الفحص في الأصول اللفظية والعملية وجوه كثيرة ، لا يسلم غالبها عن الاشكال ، والعمدة منها وجهان في كل من الأصول اللفظية والعملية.

اما الوجهان في الأصول العملية.

فالأول منهما : هو ما تقدمت الإشارة إليه من أن العقل يستقل بأنه لا بد للعبد من المشي لتحصيل مرادات المولى ، وانه لا بد للعبد من أن يقرع باب المولى ليصل إلى مراداته ، وهذا مما يقتضيه وظيفة العبودية. كما أن العقل يستقل أيضا بان وظيفة المولى ان يبين مراداته على النحو المتعارف ، بحيث يمكن للعبد الوصول إليها إذا جرى على ما تقتضيه وظيفته ، فلكل من المولى والعبد وظيفة يستقل العقل بها. فمن وظيفة المولى ان يبين مراداته على نحو يمكن للعبد الوصول إليها. ومن وظيفة العبد ان يبحث عن مرادات المولى حتى يصل إليها ، وذلك واضح.

والثاني منهما : هو العلم الاجمالي بثبوت احكام الزامية على خلاف الأصول النافية للتكليف ، ولهذا العلم الاجمالي مدركان :

الأول : هو ان العلم بان هناك شرعا وشريعة يقتضى العلم بان للشريعة احكاما الزامية في الجملة ، إذ لا معنى لشريعة ليس فيها حكم الزامي أصلا.

الثاني : انه بعد الاطلاع على ما بأيدينا من الكتب ، يعلم أن هناك أدلة تتضمن لاحكام الزامية على خلاف الأصول النافية للتكليف فيما بأيدينا من الكتب.

واما الوجهان في الأصول اللفظية.

فالأول منهما : هو العلم الاجمالي بوجود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من

ص: 540

الكتب للعمومات والاطلاقات ، وذلك معلوم لكل من راجع الكتب.

والثاني : هو ان أصالة العموم والاطلاق انما تجرى فيما إذا لم يكن دأب المتكلم والتعويل على المقيدات والمخصصات المنفصلة ، إذ لا مدرك للاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بناء العقلاء عليها في محاوراتهم ، وليس من بناء العقلاء عليها إذا كان العام المطلق في معرض التخصيص والتقييد ، بحيث كان المتكلم بالعام والمطلق يعتمد كثيرا على المنفصلات ولم يبين تمام مراده في كلام واحد ، فإنه لا تجرى ح مقدمات الحكمة في مصب العموم والاطلاق ، لان عمدة مقدمات الحكمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده. وهذه المقدمة لا تجرى بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، أي يعتمد على المنفصلات كثيرا.

ومن المعلوم لكل من راجع الاخبار ، ان الأئمة صلوات اللّه عليهم كثيرا ما يعتمدون في بيان المخصصات والمقيدات على المنفصلات ، فإنه كثيرا ما يكون العام واردا من امام علیه السلام والمخصص من امام آخر. والعام الذي يكون من شانه ذلك أي في معرض التخصيص لا تجرى فيه أصالة العموم ، وذلك أيضا واضح.

فتحصل : ان لوجوب الفحص في كل من الأصول العملية واللفظية مدركين يشتركان في أحدهما ، وهو العلم الاجمالي. ويفترقان في الآخر ، لان المدرك الآخر لوجوب الفحص في الأصول العملية هو استقلال العقل بلزوم حركة العبد على ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدم. وفي الأصول اللفظية هو كون العام في معرض التخصيص والتقييد.

ثم ، انه ربما يشكل في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي في كلا البابين ، وكون العام والمط في معرض التخصيص والتقييد في خصوص الأصول اللفظية. اما الاشكال على العلم الاجمالي ، فقد يقرر على وجه يختص بالأصول العملية ، وقد يقرر على وجه يشترك البابان فيه.

اما التقرير على الوجه الأول ، فحاصله : انه قد تقدم ان للعلم الاجمالي مدركين :

الأول : هو العلم بان في الشريعة أحكاما الزامية على خلاف الأصول

ص: 541

النافية.

الثاني : هو العلم بثبوت احكام الزامية فيما بأيدينا من الكتب. ودائرة العلم الاجمالي الأول أوسع من الثاني ، لان متعلقه أعم مما بأيدينا. والفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب يوجب انحلال العلم الثاني ، والعلم الاجمالي الأول الذي هو أوسع دائرة بعد باق على حاله لا ينحل بالفحص فيما بأيدينا من الكتب ، ولازم ذلك هو عدم جريان الأصول النافية مط حتى بعد الفحص. نظير ما إذا علم بان في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وعلم أيضا ان في البيض منها موطوء ، فتفحصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلق علمنا به ، فان العلم الاجمالي بان في البيض موطوء وان انحل ، الا ان العلم الاجمالي بان في القطيعة الأعم من السود والبيض موطوء بعد على حاله ، ولا تخرج السود عن كونها طرف العلم ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط في الجميع.

وهذا الاشكال ، كما ترى يختص بالأصول العملية ، ولا يجرى في الأصول اللفظية ، لان العلم الاجمالي في الأصول اللفظية لا مدرك له سوى ما بأيدينا من الكتب ، وليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع عن الآخر ، بل العلم الاجمالي من أول الامر تعلق بان فيما بأيدينا من الكتب مقيدات ومخصصات للعمومات والمطلقات ، وبعد الفحص عما بأيدينا ينحل العلم الاجمالي قهرا. فهذا التقريب من الاشكال يختص بالأصول العملية الذي يكون للعلم الاجمال فيها مدركان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال بأنه بعد الفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب والعثور على مقدار من الاحكام ينحل العلم الاجمالي الكبير أيضا ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كانحلال العلم الاجمالي الصغير ، بل هو انحلال حكمي ، لان ما عثرنا عليه من الأدلة المتكفلة للأحكام الالزامية قابل الانطباق على ما علم اجمالا بان في الشريعة أحكاما الزامية ، إذ لا علم بان في الشريعة أحكاما أزيد مما تكفلته الأدلة التي عثرنا عليها على تقدير إصابة تلك الأدلة للواقع ، فالاحكام التي تضمنتها الأدلة قابلة الانطباق على ما علم اجمالا من الاحكام الثابتة في الشريعة. نظير ما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الانائين ، ثم علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين ،

ص: 542

واحتمل ان تكون النجاسة في المعين هي تلك النجاسة المعلومة اجمالا في أحد الانائين ، فان العلم الاجمالي ح ينحل لاحتمال انطباق ما علم نجاسته تفصيلا على المعلوم بالاجمال ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كما إذا علم بان النجاسة المعلومة بالتفصيل هي عين تلك النجاسة المعلومة بالاجمال فإنه يكون الانحلال ح حقيقيا ، بل الانحلال يكون حكميا.

ومما ذكرنا ظهر : ان العلم الاجمالي في المثال المتقدم في القطيع من الغنم أيضا ينحل ، وتخرج السود عن كونها طرفا للعلم الاجمالي ، ولا يجب فيها الاحتياط.

واما تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، فحاصله : ان العلم الاجمالي بوجود احكام الزامية وبورود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من الكتب وان اقتضى عدم جريان الأصول اللفظية والعملية قبل الفحص ، الا انه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الاحكام والمقيدات والمخصصات يوجب انحلال العلم ، كما هو الشأن في كل علم اجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر ، فان بالعثور على المقدار المتيقن الذي هو الأقل ينحل العلم الاجمالي ، ويكون الأكثر شبهة بدوية يجرى فيه الأصل. كما لو علم أن في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وتردد بين ان يكون عشرة أو عشرين ، فإنه بالعثور على العشرة ينحل العلم الاجمالي لامحة. وفي المقام لا بد ان يكون مقدار متيقن للعلم الاجمالي بالأحكام الالزامية والمقيدات والمخصصات الواقعة في الكتب ، إذ لا يمكن ان لايكون له مقدار متيقن ، فإنه لو سئل عن مقدار معلومة الاجمالي فلا بد ان يصل إلى حد وعدد يكون الزايد عليه مشكوكا ويجيب بأنه لا علم لي بأزيد من ذلك ، ومقتضى ذلك هو انه لو عثر على ذلك المقدار المتيقن ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الفحص في سائر الشبهات ، بل ينبغي ان تجرى فيها الأصول اللفظية والعملية بلا فحص ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، ولا قال به أحد ، لايجابهم الفحص عند كل شبهة شبهة ، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الاجمالي ، فلا بد ان يكون المدرك لوجوب الفحص غير العلم الاجمالي ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال أيضا ، بان المعلوم بالاجمالي تارة : يكون مرسلا

ص: 543

غير معلم بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وأخرى : يكون معلما بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وانحلال العلم الاجمالي بالعثور على المقدار المتيقن انما يكون في القسم الأول. واما القسم الثاني فلا ينحل بذلك ، بل حاله حال دوران الامر بين المتباينين. وضابط القسمين : هو ان العلم الاجمالي كليا انما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلو المنحلة إلى قضيتين حمليتين.

وهاتان القضيتان تارة : تكونان من أول الامر إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بحيث يكون العلم الاجمالي قد نشأ من هاتين القضيتين ، ويكون العلم الاجمالي عبارة عن ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقنة ليس الا. كما إذا علم اجمالا بأنه مديون لزيد ، أو علم بان في هذه القطيعة موطوء ، وتردد الدين بين ان يكون خمسة دراهم أو عشرة ، أو تردد الموطوء بين ان يكون خمسة أو عشرة ، فان هذا العلم الاجمالي ليس الا عبارة عن قضية متيقنة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة ، وقضية مشكوكة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم زائدا على الخمسة المتيقنة ، أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة زائدا على الخمسة المتيقنة ، ففي مثل هذا ، العلم الاجمالي ينحل قهرا بالعثور على المقدار المتيقن ، إذ لا علم حقيقة بسوى ذلك المقدار المتيقن ، والزايد عليه مشكوك من أول الامر ولم يتعلق العلم به أصلا ، ولا يصح جعله طرفا للعلم ، إذ لم يتعلق العلم به بوجه من الوجوه ، فلا معنى لجعله من أطراف العلم ، فالعلم الاجمالي في مثل هذا من أول الامر منحل ، وذلك واضح.

وأخرى : لا تكون القضيتان على هذا الوجه ، أي بان يكون من أول الامر إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بل تعلق العلم بالأطراف على وجه تكون جميع الأطراف مما تعلق العلم بها بوجه ، بحيث لو كان الأكثر هو الواجب لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه ، وليس الأكثر مشكوكا من أول الامر بحيث لم يصبه العلم بوجه من الوجوه ، بل كان الأكثر على تقدير ثبوته في الواقع مما اصابه العلم. وذلك في كل ما يكون المعلوم بالاجمال معلما بعلامة كان قد تعلق العلم به بتلك العلامة ، فيكون كل ما اندرج تحت تلك العلامة وانطبقت عليه مما تعلق العلم به ،

ص: 544

سواء في ذلك الأقل والأكثر. وح لو كان الأكثر هو الثابت في الواقع ، فقد تعلق العلم به لمكان تعلقه بعلامته. وذلك : كما إذا علمت انى مديون لزيد بما في الدفتر ، فان جميع ما في الدفتر من دين زيد قد تعلق العلم به ، سواء كان دين زيد خمسة أو عشرة ، فإنه لو كان دين زيد عشرة فقد اصابه العلم لمكان وجوده في الدفتر وتعلق العلم بجميع ما في الدفتر. وأين هذا مما إذا كان دين زيد من أول الامر مرددا بين الخمسة والعشرة؟ فان العشرة في مثل ذلك مما لم يتعلق بها العلم بوجه من الوجوه ، وكانت مشكوكة من أول الامر ، فلا موجب لتنجيزها على تقدير ثبوتها في الواقع.

بخلاف ما إذا تعلق العلم بها بوجه. ولو لمكان تعلق العلم بما هو من قبيل العلامة لها ، وهي بعنوان ( كونها في الدفتر ) فإنها قد تنجزت على تقدير وجودها في الدفتر. وفي مثل هذا ليس له الاقتصار على المقدار المتين ، إذ لا مؤمن له على تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعد ما ناله العلم واصابه. فحال العلم الاجمالي في مثل هذا الأقل والأكثر حال العلم الاجمالي في المتباينين في وجوب الفحص والاحتياط.

وان شئت قلت : كان لنا هنا علمان : علم اجمالي باني مديون لزيد بجميع ما في الدفتر ، وعلم اجمالي آخر بان دين زيد عشرة أو خمسة ، والعلم الثاني غير مقتضى للاحتياط بالنسبة إلى العشرة ، والعلم الاجمالي الأول مقتض للاحتياط بالنسبة إليها ، لتعلق العلم بها على تقدير ثبوتها في الواقع ، واللا مقتضى لا يمكن ان يزاحم المقتضى. ونظير ذلك ما إذا علم بان في البيض من هذه القطيعة موطوء ، فإنه كل ابيض موطوء في هذه القطيعة فقد تعلق العلم به وأوجب تنجزه ، فلو عثر على مقدار متيقن من البيض موطوء ليس له اجراء أصالة الحل بالنسبة إلى الزايد ، لأنه لا مؤمن له على تقدير وجود موطوء آخر في البيض.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : ما نحن فيه يكون من العلم الاجمالي المعلم المقتضى للفحص التام الغير المنحل بالعثور على المقدار المتيقن ، لان العلم قد تعلق بان في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات واحكاما الزامية ، فيكون نظير تعلق العلم باني مديون لزيد بما في الدفتر ، فيكون كل مقيد ومخصص وحكم الزامي ثابت فيما بأيدينا من الكتب قد اصابه العلم وتعلق به ، وقد عرفت ان مثل هذا

ص: 545

العلم الاجمالي لا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن ، بل لا بد فيه من الفحص التام في جميع ما بأيدينا من الكتب. فتأمل فيما ذكرناه من قسمي العلم الاجمالي فإنه لا يخلو عن دقة.

هذا حاصل الاشكال والجواب في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي.

واما لو جعل المدرك لوجوب الفحص كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، فقد يستشكل أيضا بما حاصله : ان الفحص لا اثر له حينئذ ، إذ الفحص عن المقيدات والمخصصات فيما بأيدينا من الكتب لا يغير العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص وعن كون دأب المتكلم التعويل على المنفصلات ، إذ الفحص لا دخل له في ذلك ولا يوجب قوة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت وسقطت بدأب المتكلم وخروجه عن طريق المحاورات العرفية من بيان تمام مراده في كلام واحد ، إذ كل عام يحتمل ان يكون قد عول فيه على المخصص المنفصل ولم يكن ذلك المخصص في الكتب التي بأيدينا ولا دافع لهذا الاحتمال ، هذا.

ولكن يمكن الذب عن الاشكال أيضا ، بان كون شأن المتكلم ذلك يوجب عدم الاطمينان والوثوق بان واقع مراده هو ظاهر العام والمط ، فلو تعلق غرض باستخراج واقع مراد المتكلم لما أمكن بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، كما يتضح ذلك بالقياس على المحاورات العرفية فإنه لو فرض ان أحد التجار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلد وكان الكاتب ممن يعتمد على القرائن في بيان مراده ، فان هذا الكتاب لو وقع بيد ثالث لا يمكنه العمل على ما تضمنه ، لأنه لا يمكن الحكم بان واقع مراد الكاتب هو ما تضمنه ظاهر الكتاب ، مع أن هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب.

وأما إذا لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم ، بل كان الغرض هو الالزام والالتزام بكلام المتكلم وجعله حجة قاطعة للعذر في مقام المحاجة والمخاصمة ، فلا بد من الاخذ بما هو ظاهر كلامه ، وكون شأن المتكلم التعويل على

ص: 546

المنفصل لا يوجب أزيد من الفحص.

والسر في ذلك : هو ان طريق الاخذ والالتزام والمحاجة انما هو بيد العقل والعقلاء ، وبناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك ، كما أن العقل يحكم بذلك أيضا. وعليك بمقايسة الأحكام الشرعية على الاحكام العرفية الصادرة من الموالى العرفية الملقاة إلى عبيدهم ، فإنه لا يكاد يشك في الزام العبد بالأخذ بظاهر كلام المولى بعد الفحص عما يخالف الظاهر واليأس عن الظفر إذ كان شان المولى التعويل على المنفصل ، وليس للعبد ترك الاخذ بالظاهر والاعتذار باحتمال عدم إرادة المولى ظاهر كلامه ، كما أنه ليس للمولى الزام العبد وتأديبه عند اخذه بالظاهر إذا لم يكن الظاهر مراده وعول على المنفصل.

والحاصل : ان كون المتكلم من دأبه التعويل على المنفصلات انما يوجب عند العقلا عدم الاخذ بالظاهر قبل الفحص عن مظان وجود المنفصل ، واما بعد الفحص فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظاهر ويكون ظاهر كلام المتكلم حجة على العبد ، ولكل من المولى والعبد الزام الآخر بذلك الظاهر.

نعم لو قلنا : بان اعتبار الظهور من باب إفادته الظن والاطمينان الشخصي بالمراد ، لكان الاشكال المذكور في محله ، إذ الفحص لا يوجب حصول الظن بالمراد بالنسبة إلى المتكلم الذي شأنه التعويل على المنفصل ، الا ان اعتبار الظهور من ذلك الباب فاسد ، بل اعتبار الظهور من باب بناء العقلاء على الاخذ ولو لمكان كشفه نوعا عن المراد ، لا من باب التعبد المحض ، وقد عرفت ان بناء العقلاء ليس أزيد من الفحص بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، فتأمل جيدا.

هذا كله في أصل وجوب الفحص ، واما مقداره : فهو وان اختلف فيه ، بين من يكتفى بالظن ، وبين من يعتبر العلم واليقين بعدم وجود مقيد ومخصص فيما بأيدينا من الكتب ، وبين من يعتبر الاطمينان وسكون النفس بعدم وجود ذلك ، الا ان الأقوى هو الأخير ، وهو اعتبار الاطمينان ، لان الاكتفاء بالظن مما لا وجه له بعد عدم قيام الدليل على اعتباره ، والاقتصار على حصول العلم واليقين يوجب الحرج وسد باب الاستنباط ، فان الاخبار وان بوبها الأصحاب ( جزاهم اللّه عن

ص: 547

الاسلام وأهله خير الجزاء ) وأوردوا كل خبر في بابه ، الا انه مع ذلك قد قطعوا الاخبار وأوردوا صدر الخبر في باب وذيله في باب آخر ، كما صنع صاحب الوسائل ، وذلك أوجب الاختلال ، إذ ربما يكون ذيل الخبر قرينة على المراد من صدره ، فلو اعتبرنا العلم واليقين للزم الضيق والعسر الشديد في الاستنباط ، مع أن الاطمينان هو طريق عقلائي يعتمد عليه العقلاء كما يعتمدون على العلم الوجداني ، ويكتفون بالاطمينان في كل ما يعتبر فيه الاحراز. فالأقوى : كفاية الاطمينان.

المبحث الرابع : في الخطابات الشفاهية.

وقد وقع النزاع في أن الخطابات المصدرة بأداة الخطاب - كياء النداء ، وكاف الخطاب ، وأمثال ذلك مما يختص بالمشافهة - هل تختص بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب؟ فلا تعم الغائبين فضلا عن المعدومين ، أو لا تختص بذلك؟ بل تعم المعدومين فضلا عن الغائبين.

ومحل الكلام ، هو خصوص الألفاظ المصدرة بأداة الخطاب كما عرفت. ولا كلام فيما عدى ذلك : من أسماء الأجناس ، كقوله تعالى : لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا - وكقوله تعالى : المؤمنون اخوة. وغير ذلك مما اخذ اسم الجنس فيه موضوعا للحكم ، فإنه لا اشكال في عموم اللفظ للحاضر والغائب والمعدوم.

ثم إن جهة البحث عن عموم الخطابات الشفاهية وعدمه ، يمكن ان تكون عقلية ويكون مرجع هذا النزاع إلى امكان مخاطبة الغائب والمعدوم وعدم امكانه عقلا ، ويمكن ان يكون لفظيا لغويا ويكون مرجع هذا النزاع ح إلى أن أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه؟ أو انها موضوعة للأعم من ذلك ومن الغائب والمعدوم؟ ويمكن ان يكون النزاع في كلتا الجهتين عقليا ولغويا.

ثم إن ثمرة النزاع تظهر في حجية ظهور خطابات الشفاهية وصحة التمسك بها بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب. فان قلنا : باختصاصها بالمشافهين لا يصح التمسك بها في حق الغائبين والمعدومين ، لعدم كونهم مخاطبين بما

ص: 548

تضمنته تلك الخطابات. وتسرية ما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام إلى الغائبين والمعدومين انما يكون بقاعدة الاشتراك في التكليف ، الذي انعقد عليه الاجماع والضرورة. وقاعدة الاشتراك في التكليف مختصة بما إذا اتحد الصنف ، ولا تجرى في مورد اختلاف الصنف ، بان كان الحاضرون في مجلس التخاطب واجدين لخصوصية يحتمل دخلها في موضوع الحكم ولو كانت تلك الخصوصية نفس حضورهم في مجلس التخاطب ، أو وجودهم في بلد الخطاب ، أو وجودهم في عصر الحضور ونزول الخطاب ، فإنه لو احتمل دخل شيء من تلك الخصوصيات لما كان ح مجال للتمسك بقاعدة الاشتراك ، لما عرفت : من اختصاصها بصورة اتحاد الصنف. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بعموم الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ، فانا لا نحتاج إلى قاعدة الاشتراك ، بل نفس عموم الخطاب يقتضى تكليف الغائب والمعدوم بما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام ولو مع اختلاف الصنف ، وذلك واضح ، هذا.

وعن بعض الاعلام انكار هذه الثمرة ، ودعوى : ان ذلك مبنى على مقالة من يقول بحجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد افهامه بالكلام ، دون من لم يقصد افهامه ، كما هو مقالة (1) المحقق القمي ( قده ) ، إذ لو قلنا : بحجية الظواهر مط ولو في حق من لم يقصد افهامه فظواهر الخطابات الشفاهية تكون ح حجة ولو قلنا باختصاصها بالمشافهين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان الثمرة لا تبتنى على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) ، فان الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولا تعم غيرهم فلا معنى للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير ، سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل ، فلا ابتناء للثمرة على ذلك أصلا.

وقد ذكر المحقق الخراساني (2) ( قده ) للنزاع ثمرتين ، وجعل إحدى الثمرتين

ص: 549


1- مقالة المحقق القمي. قوانين الأصول ، قانون 7 من الباب الثالث ( مبحث العموم والخصوص ) ص 131 ص
2- كفاية الأصول الجلد الأول ص 359 فصل : ربما قيل إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان : الأولى : حجية ظهور خطابات الكتاب للمشافهين .. » وهذه هي الثمرة التي جعلها مبتنية على مقالة المحقق القمي بقوله « وفيه انه مبنى على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم .. »

مبتنية على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) ولم يجعل الأخرى مبتنية على ذلك. مع أنه لم يظهر لنا الفرق بين الثمرتين بل مرجعهما إلى امر واحد ، وانما التفاوت في التعبير فقط ، فراجع وتأمل لعلك تجد فرقا بين الثمرتين. وعلى كل حال قد ظهر : ان ثمرة النزاع في المقام جلية ولا تبتنى على مقالة المحقق القمي ( قده ).

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الكلام في اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين وعمومها لغيرهم تارة : يقع في القضايا الخارجية ، وأخرى : يقع في القضايا الحقيقية.

اما في القضايا الخارجية - فاختصاص الخطاب بالحاضر المشافه مما لا سبيل إلى انكاره ، لوضوح انه لا يمكن توجيه الكلام ومخاطبة الغائب الغير المتلفت إلى الخطاب ، فضلا عن المعدوم ، الا بتنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر ، كما قد ينزل غير ذوي العقول منزلة ذوي العقول فيخاطب ، كما في قول الشاعر :

الا يا ليل طلت على حتى *** كأنك قد خلقت بلا صباح

وبالجملة : مخاطبة الغائب والمعدوم بلا تنزيل مما لا يمكن.

واما في القضايا الحقيقية : فحيث انها متكفلة لفرض وجود الموضوع وكان الخطاب خطابا لما فرض وجوده من افراد الطبيعة في موطنه ، كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب ، فيستوى في ذلك الافراد الموجودة في زمن الخطاب الحاضرون في مجلس التخاطب أو المعدومون الغير الحاضرين ، لان في الجميع لوحظت الافراد على نحو فرض الوجود ووجه الخطاب على ذلك الفرض.

وبعبارة أخرى : التنزيل الذي كان مما لا بد منه في القضية الخارجية أعني تنزيل المعدوم منزلة الموجود في صحة الخطاب ، يكون في القضية الحقيقية مما تضمنته نفس القضية ، وكانت القضية بنفسها دالة على ذلك التنزيل ، لان شأن

ص: 550

القضية الحقيقية فرض وجود الموضوع ، فالخطاب في القضية الحقيقية يعم الغائب والمعدوم بلا عناية.

ودعوى : ان أداة الخطاب موضوعة لخصوص ما يكون موجودا بالفعل في مجلس صدور الخطاب ، مما لا شاهد عليها ، لأنه إذا أمكن في عالم الثبوت توجيه الخطاب إلى ما سيوجد بعد ذلك على نهج القضية الحقيقية ، فعالم الاثبات يكون على طبق عالم الثبوت ، ولا موجب لدعوى وضع الأداة لخصوص الافراد الفعلية الحاضرين في مجلس التخاطب. وكان منشأ توهم اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين هو تخيل كون القضايا الشرعية من القضايا الخارجية وان ما ورد في الكتاب والسنة من الخطابات انما تكون اخبارات عن أن الاحكام تنشأ بعد ذلك عند وجود الافراد ، فيكون لكل فرد خطاب يخصه عند وجوده. وقد تقدم منا فساد ذلك ، وان القضايا الشرعية كلها ( الا ما شذ ) تكون على نهج القضايا الحقيقية ، وح الخطابات تعم المعدومين أيضا.

المبحث الخامس :

لو تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده ، فهل ذلك يوجب تخصيص العام بخصوص ما أريد من الضمير؟ أو انه لا يوجب ذلك؟ مثاله قوله تعالى : (1) « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يكتمن ما في أرحامهن » إلى قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » فان ضمير « وبعولتهن » يرجع إلى خصوص الرجعيات ، بقرينة قوله تعالى : « أحق بردهن » والمطلقات في صدر الآية عام للرجعيات وغيرها ، لأنه من الجمع المحلى باللام. فيقع البحث حينئذ في أن رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيات موجب لتخصيص المطلقات وان المراد منه خصوص الرجعيات فتكون الأحكام المذكورة في الآية السابقة على قوله تعالى : « وبعولتهن » مختصة بالرجعيات ، أو انه لا يوجب ذلك ، بل المراد من المطلقات الأعم ، والاحكام السابقة تكون لمطلق المطلقات.

ص: 551


1- البقرة : 228

فقد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام ، فان لازم إرادة العموم من المطلقات هو الاستخدام في ناحية الضمير ، لرجوعه حينئذ إلى غير ما هو المراد من المرجع ، بل إلى بعض افراد المرجع ، كما أن لازم عدم الاستخدام هو تخصيص العام وان المراد منه خصوص الرجعيات. وكما أن أصالة العموم تقتضي الاستخدام كذلك أصالة عدم الاستخدام أيضا أصل عقلائي في باب المحاورات يقتضى تخصيص العام ، فيتعارض الأصلان من الطرفين ، وحينئذ لا طريق إلى اثبات تعلق الاحكام السابقة على قوله : « وبعولتهن » الخ بمطلق المطلقات ، إذ الطريق منحصر بأصالة العموم الساقطة بالمعارضة ، هذا.

ولكن الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى : عدم جريان أصالة عدم الاستخدام.

اما أولا : فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازية العام المخصص ، واما بناء على الحقيقة ، فلا يلزم استخدام أصلا ، حتى تجرى أصالة عدم الاستخدام. وذلك : لان رجوع الضمير إلى المطلقات الرجعية لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير ، وما لم يوجب المغايرة لا يتحقق في الكلام استخدام. وحصول المغايرة بين المرجع والضمير لا بد ان تكون بأحد الوجوه الموجبة للمغايرة ، كما إذا كان المراد من المرجع بعض معاني المشترك وكان المراد من الضمير بعضا آخر ، أو يكون المراد من المرجع المعنى الحقيقي للفظ والمراد من الضمير المعنى المجازى ، أو غير ذلك من أسباب المغايرة. وفي المقام بناء على كون العام المخصص حقيقة في الباقي لا يتحقق شيء من أسباب المغايرة ، فإنه لا مغايرة بين معنى المطلقات المذكورة في صدر الآية ، وبين المطلقات الرجعيات التي يرجع الضمير إليها بعد ما كان استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازية ، إذ المطلقات موضوعة للطبيعة وكان العموم والشمول في مصب العموم مستفادا من دليل الحكمة على ما تقدم تفصيله ، والمعنى الموضوع له للفظ المطلقات محفوظ في المطلقات الرجعيات ، وليس المطلقات الرجعيات معنى مجازيا لمعنى مطلق المطلقات ، ولا ان المطلقات من المشتركات اللفظية حتى يكون المطلقات الرجعيات أحد المعاني ، فأين المغايرة بين

ص: 552

المرجع والضمير حتى يتحقق الاستخدام؟ فتأمل.

واما ثانيا : فلان استفادة الرجعيات في قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » ليس من نفس الضمير ، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل وهو قوله تعالى : « أحق بردهن » حيث إنه معلوم من الخارج ان ما هو الأحق بالرد هو خصوص الرجعيات ، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيات ، بل رجع إلى نفس المطلقات وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، فأين الاستخدام المتوهم؟.

والحاصل : ان الاستخدام انما يتوهم ثبوته في المقام لو كان المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات. واما لو كان المراد من الضمير هو المطلقات ، وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل من باب تعدد الدال والمدلول فلا يلزم استخدام أصلا ، فتأمل.

واما ثالثا : فلان الأصول العقلائية انما تجرى عند الشك في المراد ، وفي المقام لا شك في المراد من الضمير وان المراد منه المطلقات الرجعيات ، وبعد العلم بما أريد من الضمير لا تجرى أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العام.

فان قلت :

ان عدم الاستخدام يقتضى أمرين : ( الأول ) ان المراد من الضمير هو المطلقات الرجعيات ( الثاني ) ان المراد من العام هو المعنى الخاص ليتطابق المرجع والضمير. وأصالة عدم الاستخدام وان كانت لا تجرى في الامر الأول لعدم الشك في المراد من الضمير ، الا انها تجرى لاثبات الامر الثاني ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، وحيث كان لازم عدم الاستخدام هو كون المراد من العام هو الخاص ، فأصالة عدم الاستخدام تجرى لاثبات هذا اللازم.

قلت :

إرادة الخاص من العام لازم عدم الاستخدام ، فلا بد أولا من اثبات عدم الاستخدام بوجه ولو بالأصل ، ليترتب عليه لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام ،

ص: 553

وبعد عدم جريان أصالة عدم الاستخدام لاثبات أصل الاستخدام الذي هو مؤدى الأصل ، للعلم بالمراد من الضمير ، كيف يمكن اثبات لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام؟ وأي ربط لهذا بكون مثبتات الأصول اللفظية حجة؟ فان معنى كون مثبتات الأصول حجة هو انه لو ثبت الملزوم ثبت اللازم ، والكلام في المقام في أصل ثبوت الملزوم ، وذلك واضح.

فتحصل : ان أصالة عدم الاستخدام لا تجرى حتى تعارض أصالة العموم ، بل الأصل في طرف العموم يجرى بلا معارض.

ودعوى : ان المقام يكون من باب احتفاف الكلام بما يصح للقرينية - لان رجوع الضمير إلى بعض افراد المطلقات يصلح ان يكون قرينة على أن المراد من العام هو الخاص ، فيكون الكلام مجملا لا يجرى فيه أصالة العموم - ضعيفة ، فان ضابط احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية هو ان يكون ذلك الصالح مجملا ، اما بحسب مفهومه الافرادي ، واما بحسب مفهومه التركيبي ، أي يوجب اجمال جملة الكلام وان كان مفهومه الافرادي مبينا.

وبعبارة أوضح : كان ( الصالح ) مما يصح ان يعتمد عليه المتكلم في مقام بيان مراده ولم يخرج بذلك عن طريق المحاورة ، والضمير المتعقب للعام الراجع إلى بعض افراده لايكون كذلك ، لأنه معلوم المراد ، ولا يوجب اجمال العام ، فتأمل ، فان ذلك لا يخلو عن اشكال.

المبحث السادس :

في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة.

كقوله تعالى : (1) « والذين يرمون المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا كل واحد منهم مأة جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا ». وقد اختلفوا في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، أو الجميع ،

ص: 554


1- النور : 4

أو التوقف ، إلى أقوال. والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول ، وبين ما إذا حذف فيها الموضوع. ففي الأول يرجع إلى خصوص الأخيرة. وفي الثاني يرجع إلى الجميع. مثال الأول : ما إذا قال أكرم العلماء وأضف الشعراء واهن الفساق الا النحوي ، أو قال أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات الا النحوي. ومثال الثاني : ما إذا قال أكرم العلماء والشعراء والسادات الا النحوي.

المبحث السابع :

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف.

ونعني بالمفهوم الموافق : هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق في الكيف من الايجاب والسلب ، كقوله تعالى : « ولا تقل لهما أف ». وكقولك : أكرم خدام العلماء. حيث إن الأول يدل على حرمة الضرب والايذاء الذي يكون أشد من قول « أف ». والثاني ، يدل على وجوب اكرام العلماء. ودلالتهما على ذلك انما تكون بمقدمة عقلية قطعية ، وهي أولوية حرمة الضرب من حرمة قول « أف » ، وأولوية اكرام العلماء من اكرام خدامهم. بل يمكن ان يكون ذكر « أف » في الآية المباركة من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجلي فتكون دلالة الآية على حرمة الايذاء الشديد من المداليل الالتزامية اللفظية ، لا من المداليل الالتزامية العقلية. نعم في مثل أكرم خدام العلماء تكون الدلالة عقلية ، لمكان الأولوية القطعية.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يختلف بحسب الموارد. فتارة : يكون استفادة المفهوم من باب المقدمة العقلية القطعية. وأخرى : يكون من باب دلالة نفس اللفظ ، وذلك في كل مورد يكون ذلك المنطوق للتنبيه به على العام.

ثم إن هنا قسما آخر لم يصطلحوا عليه بالمفهوم ، وهو ما إذا استفيد حكم غير المذكور من علة المذكور ، كقوله ( الخمر حرام لأنه مسكر ) حيث يستفاد منه حكم النبيذ المسكر ، وهذا هو المعبر عنه بمنصوص العلة. فيكون المفهوم الموافق مخصوصا بما إذا كان ثبوت الحكم لغير المذكور أولى من ثبوته للمذكور ، أو كان مساويا لا من

ص: 555

جهة العلة المنصوصة المعبر عنه بلحن الخطاب. ومنصوص العلة هو ما إذا كان مساويا ، والامر في ذلك سهل إذ يرجع ذلك إلى الاصطلاح. والمقصود في المقام : هو بيان صورة تعارض العام مع المفهوم الموافق والمساوي الذي هو مورد منصوص العلة ، وتعارض العام مع المفهوم المخالف.

فنقول : اما تعارض العام مع المفهوم الموافق ، فقد نقل الاتفاق على تقديم المفهوم على العام وتخصيصه به ، ولو كانت النسبة بين المفهوم والعام العموم من وجه ، من دون لحاظ النسبة بين المنطوق والعام ، هذا.

ولكن التحقيق ، هو ان يقال : انه في المفهوم الموافق لا يمكن ان يكون المفهوم معارضا للعام من دون معارضة منطوقه ، لأنا فرضنا ان المفهوم موافق للمنطوق وان المنطوق سيق لأجل الدلالة به على المفهوم ، ومع هذا كيف يعقل ان يكون المنطوق أجنبيا عن العام وغير معارض له؟ مع كون المفهوم معارضا له. فالتعارض في المفهوم الموافق انما يقع ابتداء بين المنطوق والعام ، ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام. ففي مثل قوله : أكرم خدام العلماء ، ولا تكرم الفساق ، يكون التعارض بين نفس وجوب اكرام خدام العلماء وبين حرمة اكرام الفاسق بالعموم من وجه ، ويتبعه التعارض بين المفهوم وهو وجوب اكرام نفس العلماء وبين العام وهو حرمة اكرام الفساق. وكذا في مثل قوله تعالى : « لا تقل لهما أف » مع قوله : اضرب كل أحد ، فان قوله : اضرب كل أحد يدل بالأولوية على جواز قول « أف » لكل أحد ، فيعارض هذا العام بما له من المفهوم مع قوله « لا تقل لهما أف » ويتبعه المعارضة لمفهوم قوله : « لا تقل لهما أف » وهو حرمة ضرب الأبوين ، بالعموم المطلق.

وبالجملة : كلما فرض التعارض بين المفهوم الموافق والعام ، فلامحة يكون التعارض بين المنطوق والعام ، ولا بد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام. إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان التعارض بين المنطوق والعام تارة : يكون بالعموم المطلق مع كون المنطوق أخص ، وأخرى : يكون بالعموم من وجه. وما كان

ص: 556

بالعموم المط فتارة : يكون المفهوم أيضا أخص مط من العام ، وأخرى : يكون أعم من وجه. ولا منافاة بين كون المنطوق أخص مط من العام وكون المفهوم أعم من وجه ، كما في مثل قوله : أكرم فساق خدام العلماء ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، فان النسبة بينهما يكون بالعموم المط ، مع أن بين مفهوم قوله : أكرم فساق خدام العلماء ( وهو اكرام فساق نفس العلماء الملازم لاكرام نفس العدول من العلماء بالألوية القطعية ) وبين العام ( وهو قوله : لا تكرم الفاسق ) يكون العموم من وجه ، إذ المفهوم حينئذ يكون اكرام مط العالم عادلا كان أو فاسقا.

فان كان بين المنطوق والعام العموم المط فلا اشكال في تقديم المنطوق على العام أو تخصيصه به على قواعد العموم والخصوص ، ويلزمه تقديم المفهوم الموافق على العام مطلقا سواء كان بين المفهوم والعام العموم المط أو العموم من وجه. أما إذا كان العموم المط ، فواضح. وأما إذا كان العموم من وجه ، فانا قد فرضنا ان المفهوم أولى في ثبوت الحكم له من المنطوق وأجلى منه ، وان المنطوق سيق لأجل إفادة حكم المفهوم ، فلا يمكن ان يكون المنطوق مقدما على العام المعارض له مع أنه الفرد الخفي والمفهوم لا يقدم عليه مع أنه الفرد الجلي.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة ولا يلاحظ النسبة بين المفهوم والعام ، بل تلاحظ النسبة بين المنطوق والعام ، فلو قدم المنطوق على العام لأخصيته فلامحة يقدم المفهوم عليه مط ، لوضوح انه لا يمكن اكرام خادم العالم الفاسق وعدم اكرام العالم الفاسق في المثال المتقدم ، وذلك واضح. وبذلك يظهر الخلل فيما أفيد في المقام ، فراجع. هذا كله في المفهوم الموافق.

واما المفهوم المخالف : فقد وقع الخلط فيه أيضا في جملة من الكلمات ، حتى أن الشيخ (1) ( قده ) توقف في تقديم المفهوم على العام أو العام عليه في آية النباء ،

ص: 557


1- فالمحكى عن الشيخ قدس سره في التقريرات : « واما مفهوم المخالفة فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العام وعدم التصرف في ظاهر الجملة الشرطية والاخذ بظهورها ، لا اشكال في تخصيص العام به كما عرفت وانما الاشكال في أن الجملة الشرطية أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء بينهما أو العام أظهر في إرادة الافراد منه ، فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين ، ربما يقال ان العام أظهر دلالة في شموله لمحل المعارضة كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى خبر العدل الظني ، فان قضية عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظني ، ومقتضى المفهوم ثبوته ، وعموم التعليل أظهر ولا سيما إذا كان العام متصلا بالجملة الشرطية. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطية كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم. وبالجملة : فالانصاف ان ذلك تبع الموارد ، ولم نقف على ضابطة نوعية يعتمد عليها في الأغلب كما اعترف بذلك سلطان المحققين. » ( مطارح الأنظار ، مباحث العام والخاص. ص 208 ). وذكر قدس سره في الفرائد : « الثاني ( مما أورد على دلالة الآية بما ليس قابلا للذب عنه ) ما أورده في محكى العدة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من انا لو سلمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : ان مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وان كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم والترجيح مع ظهور التعليل. » ثم ذكر بعد سطور في جواب لا يقال ، بقوله : « .. لأنا نقول ، ما ذكره أخيرا من أن المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل مسلم الا انا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر الواحد الغير العلمي وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم والحكم بخلو الجملة الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل ، واليه أشار في محكى العدة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل والتعليل دليل ، وليس في ذلك منافاة لما هو الحق وعليه الأكثر من جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك أولا بالمخصص المنفصل ، ولو سلم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلة والمعلول ، فان الظاهر عند العرف ان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص .. وذكر في مقام الجواب عن الايراد الأول من الايرادات القابلة للدفع ، بقوله : « ان المراد بالنبأ في المنطوق مالا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخص مطلقا من تلك الآيات ( أي الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ) فيتعين تخصيصها بناء على ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوى من ظهور العام في العموم ، واما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعللة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء فراجع. » ( فرائد الأصول ، مباحث حجية الظن ، ص 66 - 65

حيث أفاد ان مفهوم قوله تعالى : « ان جائكم فاسق بنبأ » الخ معارض بعموم التعليل ، وهو قوله تعالى : « لئلا تصيبوا قوما بجهالة » لان المفهوم يدل على حجية قول العادل الذي لا يفيد العلم ، وعموم التعليل يدل على عدم اعتبار قول من لم يفد العلم ، لأنه من إصابة القول بجهالة ، سواء كان ذلك قول العادل أو لم يكن. والنسبة بين المفهوم والتعليل العموم المطلق ، لان المفهوم لا يعم الخبر المفيد للعلم

ص: 558

لخروج ذلك عن الآية بالتخصيص ، فالمفهوم مختص بالخبر العدل الغير المفيد للعلم ، والتعليل يعم خبر العدل وغيره. ومقتضى القاعدة تخصيص عموم التعليل بالمفهوم ، الا ان قوة التعليل وابائه عن التخصيص يمنع عن ذلك. وهذا بخلاف الآيات الناهية عن العمل بالظن ، فان النسبة بينها وبين المفهوم وان كانت العموم المطلق أيضا ، الا انه لا مانع من تخصيص تلك الآيات بالمفهوم لعدم اباء تلك الآيات عن التخصيص. هذا حاصل ما افاده الشيخ ( قده ) في تعارض المفهوم المخالف مع العام في آية النبأ.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك ، لان التعليل مهم بلغ من القوة لايكون أقوى من المفهوم الخاص ، والآيات الناهية عن العمل بالظن أيضا آبية عن التخصيص ، وكيف يمكن تخصيص مثل قوله تعالى : « ان الظن لا يغنى من الحق شيئا »؟.

فالانصاف : انه في مثل الآية لا يلاحظ النسبة ، بل المفهوم يكون مقدما على الآيات الناهية عن العمل بالظن وعن عموم التعليل بالحكومة ، لان خبر العدل بعد ما صار حجة يخرج عن كونه ظنا وعن كونه إصابة القوم بالجهالة ، ويكون علما ، كما حققناه في محله. فينبغي اخراج مثل الآية الشريفة عما هو المبحوث عنه في المقام : من تعارض المفهوم المخالف والعام ، لكون المفهوم حاكما على العام. ولو قطع النظر عن الحكومة ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام. ولا يصغى إلى أن العام في مثل الآية يكون متصلا بالقضية الشرطية فلا تكون القضية ظاهرة في المفهوم ، لصلاحية كل من القضية الشرطية والعام للتصرف في الآخر ، بخلاف ما إذا لم يكن العام متصلا بالقضية الشرطية ، حيث إن العام يخصص بالمفهوم ولكن لا مط ، بل يختلف باختلاف الموارد ، فرب مورد يكون العام قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وربما ينعكس الامر ويكون ظهور القضية في المفهوم قرينة على التصرف في العام وتخصيصه به.

هذا حاصل ما افاده بعض الاعلام في باب تعارض المفهوم الخالف مع العام.

ولكن الانصاف : ان ذلك كله خلاف التحقيق ، بل التحقيق هو ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مط من العام يقدم على العام ، سواء كان بين

ص: 559

المنطوق والعام العموم المط ، أو العموم من وجه. ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل مهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام وربما يقدم المفهوم في مورد التعارض ، من غير فرق في ذلك أيضا بين ان يكون بين المنطوق والعام العموم المط أو العموم من وجه.

والحاصل : ان الفرق بين المفهوم الموافق والمخالف من وجهين :

الأول :

ان في المفهوم الموافق يلاحظ التعارض والعلاج أولا بين المنطوق والعام ، ويتبعه العلاج بين المفهوم والعام ، بخلاف المفهوم المخالف ، فان التعارض وعلاجه أولا وابتداء انما يكون بين المفهوم والعام ، إذ المنطوق ربما لايكون معارضا أصلا.

الثاني :

ان المنطوق في المفهوم الموافق لو قدم على العام لأخصيته ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام مط ولو كان نسبته مع العام العموم من وجه كما عرفت. بخلاف المفهوم المخالف ، فإنه لو كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام على المفهوم في مورد التعارض ويخصص المفهوم به ، إذ المفهوم العام قابل للتخصيص ولا تخرج القضية بذلك عن كونها ذات مفهوم ، وذلك كله واضح.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان المفهوم المخالف ، مهما كان أخص من العام يقدم على العام ويخصص به مط ، سواء كان العام متصلا بالقضية التي تكون ذات مفهوم أو منفصلا ، ولا يصلح العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وذلك لما تقدم منا في باب المفاهيم : من أن العبرة في كون القضية ذات مفهوم هو ان يكون القيد راجعا إلى الحكم ، لا إلى الموضوع.

وبعبارة أخرى : يكون التقييد في رتبة الاسناد ، لا في الرتبة السابقة على الاسناد ، فإنه لو كان التقييد قبل الاسناد كان القيد راجعا إلى الموضوع وتكون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع ، بخلاف ما إذا كان التقييد في رتبة الاسناد ،

ص: 560

فان القيد يكون ح راجعا إلى الحكم ويكون من تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم تفصيله في باب المفاهيم.

والقضية الشرطية مثلا بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعا إلى الحكم ، حيث إن القضية الشرطية وضعت لتقييد جملة بجملة - على ما عرفت سابقا - فتكون القضية الشرطية بنفسها ظاهرة في كونها ذات مفهوم. وأصالة العموم في طرف العام لا تصلح ان تكون قرينة على كون القيد راجعا إلى الموضوع ، لان العموم انما يستفاد من المقدمات الحكمة الجارية في مصب العموم ، وظهور القضية في المفهوم يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في طرف العام ، فيكون ظهور القضية في المفهوم حاكما على ظهور العام في العموم ، لان كون القضية ذات مفهوم وان كان أيضا بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، الا ان مقدمات الحكمة الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص. والعام لا يصلح لان يكون قرينة على كون القضية الشرطية سيقت لفرض وجود الموضوع ، لان كون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع يحتاج إلى دليل يدل عليه ، بعد ما لم يكن الشرط مما يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا. هذا إذا كان المفهوم أخص مط من العام.

وأما إذا كان أعم من وجه : فيعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم المفهوم في مورد الاجتماع ، وربما يقدم العام ، فان العام لا يزيد على الدليل اللفظي العام من حيث كونه قابلا للتخصيص ، ولا تخرج القضية عن كونها ذات مفهوم عند تقديم العام ، كما كانت تخرج عن ذلك فيما إذا كان المفهوم أخص ، بل القضية بعد تكون ذات مفهوم ، غايته انه مخصص ، وذلك واضح.

المبحث الثامن :

انه لا ينبغي الاشكال في جواز تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري ، ومجرد كون الكتاب قطعي الصدور لا يمنع عن ذلك ، بعد ما كان التعارض بين ظهور الكتاب الذي هو ظني وأدلة التعبد بالخبر الواحد ، وحكومة أدلة التعبد على أصالة الظهور. وما ورد من طرح الاخبار المخالفة للكتاب لا يشمل المخالفة بالعموم والخصوص ، فان ذلك ليس من المخالفة عرفا وذلك كله واضح.

ص: 561

المقصد الخامس : في المطلق والمقيد

اشارة

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

الاطلاق هو الارسال ، يقال : أطلق الدابة - أي أرسلها وأرخى عنانها - في مقابل تقييدها. والظ ان لايكون للأصوليين اصطلاح خاص في الاطلاق والتقييد غير ما لهما من المعنى اللغوي والعرفي. كما أن اختلاف المط من حيث كونه : شموليا تارة ، وبدليا أخرى ، انما هو من ناحية الحكم. وليس الاطلاق الشمولي مغايرا للاطلاق البدلي ، بل الاطلاق في الجميع بمعنى واحد وهو الارسال ، غايته ان الحكم الوارد على النكرة أو الطبيعة تارة : يقتضى البدلية كالنكرة الواقعة في سياق الاثبات والحكم الوارد على الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ، حيث إن نتيجة البدلية في المقام الامتثال والاكتفاء بفرد واحد. وأخرى : يقتضى الشمول كالنكرة أو الطبيعة الواقعة في حيز النفي ، أو الطبيعة الواقعة في حيز الاثبات بلحاظ مط الوجود ، فالبدلية والشمولية انما يستفادان من كيفية تعلق الحكم بالنكرة والطبيعة مع كون الاطلاق في الجميع بمعنى واحد.

وبذلك يظهر النظر في تعريف المط : بأنه ما دل على شايع في جنسه ، فان التعريف بذلك ينطبق على الاطلاق المستفاد من النكرة ، ولا ينطبق على الاطلاق الشمولي ، وان أمكن توجيه التعريف على وجه ينطبق على كل من قسمي الاطلاق ، الا انه يرد على التعريف على كل حال ان الظاهر منه كون الاطلاق والتقييد من صفات اللفظ ، حيث إن المراد من الموصول هو اللفظ مع أن الظاهر هو كون الاطلاق والتقييد من صفات المعنى ، كالكلية والجزئية ، واتصاف اللفظ بهما

ص: 562

انما يكون بالتبع والعرض والمجاز. والامر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

ثم إن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الافرادية كذلك يردان على الجمل التركيبية. ومعنى اطلاق الجملة هو ارسالها وعدم تقييدها بما يوجب ظهورها في خلاف ما تكون ظاهرة فيه لولا تقييدها بذلك ، فإنه قد تكون الجملة التركيبية لو خليت ونفسها ظاهرة في معنى ، وكان تقييدها موجبا لانقلاب ظهورها كما في الجمل الطلبية ، فان اطلاق الامر والطلب يقتضى النفسية العينية التعيينية ، والتقييد يوجب الغيرية أو التخييرية أو الكفائية ، على اختلاف كيفية التقييد ، وكالعقد فان اطلاقه يقتضى نقد البلد أو التسليم والتسلم ، وتقييده يقتضى خلاف ذلك.

والفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية والجمل التركيبية ، هوان اطلاق المفاهيم الأفرادية يقتضى التوسعة ، وتقييدها يقتضى التضييق. بخلاف اطلاق الجمل التركيبية ، فان اطلاقها يقتضى التضييق ، وتقييدها يقتضى التوسعة.

بل ربما يكون اطلاق الجملة موجبا لتضييق مفهوم مفرداتها ، بحيث لو لم تكن المفردات واقعة في ضمن الجملة لكان مفهومها موسعا ، الا ان وقوعها في ضمن ذلك يوجب تضييق مفهومها. وهذا كما في كون اطلاق العقد يقتضى نقد البلد ، فان الدرهم لولا وقوعه في ضمن العقد من جعله ثمنا أو مثمنا كان مفهومه عاما يعم كل درهم نقد البلد وغيره ، الا انه لما وقع في ضمن العقد اقتضى اطلاقه نقد البلد. وليس ذلك لأجل انصراف الدرهم إلى نقد البلد ، بل لأجل اطلاق العقد وعدم تقييده بالأعم من نقد البلد ، والا لكان الاقرار بالدرهم موجبا للانصراف إلى نقد البلد ، بحيث ليس له التفسير بغيره ، والظ انه لم يقل به أحد.

وعلى كل حال : لا اشكال في أن الجمل التركيبية تتصف بالاطلاق والتقييد ، كاتصاف المفاهيم الأفرادية بهما. ومحل الكلام في مبحث المط والمقيد انما هو في المفاهيم الأفرادية ، واما الجمل التركيبية فليس لها مبحث مخصوص ، وليس لاطلاقها ضابط كلي ، بل الجمل التركيبية تختلف حسب اختلاف المقامات. والبحث في باب المفاهيم كلها يرجع إلى البحث عن اطلاقها وتقييدها ، لما تقدم من

ص: 563

ان الضابط في كون القضية ذات مفهوم ، هو رجوع الشرط أو الوصف أو الغاية إلى الحكم ، فيكون من تقييد الجملة الطلبية.

الامر الثاني :

قد عرفت ان الاطلاق هو بمعنى الارسال والشمول والمراد من الشمول هو شمول الطبيعة لما يندرج تحتها وينطبق عليها انطباق الكلي على مصاديقه. فالمعاني الحرفية لا تتصف بالاطلاق والتقييد ، لان المعاني الحرفية وان قلنا : بان الموضوع له فيها عام ، الا ان عموم الموضوع له في الحروف يكون بمعنى آخر غير عموم الموضوع له في الأسماء ، فان معنى عموم الموضوع له في الأسماء هو كون المعنى قابل الصدق على كثيرين ، وهذا انما يكون إذا كان تحت ذلك المعنى : أنواع ، أو أصناف ، أو افراد ، يكون ذلك المعنى منطبقا عليها انطباق الطبيعي على مصاديقه ، وهذا يحتاج إلى أن يكون للمعنى تقرر في وعاء العقل والتصور ، والمعاني الحرفية - على ما حققناه في محله - لايكون لها تقرر الا في موطن الاستعمال ، وتكون ايجادية محضة ، فالكلية في الحروف تكون بمعنى آخر ، قد تقدم بيانه عند البحث عن المعاني الحرفية. وذلك المعنى غير قابل لورود الاطلاق والتقييد عليه ، وذلك واضح كوضوح ان الاعلام الشخصية لا تتصف بالاطلاق والتقييد بالمعنى المتقدم ، وانما يكون اطلاقها باعتبار الطوارئ والحالات ، إذ ليس تحت الاعلام افراد قابلة الانطباق عليها.

وحينئذ ينبغي خروج الاعلام عن محل الكلام ، كخروج الجمل التركيبية ، فان محل الكلام في المقام انما هو في الاطلاق القابل لان يكون جزء مدلول اللفظ - على ما ينسب إلى المشهور في مقابل مقالة سلطان المحققين - على ما سيأتي تحقيقه. وفي الاعلام لا يمكن ان يتوهم دخول الاطلاق باعتبار الطوارئ والحالات في مدلول اللفظ ، بحيث تكون التسوية بين القيام والعقود جزء مدلول لفظ زيد ، فان هذا ضروري الفساد ، لوضوح ان لفظ زيد موضوع للذات المشخصة مع قطع النظر عن الحالات والطواري ، واطلاقها لذلك انما يكون بمقدمات الحكمة. فالاطلاق المبحوث عنه بين المشهور وسلطان المحققين في كونه جزء مدلول اللفظ أو عدم كونه جزء مدلول اللفظ ، انما هو في العناوين الكلية القابلة الصدق على

ص: 564

كثيرين ، كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية.

الامر الثالث :

لا اشكال في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، لان تقابل السلب والايجاب انما يكون بين الوجود والعدم المحمولين على الماهيات المتصورة ، لان الماهية المتصورة في العالم اما ان يحمل عليه الوجود ، واما ان يحمل عليها العدم ، ولا يمكن اجتماعهما في الماهية ولا ارتفاعهما عنها. والاطلاق والتقييد ليسا كذلك ، لامكان ارتفاعهما عن المحل الغير القابل لهما ، كما في الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد ورود الامر ، كقصد التقرب ، والعلم بالامر ، والايصال في المقدمة ، فإنه في جميع هذا لا اطلاق ولا تقييد ، فإذا امتنع التقييد بأحد هذه الأمور ( كما حقق في محله ) امتنع الاطلاق بعين امتناع التقييد ، لان الاطلاق ليس الا عبارة عن تساوى وجود ذلك القيد وعدمه ، فإذا امتنع لحاظ ذلك القيد امتنع لحاظ التسوية أيضا وذلك واضح.

فالتقابل بين الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يكون تقابل السلب والايجاب ، فلم يحتمله أحد. فيدور الامر ح بين ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، أو تقابل التضاد. فبناء على ما ينسب إلى المشهور : من أن الاطلاق جزء مدلول اللفظ ولا نحتاج في استكشاف الاطلاق إلى مقدمات الحكمة ، يكون الاطلاق ح أمرا وجوديا ، ويكون التقابل بينهما تقابل التضاد. وبناء على مسلك السلطان : من أن الاطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة وليس جزء مدلول اللفظ ، يكون الاطلاق ح أمرا عدميا ، ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وعلى كلا المسلكين لا بد ان يردا على المحل القابل لهما ، ويمكن ح ارتفاعهما بانتفاء المحل القابل ، وان كان في المحل القابل لا يمكن ان يرتفعا ، فلا يمكن ان يكون الانسان لا أعمى ولا بصيرا ، وان كان الجدار مثلا لا أعمى ولا بصيرا ، لعدم قابلية الجدار لذلك.

والحاصل : ان التقابل بين القيام واللاقيام تقابل السلب والايجاب ، لان القيام هو بنفسه من الماهيات المتصورة مع قطع النظر عن المحل ، فهو اما موجود واما معدوم ، وقد عرفت : ان التقابل بين الوجود والعدم تقابل السلب والايجاب ، و

ص: 565

التقابل بين قيام زيد ولا قيامه تقابل العدم والملكة ، فان عدم قيام زيد يكون من العدم النعتي ، كما أن قيام زيد يكون من الوجود النعتي.

والتقابل بين الوجود والعدم النعتي دائما يكون تقابل العدم والملكة.

والتقابل بين القيام والعقود تقابل التضاد ، لان تقابل التضاد يكون بين الوجوديين.

والتقابل بين الاطلاق والتقييد يدور امره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة ، أو من تقابل التضاد. وسيأتي ما هو الحق انشاء اللّه.

الامر الرابع :

في تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب (1) إلى السلطان : من كون الاطلاق يتوقف على مقدمات الحكمة كما هو مقالة السلطان ، أو انه لا يتوقف كما هو مقالة المشهور.

فنقول : انه لا اشكال في أن الاختلاف لا يرجع إلى الاختلاف في معنى الاطلاق ، بحيث يكون الاطلاق عند المشهور غير الاطلاق عند السلطان ، بل ليس للاطلاق الا معنى واحد ، وهو الارسال أو تساوى كل خصوصية مع عدمها ، بحيث يكون معنى ( أعتق رقبة ) في قوة قولنا : ( أي رقبة ) وهذا مما لا نزاع فيه ولا اشكال. وانما النزاع في أن هذه التسوية هل هي جزء مدلول اللفظ؟ أو انها تستفاد من مقدمات الحكمة؟ والحق انها تستفاد من مقدمات الحكمة. ولتوضيح ذلك ينبغي تمهيد مقدمة.

وهي انهم قسموا الماهية إلى : الماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، والماهية بشرط شيء. واللابشرط وبشرط لا تستعمل بمعنيين.

الأول : هو ما يذكرونه في باب الفرق بين الجنس والفصل والمادة

ص: 566


1- هذا ما افاده سلطان المحققين قدس سره في حاشيته على المعالم في ذيل قول صاحب المعالم « فلانه جمع بين الدليلين .. » ، في مباحث المطلق والمقيد ص 155 ، « طبعت هذه الحاشية في المعالم المطبوع سنة 1378. المكتبة العلمية الاسلامية »

والصورة ، والفرق بين المشتق ومبدء الاشتقاق. والمراد من بشرط لا في هذا الباب هو لحاظ الشيء بشرط لا عما يتحد به ، أي لحاظ الجنس بشرط عدم اتحاده مع الصورة ، وكذا لحاظ الصورة بشرط عدم اتحادها مع الجنس ، وهما بهذا الاعتبار آبيان عن الحمل ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على ثالث. ويقابل هذا اللحاظ لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه ، وكذا الصورة. وهما بهذا الاعتبار غير آبيين عن الحمل ، ويصح حمل أحدهما على الآخر ، وحملهما على ثالث. وكذا الكلام في باب المشتق ومبدئه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث المشتق. والمراد من بشرط لا ولا بشرط في تقسيم الماهية غير هذا المعنى من لا بشرط وبشرط لا ، بل اللابشرطية والبشرط اللائية في تقسيم الماهية انما يكون باعتبار الطوارئ والخصوصيات اللاحقة للماهية.

وتفصيل ذلك : هو ان الماهية تارة : تلاحظ بشرط عدم انضمام شيء من الخصوصيات إليها ، بل تكون مجردة عن كل ما عداها من الطوارئ والاعراض ، وهي بهذا المعنى تكون من الكلية العقلية ولا موطن لها الا العقل ، ويمتنع صدقها على الخارجيات وحمل شيء من الخارجيات عليها ، بل محمولاتها تكون من المعقولات الثانوية كقولنا : الانسان نوع ، أو حيوان ناطق ، وما شابه ذلك من المحمولات العقلية ، لوضوح انه لا وجود للماهية المجردة عن كل خصوصية ، وهذه هي الماهية بشرط لا.

وأخرى : تلاحظ الماهية مقيدة بخصوصية خاصة : من العلم ، والايمان ، والعدالة ، وغير ذلك من الخصوصيات الخارجية اللاحقة للماهيات ، وهذه هي الماهية بشرط شيء ، وهذا مما لا اشكال فيه ولا كلام. وانما الاشكال والكلام في معنى الماهية لا بشرط ، والفرق بينها وبين اللابشرط المقسمي ، فإنه قد اضطربت كلمات الاعلام في ذلك. فمنهم من فسر اللابشرط القسمي بما يرجع إلى الكلي العقلي ، وجعل اللابشرط المقسمي الكلي الطبيعي. ومنهم من جعل الكلي الطبيعي اللابشرط القسمي. وينبغي أولا ان يقطع النظر عما قيل في المقام ، ويلاحظ ان المعنى المتصور لللابشرط في مقابل بشرط لا وبشرط شيء ما هو؟ حيث إن

ص: 567

البحث في المقام عقلي وأمره راجع إلى ما يتصوره العقل.

فنقول : قد عرفت الاعتبارين للماهية ، وان الماهية تارة : تكون مجردة عن كل خصوصية ، وهي الكلي العقلي. وأخرى : تكون منضمة إلى خصوصية خاصة ، هي الماهية المشروطة والمقيدة. والمعنى الثالث للماهية الذي يكون في مقابل هذا هو الماهية المرسلة المطلقة ، أي الماهية التي تكون محفوظة في جميع الخصوصيات والطواري المتقابلة والقدر المشترك الموجود في جميع ذلك ، وهو ذات الرقبة مثلا المحفوظة في ضمن الايمان ، والكفر ، والعلم ، والجهل ، والرومية ، والزنجية ، وغير ذلك من الخصوصيات والطواري ، فإنه لا اشكال في أن هناك ما يكون قدرا مشتركا بين جميع تلك الخصوصيات القابل لحمل كل خصوصية عليه كما يقال : الرقبة مؤمنة ، والرقبة كافرة ، وكذا رومية ، أو زنجية ، وغير ذلك. وهذا المعنى هو الذي يصح ان يجعل مقابلا للمعنيين الآخرين ، ويستقيم حينئذ تقابل الأقسام ويتميز بعضها عن بعض.

ومنه يتضح فساد اخذ الارسال قيدا في معنى اللابشرط القسمي ، فإنه لا معنى لاخذ الارسال قيدا ، إذ المراد من الارسال ان كان بمعنى التجرد يرجع حينئذ إلى بشرط لا ولا يكون قسما آخر ، وان كان المراد من الارسال هو عدم صلاحية الماهية للتقييد بشيء ، فهذا مما لا يرجع إلى محصل.

والحاصل : انه لا اشكال في أن التقسيم لا بد ان يكون على وجه لا تتداخل فيه الأقسام بعضها مع بعض ، فلا بد ان يكون لكل من الماهية بشرط شيء ، والماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، معنى يختص به ولا يرجع إلى الآخر. وقد عرفت معنى الماهية بشرط لا ، وهو بشرط التجرد عن جميع الخصوصيات الخارجية ، وان ذلك يكون كليا عقليا. وعرفت أيضا معنى الماهية بشرط شيء ، وهو بشرط الانضمام إلى خصوصية خاصة من الخصوصيات الخارجية أو الذهنية ، وان ذلك هو معنى التقييد والاشتراط. وبعد ذلك لا بد ان يكون للماهية لا بشرط معنى لا يرجع إلى الماهية بشرط ، لا ، ولا إلى الماهية بشرط شيء ، والا يلزم تثنية الأقسام لا تثليثها.

والمعنى القابل لان يكون للماهية لا بشرط - غير الماهية بشرط التجرد وغير

ص: 568

الماهية بشرط عدم التجرد - هو ما ذكرنا. وليس المراد من لا بشرط هو اللابشرطية عن البشرط اللائية والبشرط الشيئية ، بحيث يكون بشرط لا قسما من لا بشرط ، وبشرط شيء قسما آخر ، وكان لا بشرط يجتمع مع كل منهما ، فإنه يكون حينئذ لا بشرط مقسما لهما لا قسيما ، والمفروض ان الماهية لا بشرط القسمي قسيم للماهية بشرط لا وللماهية بشرط شيء لا انها مقسم لهما بحيث صح اجتماعه مع كل منهما ، فان هذا من شان اللابشرط المقسمي ، لا اللابشرط القسمي. فلا بد ان يكون لللابشرط القسمي معنى لا يجامع بشرط لا ولا بشرط شيء.

وحاصل ذلك المعنى : هو الماهية المرسلة السارية في جميع الخصوصيات والطوارئ المجامعة لها لا على نحو يكون الارسال قيدا لها ، حتى يقال : ان ذلك يرجع إلى بشرط لا أو بشرط شيء - كما قيل - فان ذلك ضروري البطلان ، فان المراد من الماهية المرسلة ، هو نفس الماهية وذات المرسل الساري في جميع الافراد والمحفوظ مع كل خصوصية والموجود مع كل طور.

وليس الفرق بين هذا المعنى من اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي اعتباريا - كما قيل - فإنه لا معنى لكون الفرق بينهما اعتباريا مع كون بشرط لا وبشرط شيء من اقسام اللابشرط المقسمي وهما يضادان اللابشرط القسمي ، بل الفرق بين اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي لابد ان يكون واقعيا ثبوتيا لا اعتباريا لحاظيا ، فان المراد من المقسم ، هو نفس الماهية وذاتها من حيث هي ، على وجه تكون الحيثية مرآة للذات ، فتأمل - فإنه قد يقال : ان الماهية من حيث هي ليست الا هي لا موجودة ولا معدومة ولا يصح حمل شيء عليها ، والمقسم لابد وأن يكون قابلا لحمل الأقسام عليه ، فلا يصح ان يقال : المقسم الماهية من حيث هي هي.

وعلى كل حال : اللابشرط المقسمي هو ما يكون مقسما لكل من : لا بشرط ، وبشرط لا ، وبشرط شيء. وهذا غير اللابشرط القسمي الذي يكون مضادا وقسيما لبشرط لا وبشرط شيء. وقد عرفت : ان ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء مما لا يمكن ، لما عرفت : من أن الشرط لا يرجع إلى الكلي العقلي ، و

ص: 569

الكلي العقلي قسم واحد.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض المحققين في المقام ، حيث أشكل على المشهور القائلين : بان الاطلاق والارسال جزء مدلول اللفظ ولا يحتاج إلى مقدمات الحكمة ، بأنه يلزم ان يكون الاطلاق ح كليا عقليا ويمتنع صدقه على الخارجيات ، فلا يصح ان يتعلق طلب بالمط حيث لا يمكن امتثاله. والذي أوجب الوقوع في هذا الوهم ، هو اخذ الارسال قيدا للماهية ، فارجع اللابشرط القسمي إلى الكلي العقلي. وحيث إن المشهور ذهبوا إلى أن الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي ، فأشكل عليهم ان المط يكون ح من الكليات العقلية وانه يرجع إلى الماهية بشرط لا.

وهذا الاشكال والكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان الاطلاق ليس له حقيقتان ، بل الاطلاق على ما عرفت : هو عبارة عن تساوى الخصوصيات. وقولنا مثلا ( أعتق رقبة ) بمنزلة قولنا ( أي رقبة ) غايته ان المشهور ذهبوا إلى أن هذه التسوية جزء مدلول اللفظ ، وسلطان المحققين ومن تبعه ذهبوا إلى أن هذه التسوية تستفاد من مقدمات الحكمة. فهل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يكون كليا عقليا؟ أو هل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة غير الاطلاق الذي يكون جزء مدلول اللفظ؟ مع أنه ليس للاطلاق الا حقيقة واحدة ومعنى فارد.

فدعوى : ان الاطلاق الذي يقول به المشهور هو الماهية المقيدة بالارسال ويرجع إلى الماهية بشرط لا ويكون من الكلي العقلي ، مما لا محصل لها. بل الاطلاق الذي يقول به المشهور ، هو الماهية المرسلة أي ذات المرسل الموجود في ضمن جميع الخصوصيات والمحفوظ عند جميع الطوارئ ، وهو معنى اللابشرط القسمي في مقابل بشرط لا ، وبشرط شيء. وتكون أسماء الأجناس عند المشهور موضوعة للماهية اللابشرط القسمي وعند السلطان موضوعة للماهية اللابشرط المقسمي المحفوظة مع بشرط لا وبشرط شيء ، ولا بشرط. وليست التسوية والارسال داخلة في معاني أسماء الأجناس ، وانما تستفاد التسوية من مقدمات الحكمة ، ويكون المراد من اللفظ

ص: 570

هو اللابشرط القسمي ، لكن ببركة مقدمات الحكمة. والا فنفس اللفظ لا يدل الا على الماهية المهملة التي تكون مقسما للكلي العقلي وغيره.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الاشكال على المشهور بان الاطلاق لو كان مستفادا من اللفظ يلزم ان تكون المطلقات من الكليات العقلية ، مما لا وجه له. كما أن ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء ، مما لا وجه له. كما أن جعل الفرق بين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي بالاعتبار ، مما لا وجه له ، فان كل ذلك مما لا يمكن التصديق به.

نعم : هنا امر آخر وقع محل الكلام بين الاعلام ، وهو ان الكلي الطبيعي الذي وقع محل الكلام في وجوده وانتزاعيته ، هل هو مفاد اللابشرط المقسمي أو اللابشرط القسمي؟.

ذهب المحقق السبزواري في منظومته إلى أن الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي. (1) وذهب آخرون إلى أنه هو اللابشرط القسمي. وعلى كلا التقديرين فهو كلام آخر لا دخل له بما نحن فيه من كون اللابشرط القسمي غير اللابشرط المقسمي حقيقة ، وغير بشرط لا وبشرط شيء. وان كان الحق في ذلك المقام هو كون الكلي الطبيعي عبارة عن اللابشرط القسمي ، ولا يمكن جعله من اللابشرط المقسمي ، وذلك لان الكلي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين جميع المتفقة الحقيقة من الافراد الخارجية الفعلية وما يفرض وجودها. والماهية بشرط لا - عبارة عن الماهية المجردة عن كل خصوصية حتى خصوصية وجودها الذهني ، وليست الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، بل ليست هي الا عبارة عن المفهوم والمدرك العقلاني ، وليست هي الفرد العقلاني المجرد عن

ص: 571


1- قال المحقق السبزواري في منظومته كلي الطبيعي هي المهية *** وجوده وجودها شخصية إذ ليس بالكلية مرهونا *** بكل الأطوار بدا مقرونا ( منظومة السبزواري ، قسم المنطق ص 22 - 21 )

المادة فان الفرد العقلاني هو من افراد الحقيقة ، كما يقال : ان لكل حقيقة فردين : فردا خارجيا ماديا ، وفردا مجردا عقلانيا ، وهو المسمى ( برب النوع والمثل الأفلاطونية ) واما الماهية بشرط لا فليست هي الفرد العقلاني ، بل هي كما عرفت من الكليات العقلية وليست الا عبارة عن المفهوم ، والمفهوم غير المصداق.

فلو كان الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي يلزم ان تكون الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، لما عرفت من أن الكلي الطبيعي عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الافراد. وليس الانسان بشرط لا مثلا من افراد حقيقة الانسان حتى يقال : ان المقسم هي الحقيقة ، وافرادها : الماهية بشرط لا ، وبشرط شيء ، ولا بشرط ، فلابد ان يكون الكلي الطبيعي هو اللابشرط القسمي الذي يكون تمام حقيقة الافراد الخارجية. وعلى كل حال : فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

وإذ قد عرفت ما ذكرناه فاعلم : ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللابشرط المقسمي كما هو مقالة السلطان ، وليست موضوعة بإزاء اللابشرط القسمي كما هو مقالة المشهور. وذلك : لوضوح ان استعمال الانسان في الماهية بشرط لا ، كقولنا ( الانسان نوع ) وفي الماهية بشرط شيء والماهية لا بشرط كقولنا ( الانسان ضاحك ) يكون بوزان واحد وعلى نهج فارد بلا تصرف وعناية. ولو كان الانسان موضوعا لللابشرط القسمي لكان استعماله في الماهية بشرط لا على نحو التجوز والعناية. ومما يقطع به انه ليس للانسان وضعان : وضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من المقولات الثانوية ويكون من الماهية بشرط لا ، ووضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من الخارجيات. ويقطع أيضا انه ليس استعمال الانسان في أحدهما على نحو الحقيقة وفي الآخر على المجاز ، فلابد ان يكون موضوعا للجامع بينهما ، وليس ذلك الا اللابشرط المقسمي ، وهو المهية المبهمة المهملة القابلة للانقسامات وحينئذ فنفس اللفظ لا دلالة له على شيء من الأقسام ، واستفادة كل واحد من الأقسام يحتاج إلى امر آخر وراء مدلول اللفظ. واستفادة ان المراد هو المهية بشرط لا أو أحد القسمين الآخرين انما يكون من عقد الحمل ، فان المحمول ان كان من المعقولات الثانوية فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو المهية بشرط لا ، وان كان من

ص: 572

الخارجيات - كالعتق والاكرام والاكل والضرب - فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو الماهية لا بشرط ، أو بشرط شيء.

والامر الذي يستفاد منه ان المراد من الموضوع هو اللابشرط القسمي الذي يكون هو معنى الاطلاق هو المعبر عنه بمقدمات الحكمة. فمقدمات الحكمة انما نحتاج إلهيا لاستفادة ان المراد من اللفظ الموضوع للمهية المبهمة هو المهية المرسلة التي يتساوى فيها كل خصوصية ونقيضها.

وفى أسماء الأجناس نحتاج إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين ، باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الافرادي. بخلاف الألفاظ الموضوعة للعموم ، فإنه نحتاج فيها إلى مقدمات الحكمة في ناحية المصب باعتبار التخصيص الأنواعي فقط ، واما باعتبار الافرادي فنفس العام يتكفل ذلك بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. كما أن في المطلقات نحتاج إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان من الخارج ولو بمعونة الأصل العقلائي ، كما سيأتي انشاء اللّه ، وفي العموم نفس أدلة العموم تقتضي كون المتكلم في مقام البيان. فالفرق بين العام الأصولي والمط يكون من جهتين. وعلى كل حال ، ان مقدمات الحكمة مركبة من عدة أمور :

الأول :

ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الاطلاق والتقييد وقابلا لهما ، وذلك بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على ورود الحكم. واما الانقسامات اللاحقة - كقصد القربة واعتبار العلم والجهل بالحكم - فهي ما لا يمكن فيها الاطلاق والتقييد ، فلا مجال فيها للتمسك بالاطلاق ، وفي الحقيقة هذا خارج عن مقدمات الحكمة ، بل هذا الامر يكون محققا لموضوع الاطلاق والتقييد.

الثاني :

كون المتكلم في مقام البيان ، لا في مقام الاجمال. وان لايكون الاطلاق تطفليا ، بحيث يكون الكلام مسوقا لبيان حكم آخر. كما في قوله تعالى : (1) « فكلوا

ص: 573


1- المائدة ، 4

مما أمسكن عليكم » فان الكلام مسوق لبيان حلية ما يصطاده الكلب المعلم ، وليس اطلاق « كلوا » واردا لطهارة موضع عضه أو نجاسته ، فهو في الحقيقة من هذه الجهة يكون مجملا ليس في مقام البيان. واعتبار هذا الامر في صحة التمسك بالمطلقات مما لا شبهة فيه. ولا شبهة أيضا في عدم استفادة الاطلاق من الأدلة الواردة في بيان أصل تشريع الاحكام ، كقوله تعالى : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمثال ذلك ، فان ورود ذلك في مقام التشريع يكون قرينة على أن المتكلم ليس في مقام البيان ، كما أن الاطلاق التطفلي المسوق لبيان شيء آخر يكون كذلك ، أي يكون قرينة على أنه ليس المتكلم في مقام البيان.

واما فيما عدا هذين الموردين وفرض الكلام خاليا عن قرينة كون المتكلم ليس في مقام البيان ، فالأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام البيان لو فرض الشك في ذلك. وعلى ذلك يبتنى جواز التعويل على المطلقات من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات ، فإنه لا طريق لنا إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان الا من جهة الأصل العقلائي ، لمكان ان الظاهر من حال كل متكلم هو كونه في مقام بيان مراده ، وكونه في مقام الاهمال والاجمال يحتاج إلى احراز ذلك ، والا فطبع الكلام والمتكلم يقتضى ان يكون في مقام البيان ، وذلك واضح.

الثالث :

عدم ذكر القيد : من المتصل والمنفصل ، لأنه مع ذكر القيد لا يمكن ان يكون للكلام اطلاق ، وذلك أيضا واضح.

فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة ، فلا محالة يستفاد من الكلام الاطلاق ، ولا يحتاج في استفادة الاطلاق إلى شيء آخر وراء هذه الأمور الثلاثة.

نعم : ذكر في الكفاية (1) أمرا رابعا ، وهو عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. والمراد من وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، هو ثبوت القيد المتيقن بحسب دلالة اللفظ وظهوره ، لا بحسب الحكم وواقع الإرادة ، فان ثبوت المتيقن بحسب

ص: 574


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 384 « ثالثتها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب. »

واقع الإرادة مما لا يتوهم دخله في صحة التعويل على المطلقات ، وانما الذي يمكن دخله في ذلك هو عدم وجود المتيقن في مقام التخاطب ومرحلة دلالة اللفظ وظهوره.

والانصاف : ان وجود المتيقن في هذه المرحلة أيضا مما لا دخل له بالمقام ، الا إذا رجع إلى انصراف اللفظ إلى القدر المتيقن ، أو انصراف اللفظ عما عداه ، على اختلاف في كيفية الانصراف. واما مع عدم رجوعه إلى الانصراف فهو مما لا عبرة به ، كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب أو لم يكن ، فإنه على أي حال يصح التعويل على المطلق من غير فرق بين ان نقول : ان المراد من كون المتكلم في مقام البيان ، كونه في مقام بيان كل ما له دخل في متعلق حكمه وموضوعه النفس الأري - كما هو الحق والمختار - أو كونه في مقام بيان ما له دخل في ضرب القاعدة والقانون ، كما هو مسلكه ( قده ) من أن المطلقات انما وردت لضرب القاعدة والقانون لا لبيان المراد النفس الأمري ، فإنه على كل تقدير يكون وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا اثر له ، لأنه لو كان المراد النفس الأمري أو القانوني هو القدر المتيقن في مقام التخاطب لا خل ببيانه وما بينه ، وليس وجود المتيقن بيانا ولا يصلح للبيانية ، فان من أوضح مصاديق القدر المتيقن في مقام التخاطب هو ورود العام والمط في مورد خاص كقوله علیه السلام : (1) خلق اللّه الماء طهورا - في مورد السؤال عن ماء بئر بضاعة ، فان المورد هو المتيقن المراد من اللفظ المط مع أنه لا يخصص المط بالمورد ، لا قال به أحد ولا هو ( قده ) قال به.

فمن ذلك يظهر : ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مما لا اثر له ، ولا يصلح لهدم الاطلاق ، بل حاله حال وجود المتيقن في الحكم والمراد النفس الأمري الذي اعترف ( قده ) بأنه مما لا اثر له.

نعم : لو كان تأسيس مقدمات الحكمة لأجل خروج الكلام عن اللغوية وعدم بقاء المخاطب في حيرة بحيث لا يفهم من الكلام شيئا ، لكان لثبوت القدر المتيقن دخل في ذلك ، لان وجود المتيقن في البين يوجب خروج الكلام عن اللغوية وان المخاطب يفهم عن الكلام ذلك ، الا ان تأسيس مقدمات الحكمة ليس لأجل

ص: 575


1- المستدرك ، الجلد 1 الباب 13 من أبواب الماء المطلق. الحديث 4 ص 28

ذلك ، بل لأجل استخراج ما هو الموضوع النفسي الأمري ، أو لأجل استخراج ما اراده المتكلم من اللفظ بالإرادة الاستعمالية من باب ضرب القاعدة والقانون ، على ما اختاره ( قده ). وثبوت القدر المتيقن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك ، لأنه لايكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، الا إذا رجع القدر المتيقن إلى حد الانصراف ، سواء كان من الانصراف إليه ، ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ويكون المتكلم كأنه بين القيد في اللفظ. أو كان من الانصراف عنه ، بحيث يكون اللفظ منصرفا عما عدى القدر المتيقن وان لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقن ح مما يصلح للبيانية وان لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأول. ولكن مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يصلح لان يكون بيانا ولا لان يكون مما يصلح للبيانية ، والا لكان المورد أولى بذلك ، لأنه أوضح مصاديق القدر المتيقن ، مع أنه قد عرفت عدم الالتزام به.

فتحصل : ان الاطلاق يتوقف على أمرين لا ثالث لهما. الأول : كون المتكلم في مقام البيان. الثاني : عدم ذكر القيد متصلا كان أو منفصلا ، فان من ذلك يستكشف انا عدم دخل الخصوصية في متعلق حكمه النفس الأمري ، قضية تطابق عالم الثبوت لعالم الاثبات.

الامر الخامس :

بعد ما عرفت ان أسماء الأجناس موضوعة لللابشرط المقسمي ، ظهر لك : ان التقييد لا يوجب المجازية ، كما عليه المحققون من المتأخرين ، فان اللفظ لم يستعمل ح الا في معناه ، والخصوصية انما تستفاد من دال آخر.

نعم : المجازية انما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي وان الاطلاق يستفاد من نفس اللفظ بحسب وضعه ، فالتقييد يوجب استعمال اللفظ في خلاف معناه ، لان التقييد يضاد الاطلاق من غير فرق بين التقييد المتصل أو المنفصل ، فان التقييد لا محالة يوجب انسلاخ اللفظ عن الخصوصية المأخوذة فيه التي هي الاطلاق وتساوى كل خصوصية ونقيضها ، ولا يمكن بقاء تلك الخصوصية مع التقييد متصلا كان أو منفصلا ، فالتقييد بناء على

ص: 576

مسلك المشهور لامحة يوجب المجازية. كما أنه بناء على ما هو الحق : من وضع الألفاظ للابشرط المقسمي لا يوجب المجازية مط ، متصلا أو منفصلا. فالقول بالتفصيل بين المتصل والمنفصل - بعدم استلزام التقييد للمجازية في الأول واستلزامه في الثاني - مما لا وجه له على كل حال ، وذلك واضح ، الا ان الشأن في صحة اخذ الاطلاق مدلولا لفظيا.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : ان الكلام يقع ح في حمل المط على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات :

الجهة الأولى :

انه إذا ورد مط ومقيد متنافيان ، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الامر في المط على المقيد ، لا بحمل الامر في المقيد على الاستحباب وكونه أفضل الافراد ، ولا بكونه من قبيل الواجب في واجب مط ، من غير فرق بين كون ظهور الامر في المط في الاطلاق أقوى من ظهور الامر في المقيد في التقييد ، أو أضعف ، فإنه على كل حال لابد من حمل المطلق على المقيد من غير ملاحظة أقوى الظهورين. وذلك لان الامر في المقيد يكون بمنزلة القرينة على ما هو المراد من الامر في المط ، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذي القرينة.

اما كونه بمنزلة القرينة ، فلانه وان لم يتحصل لنا بعد ضابط كلي في المايز بين القرينة وذيها ، الا ان ملحقات الكلام : من الصفة ، والحال ، والتميز ، بل المفاعيل ، تكون غالبا بل دائما قرينة على أركان الكلام : من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل.

نعم : في خصوص المفعول به مع الفعل قد يتردد الامر بينهما في أن أيا منهما قرينة والآخر ذو القرينة ، كما في قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، فإنه كما يمكن ان يكون عموم اليقين - في تعلقه بما له من اقتضاء البقاء وعدمه - قرينة على ما أريد من النقض الذي لابد من تعلقه بما له اقتضاء البقاء ، كذلك يمكن العكس. ومن هنا وقع الكلام في اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضى. وكذا في ( لا تضرب

ص: 577

أحدا ) فإنه يمكن ان يكون عموم الأحد للاحياء والأموات قرينة على أن المراد من الضرب الأعم من المولم وغيره ، ويمكن العكس.

وبالجملة : لا يمكن دعوى الكلية في باب الفعل والفاعل والمفعول به ، بل قد يكون الفعل قرينة على الفعول به ، وقد يكون المفعول به قرينة على الفعل ، الا انه فيما عدى ذلك من المتممات وملحقات الكلام كلها تكون قرينة على ما أريد من أركان الكلام.

وإذا عرفت ذلك فنقول : ان الأصل الجاري في القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذيها من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، كما هو الشأن في كل حاكم ومحكوم. ومن هنا كان ظهور ( يرمى ) في رمى النبل مقدما على ظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس ، وان كان ظهور الأول بالاطلاق والثاني بالوضع والظهور المستند إلى الوضع أقوى من الظهور المستند إلى الاطلاق.

والسر في ذلك : هو ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تكون حاكمة على أصالة الحقيقة في ( أسد ) ، لأن الشك في المراد من ( الأسد ) يكون مسببا عن الشك في المراد من ( يرمى ) ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يكون رافعا لظهور ( الأسد ) في الحيوان المفترس. فلا يبقى للأسد ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل بلازمه على أن المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، فان الدلالة على اللازم فرع الدلالة على الملزوم ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يرفع دلالة الملزوم.

وبذلك يندفع ما ربما يقال : ان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فكما ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تقتضي ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، كذلك أصالة الحقيقة في الأسد تقتضي ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، لان لازم أصالة الحقيقة هو ذلك.

توضيح الدفع : هو ان ( يرمى ) بمدلوله الأولى يقتضى ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، لان ( يرمى ) عبارة عن رامي النبل وذلك عبارة أخرى عن الرجل الشجاع. وهذا بخلاف أسد ، فإنه بمدلوله الأولى غير متعرض لحال ( يرمى ) وان المراد منه رمى التراب ، بل مدلول الأولى ليس الا الحيوان المفترس.

ص: 578

نعم : لازم ذلك هو ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، ودلالته على لازمه فرع دلالته على مدلوله وبقاء ظهوره فيه ، وظهور ( يرمى ) يكون مصادما لظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس وهادما له ، فلا يبقى له ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل على لازمه وذلك واضح.

وإذا عرفت ذلك ، ظهر لك : ان المقيد يكون بمنزلة القرينة بالنسبة إلى المطلق ، لان القيد لا يخلو : اما من أن يكون وصفا ، أو حالا ، أو غير ذلك من ملحقات الكلام ، وقد تقدم ان ملحقات الكلام كلها تكون قرينة ، وأصالة الظهور في المقيد تكون حاكمة على أصالة الظهور في المط حتى لو فرض ان ظهور المطلق في الاطلاق أقوى من ظهور المقيد في التقييد ، فلا يبقى للمط ظهور في الاطلاق حتى يحمل الامر في المقيد على الاستحباب ، أو واجب في واجب. هذا إذا كان القيد متصلا.

وأما إذا كان منفصلا ، كما لو قال : أعتق رقبة ، وقال أيضا : أعتق رقبة مؤمنة ، فتمييز ان المنفصل يكون قرينة أو معارضا ، هو ان يفرض متصلا وانه في كلام واحد ، فان ناقض صدر الكلام ذيله يكون معارضا ، وان لم يكن مناقضا يكون قرينة. ففي المثال لابد من فرض المؤمنة متصلة بقوله : ( أعتق رقبة ) الوارد أولا ، إذ الذي يوهم المعارضة هو قيد المؤمنة ، والا فالدليلان يشتركان في وجوب عتق الرقبة ، فالذي لابد من فرضه متصلا هو قيد المؤمنة ، ومعلوم : ان التقييد بالمؤمنة تكون قرينة على المراد من المطلق. فلا فرق بين المتصل والمنفصل سوى ان المتصل يوجب عدم انعقاد الظهور للمطلق ، وفي المنفصل ينعقد الظهور الا انه يهدم حجيته. ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح انشاء اللّه.

الجهة الثانية :

قد عرفت : ان مورد حمل المطلق على المقيد انما هو في صورة التنافي ، والتنافي لايكون الا بوحدة التكليف ، ووحدة التكليف تارة : يعلم بها من الخارج فهذا مما لا اشكال فيه. وأخرى : تستفاد وحدة التكليف من نفس الخطابين.

وتفصيل ذلك : هو انه اما ان يذكر السبب لكل من المطلق والمقيد ، واما

ص: 579

ان لا يذكر السبب في كل منهما ، واما ان يذكر السبب في أحدهما دون الآخر. وصورة ذكر السبب في كل منهما ، اما ان يتحد السبب ، واما ان يختلف ، فهذه صور أربع لا خامس لها.

الصورة الأولى :

ما إذا ذكر السبب في كل منهما مع اختلافه ، كما إذا ورد : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ، فهذا لا اشكال فيه في عدم حمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك واضح.

الصورة الثانية :

ما إذا اتحد السبب كما لو قال : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وفي هذه الصورة أيضا لا اشكال في حمل المط على المقيد ، لأنه من نفس وحدة السبب يستفاد وحدة التكليف ، فيتحقق التنافي بينهما.

الصورة الثالثة :

ما إذا ذكر السبب في أحدهما دون الآخر ، كما لو قال : أعتق رقبة - بلا ذكر السبب ، وقال أيضا : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، أو بالعكس ، بان ذكر السبب في المط دون المقيد ، وفي هذه الصورة يشكل حمل المط على المقيد ، لأنه لا يتحقق هنا اطلاقان ومقيدان : أحدهما في ناحية الواجب وهو عتق الرقبة مط وعتق الرقبة المؤمنة ، وثانيهما في ناحية الوجوب والتكليف وهو وجوب العتق غير مقيد بسبب ووجوب العتق مقيدا بسبب خاص من الظهار في المثال المذكور. وتقييد كل من الاطلاقين يتوقف على تقييد الاطلاق الاخر ، فيلزم الدور.

بيان ذلك : هو انه قد عرفت ان حمل المط على المقيد يتوقف على وحدة التكليف ، وفي المثال تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف على وحدة المتعلق ، إذ عند اختلاف متعلق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر ، كما لو ورد تكليف مطلق متعلق بشيء ، وورد تكليف مقيد متعلق بشيء آخر. ووحدة المتعلق في المقام يتوقف على حمل أحد التكليفين على الآخر ، إذ لو لم يحمل أحد التكليفين على الآخر ولم يقيد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار

ص: 580

لم يتحقق وحدة المتعلق ، لان أحد المتعلقين هو عتق الرقبة المطلقة ، ومتعلق الآخر هو عتق الرقبة المؤمنة ، فيتوقف حمل أحد المتعلقين على الآخر على حمل أحد التكليفين على الآخر ، ويتوقف حمل أحد التكليفين على الآخر على حمل أحد المتعلقين على الآخر ، فيلزم الدور من حمل المط على المقيد في هذه الصورة ، والظاهر أنه لا دافع له ، فتأمل.

الصورة الرابعة :

ما إذا لم يذكر السبب في أحدهما وكان كل منهما مط بالنسبة إلى ذكر السبب ، وفي هذه الصورة لابد من حمل المط على المقيد إذا كان المطلوب في كل منهما صرف الوجود لا مط الوجود ، ولا يتوقف الحمل في هذه الصورة على العلم بوحدة التكليف من الخارج ، بل نفس كون المطلوب فيهما صرف الوجود مع كون التكليف الزاميا يقتضى حمل المط على المقيد. وذلك لان قوله : أعتق رقبة مؤمنة - يقتضى ايجاد صرف وجود عتق الرقبة المؤمنة ، ومقتضى كون الحكم الزاميا هو انه لابد من ايجاد عتق الرقبة المؤمنة وعدم الرضا بعتق الرقبة الكافرة ، والمفروض ان المطلوب في المطلق أيضا صرف الوجود ، ومقتضى كون المطلوب صرف وجود العتق وايجاب عتق الرقبة المؤمنة هو وحدة التكليف وكون المطلوب هو المقيد ليس الا. ومن هنا يظهر : ان الركن في حمل المط على المقيد ، هو كون الحكم الزاميا ، ولا يجرى في التكاليف المستحبة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح انشاء اللّه تعالى.

الجهة الثالثة :

الكلام في حمل المط على المقيد ، هو فيما إذا لم يكن دليل المقيد واردا لبيان المانعية ، والجزئية ، والشرطية ، بان يكون أمرا أو نهيا غيريا ، فإنه لو كان كذلك فلا اشكال في حمل المط على المقيد ، وذلك واضح. فالكلام في المقام انما هو فيما إذا كان امر المقيد أو نهيه نفسيا.

ثم إن المطلوب في المط والمقيد اما ان يكون صرف الوجود ، واما ان يكون مط الوجود. فان كان المطلوب مطلق الوجود فلا موجب لحمل المطلق على المقيد ، الا إذا اقتضاه خصوص المقام ، من غير فرق بين ان يكون ذلك في التكاليف أو

ص: 581

في الوضعيات ، وبين ان يكون التكليف أمرا أو نهيا ، وبين ان يكون الزاميا أو استحبابيا ، فان لا منافاة بين المطلق والمقيد. نعم : ذكر المقيد عقيب المطلق لا بد ان يكون لخصوصية ولو كانت تلك الخصوصية شدة الاهتمام بالمقيد ، الا ان ذلك لا يوجب الحمل ، فلا منافاة بين قوله : في الغنم زكاة ، وبين قوله : في الغنم السائمة زكاة ، الا إذا علم من خصوصية المقام ان القيد سيق لبيان التقييد ، فيندرج في الأمر والنهي الغيري الذي تقدم ان التقييد فيه لازم الغيرية. هذا إذا كان المطلوب مطلق الوجود.

وأما إذا كان المطلوب صرف الوجود فتارة : يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا. وأخرى : يكون كل منهما أمرا أو كل منهما نهيا. فان كان الأول فلا يخلو اما ان يندرج في باب النهى عن العبادة ، واما ان يندرج في باب المطلق والمقيد ، واما ان يندرج في باب اجتماع الأمر والنهي ، واما ان يندرج في باب تعارض العموم من وجه ، ويلحق كل باب حكمه. ففي مثل قوله ( صل ولا تصل في الحرير ) يكون من النهى عن العبادة. وفي مثل قوله ( أعتق رقبة ولا تعتق الرقبة الكافرة ) يندرج في باب المط والمقيد ، ولابد من حمل المطلق على المقيد ولا يحمل النهى على الكراهة ، لما تقدم من حكومة أصالة الظهور في المقيد على المط ، فظهور النهى في الحرمة يكون مقدما على ظهور المط في الاطلاق. هذا إذا كانت النسبة بين الدليلين العموم المط ، كما هو محل البحث. وان كانت النسبة العموم من وجه فيندرج اما في باب اجتماع الأمر والنهي ، إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف وهو الفعل والترك المطالب به الصادر من المكلف اختيارا كقوله : صل ولا تغصب ، واما في باب التعارض بالعموم من وجه إذا كانت النسبة بين متعلق المتعلق من الموضوعات الخارجية كقوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، هذا إذا كان أحد الدليلين أمرا والآخر نهيا.

وان كان كل منهما أمرا أو نهيا مع كون المطلوب صرف الوجود فتارة : يكون الحكم الزاميا ، وأخرى : استحبابيا. فان كان الزاميا فتارة : يكون الاطلاق والتقييد في كل من الوجوب والواجب ، بان كان الوجوب في أحدهما مطلقا وفى

ص: 582

الآخر مقيدا والواجب أيضا كذلك كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وهذا قد تقدم حكمه : من أنه لا يحمل فيه المط على المقيد لا في طرف الوجوب ولا في طرف الواجب ، لاستلزامه الدور.

وأخرى : يكون الاطلاق والتقييد في ناحية الوجوب فقط ، أو في ناحية الواجب فقط. فان كان في ناحية الوجوب فقط فتارة : يكون تقييد الوجوب بمثل الشرط والغاية ، بحيث تكون القضية ذات مفهوم ، كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : ان جائك زيد فاعتق رقبة. وأخرى : يكون تقييد الوجوب بغير ذلك مما لا يقتضى المفهوم كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : أعتق رقبة عند الظهار. فان كان تقييد الوجوب بما يقتضى المفهوم فهذا خارج عن محل الكلام ، فان مقتضى المفهوم هو انتفاء الوجوب عند عدم الشرط فيقيد الوجوب المطلق لا محالة. وان كان تقييد الوجوب بما لا يقتضى المفهوم - كالمثال المتقدم - فحكمه حكم تقييد الواجب من لزوم حمل المط على المقيد ، فان مقتضى قوله : عند الظهار أعتق رقبة ، هو انه عند الظهار لا بد من عتق الرقبة وعدم الرضا بتركه عند الظهار ، ومقتضى اطلاق قوله : أعتق رقبة ، هو جواز ترك العتق عند الظهار والعتق في غير حال الظهار ، وحيث انه لا يجتمع لزوم العتق عند الظهار مع جواز تركه عنده مع كون المتعلق واحدا والمطلوب صرف وجود العتق ، فيتحقق المنافاة بين الوجوب المط والوجوب المقيد ولا بد من حمل المط على المقيد. هذا إذا كان التقييد في ناحية الوجوب.

وأما إذا كان التقييد في ناحية الواجب كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : أعتق رقبة مؤمنة ، فقد تقدم الكلام فيه وانه لا بد من حمل المط على المقيد. ونزيد في المقام وضوحا فنقول : ان المحتملات في المثال أربعة :

1 - احتمال ان يكون المطلوب واحدا وهو نتيجة حمل المط على المقيد.

2 - احتمال ان يكون الامر في المقيد استحبابيا فيكون المقيد أفضل الافراد.

3 - احتمال ان يكون الامر في المقيد لبيان كونه واجبا في واجب.

4 - احتمال ان يكون الواجب متعددا ويكون هناك تكليفان : تكليف

ص: 583

بالمط ، وتكليف بالمقيد.

والأظهر من هذه الاحتمالات بحسب الأصول اللفظية : هو الاحتمال الأول ، إذ الاحتمال الثاني قد تقدم ضعفه ، من حيث إن الأصول اللفظية الجارية في المقيد لمكان كونه قرينة تكون حاكمة على الأصول اللفظية الجارية في المط ، فيكون ظهور الامر في المقيد في الوجوب مقدما على ظهور المط في الاطلاق ، ولا تصل النوبة إلى حمل الامر في المقيد على الاستحباب ، لان حمله على الاستحباب انما هو من جهة ظهور المط في الاطلاق وأقوائية ظهوره في ذلك من ظهور الامر في المقيد في الوجوب ، وعلى فرض التساوي يتردد الامر بين الامرين : بين حمل المط على المقيد ، وبين حمل امر المقيد على الاستحباب ، هذا. ولكن قد عرفت : انه في باب القرينة وذيها لا يلاحظ أقوى الظهورين ، بل يكون ظهور القرينة وان كان أضعف مقدما على ظهور ذيها وان كان أقوى ، فالاحتمال الثاني ساقط.

وكذا الحال في الاحتمال الثالث ، بل هو أضعف من الثاني ، فإنه يلزم رفع اليد عن ظهور الامر المقيد في كون الواجب هو الجملة المركب من القيد والمقيد ، إذ لو حمل الامر فيه على كونه لبيان كون القيد من الواجب في الواجب يلزم ان يكون الواجب في قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، هو خصوص القيد ، وانه سيق لبيان وجوب ذلك فقط ، وهذا ينافي ظهوره في وجوب الجملة والمركب من القيد والمقيد ، فحمله على وجوب خصوص القيد يوجب هدم ظهوره بالمرة ، بل ذلك أردأ من حمل الامر فيه على الاستحباب ، لان حمل الامر على الاستحباب ليس بعزيز الوجود ، بخلاف حمله على ذلك ، فإنه يحتاج إلى دليل قوى مفقود في المقام.

فبقى الاحتمال الرابع ، وهو تعدد التكليف ، وقد تقدم ان تعدد التكليف وكون الواجب هو كل من المط والمقيد ينافي كون المطلوب هو صرف الوجود مع كون التكليف بالمقيد الزاميا ، فان معنى الالزام هو عدم الرضا بخلو صفحة الوجود عن المقيد وانه لابد من اشغال صفحة الوجود به ، وهذا بخلاف المط فإنه يقتضى جواز ترك القيد ، فيتحقق التنافي بينهما ، ويتعين ح حمل المط على المقيد جمعا بين الدليلين ، فتأمل جيدا. هذا كله فيما إذا كان التكليف بالمط والمقيد الزاميا.

ص: 584

وأما إذا كان التكليف استحبابيا ، ففي جميع أقسامه لا موجب لحمل المط على المقيد. أما إذا كان التكليف الاستحبابي في كل منهما مط وكان التقييد في ناحية المستحب كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : يستحب دعاء كميل ، فلانه لا يتحقق شرط الحمل ، إذ لا منافاة بينهما بعد ما كان المقيد جايز الترك ، فلا منافاة بين استحباب الدعاء والمط واستحباب الدعاء المقيد.

وأما إذا كان التقييد في ناحية كل من التكليف والمكلف به كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : ان جاء زيد يستحب دعاء كميل مثلا ، فلانه إذا كان التكليف الإلزامي على هذا الوجه لا يحمل فكيف بالتكليف الاستحبابي؟.

وأما إذا كان التقييد في ناحية التكليف فقط ، فان لم يكن التقييد مما يقتضى المفهوم كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا يستحب الدعاء عند رؤية الهلال ، فلانه وان قلنا في التكليف الإلزامي بالحمل ، الا انه في التكليف الاستحبابي لا موجب للحمل لمكان تفاوت مراتب الاستحباب. فلا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيد ، بل ذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى عدم الحمل حتى فيما إذا كان التقييد يقتضى المفهوم كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : ان جائك زيد يستحب الدعاء ، فان تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية. والمسألة بعد لا تخلو عن الاشكال ، بل ربما يستشكل في القسم السابق ، بل فيما إذا كان التقييد في ناحية المستحب فقط. فتأمل في المقام جيدا.

وقد تمت مباحث المط والمقيد في الليلة التاسعة والعشرين من شهر ربيع

الأول سنة 1348

وله الحمد أولا وآخرا

وانا العبد المذنب محمد علي الكاظمي الخراساني.

ص: 585

فهرس فوائد الأصول

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي الخراساني

نشأة علم الأصول وسيره وارتقائه... 3

تعريف علم الأصول وبيان موضوعه ومسائله وغايته

الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول... 19

المايز بين المسئلة الأصولية والقاعدة الفقهية... 19

تفسير العرض الذاتي والعرض الغريب... 20

بيان النسبة بين موضوع العلم وموضوع كل مسئلة من مسائله... 22

اشكال لزوم أخذ عقد الحمل في عقد الوضع وبيان حله... 23

المايز بين العلوم ، وبيان وجه العدول عن مسلك المشهور... 24

بيان ما قيل : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات... 25

البحث في موضوع علم الأصول

الاشكالات الواردة على أخذ الموضوع خصوص الأدلة الأربعة... 26

تحقيق انه لا داعي لجعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة... 28

المبحث الأول في بيان ماهية الوضع

تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني ، والإشكال عليه... 29

تقسيم الوضع بحسب الوضع والموضوع له إلى أربعة أقسام... 31

في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء... 33

ص: 586

شرح ما قيل : من أن الاسم ما دل على معنى في نفسه والحرف ما دل على معنى في غيره... 35

تقسيم معاني الألفاظ إلى الاخطارية والايجادية... 37

الاشكال على كون جميع معاني الحروف ايجادية ، وحله... 38

بيان معنى ( النسبة ) وأقسامها وترتيبها... 39

تحقيق معنى قول النجاة في تعريف الظرف المستقر واللغو... 40

تحقيق كون معاني الحروف كلها ايجادية... 42

بيان ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية هي النسبة بين المصداق والمفهوم... 43

قوام المعنى الحرفي بأمور أربعة... 44

بيان الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف والمعاني الايجادية في باب الانشائيات... 45

تضعيف مقالة من يقول : ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات... 47

فساد القول باتحاد المعنى الاسمي والمعنى الحرفي وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الآخر باشتراط الواضع 47

الإشكال على ما عرف به الحرف : من أنه ما دل على معنى في الغير... 50

بيان معنى ما روى عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى الخ... 51

تحقيق مبدء الاشتقاق وانه ليس بمصدر ولا اسم مصدر... 51

الفرق بين معاني الأسماء والافعال والسر في تثليث اقسام الكلمة... 53

بيان المراد من قوله علیه السلام ( والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ) وانه هو الحركة من القوة إلى الفعل 53

تحقيق الموضوع له في الحروف ، هل انه عام أو خاص؟... 54

تفسير الكلية والجزئية في الحروف ، وانها بمعنى آخر غير ما تتصف الأسماء بهما... 54

وقوع المفاهيم الأسمية في عقد الحمل ، وعدم صحة وقوع المفاهيم الحرفية فيه... 57

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي وكون الموضوع له فيه عاما... 58

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

تعريف الصحة والفساد... 60

ص: 587

ملاحظة الصحة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط السابقة للأمر وبالنسبة إلى الأجزاء والشرائط اللاحقة للأمر 60

رد توهم ان الصلاة وضعت للأفراد الطولية والعرضية بالاشتراك اللفظي وانها من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص 61

الاشكال في تصوير الجامع المسمى على كل من القول بالصحيح والأعم... 64

بيان ما قيل : من أن الجامع بين الأفراد الصحيحة هو ( المسمى ) والإشارة إليه اما من ناحية المعلول واما من ناحية العلة وبيان ما فيه من الاشكالات... 65

بسط الكلام في المايز بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية وان الملاكات هل هي من قبيل الدواعي أو من قبيل المسببات 67

تصوير الجامع بناء على الأعم والمناقشة في الوجوه التي ذكروها... 74

فساد توهم ان تكون الصلاة من الماهيات القابلة للتشكيك... 75

بيان ما قيل في الثمرة بين القول بالصحيح والأعم... 77

اشكال جريان الأصل في المعاملات على القول بالصحيح ، وحله... 79

المبحث الثالث في المشتق

اختصاص النزاع بالعناوين العرضية لا الذاتية التي يتقوم بها الذات... 83

في أن المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا... 84

نقل ما حكى عن ( القواعد ) من تفريع مسئلة الرضاع على المشتق... 85

بيان الفرق بين المحمول بالضميمة والخارج المحمول... 88

الاستشكال في إدراج مثل اسم الزمان في محل النزاع... 89

تحقيق ان المراد من الحال هو حال التلبس بالمبدء... 90

تحقيق المراد من الحال في قول النحاة حيث قالوا : ( ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال يعمل عمل الفعل المضارع ) 90

في ان البحث في باب المشتق انما يكون في مفهومه الافرادي ، فلا يرتبط بالمقام اختلاف الشيخ والفارابي 91

ص: 588

بيان المراد من ( الاستعمال ) و ( التطبيق ) والفرق بينهما وعدم اتصاف التطبيق والانطباق بالحقيقة والمجاز 93

في بيان مبدء الاشتقاق ، وعدم الترتب بين صيغها... 96

تحقيق وجود الترتب بين المعاني التي تكفلتها الصيغ... 99

شرح ما قيل : من ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف 101

رد ما اشتهر : من ان المضارع يكون بمعنى الحال والاستقبال... 102

في بساطة المشتق وتركيبه... 103

تحقيق ما حكى عن الشيخ (رحمه اللّه) من قياس المشتق بالجوامد من حيث عدم أخذ الذات فيه... 104

تحقيق ما حكى عن الميرزا الشيرازي : من أنه لو كانت الذوات الشخصية مأخوذة في مفهوم المشتق يلزم أن يكون من متكثر المعنى... 107

استدلال السيد الشريف (رحمه اللّه) على بساطة المشتق... 109

ايراد ( صاحب الكفاية ) على ( الفصول ) و ( السيد الشريف )... 111

اشكال ( السيد الشريف ) على أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق بلزوم الانقلاب ، وايراد ( صاحب الفصول ) عليه 113

في شرح ما يقال : من أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو البشرط اللائية واللا بشرطية... 116

بيان الأقوال في وضع المشتق ، للمتلبس بخصوصه أو للأعم... 119

تحقيق ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ومجاز في غيره... 120

اشكال عدم تصور الجامع بين التلبس والانقضاء حتى على القول بالتركيب... 121

بيان ما استدلال به القائل بالأعم... 124

ضعف التمسك بآيتي السرقة والزنا للقول بالأعم... 125

المقصد الأول في الأوامر

ذكر معاني مادة الأمر واشكال تصور الجامع بين المعاني... 128

ذكر معاني صيغة الأمر ، وتحقيق انها من قبيل الدواعي لا يجاد النسبة الإيقاعية... 129

في تغاير الطلب والإرادة... 130

ص: 589

عدم امكان دفع شبهة الجبر الا بالقول بتغاير الطلب والإرادة... 132

في طريق استفادة الوجوب من الصيغة ، واختيار انها بحكم العقل... 134

في التعبدي والتوصلي

بيان معنى التعبدية والتوصلية وان كلا منهما على معنيين... 137

تحقيق أصالة التعبدية بمعنى اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار والإباحة... 138

مقتضى الأصل العملي في المسئلة... 142

تحقيق أصالة التعبدية بمعنى اعتبار قصد الأمر والجهة... 145

انقسامات متعلق الحكم وموضوعه... 145

ابطال أخذ العلم بالحكم في الموضوع بلزوم تقدم الشيء على نفسه... 148

بيان مذهب الأستاذ ، وهو كفاية كون الفعل ( لله ) ولو مع عدم قصد الامتثال... 151

الاشكال على الأستاذ بأن الداعي علة للإرادة فلا يعقل ان يكون معلولا للإرادة... 152

في امتناع أخذ العبادية في متعلق الأمر ، ووجوه التفصي عن الاشكال... 152

تحقيق عدم جريان الأصلين في المسئلة... 155

عدم صحة الاستدلال بالآيات والأخبار على أصالة التعبدية... 157

دفع ما يتوهم من كلام الشيخ (رحمه اللّه) من التمسك بقاعدة الاجزاء العقلية لأصالة التوصلية 158

في بيان نتيجة الاطلاق والتقييد... 159

بيان الفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام واستكشاف الاطلاق في ساير المقامات 160

تقريب اعتبار قصد الأمثال من ناحية الغرض... 160

تحقيق انحصار كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ، وبيان وجه الاصطلاح بذلك... 161

دفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على تعدد الأمر ، وتحقيق ان ملاك الأمرين واحد 162

بيان ما أفاده بعض الأعلام : من أن التعبدية من الأحكام العقلية... 162

في بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المسئلة... 163

فساد توهم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية... 163

ص: 590

بيان الفرق بين تعلق الأمر بالأسباب وبين تعلقه بالمسببات ، والإيراد عليه... 166

في الواجب المطلق والمشروط

بيان الفرق بين القضية الخارجية والحقيقية... 170

تحقيق ان الاشكال على الشكل الأول بلزوم الدور انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية 172

الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية... 173

الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا وإثباتا... 178

في تحقيق مرجع الشرط وانه راجع إلى مفاد الجملة... 179

ظهور بطلان ما في التقريرات من ارجاع الشرط إلى المادة ، واعتذار السيد الشيرازي عنه 180

بيان الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية... 183

تقرير قول ( صاحب الفصول ) في الواجب المعلق... 185

وضوح امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية... 186

امتناع الواجب المعلق ، على فرض كون الأحكام من قبيل القضايا الخارجية أيضا... 188

بيان الأمر الذي ألجأ ( صاحب الفصول ) إلى الالتزام بالواجب المعلق ، وهو فتوى الفقهاء بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل حصول الشرط... 194

بيان وجه وجوب تلك المقدمات قبل وجوب ذيها... 194

دفع الاشكال باعتبار الملاك ، وبيان عدم تماميته... 195

الكلام في المقدمات المفوتة

تقسيم القدرة إلى العقلية والشرعية ، وبيان أحكامهما... 197

لزوم تحصيل المقدمات العقلية وحرمة تفويتها... 197

تفصيل القول في القدرة الشرعية... 198

الكلام في وجوب التعلم ، وما يظهر من الشيخ (رحمه اللّه) من ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ،

ص: 591

والاشكال عليه... 204

التفصيل بين ما تعم به البلوى ومالا تعم... 206

في كيفية فعلية وجوب الصوم... 208

ضعف ابتناء المسألة على الشرط المتأخر والواجب المعلق... 209

في كيفية فعلية وجوب الصلاة... 212

حكم صورة الشك في أن المشروط هو الوجوب؟ أو الواجب؟... 213

بيان ما قيل في المقام : من تقديم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، والإيراد عليه... 213

بيان ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) من الوجهين لرجوع القيد إلى المادة... 215

في الواجب النفسي والغيري وتعريفهما

فيما يقتضيه الأصل اللفظي عند الشك في المسئلة... 220

تحقيق ان الشك في الوجوب الغيري له اقسام ثلاثة ولكل حكم يخصه... 222

في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه... 224

في الطهارات الثلث والاشكال على ترتب الثواب عليها وقصد التعبد بها... 226

الإشارة إلى ضابط تبدل الأحكام بعضها مع بعض... 229

بعض الفروع المتعلقة بباب الطهارات... 231

في الواجب التعييني والتخييري

في الواجب التعييني والتخييري الوجوه الأربعة التي ذكروها لتصوير الواجب التخييري... 232

تصوير التخيير بين الأقل والأكثر... 235

في الواجب العيني والكفائي

تحقيق ان البحث فيه هو البحث في الواجب التخييري... 235

في الواجب الموقت

مقتضى القاعدة في الفائت الموقت... 236

ص: 592

في ما يقتضيه دليل القضاء... 237

هل يمكن احراز ( الفوت ) الذي أخذ موضوعا في دليل القضاء باستصحاب عدم الفعل في الوقت؟ 239

إشارة إجمالية إلى مسئلة المرة والتكرار والفور والتراخي

مباحث الإجزاء وذلك في مقامات

المقام الأول : في اقتضاء الإتيان بمتعلق كل أمر للإجزاء عن نفس ذلك الأمر عقلا... 241

مسئلة تبديل الامتثال وتحقيق القول فيه... 242

المقام الثاني : في اقتضاء المأتي به بالأمر الثانوي للإجزاء بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت 243

تحقيق اجزاء الأمر الثانوي بالنسبة إلى الإعادة في الوقت عند زوال العذر... 245

المقام الثالث : في اقتضاء المأتي به بالأمر الظاهري الشرعي للإجزاء عن الأمر الواقعي عند انكشاف الخلاف ، والبحث فيه يقع من جهات... 246

الجهة الأولى : في اقتضاء مؤدى الطرق والأمارات في باب الأحكام الكلية الشرعية للإجزاء عند انكشاف الخلاف قطعا 246

الجهة الثانية : في اقتضاء مؤدى الأمارات في باب الموضوعات للإجزاء عند انكشاف الخلاف قطعا 248

الجهة الثالثة : في اقتضاء مودي الأصول العملية الشرعية للإجزاء ، واختيار بعض الأعلام الإجزاء في المقام بنحو الحكومة 248

أربع اشكالات للأستاذ على الحكومة في هذا المقام... 249

الجهة الرابعة : في اقتضاء المأتي به بالأمر الظاهري الشرعي للإجزاء عند انكشاف الخلاف ظنا ، كموارد تبدل الاجتهاد والتقليد... 251

تحقيق عدم الفرق بين انكشاف الخلاف قطعا وبين انكشافه ظنا ، وان مقتضى القاعدة في جميع ذلك عدم الإجزاء 252

ص: 593

بيان ما قيل : من أن القاعدة تقتضي الإجزاء لوجوه ثلاثة وهي : 1 - لزوم العسر والحرج 2 - عدم ترجيح الاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول 3 - ان المسئلة الواحدة لا تتحمل اجتهادين... 256

نقل الاجماع على الإجزاء ، والاشكال عليه... 259

تحقيق عدم اقتضاء الأمر الظاهري العقلي للإجزاء... 259

في مقدمة الواجب

تحقيق كون البحث فيها من المسائل الأصولية... 261

بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام... 262

في تقسيمات المقدمة... 263

الاستشكال في مقدمية الأجزاء ، ودفعه من الشيخ قدس سره بان الكل عبارة عن الأجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا 264

تحقيق ان قياس المقام بالهيولي والصورة والجنس والفصل في غير محله... 265

حاصل ما افاده الأستاذ في تصوير الغيرية بين الأجزاء والكل... 267

عدم كفاية الغيرية اللحاظية لدخول الأجزاء في محل النزاع... 268

بيان ما قد يقال : بخروج العلة التامة عن محل النزاع... 269

التفصيل بين العناوين التوليدية والمسببات التوليدية : بخروج الأول عن محل النزاع ودخول الثاني فيه 269

تقسيم المقدمة إلى العقلية والعادية والشرعية... 271

تقسيمها إلى المقارنة والمتقدمة والمتأخرة المعبر عنها بالشرط المتأخر... 271

تحرير محل النزاع في الشرط المتأخر

في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية... 276

رد ما صنعه في الكفاية والفوائد : من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي وإلى عالم اللحاظ 278

فساد ما يتوهم : من أن امتناع الشرط المتأخر إنما يكون في التكوينيات دون الاعتباريات

ص: 594

والشرعيات... 280

أحسن ما قيل في المقام من الوجوه ، والايراد عليه من جهة الاثبات... 281

تحقيق ارجاع الشرط في باب المركبات الارتباطية ( كالصوم ) إلى عنوان التعقب... 281

عدم صحة الارجاع إلى عنوان التعقب في باب الإجازة في البيع الفضولي... 282

تحقيق وجوب المقدمة ، ومقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل... 284

في بيان معروض الوجوب في باب المقدمة

الاشكال على ( صاحب المعالم ) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة... 286

النظر فيما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة... 287

فساد ما افاده ( صاحب الفصول ) من اعتبار نفس التوصل... 290

فساد ما سلكه الشيخ (رحمه اللّه) وغيره ، حيث جعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق... 294

بيان الفرق بين الاطلاق والتقييد في المقام وبين الاطلاق والتقييد في مسئلتي اعتبار قصد القربة والعلم بالأحكام 295

الإشارة إلى تابعية خطاب المقدمة لخطاب ذي المقدمة في الاهمال ، بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها 295

حل الاشكال بالخطاب الترتبي... 296

بيان الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة

الثمرة الأولى : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم... 296

الاشكال على الثمرة أولا : بأن ترك أحد الضدين ليست مقدمة لفعل الضد الآخر ، وثانيا : بأنه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة... 296

إنكار ( صاحب الفصول ) هذه الثمرة على طريقته : من القول بالمقدمة الموصلة ، واشكال الشيخ (رحمه اللّه) عليه 297

ايراد ( صاحب الكفاية ) على اشكال الشيخ (رحمه اللّه)... 298

في بيان ساير ما ذكر من الثمرات لوجوب المقدمة وردها ، وهي :... 298

ص: 595

1 - برء النذر بإتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب

2 - حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة

3 - صلاحية التعبد بها بناء على وجوبها

4 - عدم جواز أخذ الأجرة عليها على القول بالحرمة

5 - ما نسب إلى ( الوحيد البهبهاني ) من لزوم اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت المقدمة محرمة 298

تحقيق انه لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسئلة الأصولية ، ولا من حيث المسئلة الفقهية 300

القول في اقتضاء الأمر بالشيء النهى عن ضده

تحقيق ان المسئلة من المسائل الأصولية ، وانها من الملازمات ، وبيان المراد من الاقتضاء... 301

المقام الأول : في اقتضاء الأمر النهى عن ضده بمعنى النقيض ، وبيان كيفية الاقتضاء... 302

المقام الثاني : في اقتضاء الأمر للنهي عن ضده الوجودي سواء كان الضد الخاص أو القدر المشترك بين الأضداد الوجودية 303

استدلال القائل بالاقتضاء ، باستلزام وجود الضد المأمور به لعدم الضد الآخر ، والاشكال عليه 303

تحقيق الفرق بين الضدين لا ثالث لهما والأضداد الوجودية ، واختيار الاقتضاء في الضدين بالملازمة العرفية 304

استدلال القائل بالاقتضاء ، بالمقدمية... 306

الإشارة إلى مسئلة مقدمية ترك أحد الضدين للآخر وبيان الأقوال في هذه المسئلة... 306

بيان المراد من المانع ، واثبات تأخر رتبته عن المقتضى والشرط ، وما يتفرع عليه : من عدم امكان مانعية وجود أحد الضدين للآخر... 307

بيان ما يرد على المقدمية : من لزوم الدور ، وما أجيب عن هذا الدور بوجوه... 309

في انكار المقدمية من الطرفين ، واندفاع شبهة الكعبي... 311

في بيان ثمرات النزاع ، والعمدة منها فساد الضد إذا كان عبادة ، وما عن البهائي (رحمه اللّه) من انكار

ص: 596

هذه الثمرة... 312

ما حكى عن ( المحقق الكركي ) من المنع من اطلاق مقالة ( البهائي ) وتخصيص ذلك بمزاحمة الواجب المضيق لواجب آخراهم... 312

الاشكال على ما افاده المحقق الثاني (رحمه اللّه)... 314

تحقيق كفاية الملاك في صحة المزاحم... 315

تفصيل الكلام في التزاحم والتعارض والتقديم والترجيح فيهما

المقام الأول : في الفرق بين التزاحم والتعارض وذلك في جهات... 317

الجهة الأولى : هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت... 317

الجهة الثانية : هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الآخر ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه ، وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه... 318

الجهة الثالثة : هي ان المرجحات في باب بالتعارض ترجع اما إلى الدلالة واما إلى السند ، وفي باب التزاحم فالمرجحات هي أمور أخر... 318

الجهة الرابعة : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك بل كان من شرائط حسن الخطاب كالقدرة 319

رد ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى 320

المقام الثاني : في منشأ التزاحم وهي أمور خمسة

1 - تضاد المتعلقين في مقام الامتثال في زمان واحد

2 - عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما

3 - تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم

4 - اتحاد المتعلقين وجودا كما في موارد اجتماع الأمر والنهي

5 - صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الآخر مع اختلافهما في الحكم إذا توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير بغير رضاه... 320

المقام الثالث : في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور... 321

ص: 597

الأمر الأول : ترجيح مالا بدل له على ماله البدل عرضا

الأمر الثاني : ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها... 322

الاشكال على التمسك بالاطلاق لا ثبات ان القدرة المأخوذة عقلية لا شرعية... 323

دفع الاشكال عن التمسك بالاطلاق... 325

المرجح الثالث : ترجيح مالا بدل له شرعا على ماله البدل شرعا... 327

فيما يتعلق بالمرجحات الثلاثة ، والمرجع عند فقدها... 328

في بيان تقديم المتقدم زمانا في المشروطين بالقدرة الشرعية الا في النذر ، وبيان خصوصيته 330

رد ما حكى في تصحيح عمل ( صاحب الجواهر ) حيث نذر زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج 331

في ترجيح الأهم والمتقدم في المشروطين بالقدرة العقلية... 333

تحقيق انه لا معنى للتخيير في الطوليين المتساويين ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم ، وما يتفرع على القولين من الفروع 334

حكم ما إذا اتحد زمان امتثال المشروطين بالقدرة العقلية ، والإشارة إلى مسئلة الأهمية المستفادة من الأدلة 335

الترجيح بالأهمية انما هو بعد فقد المرجحات الثلاثة السابقة... 335

مسألة الترتب وتنقيح محل النزاع فيها

المسألة الأولى : في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيهما لأجل تضاد المتعلقين و كان أحدهما أهما من الآخر. وتنقيح البحث يستدعى رسم مقدمات... 336

المقدمة الأولى : في ان الموجب لا يجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين؟ أو اطلاق الخطابين؟ فعلى الثاني تبتنى صحة الترتب وعلى الأول بطلانه... 336

بيان ما يترتب على القولين : من كون التخيير عقليا أو شرعيا في المتزاحمين المتساويين... 337

بيان ما يترتب على القولين من وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا... 338

استغراب ما صدر عن الشيخ (رحمه اللّه) حيث إنه أنكر الترتب في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ، ولكن التزم بالترتب من الجانبين في مبحث التعادل والتراجيح عند

ص: 598

التساوي وفقد المرجح... 338

المقدمة الثانية : في ان المشروط لا يصير مطلقا بتحقق شرطه... 339

المقدمة الثالثة : في تقسيم الشروط إلى ما لو حظ فيه الانقضاء و إلى ما لو حظ فيه المقارنة 341

في استحالة تخلف التكليف بالمضيق عن شرطه وامتثاله... 342

ما يرد على ( صاحب الكفاية ) حيث اعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات 344

تحقيق ان ما يتوقف عليه الانبعاث بالصوم مثلا ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر 344

اثبات ان الانبعاث دائما يكون من البعث المقارن لا البعث السابق... 345

تحقيق انه على هذا التقدير لا يختص لزوم سبق التكليف بالمضيقات ، بل يلزم القول بذلك حتى في الموسعات 345

دفع بعض الاشكالات التي اشكلوها على الخطاب الترتبي ، منها : توقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث ثبت بطلان كل منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي... 346

المقدمة الرابعة : في أنحاء الإطلاق والتقييد ، وهي ثلاثة :

1 - ان يكون انحفاظ الخطاب بالإطلاق والتقييد اللحاظي.

2 - ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق والتقييد.

3 - ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب... 348

بيان الفرق بين الوجه الثالث والوجهين الأولين... 350

بيان ما يترتب على الفرق المذكور : من طولية الخطابين وخروجهما من العرضية... 351

بيان ما يترتب على المقدمات... 352

المقدمة الخامسة : في انقسام موضوعات التكاليف وشرائطها إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، وإلى ما يمكن ان تناله ذلك... 352

ص: 599

في ان الخطاب تارة يكون بنفس وجوده رافعا لموضوع خطاب آخر ، وتارة يكون بامتثاله رافعا ومسألة الأهم والمهم من هذا القبيل... 354

حكم مالا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، وهو انه يقتضى ايجاب الجمع إذا كانا مطلقين و مقدورين ، وعدم امكان الجمع إذا كان أحدهما أو كل منهما مشروطا بعدم الآخر... 355

حكم ما إذا كان قابلا للرفع والوضع ولكن الخطاب المجامع لم يكن متعرضا لموضوع الآخر ، فالكلام فيه هو الكلام في السابق... 356

تحقيق انه لا أثر لقدرة المكلف على رفع الموضوع إذا استلزم إيجاب الجمع محذورا ، وان قبح التكليف بما لا يطاق إنما هو بالنظر إلى المتعلق لا بالموضوع... 356

حكم ما إذا كان أحد الخطابين متعرضا لموضوع خطاب آخر ورافعا له بنفس الخطاب... 357

حكم ما إذا كان أحد الخطابين بامتثاله وإتيانه رافعا لموضوع الآخر... 357

التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيص للفقيه عن الالتزام بالترتب فيها... 357

في معنى الجمع وما يوجب الجمع... 359

في استحالة اقتضاء الخطاب الترتبي لايجاب الجمع في كل من طرف الطلب والمطلوب... 360

في ان الأمر الترتبي لا يعقل اقتضائه لا يجاب الجمع وذلك لوجوه ثلاثة... 361

ايراد بعض الاشكالات التي تختلج في الذهن بلسان ( ان قلت ) والجواب عن كل واحد منها 362

التنبيه على أمور ترتبط بالمقام

الأمر الأول : في امتناع الأمر الترتبي في المتزاحمين الذين كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية الأمر الثاني : في امتناع الأمر الترتبي فيما إذا لم يكن التكليف المترتب عليه واصلا إلى المكلف ، وما يتفرع عليه : من عدم صحة تصحيح عبادة تارك الجهر أو الإخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي... 368

تقرير الأمر الثاني ببيان آخر... 370

تحقيق عدم جريان الخطاب الترتبي في الجهر والاخفات والقصر والاتمام ببيان آخر ، وهو ان

ص: 600

التضاد في المسئلتين دائمي فتخرجان بذلك عن باب التزاحم وتدخلان في باب التعارض... 371

تحقيق عدم جريان الخطاب الترتبي في الجهر والاخفات ببيان ثالث ، وهو لزوم تحصيل الحاصل في الضدين الذين لا ثالث لهما 372

الأمر الثالث : تقرير جريان الخطاب الترتبي في الموسع والمضيق ، كالصلاة والإزالة... 373

الأمر الرابع : في الاشكال على الترتب فيما إذا كان امتثال المترتب تدريجي الوجود - كالصلاة - وكان لعصيان المترتب عليه استمرار وبقاء - كأداء الدين - بأنه يتوقف الأمر المترتب بالشرط المتأخر... 374

الجواب عن الاشكال بأن هذا ليس اشكالا مخصوصا بالأمر الترتبي بل يطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود... 376

جواب حلى عن الاشكال المطرد في جميع المركبات... 376

في بيان ان الأمر الترتبي قد يحدث في اثناء العمل ، وربما ينعكس الأمر بحيث يكون الأمر المترتب مترتبا عليه 377

فيما حكى عن ( صاحب الفصول ) في مسئلة الاغتراف من الآنية المغصوبة : من القول بصحة الوضوء بالأمر الترتبي ، والجواب عنه... 378

المسئلة الثانية : فيما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينهما من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين... 380

تحقيق ان الخطاب الترتبي في هذه المسئلة مما لا يمكن ولا يعقل... 380

في امتناع الترتب بين المتقدم وحفظ القدرة للمتأخر ، للزوم طلب الحاصل أو طلب الممتنع ، وبطلان قياس هذه المسئلة بمسألة الصلاة والإزالة... 381

المسئلة الثالثة : من مسائل الترتب ، هي ما إذ كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها ، والكلام يقع في مقامين 383

المقام الأول : في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، والكلام يقع فيها من جهات... 384

الجهة الأولى : في ان المقدمة المحرمة ذاتا لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب الا إذا كان وجوب ذي المقدمة أهم ، ولا يتحقق التخيير في صورة التساوي

ص: 601

الجهة الثانية : في توضيح جريان الترتب في المقدمة المحرمة... 384

الجهة ثالثة : في دفع الاشكالين على جريان الترتب في المقدمة المحرمة وهما : اجتماع الوجوب والحرمة ، وتوقف الجريان على القول بالشرط المتأخر... 386

المقام الثاني : فيما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها... 389

اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد في كل من طرف الأهم والمهم ، والجواب عنه 389

المسئلة الرابعة : فيما إذا كان التزاحم لأجل الملازمة بين المتعلقين ، والأقوى عدم جريان الترتب في ذلك لأنه يلزم منه طلب الحاصل... 392

المسئلة الخامسة : فيما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الأمر الترتبي فيه أيضا لأنه يلزم منه : اما طلب الممتنع واما طلب الحاصل... 392

المقصد الثاني في النواهي وفيه مباحث

المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى... 394

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي ، والبحث عنه يقع في مقامين... 396

تحرير المقامين المبحوث عنهما في مسئلة الاجتماع وهما : لزوم الاجتماع وعدمه ، وتأثير وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدمه... 397

المقدمات المشتركة بين المقامين

منها : ان الظاهر كون المسئلة من المبادي الأصولية... 398

ومنها : ان متعلقات التكاليف انما هي المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لحقايقها الخارجية 400

ومنها : ان العناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين الجزئي لا يعقل ان يتصادقا على متحد الجهة 402

في بيان النسب الأربع وان الحصر فيها عقلي... 403

في ان نسبة العموم من وجه لا يعقل ان تتحقق بين العنوانين الجوهريين... 404

ص: 602

ومنها : ان التركيب في العناوين الاشتقاقية اتحادي بخلاف التركيب بين المبادي فإنه يكون انضماميا 406

ومنها : ان التركيب الاتحادي يقتضى ان تكون جهة الصدق والانطباق فيه تعليلية ولا يعقل ان تكون تقييدية 408

ومنها : ان مورد البحث انما هو فيما إذا كان بين العنوانين العموم من وجه ، وذلك أيضا ليس على اطلاقه 410

ومنها : ان الحركة المقرونة للصلاة والغصب ليست معنونة بعنوانين وموجهة بهما... 412

ومنها : ان العناوين المجتمعة في فعل المكلف وما هو الصادر عنه - سواء كانت من العناوين المستقلة للحمل ، أو كانت من متعلقات الفعل ومتمماته ، أو اجتماع العناوين التوليدية مع أسبابها - بأقسامها الثلاثة تندرج في مسئلة اجتماع الأمر والنهي 415

ومنها : انهم قد بنوا المسئلة على كون متعلقات الأحكام هل هي الطبايع أو الأفراد؟ وقد أنكر بعض الأعلام هذا الابتناء ، والحق انه يختلف الحال في ذلك على بعض ونحوه تحرير النزاع ولا يختلف الحال على بعض الوجوه الأخر... 416

الأقوال في المسئلة ، وبيان ما استدل للجواز

منها : ما افاده المحقق القمي (رحمه اللّه) : من أن متعلقات الأوامر والنواهي هي الطبايع والفرد انما يكون مقدمة لوجودها 419

رد ما افاده المحقق القمي (رحمه اللّه) بوجوه ثلاثة... 420

ومنها : ان متعلقات الأحكام هي الصور الذهنية والصور الذهنية متباينة لا اتحاد بينها... 421

ومنها : ان الاجتماع انما يكون مأموريا لا آمريا ، وهذا الوجه هو المحكي المعتمد عليه في عصر ( شريف العلماء ) 421

ومنها : ان متعلقات الأحكام انما تكون هي الماهيات الواقعة في رتبة الحمل ، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل 422

بيان أدلة المانعين. وعمدتها ما ذكره المحقق الخراساني (رحمه اللّه) الذي يتركب من مقدمات... 424

منع بعض المقدمات التي ذكرها المحقق الخراساني (رحمه اللّه)... 424

ص: 603

بيان الوجه المختار ، وهو عدم امكان اتحاد المقولتين وكون الترتيب فيهما انضماميا... 424

حاصل البرهان على الوجه المختار ، الذي يتركب من أمور بديهية... 427

الاشكال على ما افاده بعض الأعلام : من أن الفرق بين البابين انما هو باشتمال كل من الحكمين على المقتضى في باب اجتماع الأمر والنهي وعدم اشتمال أحدهما على ذلك في باب التعارض... 428

تنبيهات المسئلة

التنبيه الأول : في بيان ان الصحة عند الجهل مبنية على التزاحم والجواز. والاشكال على ما افاده الشيخ (رحمه اللّه) في المقام 429

في امتناع الحكم الاقتضائي الذي لا يصير فعليا أبدا... 432

التنبيه الثاني : في رد ما استدل للجواز بوقوعه في الشرعيات في مثل العبادات المكروهة... 434

البحث عن كيفية تعلق الكراهة بالعبادة ، وبيان المراد منها... 434

تحقيق بقاء اطلاق الأمر في العبادات المكروهة ، وان الكراهة لا تنافي اطلاق الرخصة في الأمر 435

الكلام فيما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الأمر ، كصوم يوم عاشوراء والصلاة عند طلوع الشمس 438

هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم أو لا يكفي؟

في ان مقتضي ما تقدم عن المحقق الكركي ، هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وبيان الفرق بين المقام وبين ما افاده المحقق (رحمه اللّه) وان هذا الفرق لايكون فارقا في المناط... 441

بيان فساد مبنى المحقق الكركي (رحمه اللّه)... 442

بيان عدم المنافاة بين القول بالجواز وعدم صحة الصلاة في المكان الغصبي في صورة العلم والعمد ، لبغضها الفاعلي 443

تحقيق أنه إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا تندرج المسئلة في باب التعارض وان

ص: 604

كان التركيب انضماميا... 443

في حكم صلاة المجوس في المكان المغصوب... 444

في حكم الخروج من المكان المغصوب وبيان الأقوال فيه... 446

في عدم اندراج المقام في قاعدة الامتناع بالاختيار... 449

في بيان حكم الصلاة حال الخروج عند ضيق الوقت... 452

في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

بيان الفرق بين هذه المسئلة ومسألة اجتماع الأمر والنهي... 454

اثبات كون المسئلة من مسائل علم الأصول ، وانها ليست من مباحث الألفاظ بل من مباحث الملازمات العقلية للأحكام 454

في تحرير محل النزاع ، وبيان المراد من العبادة ، والمعاملة ، والفساد... 455

في بيان المراد من الصحة والفساد في محل البحث... 457

اشكال اتصاف المعاملات بالصحة والفساد ، وحله... 458

في كون الصحة والفساد انتزاعيين مطلقا... 460

في ان البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهي عنه لولا النهى 461

تحقيق انه لا أصل في المسئلة بالنسبة إلى المسئلة الأصولية... 462

المقام الأول : في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد... 463

وجوه تصوير النهى عن العبادة... 463

الإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة ، والجواب عنه... 463

تحقيق ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا... 464

التنبيه على أمرين

الأول : في فساد العبادة مع الاضطرار أو النسيان ، والنظر في المحكى عن المشهور حيث حكى عنهم : لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلواته وكذا في صورة النسيان... 467

ص: 605

الثاني : في ان الحرمة التشريعية توجب فساد العبادة دون المعاملة... 469

المقام الثاني : في النهى عن المعاملة... 471

لا اشكال في كون النهى الارشادي موجبا لفساد المعاملة... 471

فيما يقتضيه النهى المولوي عن السبب والمسبب والأثر في المعاملات... 471

الاستدلال بالرواية على فساد المعاملة المنهية... 473

فساد ما حكى عن ( أبي حنيفة ) من دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة... 474

المقصد الثالث في المفاهيم

مقدمة : في المفاهيم وتفسيرها ، وبيان ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا... 476

الفصل الأول في مفهوم الشرط

الجهات التي تقع البحث فيها ( في القضية الشرطية )... 478

فيما يتوقف عليه ثبوت مفهوم الشرط... 479

في ان دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وضعية ، ودلالتها على كون العلقة بينهما علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء سياقية... 480

تقريب الاستدلال بمقدمات الحكمة ، لا ثبات كون الشرط علة منحصرة... 481

الاشكال على استفادة انحصار العلة من مقدمات الحكمة... 481

تقريب مقدمات الحكمة لاستفادة الانحصار بوجه آخر ، وهو اجراء المقدمات في ناحية الجزاء 482

تنبيهات المسئلة

الأول : في ان المراد من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ( المعبر عنه بالمفهوم ) هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه لا شخصه 484

الثاني : في ان المفهوم يتبع المنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه ، وانما التفاوت بينهما بالسلب والايجاب 485

ص: 606

اشكال منطقي على استفادة نجاسة الماء القليل من مفهوم قوله (عليه السلام) ( إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) والجواب عنه 485

الثالث : في تعارض المفهومين ، وتحقيق انه لا بد من الجري على ما يقتضيه العلم الاجمالي 486

الرابع : في تداخل الأسباب والمسببات... 489

بيان المراد ، من تداخل الأسباب والمسببات... 489

مقتضى الأصل الاعملى عند الشك في تداخل الأسباب أو المسببات بحسب الحكم التكليفي والوضعي 490

في ان الجزاء القابل للتعدد والقابل للتقيد بالسبب داخل في محل النزاع ، والجزاء الغير القابل للتعدد والتقيد خارج عن حريم النزاع... 491

تحقيق عدم ابتناء مسئلة التداخل على كون الأسباب الشرعية معرفات ، أو مؤثرات... 492

في بيان عدم التنافي بين القول بعدم التداخل وبين ما حكى عن المشهور : من القول بكفاية صوم يوم واحد في مثال ( صم يوما وصم يوما )... 492

في ان الأصل اللفظي يقتضى عدم تداخل الأسباب والمسببات... 493

في ان الجملة الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين... 494

اشكال : ان الجزاء لم يترتب بوجوده على الشرط حتى يمكن التعدد ، بل رتب من حيث حكمه - فان وجوده هو مقام امتثاله - والجواب عنه... 495

البرهان المحكى عن العلامة (رحمه اللّه) لعدم تداخل الأسباب الذي أتمه بمقدمات ثلث... 495

إشارة اجمالية إلى ما هو ضابط ومميز بين العلل للجعل وبين موضوعات المجعول... 496

تحقيق أصالة عدم التداخل في ناحية المسببات... 497

التنبيه على أمرين

الأول : في بيان موارد قيام الدليل على التداخل ، كموجبات الوضوء وبعض موجبات الكفارة ، وتوجيه التداخل في هذه الموارد... 498

الثاني : في بيان ارتباط مسئلة التداخل بمسألة القول بتعدد حقايق الأغسال - كما هو المشهور - والقول باتحادها ، كما هو المحكى عن الأردبيلي (رحمه اللّه)... 499

ص: 607

الفصل الثاني في مفهوم الوصف

تحرير عنوان البحث ، وتخصيص محل النزاع بالوصف المتعمد على الموصوف... 501

تحقيق عدم دلالة الوصف على المفهوم مطلقا... 502

مقايسة المقام بمسألة حمل المطلق على المقيد ، ورد هذه المقايسة... 502

في ان محل البحث هو فيما كان بين الموصوف والصفة عموم مطلق ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموصوف لا الافتراق من جانب الوصف ، كالإبل السائمة... 503

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

هل الغاية داخلة في المغيى أم لا؟... 504

تحقيق انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج بل لا بد من قرينة خارجية خاصة ، والمرجع عند الشك هو الأصول العملية... 504

الظاهر ان الغاية قيد للحكم فيقتضى المفهوم... 505

الفصل الرابع في مفهوم الحصر

في ان مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد ، ورد ما نقل عن ( نجم الأئمة ) 505

في ان النزاع في الحقيقة راجع إلى أن كلمة ( الا ) وصفية أو استثنائية؟ فعلى الأول : لا مفهوم لها ، وعلى الثاني : فثبوت المفهوم لها مسلم... 506

الاشكال في إفادة كلمة ( لا إله إلا اللّه ) التوحيد ، ودفعه... 508

في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، واحتياج ساير الأدوات بالقرائن الخاصة... 509

المقصد الرابع في العام والخاص

في بيان المراد من العموم... 511

ص: 608

في بيان الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، واندفاع الدور الوارد على الشكل الأول 511

في بيان اقسام العموم ، وان الأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية... 514

في ان العام المخصص ليس مجازا ، وبيان ما أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية... 516

حاصل ما افاده الأستاذ في وجه عدم المجازية... 517

رد توهم المجازية في التخصيص الأفرادي... 519

المناقشة في ما افاده الشيخ (رحمه اللّه) في وجه حجية العام فيما بقي بعد التسليم المجازية... 521

توجيه مقالة الشيخ بتقريب آخر... 522

في أقسام المخصص المجمل وحكم أصالة العموم فيها

حكم ما لو كان المخصص متصلا... 523

حكم ما لو كان المخصص منفصلا ودار أمره بين المتباينين... 523

حكم ما لو كان المخصص منفصلا ودار امره بين الأقل والأكثر... 524

في عدم صحة التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية للمخصص

دفع ما يتوهم : من صحة التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان العام... 525

بصورة القضايا الخارجية... 526

في أن قياس الأصول اللفظية بالأصول العملية قياس مع الفارق... 528

بيان وجه حكم المشهور بالضمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية... 529

تحقيق جريان الأصل في الموضوعات المركبة ومنها يد المشكوكة... 530

بيان عدم جريان الأصل فيما كان التركيب من العرض ومحله ، لكون العدم فيه نعتيا... 532

في ضعف التفصيل الذي افاده المحقق الخراساني (رحمه اللّه) بين ما إذا كان دليل التقييد منفصلا أو كان من قبيل الاستثناء ، وبين ما إذا كان متصلا بالكلام على وجه التوصيف... 533

ص: 609

بيان ما تداول بين المتأخرين من جواز التمسك بالعام عند الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا 536

في ما يصح التمسك فيه بالعموم من المخصص اللبي... 536

في عدم صحة التمسك بالعمومات أو الأصول قبل الفحص

الوجهان العمدتان لوجوب الفحص ، في الأصول العلمية... 540

الوجهان العمدتان لوجوب الفحص في الأصول اللفظية... 540

الاشكال على العلم الاجمالي المقتضى للفحص ، على وجه يختص بالأصول العملية ، ودفعه بالانحلال الحكمي 541

تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، وهو انحلال العلم بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الأحكام والمقيدات والمخصصات ، فلا موجب للفحص التام... 543

دفع الاشكال : بان المعلوم بالاجمال هنا معلم بعلامة ( ما بأيدينا من الكتب ) فلا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن من الأحكام... 543

الاشكال على ما لو جعل المدرك لوجوب الفحص ، كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، والذب عنه 546

البحث عن مقدار الفحص ، وتحقيق انه يكفي في ذلك حصول الاطمينان وسكون النفس 547

في أن الخطابات هل تعم الغائبين والمعدومين أم لا؟

تحرير محل الكلام ، وتعيين جهة البحث هل انه عقلي أم لغوي؟... 548

في بيان ثمرة النزاع

تحقيق عدم ابتناء الثمرة على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) حيث ذهب إلى حجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد إفهامه 549

تفصيل الكلام بين القضية الحقيقية والخارجية بشمول الأولى للغائبين والمعدومين دون

ص: 610

الثانية... 550

في أن عود الضمير إلى بعض افراد العام يوجب التخصيص أم لا؟

بيان ما قد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام... 552

تقرير عدم جريان أصالة عدم الاستخدام بوجوه ثلاثة... 552

في أن الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل يرجع إلى خصوص الجملة الأخيرة أو الجميع أو يقتضى التوقف؟

التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول وبين ما إذا حذف فيها الموضوع 554

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

بيان معنى المفهوم الموافق... 555

في أن المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة... 556

الإشارة إلى الخلط الواقع في جملة من الكلمات في المفهوم المخالف... 557

تحقيق ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مطلق من العام يقدم على العام ، ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه... 559

الوجهان الفارقان بين المفهوم المخالف والموافق... 560

بيان عدم صلاحية العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم وان كان متصلا 560

في تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري... 561

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

بيان معنى الاطلاق والتقييد ، والنظر في تعريف المطلق : بأنه ما دل على شايع في جنسه في أن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الأفرادية كذلك يردان على الجمل

ص: 611

التركيبية ، وبيان الفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية واطلاق الجمل التركيبية... 563

في خروج الأعلام والمعاني الحرفية والجمل التركيبية عن محل الكلام ، واختصاص البحث بالعناوين الكلية القابلة الصدق على كثيرين كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية... 564

في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، فيدور أمره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة أو من تقابل التضاد... 566

تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب إلى سلطان العلماء... 566

في انقسامات الماهية... 566

في بيان اللا بشرط القسمي ، والفرق بينه وبين المقسمي... 568

اشكال بعض المحققين على المشهور القائلين : بأن الاطلاق والإرسال جزء مدلول اللفظ ، بأنه يلزم ان يكون الإطلاق حينئذ كليا عقليا ، والجواب عنه... 570

في ان الكلى الطبيعي هو اللا بشرط القسمي... 571

في ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللا بشرط المقسمي ، كما هو مقالة السلطان (رحمه اللّه) 572

في بيان احتياج الإطلاق إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الأفرادي 573

في بيان مقدمات الحكمة التي تتركب من عدة أمور

1 - ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الإطلاق والتقييد وقابلا لهما.

2 - كون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإجمال وان لايكون الإطلاق تطفليا.

3 - عدم ذكر القيد من المتصل والمنفصل... 573

في أن عدم القدر المتيقن ليس من مقدمات الحكمة... 574

في أن التقييد لا يوجب المجازية على مسلك ( السلطان ) والمحققين من المتأخرين ، وانما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي... 576

ص: 612

في حمل المطلق على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات

الجهة الأولى : في أن المقيد بمنزلة القرينة فيقدم على المطلق الذي يكون بمنزلة ذي القرينة ، من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، ومن غير فرق بين المتصل والمنفصل... 577

الجهة الثانية : في بيان صور ذكر السبب وعدمه في كل من المطلق والمقيد ، وأحكام كل من الصور الأربعة 579

الجهة الثالثة : في بيان أنحاء ورود المطلق والمقيد ، وتمييز ما يحمل منها مما لا يحمل... 581

تحقيق انه لا موجب لحمل المطلق على المقيد مطلقا إذا كان التكليف استحبابيا... 585

وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة اللّه على اعدائهم اجمعين

10 شوال المكرم سنة 1404 ه-

ص: 613

المجلد 1 و 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 0

ISBN: 978-964-470-899-2

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1404 ه.ق

الصفحات: 613

فوائد الأصول

من افادات قدوة الفقهاء والمجتهدين وخاتم الأصولين

الميرزا محمد حسين الغرويّ النائيني قدس سرّه العالي

المتوفي سنة 1355 ه ق

تأليف الأصولي المدقق الفقيه المحقق العلّامة الرباني

الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني طاب ثراه

المتوفي سنة 1365 ه ق

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360

ص: 1

اشارة

فرائد الأصول (ج 1 و 2)

تأليف: العلامة الرباني (الفقيه المحقق) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني طاب ثراه

تقرير و أبحاث: الأستاذ الأعظم آية اللّه العظمی الميرزا محمد حسين الغروي النائيني قدس سره

تحقيق: الشيخ رحمة اللّه الرحمتي الأراكي

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 616

الطبعة: الثانية عشر

المطبوع: 500

التاريخ: 1438 ه . ق.

شابك ج 1 و 2: 2-899-470-964-978

ISBN: 978-964-470-899-2

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

كلمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله

الطاهرين المعصومين ...

اما بعد ، فإنه لما كان ما ألقاه فخر المتأخرين وقبلة المشتغلين صفوة الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى في العالمين « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » أعلى اللّه مقامه الشريف في المباحث الأصولية من أتقن المباني في هذا الفن وأحكمها ، وان المحقق الجليل والفقيه النبيل آية اللّه « الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني » قدس سره الشريف من أقدم تلامذته وحافظي دقائق انظاره ، وما قرره من أبحاث أستاذه الجليل من أحسن ما صنف في طريقه واليه مراجعة أهل النظر في تحقيق مباني المحقق الأستاذ ، فلذا بذلنا جهدنا في نشر هذا السفر الجليل المسمى ب « فوائد الأصول » بصورة جديدة وأسلوب حديثه مع ما تمتاز به من الطبعة الأولى من التصحيح والتعليق واخراج المصادر وتنظيم الفهرس التفصيلي المبين لمباني الأستاذ في كل مبحث.

وقد تصدى الاخراج مصادر الأقوال والكلمات ، الفاضل الجليل حجة الاسلام « السيد محمد جواد العلوي الطباطبائي » ولمصادر الآيات والاخبار واعجام الكتاب وتشكيله بأسلوب جديد ( بوضع النقط وعلامة البيان وعلامة السؤال وغيرها من العلائم العصرية المتداولة ) وتنظيم الفهرس ، الفاضل النبيل حجة الاسلام

ص: 1

« الشيخ رحمت اللّه الرحمتي الآراكي » شكر اللّه سعيهما وجعل جهدهما وجهدنا ذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم. ونسئل اللّه التوفيق لنشر ساير مجلدات الكتاب ومنه التوفيق وعليه التكلان.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة

20 ذي حجة الحرام 1404

ص: 2

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي الخراساني

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة على رسوله وعلى آله الطاهرين.

- 1 -

كان الناس أمة واحدة وفي غمرات من الجهالة والضلالة ، فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب واصطفى لهم الدين ، وأكمل عليهم الرحمة والهدى ، فأرسل رسله تترى واتبع بعضهم بعضا.

تلك الرسل وان لم يفرق اللّه بين أحد منهم في أصل الرسالة ، لكنه فضل بعضهم على بعض بما آتاهم من الكمال في الشريعة حتى جاء بأفضلهم فرقا وجمعا وأشرفهم أصلا وفرعا وأكملهم دينا وشرعا. فختم بارساله دور النبوة والرسالة. وحتم على كافة الناس اتباعه إلى يوم القيمة. وأرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه باذنه وسراجا منيرا.

وأشار إلى هذا الختم والا تمام بالحصر في قوله تعالى : « ان الدين عند اللّه الاسلام » بل صرح بذلك وأكده بالتأبيد حيث قال عزوجل : « ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين » (1).

ص: 3


1- آل عمران : 85

- 2 -

الدين الاسلامي بما انه خاتم للشرائع الإلهية يشتمل على جميع ما يجب أو يناسب ان يقصده الشارع في وضع الشريعة : من المقاصد ، والحاجيات ، والكماليات فليس شيء مما يتوقف عليه حفظ مصالح الدين والدنيا من الضروريات الخمس التي هي المقاصد الا وقد شرع له في الاسلام ما يقوم به أركانها ويحفظ وجودها وكيانها ، وما يدفع به عما يورث اختلالها ويمكن ان يؤثر في زوالها.

وكذلك الشأن في الحاجيات ، فليس امر يحتاج إليه في التوسعة على الناس الا وقد ثبت له في الشريعة السمحة السهلة مواد ، وانتفى التضييق فيه برفع العسر ، والحرج ، والمشقة ، والضرر عن العباد ، ووسع عليهم فيما لا يعلمون. ورفع عنهم المؤاخذة في الخطاء ، والنسيان ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون .. الخ.

وهكذا الامر في الكماليات ومحاسن العادات ، فليس شيء يصلح لان يجعل ذريعة إلى تحصيل مكارم الأخلاق ، ويناسب ان يتوسل به إلى تطهير الأعراق الا وقد أرشد إليه أئمة الاسلام. وتوصل إلى رعايته بتعليم الآداب ومندوبات الاحكام. وبالجملة ، الدين الاسلامي جامع لكل ما يحتاج الانسان إليه ، أو ينفعه ، أو يحسن له في نشأتيه.

- 3 -

صدر من الشارع في بيان وظائف الأمة احكام من طريق الكتاب والسنة ، لكنها غير مجتمعة بالتدوين ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم والدين ، ومع ذلك كان تحصيل العلم بالأحكام في ذلك العصر ، عصر السعادة وخير القرون. سهلا ميسورا إذا كان باب العلم على الأمة مفتوحا. والمسألة عن الرسول للمؤمنين مقدورا.

انقضى عصر الوحي والتنزيل ، وخضع الناس لسلطان الاسلام وإطاعة الاحكام جيلا بعد جيل ، وانبسط حكم الشريعة على البلاد البعيدة والأمم المختلفة من حيث الخلق والعادة والعقيدة. فانعطف توجه الزعماء من الصحابة إلى جمع

ص: 4

القرآن أولا ، والبحث عن الاحكام وأدلتها ثانيا ، فحصل لبادئ بدء طور جديد في الاحكام ، طور الاستنباط والاستدلال.

طلعت غرة هذا الطور في أوائل القرن الأول من الاسلام. وبادرت مسرعة نحو التقدم بالانتظام. فما انسلخ ذلك القرن الا عن البشارة بحدوث علم في العالم الاسلامي كافلا لجميع ما يحتاج الانسان إليه في معاشه ومعاده. ضامنا لسعادة من يعمل بمتضمنه ومفاده.

الا وهو علم الفقه.

- 4 -

وجد في العالم أنحاء شتى من القوانين ، يجمعها قسمان أصليان وهما :

1 - الشرائع السماوية.

2 - الشرائع المدينة.

لا يهمنا هنا استقصاء ما يكون بين القسمين من وجوه الفرق. لكن ما يجدر بان لا يهمل ذكره هنا وجهان أساسيان :

الأول - ان الشرائع الإلهية ناظرة إلى حفظ جميع الصالح. سواء كانت متعلقة بالفرد أم بالمجتمع. وعلى تعلقه بالفرد سواء كانت من حيث جسمه أم روحه ، وسواء كانت باعتبار نشأته الفانية أم باعتبار حياته الباقية الخالدة. على أن حيثية مناسبات هذه الشؤون بينها ملحوظة في تلك الشرايع.

الثاني - ان مقصود المعتقد المتعبد بتلك الشرائع ليس رفع المسؤولية تجاه الشرع واسقاط التكليف فحسب ، بل يولى وجه دقته شطر « الواقع » ليحرزه ويصرف عنان همته نحو ما خوله الشارع ليحفظه ، وذلك لان الاحكام عنده تابعة للمصالح والمفاسد ، والشرعيات في نظره الطاف في العقليات من العوائد والفوائد.

على أن نفسه مطمئنة بان الشارع أصاب الواقع ولا بتخلف حكم من احكامه عما يكون هوله تابع.

هذا الفرق الثاني هو الذي حمل حماة الدين وحملة الفقه على أنحاء من البحث في نواحي أدلة الاحكام ومناحيها ، فبحثوا عن الأوامر ومعانيها ، وعن

ص: 5

النواهي ومطاويها. وعن مداليل هذه الكلمات ، وعن المنطوق والمفهوم ، وعن العموم والخصوص والتخصيص ، وعن الاطلاق والتقييد ، وعن الاجمال والتبيين ، وعن حقيقة النسخ وكيفية الناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك مما لا يستغنى عن تحقيقه من يتصدى لاستنباط « الواقع » واستخراجه من الأدلة التفصيلية التي اعتبرها الشارع واعتمد عليها التابع.

فتحصل عن جميع هذه المباحث علم جديد في عالم الاسلام ، علم أوجده كثرة العناية بأحكام الدين وشدة العلاقة باحراز « الواقع » من طريق القطع واليقين.

علم يحتاج إلى الانتفاع بمضامينه والاستناد إلى أصوله وقوانينه كل من كان له مساس القانون باقسامه وأفانينه ، علم لا يختص « المنفعة » فيه بحملة الفقه وان اختص الفقيه بالاستفادة منه ، علم ابتكره الاسلام ويكون تأسيسه من مفاخر الاعلام.

الا وهو علم أصول الفقه.

- 5 -

وجود علل أشرنا إلى بعضها آنفا أنتج حدوث علم في العلوم الاسلامية لتحقيق أدلة الاستنباط ومداركها ، وتنقيح مسائل الفقه وتوضيح مسالكها.

وقد بحثنا في مقدمة مختصرة علقناها على تقريراتنا الأصولية عن تلك العلل والعوامل. وفحصنا عن زمان حدوث هذا النسخ من المباحث والمسائل ، وشخصنا البصر لتشخيص أول من شرع في تدوين هذا العلم الحادث ، ودرسنا تاريخ العلم للاطلاع على أول عصر توجه فيه اعتماد فقهاء الشيعة نحو هذه المباحث ، وأتممنا الدراسة بالحديث عن كيفية مجاراتهم مع هذا العلم بتتابع البحث وسرد التصنيف والتأليف من بادئ بدء الاستناد به ، والانتحاء لتدوين مطالبه إلى عصرنا الحاضر وبالوضع الموجود ، وألممنا في ختام الكلام بما الف في عصرنا من المؤلفات المهام ، واما الآن فلما لا يساعدني الحال ، ولا يسعني المجال لبسط المقال ، فلنقتصر بالإشارة إلى بعض تلك الأحوال.

ص: 6

فنقول وعلى اللّه الاتكال (1) :

- 6 -

اعلم أن بعض مباحث الأصول كانت في القرن الأول كما أشرنا موردا للبحث والنظر ولكنه لم يخرج الأصول إلى عرصة التدوين والتأليف الا بعد مضى النصف الأول من القرن الثاني.

وقد صرح جمع من الجهابذة كابني خلكان وخلدون. وصاحب كشف الظنون بان أول من صنف في أصول الفقيه محمد بن إدريس الشافعي ، بل نقل عن كتاب « الأوائل » للسيوطي اطباقهم على ذلك حيث قال : « أول من صنف في أصول الفقه ، الشافعي بالاجماع ».

لكني لست على يقين من ذلك ، بل المحتمل عندي ان يكون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، وهو أول من لقب ب « قاضي القضاة » سابقا على الشافعي بتأليف الأصول ، لان القاضي توفى في سنة ( 182 ه. ق ) والشافعي مات في سنة ( 204 ه. ق ) وقد قال ابن خلكان في ترجمته : ان أبا يوسف « أول من صنف في أصول الفقه وفق مذهب أستاذه أبي حنيفة ».

وهكذا يحتمل جدا ان يكون محمد بن حسن الشيباني فقيه العراق ، الذي لما مات هو والكسائي في يوم واحد بري وكانا ملازمين للرشيد في سفره إلى خراسان قال في حقه الرشيد : « دفنت الفقه والأدب بر نبوية (2) » مقدما على الشافعي في تأليف الأصول لان الشيباني توفى ( سنة 182 ه. ق أو سنة 189 ) وقد صرح ابن النديم في « الفهرست » بان للشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليف يسمى ب « أصول الفقه » وتأليف سماه « كتاب الاستحسان » وتأليف « كتاب اجتهاد الرأي ». على أن الشافعي ، بتصريح من ابن النديم ، لازم الشيباني سنة كاملة و

ص: 7


1- ومن أراد اطلاعا أزيد فعليه بمراجعة التعليقة المزبورة ، وإذا شاء إحاطة كاملة على الموضوع فليسئل اللّه ان يوفقنا لاتمام طبع كتاب ألفناه في تاريخ الفقه الاسلامي ونحولاته ، وقد طبع منه إلى الان عدة صفحات.
2- وهي على ما في معجم البلدان قرية كانت قرب الري.

استنسخ في المدة لنفسه من كتب الشيباني ما استحسن وقد أذعن الشافعي نفسه بذلك ، وأعلن فقال من غير نكير « كتبت من كتب الشيباني حمل بعير ».

وكيف كان فان لم يحصل اليقين بتقدم القاضي والشيباني على الشافعي في التأليف ، فلا أقل من أن لا يحصل لنا يقين بتقدمه عليهما. فالحكم البات بكون الشافعي « أول من صنف في أصول الفقه » كما ترى.

- 7 -

هذا بالنسبة إلى حدوث العلم والاستناد به على نحو الاطلاق ، اما بدء الاستناد به في خصوص مذهب التشيع فهو كما احتملناه وعللناه في التعليقة المزبورة لا يتقدم على الغيبة الكبرى ( 329 ه. ق ).

أول من انتحى إلى أصول الفقه واعتمد عليه في مقام الاستنباط واستمد منه الشيخ الثقة الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل (1) صاحب كتاب « المتمسك بحبل آل الرسول » في الفقه ، وهو أيضا « أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ».

ثم اقتفى اثر ابن أبي عقيل واستحسن آرائه أبو على محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي الذي قال السيد الاجل بحر العلوم بعد عنوانه في ترجمته : « من أعيان الطائفة وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الامامية. وأكثرهم علما وفقها وأدبا ، وأكثرهم تصنيفا وأحسنهم تحريرا ، وأدقهم نظرا متكلم فقيه محدث أديب واسع العلم. صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب وغيرها تبلغ مصنفاته ، عدا أجوبة مسائله ، من نحو خمسين كتابا منها كتاب « تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة » كتاب كبير من نحو عشرين مجلدا يشتمل على جميع كتب الفقه ، وعدة كتبه تزيد على مائة وثلاثين كتابا ، وكتاب « المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي » مختصر كتاب التهذيب وهو الذي وصل إلى المتأخرين ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله .. » .

ص: 8


1- كان ابن أبي عقيل من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه ، أحد شيوخ العالم السديد المعروف بابن المعلم والملقب بالشيخ المفيد.

إلى أن قال السيد العلامة بعد تعديد كتبه وأجوبة مسائلة : « وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة ورئاسته وعظم محله قد حكى القول عنه بالقياس ، ونقل ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب ، وعلى ذلك فقد اثنى عليه علماؤنا وبالغوا في اطرائه ومدحه وثنائه .. ».

كان هذا الشيخ الجليل شيخا وأستاذا للشيخ المفيد ومعاصرا للشيخ الكليني وتوفى ، على ما ذكره المحدث القمي (رحمه اللّه) ( سنة 381 ه. ق ) في الري.

- 8 -

ثم وصل دور البحث عن عوارض أدلة الاحكام إلى أبى عبد اللّه محمد بن محمد بن نعمان بن عبد السلام الملقب ب « المفيد » عند الاعلام ، المتولد ( سنة 336 ) والمتوفى ( 413 ه. ق ) فالشيخ المفيد تبع أستاذه ابن الجنيد وابن أبي عقيل في الاعتماد على الأصول وان لم يتلق كل ما قاله ابن الجنيد بالقبول ، بل وكتب على رده ونقضه كما هو المنقول.

نقل صاحب « الذريعة » عن النجاشي ذكر كتاب للشيخ المفيد في الأصول مشتمل مع اختصاره على أمهات المباحث والفصول. ونقل أيضا ان العلامة الكراجكي ضمن ذلك في كتابه المسمى ب « كنز الفوائد ».

حدث الاستناد بالأصول من زمن ابن أبي عقيل وتوجه نحو التكامل في أيام ابن جنيد ودخل ذلك العلم في طور البحث والتأليف في عصر المفيد. فرج في عصره وشاء وانتشر صيته وذاع ، وذلك لان الشيخ المفيد كان يفيد العلم على تلامذة له ، كلهم أساتذة وفي نقد العلوم جهابذة ، منهم السيد السند والأجل الأوحد السيد المرتضى الملقب ب « علم الهدى » توفى السيد سنة « 336 ه. ق » ومنهم تلميذه أستاذ الفرقة وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن حسين بن علي الطوسي ( المتوفى 460 ه. ق ) ومنهم سلار « معرب سالار » بن عبد العزيز الديلمي صاحب كتاب « التقريب » في أصول الفقه ( المتوفى 436 ه. ق ) وغيرهم من أساطين العلم وأساتيذ الفن.

فقد صنف السيد في الأصول كتبا شريفة ورسائل منيفة ، قال السيد

ص: 9

الاجل بحر العلوم في فوائده الرجالية « .. ومن مصنفاته في أصول الفقه كتاب « الذريعة إلى الأصول الشريعة » وهو أول كتاب صنف في هذا الباب ، ولم يكن للأصحاب قبله الا رسائل مختصرة ، كتاب مسائل الخلاق في الأصول أثبته الشيخ والنجاشي قال الشيخ ولم يتمه. رسالة في طريقة الاستدلال موجودة عندنا. كتاب المنع من العمل باخبار الآحاد تعرف بالمسائل التبانية وهي أجوبة الشيخ الفاضل محمد بن عبد الملك التبان في ما عمله في انتصار حجية الاخبار تشتمل على عشرة فصول قد بسط السيد القول فيها. رسالة أخرى عندنا في المنع من خبر الواحد منقولة من خط الشهيد الثاني طاب ثراه .. ».

وقد صنف الشيخ الطوسي كتاب « عدة الأصول » الذي قال في شانه بحر العلوم : « وهو أحسن كتاب صنف في الأصول ».

وبالجملة فصار علم الأصول ( بعد ما صار في أواسط النصف الأول من القرن الرابع موردا للاستناد وعمدة في الاجتهاد ) في أواخر القرن الرابع موضوع البحث والدرس والتأليف ، وتوجه إليه أمثال هذه الفحول وصنفوا فيها ، لا رسائل مختصرة فقط ، بل كتبا قيمة مرتبة على أبواب وفصول.

- 9 -

ثم لعله توقف سير الاجتهاد في مسائل الفقه بعد الشيخ الطوسي مدة تقرب من قرن ، وذلك لحسن ظن من تلامذة الشيخ بما استنبطه وأفتى به في كتبه ، فكانوا بالحقيقة في تلك المدة ، على ما قيل « مقلدين » ( بل لقبوا به ) لما استنبط ، ومقتفين اثره في ما اجتهد واعتقد ، لا يتجاوزون عما قال ، ولا يتكلفون البحث في المقال حتى قام بأعباء الاجتهاد وأقام سوق البحث والانتقاد الفقه الفحل الأوحد محمد بن أحمد ، سبط الشيخ الطوسي الأمجد وحفيد ابن إدريس الممجد ، فألف في الفقه الاستدلالي كتابه السامي « السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى » ( توفى هذا الفقه سنة 598 ه. ق ).

انفتح باب البحث والاجتهاد بعد ما وقع فيه الانسداد أو كاد. فانتحى تلامذة ابن إدريس ، تبعا لأستاذ ، نحو الأصول بالاستناد. ثم تلاميذ تلامذته

ص: 10

كالمحقق الحلي صاحب « شرايع الاسلام » أبى القاسم نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد ( تولد المحقق سنة 602 وتوفى سنة 676 ه. ق ) وألفوا فيه كتبا نفيسة ، فمما الفه المحقق كتاب « نهج الوصول إلى معرفة الأصول » وكتاب « المعارج ».

انتقل الدور بعد المحقق إلى تلميذه وابن أخته الذي انتشر صيت علمه في الآفاق واشتهر له لقب « العلامة » على الاطلاق آية اللّه بالاستحقاق أبو منصور جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن مطهر ( 648 - 726 ه. ق ) فاحكم أساس البحث والنظر ، ونظر في كتب القوم ما تقدم منها وما تأخر ، فهذبها وحرر. أرشد العلامة إلى نهج الوصول ومنتهاه لمن أراد السلوك إلى هذه الأصول وتمناه فألف كتاب « النكت البديعة في تحرير الذريعة » وكتاب « تهذيب الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « نهج الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول » وكتاب « غاية الوصول .. » وكتاب « مبادئ الوصول إلى علم الأصول » وصادف ما كتبه العلامة في الأصول كسائر ما الفه في المعقول والمنقول اقبالا خاصا ، يليق بشأنها ، من العلماء الفحول ولا سيما كتابه الذي سماه « نهج الوصول .. » فقد تصدى لشرح هذا الكتاب جمع من فضلاء الأصحاب كالسيد عميد الدين عبد المطلب بن محمد الحسيني ( 681 - 754 ) ، وأخيه السيد ضياء الدين عبد اللّه بن محمد ابني أخت العلامة وتلميذيه وشيخي الإجازة للأول من الشهيدين وكفخر المحققين أبو طالب محمد بن العلامة ( 682 - 771 ه. ق ) وكالأمير جمال الدين عبد اللّه الحسيني الاسترآبادي صدر دولة السلطان الاجل الشاه إسماعيل الصفوي الأول.

وهذا الشرح الأخير على ما قال صاحب الروضات أحسن من شرح الاميدي والضيائي والفخري والمنصور ( تأليف الفقيه الفاضل منصور بن عبد اللّه الشيرازي المشتهر ب « راستگو » والمعاصر للشهيد الثاني ، وقد فرغ الشارح من تأليف هذا الشرح سنة 929 ه. ق ).

جمع الفقيه الاجل محمد بن مكي المشهور بالشهيد الأول ( الفائز بالشهادة

ص: 11

سنة 786 ه. ق ) بين شرحي العميدي والضيائي ، وهذا الجمع بالحقيقة شرح آخر على كتاب التهذيب.

وخلاصة القول ان من زمان العلامة إلى زمان الشهيد الثاني ، أي في القرن الثامن والتاسع وشطر من القرن العاشر ، كان أكثر مدار البحث والدرس في الأصول على ما الفه العلامة.

نعم كان للمختصر الحاجبي الذي الفه أبو عمر وعثمان بن عمر بن أبي بكر ( المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646 ه. ق ) في القرن السابع أيضا شأن عند علماء المذهب. فقد كانوا يدرسونه ويشرحونه ويعلقون عليه الحواشي ، ويرفعون عن وجوه مقاصده الغواشي.

- 10 -

كان جريان الامر في تلك القرون على ما حدد ، حتى مهد العالم الرباني زين الدين بن نور الدين المشهور بالشهيد الثاني ( توفى شهيدا سنة 966 ) قواعد الاستنباط للمجتهد وسماه « تمهيد القواعد ».

ثم الف أبو منصور جمال الدين حسن بن زين الدين ( ابن الشهيد الثاني المتوفى سنة 1011 ه. ق ) كتابه الموسوم ب « معالم الدين ». كتاب المعالم في الأصول لسلاسة تعبيره وسلامة تنظيمه وجودة جمعه وتأليفه صار سهل التناول كثير التداول بحيث انسى ما كتبه السلف ، وما اغنى عنه ما الفه الخلف. صنف المعالم وتداول فيه البحث والدرس بين الأعاظم ، فاقبلوا عليه بالتحشية والتعليق وامعنوا في مباحثه بالتدقيق والتحقيق.

من أحسن تلك التعاليق وأمتنها وأدقها وأتقنها ما علقه عليه العالم الأصول الشيخ محمد تقي ( المتوفى 1248 ه. ق ) وسماه ب « هداية المسترشدين ».

بعد القرن العاشر إلى عصرنا الحاضر ألفت في الأصول كتب كثيرة مشهورة وغير مشهورة. لكنه كانت مدارسة كتاب المعالم في جميع المدة معمولة ، ولعله يكون كذلك متى كان قلوب طلاب العلم بتحصيل الأصول مشغولة.

ص: 12

- 11 -

ومما ينبغي ان لا يترك هنا الإشارة إليه والتنبيه عليه ، ان للأصول في سيره من زمان تأليف المعالم إلى عصرنا الحاضر ثلث مراحل :

الأولى : مرحلة البطؤ أو التوقف.

الثانية : مرحلة البسط والتقدم.

الثالثة : مرحلة التحرير والتلخيص. فهذه ثلاثة أدوار حصلت للأصول في تلك القرون.

الدور الأول من الأدوار الثلاثة استوعب القرنين ، الحادي عشر والثاني عشر ، فكان أكثر مدار البحث والدرس في ذينك القرنين على كتاب المعالم ، ولم يؤلف فيهما مؤلفات مهمة تقع من حيث المدارسة في عرض المعالم أو في طوله ، ولعله كان ذلك ناشئا عن كثرة الاقبال على الاخبار وغلبة علمائنا الأخباريين الأخيار.

وكان الدور الثاني في القرن الثالث عشر ، فجدد فيه أساس البحث والنظر وحصل في هذا الدور للأصول صولة للأصوليين في ميدان التصنيف والتأليف والتحقيق جولة. فصار هذا الدور دور البسط والتفصيل بل دور الاطناب والتطويل ، وناهيك ما ترى من كتاب « هداية المسترشدين » ( حاشية على المعالم ) وكتاب « قوانين الأصول » للمحقق الجيلاني القمي ( المرزا أبو القاسم المتوفى 1231 ه. ق ) وكتاب « الفصول » للشيخ محمد حسين ( تلميذ الشيخ محمد تقي وأخيه المتوفى 1261 ه. ق ) ، وكتاب « بحر الفوائد » للاشتياني ( الحاج مرزا حسن المتوفى 1319 ه. ق ) حاشية على « فرائد الأصول » تأليف أستاذه الأنصاري ( أول من أدرك الأصول في هذا الدور بالتنقيح والتهذيب ، ورتبه على ترتيبه الأنيق المتين الشيخ المطلق في لسان المتأخرين الحاج شيخ مرتضى بن محمد أيمن المتوفى 1281 ) وغيرها من الكتب المؤلفة في ذلك القرن.

كان هذا التحول في سير الأصول من آثار الأصولي الفحل ما لك أزمة الفضل الأستاذ الأكبر المولى الاجل الأفضل آقا محمد باقر بن محمد أكمل ( المتوفى سنة 1206 أو 1208 ه. ق ) إذ لأستاذ بقوة تقريره وجودة تحريره في مناظراته

ص: 13

المكررة ومراسلاته المحررة برع على خصماء الأصول وجعل دعاويهم كعصف مأكول.

- 12 -

شرع الدور الثالث من ابتداء القرن الرابع عشر ، وانعكس طور التأليف في هذا الدور فتلخص وتحرر. أول من بادر إلى تحرير الأصول عن الفضول تدريسا وتدوينا وهيج الأشواق إلى سلوك هذا السبيل تدريبا وتمرينا ، هو أستاذ المتأخرين على الاطلاق شيخ المجتهدين المعاصرين في الآفاق الذي لخص المقاصد والمعاني ، وأسس في الأصول جملة من المباني المولى محمد كاظم الخراساني ( المتوفى 1329 ه. ق ).

خلب المحقق الخراساني قلوب طلبة العلم بمعاليه ، وجلب عقول حملته من تلامذته ومعاصريه بما أنعم اللّه عليه من لباقة تقرير لا يعادله فيها أحد وأناقة تحرير لا يسهل تحديدها بحد ، فاقتفوا في التلخيص والتحرير اثره ، وآثروا في ايراد ما اصطلح عليه أرباب المعقول والاستناد به في تآليفهم الأصولية فكره.

صار كتاب « كفاية الأصول » الذي الفه المحقق الخراساني كتابا نهائيا لمدارسة الأصول.

جملة الكلام ، ان أهل العلم في القرن حملوا العناء وبذلوا العناية لا في التلخيص والتحرير فحسب ، بل في الدقيق والتحقيق ، وأيضا في التنسيق والتانيق.

- 13 -

ممن تابع في تنقيح مطالب الأصول وتوضيح مآربه أئمته والقى إليه التحقيق في هذا العصر أزمته. العالم العليم الأستاذ الأعظم المرزا محمد حسين الغروي الناييني فهو قد أكب مجاهدا على تهذيب الأصول بالبحث ، والب لتدريب الفضلاء وتعليمهم على الدرس ، فتخرج من معهد بحثه ومجلس درسه علماء جلة وفضلاء أولى تجلة يوعون ما يسمعون ويكتبون ما يستفيدون ويوعون.

ص: 14

وهذه المكتوبات هي التي اصطلح عليها عنوان « التقريرات » (1)

- 14 -

من جملة ما عرف بعنوان التقريرات هذا الكتاب ( كتاب فوائد الأصول ) الذين يريه الناظر حاضرا بين يديه ، وتهوى أفئدة عشاق الفضل إليه الفه قرة عين الأستاذ الاجل وغرة وجه العلم والعمل الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني ، الذي مات (رحمه اللّه) ولم تظهر أسرار دفائنه ولم تفتح اغلاق خزائنه ( توفى سنة 1365 ه. ق ).

هذا التأليف ان لم يكن أحسن ما كتب من دروس الأستاذ على الاطلاق فهو من أحسنها تنقيحا وأجودها توضيحا وأمتنها تعبيرا وأكثرها تحريرا ، وكيف لا؟ وقد أفاد الأستاذ في شأن المؤلف وما أفاد عين هذه الكلمات وهي ترشدنا إلى الفرق بينه وبين غيره « .. فان من أعظم ما أنعم به سبحانه وتعالى على العلم وأهله ، هو ما حباه من التوفيق والتأييد لقرة عيني العالم العلم العلام والفاضل البارع الهمام الفائز بأسنى درجات الصلاح والسداد بجهده والفائز بأسنى رتبة الاستنباط والاجتهاد بجده ، صفوة المجتهدين العظام وركن الاسلام ، والمؤيد المسدد التقى الزكي جناب الاغا الشيخ محمد على الخراساني الكاظمي أدام اللّه تعالى تأييده وأفضاله وكثر في العلماء الاعلام أمثاله.

« فقد أودع في هذه الصحائف الغر ما نقحناه في أبحاثنا مجدا في تنقيحه مجيدا في توضيحه ببيان رائق وترتيب فائق فلله دره وعليه سبحانه اجره .. » هكذا كان سير الأصول في تلك القرون الاسلامية إلى زماننا الحاضر ، و

ص: 15


1- في القرون الأولية من الاسلام قد يلقون الأساتذة على تلاميذهم عبارات مربوطة بالكتاب أو السنة أو غير ذلك فيملونها وسمى تلك المكتوبات ب « الأمالي » ومن ذلك أمالي الصدوق والمفيد والطوسي. و في القرون الأخيرة و لا سيّما في القرن الثالث عشر كان التّلامذة يكتبون بعد درس الأستاذ ما يستفيدون ممّا حقق و أفاد و يعرضونه عليه للبحث و الانتقاد، و تسمى تلك المكتوبات ب «التّقريرات». أوّل ما اشتهر بذلك العنوان على ما أظنّ، كتاب «مطارح الأنظار» الّذي ألّفه المحقّق العالم الميرزا أبو القاسم (المشهور بكلانتري المتوفى 1292 ه. ق) من إفادات أستاذه و أستاذ الكلّ الشيخ الأنصاري.

على ما دريت صار هذا العلم منتقلا من الغابرين إلى المعاصرين ، فلله در المجتهدين من العلماء ، وجزاهم اللّه عن الاسلام والعلم خير الجزاء.

هذا ما قصدنا ايراده على سبيل الاستعجال وطريق الاجمال مقدمة على الكتاب ، حسب ما أشار على بذلك من عنى بطبع هذا المجلد الأول وهو صديقي الممجد المبجل العالم العامل والفاضل الكامل حجة الاسلام الشيخ نصر اللّه المشتهر بالخلخالي بين الاعلام أدام اللّه بركاته وزاد ، تبارك وتعالى ، في حسناته.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا

طهران 20 ربيع الثاني 1368

محمود الشهابي الخراساني

ص: 16

الجزء الأول من كتاب فوائد الأصول

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف بريته وعلى اله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فيقول العبد المذنب الراجي عفو ربه محمد على الكاظمي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي قدس سره : انى لما حضرت مجلس بحث المولى خاتمة المجتهدين فريد عصره وفقيه زمانه ، من إليه انتهت الرياسة العامة ، شيخنا وملاذنا آية اللّه حضرة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني متع اللّه المسلمين ببقائه ، رأيت أن بحثه الشريف ذو فوائد جليلة ، بحيث ينتفع منه المنتهى من أهل العلم فضلا عن المبتدي ، ويستفيد منه من كثر باعه فضلا عمن قصر ، فأحببت تزيين هذه الأوراق بما استفدته من إفاداته الشريفة حسبما يسعني ويؤدى إليه فهمي القاصر.

فأقول : ومن اللّه استمد.

القول في أصول الفقه

اشارة

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم مقدمة ، ومقاصد ، وخاتمة.

اما المقدمة : ففي بيان نبذة من مباحث الألفاظ

ولما كان داب أرباب العلوم عند الشروع في العلم ذكر موضوع العلم ، وتعريفه ، وغايته ، فنحن أيضا نقتفي أثرهم. وينبغي قبل ذلك بيان مرتبة علم

ص: 17

الأصول وموقعه ، إذ لعله بذلك يظهر تعريفه وغايته.

فنقول : لا اشكال في أن العلوم ليست في عرض واحد ، بل بينها ترتب وطولية ، إذ رب علم يكون من المبادئ لعلم اخر ، ولأجل ذلك دون علم المنطق مقدمة لعلم الحكمة ، وكذلك كان علم النحو من مبادئ علم البيان ، ومن الواضح ان جل العلوم تكون من مبادئ علم الفقه ومن مقدماته حيث يتوقف الاستنباط على العلوم الأدبية : من الصرف ، والنحو ، واللغة ، وكذا يتوقف على علم الرجال ، وعلم الأصول ، ولكن مع ذلك ليست هذه العلوم في عرض واحد بالنسبة إلى الفقه ، بل منها ما يكون من قبيل المقدمات الاعدادية للاستنباط ، ومنها ما يكون من قبيل الجزء الأخير لعلة الاستنباط. وعلم الأصول هو الجزء الأخير لعلة الاستنباط بخلاف سائر العلوم ، فإنها من المقدمات ، حتى علم الرجال الذي هو أقرب العلوم للاستنباط ، ولكن مع هذا ليس في مرتبة علم الأصول بل علم الأصول متأخر عنه ، وعلم الرجال مقدمة له.

والحاصل

ان علم الأصول يقع كبرى لقياس الاستنباط وسائر العلوم تقع في صغرى القياس. مثلا استنباط الحكم الفرعي من خبر الواحد يتوقف على عدة أمور فإنه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ التي تضمنها الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة أبنية الكلمات ومحلها من الاعراب ليتميز الفاعل عن المفعول والمبتدأ عن الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة سلسلة سند الخبر وتشخيص رواته وتمييز ثقتهم عن غيره ، ويتوقف أيضا على حجية الخبر ، ومن المعلوم : ان هذه الأمور مترتبة من حيث دخلها في الاستنباط حسب ترتبها في الذكر والمتكفل لاثبات الامر الأول هو علم اللغة ، ولاثبات الثاني هو علم النحو والصرف ، ولاثبات الثالث هو علم الرجال ، ولاثبات الرابع الذي به يتم الاستنباط هو علم الأصول ، فرتبة علم الأصول متأخرة عن جميع العلوم ، ويكون كبرى لقياس الاستنباط. فيقال : الشيء الفلاني مما قام على وجوبه خبر الثقة ، وكلما قام على وجوبه خبر الثقة يجب ، بعد البناء على حجية خبر الواحد الذي هو نتيجة البحث في مسألة حجية خبر الواحد ، فيستنتج من تأليف

ص: 18

القياس وجوب الشيء الفلاني.

بما ذكرنا من مرتبه علم الأصول يظهر الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول ، وحاصل الضابط : ان كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط فهي من مسائل علم الأصول.

وبذلك ينبغي تعريف علم الأصول ، بان يقال : ان علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعى كلي ، فان ما عرف

به علم الأصول : من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الخ - لا يخلو عن مناقشات عدم الاطراد وعدم الانعكاس ، كما لا يخفى على من راجع كتب القوم.

وهذا بخلاف ما عرفنا به علم الأصول ، فإنه يسلم عن جميع المناقشات ، ويدخل فيه ما كان خارجا عن تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون داخلا ، ويخرج منه ما كان داخلا في تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون خارجا.

ثم إن المايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بعد اشتراكهما في أن كلا منهما يقع كبرى لقياس الاستنباط ، هو ان المستنتج من المسألة الأصولية لايكون الا حكما كليا ، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهية ، فإنه يكون حكما جزئيا وان صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلي أيضا الا ان صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المايز بينها وبين المسألة الأصولية ، حيث إنها لا تصلح الا لاستنتاج حكم كلي ، كما يأتي تفصيله في أوايل مباحث الاستصحاب (1) انشاء لله ، ويأتي هناك أيضا ان المسألة الأصولية قد تقع أيضا صغرى لقياس الاستنباط وتكون كبراه مسألة أخرى من مسائل علم الأصول ، الا انه مع وقوعها صغرى لقياس الاستنباط تقع في مورد اخر كبرى للقياس.

وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط أصلا فراجع. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك مرتبة علم الأصول وتعريفه.

ص: 19


1- الجزء الرابع من فوائد الأصول ، الامر الثاني
واما غايته

فهي غنية عن البيان ، إذ غايته هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن مداركها.

بقى الكلام في بيان موضوعه

وقد اشتهر ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد أطالوا الكلام في البحث عن العوارض الذاتية والفارق بينها وبين العوارض الغريبة ، وربما كتب بعض في ذلك ما يقرب من الف بيت أو أكثر.

وقد يفسر العرض الذاتي بما يعرض الشيء لذاته ، أي بلا واسطة في العروض وان كان هناك واسطة في الثبوت. والمراد من الواسطة في العروض ، هو ما كان العرض أولا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه ، كحركة الجالس في السفينة ، فان الحركة أولا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق.

وهذا بخلاف ما إذا لم يكن هناك واسطة في العروض ، سواء لم يكن هناك واسطة أصلا - كادراك الكليات بالنسبة إلى الانسان ، فان ادراك الكليات من لوازم ذات الانسان وهويته ، ويعرض على الانسان بلا توسيط شيء أصلا ، وليس ادراك الكليات فصلا للانسان ، بل الفصل هو الصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، ومن لوازم ذلك ادراك الكليات ، الا انه لازم نفس الذات بلا واسطة - أو كان هناك واسطة الا انها لم تكن واسطة في العروض ، بل كانت واسطة في الثبوت ، سواء كانت تلك الواسطة منتزعة عن مقام الذات ، كالتعجب العارض للانسان بواسطة ادراكه الكليات الذي هو منتزع عن مقام الذات ، حيث كان ذات الانسان يقتضى الادراك كما عرفت ، أو كانت الواسطة أمرا خارجا عما يقتضيه الذات كالحرارة العارضة للماء بواسطة مجاورة النار.

والسر في تفسير العرض الذاتي بذلك ، أي بان لايكون هناك واسطة في العروض ، مع أن هذا خلاف ما قيل في معنى العرض الذاتي : من أن العرض الذاتي

ص: 20

ما كان يقتضيه نفس الذات ، ومنتزعا عن مقام الهوية ، فمثل حرارة الماء من العرض الغريب لان عروض الحرارة على الماء يكون بواسطة امر خارج مباين ، بل ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مط ، سواء كان أعم أو أخص أو مباينا ، يكون من العرض الغريب اتفاقا ، وانما المختلف فيه ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مساوي ، كالضحك العارض للانسان بواسطة التعجب ، حيث ذهب بعض إلى أنه من العرض الذاتي ، وبعض اخر إلى أنه من العرض الغريب ، فالعبرة في العرض الذاتي عندهم هو كونه بحيث يقتضيه نفس الذات ، لاما لايكون له واسطة في العرض ، هو ان البحث في غالب مسائل العلوم ليس بحثا عن العوارض الذاتية لموضوع تلك المسألة على وجه يقتضيه ذات الموضوع ، بداهة ان خبر الواحد مثلا بهوية ذاته لا يقتضى الحجية ، إذ الحجية انما هي من فعل الشارع.

فالبحث عن حجية خبر الواحد ليس بحثا عن العوارض الذاتية للخبر ، وكذا الكلام في سائر المسائل لعلم الأصول وغيره من العلوم ، كقولنا : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، فان الرفع والنصب ليسا مما يقتضيه نفس ذات الفاعل والمفعول بهويتهما ، بل لمكان لسان العرب ، حيث إنهم يرفعون الفاعل وينصبون المفعول ، فيلزم بناء على ما قيل في تفسير العرض الذاتي ان يكون البحث في غالب العلوم بحثا عن العوارض الغريبة لموضوع العلم ، فلا بد من توسعة العرض الذاتي ، حتى يكون البحث في مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، بان يق : ان العرض الذاتي هو ما كان يعرض نفس الذات بلا واسطة في العروض وان كان لأمر لا يقتضيه نفس الذات. وعلى هذا يكون البحث في جميع مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية ، بداهة ان الحجية عارضة لذات الخبر وان كان ذلك بواسطة الجعل الشرعي ، وكذلك الرفع والنصب يعرضان لذات الفاعل والمفعول ، وان كان ذلك لأجل لسان العرب.

فالضابط الكلي للعرض الذاتي ، هو ان لا يتوسط بينه وبين الموضوع امر يكون هو معروض العرض أولا وبالذات ، كما هو الشأن في الوسائط العروضية.

إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام يقع من جهات :

ص: 21

الأولى : في نسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله.

الثانية : في المايز بين العلوم بعضها من بعض.

الثالثة : في موضوع علم الأصول.

اما الجهة الأولى

اشارة

فنسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله ، هو نسبة الكلي لافراده والطبيعي لمصاديقه ، بداهة ان الفاعل في قولنا كل فاعل مرفوع مصداق من مصاديق كلي الكلمة ، التي هي موضوع لعلم النحو.

فان قلت :

ان الرفع انما يعرض الفاعل ، وبتوسطه يعرض الكلمة ، وليس هو عارضا لذات الكلمة من حيث هي ، فيكون الرفع بالنسبة إلى الكلمة من العوارض الغريبة وان كان بالنسبة إلى الفاعل من العوارض الذاتية.

وبعبارة أخرى :

الموضوع للرفع هي الكلمة بشرط الفاعلية ، وموضوع علم النحو هو نفس الكلمة من حيث هي ، ومن المعلوم مغايرة الشيء بشرط شيء مع الشيء لا بشرط ، فيلزم اختلاف موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويلزم ان يكون المبحوث عنه في مسائل العلم من العوارض الغريبة لموضوع العلم. وهذا ينافي قولكم : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وان موضوع العلم عين موضوعات المسائل. وهذا الاشكال سيأتي في جميع العلوم.

قلت :

الفاعلية علة لعروض الرفع على نفس الكلمة ، لا ان الرفع يعرض للفاعلية أولا وبالذات ، فالواسطة في المقام انما تكون واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض ، وقد تقدم ان الواسطة الثبوتية لا تنافى العرض الذاتي.

والحاصل :

ان ما يعرض الفاعل من الرفع يعرض الكلمة بعين عروضه الفاعل من دون

ص: 22

واسطة.

وتوضيح ذلك

هو ان الموضوع في علم النحو مثلا ليس هو الكلمة من حيث هي لا بشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، كما أن الكلمة من حيث لحوق الصحة والاعتلال لها موضوع لعلم الصرف ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع أيضا ، هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بداهة ان البحث عن الفاعل ليس من حيث صدور الفعل عنه ، أو من حيث تقدم رتبته عن رتبة المفعول ، بل من حيث لحوق الاعراب له ، والمفروض ان الكلمة من هذه الحيثية أيضا تكون موضوعا لعلم النحو ، وكذا يق في مثل الصلاة واجبة ، حيث إن الموضوع في علم الفقه ليس هو فعل المكلف من حيث هو ، بل من حيث عروض الأحكام الشرعية عليه ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان كلا من موضوع العلم مع موضوعات المسايل يكون ملحوظا بشرط شيء وهو قيد الحيثية.

وربما يستشكل

في اخذ قيد الحيثية ، بأنه يلزم اخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، إذ الموضوع في قولنا : الكلمة اما معربة أو مبنية ليس هو مطلق الكلمة حسب الفرض ، بل الكملة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، فيلزم ان يكون قولنا : كل كلمة اما معربة أو مبنية ، بمنزلة قولنا : الكلمة المعربة أو المبنية ، اما معربة أو مبنية. وهذا كما ترى يلزم منه اخذ المحمول في الموضوع ، وهو ضروري البطلان ، لاستلزامه حمل الشيء على نفسه. هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف الاشكال ، بداهة ان المراد من قولنا : الكلمة من حيث البناء والاعراب موضوع لعلم النحو ، ليس الكلمة المتحيثة بحيثية الاعراب والبناء فعلا المتلونة بذلك حالا ، بل المراد الكلمة القابلة للحوق الاعراب والبناء لها ، والتي لها استعداد وقوة لحوق كل منهما لها ، فهذه الكلمة اما معربة فعلا ، واما مبنية فعلا.

ص: 23

والحاصل :

ان الكلمة من حيث ذاتها قابلة للحوق كل من الاعراب والبناء لها ، كما انها قابلة للحوق كل من الصحة والاعتلال والفصاحة والبلاغة لها ، فتارة : تلاحظ الكلمة من حيث قابليتها لقسم خاص من هذه العوارض ، كالاعراب والبناء ، فتجعل موضوعا لعلم النحو. وأخرى : تلاحظ من حيث قابليتها لقسم آخر من هذه العوارض ، كالصحة والاعتلال ، فتجعل موضوعا لعلم الصرف وهكذا.

فتحصل :

ان اعتبار قيد الحيثية بهذا المعنى يوجب ارتفاع اشكال تغاير موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل اتحادا عينيا ، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسالة أخرى هو عين ما به يشتركان ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع ، هو الكلمة القابلة للحوق الاعراب لها ، وتكون الفاعلية علة لعروض الرفع عليها ، كما أن الموضوع في قولنا : كل مفعول منصوب هو ذلك ، وتكون المفعولية علة لعروض النصب عليها ، فيحصل الاتحاد بين موضوعات المسائل وموضوع العلم.

وبما ذكرنا من اعتبار قيد الحيثية في موضوع العلم يظهر لك البحث عن الجهة الثانية ، وهو المايز بين العلوم.

وتوضيح ذلك :

ان المشهور ذهبوا إلى أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وذهب بعض إلى أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض والجهات التي دون لأجلها العلم ، كصيانة المقال عن الألحان في علم النحو ، والفكر عن الخطاء في علم المنطق ، واستنباط الأحكام الشرعية في علم الأصول.

ووجه العدول عن مسلك المشهور : هو انه يلزم تداخل العلوم بعضها مع بعض لو كان المايز بينها هو الموضوع ، وهذا الاشكال انما يتوجه بناء على أن يكون ما يعرض الشيء لجنسه من العوارض الذاتية ، كالتحرك بالإرادة العارض للانسان

ص: 24

بواسطة كونه حيوانا ، أو العارض للجنس بواسطة الفصل ، كالتعجب العارض للحيوان بواسطة كونه ناطقا ، فان كلا من هذين القسمين وقع محل الكلام في كونه من العرض الذاتي ، حيث ذهب بعض إلى أن ما يعرض الشيء لجزئه الأعم أو الأخص يكون من العرض الغريب ، كما أن من العرض الغريب ما كان لأمر خارج أعم أو أخص أو مباين على مشرب المشهور ، فيلزم ان يكون البحث عن كل ما يلحق الكلمة ولو بواسطة فصولها بحثا عن عوارض الكملة ، فيتداخل علم النحو والصرف واللغة ، لان البحث في الجميع يكون عن عوارض الكلمة التي هي موضوع في العلوم الثلاثة ، وان اختلفت جهة البحث ، حيث إن جهة البحث في النحو هي الاعراب والبناء ، وفي الصرف هي الصحة والاعتلال ، وفي اللغة هي المعاني والمفاهيم ، الا ان الجميع يكون من العوارض الذاتية لجنس الكلمة حسب الفرض ، وان كان عروضها لها باعتبار ما لها من الفصول : من الفاعل والمفعول ، والثلاثي والمزيد فيه ، الا ان الجميع يعرض جنس الكلمة ، والمفروض ان عوارض الجنس عوارض ذاتية للكلمة ، فيلزم تداخل العلوم الثلاثة.

ولأجل ورود هذا الاشكال زيد قيد الحيثية ، وقيل : ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات.

وقد أشكل على زيادة الحيثية : بأنها مما لا تسمن ولا تغنى من جوع ، كما لا يخفى على المراجع في المطولات هذا.

ولكن الانصاف

انه يمكن حسم مادة الاشكال بما ذكرناه من معنى الحيثية التي اخذت قيدا في موضوع العلم ، فإنه هب ان هذه العوارض من العوارض الذاتية للكلمة ، الا ان المبحوث عنه في علم النحو ليس مطلق ما يعرض الكلمة من العوارض الذاتية لها ، بل من حيث خصوص قابليتها للحوق البناء والاعراب لها ، على وجه تكون هذه الحيثية هي مناط البحث في علم النحو ، فالحيثية في المقام حيثية تقييدية ، لا تعليلية ، ولا الحيثية التي تكون عنوانا للموضوع كالحيثية في قولنا : الماهية من حيث هي هي ليست الا هي. فإذا صار الموضوع في علم النحو هي الكلمة من حيث خصوص لحوق

ص: 25

البناء والاعراب لها ، والموضوع في علم الصرف هي الكلمة من حيث خصوص لحوق الصحة والاعتلال لها ، فيكون المايز بين علم النحو والصرف هو الموضوع المتحيث بالحيثية الكذائية.

وبعد ذلك ، لا موجب لدعوى ان تمايز العلوم بتمايز الاغراض ، مع أن هناك مايز ذاتي في الرتبة السابقة على الغرض.

وما يقال : من أن الموضوع في علم المعاني هو الكلمة القابلة للحوق البناء والاعراب لها ، فيرتفع المايز بين علم النحو وعلم المعاني فضعفه ظاهر ، إذا لموضوع في علم المعاني ، ليس هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بل هو الكلمة من حيث لحوق الفصاحة والبلاغة لها ، وان كان لحوق الفصاحة والبلاغة لها في حال لحوق البناء والاعراب لها ، الا ان كون الكملة في حال كذا موضوعا لعلم لايكون البحث في ذلك العلم عن ذلك الحال غير كون الكلمة موضوعا بقيد ذاك الحال فتأمل.

وبما ذكرنا من قيد الحيثية يظهر :

ان البحث في جل مباحث الأوامر والنواهي مما يرجع البحث عن مفاهيم الألفاظ ومداليل صيغ الأمر والنهي ، يكون بحثا عما يلحق موضوع علم الأصول وليس من المعاني اللغوية ، إذ البحث في تلك المباحث انما يكون من حيثية استنباط الحكم الشرعي ، وان كان عنوان البحث أعم ، الا ان قيد الحيثية ملحوظ فتأمل.

وإذا عرفت ما ذكرناه : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، فلا يهمنا البحث عن أن عوارض الجنس من العوارض الذاتية أو العوارض الغريبة ، ونفصل القول في اقسام كل منها ، فليطلب من المطولات.

بقى في المقام البحث عن الجهة الثالثة

اشارة

وهي البحث عن موضوع خصوص علم الأصول.

فقيل :

ان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها ، أو بوصف كونها أدلة.

ص: 26

والاشكالات الواردة على اخذ الموضوع ذلك مما لا تخفى على المراجع. وكفى في الاشكال هو انه لو كان موضوع علم الأصول ذلك يلزم خروج أكثر مباحثه : من مسألة حجية خبر الواحد ، ومسألة التعادل والتراجيح ، ومسألة الاستصحاب ، وغير ذلك مما لا يرجع البحث فيها عما يعرض الأدلة الأربعة ، بل يلزم خروج جل من مباحث الألفاظ ، كالمباحث المتعلقة بمعاني الأمر والنهي ، ومثل مقدمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي ، حيث تكون من المبادئ التصورية أو التصديقية ، أو من مبادئ الاحكام التي زادها القوم في خصوص علم الأصول ، حيث أضافوا إلى المبادئ التصورية والتصديقية مبادئ أحكامية.

وتوضيح ذلك :

هو ان لكل علم مبادئ تصورية ، ومبادي تصديقية. والمراد من المبادئ التصورية هو ما يتوقف عليه تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول كذلك. والمراد من المبادئ التصديقية هو مما يتوقف عليه التصديق والاذعان بنسبة المحمول إلى الموضوع. فمسألة العلم تكون حينئذ ، هي عبارة عن المحمولات المنتسبة ، أو مجموع القضية - على الخلاف. والمراد من المبادئ الأحكامية هو ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية : من التكليفية والوضعية بأقسامهما ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام : من كونها متضادة ، وكون الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل ، أو منتزعة عن التكليف ، وغير ذلك من حالات الحكم. ووجه اختصاص المبادئ الأحكامية بعلم الأصول ، هو ان منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في طريق استنباطه.

ثم إن البحث عن المبادئ بأقسامها ، وليس من مباحث العلم ، بل كان حقها ان تذكر في علم اخر ، مما كانت المبادئ من عوارض موضوعه ، الا انه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كل علم في نفس ذلك العلم ، لعدم تدوينها في علم آخر.

وعلى كل تقدير يلزم بناء على أن يكون موضوع علم الأصول هو خصوص الأدلة الأربعة كون كثير من مباحثه اللفظية مندرجة في مبادئ العلم :

ص: 27

المبادئ الأحكامية ، أو المبادئ التصديقية ، أو التصورية ، على اختلاف الوجوه التي يمكن البحث عنها ، مضافا إلى لزوم خروج كثير من مهمات مسائله عنه ، كمسألة حجية خبر الواحد ، وتعارض الأدلة ، وغير ذلك.

وما تكلف به الشيخ قده

في باب حجية (1) خبر الواحد ، من ادراج تلك المسألة في مسائل علم الأصول على وجه يكون البحث فيها بحثا عن عوارض السنة بما لفظه : « فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة أعني قول الحجة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد ، أم لا يثبت الا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلة الخ ».

لا يخلو عن مناقشة

فان البحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارض الموضوع ، فان البحث عن العوارض يرجع إلى مفاد كان الناقصة ، أي البحث عن ثبوت شيء لشيء ، لا البحث عن ثبوت نفس الشيء.

هذا ان أريد من السنة ، نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو ظاهر العبارة. وان أريد من السنة ، ما يعم حكايتها ، بان يكون خبر الواحد قسما من اقسام السنة ، فهو واضح البطلان ، بداهة ان السنة ليست الا نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره.

وبالجملة : لا داعي إلى جعل موضوع علم الأصول ، خصوص الأدلة الأربعة ، حتى يلتزم الاستطراد ، أو يتكلف في الأدراج ، بل الأولى ان يق : ان موضوع علم الأصول ، هو كل ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو ما ينتهى إليه العمل ان أريد من الحكم الحكم الواقعي ، وان أريد الأعم منه ومن الظاهري ، فلا يحتاج إلى قيد ( أو ما ينتهى إليه العمل ) لان المستفاد .

ص: 28


1- فرائد الأصول - مباحث الظن - بحث خبر الواحد - بعد قوله قدس سره : « اما المقدمة الأولى .. » ص.

من الأصول العملية أيضا هو الحكم الشرعي الظاهري ، اللّهم الا ان يكون المراد من القيد ، بعض الأصول العقلية فتأمل جيدا.

ولا يلزمنا معرفة الموضوع بحقيقته واسمه ، بل يكفي معرفة لوازمه وخواصه. فموضوع علم الأصول هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله ، التي يجمعها عنوان وقوع عوارضها كبرى لقياس الاستنباط ، وهذا المقدار من معرفة الموضوع يكفي ويخرج عن كون البحث عن امر مجهول.

فظهر من جميع ما ذكرنا : رتبة علم الأصول ، وتعريفه ، وغايته ، وموضوعه. حيث كانت رتبته : هي الجزء الأخير من علة الاستنباط. وتعريفه : هو العلم بالكبريات التي لو انضم إليها صغرياتها يستنتج حكم فرعى. وغايته : الاستنباط. وموضوعه : ما كان عوارضه واقعة في طريق الاستنباط. وإذ فرغنا من ذلك فلنشرع في المقدمة التي هي في مباحث الألفاظ ، وفيها مباحث :

المبحث الأول في الوضع

اعلم : انه قد نسب إلى بعض ، كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع ، أي كانت هناك خصوصية في ذات اللفظ اقتضيت دلالته على معناه ، من دون ان يكون هناك وضع وتعهد من أحد ، وقد استبشع هذا القول ، وأنكروا على صاحبه أشد الانكار ، لشهادة الوجدان على عدم انسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع ، فلا بد من أن يكون دلالته بالوضع.

ثم أطالوا الكلام في معنى الوضع وتقسيمه إلى التعييني والتعيني ، مع ما أشكل على هذا التقسيم ، من أن الوضع عبارة عن الجعل والتعهد واحداث علقة بين اللفظ والمعنى ، ومن المعلوم ان في الوضع التعيني ليس تعهد وجعل علقة ، بل اختصاص اللفظ بالمعنى يحصل قهرا من كثرة الاستعمال ، بحيث صار على وجه ينسبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق.

وربما فسر الوضع بمعناه الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس العلقة والاختصاص الحاصل تارة : من التعهد وأخرى : من كثرة الاستعمال هذا.

ص: 29

ولكن الذي ينبغي ان يق :

ان دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع ، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنه لو سلم امكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة.

ودعوى : ان التبليغ والايصال يكون تدريجا ، مما لا ينفع ، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم ، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد.

وبالجملة : دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد واحداث العلقة بين اللفظ والمعنى من شخص خاص مثل يعرب بن قحطان ، كما قيل ، مما يقطع بخلافها. فلا بد من انتهاء الوضع إليه تعالى ، الذي هو على كل شيء قدير ، وبه محيط ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعا تشريعيا ، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا ، إذ ذلك أيضا مما يقطع بخلافه. بل المراد من كونه تعالى هو الواضع ان حكمته البالغة لما اقتضت تكلم البشر بابراز مقاصدهم بالألفاظ ، فلا بد من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شانه بوجه ، اما بوحي منه إلى نبي من أنبيائه ، أو بالهام منه إلى البشر ، أو بابداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم ، حسب ما أودعه اللّه في طباعهم ، ومن المعلوم ان ايداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب ، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص ، على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح. ولا يلزم ان تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ ، حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية ، كما ينسب

ص: 30

ذلك إلى سليمان بن عباد ، بل لابد وأن يكون هنا جهة ما اقتضت تأدية معنى الانسان بلفظ الانسان ، ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان.

وعلى كل حال : فدعوى ان مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع مما لا سبيل إليها ، لما عرفت من عدم امكان إحاطة البشر بذلك.

ثم انه قد اشتهر تقسيم الوضع : إلى الوضع العام والموضوع له العام ، والى الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والى الوضع العام والموضوع له الخاص. وربما زاد بعض على ذلك الوضع الخاص والموضوع له العام ، ولكن الظاهر أنه يستحيل ذلك ، بداهة ان الخاص بما هو خاص لا يصلح ان يكون مرآة للعام. ومن هنا قيل : ان الجزئي لايكون كاسبا ولا مكتسبا ، وهذا بخلاف العام ، فإنه يصلح ان يكون مرآة لملاحظة الافراد على سبيل الاجمال.

نعم ربما يكون الخاص سببا لتصور العام وانتقال الذهن منه إليه ، الا انه يكون حينئذ الوضع عاما كالموضوع له ، فدعوى امكان الوضع الخاص والموضوع له العام ، مما لا سبيل إليها. وهذا بخلاف بقية الأقسام ، فان كلا منها بمكان من الامكان إذ يمكن ان يكون الملحوظ حال الوضع عاما قابل الانطباق على كثيرين ، أو يكون خاصا.

ثم ما كان عاما ، يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك العام ، فيكون الموضوع له أيضا عاما على طبق الملحوظ حال الوضع ، كما أنه يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء مصاديق ذلك العام وافراده المتصورة اجمالا بتصور ما يكون وجها لها وهو العام وتصور الشيء بوجهه بمكان من الامكان ، فيكون الموضوع له ح خاصا ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا صرف امكان لا واقع له ، بداهة ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، يتوقف تحققه على أن يكون هناك وضع وجعل من شخص خاص ، حتى يمكنه جعل اللفظ بإزاء الافراد ، وقد عرفت المنع عن تحقق الوضع بهذا الوجه ، وانه لم يكن هناك واضع مخصوص ، وتعهد من قبل أحد ، بل الواضع هو اللّه تعالى بالمعنى المتقدم. وح فالوضع العام والموضوع له الخاص بالنسبة إلى الألفاظ المتداولة التي وقع النزاع فيها مما لا واقع له. نعم يمكن ذلك بالنسبة إلى

ص: 31

المعاني المستحدثة والأوضاع الجديدة.

ثم لا يذهب عليك ان الوضع العام والموضوع له الخاص يكون قسما من اقسام المشترك اللفظي ، بداهة ان الموضوع له في ذلك انما يكون هي الافراد ، ومن المعلوم تباين الافراد بعضها مع بعض ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى الافراد من المشترك اللفظي ، غايته انه لم يحصل ذلك بتعدد الأوضاع ، بل بوضع واحد ، ولكن ينحل في الحقيقة إلى أوضاع متعددة حسب تعدد الافراد.

وبالجملة :

لافرق بين الوضع العام والموضوع له الخاص ، وبين قوله : كلما يولد لي في هذه الليلة فقد سميته عليا ، فكما ان قوله ذلك يكون من المشترك اللفظي ، إذ مرجع ذلك إلى أنه قد جمع ما يولد له في الليلة في التعبير ، وسماهم بعلي ، فيكون من المشترك اللفظي ، إذ لا جامع بين نفس المسميات ، لتباين ما يولد له في هذه الليلة ، فكذلك الوضع العام والموضوع له الخاص.

بل يمكن ان يق : ان قوله كلما يولد لي في هذه الخ يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص أيضا ، غايته ان الجامع المتصور حين الوضع ، تارة يكون ذاتيا للأفراد كما إذا تصور الانسان وجعل اللفظ بإزاء الافراد ، وأخرى يكون عرضيا جعليا ، كتصور مفهوم ما يولد فتأمل جيدا ، هذا.

ولكن يظهر (1) من الشيخ قده - على ما في التقرير - في باب الصحيح والأعم عند تصور الجامع بناء على الصحيح ، الفرق بين الوضع العام والموضوع له .

ص: 32


1- واليك نص ما افاده صاحب التقريرات : « ان المتشرعة توسعوا في تسميتهم إياها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع من حيث حصول ما هو المقصود من المركب التام من غيره أيضا. كما سموا كلما هو مسكر خمرا وان لم يكن مأخوذا من العنب مع أن الخمر هو المأخوذ منه وليس بذلك البعيد ، ونظير ذلك لفظ الاجماع .. إلى أن قال : « فكان مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي ». مطارح الأنظار - ص 5 - في تصوير الجامع بناء على القول بوضع الألفاظ للصحيح.

الخاص وبين المشترك اللفظي هذا. ولكن يمكن ان يكون مراده من المشترك اللفظي في ذلك المقام ، هو ما تعدد فيه الوضع حقيقة ، لا ما كان التعدد بالانحلال ، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

وعلى كل حال ، لا اشكال في ثبوت الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام.

واما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقيل : انه وضع الحروف وما يلحق بها ، وقيل : ان الموضوع له فيها أيضا عام ، كالوضع. وربما قيل : ان كلا من الوضع والموضوع له فيها عام ، ولكن المستعمل فيه خاص. وينبغي بسط الكلام في ذلك ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام.

فنقول : البحث في الحروف يقع في مقامين : المقام الأول : في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء.

المقام الثاني : في بيان الموضوع له في الحروف ، من حيث العموم والخصوص.

اما البحث عن المقام الأول

اشارة

فقد حكى في المسألة أقوال ثلاثة.

القول الأول

هو انه لا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى في هوية ذاته وحقيقته ، لا في الوضع ولا في الموضوع له ، بل المعنى الحرفي هو المعنى الأسمى ، وكل من معنى لفظة ( من ) ولفظة ( الابتداء ) متحد بالهوية ، وان الاستقلالية بالمفهومية المأخوذة في الأسماء ، وعدم الاستقلالية المأخوذة في الحروف ، ليس من مقومات المعنى الأسمى والمعنى الحرفي. فمرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ ( من ) ولفظ ( الابتداء ) موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل ، فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الاخر ، الا ان الواضع لم يجوز ذلك ، ووضع لفظة ( من ) لان تستعمل فيما لا يستقل بان يكون قائما بغيره ، ولفظة ( الابتداء ) لان تستعمل فيما يستقل وما يكون قائما بذاته ، فكأنه شرط من قبل الواضع ، مأخوذ في

ص: 33

ناحية الاستعمال من دون ان يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.

القول الثاني

هو انه ليس للحروف معنى أصلا ، بل هي نظير علامات الاعراب من الرفع والنصب والجر ، حيث إن الأول علامة للفاعلية ، والثاني علامة للمفعولية ، والثالث علامة للمضاف إليه ، من دون ان يكون لنفس الرفع والنصب والجر معنى أصلا ، فكذلك الحروف ، حيث وضعت لمجرد العلامة لما أريد من مدخولها حسب تعدد ما يراد من الدخول ، مثلا الدار تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، التي هي موجودة كسائر الموجودات التكوينية ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني الذي هو عبارة عن المكان الذي يستقر فيه الشيء ، وكذلك البصرة مثلا تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني ، وثالثة : تلاحظ بما انها مبدء السير ، ورابعة : تلاحظ بما انها ينتهى إليها السير.

ومن المعلوم : انه في مقام التفهيم والتفهم لا بد من علامة ، بها يقتدر على تفهيم المخاطب ما أريد من الدار والبصرة من اللحاظات ، فوضع الاعراب علامة لملاحظة الدار بوجودها العيني ، فتقع ح مبتداء أو خبرا فيقال : الدار كذا ، أو زيد في الدار ، ووضعت كلمة ( من ) للعلامة على أن الدار أو البصرة لوحظت كونها مبدء السير ، و ( إلى ) علامة كونها ملحوظة منتهى السير ، وكلمة ( في ) علامة لكونها ملحوظة بوجودها الأيني المقابل لوجودها العيني ، فليس لكلمة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) معنى أصلا ، بل حالها حال أداة الاعراب ، من كونها علامة صرفة لما يراد من مدخولاتها ، من دون ان يكون تحت قوالب ألفاظها معنى أصلا. وهذان القولان نسبا إلى الرضى ره لان اختلاف عبارته يوهم ذلك.

القول الثالث

هو ان للحروف معاني ممتازة بالهوية عن معاني الأسماء ، ويكون الاختلاف بين الحروف والاسم راجعا إلى الحقيقة ، بحيث تكون معاني الحروف مباينة لمعاني الأسماء تباينا كليا ، لا ان معانيها متحدة مع معاني الأسماء ، ولا انها علامات صرفة ليس لها معاني. وهذا القول هو الموافق للتحقيق الذي ينبغي البناء عليه. و

ص: 34

توضيح ذلك يقضى رسم أمور :

الامر الأول :

في شرح ما قيل في معنى الاسم : من أنه ما دل على معنى في نفسه أو قائم بنفسه ، والحرف ما دل على معنى في غيره أو قائم بغيره ، وقبل ذلك ينبغي الإشارة إلى ما يراد من المعنى والمفهوم.

فنقول : المراد من المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني ، الذي يدركه العقل من الحقائق ، سواء كان لتلك الحقايق خارج يشار إليه ، أو لم يكن ، وذلك المدرك العقلاني يكون مجردا عن كل شيء وبسيطا غاية البساطة ، بحيث لايكون فيه شائبة التركيب ، إذ التركيب من المادة والصورة انما يكون من شأن الخارجيات ، واما المدركات العقلية فليس فيها تركيب ، بل لا تركيب في الأوعية السابقة على وعاء العقل من الواهمة والمتخيلة بل الحس المشترك أيضا ، إذ ليس في الحس المشترك الا صورة الشيء مجردا عن المادة ، ثم يرقى الشيء المجرد عن المادة إلى القوة الواهمة ، ثم يصعد إلى أن يبلغ صعوده إلى المدركة العقلانية ، فيكون الشيء في تلك المرتبة مجردا عن كل شيء حتى عن الصورة ، فالمفهوم عبارة عن ذلك المدرك العقلاني الذي لا وعاء له الا العقل ، ولا يمكن ان يكون ذلك الشيء في ذلك الوعاء مركبا من مادة وصورة ، بل هو بسيط كل البساطة.

وما يقال : من أن الجنس والفصل عبارة عن الاجزاء العقلية ، فليس المراد ان المدركات العقلية مركبة من ذلك ، بل المراد ان العقل بالنظر الثانوي إلى الشيء يحكم : بأن كل مادي لابد وأن يكون له ما به الاشتراك الجنسي ، وما به الامتياز الفصلي ، والا فالمدرك العقلي لايكون فيه شائبة التركيب أصلا ، فمرادنا من المعنى والمفهوم في كل مقام ، هو ذلك المدرك العقلي.

إذا عرفت ذلك فنقول :

في شرح قولهم : ان الاسم ما دل على معنى في نفسه ، أو قائم بنفسه ، هو ان المعنى الأسمى مدرك من حيث نفسه ، وله تقرر في وعاء العقل ، من دون ان يتوقف ادراكه على ادراك امر اخر ، حيث إنه هو بنفسه معنى يقوم بنفسه في مرحلة التصور و

ص: 35

الادراك ، وله نحو تقرر وثبوت ، سواء كان المعنى من مقولة الجواهر ، أو من مقولة الاعراض ، إذ الاعراض انما يتوقف وجودها على محل ، لا ان هويتها تتوقف على ذلك ، حتى الاعراض النسبية ، كالأبوة والبنوة ، فان تصور الاعراض النسبية وان كان يتوقف على تصور طرفيها ، الا انه مع ذلك لها معنى متحصل في حد نفسه عند العقل ، وله نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور والادراك.

والحاصل :

ان المراد من كون المعنى الأسمى قائما بنفسه ، هو ان للمعنى نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، سواء كان هناك لافظ ومستعمل ، أو لم يكن ، وسواء كان واضع ، أو لم يكن ، كمعاني الأسماء : من الأجناس والاعلام ، من الجواهر المركبة والمجردات والاعراض وكل موجود في عالم الامكان ، فإنه كما أن لكل منها نحو تقرر وثبوت في الوعاء المناسب له من عالم المجردات وعالم الكون والفساد ، فكذلك لكل منها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل عند تصورها وادراكها ، من دون ان يكون لاستعمال ألفاظها دخل في ذلك ، بل معاني تلك الألفاظ بأنفسها ثابتة ومتقررة عند العقل في مقام التصور ، كما يشاهد ان للفظة الجدار مثلا معنى ثابتا عند العقل في مرحلة ادراكه وتصوره على نحو ثبوته العيني التكويني ، من دون ان يتوقف ادراكه على وضع ولفظ واستعمال ، كما لا توقف لوجوده العيني على ذلك ، فهذا معنى قولهم : ان الاسم ما دل على معنى قائم بنفسه ، إذ معنى كونه قائما بنفسه هو ثبوته النفسي ، وتقرره عند العقل.

واما معنى قولهم : ان الحرف ما دل على معنى في غيره ، أو قائم بغيره ، فالمراد منه : هو ان المعنى الحرفي ليس له نحو تقرر وثبوت في حد نفسه ، بل معناه قائم بغيره ، لا بمعنى انه ليس له معنى ، كما توهمه من قال إنه ليس للحروف معنى بل هي علامات صرفه ، بل بمعنى ان معناه ليس قائما بنفسه وبهوية ذاته ، بل قائم بغيره ، نظير قيام العرض بمعروضه وان لم يكن من هذا القبيل ، الا انه لمجرد التنظير والتشبيه ، والا فللعرض معنى قائم بنفسه عند التصور ، وان كان وجوده الخارجي يحتاج إلى محل يقوم به.

ص: 36

والحاصل : ان المعنى الحرفي يكون قوامه بغيره ، ونحو تقرره وثبوته بتقرر الغير وثبوته ، كالنسبة الابتدائية والظرفية القائمة بالبصرة والدار عند قولنا : سرت من البصرة وزيد في الدار. ولعل من توهم انه ليس للحروف معنى اشتبه من قولهم في تعريف الحرف : بأنه ما دل على معنى في غيره ، فتخيل ان مرادهم من ذلك هو انه ليس له معنى ، ولكن قد عرفت : انه ليس مرادهم ذلك ، بل مرادهم ان المعنى الحرفي ليس قائما بنفسه نظير قيام المعنى الأسمى بنفسه.

والفرق بين كونه علامة صرفة ، وبين كون معناه قائما بغيره ، هو انه بناء على العلامة يكون الحرف حاكيا عن معنى في الغير متقرر في وعائه ، كحكاية الرفع عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه ، مع قطع النظر عن الاستعمال. وهذا بخلاف كون معناه قائما بغيره ، فإنه ليس فيه حكاية عن ذلك المعنى القائم بالغير ، بل هو موجد لمعنى في الغير ، على ما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين منها : ما تكون اخطارية ، ومنها : ما تكون ايجادية.

اما الأولى : فكمعاني الأسماء حيث إن استعمال ألفاظها في معانيها يوجب اخطار معانيها في ذهن السامع واستحضارها لديه ، والسر في ذلك هو ما ذكرناه من أن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، الذي هو وعاء الادراك ، فيكون استعمال ألفاظها موجبا لاخطار تلك المعاني في الذهن.

واما الثانية : فكمعاني الحروف حيث إن استعمال ألفاظها موجب لايجاد معانيها من دون ان يكون لمعانيها نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد في موطن الاستعمال ، وذلك ككاف الخطاب وياء النداء ، وما شابه ذلك ، بداهة انه لولا قولك يا زيد وإياك ، لما كان هناك نداء ولا خطاب ، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب الا بالاستعمال وقولك يا زيد وإياك ، فنداء زيد وخطاب عمرو انما يوجد ويتحقق بنفس القول ، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكن له سبق تحقق ، بل يوجد بنفس الاستعمال ، لوضوح انه

ص: 37

لا يكاد توجد حقيقة المخاطبة والنداء بدون ذلك ، فواقعية هذا المعنى وهويته تتوقف على الاستعمال ، وبه يكون قوامه. وهذا بخلاف معنى زيد ، فان له نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور مع قطع النظر عن الاستعمال ، ومن هنا صار استعماله موجبا لاخطار معناه ، بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب ، فإنه ليس له نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال. نعم مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرر في وعاء العقل ، الا انه لم توضع لفظة يا وكاف الخطاب بإزائه بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة النداء ولفظة الخطاب ، لا لفظة يا وكاف الخطاب ، بل هما وضعتا لايجاد النداء والخطاب ، وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه. انما الاشكال في أن جميع معاني الحروف تكون ايجادية أولا. ظاهر كلام المحقق (1) صاحب الحاشية : هو اختصاص ذلك ببعض الحروف ، وكان منشأ توهم الاختصاص ، هو تخيل ان مثل ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف تكون معانيها اخطارية ، حيث كان استعمالها موجبا لاخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء ، مثلا في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون لفظة ( من ) و ( إلى ) حاكية عما وقع في

ص: 38


1- هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. الفائدة الثانية من الفوائد التي وضعها في تتمة مباحث الألفاظ. ص 22. واليك نص ما افاده قدس سره في هذا المقام : « الثانية : الغالب في أوضاع الألفاظ ان تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها ، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات ، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدال عليه ، فليس من شأن اللفظ الا احضار ذلك المعنى ببال السامع ، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ ، فيكون اللفظ آلة لايجاد معناه وأداة لحصوله ويجرى كل من القسمين في المركبات والمفردات. » إلى أن قال : « والنوع الأول من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة ، فإنها انما تقضى باحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد اثبات تلك المعاني في الخارج فهي أعم من أن تكون ثابتة في الواقع أولا. والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة والافعال الانشائية بالنسبة إلى وضعها النسبي ، وعدة من الحروف كحروف النداء والحروف المشبهة بالفعل ونحوها ، فان كلا من الإشارة والنسبة الخاصة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال هذا ، واضرب ، ويا ، وان ، في معاينها .. »

الخارج كحكاية لفظة زيد عن معناه هذا.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق ان معاني الحروف كلها ايجادية وليس شيء منها اخطارية. وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في معنى النسبة وأقسامها.

فنقول : ان النسبة عبارة عن العلقة والربط الحاصل من قيام إحدى المقولات التسع بموضوعاتها ، بيان ذلك هو انه لما كان وجود العرض - في نفسه ولنفسه - عين وجوده - لموضوعه وفي موضوعه - لاستحالة قيام العرض بذاته ، فلا بد ان تحدث هناك نسبة وإضافة بين العرض وموضوعه ، بداهة ان ذلك من لوازم قيام العرض بالموضوع ، وعينية وجوده لوجوده الذي يكون هو المصحح للحمل ، فإنه لولا قيام البياض بزيد واتحاد وجوده بوجوده لما كاد ان يصح الحمل ، فلا يقال : زيد ابيض ، الا بلحاظ العينية في الوجود ، إذ لولا لحاظ ذلك لكان البياض أمرا مباينا لزيد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، إذ ملاك الحمل هو الاتحاد في الوجود في الحمل الشايع الصناعي ، فالإضافة الحاصلة من قيام العرض بموضوعه هي المصحح للحمل ، إذ بذلك القيام يحصل الاتحاد والعينية في الوجود ، بل الإضافة تحتاج إليها في كل حمل ، وان لم يكن من الحمل الشايع الصناعي ، كقولك : الانسان حيوان ناطق ، وزيد زيد ، غايته ان في مثل هذا الحمل لابد من تجريد الموضوع بنحو من التجريد حتى لايكون من حمل الشيء على نفسه ، الا ان التجريد يكون بضرب من الجعل والتنزيل ، إذ لا يمكن تجريد الشيء عن نفسه حقيقة ، بل لابد من اعتبار التجريد حتى يصح الحمل ، ويخرج عن كونه من حمل الشيء على نفسه. وهذا بخلاف التجريد في الحمل الشايع الصناعي ، فان التجريد فيه يكون حقيقيا ذاتيا ، لتغاير ذات زيد وحقيقته عن حقيقة الأبيض ، ولا ربط لأحدهما بالآخر لولا الاتحاد الخارجي. وعلى كل حال ، فلا اشكال في أنه عند قيام كل عرض من أي مقولة بمعروضه تحدث إضافة بينهما ، وتلك الإضافة هي المعبر عنها بالنسبة.

ثم انه ، لما كان قيام العرض بموضوعه وعينية وجوده لوجوده فرع وجوده ، بداهة ان وجوده لنفسه كان عين وجوده لموضوعه ، ومن المعلوم : ان عينية الوجود لموضوعه متأخرة بالرتبة عن أصل وجوده ، كان أول نسبة تحدث هي النسبة

ص: 39

الفاعلية التي هي واقعة في رتبة الصدور والوجود ، إذ الفاعل ما كان يوجد عنه الفعل على اختلاف الافعال الصادرة عنه ، فنسبة الفعل إلى الفاعل هي أول النسب ، ومن ذلك تحصل الافعال الثلاثة من الماضي والمضارع والامر ، على ما هي عليها من الاختلاف ، الا ان الجميع يشترك في كون النسبة فيه نسبة التحقق والصدور ، وإيجاد المبدء ، فهذه أول نسبة تحدث بين العرض والموضوع ، ثم بعد ذلك تحدث نسبة المشتق ، لان المشتق انما يتولد من قيام العرض بالموضوع والاتحاد في الوجود الموجب للحمل ، فيقال : زيد ضارب ، ومن المعلوم : ان هذا الاتحاد لمكان صدور الضرب عنه ، فالنسبة الأولية الحادثة هي النسبة الفاعلية ، وفي الرتبة الثانية تحدث نسبة المشتق ، ثم بعد ذلك تصل النوبة إلى نسبة الملابسات من المفاعيل الخمسة ، من حيث إن وقوع الفعل من الفاعل لابد وأن يكون في زمان خاص ، ومكان مخصوص ، في حالة خاصة ، فالنسبة الحاصلة بين الفعل وملابساته انما هي بعد نسبة الفعل إلى الفاعل وقيامه به واتحاده معه المصحح للحمل ، فهذه النسب الثلاث هي التي تتكفلها هيئات تراكيب الكلام ، من قولك : ضرب زيد عمرا ، وزيد ضارب ، وغير ذلك.

ثم إن هناك أدوات اخر تفيد النسبة ، إذ لا يختص ما يفيد النسبة بهيئات التراكيب ، بل الحروف أيضا تفيد النسبة ك ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف الجارة ، فإنه ( من ) مثلا تفيد نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسير عنه ، و ( إلى ) تفيد النسبة إلى المكان الذي يسير إليه ، فيقال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فلولا كلمة ( من ) و ( إلى ) لما كاد يكون هناك نسبة بين السير والبصرة والكوفة. وكذا الكلام في كلمة ( في ) حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته انها تارة : تفيد نسبة قيام العرض بالموضوع ، فيكون الظرف مستقرا ، وأخرى : تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا ، فمثل زيد في الدار يكون من الظرف المستقر ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو ان زيدا موجود في الدار وكائن فيها ، وهذا معنى قول النحاة في تعريف الظرف المستقر بأنه ما قدر فيه : كائن ، ومستقر ، وحاصل ، وما شابه

ص: 40

ذلك. وليس مرادهم ان هناك لفظا منويا في الكلام ومقدرا فيه ، بل الظرف المستقر هو بنفسه يفيد ذلك من دون ان يكون هناك تقدير في الكلام ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو وجود زيد في الدار ، وانه كائن فيها. وهذا بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، فإنه يفيد نسبة الضرب الحاصل من زيد إلى الدار ، فالظرف اللغو ما أفاد نسبة المبدء إلى ملابسات الفعل بعد فرض تحقق المبدء وصدوره عن الفاعل. وهكذا الكلام في كلمة ( على ) حيث إنها تارة : تفيد نسبة قيام العرض ، وأخرى : تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على السطح ، وكذا الكلام في كلمة ( من ) فإنها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : حسين منى وانا من حسين ، وأخرى : يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.

وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر ، هو ان الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان النسبة على اقسام ، والمتكفل لبيانها أمور : من هيئات التراكيب ، والحروف الجارة. وليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في مبحث المشتق.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن الهيئات والحروف المفيدة للنسبة أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

فنقول :

قد تقدم ان منشأ توهم ذلك هو تخيل ان هذه الحروف انما تكون حاكية عن النسبة الخارجية المتحققة من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، ومن هنا تتصف بالصدق والكذب ، إذ لولا حكايتها عن النسبة الخارجية لما كانت تتصف بذلك ، بداهة ان الايجاديات لا تتصف بالصدق والكذب ، بل بالوجود والعدم ، وما يتصف بالصدق والكذب هي الحواكي ، حيث إنه ان طابق الحاكي للمحكي يكون الكلام صادقا ، والا فلا ، فكلمة ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون حاكية عن النسبة الخارجية الواقعة بين السير والبصرة ومخطرة لها في ذهن

ص: 41

السامع.

هذا ولكن التحقيق :

ان معاني الحروف كلها ايجادية حتى ما أفاد منها النسبة.

وبيان ذلك : هو ان شأن أدوات النسبة ليس الا ايجاد الربط بين جزئي الكلام ، فان الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية والذات ، لوضوح مباينة لفظ زيد بما له من المعنى للفظ القائم بما له من المعنى ، وكذا الفظ السير مباين للفظ الكوفة والبصرة بما لها من المعنى ، وأداة النسبة انما وضعت لايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، على وجه يفيد المخاطب فائدة تامة يصح السكوت عليها ، فكلمة ( من ) و ( إلى ) انما جيئ بهما لايجاد الربط ، واحداث العلقة بين السير والبصرة والكوفة الواقعة في الكلام ، بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلا.

ثم بعد ايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، يلاحظ المجموع من حيث المجموع ، أي يلاحظ الكلام بما له من النسبة بين اجزائه ، فان كان له خارج يطابقه يكون الكلام صادقا ، أي كانت النسبة الخارجية على طبق النسبة الكلامية ، والا يكون الكلام كاذبا ، وذلك فيما إذا لم تطابق النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ، وأين هذا من كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية؟ بل النسبة الكلامية انما توجد الربط بين اجزاء الكلام ، والمجموع المتحصل يكون اما مطابقا للخارج ، أو غير مطابق. وفرق واضح بين كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية ومخطرة لها في ذهن السامع وبين ان تكون النسبة موجدة للربط بين اجزاء الكلام ، ويكون المجموع المتحصل من جزئي الكلام بما لهما من النسبة له خارج يطابقه أو لا يطابقه ، فظهر : ان الحروف النسبية أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

الامر الثالث :

قد ظهر مما ذكرنا وجه المختار من امتياز معاني الحروف بالهوية عن معاني الأسماء تمايزا كليا ، لما تقدم : من أن معاني الأسماء متقررة في وعاء العقل ، ثابتة

ص: 42

بأنفسها ، مع قطع النظر عن الاستعمال ، بخلاف معاني الحروف ، فإنها معان ايجادية تتحقق في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها سبق تحقق قبل الاستعمال ، نظير المعاني الانشائية التي يكون وجودها بعين انشائها ، كايجاد الملكية بقوله بعت ، حيث إنه لم يكن للملكية سبق تحقق مع قطع النظر عن الانشاء ، ومعاني الحروف تكون كذلك بحيث كان وجودها بنفس استعمالها ، وان كان بين الانشائيات والايجاديات فرق على ما سيأتي بيانه ، فالحروف وضعت لايجاد معنى في الغير ، على وجه لايكون ذلك الغير واجدا للمعنى من دون استعمال الحرف ، كما لايكون زيد منادى من دون قولك يا زيد ، ويكون النسبة بين ما يوجده الحرف من المعنى وبين المعاني الاسمية المتقررة في وعاء العقل نسبة المصداق إلى المفهوم.

مثلا يكون النداء مفهوم متقرر عند العقل مدرك في وعاء التصور وهو من هذه الجهة يكون معنى اسميا ، وقد جعل لفظة النداء بإزائه ، واما الندا الحاصل من قولك يا زيد ، فهو انما يكون مصداقا لذلك المفهوم ، ويتوقف تحققه على التلفظ بقولك يا زيد ، بحيث لا يكاد يوجد مصداق النداء وصيرورة زيد منادى الا بقولك يا زيد ، فلفظة ( ياء النداء ) انما وضعت لايجاد مصداق النداء ، لا انها وضعت بإزاء مفهوم النداء ، كما يدعيه من يقول بعدم الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وكذا الحال في سائر الحروف ، حيث إنها بأجمعها وضعت لايجاد المصاديق. مثلا لفظة ( الابتداء ) وضعت بإزاء المفهوم المتقرر عند العقل ، واما لفظة ( من ) فلم توضع بإزاء ذلك المفهوم ، بل وضعت لايجاد نسبة ابتدائية بين المتعلقين. وقول النحاة : من أن ( من ) وضعت للابتداء لا يخلو عن تسامح ، بل حق التعبير ان يق : ان لفظة ( من ) وضعت لايجاد النسبة الابتدائية ، وتلك النسبة الابتدائية التي توجدهما لفظة ( من ) لا يكاد يمكن ان يكون لها سبق تحقق في عالم التصور نعم يمكن تصورها بوجه ما ، أي بتوسط المفاهيم الاسمية ، كان يتصور الواضع النسبة الابتدائية الكذائية التي توجد بين السير والبصرة ، وهذه كلها مفاهيم اسمية قد توصل بها إلى معنى حرفي فوضع لفظة ( من ) بإزاء ذلك المعنى الحرفي المتصور بتلك المفاهيم.

فتحصل : ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية ، هي النسبة بين

ص: 43

المصداق والمفهوم ، وكم بين المفهوم والمصداق من الفرق ، بداهة تغاير المفهوم والمصداق بالهوية ، وبالاثر والخاصية ، إذ المفهوم لا موطن له الا العقل ، وموطن المصداق هو الخارج ، ولا يعقل اتحاد ما في العقل مع ما في الخارج الا بالتجريد والقاء الخصوصية ، ولا يمكن القاء الخصوصية في الحرف ، لان موطنه الاستعمال وهو قوامه ، فالتجريد والقاء الخصوصية يوجب خروجه عن كونه معنى حرفيا ، هذا بحسب الهوية. وكذا الحال في الآثار والخواص ، فان الرافع للعطش مثلا مصداق الماء ، لا مفهومه ، والمحرق هو مصداق النار ، لا مفهومها.

وحاصل الكلام :

ان الحروف بأجمعها ، وما يلحق بها مما يتكفل معنى نسبيا رابطيا ، انما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة ، على ما بين النسب والروابط من الاختلاف من النسبة الابتدائية والانتهائية والظرفية وغير ذلك ، والأسماء وضعت بإزاء مفاهيم تلك الروابط ، فلا ترادف بين لفظة ( ياء ) النداء وبين لفظة ( النداء ) بما لهما من المعنى ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، لان لفظة ( يا ) موجدة لمعنى في الغير ، ولفظة ( النداء ) حاكية عن معنى متقرر في وعائه.

ولا يتوهم انه لو كانت نسبة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم لكان اللازم صحة حمل أحدهما على الاخر ، كصحة حمل الانسان على زيد ، فلازمه صحة حمل ( النداء ) على ( ياء ).

وذلك لان صحة الحمل في قولك زيد انسان انما هو لأجل حكاية زيد عن معنى متحد في الخارج مع الانسان ، وهذا بخلاف ( يا ) فإنها ليست حاكية عن معنى متحد مع ( النداء ) بل هي موجدة لمعنى في الغير. نعم ما يوجد بياء النداء يحمل عليه انه نداء من باب حمل الكلي على المصداق فتأمل في المقام جيدا.

الامر الرابع :

قد ظهر مما ذكرنا ان قوام المعنى الحرفي يكون بأمور أربعة :

الأول : ان يكون المعنى ايجاديا ، لا اخطاريا.

الثاني : ان يكون المعنى قائما بغيره لا بنفسه ، كالمعاني الموجدة في باب العقود

ص: 44

والايقاعات ، على ما يأتي بيانه.

الثالث : ان لايكون لذلك المعنى الايجادي نحو تقرر وثبوت بعد ايجاده ، بل كان ايجاده في موطن الاستعمال ، ويكون الاستعمال مقوما له ، ويدور حدوثه وبقائه مدار الاستعمال.

الرابع : ان يكون المعنى حين ايجاده مغفولا عنه غير ملتفت إليه ، وهذا لازم كون المعنى ايجاديا وكون موطنه الاستعمال ، بداهة انه لو كان المعنى الحرفي بما انه معنى حرفيا ملتفتا إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال لما كان الاستعمال موطنه ، بل كان له موطن غير الاستعمال ، إذ لا يمكن الالتفات إلى شيء من دون ان يكون له نحو تقرر في موطن ، فحيث انه ليس للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال ، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها لفناء اللفظ في المعنى وكونه مرآة له ، ولا يمكن الالتفات إلى ما يكون فانيا في الشيء حين الالتفات إلى ذلك الشيء ، كما لا يمكن الالتفات إلى الظل حين الالتفات إلى ذي الظل والمرآة حين الالتفات إلى المرئي.

وبالجملة :

لما كان قوام المعنى الحرفي هو الاستعمال ، ولا موطن له سواه ، فلا بد من أن يكون المعنى غير ملتفت إليه ، بل يوجد مصداق النداء بنفس قولك يا زيد مثلا ، من دون ان يكون هذا المصداق ملتفتا إليه عند القول ، إذ قوامه بنفس القول ، فكيف يكون له سبق التفات. نعم ما يكون ملتفتا إليه هو تنبيه زيد واحضاره وما شابه ذلك ، وهذه كلها معاني اسمية ، والمعنى الحرفي هو ما يتحقق بقولك يا زيد ، ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له الا بالقول كما لا يخفى. فهذه أركان أربعة بها يتقوم المعنى الحرفي ويمتاز عن المعنى الأسمى. وبذلك يظهر الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف ، والمعاني الايجادية في باب المنشآت بالعقود والايقاعات.

وتوضيح ذلك :

هو ان للصيغ الانشائية كبعت وطالق جزء ماديا وجزء صوريا. اما

ص: 45

الجزء المادي : فهو مبدء الاشتقاق ، وهو معنى اسمى وله مفهوم متقرر في وعاء العقل. واما الجزء الصوري فهو عبارة عن الهيئة التي وضعت لايجاد انتساب المبدء إلى الذات ، واما الأخبارية والانشائية فهما خارجان عن مدلول اللفظ ، وانما يستفادان من المقام والسياق وقرائن الحال ، لا ان لفظ بعت مثلا يكون مشتركا بين الأخبارية والانشائية. وحينئذ إذا كان المتكلم في مقام الاخبار بحيث استفيد من السياق انه في ذلك المقام ، كان اللفظ موجبا لاخطار المعنى في الذهن من دون ان يوجد باللفظ معنى أصلا ، كما في الأسماء ، وإذا كان المتكلم في سياق الانشاء فايضا يكون موجبا لاخطار المعنى في ذهن السامع ، الا انه مع ذلك يكون موجدا للمنشأ من الملكية ، وموجبا لايجاد شيء لم يكن قبل التلفظ ببعت من ملكية المشترى للمال ، ولكن الذي يوجده اللفظ امر متقرر في حد نفسه ، لا ان تقرره يكون منحصرا في موطن الاستعمال ، بل بالاستعمال يوجد معنى متقرر في الوعاء المناسب له من وعاءات الاعتبار ، حيث كانت الملكية من الأمور الاعتبارية.

والحاصل : ان استعمال صيغ العقود في معانيها يوجب حدوث امر لم يكن إذا كان في مقام الانشاء ، واما بقاء ذلك الامر فلا يدور مدار الاستعمال ، بل يدور مدار بقاء وعائه من وعاء الاعتبار ، فملكية المشترى للمال تبقى ببقاء الاعتبار ، ولا تدور مدار بقاء الانشاء والاستعمال ، بل الملكية هي بنفسها متقررة بعد الانشاء ، وهذا بخلاف المعنى الموجد بالحرف ، فان المعنى الحرفي قراره وقوامه يكون في موطن الاستعمال ، بحيث يدور مدار الاستعمال حدوثا وبقاء ، مثلا ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة انما توجد الربط والنسبة بين لفظة السير بما لها من المفهوم ، ولفظة البصرة كذلك ، ومن المعلوم : ان هذا الربط يدور مدار الاستعمال ، فما دام متشاغلا بالاستعمال يكون الربط محفوظا ، وبمجرد خروج المتكلم عن موطن الاستعمال ينعدم الربط ، وكذلك النداء في قولك : يا زيد انما يكون قوامه بنفس الاستعمال ، ويكون قائما بقولك : يا زيد ، وليس للنداء الحاصل من القول نحو تقرر وثبوت في وعاء من الأوعية غير وعاء الاستعمال ، بخلاف الملكية الحاصلة من قولك بعت ، حيث إن لها تقررا في وعاء الاعتبار ، فالمعنى الحرفي حدوثا وبقاء متقوم

ص: 46

بالاستعمال.

وبالجملة : هناك فرق بين المعنى المنشأ بقولك بعت ، والمعنى الموجد بهيئة بعت ، فان الهيئة انما توجد النسبة بين المبدء والفاعل ، وهذا قوامه بالاستعمال ، فما دام متشاغلا بقوله بعت تكون النسبة بين المبدء والفاعل محفوظة ، وبمجرد الخروج عن موطن الاستعمال تنعدم النسبة ، ويكون لفظ البيع بما له من المعنى مباينا للبايع من دون ان يكون بينهما ربط ، وهذا بخلاف الموجد بالانشاء ، فإنه لا يقوم بالاستعمال وان كان يوجد بالاستعمال ، بل يقوم في الوعاء المناسب له.

فتحصل : ان صيغ العقود وان اشتركت مع الحروف في ايجادها المعنى ، الا انها تفترق عنها في أن المعنى الحرفي يكون قائما بغيره والمعنى الانشائي يكون قائما بنفسه ، والمعنى الحرفي لا موطن له الا الاستعمال والمعنى الانشائي موطنه الاعتبار ، والمعنى الحرفي مغفول عنه عند الاستعمال والمعنى الانشائي ملتفت إليه فتأمل جيدا.

وإذا عرفت مباينة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى ، ظهر لك ضعف ما قيل : من أنه ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات لإفادة ما أريد من متعلقاتها ، كما حكى نسبة ذلك إلى الشيخ الرضى ره.

وجه الضعف : هو ان العلامة لم تحدث في ذي العلامة معنى يكون فاقدا له لولا العلامة ، بل يكون ذو العلامة على ما هو عليه ، وتكون العلامة لمجرد التعريف ، وشأن الحروف ليس كذلك لوضوح انها تحدث معنى في الغير كان فاقدا له لولا دخول الحرف عليه ، بداهة ان زيدا لم يكن منادى ويصير منادى بسبب ياء النداء ، ومع ذلك كيف يمكن القول بأنها علامة؟.

وكذلك ظهر ضعف ما قيل أيضا : من أنه لا مايز بين معاني الحروف ومعاني الأسماء في ناحية الوضع والموضوع له ، وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الاخر ، لاعتبار الواضع قيد ( ما قصد لنفسه ) في الأسماء في ناحية الاستعمال ، و ( ما قصد لغيره ) في الحروف في تلك الناحية.

وبعبارة أخرى : الأسماء وضعت لتستعمل في المعاني الاستقلالية ، و

ص: 47

الحروف وضعت لتستعمل في المعاني الغيرية ، فلا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى بالهوية.

وجه الضعف : هو ان صاحب هذا القول تتركب دعواه من أمرين :

الأول : دعوى ان كلا من الحرف والاسم وضع للقدر المشترك ، بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل.

الثاني : دعوى كون عدم صحة استعمال الحرف في مقام الاسم وبالعكس انما هو لأجل منع الواضع عن ذلك في مقام الاستعمال واخذ كل من قيد الآلية والاستقلالية شرطا في ناحية الاستعمال ، ولكن لا يخفى فساد كل من الامرين.

اما الأول : فلان المعنى في حاق هويته ، اما ان يستقل بالمفهومية ، واما ان لا يستقل ، فالامر يدور بين النفي والاثبات من دون ان يكون في البين جامع ، إذ ليس في المعنى تركيب من جنس وفصل حتى يتوهم وضع كل من الحرف والاسم بإزاء الجنس ، وتكون الآلية والاستقلالية من الفصول المنوعة للمعنى كالناطقية والصاهلية ، لما تقدم في الامر الأول من أن المعنى بسيط غاية البساطة ، ليس فيه شائبة التركيب ، وعليه يبتنى عدم الدلالة التضمنية ، كما نوضحه في محله انشاء اللّه.

فالمعاني في وعاء العقل ، كالأعراض في وعاء الخارج في كونها بسيطة لا تركيب فيها ، ولذا كان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، كما في السواد والبياض ، أو السواد الشديد والضعيف ، حيث كان امتياز السواد الشديد عن الضعيف بنفس السواد ، وكذا امتياز السواد عن البياض انما يكون بهوية ذاته لا بالفصول المنوعة ، كما في المركبات ، بل السواد بما انه لون يمتاز عن البياض في حد ذاته ، وكذا الشديد والضعيف مع اشتراكهما في الحقيقة يمتاز ان بنفس الحقيقة ، من دون ان يكون هناك مايز خارجي ، هذا حال الاعراض. وكذا الحال في المعاني ، حيث إن المعاني عبارة عن المدركات العقلية التي لا موطن لها الا العقل وهي من أبسط البسائط ، وامتياز بعضها عن بعض يكون بنفس الهوية ، لا بالفصول المنوعة ، وليس لها جنس وفصل ، فدعوى كون ألفاظ الحروف والأسماء موضوعة للقدر

ص: 48

الجامع بين الالية والاستقلالية مما لا محصل لها ، إذ لا يعقل ان يكون المعنى لا مستقل ولا غير مستقل ، فإنه يكون من ارتفاع النقيضين ، فتأمل جيدا.

واما الثاني : فهو أوضح فسادا لما فيه.

أولا : من أن ذلك مبنى على أن يكون للألفاظ واضع خاص حتى يتأتى منه اشتراط ذلك ، وقد تقدم امتناع ذلك في أول المبحث ، مع أنه لو فرض ثبوت واضع خاص فمن المقطوع انه لم يشترط ذلك في مقام الوضع ، لان ذلك خارج عن وظيفة الواضع ، إذ وظيفة الواضع انما هو تعيين مداليل الألفاظ ، لا تعيين تكليف على المستعملين ، لأنه لا ربط للاستعمال بالواضع.

وثانيا : هب ان الواضع اشترط ذلك ، وفرض ان هذا الشرط مما يلزم العمل به ، فما الذي يلزم من مخالفة الشرط باستعمال الحروف مقام الأسماء ، إذ غاية ما يلزم هو مخالفة الواضع ، وهذا لا يوجب كون الاستعمال غلطا ، إذ لا يقصر عن المجاز ، بل ينبغي ان يكون هذا أولى من المجاز ، لان المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، وهذا استعمال في ما وضع له ، غايته انه على غير جهة ما وضع له ، وهذا لا يوجب استهجان الاستعمال ، مع أنه من الواضح استهجان استعمال كلمة ( من ) في مقام كلمة ( الابتداء ) و ( إلى ) في مقام ( الانتهاء ) و ( في ) في مقام ( الظرفية ).

الا ترى : انه لو أراد المتكلم ان يتكلم بألفاظ مفردة بلا نسبة ، يصح ان يتكلم بلفظة الابتداء ، والانتهاء ، والظرف ، والنداء ، والخطاب ، وغير ذلك من الألفاظ المفردة التي يكون لكل منها معنى متحصل في نفسه ، بحيث يسبق إلى ذهن السامع لتلك الألفاظ معانيها ، ولا يصح ان يق للمتكلم : انه ليس لمفردات كلامه معنى متحصل ، وان صح ان يق له : انه ليس لكلامه نسبة يصح السكوت عليها. وهذا بخلاف التكلم بلفظة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) و ( يا ) و ( كاف ) وغير ذلك من الحروف ، فأنه لا يسبق إلى ذهن السامع من هذه الألفاظ معنى أصلا ، ويصح ان يق للمتكلم بذلك : انه ليس لمفردات كلامه معنى ، بل يعد هذا الوجه من التكلم مستهجنا ومستبشعا ، فهذا أقوى شاهد على مباينة الحروف للأسماء ، وعدم اتحاد معانيهما ، بداهة ان الاتحاد في المعنى يوجب صحة استعمال كل منهما في مقام الاخر ، و

ص: 49

المفروض انه لا يصح ، فلابد من أن يكون هناك مايز بينهما على وجه يختلف هوية كل منهما عن هوية الاخر ، بحيث لا يصح استعمال كل منهما في مقام الاخر ولو على نحو المجازية ، لعدم ثبوت علاقة بين المعنيين مصححة للاستعمال.

فتحصل

من جميع ما ذكرنا انه لا جامع بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وان الحروف وضعت لايجاد معنى في الغير بالقيود الأربعة المتقدمة ، والأسماء وضعت بإزاء المفاهيم المقررة في وعاء العقل ، فتأمل في المقام فإنه مما زلت فيه الاقدام. وبما ذكرنا ظهر : الخلل في ما عرف به الحرف ، من أنه ما دل على معنى في الغير.

وجه الخلل : هو ان الدلالة تستدعى ثبوت المدلول وتقرره ، والمفروض انه ليس للمعنى الحرفي تقرر وثبوت. ونحن لم نجد في تعاريف القوم ما يكون مبينا لحقيقة المعنى الحرفي ، على وجه يكون جامعا لأركانه الأربعة ، الا ما روى (1) عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ، على بعض النسخ ، وفي بعض آخر : والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بفعل ولا اسم ، والظاهر أن يكون الأول هو الصحيح ، لأنه هو المناسب لان يكون عن إفاداته (عليه السلام) التي يفتتح منها الف باب ، و .

ص: 50


1- نقلت هذه الرواية من مآخذ متعددة بعبارات مختلفة : منها : فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ به والحرف ما جاء لمعنى. ومنها : فالاسم ما دل على المسمى والفعل ما دل على حركة المسمى والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل. ومنها : الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره. راجع لتحقيق مأخذ هذه الرواية « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام » تصنيف العالم الجليل السيد حسن الصدر. ص 46 إلى 61 وصنف العالم الجليل السيد على البهبهاني (رحمه اللّه) كتابا مستقلا في تحقيق معنى الرواية وسماه ( بالاشتقاق ) وذكر فيه : « الرواية مشتهرة بين أهل العربية اشتهار الشمس في رابعة النهار ».

قد جمع علیه السلام في هذا لحديث تمام علم النحو ، ومن هنا اعترف المخالف بأنه علیه السلام هو المبتكر لعلم النحو ، ولا باس بشرح الحديث المبارك على وجه الاختصار.

فنقول :

اما قوله علیه السلام الاسم ما أنبأ عن المسمى ، فهو عين ما ذكرناه : من أن المعاني الاسمية اخطارية ، والأسماء وضعت لاخطار تلك المعاني في الذهن ، فان الانباء بمعنى الاظهار والاخطار.

واما قوله (عليه السلام) : والحرف ما أوجد معنى في غيره فكذلك أي انه منطبق على ما ذكرناه : من أن معاني الحروف ايجادية بقيودها الأربعة ، إذ لازم كونهما أوجد معنى في غيره ، هو ان يكون المعنى ايجاديا ، وأن يكون ذك المعنى قائما في غيره ، وان لايكون له موطن غير الاستعمال ، وأن يكون مغفولا عنه ، على ما عرفت : من أن القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير.

واما قوله (عليه السلام) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، فتوضيحه يتوقف على معرفة حقيقة معنى الفعل ، وما يكون المايز بينه وبين الاسم والحرف ، إذ ربما يستشكل في تصوير معنى لايكون باسم ولا حرف ، مع أن الفعل مركب من مادة وهيئة ، والمادة معنى اسمى ، والهيئة معنى حرفي ، فالفعل يكون مركبا من اسم وحرف ، وليس خارجا عنهما ، فما وجه تثليث الأقسام؟ وجعل الفعل مقابلا للاسم والحرف؟ وليس تثليث الأقسام من كلام النحويين حتى يقال : أخطأوا في تثليث الأقسام ، بل هو من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كلامه ملوك الكلام ، فلابد من بذل الجهد لمعرفة معنى يقابل المعنى الأسمى والمعنى الحرفي ، بان يكون متوسطا بين المعنيين ، ولا بد أولا من معرفة مبدء الاشتقاق والأصل فيه.

فنقول : انه قد اختلفت الكلمات في مبدء الاشتقاق ، فقيل : انه المصدر ، وقيل : انه اسم المصدر ، والحق انه لا هذا ولا ذاك.

وذلك لان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا محفوظا في تمام الهيئات الاسمية والفعلية ، ويكون بالنسبة إليها من قبيل المادة والصورة ، فلا بد ان يكون

ص: 51

مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة ، حتى يكون معروضا لكل هيئة ، ومن المعلوم ان لكل من المصدر واسم المصدر هيئة تخصه ، ويكون ما يستفاد من اسم المصدر بهيئته مباينا لما يستفاد من المصدر بهيئته ، كالغسل والغسل ، فلا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق المصدر أو اسم المصدر (1) بل لابد من أن يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن الهيئة قابلا لعروض كل هيئة عليه ، كالضاد والراء والباء في ضرب ، ولا يمكن ان يتلفظ به ، لان كل ملفوظ لابد ان يكون ذا هيئة.

وحاصل الكلام : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا غير متحصل في عالم اللفظ والمعنى ، ويكون تحصله في كلتا المرحلتين بواسطة الهيئة ، فنسبة المبدء إلى الهيئات كنسبة المادة إلى الصور النوعية ، حيث إن المادة تكون صرف القوة ، ويكون فعليتها بالصور النوعية ، كذلك مبدء الاشتقاق يكون معنى غير متحصل بالذات ، ويكون في عالم المفهومية صرف قوة ، ويتوقف فعليته وتحصله على الهيئة ، فمبدء الاشتقاق في الافعال أسوء حالا من الحروف ، إذ الحروف وان لم يكن لها معنى في حد أنفسها ، ولكن يمكن التلفظ بها ، وهذا بخلاف مبدء الاشتقاق فإنه لا يمكن التلفظ به ، كما عرفت ، الا بتوسط الهيئات ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث المشتق انشاء اللّه تعالى.

ثم إن الهيئات اللاحقة لمبدء الاشتقاق.

منها :

ما يكون مفادها معنى افراديا استقلاليا لا يحتاج في تحصله إلى ضم نسبة تركيبية ، وذلك كالأسماء المشتقة كضارب ومضروب ، وما شابه ذلك ، فان لكل منها معنى افراديا استقلاليا متحصلا بهوية ذاته بلا ضم نسبة ، على ما هو الحق من بساطة معاني الأسماء المشتقة ، كما يأتي تفصيله. فللضارب معنى متحصل افرادي اسمى ، والتلفظ به موجب لاخطار ذلك المعنى في الذهن ، ومن هنا صار معربا يقبل

ص: 52


1- وربما يظهر من بعض الكلمات ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر ولا دخل لهيئته في معناه ، وانما تكون الهيئة حافظة للمادة ، بخلاف هيئات سائر المشتقات ، فان لها دخلا في المعنى ، فتأمل - منه.

الحركات الاعرابية ، إذ لو كان مفاد هيئته معنى حرفيا لكان مبنيا ولم يقبل الحركات الاعرابية ، كما هو الشأن في هيئات الافعال ، حيث كان مفادها معنى حرفيا ، ولأجل ذلك صارت مبنية. وليس مفاد هيئة ضارب نسبة تركيبية ، حتى يكون معنى ضارب هو ذات ثبت لها الضرب كما زعم من يقول : بان المشتقات مركبة.

ومنها :

ما يكون مفادها معنى حرفيا نسبيا ، وذلك كهيئات الافعال من الماضي والمضارع والامر ، فان هيئاتها تفيد معنى نسبيا أعني انتساب المبدء إلى الذات ، فهيئات الافعال تغاير هيئات الأسماء ، حيث كان مفاد هيئات الافعال النسبة ، وهيئات الأسماء معراة عن النسبة.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : تغاير معاني الافعال لمعاني الأسماء والحروف ، وان الفعل له معنى متوسط بين الاسم والحرف ، فان له حظا من المعنى الأسمى ، حيث يكون موجبا لاخطار المعنى في الذهن عند اطلاق لفظ الفعل ، ويكون له معنى استقلالي تحت قالب لفظه ، غايته انه ليس بافرادي بل هو تركيبي ، وله حظ من المعنى الحرفي ، حيث لم يكن لمبدئه تحصل ولا لهيئته معنى متحصل ، بل كان المبدء صرف القوة ومفاد الهيئة معنى حرفي نسبي ، فكلا جزئي الفعل لايكون لهما معنى متحصل بهوية ذاته.

وحاصل الكلام : ان تثليث الأقسام ، انما هو لأجل ان للفعل حقيقة ثالثة غير حقيقة الاسم والحرف ، فان مفاد الفعل وان كان اخطاريا ، الا انه اخطار نسبة تركيبية بين المبدء والفاعل. وهذا بخلاف مفاد الأسماء ، فان مفادها معان افرادية استقلالية ، ومفاد الحروف ايجادية ، على ما عرفت. إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى شرح الحديث المبارك.

فنقول : انه قد اختلفت الأنظار في شرح قوله (عليه السلام) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى. والذي يقتضيه النظر الدقيق ، هو ان يقال : ان المراد من الحركة هو

ص: 53

الحركة من القوة إلى الفعل ، لا بمعنى الحركة من العدم إلى الوجود ، كما ذهب إليه بعض الأوهام ، بل المراد الحركة في عالم المفهومية ، حيث إن المبدء خرج عن اللاتحصلية وتحرك من القوة إلى التحصلية والفعلية ، فالمراد من المسمى هو مبدء الاشتقاق ، والفعل بجملته يظهر وينبأ عن حركة ذلك المسمى من القوة إلى الفعلية ، ومن اللاتحصلية إلى التحصلية في عالم المفهومية ، حيث كان غير متحصل فصار بواسطة هيئة الفعل متحصلا فتأمل ، في المقام فإنه بعد يحتاج إلى مزيد توضيح.

المقام الثاني : في عموم الموضوع له وخصوصه

اشارة

والأقوال فيه ثلاثة.

قول : بان كلا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام.

وقول : بان الوضع والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص.

وقول : بان الوضع عام والموضوع له والمستعمل فيه خاص.

وقبل تحقيق الحال ينبغي تمهيد مقدمة لتحرير محل النزاع ، وبيان الفارق بين الكلية والجزئية المبحوث عنهما في الحروف ، والكلية والجزئية التي تتصف الأسماء بهما.

وحاصل المقدمة :

هو ان ما يقال في تفسير الكلية والجزئية : من أن المفهوم ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي والا فكلي ، انما يستقيم في المفاهيم الاسمية ، واما المعاني الحرفية ، فلا يمكن اتصافها بالكلية والجزئية بهذا المعنى ، لما عرفت : من أنه ليس للحروف مفاهيم متقررة يمكن لحاظها ، حتى يحكم عليها بامتناع الصدق وعدم الامتناع ، بل الحروف انما وضعت لايجاد المعاني في الغير في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها وعاء غير وعاء الاستعمال ، ومن المعلوم ان وصف الشيء بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه ، انما هو بعد تقرر ذلك الشيء في وعاء من الأوعية ، والمعنى الحرفي لم يكن له تقرر الا في وعاء الاستعمال ، فلا معنى لان يتصف بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه.

والحاصل : ان الشيء الموجود الخارجي بما انه موجود خارجي لا يتصف

ص: 54

بالكلية والجزئية ، إذ الكلية والجزئية انما تعرضان المفاهيم ، والمفروض ان المعنى الحرفي قوامه بايجاده ، فلا يتصور فيه الكلية والجزئية بذلك المعنى بل الكلية والجزئية المبحوث عنهما في باب الحروف انما تكون بمعنى اخر ، وهو ان الموجد في الحروف في جميع مواطن الاستعمالات ، هل هو امر واحد بالهوية ، وتكون الخصوصيات اللاحقة لها في تلك المواطن خارجة عن حريم المعنى الحرفي ، وانما هي من خصوصيات الاستعمالات؟ أو ان تلك الخصوصيات داخلة في حريم المعنى الحرفي ، ومقومة له؟

وتوضيح ذلك

هو انه لا اشكال في أن كل استعمال متخصص بخصوصية خاصة يكون الاستعمال الاخر فاقدا لها ، فقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة مغاير لقولك : سرت من الكوفة إلى البصرة ، بل مغاير لنفس قولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ثانيا عقيب القول الأول ، ويكون المعنى الذي وجد بأداة النسبة الابتدائية في كل استعمال متخصصا بخصوصية خاصة ، فيرجع النزاع في المقام حينئذ إلى أن تلك الخصوصيات اللاحقة للمعنى الحرفي عند كل استعمال ، هل هي مقومة للمعنى الحرفي وداخلة في هويته حتى يكون الموضوع له في الحروف خاصا؟ أو انها خارجة عن حقيقة المعنى الحرفي ، وانما هي من لوازم تشخص المعنى فيكون الموضوع له عاما كالوضع؟.

والى ذلك يرجع ما افاده (1) في الفصول : من أن التقييد والقيد كلاهما خارجان ، فإنه بناء على كلية المعنى الحرفي يكون كل من نفس القيد الذي هو المتعلق في قولك : سرت من البصرة مثلا والتقييد وهو الخصوصية اللاحقة للنسبة الابتدائية التي أوجدتها كلمة ( من ) في خصوص ذلك الاستعمال خارجين من المعنى الحرفي ، فلا يرد على صاحب الفصول (رحمه اللّه) : انه كيف يكون القيد والتقييد

ص: 55


1- الفصول ص 14 « فهي عند التحقيق موضوعة بإزاء المفاهيم المقيدة بأحد افراد الوجود الذهني الآلي من غير أن يكون القيد والتقييد داخلا ، فيكون مداليلها جزئيات حقيقية متحدة في مواردها ذاتا ومتعددة تقييدا وقيدا ».

خارجين؟ وأي معنى لهذا التقييد حينئذ وما فائدته؟ ولكن بالبيان الذي بيناه ، اتضح مراده ( قده ) من كون كل من التقييد والقيد خارجين.

وحاصله : انه بعد ما كان قوام المعنى الحرفي بالغير ، وكان وجوده بعين استعماله ، فالخصوصية اللاحقة له باعتبار ذلك الغير ، كالبصرة في قولك : سرت من البصرة ، ومكة في قولك : سرت من مكة ، هل هي مما يتقوم بها المعنى الحرفي ولاحقة له بالهوية؟ على نحو التقييد داخل والقيد خارج ، لان نفس ذلك الغير خارج عن المعنى الحرفي قطعا ، لأنه معنى اسمى فالذي يمكن هو دخول التقيد ، أو ان تلك الخصوصية خارجة عن المعنى الحرفي؟ على نحو خروج القيد ، وهي من لوازم التحقق في موطن الاستعمال ، حيث لا يمكن ايجاد المعنى الحرفي الا باحتفافه بخصوصية خاصة لاحقة له في موطن الاستعمال ، نظير المحل الذي يحتاج إليه العرض في التحقق مع أنه خارج عن هوية ذاته ومما لا يتقوم به معنى العرض ، فان كان على الوجه الأول فيكون الموضوع له خاصا ، ان كان على الوجه الثاني فيكون الموضوع له عاما كالوضع.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين عموم الموضوع له في الأسماء ، وبين عموم الموضوع له في الحروف ، فان عموم الموضوع له في الأسماء ، انما يكون على وجه يصح حمله على ماله من الافراد الخارجية ، نحو حمل الكلي على الفرد بالحمل الشايع الصناعي الذي يكون ملاكه الاتحاد في الوجود ، كما يقال : زيد انسان ، وهذا فرس ، وما شابه ذلك. وهذا بخلاف عموم الموضوع له في الحروف ، فإنه ليس له افراد خارجية يصح حمله عليها ، إذ قوام المعنى الحرفي بالايجاد ، بحيث لا موطن له الا الاستعمال على ما تقدم ، والشيء الذي يكون قوامه بالوجود ليس له وراء ذلك خارج يمكن حمله عليه ، كما كان للمفهوم الكلي الأسمى خارج من افراده الموجودة يمكن حمله عليه.

وبالجملة : فرق بين اتصاف المعنى الحرفي بالكلية ، واتصاف المعنى الأسمى بالكلية ، فان الكلية في الأسماء عبارة عما كان ينطبق على الخارجيات ، ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي ، كزيد انسان. واما الكلية في الحروف

ص: 56

فليست بمعنى ان لها افراد يمكن حمل الكلي عليها ، إذ المعنى الحرفي انما يكون ايجاديا موطنه الاستعمال ، ولا معنى لحمل ما يكون موطنه الاستعمال وما يكون ايجاديا على غيره ، إذ ليس هناك خارج وراء نفسه يمكن ان يحمل عليه ، بل هو بنفسه من الخارجيات ، والخارجيات ليس لها خارج وراء نفسها ، كما كان للمفاهيم الاسمية خارج يصح حملها عليه.

وحاصل الكلام : ان المفاهيم الاسمية انما تقع في عقد الحمل ، ويكون عقد الوضع مصداقا من مصاديقه الخارجية ، كما يقال : زيد انسان. واما المفاهيم الحرفية ، فلا يصح ان تقع في عقد الحمل ، إذ هي بنفسها من الايجاديات الخارجية ، وليس لها مصداق خارجي يصح حملها عليه ، بل المعاني الحرفية دائما تقع في عقد الوضع ، ويكون المحمول مفهوما اسميا. كما يقال عند قولك يا زيد ، هذا نداء ، أي ما وجد بقولك يا زيد مصداق من مصاديق كلي النداء ، وهذا لا ينافي كلية المعنى الحرفي ، إذ قد عرفت المراد من الكلية في المعنى الحرفي مع حفظ أركانه الأربعة المتقدمة : من كونه ايجاد معنى في الغير في موطن الاستعمال مغفولا عنه ، وهذه القيود الأربعة كلها لا تنافى كلية المعنى الحرفي ، بعد ما عرفت المراد من الكلية : من أن الذي يوجد ب ( من ) مثلا في جميع مواطن الاستعمالات معنى واحد بالهوية الذي لا يمكن تصوره ولا التعبير عنه الا بتوسط المفاهيم الاسمية ، بحيث لا يمكن ان يقع ذلك المعنى بنفسه في جواب ما هو ، بل الذي يصح ان يقع في جواب ما هو ، هو وجه المعنى وعنوانه من المعاني الاسمية. كما يقال : في جواب السؤال عما يوجد ب ( من ) نسبة ابتدائية ، ومعلوم ، ان كلا من لفظة ( النسبة ) و ( الابتدائية ) له مفهوم اسمى ، ولكن ذلك المفهوم الأسمى يصلح ان يكون معرفا للمعنى الحرفي الذي يوجد ب ( من ) لما عرفت : من أن نسبة المعنى الحرفي إلى المفهوم الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم ، ومن المعلوم : ان المفهوم يكون وجها وعنوانا لمصاديقه ، ومعرفة الشيء بوجهه بمكان من الامكان.

وبالجملة : الكلية المتنازع فيها في الحروف ، انما هي بمعنى ان ما توجده لفظة ( من ) في جميع الاستعمالات معنى واحد بالهوية والحقيقة ، وتكون الخصوصيات

ص: 57

اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حقيقة المعنى ، لازمة لتحققه في موطن الاستعمال ، نظير خصوصية القيام بالمحل الذي هي من لوازم وجود العرض مع عدم قوام هويته به. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بجزئية المعنى الحرفي ، فإنه تكون تلك الخصوصيات حينئذ مقومة لهوية المعنى الحرفي وداخلة في حقيقته.

إذا عرفت المتنازع فيه في المقام فنقول :

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي ، وكون الموضوع له في الحروف عاما كالوضع ، إذ لا منشأ لتوهم الجزئية وكون الموضوع له خاصا الا أحد أمرين.

الأول : اعتبار كون المعنى الحرفي قائما بالغير ، فيتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط ذلك الغير مما يتقوم بها هوية المعنى الحرفي.

الثاني : اعتبار كونه ايجاديا ، ومن المعلوم ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، والتشخص مساوق للجزئية هذا.

ولكن كلا من هذين الوجهين لا يصلح ان يكون مانعا عن كلية المعنى الحرفي.

اما الامر الأول : فلوضوح ان وجود المعنى الحرفي خارجا يتقوم بالغير ، لا هويته وحقيقته ، وفرق بين ما كان من لوازم الوجود ، وبين ما كان من لوازم الهوية. والحاصل : ان المعنى الحرفي لما كان ايجاد معنى في الغير ، فتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط الغير مقومة لهوية المعنى الحرفي ، وكانه غفل من أن خصوصية الغير ليست مقومة لهوية المعنى ، بل هي من لوازم وجود ذلك المعنى ، كما كان القيام بالغير في العرض من لوازم وجوده ، وليس مقوما لهويته.

واما الامر الثاني : فلوضوح ان كونه ايجاديا لا ينافي كلية المعنى الا بناء على القول بعدم وجود الكلي الطبيعي ، والا فبعد البناء على وجوده لا يبقى مجال لتوهم ان كون المعنى ايجاديا ينافي كليته ، وسيأتي انشاء اللّه تعالى ان الحق هو وجود الكلي الطبيعي ، بحيث يكون التشخص والوجود يعرضان له دفعة ، لا انه يتشخص فيوجد كما حكى القول به ، ولا انه انتزاعي صرف لا وجود له.

نعم بناء على سبق التشخص أو عدم الوجود يتم التنافي بين الايجادية و

ص: 58

الكلية.

فتحصل : انه لا الحاجة إلى قيام المعنى الحرفي بالغير ينافي كليته ، ولا كونه ايجاديا ينافي ذلك ، ومن المعلوم انه لا نرى اختلافا بين ما يوجد ( بمن ) في جميع موارد استعمالاتها ، كما نرى الاختلاف بين ما يوجد ( بمن ) وما يوجد ( بإلى ) حيث إن ما يوجد ( بمن ) نسبة ابتدائية وما يوجد ( بإلى ) نسبة انتهائية ، وهذا بخلاف ما يوجد ( بمن ) فإنه معنى واحد في جميع الاستعمالات. ولو كان المعنى جزئيا لكان ما يوجد بقولك : سرت من البصرة مباينا لما يوجد بقولك : سرت من الكوفة ، كمباينة زيد مع عمرو ، بداهة تباين الجزئيات بعضها مع بعض ، وحيث نرى انه لايكون هناك اختلاف وتباين في النسب الابتدائية التي توجدها لفظة ( من ) في جميع موارد الاستعمالات ، فيعلم ان لفظة ( من ) موضوعة للقدر الجامع بين ما يوجد في تلك الموارد ، ولا نعنى بكلية المعنى الحرفي الا ذلك فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفية.

ثم إن شيخنا الأستاذ قد أسقط بعض المباحث التي قد تعرض لها القوم في المقدمة التي يبحث فيها عن نبذة من المباحث اللغوية ، ونحن نقتفي اثره. والحمد لله أولا وآخرا.

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

اشارة

وتنقيح البحث في ذلك يستدعى رسم مقدمات :

( الأولى )

لا يختص النزاع في الصحيح والأعم بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية ، بل يجرى حتى على القول بعدمها ، إذ لا اشكال في اطلاق الشارع ألفاظ العبادات والمعاملات على مالها من المعاني عند المتشرعة ، فيقع الكلام في ذلك المعنى الذي أطلق اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، وانه هل هو خصوص الصحيح ، أو الأعم منه ومن الفاسد؟ وبعبارة أخرى : لو لم نقل بالحقيقة الشرعية ، فلا اشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعية ، فيقع الكلام في المسمى عند المتشرعة ، وانه هل هو الصحيح أو الأعم؟ ومن المعلوم ان ما هو المسمى عند المشترعة هو المراد الشرعي عند اطلاق تلك الألفاظ ،

ص: 59

سواء كان الاطلاق على نحو الحقيقة ، أو على نحو المجاز ، فدعوى اختصاص النزاع في المقام بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية مما لا وجه لها.

( الثانية )

قد عرف الفقهاء الصحة والفساد بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء وعدمه ، والمتكلمون بما وافق الشريعة وعدمه ، هذا.

ولكن الظاهر : انه ليس للصحة والفساد معنى مغاير لما هو عند العرف واللغة ، وتعريف الفقيه أو المتكلم بذلك انما يكون تعريفا باللازم ، كما هو الشأن في غالب التعاريف ، غايته ان المهم في نظر الفقيه لما كان سقوط الإعادة والقضاء فسر الصحة بذلك ، ولما كان المهم في نظر المتكلم هو موافقة الشريعة فسر الصحة بذلك ، والا فمعنى الصحة والفساد أوضح من أن يخفى ، بل لا يمكن تعريفهما بما يكون أجلى أو مساويا لما هو المرتكز عند العرف من معناهما ، فالصحة ليس الا عبارة عما يعبر عنها بالفارسية ب ( درست ) في مقابل ( نادرست ) الذي هو عبارة عن الفساد. واختلاف الآثار في العبادات والمعاملات والمركبات الخارجية انما هو باعتبار اختلاف الموارد وما هو المطلوب منها ، لا ان الصحة في العبادات تكون بمعنى مغاير لمعنى الصحة في المعاملات ، أو في ساير المركبات الخارجية كما لا يخفى.

( الثالثة )

اتصاف الشيء بالصحة والفساد تارة : يكون باعتبار الاجزاء الخارجية ، وأخرى : يكون باعتبار الاجزاء الذهنية ، المعبر عنها بالشروط ، مثلا الصلاة تارة : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على تمام مالها من الاجزاء وان كانت فاقدة للشرائط ، وأخرى : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على الشرائط وان كانت فاقدة للاجزاء ، إذ الصحة من جهة لا تنافى الفساد من جهة أخرى ، إذ الصحة والفساد من الأمور الإضافية ، ومن هنا ذهب بعض إلى وضع ألفاظ العبادات للصحيح بالنسبة إلى الاجزاء ، وللأعم بالنسبة إلى الشرائط.

ثم إن وصف الصلاة مثلا بالصحة باعتبار الشرائط تارة : يكون باعتبار خصوص الشرائط الملحوظة في مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يمكن الانقسام

ص: 60

إليها قبل تعلق الطلب بها ، كالطهور ، والاستقبال ، والستر ، وغير ذلك من الانقسامات السابقة. وأخرى : تكون باعتبار الشرائط التي لا يمكن لحاظها في مرحلة تعيين المسمى ، بل هي من الانقسامات اللاحقة عن مرحلة تعلق الطلب بها ، كقصد القربة وما يستتبعها من قصد الوجه ووجه الوجه ، على القول باعتباره.

لا ينبغي الاشكال في خروج الصحة بالاعتبار الثاني عن حريم النزاع في المقام ، بداهة تأخر اتصاف الشيء بالصحة بهذا المعنى عن تعيين المسمى بمرتبتين : مرتبة تعيين المسمى ، ومرتبة تعلق الطلب به ، وما يكون متأخرا عن المسمى لا يعقل اخذه في المسمى ، بل لا يعقل اخذه في متعلق الطلب ، فضلا عن اخذه في المسمى ، فلا يمكن القول بان لفظ الصلاة موضوعة للصحيح الواجد لشرط قصد القربة ، أو للأعم من الواجد لها والفاقد ، كما لا يمكن القول بوضعها للأعم من تعلق النهى بها وعدم تعلقه ، أو للأعم من وجود المزاحم لها وعدم المزاحم. فالفساد اللاحق لها من ناحية النهى في العبادات ، أو من ناحية اجتماع الأمر والنهي ، بناء على الجواز مع تغليب جانب النهى في مقام المزاحمة عند عدم المندوحة على ما سيأتي بيانه ، خارج عن حريم النزاع أيضا ، كخروج الصحة اللاحقة لها من باب عدم النهى ، أو من باب عدم المزاحم. والسر في ذلك كله ، هو تأخر رتبة الاتصاف بالصحة أو الفساد بذلك عن مرتبة تعيين المسمى. فالذي ينبغي ان يكون محل النزاع ، هو خصوص الاجزاء والشرائط الملحوظة عند مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يجمعها - ما يمكن فرض الانقسام إليها قبل تعيين المسمى - فتأمل جيدا.

( الرابعة )

لا اشكال في أن لكل من العبادات افراد عرضية وطولية تختلف باختلاف حالات المكلفين ، كالصلاة مثلا حيث إن لها افرادا لا تحصى من حيث اختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والصحة والمرض والقدرة والعجز والخوف والامن وغير ذلك. ولا ينبغي توهم ان لفظة الصلاة موضوعة بالاشتراك اللفظي لكل من هذه الافراد ، بحيث يكون لكل فرد وضع يخصه ، فان ذلك بعيد غايته. وكذلك لا ينبغي الاشكال في أنها ليست من قبيل الوضع العام والموضوع له

ص: 61

الخاص ، وذلك لأنه.

أولا : يحتاج في الوضع العام والموضوع له الخاص إلى الوضع التعييني ، بان يكون هناك واضع مخصوص يتصور جامعا ، ويضع اللفظ بإزاء افراده ، ولا يمكن تحقق الوضع العام والموضوع له الخاص بالوضع التعيني كما لا يخفى ، ومن المعلوم : ان لفظة الصلاة لم توضع كذلك إذ غايته حصول التعيني لها ، سواء قلنا بالحقيقة الشرعية أو لم نقل ، لان غاية ما يمكن ان يقال ، هو ان الشارع استعمل لفظ الصلاة في هذه المهية مجازا ، ثم كثر استعمالها في ذلك في لسانه ولسان تابعيه ، حتى صارت حقيقة ، فمن يدعى الحقيقة الشرعية يريد بها هذا المعنى.

واما دعوى ان الشارع من أول الامر عين لفظ الصلاة لهذه المهية على وجه النقل ، فمما لا يمكن المساعدة عليها ، إذ لو كان ذلك لبان ونقل مع توفر الدواعي لنقله. وبالجملة من المقطوع : انه صلی اللّه علیه و آله لم يرق المنبر وقال : أيها الناس انى وضعت لفظة الصلاة بإزاء هذه المهية.

وثانيا : ان ذلك بالآخرة يرجع إلى الاشتراك اللفظي ، إذ لو كان الموضوع له هو خصوص الافراد المتباينة لكان لكل فرد وضع يخصه ، فلا تكون لفظة الصلاة موضوعة بإزاء الجامع ، إذ المسمى يكون هي الافراد حينئذ والافراد متباينة.

وثالثا : ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، انما يتصور بالنسبة إلى الافراد العرضية ، وهذا لا يمكن بالنسبة إلى الصلاة ، بداهة ان فردية صلاة الجالس للصلاة انما تكون بعد ثبوت الامر بها ، وان الصلاة لا تسقط بحال ، وما يكون فرديته متوقفة على الامر به لا يعقل اخذه في المسمى ، فتأمل ، فان هذا يمكن دفعه. فيدور الامر ، بين ان نقول بالاشتراك المعنوي ، وبين ان نقول بان لفظة الصلاة موضوعة بإزاء قسم خاص من اقسام الصلاة ، وهو الجامع لجميع الاجزاء والشرائط عدا قصد القربة وأمثالها مما تكون مرتبة اعتبارها متأخرة عن مرتبة تعيين المسمى حسب ما تقدم تفصيله ، ويكون اطلاق الصلاة حينئذ على سائر الأقسام بنحو العناية ، بتنزيل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط منزلة الواجد ادعاء ، على ما ذهب إليه السكاكي في الحقيقة الادعائية.

ص: 62

وهذا الوجه ، هو الذي قربه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ومال إلى أن الموضوع له للفظة الصلاة ، هو خصوص الصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، وهو الصحيح التام ، ويكون اطلاقها على الفاقد لها بالعناية والتنزيل. وحيث إن هذا المعنى باطلاقه لا يستقيم ، بداهة ان التنزيل والادعاء يحتاج إلى مصحح ، إذ لا يمكن تنزيل كل شيء منزل كل شيء ، بل لابد ان يكون هناك مصحح للادعاء ، ولو باعتبار الصورة والشكل ، ومن العلوم : ان صلاة الغرقى التي يكتفى فيها بالايماء القلبي مما لا يمكن تنزيلها منزله الصلاة التامة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، ولا يصح ادعاء انها هي ، التزم مد ظله بان اطلاق الصلاة على مثل هذا انما يكون شرعيا ، بحيث لولا اطلاق الشارع الصلاة على مثل صلاة الغرقى لما كان هناك مصحح للاطلاق ، ثم بعد اطلاق الشارع الصلاة على صلاة الغرقى وأمثالها مما لا يمكن ادعاء انها تلك الصلاة التامة ، يصح اطلاق الصلاة على الفاسد من تلك الحقيقة بالتنزيل والادعاء.

وحاصل الكلام :

ان لفظة الصلاة موضوعة بإزاء الصلاة التامة ، ويكون اطلاقها على الفاسد أو الصحيح الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط بحسب اختلاف حال المكلف بالعناية والتنزيل وادعاء انها هي إذا كان هناك مصحح للادعاء ، بان لا تكون فاقدة لمعظم الاجزاء والشرائط ، وان لم يكن هناك مصحح الادعاء ، فيدور اطلاق الصلاة عليه مدار اطلاق الشارع ، وبعد الاطلاق الشرعي يمكن التنزيل والادعاء بالنسبة إلى ما يكون فاقدا للبعض وما هو فاسد من تلك الحقيقة التي أطلق عليها الشارع الصلاة ، وح لا يلزم هناك مجاز ولا سبك من مجاز ، بل يكون الاطلاق على نحو الحقيقة ، غايته انه لا حقيقة بل ادعاء. هذا حاصل ما افاده في المقام ، موافقا لما افاده الشيخ ( قده ) على ما في تقرير (1) بعض الأجلة. ولازم ذلك ، هو انه لا يمكن التمسك

ص: 63


1- مطارح الأنظار - ص 6 - عند البحث عن تصوير الجامع عند الأعمى من قوله : « وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم .. » وعبر عنه بان ذلك مما لا ينبغي ان يستبعد عند الملاحظ المتأمل في طريقة المحاورات العرفية.

باطلاق قوله لا صلاة الا بفاتحة الكتاب مثلا ، على اعتبار الفاتحة في صلاة الجالس ، للشك في أن المراد من الصلاة في قوله لا صلاة الخ ، هل هي الصلاة التامة التي تكون موضوعا لها لفظ الصلاة؟ أو الأعم من ذلك ومن الصلاة التي تكون صلاة بالتنزيل والادعاء؟ هذا ولكن مع ذلك ربما لا يخلو عن بعض المناقشات ، كما لا تخفى على المتأمل.

ثم لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بالاشتراك المعنوي من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، فلا محيص من أن يكون هناك جامع بين تلك الافراد التي لا تحصى حسب اختلاف أصناف المكلفين ، بحيث وضع اللفظ بإزاء نفس ذلك الجامع حتى يكون الموضوع له عاما ، فالجامع مما لا محيص عنه بعد ابطال الاشتراك اللفظي والاغماض عما ذكرنا في وجه تصحيح الاطلاق ، وحينئذ يقع الاشكال في تصوير الجامع المسمى على كل من القول بالصحيح والأعم. فينبغي ح بيان ما قيل أو يمكن ان يقال في ما يكون جامعا بين الافراد الصحيحة ، أو الأعم منها ومن الفاسدة. وقبل بيان ذلك لابد من تمهيد مقال.

وهو انه لابد ان يكون الجامع على وجه يصلح ان يتعلق به التكليف نفسه ، إذ الجامع انما يكون هو المسمى ، ومن المعلوم ان المسمى هو متعلق التكليف ، فهناك ملازمة بين المسمى وبين متعلق التكليف ، فلا يمكن ان يكون المسمى أمرا ومتعلق التكليف أمرا اخر.

وأيضا لابد ان يكون ذلك الجامع بسيطا على وجه لا يصلح للزيادة والنقيصة بناء على الصحيحي ، إذ لو كان مركبا فكل مركب يتصف بالصحة والفساد باعتبار اشتماله على تمام الاجزاء أو بعضها ، وما يكون قابلا للاتصاف بالصحة والفساد لا يصلح ان يكون جامعا بين الافراد الصحيحة.

وأيضا لابد ان يكون ذلك الجامع مما لا يتوقف تحققه على الامر ، لما عرفت من سبق رتبة المسمى على متعلق الامر ، فضلا عن نفس الامر ، فمثل عنوان ( المطلوب ) أو ( وظيفة الوقت ) وما شابه ذلك من العناوين لا يصلح ان يكون هو الجامع المسمى بالصلاة مثلا ، لتأخر رتبة هذه العناوين عن رتبة المسمى ، مضافا إلى أن الأسماء و

ص: 64

الألفاظ انما تكون موضوعة بإزاء الحقائق ، لا بإزاء المفاهيم العقلية ، فلا يصح ان يكون لفظ الصلاة موضوعا بإزاء مفهوم المطلوب ، بل بإزاء الواقع والحقيقة ، فيسئل عن تلك الحقيقة التي تسمى بالصلاة ما هي؟.

وبالجملة : لا بد ان لايكون ذلك الجامع من سنخ المفاهيم التي لا موطن لها الا العقل ، ولا ما يكون مرتبة وجوده متأخرة عن مرتبة الطلب والامر ، ولا مما يمكن اتصافه بالصحة والفساد ، ولا مما لا يمكن ان يتعلق به الطلب ، فهذه القيود الأربعة مما لابد منها في الجامع.

إذا عرفت ذلك فنقول :

قد قيل إنه يمكن فرض الجامع بين الافراد الصحيحة على وجه يكون هو المسمى ، غايته انه لا يمكن الإشارة إليه تفصيلا بل يشار إليه بوجه ما ، اما من ناحية المعلول ، واما من ناحية العلة ، أي اما من ناحية الأجر والثواب المترتب على افراد الصلاة الصحيحة ، أو من ناحية المصالح والمفاسد التي اقتضت الامر بها.

اما الأول : فتفصيله هو انه لا اشكال في أن وحدة الأثر تستدعى وحدة المؤثر ، إذ لا يمكن صدور الشيء عن متعدد ، ولا يمكن توارد علل متعددة على معلول واحد ، فوحدة الأثر بالنسبة إلى افراد الصلاة الصحيحة المختلفة بالصورة المشتملة على تمام الاجزاء والشرائط تارة وعلى بعضها أخرى لا يمكن الا بان يكون هناك جامع بين تلك الافراد المختلفة يقتضى ذلك الجامع ذلك الأثر ، إذ لا يمكن ان تكون تلك الافراد بما انها متباينة تقتضي ذلك ، لاستلزام ذلك صدور الواحد عن متعدد وهو محال ، فلا محيص من ثبوت جامع بين تلك الافراد يكون هو المؤثر ، ويكون ذلك الجامع هو المسمى بالصلاة ، وهو متعلق الطلب هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

اما أولا : فلامكان تعدد الأثر ومنع وحدته ، بداهة انه لا طريق لنا إلى اثبات وحدة الأثر ، فمن الممكن جدا ان يكون الأثر المترتب على الصلاة الواحدة لجميع الاجزاء والشرائط غير الأثر المترتب على الصلاة الفاقدة لبعضها.

وثانيا : ان الاشتراك في الأثر لا يقتضى وحدة المؤثر بالهوية والحقيقة ولا

ص: 65

دليل على ذلك ، بل الوجدان يقتضى خلافه ، بداهة اشتراك الشمس مع النار في الحرارة مع عدم اتحاد حقيقتهما ، بل هما ممتازان بالهوية. وبالجملة : مجرد اشتراك شيئين في اثر لا يكشف عن اتحاد حقيقتهما ، ولم يقم برهان على ذلك (1) نعم لابد ان يكون بين الشيئين جامع يكون ذلك الجامع هو المؤثر لذلك إذ لا يمكن صدور الواحد عن متعدد ، الا ان مجرد ثبوت الجامع بينهما لا يلازم اتحاد هويتهما وحقيقتهما ، بل من الممكن ان يكونا مختلفي الحقيقة ، ومع ذلك يكون بينهما جامع في بعض المراتب يقتضى ذلك الجامع حصول ذلك الأثر ، فإذا لم يكن ذلك الجامع راجعا إلى وحدة الهوية والحقيقة لم يكن هو المسمى بالصلاة مثلا ، لما عرفت : ان الأسماء انما تكون بإزاء الحقائق ، والمفروض اختلاف حقايق مراتب الصلاة وان كان بينهما جامع بعيد يقتضى اثرا واحدا فتأمل.

وثالثا : الأثر انما يكون مترتبا على الصلاة بعد الاتيان بها وبعد الامر بها ، والامر بها انما يكون بعد التسمية ، فلا يمكن ان يكون ذلك الأثر المتأخر في الوجود عن المسمى بمراتب معرفا وكاشفا عن المسمى ، بداهة انه عند تعيين المسمى لم يكن هناك اثر حتى يكون ذلك الأثر وجها للمسمى لكي يمكن تصور المسمى بوجهه ، لان تصور الشيء بوجهه انما هو فيما إذا كان الوجه سابقا في الوجود عن التصور ، والمفروض ان الأثر انما يكون متأخرا في الوجود من تصور المسمى ، فكيف يمكن جعله معرفا للمسمى فتأمل.

ورابعا : لو جعل المسمى هو ما يترتب عليه ذلك الأثر على وجه يكون ذلك الأثر قيدا في المسمى ، لكان اللازم هو القول بالاشتغال عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، بداهة ان المأمور به ح ليس هو نفس أفعال الصلاة ، بل ما يترتب عليها ذلك الأثر ، فمرجع الشك في جزئية شيء للصلاة هو الشك في ترتب ذلك الأثر على الفاقد لذلك الجزء ، ويكون ح من الشك في حصول ما هو قيد للمأمور به ، ومن

ص: 66


1- فان الاشتراك في اثر غير الاشتراك في جميع الآثار ، كما هو المدعى في المقام ، فان الاشتراك في جميع الآثار يلازم وحدة الحقيقة - منه.

المعلوم : انه لا مجال للبرائة في ذلك ، لان المقام يكون من صغريات الشك في المحصل الذي لا تجرى فيه البراءة ، هذا كله إذا أردنا ان نستكشف الجامع من ناحية المعلول.

وأما إذا أردنا ان نستكشفه من ناحية العلل وملاكات الاحكام ففساده أوضح ، وذلك لعدم امكان تعلق التكليف بالملاكات ، لا بأنفسها ، ولا بما يكون مقيدا بها ، فلا تكون هي المسميات ، ولا ما هو مقيد بها.

وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في المايز ، بين باب الدواعي ، وبين باب المسببات التوليدية ، حتى يتضح ان الملاكات ، هل هي من قبيل الدواعي؟ أو من قبيل المسببات التوليدية؟ ونحن وان استقصينا الكلام في ذلك في الأصول العملية ، بل تكرر منا الكلام في ذلك ، الا انه لا باس بالإشارة الاجمالية إليه في المقام ، لما فيه من المناسبة ونحيل تفصيله إلى تلك المباحث.

فنقول : ان المقصود الأصلي والغرض الأولى للفاعل تارة : يكون هو بنفسه فعلا اختياريا للمكلف من دون نظر إلى ما يترتب على ذلك الفعل من الأثر ، بل إن نفس الفعل يكون مقصودا بالأصالة ، كما إذا كان مقصوده القيام أو القعود وأمثال ذلك.

وأخرى : يكون المقصود الأصلي والغرض الأولى هو الأثر المترتب على ذلك الفعل الاختياري ، بحيث يكون الفعل لمجرد المقدمية للوصول إلى ذلك الأثر. وهذا أيضا تارة : يكون الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير منها لحصول ذلك الأثر ، بحيث لا يتوسط بين الفعل وبين ذلك الأثر شيء اخر أصلا ، كالالقاء بالنسبة إلى الاحراق ، حيث إن اثر الاحراق يترتب على الالقاء في النار ترتب المعلول على علته ، من دون ان يتوسط بين الالقاء والاحراق شيء أصلا. وأخرى : يكون الفعل الاختياري مقدمة اعدادية لترتب ذلك الأثر المقصود ، بحيث يتوسط بين الفعل الاختياري وبين الأثر أمور اخر ، كالزرع فان الأثر المترتب على الزرع هو صيرورته سنبلا ، ومن المعلوم : ان الفعل الاختياري : من البذر والسعي والحرث ، ليس علة تامة لتحقق السنبل ، إذ يحتاج صيرورة الزرع سنبلا إلى مقدمات اخر متوسطة بين ذلك وبين الفعل الاختياري ، كاشراق الشمس ، ونزول الأمطار ،

ص: 67

وغير ذلك. (1) فان كان الأثر المقصود مترتبا على الفعل الاختياري ترتب المعلول على علته ، من دون ان يكون هناك واسطة أصلا ، أمكن تعلق إرادة الفاعل به ، نحو تعلق ارادته بالفعل الاختياري الذي هو السبب لحصول ذلك الأثر ، بداهة ان الأثر يكون مسببا توليديا للفعل ، وما من شانه ذلك يصح تعلق إرادة الفاعل به ، لان قدرته على السبب عين قدرته على المسبب ويكون تعلق الإرادة بكل منهما عين تعلق الإرادة بالآخر (2) ويصح حمل أحدهما على الاخر نحو الحمل الشايع الصناعي فيقال : الالقاء في النار احراق ، إذ لا انفكاك بينهما في الوجود ، وهذا الحمل وان لم يكن حملا شايعا صناعيا بالعناية الأولية ، لان ضابط الحمل الصناعي هو الاتحاد في الوجود ، ولا يمكن اتحاد الوجود بين العلة والمعلول ، الا انه لما لم يمكن الانفكاك بينهما في الوجود وكان المعلول من رشحات وجود العلة صح الحمل بهذه العناية.

وبالجملة : كلما كان نسبة الأثر إلى الفعل الاختياري نسبة المعلول إلى العلة التامة أو الجزء الأخير من العلة يصح تعلق إرادة الفاعل به نحو تعلقها بالفعل الاختياري ، وان كان الفعل الاختياري من المقدمات الاعدادية للأثر المقصود ، فلا يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، لخروجه عن تحت قدرته واختياره ، ولا يمكن تعلق الإرادة بغير المقدور ، بل الإرادة الفاعلية مقصورة التعلق بالفعل الاختياري ، واما ذلك الأثر فلا يصلح الا ان يكون داعيا للفعل الاختياري ، فمثل صيرورة الزرع سنبلا انما يكون داعيا إلى الحرث والسقى ، فظهر الفرق بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية.

وحاصل الفرق ، هو امكان تعلق الإرادة الفاعلية بالمسببات التوليدية ، دون الدواعي ، لتوسط أمور خارجة عن تحت القدرة بين الفعل الاختياري وبين .

ص: 68


1- أفاد ذلك الشاعر بقوله : ابر وباد ومه وخورشيد وفلك در كارند *** تا تو نانى بكف آرى وبه غفلت نخورى - منه.
2- لا يخفى ان باب العلة والمعلول غير باب العناوين التوليدية ، فجعل الالقاء والاحراق من باب العلة والمعلول لا يخلو عن مسامحة ، فعليك بمراجعة ما ذكرناه في أول مقدمة الواجب ( في ضابط البابين ) ولكن لا فرق بين البابين في الجهة المبحوث عنها في المقام ، فتأمل - منه.

الأثر المقصود ، فلا يمكن تعلق إرادة الفاعل به. والضابط الكلي بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية ، هو ما ذكرنا من أنه ان كان الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير منها لحصول الأثر فهذا يكون من المسببات التوليدية ، وان لم يكن كذلك بل كان أول المقدمات أو وسط المقدمات وكان حصول الأثر متوقفا على مقدمات اخر ، فهذا يكون من الدواعي.

وحيث عرفت امكان تعلق إرادة الفاعل بما كان من المسببات التوليدية ، وعدم امكان تعلق الإرادة بما كان من الدواعي ، فنقول : ان هناك ملازمة بين الإرادة الآمرية والإرادة الفاعلية ، وانه كلما صح تعلق إرادة الفاعل به يصح تعلق إرادة الآمر به ، وكلما لا يصح تعلق إرادة الفاعل به لا يصح تعلق إرادة الآمر به ، والسر في ذلك واضح ، لان الإرادة الامرية انما تكون تحريكا للإرادة الفاعلية نحو الشيء المطلوب ، فلابد من أن يكون ذلك الشيء قابلا لتعلق إرادة الفاعل به حتى تتعلق به إرادة الآمر ، فإذا فرض انه لا يمكن تعلق إرادة الفاعل به لكونه غير مقدور له ، فلا يمكن تعلق إرادة الآمر به ، لأنه يكون من طلب المحال.

وحيث قد عرفت : انه لو كان نسبة الفعل الاختياري إلى الأثر الحاصل منه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه التوليدي ، كان تعلق إرادة الفاعل بذلك المسبب بمكان من الامكان ، فيصح تعلق إرادة الامر بايجاد ذلك المسبب ، بل لا فرق في الحقيقة بين تعلق الامر بالسبب أو بالمسبب ، لان تعلقه بالسبب أيضا لمكان انه يتولد منه المسبب ، ومن هنا قيل : في (1) مقدمة الواجب : ان البحث عن وجوب السبب قليل الجدوى ، إذ تعلق الامر بالمسبب هو عين تعلقه بالسبب وبالعكس ، فلا فرق بين ان يقول أحرق الثوب ، أو الق الثوب في النار ، لان الامر بالالقاء انما هو من حيث ترتب الاحراق عليه ، فيكون الالقاء معنونا بعنوان الاحراق. )

ص: 69


1- والقائل هو صاحب المعالم قدس سره ، فإنه قد صرح في مبحث مقدمة الواجب من المعالم : « .. فالذي أراه ان البحث في السبب قليل الجدوى ، لان تعليق الامر بالمسبب نادر ، واثر الشك في وجوبه هين » ( معالم الأصول. ص 64 )

وهذا هو المراد لما ذكره الشيخ قده (1) في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين : من أنه لو كان المأمور به عنوانا لفعل المكلف لم تجر فيه البراءة ، إذ العنوانية انما تكون فيما إذا كان المأمور به من المسببات التوليدية لفعل المكلف ويكون فعل المكلف سببا له ، فإنه يكون الفعل معنونا بذلك المسبب ولا تجرى فيه البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، بداهة ان فعل المكلف بما هو لم يكن متعلق التكليف ، بل متعلق التكليف هو ما يستتبع الفعل من السبب ، فلو شك في أن الجزء الفلاني له دخل في ترتب المسبب كان مقتضى الأصل عدم الترتب ويلزمه الاشتغال ، من غير فرق بين ان يتعلق الامر بالمسبب فيقول : أحرق الثوب ، وبين ان يتعلق بالسبب فيقول : الق الثوب في النار ، لما عرفت من أن الامر بالالقاء لا لمطلوبية نفس الالقاء بما هو فعل من أفعال المكلف ، بل بما هو محصل للاحراق ، فعند الشك في حصول الاحراق لاحتمال دخل شيء فيه كان اللازم فيه هو الاحتياط ، ولا مجال للبرائة أصلا ، كما هو الشأن في الشك في باب المحصلات مط.

هذا كله فيما إذا كان الأثر من المسببات التوليدية لفعل المكلف وأما إذا كان الأثر من الدواعي ، وكان الفعل من المقدمات الاعدادية ، فحيث لا يصح تعلق إرادة الفاعل به فلا يصح تعلق إرادة الامر بايجاده ، لما عرفت من الملازمة ، فمتعلق التكليف انما يكون هو الفعل الاختياري لا غير ، ولو شك في اعتبار جزء أو شرط فيه تجرى فيه البراءة ، إذ ليس وراء الفعل شيء تعلق التكليف به ، والمفروض ان الفعل المتعلق به التكليف مردد بن الأقل والأكثر ، فالبرائة العقلية والشرعية أو خصوص

ص: 70


1- ذكر الشيخ قدس سره في المسألة الأولى من صور دوران الامر في الواجب بين الأقل والأكثر بعد الفراغ عن تقريب حكم العقل : « نعم قد يأمر المولى بمركب يعلم أن المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله إذا اتى بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك كما إذا امر بمعجون وعلم أن المقصود منه اسهال الصفراء بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنه الغرض من المأمور به ، فان تحصيل العلم باتيان المأمور به لازم كما سيجيء في المسألة الرابعة ». واختار هناك بان الشك فيه كان من قبيل الشك في المحصل الذي يجب فيه الاحتياط. ( فرائد الأصول ص 265 - 254 )

الشرعية تجرى بلا مانع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ضابط جريان البراءة في الأقل والأكثر وعدم جريانها ، وانه لو كان الأثر المترتب على الفعل الاختياري من المسببات التوليدية فلا تجرى فيه البراءة لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، وان كان الأثر من الدواعي فالبرائة تجرى فيه لان نفس متعلق التكليف مردد بين الأقل والأكثر.

ثم انه ان علم أن الأثر من أي القبيلين فهو ، وان لم يعلم ، فان كان هناك مايز عرفي فهو المتبع ، كما في الطهارة الخبيثة ، حيث إن العرف يفهم من الامر بالغسل ان الامر به انما هو لافراغ المحل عن القذارة والخباثة ، لا بما انه غسل واجراء الماء على المحل ، ففي مثل هذا يكون الغسل معنونا بالطهارة ، وتكون الطهارة بنظر العرف من المسببات التوليدية للغسل ، فلو شك في حصول الطهارة بالغسل الكذائي كمرة في البول ، كان مقتضى الأصل عدم حصول الطهارة ، من غير فرق بين تعلق الامر بالطهارة وبين تعلقه بالغسل ، لان المرتكز العرفي في الامر بالغسل انما هو الغسل المستتبع للطهارة المعنون بذلك ، كالأمر بالالقاء من حيث تعنونه بالاحراق ، وعلى هذا يترتب فروع كثيرة في باب الطهارة الخبثية.

وان لم يكن هناك مايز عرفي ، فلا طريق لنا إلى معرفة كون الأثر من المسببات أو من الدواعي ، الا من ظاهر الامر ، فان تعلق الامر بالأثر ، فمن نفس تعلقه يستكشف انه من المسببات التوليدية ، لاستحالة تعلق الامر بما لايكون فعلا اختياريا ولا مسببا توليديا ، ويلزمه عدم جريان البراءة كما عرفت. وان لم يتعلق التكليف به ، بل تعلق بنفس الفعل الاختياري فيستكشف من ذلك كشفا آنيا ان متعلق التكليف هو نفس الفعل ، وذلك الأثر لايكون من المسببات التوليدية ، إذ لو كان كذلك لوجب على الحكيم التنبيه عليه بعد ما لم يكن مرتكزا عرفيا ، بداهة انه لو كان متعلق التكليف هو الأثر الحاصل من الفعل الاختياري لا نفسه لكان قد أخل بغرضه حيث لم يبينه. ومن هنا قيل : ان القول بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات من حيث خلو الاخبار عن التكليف به ، مع أنه ليس مما يفهمه العرف.

ص: 71

وبالجملة : من نفس تعلق التكليف بالفعل الاختياري يستكشف انه هو المأمور به ، لا الأثر الحاصل منه ، والا لوجب التنبيه عليه ، والا لم يكن الآمر متكلما على طبق غرضه ويكون قد أخل ببيان غرضه ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت ذلك كله ، فنقول :

ان باب الملاكات وعلل التشريع لا تكون من المسببات التوليدية لافعال العباد ، بل ليست العبادات بالنسبة إلى الملاكات الا كنسبة المقدمات الاعدادية ، والذي يدل على ذلك عدم وقوع التكليف بها في شيء من الموارد ، من أول كتاب الطهارة إلى اخر كتاب الديات. فالملاكات انما تكون من باب الدواعي ، لا المسببات التوليدية ، وليست الصلاة بنفسها علة تامة لمعراج المؤمن والنهى عن الفحشاء ، ولا الصوم بنفسه علة تامة لكونه جنة من النار ، ولا الزكاة بنفسها علة تامة لنمو المال ، بل تحتاج هذه المقدمات إلى مقدمات اخر ، من تصفية الملائكة وغيرها حتى تتحقق تلك الآثار ، كما يدل على ذلك بعض الاخبار. فإذا لم تكن الملاكات من المسببات التوليدية ، فلا يصح تعلق التكليف بها ، لا بنفسها ، ولا باخذها قيدا لمتعلق التكليف ، فكما لا يصح التكليف بايجاد معراج المؤمن مثلا. لا يصح التكليف بالصلاة المقيدة بكونها معراج المؤمن ، إذ يعتبر في التكليف ان يكون بتمام قيوده مقدورا عليه ، فإذا لم يصح التكليف بوجه من الوجوه بالملاكات لم يصح ان تكون هي الجامع بين الافراد الصحيحة للصلاة ، ولا اخذها معرفا وكاشفا عن الجامع ، بداهة انه يعتبر في المعرف ان يكون ملازما للمعرف بوجه ، وبعد ما لم تكن الملاكات من المسببات التوليدية لا يصح اخذ الجامع من ناحية الملاكات.

والحاصل : انه قد عرفت ان هناك ملازمة بين الجامع المسمى وبين كونه متعلق التكليف ، فإذا لم يمكن تعلق التكليف بالملاكات بوجه من الوجوه لا يصح استكشاف الجامع من ناحية الملاكات بوجه من الوجوه ، لا على أن تكون هي المسمى ، ولا قيدا في المسمى ، ولا كاشفا عن المسمى ، بداهة انه بعد ما كانت الملاكات من باب الدواعي وكان تخلف الدواعي عن الأفعال الاختيارية بمكان

ص: 72

من الامكان ، فكيف يصح اخذها معرفا أو قيدا للمسمى ، فتأمل (1) جيدا.

ثم على فرض تسليم كون الملاكات من المسببات التوليدية واخذ الجامع من ناحيتها بأي وجه كان ، فلا محيص عن القول بالاشتغال وسد باب اجراء البراءة في العبادات بالمرة ، لما عرفت : من أن الأثر المقصود لو كان مسببا توليديا للفعل الاختياري ، كان تعلق التكليف بالسبب أو بالمسبب موجبا لرجوع الشك في اعتبار شيء إلى الشك في المحصل ، ولا مجال فيه لاجراء البراءة.

وما يقال : من أن المسبب التوليدي إذا كان مغايرا في الوجود للسبب كان الامر كما ذكر من القول بالاشتغال ، وأما إذا كان متحدا معه في الوجود فنفس متعلق التكليف يكون مرددا بين الأقل والأكثر ولا مانع من الرجوع إلى البراءة حينئذ ، فليس بشيء ، إذ لا نعقل ان يكون هناك مسبب توليدي يكون متحدا في الوجود مع السبب على وجه يرجع الشك في حصوله إلى الشك في نفس متعلق التكليف فتأمل.

فتحصل : ان تصوير الجامع بناء على الصحيح في غاية الاشكال ، بل مما لا يمكن.

نعم يمكن ان يقال في خصوص الصلاة ، ان المسمى هو الهيئة الاتصالية القائمة بالاجزاء المستكشفة من أدلة القواطع ، وهذه الهيئة المعبر عنها بالجزء الصوري محفوظة في جميع افراد الصلاة ، لعموم أدلة القواطع بالنسبة إلى جميع افراد الصلاة على حسب اختلاف حالات المكلفين ، وهذه الهيئة امر واحد مستمر يوجد بأول الصلاة وينتهي باخرها ، وبهذا الاعتبار يجرى فيه الاستصحاب عند الشك في عروض القاطع ، هذا. .

ص: 73


1- وكذا لا يمكن جعل الملاكات من قبيل الصور النوعية والاجزاء من قبيل المواد على وجه لا يضر تبادلها ببقاء الصورة ، فتكون الصلاة موضوعة بإزاء تلك الصورة القائمة بتلك المواد المتبادلة ، حسب اختلاف حالات المكلفين. ونقل ان شيخنا الأستاذ مد ظله كان يميل إلى هذا الوجه في الدورة السابقة ، ولكن أشكل عليه في هذه الدورة بعين ما أشكل على الوجه الأول : من أن تلك الصورة لا يمكن ان تكون متعلق التكليف ، مع أنه يلزم القول بالاشتغال ، فتأمل - منه.

ولكن الانصاف : ان ذلك أيضا لا يخلو عن اشكال ، لمنع ان يكون هناك امر وجودي قائم باجزاء الصلاة ، وأدلة القواطع لا يستفاد منها أزيد من اعتبار عدم تخلل القواطع. من الالتفات والوثبة وغير ذلك في أثناء الصلاة ، مع أنه لو سلم ان هناك امر وجودي قائم بالاجزاء ، فكونه هو المسمى ومتعلق التكليف محل منع. هذا كله بناء على الصحيح.

واما بناء على الأعم ، فتصوير الجامع فيه أشكل ، والوجوه التي ذكروها في تصويره لا تخلو عن مناقشة.

فمنها : ما نسب إلى المحقق القمي (1) من أن المسمى هو خصوص الأركان ، واما الزايد عليها فهي أمور خارجة عن المسمى اعتبرها الشارع في المأمور به.

وفيه ما لا يخفى.

اما أولا : فلوضوح ان التسمية لا تدور مدار الأركان ، إذ يصح السلب عن الفاقد لما عدا الأركان ، كما لا يصح السلب عن الواجد لما عدا بعض الأركان. وكان منشأ توهم كون المسمى هو الأركان ، هو ما يستفاد من صحيحة (2) لا تعاد ، من صحة الصلاة الفاقدة لما عد الأركان إذا كان ذلك عن نسيان هذا.

ص: 74


1- ومن استظهر ذلك من كلام صاحب القوانين الشيخ قدس سره في التقريرات. قال : « أحدها : ما يظهر من المحقق القمي من كون ألفاظ العبادات اسما للقدر المشترك بين اجزاء معلومة كالأركان الأربعة في الصلاة وبين ما هو أزيد من ذلك وان لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زايد عليها صحيحة في الخارج ، فجميع هذه الافراد ، أعني لصحيحة المشتملة على الأركان والزائدة عليها ، والفاسدة المقتصرة عليها والزائدة عليها من حقيقة الصلاة ويطلق على جميعها لفظ الصلاة على وجه الاشتراك المعنوي ، ولعل نظره بعد ما ذهب إليه من القول بالأعم إلى الحكم باجزاء الصلاة المشتملة على الأركان وان لم يشتمل على جزء غيرها إذا وقعت نسيانا ، فجعل الأركان مدار صدق التسمية ، ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد الأركان وان اشتملت على بقية الاجزاء والصدق مع وجودها وان لم يشتمل على شيء من الاجزاء والشرائط ». مطارح الأنظار مبحث الصحيح والأعم. الهداية الثانية ( تصوير الجامع على مذهب الأعمى ) ص 5. راجع القوانين ، قانون ، كل ما ورد في كلام الشارع فلابد ان يحمل على ما علم ارادته. بحث الصحيح والأعم. ص 17 - 18
2- الوسائل. الجزء 4 - كتاب الصلاة. الباب 7 من أبواب التشهد. لحديث 1 ص 995

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنه مضافا إلى أن ذلك مقصور بصورة النسيان ، دون سائر الاعذار ، لوضوح ان العاجز عن الأركان تصح منه الصلاة الفاقدة للأركان ، ان اجتزاء الشارع بخصوص الأركان في صورة النسيان لا يدل على أن المسمى هو خصوص الأركان.

واما ثانيا : فلان نفس الأركان تختلف بحسب اختلاف حال المكلف ، بداهة ان الواجب في الركوع أولا هو الانحناء إلى أن يبلغ كفاه ركبتيه ، فان عجز عن ذلك يجب عليه الانحناء بمقدار ما تمكن إلى أن يبلغ الايماء ، وكذا الحال في سائر الأركان ، فالقول بان المسمى هو خصوص الأركان ، اما ان يراد به خصوص الأركان التامة في حال الاختيار ، واما ان يراد به الأركان بجميع مراتبها ، فان كان المراد هو الأول يلزمه عدم صدق الصلاة على من لم يتمكن من الأركان التامة ، والالتزام بذلك كما ترى. وان كان المراد هو الثاني يلزمه القول بالوضع للجامع بين مراتب الأركان ، فيقع الكلام في ذلك الجامع وانه ما هو؟ فيعود المحذور ، كما لا يخفى ذلك على التأمل.

واما ثالثا : فلان الاجزاء الاخر غير الأركان ، اما ان يقال : بخروجها عن المسمى عند وجودها ، واما ان يقال : بدخولها ، فان قيل بخروجها يلزم ان يكون اطلاق الصلاة على التامة الاجزاء مجازا من باب اطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل ، وهو كما ترى. وان قيل بالثاني يلزم ان تكون الاجزاء عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عن المسمى فيعود المحذور والاشكال ، إذ مبنى الاشكال ، هو انه كيف يعقل ان يكون الشيء الواحد داخلا وخارجا في الماهية؟ مع امتناع اختلاف معنى واحد بالزيادة والنقصان.

وتوهم انه يمكن ان تكون الصلاة من الماهيات القابلة للتشكيك بناء على امكان التشكيك في الذاتيات فتكون الصلاة حينئذ من الماهيات القابلة للشدة والضعف ، بزيادة بعض الاجزاء ونقصانها مع انحفاظ الماهية في جميع المراتب ، وليس شيء من تلك المراتب خارجا عن الهوية والذات ، كالسواد الضعيف والشديد ، حيث يكون كل من الشدة والضعف من مراتب نفس السواد وليسا

ص: 75

خارجين عن حقيقته ، ويكون ما به الامتياز عن ما به الاشتراك.

ففساده غنى عن البيان ، بداهة ان التشكيك انما يمكن في البسيط المتحد الحقيقة كالسواد ، لا في مختلفي الحقيقة كالصلاة التي تكون مركبة من عدة اجزاء مختلفة في المقولة ، حيث إن بعضها من مقولة الفعل ، وبعضها من مقولة الوضع.

والحاصل : ان التشكيك انما يكون في مثل الوجود ، والمقولات الكيفية : من السواد والبياض ، ولا يعقل التشكيك في المركبات التي تكون اجزائها مختلفة بالحقيقة كما هو أوضح من أن يخفى.

ومنها : ما نسب إلى المعظم من أن الصلاة موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور التسمية مداره.

وفيه : ما لا يخفى ، بداهة انه ان أريد ان الصلاة موضوعة لمفهوم المعظم ، ففساده غنى عن البيان ، فان الألفاظ موضوعة بإزاء الحقايق ، لا المفاهيم التي لا موطن لها الا العقل كما تقدم ، وان أريد واقع المعظم وحقيقته ، فالمفروض ان المعظم يختلف حسب اختلاف حالات المكلفين ، فيلزم كون المعظم بالنسبة إلى بعض غير المعظم بالنسبة إلى الاخر ، فيعود المحذور ، وهو كون الشيء الواحد داخلا عند وجوده وخارجا عند عدمه ، مع أنه يلزم ان يكون اطلاق الصلاة على التامة الاجزاء والشرائط مجازا بعلاقة الكل والجزء كما تقدم.

وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله ، إلى تصحيح كون الصلاة مثلا موضوعة لمعظم الاجزاء ، بتقريب كون الموضوع له من قبيل الكلي في المعين الصادق على كل ما يمكن ان ينطبق عليه ، نظير الصاع من الصبرة ، فتكون الصلاة مثلا موضوعة لسبعة اجزاء من عشرة اجزاء على نحو الكلي ، بحيث لا يضر تبادل السبعة بحسب اختلاف الحالات فتأمل ، فإنه يلزم أيضا ان يكون الاطلاق على مجموع العشرة مجازا كما لا يخفى ، مع أن تصوير كون المسمى من قبيل الكلي في المعين ، بحيث يكون المسمى محفوظا مع تبادل المعظم ، في غاية الاشكال.

ومنها : غير ذلك ، مما لا يخفى على المراجع ، مع ما فيها من الاشكالات. فالانصاف : ان تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة في غاية الاشكال ، فضلا عن

ص: 76

تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة والفاسدة.

ثم انه قد استدل لكل من القول بالصحيح والأعم بما لا يخلو عن مناقشة ، ولا يهمنا التعرض لها ، انما المهم بيان ما قيل في الثمرة بين القولين ، وقد ذكر لذلك ثمرتان : الأولى : صحة التمسك بالاطلاقات بناء على الأعم ، وعدم صحته بناء على الصحيح. الثانية : عدم جريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط بناء على الصحيح ، وجريانها بناء على الأعم.

وتوضيح ذلك : هو انه لا ينبغي الاشكال في عدم جواز التمسك بالاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة : من قوله تعالى أقيموا الصلاة ، واتوا الزكاة ، ولله على الناس حج البيت ، إلى غير ذلك ، الا بعد معرفة الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والعلم بما هو المصطلح عليه شرعا من هذه الألفاظ ، بداهة ان هذه الماهيات من المخترعات الشرعية ، وليس في العرف منها عين ولا اثر ، فلو خلينا وأنفسنا لم نفهم من قوله - أقيموا الصلاة - شيئا ، فلا يمكن ان تكون مثل هذه الاطلاقات واردة في مقام البيان.

نعم بعد معرفة ما هو المصطلح الشرعي من هذه الألفاظ والعلم بعدة من الاجزاء والشرائط بدليل منفصل ، تظهر الثمرة حينئذ بين الأعمي والصحيحي ، إذ بعد معرفة عدة من الاجزاء بحيث يصدق عليها المسمى ، ويطلق عليها في عرف المتشرعة - الذي هو مرآت للمراد الشرعي - انها صلاة أو حج ، فبناء على الأعم يتمسك بالاطلاق في نفى اعتبار ما شك في جزئيته أو شرطيته ، الا إذا شك في مدخلية المشكوك في المسمى ، وهذا في الحقيقة ليس تمسكا باطلاق أقيموا الصلاة ، بل هو تمسك باطلاق ما دل على اعتبار تلك الأجزاء والشرائط كما لا يخفى.

والحاصل : انه بناء على الأعم يمكن التمسك باطلاق قوله : (1) انما صلوتنا هذه ذكر ودعاء وركوع وسجود ، ليس فيها شيء من كلام الآدميين - على نفى جزئية شيء لو فرض انه وارد في مقام البيان للمسمى بالصلاة ، واما لو كان واردا في مقام

ص: 77


1- راجع المستدرك المجلد الأول كتاب الصلاة. الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة الحديث 9 ، ص 995

بيان ما هو المأمور به ، فيمكن التمسك باطلاقه على كلا القولين. واما بناء على الصحيحي فلا يمكن التمسك باطلاق ذلك ، لاحتمال ان يكون المشكوك له دخل في الصحة. نعم يمكن التمسك بالاطلاق المقامي في مثل صحيحة حماد (1) الواردة في مقام بيان كل ماله دخل في الصلاة ، ولو فرض كون الصلاة اسما لذلك الجامع الذي يكون هذه الأفعال محصلة له ، فان مثل صحيحة حماد حينئذ تكون واردة في مقام بيان كل ماله دخل في حصول ذلك الجامع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التمسك بالاطلاقات الواردة في الكتاب لا يمكن على كلا القولين ، ووجهه : انه لا يمكن ان تكون تلك الاطلاقات واردة في مقام البيان ، والتمسك باطلاق مثل صيحة حماد يمكن على القولين ، والتمسك باطلاق مثل قوله علیه السلام انما صلوتنا هذه ذكر ودعاء ، يصح على الأعمى لو كان واردا في مقام بيان المسمى.

وما يقال : من أنه لا يمكن التمسك باطلاق ذلك حتى على القول بالأعمى ، للعلم بان المراد ومتعلق الطلب هو الصحيح وان كان اللفظ موضوعا للأعم ، فمجرد صدق المسمى لا يكفي في نفى ما شك في جزئيته مع عدم العلم بحصول المراد ، - ففساده غنى عن البيان ، لأن الصحيح ليس الا ما قام الدليل على اعتباره ، والمفروض ان ما قام الدليل على اعتباره هو هذا المقدار ، فبالاطلاق يحرز ان الصحيح هو ما تكفله الدليل ، كما هو الشأن في جميع الاطلاقات ، والمانع من التمسك بالاطلاق - بناء على القول الصحيحي - هو ان متعلق التكليف امر اخر غير ما تكفله الاطلاق ، فلا يمكن احرازه بالاطلاق ، وهذا بخلاف القول الأعمى ، فان متعلق التكليف بناء عليه هو نفس ما تكفله الاطلاق ، فتأمل في المقام جيدا. هذا كله في الثمرة الأولى.

واما الثمرة الثانية :

وهي الرجوع إلى الأصول العملية ، فقد قيل : انه لافرق في الرجوع إلى

ص: 78


1- راجع الوسائل ، الجزء 4 كتاب الصلاة الباب 1 من أبواب الصلاة الحديث 1 ص 673

البراءة والاشتغال على القولين عند فقد الأصول اللفظية ، ولكن الحق هو التفصيل ، لما عرفت من أنه بناء على الصحيح واخذ الجامع بالمعنى المتقدم لا محيص من القول بالاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، وعدم التزام القائلين بالصحيح بذلك لا ينافي ذلك ، إذ التكلم في المقام انما هو على ما تقضيه القاعدة ، والقاعدة تقتضي الاشتغال بناء على الصحيح ولا بد من التزامهم بذلك فعدم التزامهم بذلك ينافي مبناهم ، أو يكشف عن فساد المبنى فتأمل. هذا كله بناء على مشرب القوم.

واما بناء على ما اخترناه : من أن الصلاة انما تكون اسما للتامة الاجزاء والشرائط وهي التي تستحق اطلاق الصلاة عليها أولا وبالذات وبلا عناية واطلاق الصلاة على ما عدا ذلك انما يكون بعناية الاجتزاء حيث إن الشارع لما اجتزء عند الاستعجال بما عدا السورة ، صح اطلاق الصلاة على الفاقدة للسورة عند الاستعجال ، ولمكان المشابهة في الصورة صح اطلاق الصلاة على الفاقدة للسورة ، ولولا الاستعجال تكون حينئذ فاسدة ، نظير سبك المجاز من المجاز ، وان لم يكن هو هو حقيقة ، على ما تقدم ، فجريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط واضح ، لان متعلق التكليف يكون حينئذ نفس الاجزاء.

نعم في التمسك بالاطلاقات اشكال تقدم وجهه ، ولكن الاشكال بالتمسك بالاطلاقات مطرد على جميع المسالك ، فلا ينبغي جعل مسألة التمسك بالاطلاقات من ثمرات الصحيح والأعم ، بل تختص الثمرة بالرجوع إلى الأصول على عكس ما ذكره في الكفاية (1) من اختصاص الثمرة بالتمسك بالاطلاقات ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في العبادات.

واما المعاملات :

فظاهر عبارة الشهيد قده (2) انها كالعبادات في وضعها للصحيح ، حيث .

ص: 79


1- كفاية الأصول الجلد الأول ص 43 - 42 « ومنها ان ثمرة النزاع .. »
2- قال الشهيد الأول قدس سره في القواعد : « الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد الا الحج لوجوب المضي فيه ». القواعد والفوائد ، القسم الأول - الفائدة الثانية من قاعدة 43 ص 158 - الطبعة الجديدة.

عطف العقود على الماهيات المخترعة في عبارته المحكية عن القواعد ، وحينئذ ربما يشكل عليه بأنها لو كانت موضوعة للصحيح ، فلازمه عدم جواز التمسك بالمطلقات الواردة في باب المعاملات على نفى ما شك في اعتباره ، كالماضوية ، والعربية ، كما كان لازم القول بوضع العبادات للصحيح عدم التمسك بالمطلقات عند الشك في اعتبار شيء منها ، على ما عرفت ، مع أنه جرت سيرة الاعلام على التمسك بالمطلقات في باب المعاملات ، ولولا التمسك بالمطلقات لكان اللازم هو الاحتياط ، لان الأصل العملي في المعاملات يقتضى الفساد.

والتحقيق في حل الاشكال : هو انه لو قلنا بان ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب ونفس العقد من الايجاب والقبول ، فلا ينبغي الاشكال في صحة التمسك بالمطلقات ولو قلنا بأنها موضوعة للصحيحة ، لان الاطلاق يكون منزلا على ما يراه العرف صحيحا ، حيث كانت الأسباب أمورا عرفية ، واطلاق دليل الامضاء يدل على امضاء كل ما هو سبب عند العرف ، فالعقد الفارسي لو كان عند العرف سببا لحصول الملكية أو الزوجية كان اطلاق أحل اللّه البيع امضاء لذلك.

نعم لو قلنا بأنها موضوعة للمسببات - كما هو كذلك بداهة ان ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء المسببات لا الأسباب ، ولا محل لتوهم ان البيع مثلا اسم للسبب ، نعم في خصوص قوله تعالى أوفوا بالعقود ربما يتوهم ذلك ، الا انه مع ذلك لا يصح بقرينة الوفاء الذي لا يتعلق الا بالمسبب - فيشكل الامر ، لان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب.

وما يقال في حله : من أن امضاء المسبب يلازم عرفا امضاء السبب ، إذ لولا امضاء السبب كان امضاء المسبب لغوا ، فليس بشيء ، إذ لا ملازمة عرفا في ذلك وان يظهر (1) من الشيخ ( قده ) الميل إلى ذلك حسب ما افاده قبل المعاطاة بأسطر

ص: 80


1- قال الشيخ في المكاسب بعد ذكر كلام الشهيد الثاني في المسالك. والشهيد الأول في القواعد : « ويشكل ما ذكراه بان وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو أحل اللّه البيع واطلاقات أدلة ساير العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها ، مع أن سيرة علماء الاسلام التمسك بها في هذه المقامات. نعم يمكن ان يقال : ان البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول القائل ( بعت ) عند الانشاء لا يستعمل حقيقة الا فيما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظرهم ، ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده والا كان صورة بيع نظير بيع الهازل عند العرف. فالبيع الّذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل (بعت) عند العرف و الشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر و مجاز في غيره إلّا ان الإفادة و ثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف و الشرع، و اما وجه تمسك العلماء بإطلاق أدلة البيع و نحوه فلأنّ الخطابات لما وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعيّة على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف أو على المصدر الّذي يراد من لفظ بعت فيستدل بإطلاق الحكم بحلّه أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا فتأمل ... (المكاسب، كتاب البيع، ص 81- 80)

عند نقل كلام الشهيد ( قده ) واللغوية انما تكون إذا لم يجعل الشارع سببا ، أو لم يمض سببا أصلا ، إذ لا لغوية لو جعل سببا أو امضى سببا في الجملة ، غايته انه يلزم حينئذ الاخذ بالمتيقن ، فلزوم اللغوية لا يقتضى امضاء كل سبب ، بل يقتضى امضاء سبب في الجملة ، ويلزمه الاخذ بالمتيقن.

فالتحقيق في حل الاشكال : هو ان باب العقود والايقاعات ليست من باب الأسباب والمسببات ، ان أطلق عليها ذلك ، بل انما هي من باب الايجاد بالآلة ، والفرق بين باب الأسباب والمسببات ، وبين باب الايجاد بالآلة ، هو ان المسبب في باب الأسباب لم يكن بنفسه فعلا اختياريا للفاعل ، بحيث تتعلق به ارادته أولا وبالذات ، بل الفعل الاختياري وما تتعلق به الإرادة هو السبب ، ويلزمه حصول المسبب قهرا.

وهذا بخلاف باب الايجاد بالآلة ، فان ما يوجد بالآلة كالكتابة ، هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ، ومتعلق لإرادته ويصدر عنه أولا وبالذات ، فان الكتابة ليس الا عبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص ، وهذا هو بنفسه فعل اختياري صادر عن المكلف أولا وبالذات ، بخلاف الاحراق ، فان الصادر عن المكلف هو الالقاء في النار لا الاحراق ، وكذا الكلام في سائر ما يوجد بالآلة : من آلات النجار ، والصايغ ، والحداد ، وغير ذلك ، فان جميع ما يوجده النجار يكون فعلا اختياريا له ، والمنشار مثلا آلة لايجاده ، وباب العقود والايقاعات كلها من هذا القبيل ، فان هذه الألفاظ كلها آلة لايجاد الملكية ، والزوجية ، والفرقة ، وغير ذلك ،

ص: 81

وليس البيع مثلا مسببا توليديا لهذه الألفاظ ، بل البيع هو بنفسه فعل اختياري للفاعل متعلق لإرادته أولا وبالذات ، ويكون ايجاده بيده ، فمعنى حلية البيع هو حلية ايجاده ، فكل ما يكون ايجادا للبيع بنظر العرف فهو مندرج تحت اطلاق قوله تعالى : أحل اللّه البيع ، والمفروض ان العقد بالفارسية مثلا يكون مصداقا لايجاد البيع بنظر العرف ، فيشمله اطلاق حلية البيع ، وكذا الكلام في سائر الأدلة وساير الأبواب ، فيرتفع موضوع الاشكال ، إذ مبنى الاشكال هو تخيل ان المنشئات بالعقود من قبيل المسببات التوليدية ، فيستشكل فيه من جهة ان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب ، والحال ان الامر ليس كذلك ، فتأمل في المقام جيدا.

المبحث الثالث في المشتق

اشارة

وتحقيق الحال فيه يستدعى رسم أمور :

( الامر الأول )

اختلفوا في أن اطلاق المشتق على ما انقضى عنه التلبس بالمبدء ، هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟ بعد اتفاقهم على المجازية بالنسبة إلى من يتلبس في المستقبل ، وعلى الحقيقة بالنسبة إلى المتلبس في الحال.

والسر في اتفاقهم على المجازية في المستقبل ، والاختلاف فيما انقضى ، هو ان المشتق لما كان عنوانا متولدا من قيام العرض بموضوعه ، من دون ان يكون الزمان مأخوذا في حقيقته ، بل لم يؤخذ الزمان في الافعال - كما سيأتي - فضلا عن المشتق ، وقع الاختلاف بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدء حيث إنه قد تولد عنوان المشتق لمكان قيام العرض بمحله في الزمان الماضي ، وهذا بخلاف من يتلبس بعد ، فإنه لم يتولد عنوان المشتق لعدم قيام العرض بمحله ، فكان للنزاع في ذلك مجال ، دون هذا ، إذ يمكن ان يقال فيما تولد عنوان المشتق : ان حدوث التولد في الجملة ولو فيما مضى يكفي في صدق العنوان على وجه الحقيقة ولو انقضى عنه المبدء ، كما أنه يمكن ان يقال : انه يعتبر في صدق العنوان على وجه الحقيقة بقاء التولد في الحال ، ولا يكفي حدوثه مع انقضائه. هذا فيما إذا تولد عنوان المشتق في الجملة.

واما فيما لم يتولد فلا مجال للنزاع في أنه على نحو الحقيقة ، لعدم قيام العرض

ص: 82

بمحله ، فكيف يمكن ان يتوهم صدق العنوان على وجه الحقيقة ، مع أنه لم يتحقق العنوان بعد ، فلا بد ان يكون على وجه المجاز بعلاقة الأول والمشارفة.

( الامر الثاني )

لا اشكال في اختصاص النزاع بالعناوين العرضية المتولدة من قيام أحد المقولات بمحالها ، وخروج العناوين الذاتية التي يتقوم بها الذات وما به قوام شيئية الشيء ، كحجرية الحجر ، وانسانية الانسان ، وما شابه ذلك من المصادر الجعلية التي بها قوام الشيء ، فلا يصح اطلاق الحجر على ما لايكون متلبسا بعنوان الحجرية فعلا ، ولا اطلاق الانسان على ما لايكون متلبسا بالانسانية فعلا ، فلا يقال للتراب : انه انسان باعتبار انه ، أحد العناصر التي يتولد منها الانسان ، وذلك لان انسانية الانسان ليست بالتراب ، بل انما تكون بالصورة النوعية التي بها يمتاز الانسان عن غيره ، بل التراب لم يكن انسانا في حال من الحالات ، حتى في حال تولد الانسان منه ، فضلا عن حال عدم التولد. وبعبارة أخرى : في حال كون الانسان انسانا لم يكن انسانيته بالتراب الذي هو أحد عناصره ، بل انسانيته انما هي بالصورة النوعية ، فإذا لم يكن التراب في حال كونه عنصر الانسان مما يصح اطلاق اسم الانسان عليه ، فكيف يصح اطلاق اسم الانسان عليه في غير ذلك الحال ، مع أنه لا علاقة بينه وبين الانسان ، حتى علاقة الأول والمشارفة ، لان التراب لا يصير انسانا ، ولا يؤل إليه ابدا.

وهذا بخلاف العناوين العرضية ، كضارب ، فان ضاربية الضارب انما يكون بالضرب ، لمكان قيام الضرب به على جهة الصدور ، ومن المعلوم : ان من لم يكن ضاربا في الحال ، هو الذي يكون ضاربا في الغد حقيقة ، وهو الذي يتعنون بهذا العنوان ، واليه مآله ، فعلاقة الأول والمشارفة في مثل هذا ثابتة ومتحققة ، بخلاف التراب والانسان حيث لم يكن مآل التراب إلى الانسان في حال من الحالات ، بخلاف ضارب ، فان الذي يكون ضاربا هو زيد ، فصح اطلاق الضارب على زيد بعلاقة انه يؤل إلى هذا العنوان في المستقبل.

وحاصل الكلام : انه فرق ، بين أسماء الذوات : من الأجناس والأنواع

ص: 83

والاعلام ، وبين أسماء العرضيات ، فإنه في الأول لا يصح اطلاق الاسم عليها الا في حال ثبوت الذات بما لها من الصور النوعية التي بها يتحقق عنوان الذات كحيوانية الحيوان وانسانية الانسان وزيدية زيد ، بخلاف الثاني ، فإنه يصح اطلاق الاسم عليها ، وان لم تكن متلبسة بالعرض فعلا بعلاقة الأول والمشارفة.

وكذا الكلام في علاقة ما كان ، فان زيدا الفاقد للضرب في الحال ، هو الذي كان ضاربا بالأمس حقيقة ، فصح اطلاق الضارب عليه بعلاقة ما كان ، وهذا بخلاف الكلب الواقع في المملحة بحيث صار ملحا ، فان هذا الملح لم يكن كلبا ، إذ الكلبية انما هي بالصورة النوعية التي لم تكن ، فظهر : سر اختصاص النزاع بالعرضيات ، دون الذاتيات (1) فتأمل.

( الامر الثالث )

ليس المراد من المشتق مطلق ما كان له مصدر حقيقي مقابل المصدر الجعلي ، بحيث يعم الافعال ، ولا خصوص اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة كما توهم ، بل المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا على وجه يصح حمله عليها ، سواء كان من المشتق الاصطلاحي كضارب ومضروب ، أو لم يكن كبعض الجوامد التي تكون من العناوين العرضية مقابل العناوين الذاتية ، كالزوجية ، والرقية ، والحرية ، وغير ذلك من العناوين العرفية ، ولا موجب لتوهم الاختصاص بخصوص المشتق الاصطلاحي ، وان كان ظاهر العنوان ربما يعطى ذلك ، الا انه يظهر من بعض الكلمات التعميم لكل عنوان عرضي ، ويدل على ذلك : العبارة المحكية عن القواعد ، مع ما في الايضاح من شرحها ، والعبارة المحكية عن المسالك (2) فيمن كان له زوجتان كبيرتان وزوجة :

ص: 84


1- وكان غرض شيخنا الأستاذ مد ظله من هذا البيان هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح اطلاق الاسم على غير المتلبس بالذات ، لا على وجه الحقيقة ، ولا على وجه المجاز ، بل يكون الاستعمال غلطا ، ولكن الظاهر من بعض الكلمات : هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح الاطلاق على غير المتلبس على وجه الحقيقة ، واما على وجه المجاز فكأنه لا كلام في صحة الاطلاق ، فتأمل - منه.
2- قال الشهيد الثاني قدس سره في المسالك : « وبقى الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين ، فقد قيل إنها لا تحرم ، واليه مال المصنف حيث جعل التحريم أولى وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد لخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية ، وأم البنت غير محرمة على أبيها خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق منه في صدق الاشتقاق كما هو رأى جمع من الأصوليين. ( مسالك الأفهام في شرح شرايع الاسلام ، الجلد الأول كتاب النكاح ، ص 475 )

صغيرة وأرضعت الكبيرتان الصغيرة ، حيث بنوا حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، ولا بأس بنقل العبارة المنقولة عن الايضاح والقواعد وبيان المراد منها وان كانت المسألة فقهية.

فنقول : انه حكى من القواعد (1) « انه لو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب ، فالأقرب تحريم لجميع ، لان الأخيرة صارت أم من كانت زوجته ، ان كان قد دخل بإحدى الكبيرتين ، والا حرمت الكبيرتان مؤبدا ، وانفسخ عقد الصغيرة انتهى » وحكى عن الايضاح (2) انه قال : « أقول تحريم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالاجماع ، واما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها ، لان هذه يصدق عليها انها أم زوجته ، لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه ، فكذا هنا ، ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم ، بل لو صدق قبله كفى ، فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، ولمساوات الرضاع النسب ، وهو يحرم سابقا ولا حقا فكذا مساويه » انتهى موضع الحاجة.

أقول :

عبارة القواعد مع ما عليها من الشرح قد تكفلت لبيان فروع :

الأول : حرمة المرضعة الكبيرة الأولى على كل حال ، وعدم ابتنائها على المشتق.

الثاني : توقف حرمة المرتضعة الصغيرة على الدخول بإحدى الكبيرتين.

الثالث : انفساخ عقد الصغيرة مع عدم الدخول بإحدى الكبيرتين ، وان لم تحرم عليه مؤبدا ، فله تجديد العقد عليها.

ص: 85


1- إيضاح الفوائد في شرح القواعد - الطبعة الجديدة ، الجزء 3 ص 52.
2- إيضاح الفوائد في شرح القواعد - الطبعة الجديدة ، الجزء 3 ص 52.

الرابع : ابتناء حرمة المرضعة الثانية الكبيرة على مسألة المشتق. ولا بأس ببيان مدرك هذه الفروع.

فنقول : اما الفرع الأول ، وهو حرمة المرضعة الأولى على كل حال ، فلصيرورتها أم الزوجة في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر ، بداهة انه في ذلك الحال تكون المرتضعة الصغيرة زوجة ، والمرضعة الكبيرة أم الزوجة ، فيصدق عليها في ذلك الحال - أمهات نسائكم - فتحرم.

واما الفرع الثاني : وهو حرمة المرتضعة الصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، فلان الصغيرة تكون حينئذ ربيبته إذا لم يكن اللبن للزوج ، كما هو مفروض الكلام ، حيث إنهم ذكروا ذلك في فروع المصاهرة ، ومن المعلوم : حرمة الربيبة إذا كانت أمها مدخولا بها ، من غير فرق بين الدخول بالأولى أو الدخول بالثانية ، لأنها على كل تقدير تصير ربيبة من الزوجة المدخول بها.

واما الفرع الثالث : وهو انفساخ عقد الصغيرة فيما إذا لم يكن قد دخل بإحدى الكبيرتين وعدم حرمتها ، فلأنها وان صارت ربيبة بالارضاع ، الا انها ربيبة لم يكن قد دخل بأمها فلا تحرم ، واما انفساخ عقدها ، فلانه في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر يلزم اجتماع الام والربيبة في عقد الازدواج ، وهو موجب لانفساخ عقد الصغيرة ، لعدم جواز الاجتماع.

واما الفرع الرابع : وهو ابتناء حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، فلانه في حال ارضاع الثانية لم تكن الصغيرة زوجة ، لخروجها عن الزوجية بارتضاعها من الأولى ، فإذا لم تكن في ذلك الحال زوجة ، فلا تكون المرضعة الثانية أم الزوجة فعلا ، بل تكون أم من كانت زوجة في السابق ، فلو قلنا بان المشتق حقيقة فيمن انقضى منه المبدء ، تحرم المرضعة الثانية أيضا ، لصدق أم الزوجة عليها حقيقة ، وان لم نقل فلا موجب لحرمتها.

بقى الكلام فيما ذكره في الايضاح من الوجهين الأخيرين لحرمة المرضعة الثانية.

اما الوجه الأول منهما ، وهو قوله : ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه

ص: 86

حال الحكم بل لو صدق قبله كفى فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، فربما يتخيل انه يرجع إلى الوجه الأول ، وهو صدق المشتق على من انقضى عنه المبدء ، فهو تكرار لذلك الوجه بعبارة أخرى هذا ، ولكن يمكن ان يكون مراده منه ، هو انه لا يتوقف الحكم بحرمة أم الزوجة على صدق هذا العنوان حال الحكم ، حتى يقال : ان ذلك مبنى على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى ، بل يكفي في حرمة الام تلبس البنت بالزوجة آنا ما.

والحاصل : انه وان لم يصدق على الام انها أم الزوجة فعلا لخروج الزوجة عن الزوجية ، الا انه لا يتوقف الحكم بحرمة الام على صدق الزوجية على البنت في حال صيرورتها اما لها ، بل يكفي في الحكم بحرمة أمها ثبوت الزوجية لها في زمان ، وهو الزمان الذي قبل الارتضاع من المرضعة الأولى ، نظير قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، حيث إن التلبس بالظلم في زمان يكفي في عدم نيل العهد وان لم يكن حال النيل ظالما ، فتأمل جيدا.

واما الوجه الأخير : فحاصله ان لحمة الرضاع كلحمة النسب ، وانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ومن المعلوم : انه لو تزوج بابنة ثم طلقها ، يحرم عليه أمها مع زوال زوجيتها بالطلاق ، فكذلك في الام والبنت الرضاعية تحرم الام الرضاعية ولو خرجت البنت عن الزوجية ، كما في المقام. وعلى كل حال : فقد خرجنا عما هو المقصود في المقام ، من عدم اختصاص المشتق المتنازع فيه بالمشتق الاصطلاحي ، وهو ما كان له مصدر حقيقي ، بل يجرى في الجوامد التي تكون لها مصادر جعلية إذا كانت من العرضيات لا الذاتيات.

وضابط العرضي هو ما كان متولدا من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، سواء كانت من الأمور المتأصلة في عالم العين ، كما إذا كان العنوان متولدا من مقولة الكم والكيف ، كالأبيض والأسود ، أو كان متولدا من الأمور النسبية ، كسائر المقولات السبع : من مقولة الفعل والانفعال والإضافة والجدة وغير ذلك ، وسواء كان من الأمور الاعتبارية ، أو كان من الأمور الانتزاعية ، وسواء كان من

ص: 87

المحمول بالضميمة ، أو كان خارج المحمول ، ولعل هذا هو مراد صاحب (1) الكفاية من تعميم محل النزاع بالنسبة إلى العرض والعرضي ، وان كان ذلك خلاف ما اشتهر من اصطلاح العرض والعرضي ، حيث إن مرادهم من العرض نفس المقولة ، أي عرضا مباينا غير محمول كالبياض ، ومرادهم من العرضي ، المتحد مع الذات المحمول عليها كالأبيض ، فالتعبير عن المحمول بالضميمة وخارج المحمول - بالعرض والعرضي - خلاف ما اشتهر من اصطلاحهم في ذلك.

وعلى كل حال : المراد من المحمول بالضميمة ، هو ما كان الحمل بلحاظ قيام أحد الاعراض التسعة بمحالها ، ولو كان العرض من مقولة الإضافة والنسبة كقولك : هذا ابيض ، هذا اسود ، هذا أب ، هذا زوج ، هذا فوق ، هذا تحت ، وغير ذلك مما كان من مقولة الكم ، والكيف ، والإضافة ، والنسبة المتكررة. والمراد من الخارج المحمول ، ما كان المحمول أمرا خارجا عن الذات ، ولكن كان من مقتضيات الذات ، كهذا ممكن ، هذا وأحب ، وغير ذلك مما لم يكن المحمول من أحد المقولات.

وربما عبر عن الأمور الانتزاعية التي تنتزع من قيام العرض بمحله بخارج المحمول ، كالسبق واللحوق والتقارن المنتزعة من تقارن الشيئين في زمان أو مكان أو سبق أحد الشيئين في المكان والزمان ، فمثل السبق واللحوق والتقارن ينتزع من قيام مقولة الأين ومتى بموضوعها ، فمثل هذا أيضا ربما يعبر عنه بخارج المحمول على ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن المعروف من اصطلاح - خارج المحمول - هو ما كان من مقتضيات الذات خارجا عن حقيقتها ، كالامكان والوجوب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الخارج عن محل النزاع هو خصوص العناوين الذاتية المنتزعة عن نفس مقام الذات ، على ما تقدم في الامر الثاني ، واما سائر العناوين المتولدة من أي مقولة كانت ، فهي داخلة في محل النزاع ، سواء كانت من خارج المحمول ، أو من المحمول بالضميمة. »

ص: 88


1- كفاية الجلد الأول ص 59 « ثم انه لا يبعد ان يراد بالمشتق .. »

ومما ذكرنا من تعريف المحمول بالضميمة ظهر : ان جعل مثل الزوجية من خارج المحمول ، كما يظهر من صاحب الكفاية (1) حيث أم بالتعميم ادراج مثل الزوجية كما يشهد بذلك سياق كلامه مما لا وجه له ، إذ الزوجية من المحمول بالضميمة ، لا خارج المحمول ، حيث إن الزوجية من مقولة النسبة التي هي من المقولات التسع ، فتكون من المحمول بالضميمة ، على ما بيناه من ضابط المحمول بالضميمة.

( الامر الرابع )

يعتبر في المشتق المتنازع فيه ، بقاء الذات مع انقضاء المبدء ، كالضارب ، حيث تكون الذات فيه باقية مع انقضاء الضرب ، ولأجل ذلك ربما يستشكل في ادراج مثل اسم الزمان في محل النزاع ، لانعدام الذات فيه كانقضاء المبدء ، لان الذات فيه انما يكون هو الزمان ، وهو مبنى على التقضى والتصرم ، فمثل مقتل الحسين علیه السلام لا يمكن ادراجه في محل النزاع ، لان كلا من الزمان والقتل قد انقضى ، فلا يصح ان يقال : ان هذا اليوم مقتل الحسين علیه السلام هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل ، وهو اليوم العاشر من المحرم ، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم المنحوس الذي وقع فيه القتل ، بل وضع لمعنى كلي متكرر في كل سنة ، وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل فردا من افراد ذلك المعنى العام المتجدد في كل سنة ، فالذات في اسم الزمان انما هو ذلك المعنى العام ، وهو باق حسب بقاء الحركة الفلكية ، وقد انقضى عنه المبدء الذي هو عبارة عن القتل ، فلا فرق بين الضارب وبين المقتل ، إذ كما أن الذات في مثل الضارب باقية وقد انقضى عنها الضرب ، فكذا الذات في مثل المقتل الذي هو عبارة عن اليوم العاشر من المحرم باقية لتجدد ذلك اليوم في كل سنة وقد انقضى عنها القتل ، نعم لو كان الزمان في اسم الزمان موضوعا لخصوص تلك القطعة الخاصة من الحركة الفلكية التي وقع فيها القتل ، لكانت الذات فيه

ص: 89


1- المدرك السابق ص 60 « فعليه كلما كان مفهومه متنزعا .. »

متصرمة ، كتصرم نفس المبدء ، الا انه لا موجب للحاظ الزمان كذلك ، فتأمل جيدا.

( الامر الخامس )

المراد من الحال في قولهم : اطلاق المشتق على المتلبس بالمبدء في الحال يكون حقيقة ، ليس زمان الحال المقابل لزمان الماضي والاستقبال الذي هو عبارة عن زمان التكلم والنطق ، بل المراد من الحال ، هو حال التلبس بالمبدأ أي حال تحقق المبدء وفعلية قيامه بالذات. وبعبارة أخرى : المراد بالحال ، هو وجود العنوان المتولد من قيام العرض بمحله ، سواء كان مقارنا لزمان الحال ، كما إذا كان زيد ضاربا حين قولي : زيد ضارب ، أو كان سابقا على زمان الحال ، أو لاحقا له ، كما إذا قلت : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا.

وبذلك يندفع : ما ربما يستشكل في المقام : من المنافاة ، بين الاتفاق على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون على وجه الحقيقة ، وبين الاتفاق على أن الأسماء مط لا تدل على الزمان ، سواء في ذلك الجوامد والمشتقات ، وانما قيل بدلالة الافعال على الزمان ، وهو أيضا محل منع كما سيأتي.

وجه المنافاة ، هو انه لو لم يكن الزمان مأخوذا في مفهوم الاسم ، ولا جزء الموضوع له ، فكيف يكون اطلاق المشتق على المتلبس في الحال على وجه الحقيقة؟ إذ معنى كونه على وجه الحقيقة ، هو انه تمام ما وضع له اللفظ ، فيكون زمان الحال جزء مدلول اللفظ ، وهذا كما ترى ينافي الاتفاق على عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ومما ذكرنا من معنى الحال يظهر لك وجه الدفع وعدم المنافاة بين الاتفاقين ، إذ ليس المراد من - الحال - في اتفاقهم على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون حقيقة هو زمان الحال حتى يكون زمان الحال جزء مدلول المشتق ، بل المراد من - الحال - هو حال فعلية المبدء وتحققه ، غايته ان فعليته لابد ان يكون في زمان لاحتياج الزماني إلى الزمان ، الا ان ذلك غير كونه جزء مد لول اللفظ.

ومما ذكرنا أيضا من معنى الحال يندفع اشكال آخر ، وهو ان النحاة قالوا : ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، وان

ص: 90

كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل ، وهذا الكلام منهم ربما يوهم المنافاة لما اتفقوا عليه : من عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ولكن قد عرفت عدم المنافاة ، إذ ليس المراد من الحال والاستقبال في قولهم : يعمل عمل الفعل - هو زمان الحال والاستقبال ، بل المراد حال تلبسه بالمبدء أو تلبسه فيما بعد في مقابل من كان متلبسا في السابق ، مع أنه لو فرض ان مرادهم من الحال والاستقبال هو زمان الحال والاستقبال ، فلا يلازم ان يكون اسم الفاعل بنفسه يدل على زمان الحال والاستقبال ، حتى ينافي قولهم بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، بل يمكن استفادة زمان الحال والاستقبال من وقوع اسم الفاعل في طي التركيب ، حيث إن الكلام إذا كان مشتملا على الرابط الزماني : من - كان وأخواتها - أو السين وسوف الذين لا يدخلان الا على الفعل المضارع ، فلا محالة يستفاد منه الزمان الماضي أو زمان الاستقبال ، كقولك : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا. وان لم يكن مشتملا على الرابط الزماني كقولك : زيد قائم ، أو زيد ضارب ، فيستفاد منه زمان الحال بمقتضى ظهور اطلاق الكلام في ذلك ، وهذا معنى قولهم : ان الجملة الحملية ظاهرة في زمان الحال ، حيث إن الاخبار عن شيء يقتضى تحقق المخبر به في زمان النطق إذا لم تكن الجملة مشتملة على ما يصرفها عن هذا الظهور ، من الروابط الزمانية التي يستفاد منها المضي والاستقبال ، فلا منافاة بين قولهم : بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، وبين قولهم : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل ، وقولهم : ان الجملة الخبرية ظاهرة في تحقق المخبر به في زمان النطق ، فان ظهور الجملة في ذلك انما يكون لمكان الاطلاق وعدم اقترانها بالرابط الزماني ، كما أن كون اسم الفاعل بمعنى الاستقبال انما يكون بالرابط الزماني ، لا ان نفس اسم الفاعل يدل على الزمان.

وحاصل الكلام : ان البحث في باب المشتق ، انما يكون في مفهومه الافرادي من أنه حقيقة في خصوص المتلبس ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه التلبس؟ وكلامهم في ظهور الجملة الخبرية في تحقق المخبر به في حال النطق ، انما هو لمكان النسبة وظهور تركيب الكلام في ذلك عند خلوه عما يدل على تحقق المخبر به في

ص: 91

الماضي ، فلا ربط له بما نحن فيه من تعيين الفهوم الافرادي للمشتق ، كما لا يرتبط بالمقام ما حكى عن الفارابي والشيخ : من أن اتصاف الموضوع بالعنوان في القضايا الموجهة ، هل يكفي فيه الامكان؟ كما عن الفارابي ، أو يعتبر الفعلية ووجود العنوان في أحد الأزمنة الثلاثة؟ كما عن الشيخ الرئيس ، وذلك : لان كلامنا على ما عرفت ناظر إلى معنى المشتق وما هو مفهومه الافرادي ، وكلام الفارابي والشيخ ناظر إلى جهة صحة الحمل في القضية ، وانه هل يكفي في صحة الحمل امكان تحقق الوصف العنواني للموضوع في مقابل الامتناع؟ أو يعتبر تحقق الوصف في حد الأزمنة ولا يكفي الامكان؟ فالموضوع في قولنا : كل كاتب متحرك الأصابع ، هو ما يمكن ان يكون كاتبا وان لم يصدر منه الكتابة في زمان على رأى الفارابي ، أو ما يتحقق منه الكتابة في أحد الأزمنة على رأى الشيخ ، وكذا قولنا : كل مركوب زيد حمار ، هو ما أمكن ان يكون مركوب زيد وان لم يتلبس بالمركوبية في زمان من الأزمنة ، أو ما كان متلبسا في زمان ، وهذا كما ترى لا ربط له بما نحن فيه من أن معنى الكاتب والمركوب ما هو؟.

وحاصل الكلام : ان كلام الفارابي والشيخ انما هو في أن المحمول الذي يكون موجها بإحدى الجهات ، من الضرورة والامكان والفعلية هل يصح حمله على موضوع لم يتلبس بالوصف العنواني في زمان من الأزمنة الا انه ممكن التلبس؟ أو انه لا يصح الا إذا تلبس به في أحد الأزمنة؟ وهذا أجنبي عما نحن فيه من معنى المشتق وان صدقه بالنسبة إلى المستقبل مجاز وبالنسبة إلى حال التلبس حقيقة وبالنسبة إلى ما انقضى حقيقة أو مجاز على الخلاف ، فلا يتوهم المنافاة ، بين ما حكى عن الفارابي والشيخ في ذلك المقام ، وبين ما ذكرناه في هذا المقام ، كما لا يتوهم المنافاة ، بين ما ذكرناه في الامر الثاني : من اعتبار التلبس بالعنوان بالفعل في الذاتيات ولا يكفي التلبس فيما مضى فضلا عن التلبس في المستقبل ، وبين ما ذكره الفارابي : من كفاية امكان التلبس بالعنوان في عقد الوضع في صحة الحمل ، بناء على تعميم العنوان في كلامه بالنسبة إلى الذاتيات كما هو الظاهر ، وذلك لما عرفت من أن كلامه في صحة الحمل ، وكلامنا في المفهوم الافرادي ، فتأمل جيدا.

ص: 92

( الامر السادس )

هل النزاع في المقام راجع إلى ناحية الاستعمال ، وان استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز أو ان النزاع راجع إلى ناحية التطبيق والانطباق؟ ولا بد قبل ذلك من بيان المراد من الاستعمال ، والتطبيق ، والانطباق.

فنقول : ان الاستعمال عبارة عن القاء المعنى باللفظ وجعل اللفظ مرآة له ، فان كان ذلك هو المعنى الموضوع له اللفظ ، كان الاستعمال على وجه الحقيقة. وان لم يكن ما وضع له اللفظ ، فان كان هناك علاقة بينه وبين الموضوع له ، كان الاستعمال على وجه المجاز ، وان لم يكن علاقة كان الاستعمال غلطا ، فالاستعمال يتصف بكل من الحقيقة والمجاز والغلطية.

واما الانطباق ، فهو عبارة عن انطباق المعنى الكلي على مصاديقه وصدقه عليها ، وهذا لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل هو من الأمور الواقعية التكوينية ، يتصف بالوجود والعدم إذ الكلي اما منطبق على هذا واما غير منطبق ، هذا بحسب الواقع. واما بحسب الاطلاق فكذلك لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل بالصدق والكذب ، فلو أطلق الكلي على ما يكون مصداقا له يكون الكلام صادقا ، وان أطلق على ما لايكون مصداقا له يكون الكلام كاذبا ، فاطلاق الانسان على زيد يكون صدقا ، واطلاقه على الحمار يكون كذبا ، ومن هنا أنكر على السكاكي القائل بالحقيقة الادعائية ، بأنه لا معنى للحقيقة الادعائية ، إذ اطلاق الأسد بمعناه الحيوان المفترس على زيد الشجاع يكون كذبا ، ومجرد الادعاء لا يصحح الكلام.

والحاصل : انه لو أطلق الأسد على زيد من دون تصرف في معنى الأسد ، بل يراد منه معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس ، يكون هذا الكلام كذبا ، ومجرد الادعاء بان زيدا من افراد الأسد لا يخرج الكلام عن الكذب ، بل يكون في ادعائه لها أيضا كاذبا ، فاطلاق الأسد على زيد انما يصح إذ توسع في معنى الأسد بجعل معناه مطلق الشجاع الصادق على الحيوان المفترس وعلى زيد الشجاع ، ثم بعد هذه التوسعة يطلق الأسد على زيد فيكون زيد من افراد المعنى الموسع فيه حقيقة ، ويكون من مصاديقه واقعا إذا كان شجاعا ، فالاطلاق يكون ح على نحو الحقيقة وان

ص: 93

كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه استعمال في خلاف ما وضع له.

وبالجملة : صحة اطلاق شيء على شيء انما يكون بتوسعة في ناحية ذلك الشيء على وجه يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، فتارة يكون الشيء هو بنفسه موسعا بلا عناية ويكون نسبته إلى المصاديق نسبة المتواطي ، كما لو أطلق الماء على ماء الدجلة والفرات ، ففي مثل هذا يكون كل من الاطلاق والاستعمال حقيقيا إذا لم يكن الاطلاق بلحاظ الخصوصية الفردية ، بل جرد الفرد عن الخصوصية وأريد به نفس تلك الحصة من الطبيعة الموجودة في ضمنه.

وأخرى : لايكون الشيء هو بنفسه بلا عناية يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، وان كان من افراده الحقيقية ، الا ان نسبته إلى ذلك الشيء نسبة المشكك لا المتواطي كاطلاق الماء على ماء الزاج والكبريت ، فان ماء الزاج والكبريت وان كان من افراد الماء حقيقة ، الا ان الماء لما كان منصرفا عن ذلك فاطلاق الماء عليه يحتاج إلى نحو عناية وتوسعة ، ولكن تلك العناية لا توجب المجازية ، بل يكون أيضا كل من الاطلاق والاستعمال على وجه الحقيقة.

وثالثة : لايكون الشيء مما يعمه على وجه الحقيقة ، بل يكون مباينا له بالهوية ، الا انه يصح تعميم دائرة الشيء على وجه يكون ذلك الشيء من افراده حقيقة بعد التعميم ، وذلك كصحة تعميم الأسد لمطلق الشجاع لمكان العلاقة ، وبعد التعميم والتوسعة في دائرة مفهوم الأسد يطلق على زيد الشجاع ، ويكون زيد من افراد المفهوم الموسع حقيقة ، وان كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه خلاف ما وضع له اللفظ.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان السكاكي ان أراد من قوله : اطلاق الأسد على زيد يكون حقيقة ادعائية ، هو انه يطلق الأسد على زيد من دون توسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا مما لا معنى له ويكون الكلام كذبا ، وان أراد ان الاطلاق بعد التوسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا هو المجاز الذي يقول به المشهور ، ويكون من المجاز في الكلمة ، حيث إنه قد استعمل لفظ الأسد في مطلق الشجاع ، وهو خلاف ما وضع له فتأمل ، فان الانكار على السكاكي ربما لا يساعد عليه الشخص ابتداء و

ص: 94

ان كان بعد التأمل يعترف (1) بفساد مقالته.

وعلى كل حال ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن النزاع في المقام ، هل هو في صحة الاطلاق والتطبيق؟ أو في الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء؟ ربما قيل : ان النزاع في المقام انما هو في صحة الاطلاق وتطبيق عنوان المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، لا في أن استعماله فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز. قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة ، ضرورة ان اطلاق عنوان على شيء وتطبيقه على المصاديق يتوقف على معرفة ذلك العنوان إذ لا معنى للتطبيق مع الجهل بالعنوان.

وبالجملة : صحة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء وعدم صحته يتوقف على معرفة الموضوع له للمشتق ، والكلام بعد في أصل مفهوم المشتق وما وضع له ، فكيف يكون النزاع في الاطلاق والتطبيق؟ مع أن انطباق الكلي على مصاديقه امر خارجي تكويني لا معنى لوقوع النزاع فيه من الاعلام.

والحاصل : ان صدق عنوان الضارب على زيد الذي انقضى عنه الضرب وعدم صدقه يدور مدار مفهوم الضارب وان الموضوع له ما هو؟ فان قلنا : ان الموضوع له هو المعنى الأعم من المتلبس بالحال وما انقضى عنه المبدء ، فلا محالة يصدق على زيد عنوان الضارب ، وان قلنا : ان الموضوع له هو خصوص المتلبس ، فلا يصدق على زيد عنوان الضارب ، فالعمدة هو تعيين الموضوع له وما هو المفهوم الافرادي ، فكيف صار النزاع في صحة الاطلاق والتطبيق ، مع أنه بعد لم يتضح الموضوع له.

هذا كله ، مضافا إلى أن جعل محل النزاع هو الاطلاق والانطباق ، انما يصح فيما إذا كان هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق كما في زيد الضارب وعمر و

ص: 95


1- هذا ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام ، ولكن ربما يختلج في البال ان الكذب لازم على كل حال ، سواء قلنا بالتوسعة في ناحية المفهوم ، أو قلنا بمقالة السكاكي : من الحقيقة الادعائية وان اطلاق الأسد على زيد لمكان ادعاء انه من افراد الحيوان المفترس. نعم لو قلنا بان المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له لعلاقة بين المعنيين من دون ان يكون هناك تصرف لا في ناحية المفهوم ولا في ناحية الفرد - كما هو المشهور في الألسن - لما كان يلزم كذب في الكلام أصلا ، فتأمل - منه.

الراكب ، وأما إذا لم يكن هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق ، كقولك : جئني بضارب ، أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك من العناوين الكلية التي تكون موضوعا للأحكام ، فلا اطلاق هناك ولا تطبيق وانطباق ، بل عنوان كلي وقع موضوعا لحكم ، فلابد ان يكون النزاع في هذا في نفس المفهوم الافرادي وحقيقة الضارب وأم الزوجة ، والمفروض ان عقد البحث في المشتق انما هو لمعرفة مفاهيم تلك العناوين ليصح موضوع الحكم.

والحاصل : ان التكلم في الاطلاق والتطبيق ، انما هو فيما إذا كان التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، كقولك زيد ضارب. وأما إذا لم يكن التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، سواء كان مذكورا فيه ضمنا ، كقولك : رأيت ضاربا حيث إن الرؤية لابد ان تتعلق بشخص ، أو لم يكن مذكورا فيه ولو ضمنا ، كما في العناوين المشتقة التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، كقوله علیه السلام مثلا يكره البول تحت الشجرة المثمرة أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك ، فلا محالة ان يكون التكلم فيه من حيث الحقيقة والمجاز وتعيين ما هو الموضوع له لتلك العناوين المشتقة. وثمرة النزاع انما تظهر في مثل هذا ، إذ غالب الفروع التي رتبها الاعلام على مسألة المشتق ، انما ترتب على العناوين الكلية التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، ومع هذا كيف يصح ان يقال : ان الكلام في المقام في الاطلاق والانطباق؟ ولو كان من عادتنا إساءة الأدب ، لأسئنا الأدب بالنسبة إلى من قال بهذه المقالة كما أساء الأدب بالنسبة إلى الاعلام. فتأمل في المقام جيدا ، حتى لا تعثر بمقالته.

( الامر السابع )

في شرح الحال في الاشتقاق ومبدء الاشتقاق.

اعلم : ان بناء المتقدمين كان على أن مبدء الاشتقاق هو المصدر ، وحكى عن المتأخرين ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر. والحق : انه لا هذا ولا ذلك ، وتوضيحه يتوقف على بيان المراد من المصدر واسم المصدر وما هو المايز بينهما ، وان كان قد تقدم منا في المعاني الحرفية شرح ذلك على وجه الاجمال ، ونزيده في المقام

ص: 96

وضوحا.

فنقول : انه لا اشكال في أن المقولة هي بنفسها من الماهيات الامكانية في قبال الماهية الجوهرية ، وفي عالم الهوية لا ربط لاحديهما بالأخرى ، ولكن ماهية العرض تحتاج في مقام التحقق إلى محل تقوم به ، لعدم امكان قيام الماهية العرضية بنفسها ، بل وجودها انما يكون بوجود الموضوع ، ومن هنا قالوا : ان وجود العرض لنفسه وفي نفسه عين وجوده لمحله وفي محله ، والمراد من عينية الوجود للمحل هو الاتحاد في الوجود خارجا ، بحيث لايكون هناك أمران منحازان في الخارج ، ولأجل ذلك صح لحاظ العرض بما هو هو ، وبما هو قائم بالمحل ومتحد وجوده مع وجوده. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ بشرط لا عما يتحد معه ، وأخرى : يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه : فان لوحظ بما هو هو وبشرط لا عما يتحد معه وبما انه شيء من الموجودات الامكانية ، يقال له العرض كالسواد والبياض ، وان لوحظ بما هو قائم بالمحل ولا بشرط عما يتحد معه في الوجود وبما انه وجود رابطي ، يقال له العرضي كالأبيض والأسود. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ أمرا مباينا غير محمول ، وأخرى : يلاحظ أمرا متحدا محمولا كقولك : زيد ابيض ، حيث إنه يصح ذلك ، ولا يصح قولك : زيد بياض.

ثم إن العرض ان لو حظ أمرا مباينا غير محمول ، فاما ان يلاحظ بما هو هو ، من دون لحاظ انتسابه إلى محله ، فهو المعبر عنه باسم المصدر ، حيث قيل في تعريفه : انه ما دل على نفس الحدث بلا نسبة. واما ان يلاحظ منتسبا إلى فاعله ، فتارة : يكون اللحاظ بنسبة ناقصة تقييدية ، وهو المعبر عنه بالمصدر كقولك : ضرب زيد ، وأخرى : بنسبة تامة خبرية ، وهو المعبر عنه بالفعل باقسامه الثلاثة : من الماضي والمضارع والامر ، فيشترك كل من المصدر والفعل في الدلالة على النسبة ، غايته ان هيئة المصدر تدل على النسبة الناقصة التقييدية على ما قيل ، وان كان لنا فيه كلام يأتي انشاء اللّه تعالى ، وهيئة الفعل تدل على النسبة التامة الخبرية ، فإذا كان معنى المصدر هو ذلك ، فلا يمكن ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بداهة انه يكون للمصدر ح هيئة تخصه ، ويكون بما له من المعنى مباينا لسائر المشتقات ، فكيف يكون هو مبدء

ص: 97

الاشتقاق؟ مع أنه يعتبر في مبدء الاشتقاق ان يكون معرى عن الهيئة حتى يمكن عروض الهيئات المشتقة عليها ، وما يكون له هيئة مخصوصة غير قابل لذلك ، إذ لا يعقل عروض الهيئة على الهيئة ، فالمصدر بما له من المادة والهيئة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق. وكذا الحال في اسم المصدر ، إذ اسم المصدر على ما عرفت ، هو عبارة عن نفس الحدث بشرط انتسابه إلى محله ، والغالب اتحاد هيئته مع هيئة المصدر من دون ان يكون له هيئة تخصه ، كما في الضرب والقتل ، وغير ذلك من المصادر التي يمكن ان يراد منها الاسم المصدر ، وقد يكون له هيئة تخصه ، كما في الغسل بالضم حيث إنه اسم المصدر والمصدر هو الغسل بالفتح. وعلى كل حال : اسم المصدر أيضا بما له من المعنى والهيئة يباين معاني سائر المشتقات وهيئاتها ، فلا يصح ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بل لابد ان يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن كل هيئة ( كالضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) ولا بأس بالتعبير عنه بالضرب من دون لحاظ وضع هيئة ودلالتها على النسبة ، بل تكون الهيئة لمجرد حفظ المادة ليسهل التعبير عنها.

وحاصل الكلام : انه لابد ان يكون مبدء الاشتقاق من حيث المعنى واللفظ لا بشرط ، ليكون قابلا لان يرد على لفظه كل هيئة مع انحفاظ معناه في جميع المعاني المشتقة ، ومعنى المصدر واسم المصدر ، انما يكون بشرط شيء كما في المصدر حيث يلاحظ فيه الانتساب ، أو بشرط لا كما في اسم المصدر حيث يلاحظ فيه عدم الانتساب ، فلا يصلحان لان يكونا مبدء الاشتقاق ، فتأمل في المقام جيدا هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ما قيل : من أن المصدر بهيئته يدل على الانتساب مما لا معنى له ، بداهة ان الانتساب انما يستفاد من إضافة المصدر إلى فاعله ، كما هو الغالب ، والى مفعوله نادرا كما في قولك : ضرب زيد عمروا حيث يكون زيد فاعلا ، أو ضرب زيد عمرو بالرفع حيث يكون عمرو فاعلا ، وعلى كل تقدير ليست هيئة المصدر موضوعة للدلالة على انتساب الحدث إلى فاعله بالنسبة الناقصة التقيدية ، كوضع هيئة الافعال للدلالة على النسبة التامة الخبرية ، بل النسبة انما تستفاد من

ص: 98

الإضافة أي إضافة المصدر إلى معموله ، بحيث لولا الإضافة لما كاد يستفاد نسبة أصلا ، بل المصدر بهيئته انما وضع للدلالة على ذات المنتسب ، لكن لا بشرط عدم لحاظ الانتساب ، كما في اسم المصدر ، بل في حال قابليته للانتساب.

وبعبارة أخرى : المصدر انما وضع للحدث في حال صدوره عن فاعله ، لا بما هو هو كما في اسم المصدر ، ولا بما هو منتسب كما في الافعال ، وبهذا يباين المصدر كل من الفعل واسم المصدر. فلا يتوهم انه إذا لم تكن هيئة المصدر موضوعة للدلالة على النسبة الناقصة التقييدية بل كان المصدر بهيئته موضوعا لنفس ذات الحدث المنتسب ، فاما ان يرتفع المايز بينه وبين اسم المصدر إذا لوحظ ذات المنتسب بشرط عدم الانتساب ، واما ان لا يلاحظ ذلك بل يكون لا بشرط من هذه الجهة فيكون هو المعنى المحفوظ في جميع الصيغ المشتقة ، ويلزمه ان يكون هو مبدء الاشتقاق.

وذلك : لان اسم المصدر موضوع لنفس الحدث الغير القابل للانتساب ، فمعناه ملحوظ بشرط لا ، والمصدر بمادته وهيئته موضوع للحدث القابل لورود الانتساب عليه ، فالتباين بين المصدر واسم المصدر أوضح من أن يخفى. وكذا عدم امكان كون المصدر مبدء الاشتقاق ، لان للمصدر هيئة تخصه ، وما كان له هيئة مخصوصة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق ، لاعتبار ان يكون مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة القابل لطرو الهيئات المختلفة عليه.

فتحصل : ان كلا من المصدر واسم المصدر والافعال والمفاعيل واسم الفاعل والصفة المشبهة وغير ذلك من المشتقات ، انما يشتق من مبدء واحد محفوظ في جميع هذه الصيغ ، وهو في حدث الضرب يكون ( الضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) وفي حدث القتل يكون ( القاف ) و ( التاء ) و ( اللام ) وهكذا الحال في سائر الاحداث والاعراض.

هذا كله في الاشتقاق اللفظي ، وقد عرفت ان جميع الصيغ تشتق في عرض واحد من مبدء واحد ، وليست الصيغ المشتقة مترتبة في الاشتقاق لفظا ، أو تكون بعض الصيغ مشتقة من بعض آخر ، بل الكل يشتق من امر واحد.

واما المعاني التي تكفلتها الصيغ المشتقة ، فلا اشكال في أن بينها ترتبا ،

ص: 99

بحيث يكون بعض المعاني متولدا من بعض آخر. وتفصيل ذلك هو انه لا اشكال في أن معنى الاسم المصدري متولد عن المعنى المصدري ، ومن هنا قيل في تعريف اسم المصدر : بأنه ما حصل من المصدر. والسر في ذلك : هو ان اسم المصدر عبارة عن نفس الحدث والعرض كما تقدم ، ومن المعلوم : ان تحقق العرض انما هو لمكان انتسابه إلى محله ، إذ لا وجود له مع قطع النظر عن الانتساب ، فلا بد ان يحصل الغسل ( بالفتح ) من الشخص حتى يتحقق الغسل ( بالضم ) وذلك واضح.

واما المصدر فقد اختلف في تقدم معناه على معنى الفعل الماضي أو تأخره ، وقد نسب إلى الكوفيين تأخره وان معناه اشتق من معنى الفعل الماضي ، وذلك لان الفعل الماضي انما هو متكفل لبيان النسبة التحققية أي كون العرض متحققا في الخارج مع انتسابه إلى فاعله بنسبة تامة خبرية ، فالماضي انما يدل على تحقق الحدث من فاعله وليس مفاده أزيد من ذلك وما اشتهر من أنه يدل على الزمان الماضي فهو اشتباه ، بل إن فعل الماضي بمادته وهيئته لا يدل الا على تحقق الحدث من فاعله ، نعم لازم الاخبار بتحققه عقلا هو سبق التحقق على الاخبار آنا ما قبل الاخبار والا لم يكن اخبارا بالتحقق ، وأين هذا من أن يكون الزمان الماضي جزء مدلول الفعل الماضي ، وكيف يعقل ذلك؟ مع أن هيئة الفعل الماضي انما وضعت للدلالة على النسبة التحققية ، وهي معنى حرفي ، ولذا كان الفعل الماضي مبنيا الذي هو لازم المعنى الحرفي ، والزمان انما يكون معنى اسميا استقلاليا ، فلا يعقل ان يكون مفاد الحرف معنى اسميا.

والحاصل : ان دلالة الفعل الماضي على الزمان ، اما ان يكون بمادته ، واما ان يكون بهيئته. اما المادة فهي مشتركة بين الافعال والأسماء المشتقة ، فليس فيها دلالة على الزمان والا كانت الأسماء المشتقة أيضا لها دلالة على الزمان ، وهو ضروري البطلان. واما الهيئة : فليس مفادها الا انتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية ، وذلك معنى حرفي لا يمكن ان يدل على الزمان الذي هو معنى اسمى ، فإذا كان مفاد الفعل الماضي هو تحقق العرض منتسبا إلى محله ، فهذا أول نسبة يتحقق بين العرض والمحل ، لأنه واقع في رتبة الصدور والتحقق ، وقبل ذلك لا تكون الا

ص: 100

الماهية الامكانية المباينة لماهية المحل ، فانتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية التي تكون تامة خبرية يكون أول النسب ، ثم بعد ذلك تحصل النسبة الناقصة التقييدية التي تكون مفاد المصدر بالبيان المتقدم بداهة انه بعد تحقق الضرب من زيد وصدوره عنه يضاف الضرب إلى زيد ، ويقال : ضرب زيد كذا من الشدة والضعف ، فإضافة العرض إلى الذات بالإضافة التقييدية التي تكون مفاد المصدر ، تكون متأخرة عن إضافة العرض إلى الذات بالإضافة الفاعلية التحققية ، التي تتكفلها هيئة الفعل الماضي.

ومن هنا قيل : ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار ، كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف ، إذ معنى ذلك هو ان توصيف الذات بالشيء كزيد العالم مثلا يكون متأخرا عن العلم بتحقق الوصف منه الذي يخبر به ، كقولك : زيد عالم ، فبعد الاخبار بعالمية زيد يتصف زيد بالعالمية عند المخاطب الجاهل واقعا أو المفروض جهالته في مقام الاخبار ، فتنقلب النسبة التامة الخبرية من قولك زيد عالم إلى النسبة الناقصة التقييدية من قولك : زيد العالم. هذا في الجمل الاسمية ، وقس على ذلك الجمل الفعلية بعد اخبارك بضرب زيد بقولك : ضرب زيد ، تنقلب النسبة التامة الخبرية إلى النسبة الناقصة التقييدية ، ويقال : ضرب زيد مثلا شديد. فهذا معنى ما نسب إلى الكوفيين ، من اشتقاق المصدر من الفعل الماضي ، فان مرادهم من الاشتقاق هو ترتب معناه على معناه ، لا انه مشتق منه لفظا ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، لم يرتض هذه المقالة ، وقال : يتأخر رتبة معنى الفعل الماضي عن معنى المصدر ، والتزم بان ما اشتهر : من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف ، مقصور على الجمل الاسمية. والسر في ذلك : هو ان المصدر - على ما تقدم - عبارة عن الحدث القابل للانتساب ، ولم يؤخذ فيه انتساب فعلى ، ومن المعلوم : ان الحدث القابل للانتساب هو الذي يصدر من الفاعل ، فالنسبة التحققية التي تكفلها هيئة الماضي متأخرة بالرتبة عن معنى المصدر فتأمل.

وعلى كل حال : فان وقع الاختلاف في اشتقاق المصدر عن الفعل

ص: 101

الماضي أو اشتقاق الفعل الماضي عن المصدر ، فلم يقع خلاف بينهم في اشتقاق الفعل المضارع عن الفعل الماضي بمعنى تأخر رتبته على رتبة الفعل الماضي ، وذلك لما عرفت : من أن الفعل الماضي بهيئته يدل على النسبة التحققية التي هي أول نسبة يمكن ان تفرض بين العرض ومحله ، وهذا بخلاف الفعل المضارع فإنه يدل على انتساب الذات إلى العرض واتصافها به كقولك : يضرب زيد ، فان مفاده تكيف زيد بالضرب وتلونه واتصافه به ، ومن المعلوم : ان هذا متأخر رتبة عن تحقق العرض منتسبا إلى فاعله ، إذ بعد التحقق تتكيف الذات بتلك الكيفية وتوصف به.

والحاصل : انه في الفعل الماضي يلاحظ العرض منتسبا إلى فاعله بالنسبة التحققية فيقال : ضرب زيد ، وفي الفعل المضارع يلاحظ الذات متصفة بالعرض فيقال : يضرب زيد ، ومن المعلوم : ان رتبة اتصاف الذات بالعرض متأخرة عن رتبة تحقق العرض عن الذات ، إذ بعد التحقق وصدور العرض من الذات يتصف به الذات ، فمعنى المضارع انما يتولد من الفعل الماضي ، فهذه هي النسبة الثانية للعرض ، والنسبة الأولى هي النسبة التحققية.

ثم إن ما اشتهر : من أن المضارع يكون بمعنى الحال والاستقبال أيضا من الاشتباهات ، فان الظاهر من اطلاق الفعل المضارع من قولك : يضرب أو يقول وغير ذلك هو التلبس الحالي ، وصرفه إلى الاستقبال يحتاج إلى قرينة من ادخال السين وسوف ، والا فظهوره الأولى هو التلبس بالحال ، كما هو الظاهر من قوله تعالى : ويقول الذين كفروا الخ ، فان الظاهر منه هو ان حال نزول الآية كان ما تكفلته الآية مقولا لقول الكفار ، لا انهم بعد ذلك يقولون ويصدر منهم ذلك القول. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك تأخر رتبة المضارع عن الماضي.

ثم إن رتبة اسم الفاعل متأخرة عن رتبة المضارع ، لان مفاد اسم الفاعل انما يكون عنوانا متولدا من قيام العرض بمحله واتصافه به ، فان مفاده هو الاتحاد في الوجود ، وعينية وجود العرض لمحله ، وهذا المعنى كما ترى متأخر بالرتبة عن تحقق العرض من فاعله الذي هو مفاد الفعل الماضي ، وعن اتصاف الذات بالعرض الذي هو مفاد الفعل المضارع ، فمفاد اسم الفاعل انما يتولد من مفاد الفعل المضارع. ومن

ص: 102

هنا قيل : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، لان المضارع مبدئه القريب ، بخلاف الماضي فإنه يكون مبدئه البعيد ، فنسبة اسم الفاعل واقعة في المرتبة الثالثة من النسب.

ثم بعد ذلك ، تصل النوبة إلى نسبة ملابسات الفعل من المفاعيل ، من حيث وقوع الضرب من زيد في زمان خاص ، أو مكان مخصوص ، فيقال : زيد ضارب في المسجد ، أو في الليل وأمثال ذلك ، فنسبة ملابسات الفعل تكون في المرتبة الرابعة من النسب.

( الامر الثامن )

في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه ، وهو من أشكل الأمور المبحوث عنها في المشتق ، وقبل بيان المختار لابد من تقديم أمور :

الأول : الظ ان هناك ملازمة ، بين القول بدلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة التقييدية ، والقول بأخذ الذات في مفهومه ، إذ المراد من النسبة الناقصة نسبة المبدء إلى الذات ، فلابد من دلالته على الذات التي هي طرف النسبة ، كدلالته على المبدء الذي هو الطرف الآخر لها ، فلا يجتمع القول بخروج الذات عن مفهوم المشتق مع القول بدلالته على النسبة الناقصة التقييدية (1) فتأمل.

الثاني : المراد من التركيب المتنازع فيه في المقام ، هو التركيب بحسب التحليل العقلي في عالم الادراك واخذ المفهوم ، بحيث يكون المدرك العقلاني من ضارب ، هو من جملة الذات التي ثبت لها الضرب على وجه يكون مدلول اللفظ هو هذه الجملة المركبة من الذات والمبدء وثبوته لها ، ويقابله البساطة ، فإنه معنى البساطة هو خروج الذات عن مدلوله ، بحيث يكون المدرك العقلاني من ضارب مثلا أمرا واحدا ومعنى فاردا ليست الذات داخلة فيه.

والحاصل : ان للقائم مثلا وجودا خارجيا ، ووجودا عقلانيا ، اما الوجود .

ص: 103


1- يمكن ان يقال : بأنه موضوع لنفس النسبة مع خروج المنتسبين عن المدلول ، كخروج الفاعل عن مدلول الفعل ، مع أنه وضع للنسبة التحققية في الماضي - منه.

الخارجي : فهو عبارة عن الهيئة الخاصة والشكل المخصوص القائم بالهواء. واما الوجود العقلاني المدرك من اطلاق القائم فهو المتنازع فيه من حيث اخذ الذات فيه ، فمن يقول بالتركيب ، يقول : ان المدرك العقلاني والمفهوم من قائم ، هو الذات التي ثبت لها تلك الهيئة الخاصة والقائم بها ذلك المبدء. ومن يقول بالبساطة يقول : بخروج الذات عن المفهوم ، وانما المفهوم من قائم هو عنوان الذات يتولد من قيام المبدء بها ، من دون ان يكون الذات جزء المفهوم والمدرك حتى عند التحليل العقلي ، إذ التركيب ولو تحليلا ينافي البساطة.

فما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتركيب عند التحليل العقلي مع الالتزام بالبساطة (1) مما لا وجه له.

ثم إن اخذ الذات في مفهوم المشتق يتصور على وجهين :

الأول : ان يكون الذات المبهمة الكلية مأخوذة فيه بمعنى اخذ ذات ما فيه.

الثاني : اخذ الذوات الشخصية في مفهومه من باب الوضع العام والموضوع له الخاص ، وسيأتي ما في كلا الوجهين انشاء اللّه تعالى.

الثالث :

حكى عن الشيخ قده ، انه قاس المشتق بالجوامد من حيث عدم اخذ الذات فيه ، وقال : كما أن الذات لم تؤخذ في مفهوم الجوامد ، وليس معنى الحجر هو ذات ثبت له الحجرية ، بل هو معنى بسيط ، فكذلك المشتق لم تكن الذات مأخوذة فيه. وقد تعجب من هذا القياس بعض وقال في وجه التعجب : ان الذات لا محالة مأخوذة في مفهوم الجوامد ، إذ الحجر مثلا من أسماء الذوات ، فلا يعقل خروج الذات عنه ، فلا مجال لقياس المشتقات بالجوامد. ثم أشكل على ما افاده الشيخ قده بقوله : أولا ، وثانيا ، وثالثا ، ورابعا ، وخامسا ، كما لا يخفى على المراجع هذا. .

ص: 104


1- هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن حكى انه يظهر من كلمات القوم : ان القائلين بالبساطة مختلفون ، فمنهم من يقول ببساطة المفهوم وان كان عند التحليل العقلي مركبا ، ومنهم من يقول بالبساطة حتى عند التحليل ، فراجع - منه.

ولكن الظ ان القياس في محله ، وذلك : لان الحجر وان كان من أسماء الذات ، الا ان منشأ توهم دخول الذات في المشتق هو بعينه موجود في الجوامد ، ويلزمه القول بتركيب الجوامد مع بداهة بساطتها ، إذ لا منشأ لتوهم تركب المشتق من المبدء والذات ، سوى ان المبدء في المشتق انما يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه من الذات الذي بهذا اللحاظ يكون عرضيا ويصح حمله على الذات ، على ما سيأتي من معنى اللابشرطية في المقام ، بخلاف ما إذا لوحظ بشرط لا ، فإنه يكون عرضا غير محمول. وهذا اللحاظ أي لحاظ اللابشرطية بعينه موجود فيما يتحصل منها الأنواع ، كالانسان ، والشجر ، والحجر ، وغير ذلك ، فان المادة أو الصورة ان لوحظت بشرط لا ، يكون كل منها مباينا للاخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ولا حملهما على ثالث ، بل تكون المادة ح صرف القوة مباينة للصورة التي هي فعلية صرفة. وان لوحظت لا بشرط يصح حمل أحدهما على الآخر وحملهما على ثالث ، ويعبر عن أحدهما حينئذ بالجنس والاخر بالفصل ، فان الجنس هو المادة وانما الفرق بينهما بالاعتبار ، حيث إن المادة تعتبر بشرط لا ، والجنس يعتبر لا بشرط ، وكذا الحال في الصورة والفصل. وحينئذ ان كان لحاظ مبدء الاشتقاق في المشتقات لا بشرط موجبا لدخول الذات فيه ، فليكن لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه من الفصل موجبا لدخول الفصل في الجنس ، وكذلك دخول الجنس في الفصل ، إذ الفصل أيضا يلاحظ لا بشرط عن الجنس ، فيلزم دخول الجنس في الفصل ، والفصل في الجنس ، ودخولهما في النوع ، ودخول النوع في كل منهما ، فان حمل الحيوان على الانسان في قولك : الانسان حيوان انما يكون بعد لحاظ الحيوان لا بشرط عن اتحاده مع الانسان ، والا بان لوحظ بشرط لايكون ح صرف المادة ، ولا يصح حمله على الانسان ، فلو كان لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه موجبا لدخول ذلك المتحد مع الشيء في الذات لكان يلزم دخول الانسان في الحيوان عند حمله عليه ، فان ما يكون حيوانا هو الانسان ، وما يكون انسانا هو الحيوان ، وكذلك في الفصل. وهذا معنى ما قلنا : من أنه يلزم دخول كل من الجنس والفصل والنوع في مفهوم الاخر ، مع أن ذلك بديهي البطلان.

ص: 105

فيعلم من ذلك : ان لحاظ المبدء لا بشرط عما يتحد معه من الذات في المشتقات غير مستلزم لدخول الذات فيه ، والا لاستلزم في الجوامد دخول كل من الجنس والفصل والنوع في الاخر ، فيكون معنى الحجر حينئذ شيء ثبت له الحجرية إذا الفصل في الحجر انما يكون فصلا له بعد لحاظه لا بشرط عما يتحد معه من الجسمية فتكون الجسمية داخلة في مفهوم الحجر ، وهكذا الكلام في سائر الأنواع والأجناس والفصول ، عاليها وسافلها (1).

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه يدل على المختار من بساطة المشتق وجوه :

الأول :

ان المشتق على ما عرفت مرارا انما ينتزع من لحاظ المبدء لا بشرط ، فلو كانت الذات مأخوذة في مفهومه وجزء لمدلوله لخرج عن كونه لا بشرط إلى بشرط شيء ، وهذا خلف ، إذ الفرق بين المشتق ومبدئه ليس الا باللابشرطية والبشرط اللائية ، واعتبار الذات يلازم البشرط الشيئية ، وهو خلاف ما اتفقوا عليه.

الثاني :

ان الألفاظ موضوعة بإزاء المفاهيم بما أنها مرآة الحقايق ، لا بما هي هي حتى يمتنع صدق ما وضع له الألفاظ على الخارجيات ، والمفهوم عبارة عن المدرك العقلاني ، وهو في غاية البساطة ليس فيه شائبة التركيب ، فلا يمكن ان يكون مفهوم المشتق مركبا من الذات والمبدء.

الثالث :

انه يلزم تكرار الموصوف في مثل قولك : ذات باردة لأنه لو كان معنى .

ص: 106


1- وينبغي مراجعة كلام المستشكل فان ظاهر كلامه ان اشكاله مقصور بدعوى خروج الذات عن الجوامد ، كما هو الظاهر من الكلام المحكى عن الشيخ قدس سره وظني ان استلزام دخول الجنس في الفصل وبالعكس لا يرفع اشكال المستشكل ، فتأمل - منه.

الباردة ذات ثبت لها البرودة لزم تكرار الذات في القضية ، مع شهادة الوجدان بخلافه ، بل يلزم التكرار في كل قضية كان المحمول فيها من العناوين المشتقة إذا كان المراد من اخذ الذات اخذ مصداق الذات ، أي الذوات الشخصية ، لا مفهوم الذات ، فان في قولك : زيد كاتب ، يكون شخص زيد مأخوذا في مفهوم الكاتب ، فيكون مفاد القضية زيد زيد ثبت له الكتابة ، فيلزم تكرار الموصوف في كل قضية ، وانسباقه إلى الذهن مرتين وهو كما ترى ، بل يلزم ان يدخل المشتق في متكثر المعنى ، بناء على اخذ الذوات الشخصية في مفهومه ، ويكون من باب الوضع العام والموضوع له الخاص ، مع أن هيئة فاعل موضوعة بوضع نوعي لكلي المتلبس بالمبدء على نحو عموم الموضوع له.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض في هذا المقام ، حيث أساء الأدب إلى أستاذ الأساتيذ السيد الجليل الميرزا الشيرازي قده ، عند ما أورد اشكال لزوم كون المشتق من متكثر المعنى ، بناء على اخذ الذوات الشخصية في مفهومه ، وقال : ان الاشكال بذلك انما هو لأجل عدم تعقل المعاني الحرفية ، ثم أطال الكلام في أن هيئة المشتق كهيئات الافعال انما هي موضوعة للمعاني الحرفية النسبية بالوضع العام والموضوع له العام ، غايته ان هيئات الافعال موضوعة للنسبة التامة الخبرية ، وهيئة المشتق موضوعة للنسبة الناقصة التقييدية. وأنت خبير بما في هذا الكلام من الخلط والاشتباه في قياس هيئة المشتق على هيئة الافعال ، وحسبان ان الهيئة مط موضوعة للمعنى الحرفي النسبي ، مع وضوح بطلان القياس.

وذلك : لأنه لا يعقل ان يكون مفاد الهيئة في المشتق معنى حرفيا ، بان تكون موضوعة للنسبة الناقصة التقييدية ، بداهة ان النسبة الناقصة التقييدية انما تكون نتيجة النسبة التامة الخبرية ، ومتأخرة عنها بالذات ، ولذا قالوا : ان الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فالنسبة الناقصة التقيدية دائما انما تحصل من النسبة التامة الخبرية وتكون من نتايجها ، وحينئذ نسئل عن النسبة التامة الخبرية التي تكون النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب نتيجة لها ، مع أنه لم يكن هناك نسبة تامة خبرية قبل حمل الضارب على زيد في قولك : زيد ضارب ، إذ هذا القول هو الذي

ص: 107

يتضمن النسبة التامة ، وتنقلب هذه النسبة التامة بعد الاخبار بها إلى النسبة الناقصة التقييدية. واما قبل الحمل والاخبار فليس هناك نسبة تامة خبرية حتى تكون نتيجتها النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب.

والحاصل : انه يلزم القول بدلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة التقييدية ، القول بان في مثل حمل الضارب على زيد في قولك : زيد ضارب يتضمن (1) نسبا أربع : نسبتين تامتين ، ونسبتين ناقصتين.

اما التامتان : فإحديهما نسبة الضارب إلى زيد التي تكفلها نفس الكلام ، وثانيهما النسبة التامة التي تكون نتيجتها النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب ، لما عرفت : من أن كل نسبة ناقصة تقييدية فهي من نتايج النسبة التامة ، فيلزم القول بدلالة الهيئة على النسبة الناقصة القول بوجود نسبة تامة أخرى ، غير نسبة الضارب إلى زيد في قولك : زيد ضارب ، حتى تكون نتيجة تلك النسبة التامة هي النسبة الناقصة المدعى دلالة الهيئة عليها.

واما الناقصتان : فإحديهما هي النسبة الناقصة التقييدية ، الموضوع لها هيئة ضارب كما هو المدعى ، وثانيهما النسبة الناقصة التقييدية التي تكون نتيجة حمل الضارب على زيد ، حيث إن الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فلابد ان تحصل هناك نسبة ناقصة أخرى بعد الاخبار بضاربية زيد ، فيتحصل من قولك زيد ضارب نسب أربع ، وهو كما ترى يكذبه الوجدان. مع أنه يلزم ان تكون النسبة الناقصة التقييدية في عرض النسبة التامة الخبرية ، إذ قولك : زيد ضارب ، متكفل لنسبة تامة خبرية ، ومتكفل لنسبة ناقصة تقييدية الموضوع لها هيئة ضارب ، والحال انه لا يعقل ان تكون النسبة الناقصة في عرض النسبة التامة ، لما عرفت من أن النسبة الناقصة تكون في طول النسبة التامة ومن نتايجها ، فكيف يعقل ان تكون في عرضها؟.

وبالجملة : دعوى ان هيئة ضارب موضوعة بوضع حرفي للنسبة الناقصة .

ص: 108


1- مرادنا من التضمن الأعم من المطابقة والالتزام ، فلا تغفل وتتخيل خلاف المراد - منه.

التقييدية ، (1) مما لا ترجع إلى محصل ، إذ يلزم عليه مضافا إلى ما ذكرنا ، ان يكون المشتق لازم البنا ، ولا يمكن ان يكون معربا يقع مسندا ومسندا إليه ، لان المعنى الحرفي يلازم البنا ، فكيف صار معربا يقع مبتداء وخبرا في الكلام؟ (2) فلا محيص من القول بان هيئة المشتق موضوعة بوضع استقلالي اسمى للعنوان المتولد من قيام العرض بمحله. فظهر صحة ما حكى عن سيدنا الميرزا قده : من أنه لو كانت الذوات الشخصية مأخوذة في مفهوم المشتق يلزم ان يكون من متكثر المعنى مع أنه ليس كذلك فإذا لا يمكن ان تكون الذوات الشخصية مأخوذة في مفهومه ، كما لا يمكن ان تكون الذات الكلية مأخوذة فيه لما تقدم من المحاذير ، مضافا إلى أنه يلزم دخول الجنس في مفهوم الفصل وبالعكس على ما عرفت ، فلا محيص ح عن القول ببساطة المشتق.

بقى في المقام : ما افاده السيد الشريف في حاشيته على شرح المطالع ، من الاستدلال على بساطة المشتق عند تعريف صاحب المطالع النظر بأنه « ترتيب أمور حاصلة في الذهن ، يتوصل بها إلى تحصيل غير الحاصل » حيث قال الشارح : « وانما قال أمور ، لان الترتيب لا يتصور في امر واحد والمراد منها ما فوق الواحد » ثم قال الشارح : « والاشكال الذي استصعبه قوم ، بأنه لا يشتمل تعريف النظر التعريف بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها حتى غيروا التعريف إلى ترتيب امر أو أمور فليس من تلك الصعوبة في شيء ، وذلك لان التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات ، والمشتق وان كان في اللفظ مفردا ، الا ان معناه شيء له المشتق منه ، فيكون من حيث المعنى مركبا (3) و

ص: 109


1- ولا ينافي ذلك ما تقدم منا : من أن المشتق واقع في المرتبة الثالثة من النسب ، لان مرادنا من ذلك : هو ان معنى المشتق متأخرة في الرتبة عن الماضي والمضارع ، لا انه يدل على النسبة حقيقة ، فتأمل - منه.
2- ولكن لا اشكال في أن هيئة المضارع تدل على النسبة التامة مع أنه قد يعرض عليه الاعراب ، فدلالته على النسبة لا يلزم البناء - منه.
3- ولا يخفى ان المحقق المقرر قدس سره نقل عبارة شارح المطالع مع تصرفات موضحة لمعنى المقصود منها. واليك نص عبارته : « وانما قال أمور لان الترتيب لا يتصور في امر واحد ، والمراد بها ما فوق الواحد سواء كانت متكثرة أولا ، و هي أعم من الأمور التصورية و التصديقيّة، و قيّدها بالحاصلة لامتناع الترتيب فيها بدون كونها حاصلة و يندرج فيها مواد جميع الأقيسة» إلى ان قال: «و الإشكال الّذي استصعبه قوم بأنه لا يتناول التعريف بالفصل وحده و لا بالخاصّة و حدها، مع انه يصح التعريف بأحدهما على رأي المتأخرين حتى غيّروا التعريف إلى تحصيل امر أو ترتيب أمور فليس من تلك الصعوبة في شي ء، اما أولا، فلأنّ التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات كالناطق و الضاحك و المشتق و ان كان في اللفظ مفردا إلّا ان معناه شي ء له المشتق منه فيكون من حيث المعنى مركّبا. (انتهى موضع الحاجة من كلامه).

فاورد عليه السيد الشريف في حاشيته على هذا الجواب : بان مفهوم الشيء لا يعتبر في معنى الناطق ، والا لكان العرض العام داخلا في الفصل ، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشيء انقلب مادة الامكان الخاص ضرورية ، فان الشيء الذي له الضحك هو الانسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. (1) انتهى ما حكى عن المطالع وشرحها والمحشى.

وحاصل ما افاده المحشى في وجه بساطة المشتق : هو انه ان اخذ مفهوم الشيء في مفهوم الفصل يلزم ان يدخل العرض العام في الفصل ، فان الناطق الذي هو الفصل يكون معناه شيء ثبت له النطق ، والشيء امر عرضي والنطق ذاتي ولا يعقل دخول العرضي في الذاتي ، وان اخذ مصداق الشيء يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى القضية الضرورية ، فان المصداق الذي يثبت له الضحك في قولك : الانسان ضاحك ليس هو الا الانسان ، فيرجع الامر في القضية الحملية إلى ثبوت الانسان للانسان ، ومن المعلوم : ان ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فتنقلب القضية من الامكان إلى الضرورة.

ثم انه أورد على كل من شقي الترديد اللذين ذكرهما المحشى. فما أورد على الشق الأول ( وهو ما إذا كان المأخوذ في المشتق مفهوم الشيء يلزم دخول العرض العام في الفصل ) ما ذكره صاحب الفصول : (2) من أن الناطق انما يكون فصلا في

ص: 110


1- حاشية مير سيد شريف هامش ص 8 من شرح المطالع.
2- الفصول ص 62. تنبيهات المشتق. « ويدفع الاشكال بان كون الناطق مثلا فصلا مبنى على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب ان يكون وضعه لغة كذلك ».

عرف المنطقيين ، والذي جعله المنطقيون فصلا ليس هو تمام ما وضع له لفظ الناطق ، بل الذي جعل فصلا هو المعنى المجرد عن مفهوم الشيء ، فيكون الفصل أحد جزئي المدلول فلا يلزم دخول العرض في الفصل بعد هذا التجريد هذا.

وقد أورد على الفصول المحقق صاحب الكفاية (1) بما حاصله : انه من المقطوع ان المنطقيين لم يتصرفوا في مفهوم الناطق ، بل جعلوا الناطق فصلا بماله من المعنى من دون تجريد. ومما أورد على المحشى أيضا ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (2) وحاصله : ان الناطق ليس بفصل حقيقي ، بل انما هو من لوازم الفصل وخواصه ، ويكون بالنسبة إلى الانسان من الاعراض الخاصة وليس هو من الذاتي له ، فلا يلزم من اخذ مفهوم الشيء في مفهوم الناطق الا دخول العرض العام في العرض الخاص ، وهو ليس بمحذور هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان هذا الايراد مبنى على جعل الناطق بمعنى المدرك للكليات فان ادراك الكليات يكون من خواص الانسان وعوارضه ، واما لو كان الناطق عبارة عما يكون له النفس الناطقة ، التي بها يكون الانسان انسانا ، فهو فصل حقيقي للانسان وليس من العوارض.

ومما أورد على المحشى أيضا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله.

وحاصل ما ذكره : هو ان جعل الشيء من العرض العام مما لا يستقيم ، إذ الضابط في العرض العام ، والمايز بينه وبين الخاصة ، هو انه إذا كان الشيء أمرا خارجا عن حقيقة الذات وكان يلحق الذات لجنسها - كالمتحرك بالإرادة والحساس اللاحق للانسان لمكان كونه حيوانا - فهو يكون من العرض العام ، كما أن ما يلحق الذات باعتبار فصلها يكون من العرض الخاص ، كالضحك والتعجب اللاحقين للانسان بواسطة كونه ناطقا ، فيعتبر في العرض العام ان يكون أمرا خارجا »

ص: 111


1- الكفاية - المجلد الأول ص 78 « وفيه : ان من المقطوع ان مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا ، بل بما له من المعنى كما لا يخفى.
2- المدرك السابق ص 78 قوله : « والتحقيق ان يقال ان مثل الناطق ليس بفصل حقيقي .. »

عن الحقيقة والهوية ، ويكون مما يلحق الجنس ويعرض له ، سواء كان مما يعرض الجنس القريب كالمتحرك بالإرادة العارض للحيوان ، أو الجنس البعيد كالنامي العارض للجسم. وحينئذ لو كان مفهوم الشيء من العرض العام لكان اللازم ان يكون من اللواحق والعوارض الجنسية ، ونحن لا نتعقل ان يكون هناك جنس يكون الشيء من عوارضه ، إذ ليس فوق مفهوم الشيء امر يكون الشيء عارضا عليه ، بل الشيء هو فوق كل موجود في العالم ، بحيث يصدق على جميع الموجودات من الماديات والمجردات والجواهر والاعراض - انه شيء ، فكيف يمكن ان يكون الشيء من العوارض الجنسية؟ وأي جنس يكون فوق الشيء؟ حتى يكون الشيء عارضا له ، فلابد ان يكون الشيء هو بنفسه جنسا عاليا لجميع الموجودات الامكانية من الماديات وغيرها.

واما توهم انه لا يمكن ان يكون الشيء جنسا للموجودات ، لاطلاق الشيء على الباري تعالى ، مع أنه لا جنس له لاستلزامه التركيب.

فلا يخفى فساده ، فإنه تعالى شيء الا انه لا كالأشياء ، كما ورد ذلك في خطبته علیه السلام (1) فليس اطلاق الشيء عليه كاطلاقه على سائر الأشياء حتى يلزم التركيب في ذاته تعالى.

فان قلت : ان الشيئية انما تكون من الأمور الانتزاعية الخارجة المحمول ، فلا يمكن ان تكون جنسا عاليا ، لان الجنس لابد ان يكون ذاتيا للشيء ، فلا يمكن ان .

ص: 112


1- لم نجد في خطب نهج البلاغة ما ورد بهذا المضمون. نعم ورد هذا المضمون في بعض الروايات كقوله (عليه السلام) : هو شيء بخلاف الأشياء في خبر هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). وقوله (عليه السلام) انه شيء لا كالأشياء في خبر محمد بن عيسى بن عبيد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام). ولكن الأول مجهول بعباس بن عمرو الفقيمي والثاني مرسل. وفى المقام روايات أخرى يستفاد منها صحة اطلاق القول بأنه تعالى شيء ، راجع أصول الكافي الجزء 1 ، كتاب التوحيد ، باب اطلاق القول بأنه شيء ص 109. توحيد الصدوق. باب في أنه تبارك وتعالى شيء ص 62. بحار الأنوار الجزء 3 ، باب 9 من كتاب التوحيد ص 257.

يكون ما هو خارج المحمول وما يكون انتزاعيا محضا جنسا للأنواع المندرجة تحته.

قلت : ان الشيئية وان كانت من الأمور الانتزاعية ، الا انها لما كانت تنتزع من مقام الذات فهي ملحقة بالذاتي ، كما أن ما يكون منتزعا من غير مقام الذات ملحق بالعرض كالتقدم والتأخر ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، فكون الشيئية من الأمور الانتزاعية لا يضر بدعوى كون الشيء جنسا للأجناس ، فان الشيئية انما تنتزع من الماهيات عند وجودها ، ولذا كان شيئية الشيء مساوقة لوجوده ، لان الماهية عند وجودها تكون شيئا فتأمل.

فتحصل : ان دعوى كون الشيء من العرض العام مما لا نتعقله ، فلوا بدل المحشى اشكال دخول العرض العام في الفصل باشكال دخول الجنس في الفصل كان أولى. فتأمل في المقام جيدا ، فان ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام مما لا يخلوا عن اشكال. (1) هذا تمام الكلام في الشق الأول الذي ذكره المحشى.

واما الشق الثاني : وهو ما إذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق ، حيث قال : يلزم انقلاب الامكان إلى الضرورة.

فقد أورد (2) عليه صاحب الفصول بما حاصله : ان اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق لا يلازم الانقلاب ، فان عقد الحمل قد قيد بقيد تكون القضية باعتبار ذلك القيد ممكنة. مثلا في قولنا : الانسان ضاحك ، قد قيد الانسان الذي تضمنه الضاحك بقيد الضحك ، فيكون المحمول المجموع من القيد والمقيد ، وثبوت الانسان .

ص: 113


1- وظني ان مرادهم من العرض العام في المقام غير العرض العام الذي اصطلح عليه المنطقيون الذي يجعلونه مقابل العرض الخاص وهو ما كان يعرض الشيء لجنسه ، بل المراد من العرض العام في المقام هو المعقول الثانوي الذي ينتزعه العقل كالامكان والوجوب وغير ذلك ، وما ذكره شيخنا الأستاذ من جعل ( الشيء ) جنس الأجناس مما لا يمكن المساعدة عليه ، إذ يلزم ان يكون بين الجوهر والعرض جنسا ذاتيا ، ويلزم تركب العرض ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل - منه.
2- الفصول ص 62 تنبيهات المشتق التنبيه الأول ، « ويمكن ان يختار الوجه الثاني أيضا ويجاب بان المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا ، بل مقيدا بالوصف ، وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة ، لجواز ان لايكون ثبوت القيد ضروريا.

المقيد بالضحك لمطلق الانسان الذي اخذ موضوعا في القضية ليس ضروريا باعتبار قيد الضحك وان كان ثبوت الانسان المجرد عن القيد للانسان ضروريا لان ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فالقضية باعتبار القيد لا تخرج عن كونها ممكنة ، لان النتيجة تتبع أخس المقدمات.

ثم تنظر هو قده (1) في الايراد بما حاصله : ان القيد ان كان ثابتا للمقيد واقعا صدق الايجاب بالضرورة ، وان لم يكن ثابتا له صدق السلب بالضرورة هذا ، ولكن لا يخفى ما في كل من الايراد والجواب من النظر.

اما في الايراد فتوضيحه : ان الجزئي بما هو جزئي غير قابل للتقييد ، لان التقييد انما يرد على الماهيات الكلية القابلة للتنويع بالقيود ، واما الأمور الجزئية فهي غير قابلة للتنويع ، فلا يمكن ان تقيد بقيد. نعم الأمور الجزئية قابلة للتوصيف ، حيث إن الجزئي يمكن ان يكون موصوفا بوصف في حال وبوصف اخر في حال آخر كما يقال : زيد راكب في اليوم وجالس في الغد ، واما اخذ الركوب قيدا لزيد على وجه يكون متكثرا للموضوع واقعا فهو غير معقول. ومن هنا قالوا : انه لو قال : بعتك هذا الكاتب يكون المبيع هو الشخص المشار إليه كاتبا كان أو لم يكن ، غايته انه عند تخلف الوصف يكون للمشتري الخيار ، بخلاف ما إذا قال : بعتك عبدا كاتبا فان المبيع يكون المقيد بالكتابة.

وبالجملة : لا اشكال في أن الجزئي غير قابل للتقييد ، وان كان قابلا للتوصيف ، فح إذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم الضاحك مثلا فلا يمكن ان يكون المصداق مقيدا بالضحك ، لان المصداق ليس هو الا الجزئي ، وقد عرفت ان الجزئي غير قابل للتقييد ، فليس المحمول في قولك : زيد ضاحك أو الانسان ضاحك ، هو زيد المقيد بالضحك ، بل المحمول زيد الموصوف بالضحك ، ومن المعلوم : ان المحمول حينئذ

ص: 114


1- المدرك السابق. قوله : « وفيه نظر ، لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة والا صدق صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالضرورة ».

يكون كلا من الموصوف والصفة ، فتنحل قضية زيد ضاحك أو الانسان ضاحك إلى قولنا الانسان انسان وقولنا الانسان ذو ضحك ، لان القضية تتعدد حسب تعدد الموضوع أو المحمول ، وفي المقام المحمول متعدد واقعا وان كان واحدا صورة ، لما عرفت : من أن المحمول يكون كلا من الصفة والموصوف ، وليس المحمول أمرا واحدا مقيدا ، فقضية الانسان ضاحك أو كاتب تنحل إلى قضية ضرورية ، وهي قولنا الانسان انسان ، والى قضية ممكنة ، وهي قولنا الانسان ذو ضحك أو كتابة ، والمراد من الانقلاب في كلام السيد الشريف هو هذا ، أي ان القضية بعد ما كانت ممكنة تنقلب إلى قضية ضرورية وان كان هناك قضية أخرى ممكنة ، لان ذلك لا يضر بدعوى الانقلاب.

والحاصل : انه فرق ، بين ان يكون المحمول أمرا واحدا مقيدا ، وبين ان يكون المحمول متعددا من الوصف والموصوف. ففي الأول لا تنحل القضية إلى ضرورية وممكنة ، وفي الثاني تنحل إلى ضرورية وممكنة ، فان اخذ الموضوع في المحمول يوجب كون القضية ضرورية ، كما في قولك : زيد زيد الكاتب. كما أن اخذ المحمول في الموضوع يوجب كون القضية ضرورية كقولك : زيد الكاتب كاتب ، فتأمل في المقام جيدا.

واما ما أجاب به عن الايراد بقوله : وفيه نظر الخ ، فلم نعرف له معنى محصلا ، فان العبرة في كون القضية ضرورية أو ممكنة ، هو ملاحظة مادة المحمول ونسبته إلى الموضوع ، فان كان المحمول مما يقتضيه ذات الموضوع ، فالقضية تكون ضرورية لا محالة كما في قولك : الانسان ناطق ، فان ذات الانسان يقتضى الناطقية. وان لم يكن المحمول مما يقتضيه ذات الموضوع بل كان من الأوصاف الخارجة عن متقضيات الذات ، فالقضية لا محالة لا تكون ضرورية ، سواء دام ثبوت الوصف للموضوع كما في قولك : كل فلك متحرك دائما ، أولم يدم كما في قولك : الانسان كاتب ، فالعبرة في كون القضية ممكنة أو ضرورية هو هذا ، لا ان العبرة بقيام الوصف بالموضوع خارجا وعدم قيامه ، كما يعطيه ظاهر كلام الفصول (رحمه اللّه) فان القيام وعدم القيام خارجا أجنبي عن جهة القضية وانها موجهة بأي جهة من

ص: 115

الضرورة والدوام والامكان كما لا يخفى. فتأمل ، فان عبارة الفصول في قوله - وفيه نظر - تحتمل وجها اخر.

وعلى كل حال لا اشكال فيما ذكره السيد الشريف في كلا شقي الترديد ، وان كان الأولى تبديل الشق الأول بدخول الجنس في الفصل.

ثم انه يمكن ان يجاب عن الشق الثاني ( وهو لزوم انقلاب الممكنة إلى الضرورية ) بان الانقلاب انما يكون إذا اخذ الكاتب مثلا بمفهومه المركب من الذات والمبدء محمولا في القضية ، وأما إذا جرد عن الذات ، كما لا محيص عنه لئلا يلزم حمل الشيء على نفسه ، فلا تنقلب القضية إلى الضرورية. ودعوى : انه لم يكن هناك عناية التجريد ، بل الكاتب بماله من المعنى يحمل على زيد ، فهي من الشواهد على بساطة المفهوم.

فتحصل : انه لا محيص عن القول ببساطة المشتق ولا يمكن القول بتركبه.

( الامر التاسع )

في شرح ما يقال : من أن الفرق بين المشتق ومبدئه ، هو البشرط اللائية واللابشرطية ، كما هو الفرق بين الجنس والمادة والفصل والصورة.

فنقول : ان المراد من لا بشرط وبشرط لافى المقام ، غير المراد من بشرط لا ولا بشرط وبشرط شيء في تقسيم الماهية المبحوث عنها في باب المطلق والمقيد ، فان تقسيم الماهية إلى ذلك في ذلك المبحث انما هو باعتبار الطوارئ والانقسامات اللاحقة للماهية المنوعة والمصنفة لها.

فتارة : تلاحظ الماهية مجردة عن جميع الطوارئ واللواحق والانقسامات التي يمكن ان يفرض لها ، فهذه هي الماهية بشرط لا التي تكون من الأمور العقلية ، التي يمتنع صدقها على الخارجيات ، بداهة انه لا وجود لها بما هي كذلك.

وأخرى : تلاحظ واجدة لطور خاص وامر مخصوص كالايمان بالنسبة إلى الرقبة ، فهذه هي الماهية بشرط شيء.

وثالثة : تلاحظ على وجه السريان في جميع الانقسامات والطواري ، بحيث

ص: 116

يساوى كل لاحق مع نقيضه ، فهذه هي الماهية لا بشرط ، وهي المعبر عنها بالمطلق كما أوضحناه في محله.

وهذا المعنى من اللا بشرط وبشرط لا غير مقصود في المقام. بل مرادهم من قولهم : ان الفرق بين المشتق ومبدئه ، هو ان المشتق اخذ لا بشرط ، والمبدء اخذ بشرط لا ، انما هو معنى آخر ، غير المعنى المذكور في باب المط والمقيد.

وتوضيح المراد في المقام : هو ان العرض لما كان وجوده لنفسه وبنفسه وفي نفسه عين وجوده لغيره وبغيره وفي غيره لاستحالة قيام العرض بذاته بل تقرره انما يكون بمحله ، فيمكن ان يلاحظ العرض بما هو هو ومع قطع النظر عن عينية وجوده لوجود الموضوع ، كما أنه يمكن ان يلاحظ على ما هو عليه من القيام والاتحاد ، من دون تجريده وتقطيعه عما هو عليه من الحالة ، أي حالة القيام بالغير. فان لوحظ على الوجه الأول كان حينئذ عرضا مباينا غير محمول ويكون ملحوظا بشرط لا ، أي بشرط عدم الاتحاد والقيام بالمحل. وان لوحظ على الوجه الثاني كان حينئذ عرضيا متحدا محمولا ويكون ملحوظا لا بشرط ، أي لا بشرط عن التجرد والتقطيع ، بل لوحظ على ما هو عليه من الحالة من القيام بالموضوع.

والحاصل : انه لا اشكال في أن العرض مط من أي مقولة كان ، هو بنفسه من الماهيات الامكانية التي لها حظ من الوجود ، ويقابل الجوهر عند تقسيم الممكنات. وكذا لا اشكال في أن قوام تقرر العرض بالموضوع ، حيث إنه ليس هو بنفسه متقررا في الوجود كتقرر الجوهر ، بل لابد في العرض من أن يوجد في محل ويقوم به ويتحد معه بنحو من الاتحاد ، وهو الاتحاد في الوجود ، وهذا معنى ما يقال : من أن وجود العرض لنفسه وبنفسه وفي نفسه عين وجوده لموضوعه وبموضوعه وفي موضوعه. وإذا كان الامر كذلك ، فتصل النوبة حينئذ إلى التفكيك بين الحيثيتين في مرحلة اللحاظ ، فيمكن لحاظه من الحيثية الأولى وذلك لايكون الا بالتجريد عن عينية وجوده لوجود موضوعه ، فيكون عرضا مفارقا غير محمول ، إذ التجريد يوجب مباينة وجوده لوجود موضوعه ، ومن المعلوم : انه لا يصح حمل أحد المتباينين على الاخر ، إذ يعتبر في الحمل نحو من الاتحاد ، سواء كان على وجه

ص: 117

الاتحاد في الهوية ، كما في اتحاد الحد للمحدود في قولك : الانسان حيوان ناطق ، أو على وجه الاتحاد في الوجود كقولك : زيد ضارب ، فلا يصح قولنا : زيد ضرب. ولحاظه بهذا لوجه هو المعنى بقولهم بشرط لا أي بشرط ان لايكون في الموضوع ، لا انه لايكون واقعا لاستحالة ذلك ، بل يقطع النظر عن كونه في الموضوع ، إذ قطع النظر عن ذلك ولحاظه على هذا الوجه بمكان من الامكان. كما أنه يمكن لحاظه من الحيثية الثانية ، أي لحاظه لا بشرط التجرد ، بل يلاحظ على ما هو عليه من العينية والاتحاد ، فيكون عرضيا متحدا محمولا ويكون هو مفاد المشتق.

ومن هنا يظهر : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون معنى قابلا للحاظه بشرط لا أولا بشرط ، بان يكون هو بنفسه مجردا عن ذلك ، فلا يصح جعل المصدر أو اسم المصدر مبدء الاشتقاق ، لان كلا من المصدر واسم المصدر له معنى لا يمكن لحاظه لا بشرط ، بحيث يصح حمله على الخارج الا إذا جرد عن معناه فيخرج حينئذ عن كونه مصدرا أو اسم مصدر ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، فقد ظهر المراد من قولهم : ان الفرق بين المشتق ومبدئه هو اللابشرطية والبشرط اللائية ، واتضح ان المشتق عبارة عن تلك الكيفية الحاصلة للعرض من قيامه بمعروضه ، واتحاد وجوده لوجوده ، وأين هذا من دخول الذات في مفهومه؟.

ثم انه لا فرق في ما ذكرناه من معنى المشتق ، بين اسم الفاعل والصفة المشبهة ، وغيرهما من الأسماء المشتقة : من اسم المفعول ، واسم المكان ، واسم الآلة كمضروب ومقتل ومفتاح وغير ذلك ، فإنه بعد ما كان وجود العرض وجودا رابطيا ، فلا محالة يكون بين العرض وبين موضوعه - من الآلة والمكان وغير ذلك من ملابسات الفعل - نحو من الربط والاتحاد المصحح للحمل ، غايته ان كيفية الاتحاد تختلف ، ففي اسم الفاعل يكون نحو من الاتحاد ، وفي اسم المفعول يكون نحوا آخر من الاتحاد ، وفي اسم الآلة أو اسم المكان نحو آخر. ويجمع الجميع : ان من قيام المبدء بالذات - على اختلاف أنحاء القيام والإضافة الحاصلة بين المبدء والذات - يحصل عنوان للعرض وكيفية للمبدء ، يكون الاسم موضوعا لذلك

ص: 118

العنوان ولتلك الكيفية.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : انه اختلف القوم في كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس أو للأعم منه وما انقضى على أقوال.

ثالثها : التفصيل ، بين اسم الفاعل واسم المفعول ، وغيره من سائر هيئات المشتقات.

ورابعها : التفصيل ، بين ماذا كان المبدء من الملكات والصناعات ، وغيرهما.

وخامسها : التفصيل ، بين المتعدى كضارب ، وغيره كعالم.

وسادسها : التفصيل ، بين ما إذا طرء ضد وجودي ، وغيره.

وغير ذلك من الأقوال التي يقف عليها المراجع. الا ان الظاهر : ان هذه الأقوال حادثة بين المتأخرين ، بعد ما كانت المسألة ذات قولين : قول بوضعه لخصوص المتلبس مط في جميع التقادير ، وقول بوضعه للأعم كذلك. وهذه التفاصيل كلها نشأت من حسبان اختلاف الهيئات الاشتقاقية ، أو اختلاف مبادئ المشتقات فيما نحن فيه ، مع أن الظاهر أن ذلك لا يوجب اختلافا فيما نحن فيه ، إذ الكلام في وضع الهيئة للأخص أو الأعم ، وذلك مما لا يختلف فيه المبادئ كما لا يخفى ، غايته لو كان المبدء ملكة أو حرفة يكون الانقضاء باعتبار ذهاب الملكة ورفع اليد عن الحرفة ، ولو كان المبدء من الفعليات يكون الانقضاء بعدم الفعلية. وكان منشأ توهم التفصيل بين المبادئ ، هو تخيل صدق البقال مثلا بالنسبة إلى من لم يكن مشتغلا ببيع البقل ، فتوهم ان البقال لابد ان يكون للأعم. وكذا الكلام في غير البقال من سائر الصيغ التي تكون المبادئ فيها حرفة أو صناعة أو ملكة ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه بعد ما كان المبدء حرفة أو ملكة أو صناعة يكون العبرة في الانقضاء هو تبدل الحرفة والصناعة بحرفة وصناعة أخرى ، أو مجرد رفع اليد عن تلك الحرفة وان لم يتلبس بحرفة أخرى.

وبالجملة : لا وجه للتفصيل بين مبادئ المشتقات أو هيئاتها ، فالعمدة في

ص: 119

المسألة هو اثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس مط في جميع الموارد ، أو وضعه للأعم كذلك مط.

والأقوى : انه موضوع لخصوص المتلبس مجاز في غيره ويدل على المختار أمور.

الأول :

انه بعد القول بالبساطة وخروج الذات عن مفهوم المشتق ، لا محيص عن القول بوضعه لخصوص المتلبس ، ولا يمكن ان يكون موضوعا للأعم ، إذ الوضع للأعم لايكون الا إذا كان هناك جامع بين المتلبس والمنقضى عنه المبدء ، حتى يكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع وليس في البين جامع بناء على البساطة ، وذلك لان المشتق يكون ح عبارة عن نفس العرض الملحوظ لا بشرط كما تقدم ، وليس وظيفة الهيئة الا جعل العرض المباين عرضيا محمولا ، فالمشتق هو عبارة عن العرض المحمول ، ومن المعلوم : توقف ذلك على وجود العرض حتى يصح لحاظه لا بشرط.

والحاصل : ان انقضاء المبدء موجب لانعدام ما هو قوام المشتق وحقيقته ، إذ بعد ما كانت الذات منسلخة عن مدلول المشتق وكان حقيقة المشتق عبارة عن نفس العرض لا بشرط ، فلا يعقل ان يكون هناك جامع بين حالتي الانقضاء والتلبس يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، لان الانقضاء موجب لانعدام عنوان المشتق ، ولا يعقل ان يكون اللفظ موضوعا بإزاء كلتا حالتي وجود المعنى وانعدامه ، إذ لا جامع بين الوجود والعدم ، فلا محيص من أن يكون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس.

وبالجملة : بناء على البساطة يرتفع الفارق وبين الجوامد والمشتقات ، الا من حيث كون الجوامد عناوين للذاتيات ، والمشتقات عناوين للعرضيات ، واما من حيث الوضع لخصوص المتلبس فلا فرق بينهما ، إذ كما أن انعدام الصورة النوعية الذاتية التي بها يكون الحجر حجرا يوجب انعدام العنوان وعدم انحفاظ ما وضع اللفظ بإزائه ، كذلك انعدام الصورة النوعية العرضية التي بها يكون الضارب ضاربا موجب لانعدام عنوان الضارب وعدم انحفاظ ما وضع اللفظ بإزائه. كل ذلك لمكان عدم ثبوت الجامع الباقي بين الحالتين الا الهيولي في الجوامد والذات

ص: 120

في المشتقات ، وكل من الهيولي والذات خارجة عنى المعنى وأجنبية عنه.

فظهر : ان هناك ملازمة بين القول بالبساطة والقول بالوضع لخصوص المتلبس ، وحيث اخترنا البساطة على ما تقدم بيانه ، فلا بد ان نقول بوضع المشتق بإزاء خصوص المتلبس.

نعم للقائل بالتركيب ان يقول بوضعه للأعم ، إذ للقائل بالتركيب ان يقول : ان ( ضارب ) مثلا موضوع للذات التي ثبت لها الضرب في الجملة ، من غير تقييد بخصوص المتلبس هذا.

ولكن مع ذلك لا يستقيم ، لتوجه اشكال عدم ثبوت الجامع بين التلبس والانقضاء حتى على القول بالتركيب ، وذلك لان أقصى ما يدعيه القائل بالتركيب ، هو ان المشتق موضوع للذات المقيدة بالمبدء على وجه النسبة الناقصة التقييدية معرى عن الزمان ، بداهة خروج الزمان عن مداليل الأسماء ، ومن المعلوم : انه ليس هناك جامع بين الانقضاء والتلبس الا الزمان ، فلو كان الزمان جزء مدلول المشتق لأمكن للقائل بالتركيب ان يقول : ان الهيئة موضوعة للذات التي ثبت لها المبدء في زمان ما ، الصادق على الزمان الماضي والمتلبس ، واما لو لم يكن الزمان جزء مدلول اللفظ فلا يكون هناك جامع يمكن ان يوضع اللفظ بإزائه ، بداهة ان الذات انما تنتسب إلى المبدء عند فعلية المبدء ، واما مع عدم فعليته فليست منتسبة إليه الا باعتبار الزمان الماضي ، والمفروض ان الزمان خارج عن مدلول اللفظ.

وحاصل الكلام : ان المشتق ، اما ان يكون موضوعا لخصوص المتلبس ، واما ان يكون موضوعا للأعم بالاشتراك المعنوي ، إذ لا يحتمل ان يكون موضوعا لخصوص ما انقضى عنه المبدء ، أو موضوعا لكل منهما بالاشتراك اللفظي ، فلابد ان يكون موضوعا ، اما للمتلبس ، واما للأعم ، ومن المعلوم : ان الوضع للأعم يتوقف على أن يكون هناك جامع قريب عرفي ، ولا يمكن ان يكون هناك جامع بين التلبس والانقضاء الا من ناحية الزمان ، والمفروض ان الزمان خارج عن مدلول الأسماء ، فلابد ان يكون موضوعا لخصوص المتلبس.

ص: 121

فظهر : ان القول بالتركيب لا يلازم القول بالأعم ، كما ربما يتخيل ، (1) بل قوى ذلك شيخنا الأستاذ مد ظله ابتداء ، وان كان قد عدل عنه أخيرا وأفاد : انه لا يمكن القول بالوضع للأعم مط ، سواء قلنا بالبساطة ، أو قلنا بالتركيب ، وان كان الامر على البساطة أوضح ، لما عرفت : من أن المشتق بناء على البساطة ليس الا عبارة عن نفس الحدث لا بشرط ، واللفظ انما يكون موضوعا بإزاء هذا المعنى ، وبعد الانقضاء لم يبق حدث حتى يتوهم كونه حقيقة فيه ، كما أنه عند انعدام الصورة النوعية في الجوامد لم يبق ما هو الموضوع له.

ولا يتوهم انه بناء على هذا ينبغي ان لا يصح اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، إذ معنى المشتق لم يبق والذات الباقية أجنبية عن المشتق ، فعلى أي وجه يصح اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء؟ فان الذات وان لم تكن مأخوذة في المشتق ، الا انها لما كانت معروضة للمشتق ومتصفة به في السابق ، صح اطلاق المشتق عليها بعلاقة ما كان.

وبالجملة : لا محيص عن القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس ، ولا يمكن عقلا ان يكون موضوعا للأعم. هذا مضافا إلى وجود علائم الحقيقة والمجاز في المقام ، حيث إنه يتبادر خصوص المتلبس عند الاطلاق ، ويصح سلب عنوان المشتق عمن انقضى عنه المبدء ، فيصح ان يقال : زيد ليس بضارب إذا كان قد انقضى عنه الضرب ، ولا ينافي صحة السلب لصحة الحمل ، بداهة ان صحة الحمل ليس لمكان جوهر اللفظ ، بل بعناية ما كان ، بخلاف صحة السلب ، فإنه يصح سلب الضارب بما له من المعنى من دون عناية عن زيد الذي لم يكن بضارب فعلا ، كما يصح سلب الأسد بما له من المعنى عن الرجل الشجاع ، مع صحة حمله عليه أيضا ، الا ان صحة الحمل لمكان العناية ، بخلاف صحة السلب.

ص: 122


1- بتقريب انه موضوع لنفس النسبة من غير تقييد بالانقضاء والتلبس ، وبعبارة أخرى : موضوع للذات التي ثبت لها الضرب كما هو المتأول في تفسير الضارب ، ومن المعلوم : ان هذا المعنى يصدق على المنقضى والمتلبس ، فاعتبار خصوص المتلبس يحتاج إلى مؤنة زائدة ، فتأمل - منه.

وبالجملة : لو أنكر صحة السلب في سائر المقامات ، فليس لأحد انكاره في المقام ، لان سائر المقامات يمكن دعوى وضع اللفظ فيها للأعم ، كما لو ادعى ان الأسد موضوع لمطلق الشجاع الجامع بين الحيوان المفترس والرجل ، فمن ادعى ذلك فليس ممن ادعى ما يخالف العقل ، غايته انه ادعى ما يخالف الواقع.

وهذا بخلاف المقام ، فان ادعاء وضع المشتق للأعم مما لا يمكن ، لعدم الجامع في البين عقلا على ما تقدم بيانه. فالتمسك في المقام بصحة السلب مما لا غبار عليه ، كما لا غبار لصحة التمسك بلزوم اجتماع الضدين بناء على القول بالأعم فيما إذا تلبس بضد ما كان متلبسا به كالقيام والقعود ، وتوضيح ذلك : هو انه لا اشكال في تضاد نفس المبادئ : من القيام والقعود والسواد والبياض وغير ذلك ، وحينئذ فان قلنا ببساطة المشتق وانه عبارة عن نفس المبادئ لا بشرط ، فلا اشكال في تحقق التضاد بين نفس المشتقات أيضا : من القائم والقاعد والأسود والأبيض ، إذ القائم هو عبارة عن نفس القيام المتحد وجودا مع الذات وكذلك القاعد ، فالتضاد بين القيام والقعود لا محالة يستلزم التضاد بين القائم والقاعد بل هو هو ، فبناء على البساطة لا مجال لتوهم عدم التضاد بين القائم والقاعد ، ويلزم الوضع للأعم اجتماع الضدين فيما إذا تلبس القائم بالقعود ، لصدق القائم والقاعد عليه حقيقة ، وهو كما ترى يكون من اجتماع الضدين.

واما بناء على القول بالتركيب ، فربما يتوهم عدم التضاد بين المشتقات وان كان هناك تضاد بين نفس المبادئ ، تقريب ان الهيئة موضوعة للذات التي ثبت لها المبدء في الجملة ، ولو آنا ما ، فيكون القائم هو الذي صدر عنه القيام ، وهذا المعنى كما ترى يجامع القاعد الذي هو عبارة عن الذات التي صدر عنها القعود.

والحاصل : انه الهيئة توجب توسعة في ناحية المبادئ على وجه يقع التخالف بينها ، فيكون ضد القائم هو القاعد الدائمي بحيث لم يتلبس بالقيام أصلا ، وكذا الحال في القاعد ، واما التلبس بالقيام في الجملة فليس ضدا للقعود ، وكذا العكس هذا.

ولكن مع ذلك لا يستقيم ، بداهة انه بعد تعرية الأسماء المشتقة عن الدلالة

ص: 123

على الزمان يكون شغل الهيئة هو الصاق المبدء بالذات وربطه بها ، من دون تصرف في المبادئ والذوات ، بل المبادئ باقية على ما هي عليه من المعاني وكذا الذوات ، وبعد تسليم التضاد بين المبادئ فلا معنى لعدم تسليمه بين المشتقات ، مع أن الهيئات المشتقة لم تحدث في المبادئ والذوات ما يوجب خروجها عن التضاد. نعم لو اخذ الزمان في مدلول الهيئة لكان للتوهم المذكور مجال. فظهر : ان التضاد بين المبادئ يسرى إلى التضاد بين نفس المشتقات ، وذلك ينافي وضعها للأعم للزوم اجتماع الضدين ، فلابد عن القول بوضعها لخصوص المتلبس ، لأنه لا يتصادق عنوان القائم والقاعد في آن واحد.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه لا محيص عن القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس ولا يمكن عقلا وضعه للأعم ، مضافا إلى الوجوه الاخر.

بقى الكلام فيما استدل به القائل بالأعم ، وهو أمور :

الأول : تبادر الأعم.

الثاني : عدم صحة السلب. وفيهما ما عرفت : من تبادر خصوص المتلبس ، وصحة السلب عما انقضى عنه المبدء.

الثالث : كثرة الاستعمال في المنقضى. وفيه انها دعوى لا شاهد عليها ، إذ المسلم هو كثرة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي ، لان الاطلاق انما يكون بلحاظ حال التلبس ، لا اطلاقه عليه في الحال وجعله معنونا بالعنوان فعلا بلحاظ انه كان متلبسا قبل ذلك.

وبالجملة : فرق ، بين ان يكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس وان انقضى عنه التلبس ، وبين ان يكون باللحاظ الفعلي لمكان انه كان متلبسا ، والذي ينفع القائل بالأعم هو ان يكون الاستعمال على الوجه الثاني دون الأول ، إذ لا اشكال في أن الاستعمال بلحاظ حال التلبس يكون على وجه الحقيقة ، وأنت إذا راجعت وجدانك واستعمالك ، ترى ان استعمالاتك انما تكون بلحاظ حال التلبس ، إذ الاستعمال بهذا اللحاظ لا يحتاج إلى عناية ومؤنة ، بخلاف استعماله بلحاظ الفعلي لمكان تلبسه قبل ، فان ذلك يحتاج إلى لحاظ زائد عما هو عليه.

ص: 124

والحاصل : ان المصنف يرى أن اطلاق الضارب على من لم يكن متلبسا بالضرب فعلا وكان متلبسا في الزمان الماضي انما يكون بلحاظ حال تلبسه ، لا بلحاظه الفعلي بحيث يكون الاطلاق لمكان تعنونه فعلا بالعنوان لمكان صدور الضرب عنه في الزمان الماضي.

وبذلك يظهر : ضعف التمسك بآيتي السرقة والزنا اللتين تمسك بهما القائل بالأعم ، بتوهم ان المشتق في الآيتين انما استعمل في الأعم من المنقضى ، بل ربما يتخيل انه مستعمل في خصوص المنقضى ، حيث إنه بعد تحقق السرقة والزنا يحكم عليه بالقطع والحد ، لوضوح انه لولا تحقق الموجب للحد ، وانقضاء زمانه ولو آنا ما ، لا يحكم عليه بالحد من القطع والجلد.

ولكن لا يخفى عليه فساد التوهم ، لان المشتق في الآيتين لم يستعمل في المنقضى ، بل لا يمكن ان يكون مستعملا في ذلك ، لان المشتق انما جعل في الآيتين موضوعا للحكم ، ومن المعلوم : انه لا يعقل تخلف الحكم عن الموضوع ولو آنا ما ، والا لزم ان لايكون المشتق وحده موضوعا ، بل كان مضى الزمان ولو آنا ما له دخل في الموضوع ، والمفروض ان المشتق تمام الموضوع للحكم.

والحاصل : ان كل عنوان اخذ موضوعا لحكم من الاحكام فلا يخلو ، اما ان يكون اخذه لمجرد المعرفية من دون ان يكون له دخل في الموضوع ، واما ان يكون له دخل فيه. وهذا أيضا على قسمين ، لأنه ، اما ان يكون له دخل حدوثا وبقاء ، بحيث يدور الحكم مدار فعلية العنوان ، كما في مثل حرمة وطئ الحائض ، حيث إن الحرمة تدور مدار فعلية الحيض في كل زمان. وأخرى : يكون له دخل حدوثا فقط ، كما في عنوان السارق والزاني.

وفى كلا القسمين انما يكون الحكم بلحاظ التلبس ، ولا يمكن ان يكون بلحاظ الانقضاء ، لأن المفروض ان العنوان هو الموضوع للحكم ، فلابد ان يكون الحكم بلحاظ التلبس ، إذ لو اخذ بلحاظ الانقضاء يلزم ان لايكون العنوان تمام الموضوع ، بل كان مضى الزمان له دخل ، فيلزم الخلف.

وبالجملة : لا اشكال في أن السرقة والزنا علة للحكم بالجلد والقطع ،

ص: 125

ولا يمكن تخلف الحكم عنهما ، وليس الحكم بالجلد والقطع وكذا سائر الحدود من الاحكام التي يتوقف استمرارها على استمرار موضوعاتها ، كما في مثل حرمة وطئ الحائض ، حيث إن الحرمة في كل زمان يتوقف على ثبوت الحائض في ذلك الزمان ، لا ان يكون حدوث الحيض في زمان كافيا في بقاء الحرمة ولو مع عدم التلبس بعنوان الحائض ، بداهة ان الامر لايكون كذلك.

وهذا بخلاف باب الحدود ، فإنه يكفي في ترتب الحكم بالحد التلبس بالعنوان آنا ما ، وبعد التلبس يبقى الحكم إلى أن يمتثل ، ولا يتوقف بقاء الحكم على بقاء الموضوع في كل آن.

فظهر : ان في مثل آية السرقة والزناء لا يمكن ان يراد من المشتق المنقضى ولا الأعم منه ومن التلبس ، بل لا محيص من أن يراد منه خصوص المتلبس لئلا يلزم تخلف الحكم عن موضوعه.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عما استدل به القائل بالأعم أيضا ، بقوله تعالى : (1) « ولا ينال عهدي الظالمين » بضميمة استدلال الامام (2) بها على عدم قابلية الرجلين للخلافة لمكان عبادتهما الأوثان.

تقريب الاستدلال : هو انه لولا كون المشتق للأعم لما صح استدلاله (عليه السلام) لعدم كون الرجلين حين التصدي للخلافة من عبدة الأوثان هذا.

ولكن ظهر الجواب عن ذلك ، لان استدلال الإمام علیه السلام لا يتوقف على استعمال المشتق في المنقضى ، بل الاستدلال يتم ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس ، لان التلبس بالعنوان ولو آنا ما يكفي في عدم نيل العهد إلى الأبد ، ولا يتوقف على بقاء العنوان ، فحدوث العنوان في مثل هذا يوجب ترتب الحكم ، فالمشتق في مثل الآية أيضا قد استعمل في المتلبس.

ويؤيد ذلك : ان جلالة قدر الخلافة وولاية العهد تناسب ان لا يكون

ص: 126


1- سورة البقرة ، الآية 124
2- راجع أصول الكافي ، الجزء 1 ، كتاب الحجة ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ، ص 326

الخليفة متلبسا بالظلم ابدا في آن من الآنات ، فالتلبس بالظلم في آن ينافي منصب الخلافة الذي هو منصب إلهي ، لسقوطه عن أعين الناس ، فلا يؤثر كلامه في تزكية النفوس.

فتحصل : ان المشتق في هذه الآية وفي آيتي السرقة والزناء انما استعمل في خصوص المتلبس ، لا في الأعم ، ولا في خصوص المنقضى.

ص: 127

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

وقبل البحث عما يتضمنه هذا المقصد من المباحث الأصولية ، ينبغي تقديم أمور : يبحث فيها عن بعض ما يتعلق بمادة الامر وصيغته.

( الامر الأول )

قد ذكر لمادة الامر معان عديدة ، حتى أنهاها بعض إلى سبعة أو أكثر ، وعد منها : الطلب ، والشأن ، والفعل ، وغير ذلك. وقد طال التشاجر بينهم في كون ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، وحيث لم يكن البحث عن ذلك كثير الجدوى ، فالاعراض عنه أجدر. وان كان ادعاء الاشتراك اللفظي بين تمام المعاني السبعة بعيدا غايته ، بل لا يبعد ان يكون ذلك على نحو الاشتراك المعنوي بين تمام المعاني السبعة ، أو ما عدى الطلب منها ، وانه بالنسبة إلى الطلب وما عداه مشترك لفظي كما في الفصول ، (1) بل مال شيخنا الأستاذ مد ظله ، إلى أن مادة الامر موضوعة لمعنى كلي ومفهوم عام جامع للمعاني السبعة ، نحو جامعية الكلي لمصاديقه ، وان كان التعبير عن ذلك المعنى العام بما يسلم عن الاشكال مشكلا ، الا ان الالتزام بالاشتراك اللفظي أشكل.

وعلى كل حال ، لا اشكال في أن الطلب من معاني الامر ، سواء كان بوضع يخصه ، أو كان من مصاديق الموضوع له ، ولكن ليس كل طلب أمرا ، بل إذا كان الطالب عاليا ومستعليا على اشكال في اعتبار الأخير.

ص: 128


1- الفصول ص 63. المقالة الأولى. « الحق ان لفظ الامر مشترك بين الطلب المخصوص كما يقال امره بكذا ، وبين الشأن كما يقال شغله كذا لتبادر كل منهما من اللفظ عند الاطلاق .. »

واما اعتبار العلو فلا ينبغي الاشكال فيه ، بداهة ان الطلب من المساوي يكون التماسا ، ومن الداني يكون دعاء ، ولا يصدق على ذلك أنه امر ، بل لا يبعد عدم صدق الامر على طلب العالي الغير المستعلى ، فان ذلك بالارشاد والاستشفاع أشبه. كما يؤيد ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله (1) لا بل انا شافع عند قول السائل : أتأمرني يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

( الامر الثاني )

الوجوب والاستحباب خارجان عن مفاد الامر بحسب وضعه ، وان كان اطلاقه يقتضى الوجوب على ما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ، الا ان اقتضاء الاطلاق ذلك غير كونه مأخوذا فيه وضعا كما لا يخفى.

( الامر الثالث )

قد ذكر لصيغة الامر معان عديدة أيضا ، حتى نقل ان بعضنا انها ها إلى أربعة وعشرين ، أو أكثر ، وعد منها : الطلب والتعجيز والتهديد وغير ذلك.

وقد وقع البحث أيضا في أن ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، الا ان الانصاف انه لا وقع للبحث عن ذلك في الصيغة ، وان كان له وقع في المادة ، بداهة ان صيغة الامر كصيغة الماضي والمضارع تشتمل على مادة وهيئة ، وليس للمادة معنى سوى الحدث ، كما أنه ليس للهيئة معنى سوى الدلالة على نسبة المادة إلى الفاعل. نعم تختلف كيفية انتساب المادة إلى الفاعل حسب اختلاف الافعال ، ففي الفعل الماضي الهيئة انما تدل على النسبة التحققية ، وفي المضارع تدل على النسبة التلبسية ، على ما مر ذلك مشروحا في مبحث المشتق.

واما فعل الامر ، فهيئته انما تدل على النسبة الايقاعية ، من دون ان تكون الهيئة مستعملة في الطلب ، أو في التهديد ، أو غير ذلك من المعاني المذكورة للهيئة ، لوضوح انه ليس معنى اضرب : اطلب ، ولا أهدد ، ولا غير ذلك. بل الطلب ، و

ص: 129


1- راجع سنن أبي داود. الجزء الثاني. كتاب الطلاق ، باب « المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد » ص 270

التهديد ، والتعجير ، انما تكون من قبيل الدواعي لايجاد النسبة الايقاعية بقوله : افعل. ومن هنا تمحضت صيغة افعل للانشاء ولا تصلح ان تقع اخبارا ، إذ الايقاع لا يمكن ان يكون اخبارا. وهذا بخلاف صيغة الماضي والمضارع ، حيث إنهما يصلحان لكل من الانشاء والاخبار. اما الماضي ، فوقوعه انشاء في باب العقود واضح. واما المضارع ، فانشاء العقد به محل خلاف واشكال. نعم المضارع انما يقع انشاء في مقام الطلب والبعث ، كيصلي ، ويصوم ، وما شابه ذلك وهذا بخلاف الماضي ، فإنه لم يعهد وقوعه انشاء في مقام البعث والطلب ابتداء ، وان استعمل في القضايا الشرطية في ذلك لانقلابه فيها إلى الاستقبال ، ولكن استعماله في الطلب في غيرها مما لم نعهده. وعلى كل حال ، لا اشكال في أن صيغة افعل ليست بمعنى الطلب ولا غيره من سائر المعاني ، وانما هي موضوعة لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل لدواعي : منها الطلب ومنها التهديد ومنها غير ذلك ، فتأمل جيدا. (1).

فتحصل : ان الصيغة لم تستعمل في الطلب ، بل إن كان ايقاع النسبة بداعي البعث والطلب يوجد مصداق من كلي الطلب عند استعمال الصيغة وايقاع النسبة ، كما هو الشأن في غير النسبة من سائر الحروف حيث إن باستعمالها يوجد مصداق من معنى كلي اسمى ، كالنداء عند قولك : يا زيد ، والخطاب عند قولك : إياك ، وغير ذلك من الحروف على ما تقدم تفصيل ذلك.

( الامر الرابع )

لا باس في المقام بالإشارة إلى اتحاد الطلب والإرادة وتغايرهما ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام ، وان لم يكن له كثير ارتباط به. وعلى كل حال ، ذهبت الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة ، وان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. وذهبت المعتزلة إلى اتحادهما وان الإرادة عين الطلب ، والطلب عين الإرادة. ولا يخفى ان الكلام في المقام أعم من إرادة الفاعل وإرادة

ص: 130


1- وفي بعض الكلمات ان النسبة التي تكون في صيغة ( افعل ) انما هي بين المبدء والآمر ، غايته انه نسبة تسبيبية كما أنه تكون بينه وبين الفاعل نبسة مباشرية ، فتأمل - منه.

الآمر ، إذ لا خصوصية في إرادة الآمر حتى يختص الكلام فيها ، فان المقدمات التي يحتاج إليها الفعل الاختياري في مرحلة وقوعه من فاعله ، هي بعينها يحتاج إليها الامر في مرحلة صدوره عن الآمر.

وبعد ذلك نقول : لا اشكال في توقف الفعل الاختياري على مقدمات : من التصور والتصديق والعزم والإرادة. وهذا مما لا كلام فيه ، انما الكلام في أنه هل وراء الإرادة امر آخر؟ يكون هو المحرك للعضلات يسمى بالطلب ، أو انه ليس وراء الإرادة امر آخر يسمى بالطلب؟ بل الإرادة بنفسها تستتبع حركة العضلات. ثم لا اشكال أيضا في أن الإرادة من الكيفيات النفسانية التي تحصل في النفس قهرا كسائر المقدمات السابقة عليها : من التصور والعلم وغير ذلك وليست الإرادة من الأفعال الاختيارية للنفس بحيث تكون من منشأتها الاختيارية.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن هناك وراء الإرادة امر آخر يكون هو المستتبع لحركة العضلات ويكون ذلك من أفعال النفس ، وان شئت سمه بحملة النفس ، أو حركة النفس ، أو تصدى النفس ، وغير ذلك من التعبيرات.

وبالجملة : الذي نجده من أنفسنا ، ان هناك وراء الإرادة شيئا آخر يوجب وقوع الفعل الخارجي وصدوره عن فاعله. ومن قال باتحاد الطلب والإرادة لم يزد على استدلاله سوى دعوى الوجدان ، وانه لم نجد من أنفسنا صفة قائمة بالنفس وراء الإرادة تسمى بالطلب. وقد عرفت : ان الوجدان على خلاف ذلك ، بل البرهان يساعد على خلاف ذلك ، لوضوح ان الانبعاث لايكون الا بالبعث ، والبعث انما هو من مقولة الفعل ، وقد عرفت ان الإرادة ليست من الافعال النفسانية ، بل هي من الكيفيات النفسانية ، فلو لم يكن هناك فعل نفساني يقتضى الانبعاث يلزم ان يكون انبعاث بلا بعث.

وبالجملة : لا سبيل إلى دعوى اتحاد مفهوم الإرادة ومفهوم الطلب ، لتكذيب اللغة والعرف ذلك ، إذ ليس لفظ الإرادة والطلب من الألفاظ المترادفة ، كالانسان والبشر. وان أريد من حديث الاتحاد التصادق الموردي وان تغايرا مفهوما فله وجه ، إذ يمكن دعوى صدق الإرادة على ذلك الفعل النفساني ، كما تصدق

ص: 131

على المقدمات السابقة من التصديق ، والعزم ، والجزم ، ويطلق عليها الإرادة هذا.

ولكن فيه : ما فيه ، إذ دعوى ذلك لايكون الا بدعوى ان الإرادة لها مفهوم واسع ، يسع المقدمات السابقة وما هو فعل النفس ، والحال انه ليس كذلك ، إذ الإرادة كيفية خاصة للنفس تحدث بعد حدوث مباديها فيها ، ولذا تسمى بالشوق المؤكد ، إذ التعبير بذلك انما هو لبيان انه ليس كل ما يحدث في النفس يسمى بالإرادة ، بل الإرادة انما تحدث بعد التصور والتصديق وغير ذلك من مباديها ، واطلاق الإرادة على بعض المبادئ أحيانا انما هو لمكان التسامح في توسعة المفهوم ، لا ان المفهوم هو بنفسه موسع بحيث يشمل ذلك. فظهر : انه لا سبيل إلى دعوى الاتحاد ، بل المغايرة بينهما عرفا أوضح من أن تخفى.

بل لا يمكن دفع شبهة الجبر الا بذلك ، بداهة انه لو كانت الافعال الخارجية معلولة للإرادة لكان اللازم وقوع الفعل من فاعله بلا اختيار ، بل يقع الفعل قهرا عليه ، إذ الإرادة كما عرفت ، كيفية نفسانية تحدث في النفس قهرا بعد تحقق مباديها وعللها ، كما أن مبادئ الإرادة أيضا تحصل للنفس قهرا ، لان التصور امر قهري للنفس ، وهو يستتبع التصديق استتباع العلة لمعلولها وهو يستتبع العزم والإرادة كذلك استتباع العلة لمعلولها ، والمفروض انها تستتبع الفعل الخارجي كذلك ، فجميع سلسلة العلل والمعلولات انما تحصل في النفس عن غير اختيار ، ومجرد سبق الإرادة لا يكفي في اختيارية الفعل. وليس كلامنا في الاصطلاح حتى يقال : انهم اصطلحوا على أن كل فعل يكون مسبوقا بالإرادة فهو اختياري ، إذ هذا الاصطلاح مما لا يغنى عن شيء ، لان كلامنا في واقع الامر ومقام الثبوت ، وانه كيف يكون الفعل اختياريا؟ مع أنه معلول لمقدمات كلها غير اختيارية ، فكيف يصح الثواب والعقاب على فعل غير اختياري؟.

والحاصل : انه لو كانت الافعال معلولة للإرادة ، وكانت الإرادة معلولة لمباديها السابقة ، ولم يكن بعد الإرادة فعل من النفس وقصد نفساني ، لكانت شبهة الجبر مما لا دافع لها ، ولقد وقع في الجبر من وقع مع أنه لم يكن من أهله ، وليس ذلك الا لانكار التغاير بين الطلب والإرادة وحسبان انه ليس وراء الإرادة شيء يكون

ص: 132

هو المناط في اختيارية الفعل.

واما بناء على ما اخترناه من أن وراء الإرادة والشوق المؤكد أمرا آخر ، وهو عبارة عن تصدى النفس نحو المطلوب وحملتها إليه ، فيكون ذلك التصدي النفساني هو مناط الاختيار ، وليس نسبة الطلب والتصدي إلى الإرادة نسبة المعلول إلى علته حتى يعود المحذور ، بل النفس هي بنفسها تتصدى نحو المطلوب ، من دون ان يكون لتصديها علة تحملها عليه.

نعم الإرادة بمالها من المبادئ تكون من المرجحات لطلب النفس وتصديها ، فللنفس بعد تحقق الإرادة بما لها من المبادئ التصدي نحو الفعل. كما أن لها عدم التصدي والكف عن الشيء ، وليس حصول الشوق المؤكد في النفس علة تامة لتصدي النفس ، بحيث ليس لها بعد حصول ذلك الكيف النفساني الامتناع عن الفعل ، كما هو مقالة الجبرية ، بل غايته ان الشوق المؤكد يكون من المرجحات لتصدي النفس ولا يخفى الفرق بين المرجح والعلة. هذا كله في نفى الجبر.

واما نفى التفويض

فالامر فيه أوضح ، لان أساس التفويض هو تخيل عدم حاجة الممكن في بقائه إلى العلة ، وانه يكفي فيه علة الحدوث ، مع أن هذا تخيل فاسد لا ينبغي ان يصغى إليه ، بداهة ان الممكن بحسب ذاته يتساوى فيه الوجود والعدم ، ويحتاج في كل آن إلى أن يصله الفيض من المبدء الفياض ، بحيث لو انقطع عنه الفيض آنا ما لانعدم وفنى ، فوجوده في كل آن يستند إلى الفياض. هذا بالنسبة إلى أصل وجوده. وكذا الحال بالنسبة إلى ارادته وأفعاله يحتاج إلى المبدء لكن لا على نحو الجبر كما عرفت. فتأمل في المقام جيدا ، فإنه خارج عما نحن فيه ولا يسع التكلم فيه أزيد من ذلك ، والغرض في المقام بيان تغاير الطلب والإرادة ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه تغايرهما.

هذا كله في إرادات العباد وافعالهم التكوينية ، وقس على ذلك الطلب والإرادة التشريعية ، فان المبادئ التي يتوقف عليها الفعل التكويني كلها مما يتوقف عليها الامر التشريعي ، غايته : ان الطلب في التكوينيات انما هو عبارة : عن تصدى

ص: 133

النفس لحركة عضلاتها نحو المطلوب ، وفي التشريعي عبارة عن تصدى الآمر بأمره لحركة عضلات المأمور نحو المطلوب ، والا فمن حيث معنى الطلب لافرق بينهما ، وانه في كلا المقامين بمعنى التصدي.

وبما ذكرنا ظهر : ما في بعض الكلمات - من تقسيم الإرادة والطلب إلى الواقعي والانشائي - من الخلل ، لوضوح ان الإرادة من الكيفيات النفسانية الغير القابلة للانشاء ، إذ الانشاء عبارة عن الايجاد ، والإرادة غير قابلة لذلك فتأمل.

( الامر الخامس )

قد عرفت ان صيغة الامر ليست موضوعة للطلب ، ولا غيره من المعاني المذكورة لها ، بل انما هي موضوعة لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل لدواعي : منها الطلب ومنها التهديد ومنها الامتحان ومنها غير ذلك. وليس الصيغة من أول الامر مستعملة في الطلب ، ولا المنشأ فيها مفهوم الطلب ، بل بها يوجد مصداق من الطلب إذا كان ايقاع النسبة بداعي الطلب ، دون ما إذا كان بداعي التهديد والسخرية.

نعم ، فيما إذا كان بداعي الامتحان يمكن ان يقال : انه طلب ، غايته ان صدق الطلب عليه ليس لمكان مطلوبية الفعل لمصلحة فيه ، بل لمكان بعث حركة عضلات العبد.

وبعبارة أخرى : المطلوب في الأوامر الامتحانية نفس حركة عضلات العبد لا نفس الفعل ، وعلى أي حال الامر في ذلك سهل.

انما الاشكال في طريق استفادة الوجوب من الصيغة ، بعد ما كان استفادة الوجوب منها مما لا اشكال فيه ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : (1) « ما منعك ان لا تسجد إذ أمرتك » ، مع أن الامر كان بصيغته ، كما هو ظاهر قوله تعالى : فقعوا له ساجدين. وبالجملة : لا اشكال في استفادة الوجوب منها ، انما الاشكال في طريق استفادة الوجوب منها.

ص: 134


1- سورة الأعراف الآية 12

فنقول : لهم في ذلك طرق :

منها : دعوى وضعها لغة للوجوب وهذه الدعوى بظاهرها لا تستقيم ، لما عرفت : ان الصيغة لها مادة وهيئة ، والمادة موضوعة لمعناها الحدثي ، ومفاد الهيئة معنى حرفي ، لكونها موضوعة لنسبة المادة إلى الفاعل بالنسبة الايقاعية. فلا معنى لدعوى وضعها للوجوب. اللّهم الا ان توجه بان المراد وضعها لايقاع النسبة إذا كان بداعي الطلب الوجوبي ، بان يؤخذ - بداعي الطلب الوجوبي - قيدا في وضع الهيئة.

واما دعوى : أكثرية استعمالها في الاستحباب فيلزم أكثرية المجاز على الحقيقة ، فهذا مما ليس فيه محذور إذا كان ذلك بقرينة تدل على ذلك انما الشأن في اثبات هذه الدعوى أي دعوى الوضع لذلك بل هي فاسدة من أصلها.

وتوضيح الفساد يتوقف على بيان حقيقة الوجوب والاستحباب وبيان المايز بينهما.

فنقول : ربما قيل بان الوجوب عبارة عن الاذن في الفعل مع المنع من الترك والاستحباب عبارة عن الاذن في الفعل مع الرخصة في الترك ، فيكون مفاد كل من الوجوب والاستحباب مركبا من أمرين. ولما كان التفسير بذلك واضح الفساد ، لوضوح بساطة مفهوم الوجوب والاستحباب ، عدل عن ذلك المتأخرون ، وجعلوا المايز بينهما بالشدة والضعف ، وقالوا : ان الوجوب والاستحباب حقيقة واحدة مقولة بالتشكيك ، فالوجوب عبارة عن الطلب الشديد ، والاستحباب عبارة عن الطلب الضعيف هذا.

ولكن الانصاف : ان هذه الدعوى كسابقتها واضحة الفساد ، لان الطلب لا يقبل الشدة والضعف ، لوضوح ان طلب ما كان في غاية المحبوبية وما لم يكن كذلك على نهج واحد ، وهذا ليس من الأمور التي يرجع فيها إلى اللغة ، بل العرف ببابك ، فهل ترى من نفسك اختلاف تصدى نفسك وحملتها نحو ما كان في منتهى درجة المصلحة وقوة الملاك ، كتصدي نفسك نحو شرب الماء الذي به نجاتك ، أو نحو ما كان في أول درجة المصلحة ، كتصدي نفسك لشرب الماء لمحض التبريد ، كلا لا يختلف تصدى النفس المستتبع لحركة العضلات باختلاف ذلك ، بل إن بعث

ص: 135

النفس للعضلات في كلا المقامين على نسق واحد. نعم ربما تختلف الإرادة بالشدة والضعف كسائر الكيفيات النفسانية ، الا ان الإرادة ما لم تكن واصلة إلى حد الشوق المؤكد الذي لا مرتبة بعده لا تكون مستتبعة لتصدي النفس. هذا في طلب الفاعل وارادته ، وقس على ذلك طلب الآمر ، فإنه لا يختلف بعث الآمر حسب اختلاف ملاكات البعث ، بل إنه في كلا المقامين يقول : افعل ، ويبعث المأمور نحو المطلوب ، ويقول مولويا : اغتسل للجمعة ، كما يقول : اغتسل للجنابة.

فدعوى اختلاف الطلب في الشدة والضعف ، وكون ذلك هو المايز بين الوجوب والاستحباب مما لاوجه لها ، بل العرف والوجدان يكذبها وان قال به بعض الأساطين.

والذي ينبغي ان يقال : هو ان الوجوب انما يكون حكما عقليا ، لا انه امر شرعي ينشأه الآمر حتى يكون ذلك مفاد الصيغة ومدلولها اللفظي ، كما هو مقالة من يقول بوضعها لذلك ، ومعنى كون الوجوب حكما عقليا ، هو ان العبد لابد ان ينبعث عن بعث المولى الا ان يرد منه الترخيص بعد ما كان المولى قد اعمل ما كان من وظيفته وأظهر وبعث وقال مولويا : افعل ، وليس وظيفة المولى أكثر من ذلك ، وبعد اعمال المولى وظيفته تصل النوبة إلى حكم العقل من لزوم انبعاث العبد عن بعث المولى ، ولا نعنى بالوجوب سوى ذلك.

وبما ذكرنا يندفع ما استشكل : من أنه كيف يعقل استعمال الصيغة في الأعم من الوجوب والاستحباب ، كما ورد في عدة من الاخبار ذكر جملة من الواجبات والمستحبات بصيغة واحدة كقوله : اغتسل للجمعة ، والجنابة ، والتوبة ، وغير ذلك ، فإنه لو كان الوجوب عبارة عن شدة الطلب ، والاستحباب عبارة عن ضعفه لكان الاشكال في محله ، بداهة انه لا يعقل ان يوجد الطلب بلا حد خاص من الشدة والضعف ، إذ لا يمكن وجود الكلي بلا حد.

واما بناء على ما قلناه من معنى الوجوب فلا اشكال فيه ، إذ ليس الطلب منقسما إلى قسمين ، بل الطلب انما يكون عبارة عن البعث ، وهو غير مقول بالتشكيك والصيغة في جميع المقامات لم تستعمل الا لايقاع النسبة بداعي البعث والتحريك

ص: 136

غايته انه في بعض المقامات قام الدليل على عدم لزوم الانبعاث عن ذلك البعث ، وفي بعض المقامات لم يقم ، فيكون المورد على ما هو عليه من حكم العقل بلزوم الانبعاث عن البعث.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الوجوب لا يستفاد من نفس الصيغة وضعا أو انصرافا ، بل انما يستفاد منها بضميمة حكم العقل. وبتقريب آخر : الوجوب ليس معناه لغة الا الثبوت ، ومنه قولهم : الواجب بالذات والواجب بالغير ، فان معنى كونه واجبا بالذات ، هو ان ثبوته يكون لنفسه ولمكان اقتضاء ذاته لا لعلة خارجية تقتضي الثبوت ، ومعنى كونه واجبا بالغير ، هو ثبوت علة وجوده ، أي ان علة وجوده قد تمت وثبتت. هذا في الواجبات التكوينية ، وقس عليه الواجبات التشريعية ، فان معنى كون الشيء واجبا شرعا هو ثبوت علة وجوده في عالم التشريع ، وليس علة وجوده الا البعث ، فالبعث يقتضى الوجود لو خلى وطبعه ولم يقم دليل على أن البعث لم يكن للترغيب الذي هو معنى الاستحباب ، وليكن هذا معنى قولهم : اطلاق الصيغة يقتضى الوجوب ، فتأمل في المقام جيدا.

( الامر السادس )

في دلالة الصيغة على التعبدية والتوصلية.

اعلم : ان البحث في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : فيما يقتضيه الأصلي اللفظي.

المقام الثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي عند عدم الأصل اللفظي ، وتنقيح البحث عن المقام الأول يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

في معنى التعبدية والتوصلية اما التعبدية : فهي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها العبد لربه ويظهر عبوديته ، وهي المعبر عنها بالفارسية ( بپرستش ) ومعلوم : ان أهل كل نحلة لهم أفعال يظهرون بها عبوديتهم ، ويعبدون بها معبودهم حتى عبدة الصنم والشمس ، فان لهم حركات خاصة وأفعالا مخصوصة ، بها يتذللون لمعبودهم ، ويظهرون له العبودية. فالمراد من العبادة في شرعنا ، هو ما

ص: 137

شرع لان يتعبد به العبد لربه ، ومعلوم : ان فعل الشيء لاظهار العبودية لايكون الا بفعله امتثالا لامره ، أو طلبا لمرضاته ، أو طمعا في جنته ، أو خوفا من ناره أو غير ذلك مما يحصل به قصد التقرب ، على ما ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة ، (1) ولا يكون الشيء عبادة بدون ذلك كما لا يخفى.

ويقابلها التوصلية ، وهي ما لم يكن تشريعه لأجل اظهار العبودية.

وقد يطلق التوصلية ويراد منها : عدم اعتبار المباشرة ، أو عدم اعتبار الإرادة والاختيار ، أو عدم اعتبار الإباحة والسقوط بفعل المحرم. ولا يخفى ان النسبة بين الاطلاقين هي العموم من وجه ، إذ ربما يكون الشيء توصليا بالمعنى الأول ، أي ( لم يشرع لأجل اظهار العبودية ) ومع ذلك يعتبر فيه الإرادة والاختيار ، كوجوب رد التحية ، فإنه لا يعتبر فيه قصد التعبد ، ومع ذلك يعتبر فيه المباشرة ، وربما ينعكس الامر ويكون الشيء توصليا بالمعنى الثاني أي لا يعتبر فيه المباشرة ويسقط بالاستنابة وفعل الغير ، ومع ذلك لايكون توصليا بالمعنى الأول بل يكون تعبديا ، كقضاء صلاة الميت الواجب على الولي ، فإنه يعتبر فيه التعبد مع عدم اعتبار المباشرة. وعلى كل حال البحث يقع في مقامين :

المقام الأول : في أصالة التعبدية المقابلة للتوصلية بالمعنى الأول لها.

المقام الثاني : في أصالة التعبدية المقابلة للتوصلية بالمعنى الثاني لها.

ولنقدم الكلام في المقام الثاني ، ثم نعقبه بالمقام الأول.

فنقول : ان الحق فيه ، هو أصالة التعبدية ، بمعنى اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار والإباحة ، فلا يسقط بفعل الغير ، ولا بلا إرادة واختيار ، ولا بفعل المحرم ، الا ان يقوم دليل على عدم اعتبار أحد القيود الثلاثة أو جميعها ، ولكن تحرير الأصل بالنسبة إلى هذه القيود الثلاثة يختلف ، وليس هناك أصل واحد يقتضى القيود الثلاثة. فينبغي تحرير الأصل الجاري في اعتبار كل قيد على حدة.

ص: 138


1- راجع تفصيل هذا البحث في المجلد الثاني من تقرير أبحاث المحقق النائيني قدس سره في مباحث الصلاة لتلميذه المحقق الحاج شيخ محمد تقي الآملي طاب مضجعه. الفصل الأول من فصول أفعال الصلاة ص 2.

فنقول : اما تحرير أصالة التعبدية ، بمعنى اعتبار المباشرة وعدم سقوطه بالاستنابة وفعل الغير ، فيتوقف على بيان كيفية نحو تعلق التكليف فيما ثبت جواز الاستنابة فيه وسقوطه بفعل الغير تبرعا ، بعد ما كان هناك ملازمة بين جواز الاستنابة وجواز التبرع ، فان كلما يدخله الاستنابة (1) يدخله التبرع كذا العكس.

وليعلم : ان التكليف لا يسقط بمجرد الاستنابة فيما ثبت جواز الاستنابة فيه ، بل انما يسقط بفعل النائب ، لا بنفس الاستنابة ، فيقع الاشكال ح في كيفية تعلق التكليف على هذا النحو ، وانه من أي سنخ من الأقسام المتصورة في التكاليف؟ من حيث الاطلاق والاشتراط والتعيينية والتخييرية وغير ذلك من الأقسام.

فنقول : اما تعلق التكليف بالنسبة إلى المادة ، أي الفعل المطالب به ، فيكون على وجه التعيين ، بمعنى انه لا يقوم شيء مقامه ، كما يقوم العتق مقام الصيام والصيام مقام الاطعام في خصال الكفارة. واما من حيث جهة الصدور عن الفاعل فلا يعتبر فيه التعيينية ، بمعنى انه لا يعتبر فيه مباشرة المأمور بنفسه ، واصدار المكلف بعينه ، بل للمكلف الاستنابة فيه واستيجار الغير له.

وبذلك يمتاز عن الواجب الكفائي ، فان الوجوب فيه بالنسبة إلى المادة وان كان على وجه التعيين ، ولا يعتبر مباشرة شخص خاص فيه ، الا ان الوجوب فيه متوجه إلى عامة المكلفين ، بحيث ان كل من اتى به فقد اتى بما هو واجب عليه نفسه ، لا انه يأتي به نيابة عن الغير. وهذا بخلاف المقام ، فان الآتي بالعمل ، سواء كان على وجه الاستنابة ، أو على وجه التبرع ، انما يأتي به عن الغير ، ويقصد تفريغ ذمة الغير ، بحث لو لم يأت به على هذا الوجه لكان الواجب بعد باقيا في ذمة الغير ولا يسقط عنه ، كما في القضاء عن الميت ، وأداء الدين ، وأمثال ذلك من الواجبات .

ص: 139


1- الا في بعض فروع الجهاد ، حيث يجوز الاستنابة فيه ويقع الفعل عن المنوب عنه ويترتب عليه قسمة الغنيمة ولا يدخله التبرع بل يقع الفعل عن المتبرع ، الا ان يتأمل في ذلك أيضا ، فتأمل وراجع أدلة الباب - منه.

التي يكون المكلف بها شخصا خاصا ، ومع ذلك يسقط بفعل الغير استنابة أو تبرعا ، فقولنا في المقام : انه لا يعتبر فيه صدوره عن المكلف لا يلازم كونه واجبا كفائيا ، بل التكليف بالنسبة إلى جهة جواز الاستنابة يكون على وجه التخيير ، ويكون نتيجة التكليف بعد قيام الدليل على جواز الاستنابة فيه هو التخيير بين المباشرة والاستنابة لان الاستنابة أيضا فعل اختياري للشخص قابلة لتعلق التكليف بها تخييرا أو تعيينا ، ومعلوم ان التخيير على هذا الوجه انما يكون شرعيا لا عقليا ، إذ ليس هناك جامع قريب عرفي حتى يكون التخيير عقليا.

وبعبارة أخرى : ليس هناك جامع خطابي بين المباشرة والاستنابة ، وما لم يكن في البين جامع خطابي لايكون التخيير عقليا وان كان هناك جامع ملاكي ، فان مجرد وجود الجامع الملاكي لا يكفي في التخيير العقلي.

وبعبارة ثالثة : يعتبر في التخيير العقلي ان تكون افراد التخيير مندرجة تحت حقيقة واحدة عرفية ، كالانسان بالنسبة إلى افراده ، ولا يكفي في التخيير العقلي الاشتراك في الأثر مع تباين الافراد بالهوية ، كالشمس والنار ، حيث إنهما متباينان بالهوية مع اشتراكهما في الأثر وهو التسخين ، فالتخيير بين المباشرة والاستنابة لابد ان يكون شرعيا.

وربما يتوهم : ان الاستنابة ترجع إلى التسبيب ، وان المنوب عنه يكون سببا لوقوع الفعل عن الفاعل الذي هو النايب والفعل يستند إليه بتسبيبه.

وفيه ان ضابط باب التسبيب ، هو ان لا يتوسط بين السبب وبين الأثر إرادة فاعل مختار تام الإرادة والاختيار ، كفتح قفص الطائر الذي يكون سببا لهلاك الطير وامر الصبي الغير المميز ، فان الفعل في مثل هذا يستند إلى السبب دون المباشر ، وأما إذا توسط في البين إرادة فاعل مختار فالفعل انما يستند إلى المباشر دون السبب كما في المقام ، حيث إن الفعل يستند إلى النائب دون المنوب عنه الا بعناية وتسامح كما في بنى الأمير المدينة. فجعل باب الاستنابة من صغريات باب التسبيب كما يظهر من بعض الكلمات مما لا وجه له ، بل الاستنابة هي باب على حدة وعنوان مستقل وتكون في موارد جوازها أحد فردي التخيير الشرعي هذا.

ص: 140

وحيث عرفت : ان جواز الاستنابة يلازم جواز التبرع ولو مع عدم رضا المتبرع عنه ، بل تفرغ ذمته قهرا عليه ، فينبغي ح ان يبحث عن كيفية سقوط التكليف بتبرع المتبرع ، وان نحو تعلق التكليف بالمكلف مع سقوطه بفعل المتبرع على أي وجه يكون؟ فان في مثل هذا لا يمكن ان يكون على وجه التخيير ، وليس تبرع المتبرع من قبيل الاستنابة ، بان يكون أحد فردي التخيير الشرعي فضلا عن التخيير العقلي ، لان أحد طرفي التخيير لابد ان يكون مقدورا للمكلف ويتعلق به ارادته نحو تعلقه بالطرف الاخر ، وفعل الغير لا يدخل تحت قدرة المكلف ، ولا يمكن تعلق الإرادة به ، فلا معنى لان يقال : افعل أنت بنفسك أو غيرك.

والحاصل : انه لا يمكن ان يكون الشخص مكلفا بفعل غيره ولو على وجه التخيير بين فعله وفعل غيره. بل فيما يكون فعل الغير مسقطا للتكليف عن المكلف إذا توقف اسقاطه على قصد النيابة واتيان الفعل عنه - كما في الحج ، والقضاء عن الميت وأداء الدين حيث لا يسقط التكليف عن المكلف الا باتيان الغير نيابة عنه وبقصد تفريغ ذمته ، والا لا يقع الفعل عن المكلف ولا تفرغ ذمته ، بخلاف إزالة النجاسة حيث إن الوجوب يسقط فيها على أي وجه اتفق - يكون هناك جهة أخرى تمنع من كونه أحد فردي التخيير ، مضافا إلى أنه خارج عن تحت القدرة والاختيار ، وهي ان اسقاط فعل الغير التكليف عن غيره انما يكون بعد توجه التكليف إليه ومطالبته به ، حتى يمكن للغير قصد النيابة عنه واتيانه بالفعل بداعي تفريغ الذمة وتنزيل نفسه منزلة المكلف ، فيكون السقوط بفعل الغير في طول التكليف وتوجهه نحو المكلف ، إذ بعد توجه التكليف نحوه واشتغال ذمته به يمكن للغير تفريغ ذمته وفعله نيابة عنه ، ومن المعلوم : ان ما كان في طول الشيء لا يمكن ان يكون في عرضه واحد فردي التخيير فتأمل.

وعلى كل حال ، ان فعل الغير وتبرعه لا يمكن ان يكون أحد فردي التخيير ، وليس فعل الغير كالاستنابة ، حيث إنها يمكن ان تكون أحد فردي التخيير ، لان الاستنابة فعل اختياري للمكلف ، فيمكن تعلق التكليف بها تعيينا أو تخييرا ، وأين هذا من فعل الغير الذي لايكون تحت قدرة المكلف وارادته؟ فسقوط التكليف بفعل

ص: 141

الغير لا يمكن ان يكون على وجه التخيير ، بل لابد ان يكون ذلك على وجه تقييد الموضوع فيما إذا كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي كخطاب أد الدين ، أو تقييد الحكم فيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي كالحج ، فيكون وجوب أداء الدين من جهة السقوط بفعل الغير من قبيل الواجب المشروط ، ويرجع حقيقة التكليف إلى وجوب أداء الدين الذي لم يؤده الغير ، فالواجب على المكلف هو الدين المقيد. وكذا يقال في الحج : ان وجوب الحج مشروط بعد قيام الغير به تبرعا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التكليف الذي ثبت فيه جواز الاستنابة وجواز تبرع الغير يجتمع فيه جهات ثلث : جهة تعيينية وهي بالنسبة إلى المادة حيث لا يقوم شيء مقامها ، وجهة تخييرية وهي بالنسبة إلى الاستنابة ، وجهة اشتراط وتقييد وهي بالنسبة إلى السقوط بفعل الغير. هذا إذا ثبت جواز الاستنابة فيه.

وأما إذا شك ، كما هو المقصود بالكلام ، فالشك في جواز الاستنابة يستتبع الشك في السقوط بفعل الغير ، لما عرفت من الملازمة بينهما ، فيحصل الشك فيه من جهتين : التعيين والتخيير ، ومن جهة الاطلاق والاشتراط ، وأصالة التعيينية والاطلاق ترفع كلتا جهتي الشك ، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير ، والاطلاق والاشتراط ، حيث إن ظاهر الامر ومقتضى الأصل اللفظي هو التعيين والاطلاق ، فالأصل اللفظي يقتضى التعبدية بمعنى عدم جواز الاستنابة وعدم السقوط بفعل الغير ، هذ إذا كان هناك اطلاق.

وأما إذا لم يكن ، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضى الأصل يختلف باختلاف جهتي الشك. اما من جهة الشك في التعيين والتخيير ، فالأصل يقتضى الاشتغال وعدم السقوط بالاستنابة ، على ما هو الأقوى عندنا : من أن الأصل هو الاشتغال في دوران الامر بين التعيين والتخيير كما حررناه في محله.

واما من جهة الشك في الاطلاق والاشتراط ، فالأصل العملي في موارد دوران الامر بين الاطلاق والاشتراط وان كان ينتج نتيجة الاشتراط ، على عكس الأصل اللفظي ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف في صورة فقدان الشرط ، والأصل البراءة عنه ، كالشك في وجوب الحج عند عدم الاستطاعة لو فرض الشك في

ص: 142

اشتراط الوجوب بها ، الا انه في المقام لا يمكن ذلك ، لأن الشك في المقام راجع إلى مرحلة البقاء وسقوط التكليف بفعل الغير ، لا في مرحلة الجعل والثبوت ، ومقتضى الاستصحاب هو بقاء التكليف وعدم سقوطه بفعل الغير. وما قلناه : من أصالة البراءة عند دوران الامر بين الاطلاق والاشتراط ، انما هو فيما إذا رجع الشك إلى ناحية الثبوت كمثال الحج ، لا إلى ناحية البقاء كما في المقام. هذا تمام الكلام في أصالة التعبدية بمعنى اعتبار المباشرة وعدم السقوط بالاستنابة وفعل الغير.

واما الكلام في أصالة التعبدية بمعنى اعتبار الإرادة والاختيار وعدم السقوط بدون ذلك ، فمجمل القول فيه : هو ان الأقوى فيه أيضا أصالة التعبدية ، بمعنى عدم سقوط التكليف عند فعله بلا إرادة واختيار ، وليس ذلك لأجل اخذ الاختيار في مواد الافعال ، لوضوح فساده ، بداهة عدم توقف الضرب والقتل وغير ذلك من المواد على وقوعها عن إرادة واختيار ، وكذا ليس ذلك لأجل اخذ الاختيار في هيئات الافعال ، لوضوح انه لا يتوقف صدق انتساب المادة إلى الفاعل على الإرادة والاختيار ، وكيف يمكن ذلك؟ مع أن الافعال تعم أفعال السجايا وغيرها ، كنجل ، وعلم ، وكرم ، واحمر ، واصفر ، وذلك مما لا يمكن فيه الإرادة والاختيار ، فهيئة الفعل الماضي والمضارع لا دلالة فيها على الاختيار. نعم تمتاز هيئة فعل الامر عن سائر الأفعال في اعتبار الاختيارية وذلك لامرين :

الأول : انه يعتبر في متعلق التكليف ان يكون صدوره عن الفاعل حسنا. وبعبارة أخرى : يعتبر عقلا في متعلق التكليف القدرة عليه ليتمكن المكلف من امتثال الامر على وجه يصدر الفعل عنه حسنا ، ومن المعلوم : ان صدور الفعل حسنا من فاعله يتوقف على الإرادة والاختيار ، إذ الافعال الغير الاختيارية لا تتصف بالحسن والقبح الفاعلي ، وان اتصفت بالحسن والقبح الفعلي ، فلابد من خروج ما لايكون بإرادة واختيار عن متعلق التكليف عقلا ، ولا يمكن ان يعمه سعة دائرة الامر.

الثاني : هو ان نفس الامر يقتضى اعتبار الإرادة والاختيار مع قطع النظر عن الحكم العقلي ، وذلك لان الامر الشرعي انما هو توجيه إرادة العبد نحو المطلوب و

ص: 143

تحريك عضلاته ، فالامر هو بنفسه يقتضى اعتبار الإرادة والاختيار ، ولا يمكن ان يتعلق بالأعم لأنه بعث للإرادة وتحريك لها ، وح لو قام دليل على سقوط التكليف عند فعل متعلقه بلا إرادة واختيار ، كان ذلك من قبيل سقوط التكليف بفعل الغير ، وهو يرجع إلى تقييد الموضوع ، واطلاق الخطاب عند الشك يدفع التقييد المذكور ، فالأصل اللفظي يقتضى عدم السقوط عند عدم الإرادة والاختيار. وكذا الحال في الأصل العملي على حذو ما تقدم عند الشك في سقوطه بفعل الغير.

واما أصالة التعبدية بمعنى عدم سقوطه بفعل المحرم ، فتوضيح الكلام فيه : هو ان السقوط بفعل المحرم لابد ان يكون لمكان اتحاد متعلق الامر مع متعلق النهى خارجا ، والا لم يعقل السقوط بدون ذلك ، وهذا الاتحاد انما يكون بأحد أمرين : اما لكون النسبة بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق ، واما لكون النسبة هي العموم من وجه ، إذ لا يمكن الاتحاد بدون ذلك. فان كان بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق ، فيندرج في باب النهى عن العبادة ويخرج الفرد المحرم عن سعة دائرة الامر ويقيد الامر لا محالة بما عدا ذلك ، من غير فرق بين العبادة وغيرها كما لا يخفى. وإن كان بين المتعلقين العموم من وجه ، فيندرج في باب اجتماع الأمر والنهي ، فان قلنا في تلك المسألة بالامتناع مع تقديم جانب النهى ، كان من صغريات النهى عن العبادة أيضا على ما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ، وان قلنا بالجواز كما هو المختار فالمتعلق وان لم يتحد واندرج في باب التزاحم ، الا انه مع ذلك لا يصلح الفرد المحرم للتقريب (1) لعدم حسنه الفاعلي وان كان فيه ملاك الامر ، الا انه لما يقع مبغوضا عليه لمكان مجامعته للحرام ، فلا يصلح لان يتقرب به ، فلا يسقط الامر به. فالأصل .

ص: 144


1- لا يخفى : ان هذا البيان انما يتم فيما إذا كان المأمور به عبادة ، وأما إذا لم يكن عبادة فبغضه الفاعلي مما لا اثر له بعد ما كان المقام من باب التزاحم واشتمال الفعل على تمام الملاك ، فلا محيص من سقوط الامر حينئذ ولا مجال للشك فيه. وهذا بخلاف المقامات المتقدمة ، فان في جميعها مجالا واسعا لتطرق الشك فيها ، لاحتمال دخل الاختيار مثلا أو المباشرة في ملاك الحكم ، ولأجله نحتاج إلى دليل خارجي يدل على السقوط بذلك بخلاف ما كان من باب التزاحم ، فان نفس دليل الحكم يقتضى السقوط لمكان كشفه عن الملاك حتى في الفرد المزاحم للحرام ، كما هو لازم القول بجواز الاجتماع ، فتأمل - منه.

اللفظي وكذا العملي يقتضى عدم السقوط بفعل المحرم ، كما اقتضيا عدم السقوط بالاستنابة وفعل الغير وعن لا إرادة واختيار. هذا تمام الكلام في المقام الثاني. فلنعطف الكلام إلى المقام الأول ، الذي هو المقصود بالأصالة في هذا المبحث ، وهو ان الأصل يقتضى التعبدية بالمعنى الآخر لها أو لا يقتضى ، وقد عرفت في الامر الأول من الأمور التي أردنا تقديمها في هذا المبحث معنى التعبدية ، وحاصله : ان التعبدية عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ، ويظهر العبد عبوديته لمولاه.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن كل حكم له متعلق وموضوع. والمراد من المتعلق هو ما يطالب به العبد من الفعل أو الترك ، كالحج ، والصلاة ، والصوم ، وغير ذلك من الافعال. والمراد بالموضوع هو ما اخذ مفروض الوجود في متعلق الحكم ، كالعاقل البالغ المستطيع مثلا. وبعبارة أخرى : المراد من الموضوع هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك بما له من القيود والشرائط : من العقل والبلوغ وغير ذلك.

ثم إن كلا من الموضوع والمتعلق له انقسامات عقلية سابقة على مرحلة ورود الحكم عليه ، وهذه الانقسامات تلحق له بحسب الامكان العقلي ولو لم يكن هناك شرع ولا حكم ، ككون المكلف عاقلا ، بالغا ، قادرا ، روميا ، زنجيا ، احمر ، ابيض ، اسود ، وغير ذلك من الانقسامات التي يمكن ان تفرض له. وككون الصلاة مثلا إلى القبلة ، أو في المسجد ، أو الحمام ، مقرونة بالطهارة ، إلى غير ذلك من الانقسامات التي يمكن ان تفرض لها في حد نفسها ولو لم تكن متعلقة لحكم أصلا.

ولكل منهما أيضا انقسامات تلحقهما بعد ورود الحكم عليهما ، بحيث لولا الحكم لما أمكن لحوق تلك الانقسامات لهما ، ككون المكلف عالما بالحكم ، أو جاهلا به ، بداهة ان العلم بالحكم لا يمكن الا بعد الحكم. وهذا بخلاف العلم ، بالموضوع ، فإنه يمكن لحوقه بدون الحكم. هذا بالنسبة إلى الموضوع. واما بالنسبة إلى المتعلق ، ككون الصلاة مما يتقرب ويمتثل بها ، فان هذا انما يلحق الصلاة بعد الامر بها ، إذ لولا الامر لما كان عروض هذا الوصف لها ممكنا.

ص: 145

ثم انه لا اشكال في امكان التقييد أو الاطلاق بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق بلحاظ الانقسامات السابقة على ورود الحكم ، بل لا محيص اما من الاطلاق أو التقييد ، لعدم امكان الاهمال الواقعي بالنسبة إلى الآمر الملتفت ، لوضوح انه لابد من تصور موضوع حكمه ومتعلقه ، فإذا كان ملتفتا إلى الانقسامات اللاحقة للموضوع أو المتعلق ، فاما ان لا يعتبر فيه انقساما خاصا فهو مطلق ، أو ان يعتبر فيه انقساما خاصا فهو مقيد.

وبالجملة : لو أوجب اكرام الجيران وهو ملتفت إلى أن الاكرام يمكن ان يكون بالضيافة ويمكن ان يكون بغيرها ، وكذا كان ملتفتا إلى أن في الجيران عدوا وصديقا ، فان تساوت الأقسام في نظره فلا محيص من اطلاق حكمه ، والا فلابد من التقييد بما يكون منها موافقا لنظره ، هذا بحسب الثبوت ونفس الامر. واما بحسب مقام الاثبات ومرحلة الاظهار ، وفيمن فيه الاهمال لغرض له في ذلك. هذا في الانقسامات السابقة على الحكم اللاحقة للموضوع أو المتعلق.

واما الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيها التقييد ثبوتا ، وإذا امتنع التقييد امتنع الاطلاق أيضا لما بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فالقدرة على أحدهما عين القدرة على الآخر ، كما أن امتناع أحدهما عين امتناع الآخر وذلك واضح. فالشأن انما هو في اثبات امتناع التقييد. فنقول : يقع الكلام تارة : بالنسبة إلى الموضوع ، وأخرى : بالنسبة إلى المتعلق. اما بالنسبة إلى الموضوع ، فالتقييد تارة : يكون في مرحلة فعلية الحكم ، وأخرى : يكون في مرحلة انشائه.

واما التقييد في مرحلة فعلية الحكم فلا يعقل ، للزوم الدور. وذلك لان فعلية الحكم انما يكون بوجود موضوعه ، كما أوضحناه في محله ، فنسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل تقدم الحكم على موضوعه ، والا يلزم عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، وذلك واضح. ومن المعلوم : ان العلم بالشيء يتوقف على ثبوت الشيء في الموطن الذي تعلق العلم به ، إذ العلم لابد له من متعلق ورتبة المتعلق سابقة على العلم ليمكن تعلق العلم به ، فلو فرض ان العلم بالحكم اخذ قيد للموضوع فلا بد من ثبوت الموضوع بماله من القيود في المرتبة السابقة على الحكم ، لما

ص: 146

عرفت : من لزوم تقدم الموضوع على الحكم ، ففعلية الحكم تتوقف على وجود الموضوع ، فلو فرض ان العلم بالحكم اخذ قيدا في الموضوع يلزم توقف الموضوع على الحكم ، لان من اجزاء الموضوع العلم بالحكم ، فلابد من وجود الحكم ليلتئم الموضوع بماله من الاجزاء ، وهذا كما ترى يلزم منه الدور المصرح ، غايته ان التوقف من أحد الجانبين يكون شرعيا وهو توقف الحكم على الموضوع لان الموضوع انما يكون بحسب الجعل الشرعي إذ لو لم يعتبره الشارع لما كاد ان يكون موضوعا ، ومن الجانب الاخر يكون عقليا وهو توقف الموضوع على الحكم ، لان توقف العلم الذي اخذ قيدا للموضوع على المعلوم الذي هو الحكم حسب الفرض عقلي ، ولك ان تجعل التوقف من الجانبين عقليا فتأمل.

وعلى كل حال ، لا اشكال في لزوم الدور ان اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مقام فعلية الحكم. واما ان اخذ قيدا في مقام الانشاء فربما يتوهم عدم المانع من ذلك ، لان انشاء الحكم لا يتوقف على وجود الموضوع وان توقف فعليته عليه ، بل انشاء الاحكام انما يكون قبل وجود موضوعاتها ، فيرتفع التوقف من أحد الجانبين هذا.

ولكن اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مرحلة الانشاء وان لم يلزم منه الدور المصطلح ، الا انه يلزم منه توقف الشيء على نفسه ابتداء بدون توسيط الدور.

وتوضيح ذلك : هو ان الدور عبارة عن الذهاب والإياب في سلسلة العلل والمعلولات ، بان يقع ما فرض كونه علة لوجود الشيء في سلسلة معلوله ، اما بلا واسطة كتوقف ( ا ) على ( ب ) و ( ب ) على ( ا ) أو مع الواسطة كما إذا فرض توسط ( ج ) في البين ، والأول هو المصرح ، والثاني هو المضمر.

والوجه في امتناع الدور ، هو لزوم تقدم الشيء على نفسه الذي هو عبارة عن اجتماع النقيضين ، فان هذا هو الممتنع الأولى العقلي الذي لابد من رجوع كل ممتنع إليه ، والا لم يكن ممتنعا ، فالممتنع الأولى هو ان يكون الشيء موجودا في حال كونه معدوما الذي هو عبارة عن اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد في آن واحد ، والدور انما يكون ممتنعا لأجل استلزامه ذلك ، فان توقف ( ا ) على ( ب ) يستدعى تقدم

ص: 147

( ب ) في الوجود على ( الف ) ، فلو فرض توقف ( ب ) على ( الف ) أيضا يلزم تقدم ( الف ) على ( ب ) المفروض تأخره عنه ، ويرجع بالآخرة إلى توقف ( الف ) على نفسه ، فلو فرض في مورد لزوم هذا المحذور بلا توسط الدور ، فهو أولى بان يحكم عليه بالامتناع.

وبعد ذلك نقول في المقام : لو اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مرحلة الانشاء يلزم تقدم الشيء على نفسه ، وذلك لأنه لابد من فرض وجوده بما انه مرآة لخارجه قبل وجود نفسه ، إذ الانشاءات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي هي المتعبرة في العلوم ، وليس من القضايا العقلية التي لا موطن لها الا العقل ، ولا من أنياب الأغوال التي تكون مجرد فرض لا واقعية لها أصلا ، بل الانشاءات الشرعية انما هي عبارة عن جعل الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، هذا الجعل انما يكون قبل وجود الموضوعات في الخارج ، وعند وجودها تصير تلك الأحكام فعلية.

وحينئذ لو فرض اخذ العلم بالانشاء قيدا للموضوع في ذلك المقام ، فلابد من تصور الموضوع بماله من القيود لينشأ الحكم على طبقه ، والمفروض ان من قيود الموضوع العلم ، بهذا الانشاء نفسه ، فلابد من تصور وجود الانشاء مرآة لخارجه قبل وجود نفسه ، وهذا كما ترى يلزم منه تقدم الانشاء على نفسه ، وهو ضروري الامتناع.

والحاصل :

انه لو اخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الانشاء ، والمفروض انه لا حكم سوى ما أنشأ ، فلابد من تصور وجود الانشاء قبل وجوده ليمكن اخذ العلم به قيدا ، وليس ذلك مجرد قضية فرضية من قبيل أنياب الأغوال ، حتى يقال : لا مانع من تصور وجود الشيء قبل نفسه لامكان فرض اجتماع النقيضين ، بل قد عرفت : ان الأحكام الشرعية وانشاءاتها انما تكون على نهج القضايا لحقيقية القابلة الصدق على الخارجيات ، وتصور وجود الشيء القابل للانطباق الخارجي قبل وجود نفسه محال هذا كله في الانقسامات اللاحقة للموضوع المترتبة على الحكم.

ص: 148

واما الانقسامات اللاحقة للمتعلق المترتبة على الحكم ، كقصد امتثال الامر في الصلاة مثلا ، فامتناع اخذه في المتعلق انما هو لأجل لزوم تقدم الشيء على نفسه في جميع المراحل ، أي في مرحلة الانشاء ، ومرحلة الفعلية ، ومرحلة الامتثال.

اما في مرحلة الانشاء : فالكلام فيه هو الكلام في اخذ العلم في تلك المرحلة ، حيث قلنا : انه يلزم منه تقدم الشيء على نفسه ، فان اخذ قصد امتثال الامر في متعلق نفس ذلك الامر يستلزم تصور الامر قبل وجود نفسه ، وكذا الحال عند اخذه في مقام الفعلية ، فان قصد امتثال الامر يكون ح على حذو سائر الشرائط والاجزاء كالفاتحة ، ومن المعلوم : ان فعل المكلف إذا كان له تعلق بما هو خارج عن قدرته ، فلابد من اخذ ذلك مفروض الوجود ليتعلق به فعل المكلف ويرد عليه ، كالأمر في قصد امتثال الامر ، فان قصد الامتثال الذي هو فعل المكلف انما يتعلق بالامر ، وهو من فعل الشارع خارج عن قدرة المكلف ، فلابد ان يكون موجودا ليتعلق القصد به ، كالفاتحة التي يتعلق بها القراءة التي هي فعل المكلف ، وكالقبلة حيث يتعلق الامر باستقبالها ، فلابد من وجود ما يستقبل ليتعلق الامر بالاستقبال ، إذ لا يعقل الامر بالاستقبال فعلا مع عدم وجود المستقبل إليه. وفي المقام لابد من وجود الامر ليتعلق الامر بقصده ، والمفروض انه ليس هناك الا امر واحد تعلق بالقصد وتعلق القصد به ، وهذا كما ترى يلزم منه وجود الامر قبل نفسه كما لا يخفى.

وبالجملة : قصد امتثال الامر إذا اخذ قيدا في المتعلق في مرحلة فعلية الامر بالصلاة فلابد من وجود الامر ليتعلق الامر بقصد امتثاله ، مع أنه ليس هناك الا امر واحد ، فيلزم وجود الامر قبل نفسه.

واما في مرحلة الامتثال : فكذلك أي يلزم وجود الشيء قبل نفسه ، بمعنى انه لا يمكن للمكلف امتثاله لاستلزامه ذلك المحذور ، وذلك لان قصد امتثال الامر إذا تعلق الطلب به ووقع تحت دائرة الامر واخذ في المتعلق قيدا على حذو سائر الشروط والاجزاء ، فلابد للمكلف من أن يأتي بهذا القيد بداعي امتثال امره ، كما يأتي بسائر الاجزاء بداعي امتثال امره ، فيلزم المكلف ان يقصد امتثال الامر بداعي امتثال امره ، وهذا كما ترى ، يلزم منه ان يكون الامر موجودا قبل نفسه ،

ص: 149

ليتحقق منه قصد امتثال الامر بداعي الامر المتعلق به.

والحاصل : ان المكلف لا يتمكن من الامتثال ، إذ ليس له فعل الصلاة بداعي أمرها ، لان الامر لم يتعلق بنفس الصلاة فقط حسب الفرض ، بل تعلق بها مع قصد امتثال الامر ، فالامر قد تعلق بقصد امتثال الامر ولو في ضمن تعلقه بالصلاة على هذا النحو ، فيلزم المكلف ان يقصد امتثال الامر بداعي امره ، وهذا لايكون الا بعد فرض وجود الامر قبل نفسه ليمكن القصد إلى امتثاله بداعي امره الذي هو نفسه ، إذ ليس في المقام الا امر واحد ، وهذا معنى لزوم وجود الامر قبل نفسه.

هذا كله ، ان اخذ خصوص امتثال الامر قيدا للمتعلق ، بناء على ما حكى عن الجواهر : (1) من أن العبرة في العبادة انما هو فعلها بداعي امتثال أمرها ولا يكفي قصد الجهة ولا سائر الدواعي الاخر. بل جعل سائر الدواعي في طول داعي امتثال .

ص: 150


1- قال في الجواهر : « اما العبادات فلا اشكال في اعتبار القصد فيها ، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه ، واعتبارهما في كل امر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل كتابا وسنة ، بل ضرورة من الدين ، بل لا يصدقان الا بالاتيان بالفعل بقصد امتثال الامر فضلا عن مطلق القصد ، ضرورة عدم تشخص الافعال بالنسبة إلى ذلك عرفا الا بالنية ، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة لا ينصرف إلى ما تعلق به الامر إذ الامر والعبثية فضلا عن غيرها على حد سواء بالنسبة إليه ، ومن هنا إذا كان الامر متعددا توقف صدق الامتثال على قصد التعيين لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما .. وذكر بعد سطور : « اما القربة بمعنى القرب الروحاني الذي هو شبيه بالقرب المكاني فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه ، ولا يجب نية ذلك وقصده قطعا ». وذكر أيضا بعد رد الاستدلال على اعتبار قصد الوجه بان جنس الفعل لا يستلزم وجوهه الا بالنية. « .. ولا ريب في عدم توقف صدق الامتثال على شيء من هذه المشخصات ، ضرورة الاكتفاء باتحاد الخطاب مع قصد امتثاله عن ذلك كله ، إذ هو متشخص بالوحدة مستغن بها عنها ، والا لوجب التعرض لغيرها من المشخصات الزمانية والمكانية وسائر المقارنات ، إذا لكل على حد سواء بالنسبة إلى ذلك. بل ليست صفة الوجوب الا كتأكد الندب في المندوب المعلوم عدم وجوب نيته زيادة على أصل الندب. » راجع جواهر الكلام ، الجزء 9 ، ص 161 - 157 - 155 وملخص مختاره هناك ، عدم كون تلك الدواعي عرضية ، بل المعتبر في صحة العبادة اتيانها بداعي امتثال الامر وهذا مما لا محيص عنه.

الامر ، وجعل هذا هو الأصل في تحقق العبادة ، وتلك الدواعي من باب الداعي للداعي ، ولا تصلح ان تكون هي تمام الداعي ، بل لابد من أن يأتي بالصلاة بداعي امتثال أمرها ويكون داعيه إلى ذلك هو دخول الجنة مثلا ، أو خوف النار ، أو كونه اهلا لذلك. فجعل أهليته للعبادة التي هي أقصى مراتب العبادة في طول داعي امتثال الامر.

وذهب جماعة (1) إلى كفاية قصد جهة الامر في العبادة ، ولا تتوقف على قصد خصوص امتثال الامر ، بل يكفي قصد الملاك والمصلحة التي اقتضت الامر. وذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى كفاية فعل العبادة لله ولو مع عدم قصد الامتثال أو الجهة ، بل يكفي كونها لله كما يدل على ذلك بعض الاخبار ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة (2) فراجع.

وعلى كل حال ، ان اخذ خصوص قصد امتثال الامر في متعلق الامر يستلزم ما ذكرناه من تقدم الشيء على نفسه في مرحلة الانشاء ، والفعلية ، والامتثال. وان اخذ قصد الجهة في متعلق الامر لا قصد امتثال الامر يلزم الدور ، وذلك لان قصد المصلحة يتوقف على ثبوت المصلحة ولو فيما بعد ، والمفروض انه لا مصلحة بدون قصدها ، إذ قصد المصلحة يكون من أحد القيود المعتبرة ، والصلاة لا تشتمل على المصلحة الا بعد جامعيتها لجميع القيود المعتبرة فيها التي منها قصد المصلحة ، فكما ان الصلاة الفاقدة للفاتحة لايكون فيها مصلحة ، كذلك الصلاة الفاقدة لقصد المصلحة لا تشتمل عليه المصحلة ، فيلزم ح ان تكون المصلحة متوقفة على القصد إليها ، والقصد إليها يتوقف على ثبوتها في نفسها من غير ناحية القصد إليها ، فلو جاءت من ناحية نفس القصد إليها يلزم الدور ، وذلك واضح. فإذا امتنع القصد على هذا الوجه ، امتنع جعل قصد المصحلة قيدا في المتعلق ، لان جعل ما يلزم منه المحال محال. هذا إذا قلنا باعتبار قصد الجهة.

ص: 151


1- ذهب إليه أستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري ، وعليه جماعة من محققي تلامذته.
2- راجع المجلد الثاني من تقريرات بحث الأستاذ في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره . ص 27

وأما إذا لم نعتبر ذلك أيضا ، وقلنا بكفاية القصد إلى كون العبادة لله في مقابل العبادة للسمعة والرياء ، فهو وان لم يستلزم منه محذور الدور وتقدم الشيء على نفسه لامكان الامر بالصلاة التي يأتي بها لله ، بان يؤخذ ذلك في متعلق الامر من دون استلزام محذور الدور ولا تقدم الشيء على نفسه ، الا انه يرد عليه محذور آخر سار في الجميع حتى اخذ قصد الامر والجهة ، مضافا إلى ما يرد عليهما من المحاذير المتقدمة ، وهو ان باب الدواعي لا يمكن ان يتعلق بها إرادة الفاعل ، لأنها واقعة فوق الإرادة ، والإرادة انما تنبعث عنها ، ولا يمكن ان تتعلق الإرادة بها ، لان الإرادة انما تتعلق بما يفعل ، ولا يمكن ان تتعلق بما لايكون من سنخ الفعل كالدواعي.

والحاصل : ان الداعي انما يكون علة للإرادة ، فلا يعقل ان تكون معلولة للإرادة ، وإذا لم يكن الدواعي متعلقة لإرادة الفاعل فلا يمكن ان يتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته للفعل ، لما بيناه مرارا من الملازمة بين إرادة الفاعل وإرادة الآمر ، بمعنى انه كلما يتعلق به إرادة الفاعل يتعلق به إرادة الآمر وكلما لا يتعلق به إرادة الفاعل لا يتعلق به إرادة الآمر ، لان إرادة الآمر انما تكون محركة لإرادة الفاعل ، فلا بد من أن تتعلق إرادة الآمر ، بما يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، والدواعي لا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها عند ارادته للفعل ، لأنها واقعة في سلسلة علل الإرادة ، فلا تتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته الفعل من العبد.

فتحصل من جميع ما ذكر : انه لا يمكن اخذ ما يكون به العبادة عبادة في متعلق الامر مط ، سواء كان المصحح لها خصوص قصد الامر ، أو الأعم منه ومن قصد الجهة ، أو الأعم من ذلك وكفاية اتيانها لله تعالى. فيقع الاشكال ح في كيفية اعتبار ما يكون به العبادة عبادة ، ولهم في التفصي عن هذا الاشكال وجوه :

الوجه الأول :

ما نسب إلى الميرزا الشيرازي قده.

وحاصله : ان العبادية انما هي كيفية في المأمور به وعنوان له ، ويكون قصد الامر ، أو الوجه ، أو غير ذلك ، من المحققات لذلك العنوان ومحصلا له ، من دون ان يكون ذلك متعلقا للامر ، ولا مأخوذا في المأمور به. وبالجملة : العبادة كما

ص: 152

فسرناها في أول العنوان ، هي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد العبد بها ، فالصلاة المأتى بها بعنوان التعبد واظهارا للعبودية هي المأمور بها ، والامر بها على هذا الوجه بمكان من الامكان ، والمكلف يتمكن من اتيان الصلاة كذلك ، بان يأتي بالصلاة اظهارا للعبودية. وحينئذ فللمكلف ان يأتي بالصلاة على هذا الوجه ، من دون ان يقصد الامر ، ولا الجهة ، ولا غيرهما من الدواعي ، فتقع عبادة. وله ان يأتي بها بداعي الامر أو الجهة ، ويكون ذلك محققا لعنوان العبادة في الصلاة ومحصلا لها ، من دون ان يتعلق امر بتلك الدواعي أصلا ، إذ ليس حصول العبادة منحصرا بتلك الدواعي ، حتى نقول : لابد من تعلق الامر بها ، بل عبادية العبادة انما هي امر آخر وراء تلك الدواعي ، وذلك الامر الآخر عنوان للمأمور به وكيفية له يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، غايته ان بتلك الدواعي أيضا يمكن تحقق العنوان هذا.

ولكن هذا الوجه مما ينبغي القطع بعدمه ، لوضوح ان الملاك في العبادية انما هو فعلها بأحد الدواعي القريبة كما يدل عليه الاخبار ، فلو أتي بالفعل لا بأحد تلك الدواعي تبطل ، كما أنه لو أتى بها بأحد تلك الدواعي تصح ولو فرض محالا عدم حصول ذلك العنوان في المأمور به ، فالعبرة في عبادية العبادة انما هي بتلك الدواعي.

الوجه الثاني :

هو ان يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضى عدم سقوطه الا بقصده ، بحيث يكون هناك خصوصية في ذاته تستدعى ذلك ، من دون ان يؤخذ ذلك في متعلقه ، ويكون الميز بين التعبدي والتوصلي بنفس الهوية وان اشتركا في البعث والطلب ، نعم لابد هناك من كاشف يدل على أن الامر الفلاني تعبدي أو توصلي هذا.

ولكن يرد عليه :

أولا : عدم انحصار التعبدية بقصد الامر ، بل يكفي سائر الدواعي أيضا.

وثانيا : ان هذه دعوى لا شاهد عليها ، إذ نحن لا نتعقل ان يكون هناك خصوصية في ذات الامر تقتضي التعبدية ، بحيث يكون ذات الامر يقتضى قصد نفسه تارة ، وأخرى لا يقتضيه ، حتى يكون الأول تعبديا ، والثاني توصليا ، بل الامر في

ص: 153

التعبدي والتوصلي يكون على نسق واحد ، بمعنى انه لا ميز هناك في الذات.

الوجه الثالث :

هو ان تكون التعبدية من كيفيات الامر وخصوصية لاحقة له ، لكن لا لمكان اقتضاء ذاته ذلك حتى يرجع إلى الوجه الثاني ، بل هي لاحقة له من ناحية الغرض ، وليس مرادنا من الغرض في المقام ملاكات الاحكام والمصالح الكامنة في الافعال ، فان تلك المصالح مما لا عبرة بها في باب التكاليف ، بمعنى انها ليست لازمة التحصيل على المكلف ، لان نسبة فعل المكلف إليها نسبة المعدو ليست من المسببات التوليدية - كما أوضحنا ذلك فيما تقدم في بحث الصحيح والأعم - بل الغرض في المقام يكون بمعنى آخر حاصله : ان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، لوضوح ان الغرض من الامر يختلف ، فتارة : يكون الغرض منه مجرد تحقق الفعل من المكلف خارجا على أي وجه اتفق ، وأخرى : يكون الغرض منه تعبد المكلف به وقصد امتثاله ، فيلحق الامر لمكان هذا الغرض خصوصية يقتضى التعبدية ويكون طورا للامر وشأنا من شؤونه ، فيرتفع ح محذور اخذ قصد الامر في المتعلق ، بل اعتبار قصد الامر انما هو لمكان اقتضاء الامر ذلك ، حيث إن الغرض منه يكون ذلك. ولعل هذا المعنى من الغرض هو الذي ذكره الشيخ قده في بحث الأقل والأكثر ، وان كان لا يساعد عليه ذيل كلامه عند قوله فان قلت ، فراجع ذلك المقام مع ما علقناه عليه.

وعلى كل حال يرد على هذا الوجه :

أولا : ما أوردناه على الوجه الثاني من أن ذلك انما يتم على مقالة صاحب الجواهر باعتبار خصوص قصد الامر في العبادة ، ونحن قد أبطلنا ذلك ، وقلنا : بكفاية قصد الجهة أو الأعم من ذك.

ثانيا : ان ذلك مما لا يرفع الاشكال ، لوضوح ان الامر هو بنفسه لا يمكن ان يتكفل الغرض منه ويبين المقصود منه ، بل لابد هناك من بيان آخر يدعو إلى الغرض ، ويبين ما هو المقصود من الامر والغرض الداعي إليه. (1) .

ص: 154


1- قد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال ، فراجع ما يأتي في الهامش في هذا المقام - منه.

وحيث قد عرفت عدم سلامة هذه الوجوه ، فيقع الكلام ح في الامر الثالث من الأمور التي أردنا تمهيدها.

الامر الثالث :

وهو انه لا أصل في المسألة يعين أحد طرفيها ، فلا أصالة التوصلية تجرى في المقام ولا أصالة التعبدية فيما لم يحرز توصليته وتعبديته. اما جريان أصالة التوصلية ، فلا نعقل لها معنى سوى دعوى : ان اطلاق الامر يقتضى التوصلية ، وحيث قد عرفت امتناع التقييد فلا معنى لدعوى اطلاق الامر ، فان امتناع التقييد يستلزم امتناع الاطلاق ، بناء على ما هو الحق : من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، كما هو طريقة سلطان المحققين ومن تأخر عنه.

وعليه يبتنى عدم استلزام التقييد للمجازية. والسر في ذلك : هو ان الاطلاق انما يستفاد ح من مقدمات الحكمة ، وليس نفس اللفظ متكفلا له ، كما هو مقالة من يقول : بان التقابل بينهما تقابل التضاد ، وعليه يبتنى كون التقييد مجازا. ومن مقدمات الحكمة عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد البيان ، ومن المعلوم : ان هذه المقدمة انما تصح فيما إذا أمكن بيان القيد حتى يستكشف من عدم بيانه عدم اعتباره ، لا فيما إذا لم يمكن كما فيما نحن فيه ، فان عدم بيان ذلك انما يكون لعدم امكانه لا لعدم اعتباره كما هو واضح. بل لو قلنا : ان التقابل بين الاطلاق والتقييد هو التضاد - كما هو مسلك من تقدم على سلطان المحققين - كان الامر كذلك ، فان الاطلاق يكون ح عبارة عن الارسال والتساوي في الخصوصيات ، وهذا انما يكون إذا أمكن التقييد بخصوصية خاصة ، والا فلا يمكن الارسال كما هو واضح.

وبالجملة : بعد امتناع التقييد بقصد الامر وغير ذلك من الدواعي لا يمكن القول بأصالة التوصلية اعتمادا على الاطلاق ، إذ لا اطلاق في البين يمكن التمسك به.

والعجب من الشيخ قده ، فإنه مع تسليمه كون امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق ، ولكن مع ذلك يقول في المقام : ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، ولم يظهر لنا المراد من الظهور ، إذ لا نعقل للظهور معنى سوى الاطلاق ، والمفروض انه هو

ص: 155

بنفسه قد أنكر الاطلاق ، فراجع عبارة التقرير في هذا المقام ، فإنها ربما لا تخلو عن توهم التناقض (1).

وعلى كل حال ، لا موقع لأصالة التوصلية ، كما أنه لا موقع لأصالة التعبدية ، كما ربما يظهر من بعض الكلمات ، نظرا إلى أن الامر انما يكون محركا لإرادة العبد نحو الفعل ، ولا معنى لمحركية الامر سوى كون الحركة عنه ، إذ لولا ذلك لما كان هو المحرك بل كان المحرك هو الداعي الاخر.

والحاصل : ان الامر بنفسه يقتضى ان يكون محركا للإرادة نحو الفعل ، فإذا كانت حركة العبد نحو الفعل لمكان الامر كان الامر محركا ، والا لم يكن الامر محركا ، وهذا خلف لما فرض ان الامر هو المحرك ، ولا نعنى بقصد الامتثال سوى كون الحركة عن الامر هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

اما أولا : فلان ذلك يقتضى انحصار التعبدية بقصد الامر ، كما هو مقالة صاحب الجواهر ، والحال انه لا ينحصر التعبدية بذلك كما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 156


1- ذكر الشيخ قدس سره في التقريرات حسب ما نقل عنه المحقق المقرر : « ويظهر من جماعة أخرى ان الامر ظاهر في التوصلية ولعله الأقرب ». ثم قال بعد سطور : « واحتج بعض موافقينا على التوصلية بان اطلاق الامر قاض بالتوصلية .. » ورده : بان « الاستناد إلى اطلاق الامر في مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد مما لا يتحقق الا بعد الامر. توضيحه : ان الاطلاق انما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد مما يصح ان يكون قيدا له ، كما إذا قيل : أكرم انسانا ، أو أعتق رقبة ، فإنه يصح ان يكون المطلق في المثالين مقيدا بالايمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل في الامر فيها ، وأما إذا كان القيد من القيود التي لا يتحقق الا بعد اعتبار الامر في المطلق ، فلا يصح الاستناد إلى اطلاق اللفظ في دفع الشك في مثل التقييد المذكور ، وما نحن فيه من قبيل الثاني .. ». ثم أفاد في آخر البحث : « فالحق الحقيق بالتصديق هو ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، إذ ليس المستفاد من الامر الا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل على ما هو مدلول المادة ، وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج ، فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل ». راجع مطارح الأنظار - ص 59 - 58

وثانيا : ان ذلك مغالطة ، لان الامر انما يكون محركا نحو الفعل ، واما كون هذه الحركة عنه وبداعيه فهو امر آخر لا يمكن ان يكون الامر متعرضا له. والحاصل : ان الامر لا يكاد يكون متعرضا لدواعي الحركة وانه عنه أو عن غيره ، فان الامر انما يدعو للفعل ، واما دواعي الفعل فلا يكون الامر متكفلا له فتأمل جيدا. فدعوى أصالة التعبدية من هذه الجهة لا يمكن.

كما أن دعوى أصالة التعبدية - من جهة دلالة قوله تعالى : (1) « وما أمروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين » الخ ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : (2) انما الأعمال بالنيات ، وغير ذلك من الآيات والاخبار التي استدلوا بها على اعتبار التعبد في الأوامر - واضحة الفساد ، لوضوح ان قوله تعالى : وما أمروا - انما يكون خطابا للكفار ، كما يدل عليه صدر الآية ، ومعنى الآية : ان الكفار لم يؤمروا بالتوحيد الا ليعبدوا اللّه ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غير مشركين ، وهذا المعنى كما ترى أجنبي عما نحن فيه ، مع أنه لو كان ظاهرا فيما نحن فيه لكان اللازم صرفه عن ذلك ، لاستلزامه تخصيص الأكثر لقلة الواجبات التعبدية بالنسبة إلى الواجبات التوصلية ، فتأمل فإنه لو عم الامر للمستحبات لأمكن منع أكثرية التوصليات بالنسبة إلى التعبديات لو لم يكن الامر بالعكس لكثرة الوظائف التعبدية الاستحبابية.

واما قوله (3) صلی اللّه علیه و آله : انما الأعمال بالنيات ، فهولا دلالة له على المقام ، فان مساقه كمساق قوله : لا عمل الا بالنية ، وليس فيه دلالة على أن كل عمل لابد فيه من نية التقرب ، بل معناه ان العمل المفروض كونه عبادة لا يقع الا بالنية ، أو يكون معناه كمعنى قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (4) لكل امرء ما نوى ، فتأمل جيدا. وعلى كل حال ، لا دلالة في الاخبار والآيات على اعتبار قصد الامتثال في الأوامر.

ص: 157


1- سورة البينة ، الآية 5.
2- راجع الوسائل ، الجزء الأول ، باب 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث 7 ص 34.
3- نفس المصدر ، حديث 1 ص 33.
4- نفس المصدر ، حديث 10 ص 35.
الامر الرابع :

وربما يتوهم من بعض كلمات الشيخ - على ما في التقرير - التشبث (1) بقاعدة ( الاجزاء العقلية ) لأصالة التوصلية وعدم اعتبار قصد الامر ، حيث إن الامر لم يتعلق الا بذات الاجزاء والشرائط ، من دون ان يكون له تعلق بقصد الامتثال ولا غير ذلك من الدواعي ، وح يكون اتيان ما تعلق به الامر مجزيا عقلا ، فيسقط الامر ح ولو مع عدم قصد امتثاله هذا.

ولكن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان قاعدة ( الاجزاء العقلي ) انما تكون فيما إذا اتى بتمام ما يعتبر في المأمور به ، وهذا انما يكون بعد تعيين المأمور به ، ومن مجرد تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط لا يمكن تعيين المأمور به ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يتعلق الامر بمثل قصد الامتثال ، ومع ذلك كيف يمكن تعيين المأمور به من نفس تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط؟ حتى يقال : ان اتيانها يكون مجزيا عقلا.

نعم لو كان للامر اطلاق أمكن تعيين المأمور به من نفس الاطلاق حسب ما يقتضيه مقدمات الحكمة ، والمفروض انه ليس للامر اطلاق بالنسبة إلى قصد الامتثال ، لامتناع التقييد به الملازم لامتناع الاطلاق كما تقدم ، فالامر من هذه الجهة يكون مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، كما كان بالنسبة إلى العلم والجهل به مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، هذا بحسب عالم الجعل والتشريع.

ص: 158


1- نظير قوله : قدس سره « وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل. » وكذا ما افاده في جواب المحقق الكرباسي القائل بان ظاهر الامر قاض بالتعبدية : « فان أريد بالامتثال مجرد عدم المخالفة والآتيان بالفعل فهو مسلم ، لكنه ليس بمفيد ، وان أريد به الاتيان بالفعل على وجه التقرب ، كان يكون الداعي إلى الفعل نفس الامر فهو ممنوع ، والقول بان العقل قاض بذلك ليس بسديد إذ غاية ما يحكم به العقل هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج فان استند في ذلك إلى أن الاتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير ان يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعد من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل على ما عرفت ، نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به وليس المستفاد من الامر الا مطلوبية الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الاتيان به كما لا يخفى ... » ( راجع مطارح الأنظار ص 58 )

واما بحسب الثبوت والواقع ، فلا بد اما من نتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد. والسر في ذلك : هو انه في الواقع وفي عالم الثبوت ، اما ان يكون ملاك الحكم والجعل محفوظا في كلتا حالتي العلم والجهل وكلتا حالتي قصد الامتثال وعدمه ، واما ان يكون مختصا في أحد الحالين ، فالأول يكون نتيجة الاطلاق ، والثاني يكون نتيجة التقييد.

وليس مرادنا من الاهمال هو الاهمال بحسب الملاك ، فان ذلك غير معقول ، بل المراد الاهمال في مقام الجعل والتشريع حيث لا يمكن فيه الاطلاق والتقييد كما تقدم.

إذا عرفت ذلك كله ، فيقع الكلام في كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه نتيجة التقييد من دون ان يستلزم فيه محذورا ، وكيفية استكشاف نتيجة الاطلاق وعدم اختيار قصد الامتثال.

فنقول :

اما طريق استكشاف نتيجة الاطلاق فليس هو على حذو طريق استكشاف الاطلاق في سائر المقامات بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على الحكم ، فان استكشاف الاطلاق في تلك المقامات انما هو لمكان السكوت في مقام البيان بعد ورود الحكم على المقسم ، كقوله : أعتق رقبة ، التي تكون مقسما للايمان وغيره ، فحيث ورد الحكم على نفس المقسم وسكت عن بيان خصوص أحد القسمين مع أنه كان في مقام البيان ، فلابد ان يكون مراده نفس المقسم ، من دون اعتبار خصوص أحد القسمين وهو معنى الاطلاق.

ولكن هذا البيان في المقام لا يجرى ، إذ الحكم لم يرد على المقسم ، لان انقسام الصلاة إلى ما يقصد بها امتثال الامر وما لا يقصد بها ذلك انما يكون بعد الامر بها ، فليست الصلاة مع قطع النظر عن الامر مقسما لهذين القسمين ، حتى يكون السكوت وعدم التعرض لاحد القسمين دليلا على الاطلاق. نعم سكوته عن اعتبار قصد الامتثال في مرتبة تحقق الانقسام يستكشف منه نتيجة الاطلاق ، وبعبارة أخرى : عدم ذكر متمم الجعل - على ما سيأتي بيانه - في المرتبة القابلة لجعل المتمم

ص: 159

يكون دليلا على نتيجة الاطلاق.

والفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام ، واستكشاف الاطلاق في سائر المقامات ، هو ان من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، وهذا بخلاف المقام ، فان من عدم ذكر متمم الجعل لا يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يكون مراده من الامر هو الاطلاق ، بل من عدم ذكر متمم الجعل يستكشف انه ليس له مراد آخر سوى ما تعلق به الامر.

وبعبارة أخرى : من عدم ذكر متمم الجعل في مرتبة وصول النوبة إليه يستكشف ان الملاك لا يختص بصورة قصد الامتثال ، بل يعم الحالين فيحصل نتيجة الاطلاق.

واما كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه تحصل نتيجة التقييد ، فقد حكى عن الشيخ قده : الترديد فيه بالنسبة إلى الغرض أو الجعل الثانوي ، بمعنى ان اعتبار قصد الامتثال ، اما ان يكون من ناحية الغرض ، واما ان يكون من ناحية الجعل الثانوي. اما اعتبار قصد الامتثال من ناحية الغرض ، فيمكن ان يقرب بوجهين قد تقدمت الإشارة إليهما.

الوجه الأول :

هو ان يكون المراد من الغرض ، الغرض من الامر عند ارادته ، بان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، فيكون امره لان يتعبد به.

وقد تقدم فساد هذا الوجه ، وانه مما لا يرجع إلى محصل ، لما فيه :

أولا : من أن ذلك يتوقف على خصوص قصد امتثال الامر ونحن لا نقول به.

وثانيا : (1) ان مجرد كون غرضه ذلك مما لا اثر له ما لم يلزم به المكلف ويؤمر

ص: 160


1- وقد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال بعد ذلك ، وقال : انه لو علم أن غرض المولى من الامر التعبد به فنفس ذلك يكفي في الزام العقل به ، لاندراجه تحت الكبرى العقلية من لزوم الإطاعة ، ومن المعلوم : انه لو كان الامر بهذا الغرض كان اطاعته بقصد امتثاله ، فيكون الغرض في عرض الامر ومرتبته ملقى إلى المكلف ، وكما أن الامر الملقى يجب اطاعته كذلك الغرض الملقى يجب اطاعته. هذا وقد تقدم سابقا ان هناك اشكالا آخر علی اعتبار الغرض بهذا الوجه، وهو انّ الأمر لا يمكن ان يتكفل بيان الغرض منه، ولكن هذا الاشكال سهل الجواب، لأنه يمكن ان يكون غرضه من الأمر ذلك غايته انّه تحتاج الی كاشف يكشف عن انّ غرضه من الأمر كان ذلك، فتأمل - منه.

به ويقع تحت دائرة التكليف ، والا فلا يزيد هذا المعنى من الغرض عن الغرض بمعنى المصلحة الذي سيأتي انه مما لا اثر له.

الوجه الثاني :

ان يكون مراده من الغرض المصالح التي هي ملاكات الاحكام ، فيكون اعتبار قصد التقرب والامتثال لأجل ان المصلحة الواقعية لا تحصل الا بذلك ، وحينئذ لا يحتاج إلى جعل مولوي لاعتبار قصد الامتثال ، بل نفس المصلحة الواقعية تقتضي قصد الامتثال ، فلو علم أن المصلحة الواقعية لا تحصل الا بقصد الامتثال فهو ، وان شك فسيأتي الكلام فيه.

وهذا الوجه أردء من سابقه إذ المصالح الواقعية انما تكون مناطات للأوامر وليست هي لازمة التحصيل ، لعدم كونها من المسببات التوليدية لفعل المكلف ، كما يدل على ذلك عدم تعلق التكليف بها في شيء من المقامات. وقد تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الصحيح والأعم فراجع (1). وحينئذ نفس العلم بالمصلحة لا يكفي في الزام المكلف بشيء الا من جهة استكشاف الحكم المولوي لمكان انه يقبح على الحكيم تفويت المصلحة على العباد ، فلو لم يستكشف ذلك كان العلم بالمصلحة مما لا اثر له ، فاثر العلم بالمصلحة ليس الا استكشاف الجعل المولوي لمكان الملازمة. فيرجع الكلام إلى أن الواجب على المكلف هو ما تعلق الجعل به ، لا ما قامت المصلحة به من دون جعل مولوي ومن دون تعلق الامر الشرعي بالفعل الذي قامت المصلحة به. وحينئذ يبقى الكلام في كيفية تعلق الجعل والامر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كل محذور.

والتحقيق في المقام :

انه ينحصر كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ولا علاج له سوى ذلك ، فلابد 7

ص: 161


1- راجع مباحث الصحيح والأعم من هذا الكتاب ص 67

للمولى الذي لا يحصل غرضه الا بقصد الامتثال من تعدد الامر بعد ما لا يمكن ان يستوفى غرضه بأمر واحد ، فيحتال في الوصول إلى غرضه. وليس هذان الأمران عن ملاك يخص بكل واحد منهما حتى يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل هناك ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد. ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمم الجعل ، فان معناه هو تتميم الجعل الأولى الذي لم يستوف تمام غرض المولى ، فليس للامرين الا امتثال واحد وعقاب واحد.

وبذلك يندفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على من يقول بتعدد الامر.

بما حاصله : ان الامر الأولى ان كان يسقط بمجرد الموافقة ولو مع عدم قصد الامتثال فلا موجب للامر الثاني إذ لايكون له موافقة حينئذ ، وان كان لا يسقط فلا حاجة إليه لاستقلال العقل ح باعتباره الخ ما ذكره في المقام.

وحاصل الدفع : ان الاشكال مبنى على تخيل ان تعدد الامر انما يكون عن ملاك يختص بكل واحد ، وقد عرفت : انه ليس المراد من تعدد الامر ذلك بل ليس هناك الا ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد.

ثم إن متمم الجعل تارة : ينتج نتيجة الاطلاق ، وأخرى : ينتج نتيجة التقييد. فالأول : كمسألة اشتراك الاحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل ، حيث حكى تواتر الاخبار على الاشتراك. والثاني : كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره. وتفصيل الكلام في متمم الجعل باقسامه ذكرناه في بعض مباحث الأصول العملية ، وعلى كل حال ، قد عرفت ان التعبدية انما تستفاد من متمم الجعل ، لا من الغرض بكلا معنييه.

ثم إن هنا طريقا آخر لاستفادة التعبدية بنى عليه بعض الاعلام ، وهو ان قصد الامتثال انما يعتبره العقل في مقام الإطاعة ، حيث إنه من كيفيات الإطاعة التي هي موكولة إلى نظر العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك هذا.

ولكن الانصاف : انه لم نعرف معنى محصلا لهذا الوجه ، فإنه ان أراد ان العقل يعتبر قصد الامتثال من عند نفسه فهو واضح الفساد ، إذ العقل لم يكن مشرعا

ص: 162

يتصرف من قبل نفسه ويحكم بما يريد ، إذ ليس شأن العقل الا الادراك.

وان أراد ان العقل يعتبر ذلك بعد العلم بان ما تعلق الامر به انما شرع لأجل ان يكون من الوظايف التي يتعبد بها العباد ، فهذا ليس معنى اعتبار العقل ذلك من قبل نفسه ، بل العقل ح يستقل بجعل ثانوي للمولى على اعتبار قصد التقرب ، ويكون حكمه في المقام نظير حكمه بوجوب المقدمة ، حيث إنه بعد وجوب ذيها شرعا يستقل العقل بوجوبها أيضا ، بمعنى انه يدرك وجوب ذلك ويكون كاشفا عنه ، لا انه هو يحكم بالوجوب ، فإنه ليس ذلك من شأن العقل. فكذا في المقام ، حيث إنه بعد اطلاع العقل بان وجوب الصلاة مثلا انما هو لأجل ان تكون من الوظايف المتعبد بها ، فلا محالة يدرك ان هناك جعلا مولويا تعلق باعتبار قصد الامتثال ، ويكشف عن ذلك ككشفه عن وجوب المقدمة ، وأين هذا من دعوى كون قصد الامتثال مما يعتبره العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك؟.

وبالجملة : دعوى ان التعبدية من الاحكام العقلية بالمعنى المذكور مما لا يمكن المساعدة عليها ، بل الحق الذي لا محيص عنه ، هو ان التعبدية انما تكون بأمر ثانوي متمم للجعل ، فتأمل في أطراف المقام فإنه من مزال الاقدام.

ثم انه ان علم بالتوصلية والتعبدية فهو ، وان شك فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي : من البراءة ، والاشتغال. فاعلم : انه قد قال بالاشتغال في المقام من لم يقل به عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وربما يبنى ذلك على الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، بجريان البراءة في الأولى دون الثانية.

فينبغي أولا تحقيق الحال في ذلك ، وان كنا قد تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر ، الا انه لا باس بالإشارة إليه في المقام.

فنقول :

ربما يتوهم الفرق بين المحصلات الشرعية وغيرها بما حاصله : ان المحصل ان كان عقليا أو عاديا لا مجال لاجراء البراءة فيه عند الشك في دخل شيء فيه ، لأنه يعتبر في البراءة ان يكون المجهول مما تناله يد الجعل والرفع الشرعي ، والمفروض ان المحصل العقلي والعادي ليس كذلك ، فلو كان احراق زيد واجبا ، وشك في أن

ص: 163

الالقاء الخاص هل يكون موجبا للاحراق أولا؟ كان المرجع هو الاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط ، ولا يجرى فيه حديث الرفع لان ما هو المجعول الشرعي غير مجهول وما هو المجهول غير مجعول شرعي.

وهذا بخلاف ما إذا كان المحصل شرعيا ، كالغسلات بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، حيث إنه لما كان محصلية الغسلات للطهارة بجعل شرعي ، فلو شك في اعتبار الغسلة الثانية أو العصر كان موردا للبرائة ويعمه حديث الرفع ، إذ امر وضعه بيد الشارع ، فرفعه أيضا بيده ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك فساده ، فان المحصلات ليست هي بنفسها من المجعولات الشرعية ، بل لا يمكن تعلق الجعل بها ، إذ السببية غير قابلة للجعل الشرعي ، فإنها عبارة عن الرشح والإفاضة ، وهذا مما لا تناله يد الجعل التشريعي ، كما أوضحناه في محله ، بل المجعول الشرعي هو نفس المسببات وترتبها عند وجود أسبابها ، فالمجعول هو الطهارة عقيب الغسلات لا سببية الغسلات للطهارة ، وكذا المجعول هو وجوب الصلاة عند الدلوك ، لا سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، وح لا يمكن اجراء حديث الرفع عند الشك في دخل شيء في المحصل ، لما عرفت : من أنه يعتبر في المرفوع ان يكون مجعولا شرعيا ، والمجعول المجهول في المقام ، هو ترتب المسبب على الفاقد للمشكوك ، واجراء حديث الرفع في هذا ينتج ضد المقصود ، إذ يرفع ترتب المسبب على الأقل وينتج عدم حصول المسبب عقيب السبب الفاقد للخصوصية المشكوكة ، وهذا كما ترى يوجب التضييق وينافي الامتنان ، مع أن الرفع انما يكون للامتنان والتوسعة على العباد.

والحاصل : ان الامر في باب المحصلات ومتعلقات التكاليف يختلف ، فان في باب متعلقات التكاليف يكون تعلق التكليف بالأقل معلوما وبالأكثر مشكوكا ، فيعمه حديث الرفع ، لان في رفعه منة وتوسعة. وهذا بخلاف باب المحصلات ، فان ترتب المسبب على الأكثر معلوم وعلى الأقل مشكوك ، فما هو معلوم لا يجرى فيه حديث الرفع ، وما هو مشكوك لا موقع له فيه ، لاستلزام جريانه الضيق على العباد ، مع أنه ينتج عكس المقصود.

ص: 164

هذا إذا لم نقل بجعل السببية. وأما إذا قلنا محالا بجعل السببية فكذلك أيضا ، لان سببية الأكثر الواجد للخصوصية المشكوكة معلومة ، فلا يجرى فيه حديث الرفع ، وسببية الأقل مشكوكة ، ورفعها ينتج عدم جعله سببا ، وهذا يوجب التضييق.

نعم لو قلنا : بجعل الجزئية مضافا إلى جعل السببية أمكن جريان البراءة حينئذ ، لان جزئية الغسلة الثانية مثلا أو شرطية العصر مشكوك ، وفرضنا انها تنالها يد الجعل ، فيعمها حديث الرفع ويوجب رفع جزئيتها للسبب ، فيكون السبب هو الفاقد للعصر أو الغسلة الثانية ، ولكن هذا يستلزم الالتزام بمحال في محال ، محال جعل السببية ، ومحال جعل الجزئية فتأمل.

فتحصل : انه لافرق بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي ، وانه في الكل لا مجال الا للاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط والامتثال.

ثم انه لا فرق في المحصلات ، بين ان تكون مسبباتها من الواجبات الشرعية كالطهارة بالنسبة إلى الغسلات ، أو كان من الملاكات ومناطات الاحكام والمصالح التي تبتنى عليها ، بناء على كونها من المسببات التوليدية وان منعناه سابقا أشد المنع ، ولكن بناء على كونها من المسببات التوليدية يكون حالها بالنسبة إلى الافعال التي تقوم بها حال الطهارة بالنسبة إلى الغسلات التي تحصل بها ، في عدم جريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصولها. مع أنه لو سلم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، وقلنا بجريان البراءة في المحصلات الشرعية ، لا يمكن القول بها عند الشك في دخل شيء في حصول الملاك ، بناء على كونه من المسببات التوليدية ، وذلك : لان محصلية الصلاة مثلا للملاك ليس بجعل شرعي ، بل هو امر واقعي تكويني ، وليس من قبيل محصلية الغسلات للطهارة حيث تكون بجعل شرعي ، لوضوح ان سببية الصلاة للنهي عن الفحشاء ليس بجعل شرعي ، فيكون حال الصلاة بالنسبة إلى النهى عن الفحشاء كحال الأسباب العقلية بالنسبة إلى مسبباتها وانه لا مجال لجريان البراءة فيها ، وحينئذ ينسد جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 165

فان قلت :

نعم وان كان دخل الصلاة في حصول الملاك أمرا واقعيا تكوينيا ، الا ان الامر لما تعلق بالصلاة ووقعت هي مورد التكليف ، كان جريان البراءة فيما شك في اعتباره في الصلاة بمكان من الامكان.

والحاصل : انه فرق في باب الأسباب والمسببات ، بين تعلق التكليف بالمسبب كقوله تعالى : (1) « وثيابك فطهر » ، وبين تعلقه بالسبب كالصلاة وغيرها مما يكون سببا لحصول الملاك ، حيث إن التكليف انما تعلق بنفس الأسباب ، لا المسببات التي هي عبارة عن الملاكات. فان تعلق التكليف بالمسبب فلا مجال لجريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصوله ، كما إذا شك في دخل الغسلة الثانية أو العصر في حصول الطهارة ، لان متعلق التكليف معلوم ، والشك انما هو في ناحية الامتثال ، فالمرجع أصالة الاشتغال لا البراءة. وهذا بخلاف ما إذا تعلق التكليف بالسبب ، فإنه يكون ح للسبب بماله من الاجزاء والشرائط حيثيتان : حيثية دخله في حصول الملاك ، وحيثية تعلق التكليف به ، والبرائة وان لم تجر فيه من الحيثية الأولى لأنها ليست جعلية بل هي واقعية تكوينية ، الا انها تجرى فيه من الحيثية الثانية ، لرجوع الشك فيها إلى الشك في التكليف ، وبعد اخراج المشكوك كالسورة مثلا عن تحت دائرة الطلب والتكليف يكون المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، وتخرج الحيثية الأولى عن اقتضائها الاشتغال ، ببركة جريان البراءة عن الحيثية الثانية.

وبذلك يحصل الفرق ، بين قصد الامتثال المعتبر في العبادة ، وبين سائر الأجزاء والشرائط ، فان قصد الامتثال لما لم يتعلق به الطلب لاستحالته على ما عرفت ، بل كان مما يعتبره العقل في حصول الطاعة ، كان المرجع عند الشك في اعتباره هو الاشتغال ، لعدم تعلق التكليف بناحية السبب ، فلو شك في حصول الملاك بدون قصد الامتثال كان اللازم عليه قصد الامتثال ، للشك في حصوله بدون

ص: 166


1- سورة المدثر ، الآية 4

ذلك من دون ان يكون له مؤمن شرعي. وهذا بخلاف سائر الأجزاء والشرائط مما أمكن تعلق الطلب به ، فإنه لمكان امكان ذلك لو شك في تعلق الطلب بالسورة كان المرجع هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، وبعد جريان البراءة يحصل المؤمن الشرعي عن الشك في حصول الملاك ، لان لازم خروج المشكوك عن دائرة الطلب ، هو كون المحصل للملاك خصوص الصلاة بلا سورة مثلا.

قلت :

يرد على ذلك.

أولا : انه لا فرق في باب الأسباب والمسببات بين تعلق التكليف بنفس المسبب أو تعلقه بالسبب ، لأنه لايكون السبب بما هو فعل جوارحي متعلق التكليف ، بل هو معنون بمسببه التوليدي يكون متعلق التكليف ، فليس الامر بالغسل بما هو هو وبما انه اجراء الماء على المحل مطلوبا ، بل بما انه افراغ للمحل عن النجاسة الذي هو عبارة عن الطهارة وقع متعلق الطلب.

ومن هنا قيل - كما في المعالم - ان البحث عن وجوب المقدمة السببية قليل الجدوى ، وليس ذلك الا لان تعلق التكليف بكل من السبب والمسبب عين تعلقه بالآخر ، وحينئذ لا يجدى تعلق التكليف بالسبب في جريان البراءة ، إذ ليس السبب بما هو متعلق التكليف ، بل بما هو معنون بالمسبب ومتولد منه قد تعلق التكليف به ، فليس هناك حيثيتان : حيثية دخله في حصول المسبب ، وحيثية تعلق التكليف به ، بل ليس هناك الا حيثية واحدة ، وهي حيثية دخله في حصول المسبب وقد تعلق التكليف به من نفس تلك الحيثية ، والمفروض ان الشك من تلك الحيثية راجع إلى الشك في الامتثال الذي لا مجال فيه للبرائة ، فتعلق التكليف بالصلاة انما يكون من حيثية دخلها بمالها من الاجزاء والشرائط في الملاك ، فعند الشك في دخل السورة في الملاك يلزم الاحتياط.

وثانيا : هب ان هناك حيثيتين ، الا ان إحدى الحيثيتين تقتضي الاشتغال والأخرى لا تقتضيه ، ومن المعلوم : ان ما ليس له الاقتضاء لا يمنع عن اقتضاء ما فيه الاقتضاء ، فلو اجتمع في شيء واحد جهتان : جهة تقتضي الاشتغال ، وجهة تقتضي

ص: 167

البراءة ، فالاعتماد على الجهة التي تقتضي الاشتغال ، لان عدم المقتضى لا يمكن ان يزاحم ما فيه المقتضى.

واما دعوى : ان مقتضى اجراء البراءة عن تعلق التكليف بالسورة ، هو ان المجعول الشرعي وما هو المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، فلا يبقى مجال لدعوى دخل السورة في الملاك حتى تكون هذه الحيثية مقتضية للاشتغال ، بل هذه الحيثية تنعدم ببركة اجراء البراءة في الحيثية الأخرى.

فهي في غاية السقوط ، لابتنائها على اعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به ، إذ لا فرق في الأصل المثبت ، بين باب اللوازم والملزومات ، وبين باب الملازمات.

وبعبارة أخرى : كما أن اثبات الحكم الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي لمؤدى الأصل المثبت - كاثبات الآثار المترتبة على انبات اللحية الملازم للحيوة باستصحاب الحياة - كذلك لو ترتب جعل شرعي على جعل آخر أو نفى جعل آخر وكان مؤدى الأصل اثبات أحد الجعلين أو نفيه - كما فيما نحن فيه - لا يمكن اثبات ذلك الجعل الشرعي الا على القول بالأصل المثبت ، فتأمل في المقام جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القول بالاشتغال عند الشك في اعتبار قصد القربة لمكان الشك في حصول الملاك مما لا يرجع إلى محصل ، لعدم كون الملاكات من المسببات التوليدية حتى يلزم تحصيلها على المكلف ، بحيث لو شك في حصولها لزمه الاحتياط. هذا إذا كان مبنى اعتبار قصد الامتثال هو حيثية دخله في حصول الملاك.

وأما إذا كان مبنى اعتباره أحد الامرين الآخرين ، وهما الغرض بمعناه الاخر - أي الغرض من الامر لان يتعبد به العبد - ومتمم الجعل ( على ما هو الحق عندنا ) فان كان منشأ اعتباره هو غرض الامر ، فالذي ينبغي ان يقال عند الشك في ذلك ، هو الرجوع إلى البراءة ، للشك في أنه امر لذلك. وقد عرفت فيما تقدم : انه لو امر لذلك يكون الغرض من كيفيات الامر وملقى إلى العبد بنفس القاء الامر ويكون ملزما به شرعا ، كما يكون ملزما بتعلق الامر شرعا ، ويندرج الامر على هذا الوجه تحت الكبرى العقلية ، وهي لزوم الانبعاث عن امر المولى على ما مر بيانه ، وحينئذ لو

ص: 168

شك في أنه هل كان غرضه من الامر تعبد المكلف به أو لم يكن غرضه ذلك كان الشك راجعا إلى الزام شرعي فينفي بالأصل.

والحاصل : ان الامر يدور بين الأقل والأكثر ، لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الامر بالفعل ، فيكون في التعبدي امر زائد اراده المولى من المكلف. وليس المقام من دوران الامر بين المتباينين ، بدعوى انا نعلم أن للمولى غرضا ولكن نشك في أن غرضه من الامر نفس المتعلق أو ان غرضه تعبد المكلف بأمره ، ودلك : لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الغرض بالفعل ، وفي التعبدي يكون غرض زائد على ذلك ، وهو تعبد المكلف بأمره ، فيكون الامر من الدوران بين الأقل والأكثر.

نعم يمكن ان يقال : انه بالنسبة إلى فروع التعبد : من قصد الوجه والتميز وغير ذلك ، يكون الأصل هو الاشتغال ، للشك في حصول المسقط المفروض انه غرض المولى بدون ذلك.

وبالجملة : فرق بين الشك في أصل التعبد ، وبين الشك فيما يحصل به التعبد ، فان الأول مجرى البراءة والثاني مجرى الاشتغال ، فتأمل.

هذا بناء على أن يكون التعبد جائيا من ناحية الغرض. وأما إذا كان لمتمم الجعل ، فعند الشك يكون المرجع هو البراءة مط ، سواء كان الشك في أصل التعبد أو فروع التعبد ، لرجوع الشك إلى الشك في قيد زائد على كل حال كما لا يخفى. وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في مسألة التعبدية والتوصلية.

ثم انه كان المناسب ان يستوفى اقسام الواجب : من كونه تعبديا أو توصليا ، وكونه مط أو مشروطا ، وكونه عينيا أو كفائيا ، وكونه تعيينيا أو تخييريا ، إلى غير ذلك من الأقسام المتصورة فيه ، ثم بعد ذلك يذكر مسألة الاجزاء ، والمرة والتكرار ، لان هذه تقع في مرحلة سقوط التكليف ، وذلك يقع في مرحلة ثبوت التكليف ، وتفرع الأول على الثاني واضح ، ولكن الاعلام لم يسلكوا هذا المسلك وقدموا ما حقه التأخير وأخروا ما حقه التقديم. كما أنهم ذكروا تقسيم الواجب إلى المط والمشروط في بحث مقدمة الواجب ، مع أن ذلك المبحث متكفل لحال المقدمة وأقسامها ، لا لاقسام الواجب ، وتقسيم المقدمة إلى الوجوبية والوجودية وان كان باعتبار اطلاق وجوب

ص: 169

ذيها واشتراطه ، الا ان ذلك لا يوجب البحث عنه في ذلك المقام. فالأولى : ان يستوفى اقسام الواجب أولا ، ثم بعد ذلك يبحث عن مسألة الاجزاء وغيرها مما يقع في مرحلة السقوط ، وان كان ذلك على خلاف ما رتبه الاعلام في الكتب الأصولية ، ولكن الامر في ذلك سهل.

وعلى كل حال ينقسم الواجب ، إلى كونه مطلقا ومشروطا ، وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم أمور :

الأول :

قسم أهل المعقول القضية إلى كونها عقلية ، وطبيعية ، وحقيقة ، وخارجية. ولا يتعلق لنا غرض بالعقلية والطبيعية ، وانما المهم بيان الفرق بين الخارجية والحقيقية ، وما يختلفان فيه بحسب الآثار والاحكام ، حتى لا يختلط أحدهما بالأخرى ولا يرتب ما لأحدهما على الأخرى ، كما وقع هذا الخلط في جملة من الموارد كما نشير إليه انشاء اللّه تعالى.

فنقول : القضية الخارجية عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على شخص خاص ، بحيث لا يتعدى ذلك الوصف والحكم عن ذلك الشخص إلى غيره وان كان مما ثلاله في الأوصاف ، ولو فرض انه ثبت ذلك المحمول على شخص آخر كان ذلك لمجرد الاتفاق من دون ان يرجع إلى وحدة الملاك والمناط ، بل مجرد المقارنة الاتفاقية ، من غير فرق في ذلك بين ان تكون القضية خبرية ، أو طلبية ، كقولك : زيد قائم ، أو أكرم زيدا. ومن غير فرق أيضا ، بين القاء القضية بصورة الجزئية ، أو القائها بصورة الكلية ، نحو كل من في العسكر قتل وكل ما في الدار نهب ، إذ القائها بصورة الكلية لا يخرجها عن كونها خارجية ، إذ المناط في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص لا على العنوان ، كما سيأتي في بيان القضية الحقيقية. وهذا لا يتفاوت بين وحدة الشخص وتعدده كما في المثال ، بعد ما لم يكن بين الأشخاص جامع ملاكي أوجب اجتماعهم في الحكم ، بل كان لكل مناط يخصه غايته انه اتفق اجتماعهم في ثبوت المحمول كما في المثال ، حيث إن ثبوت القتل لكل من زيد وعمرو وبكر كان لمحض الاتفاق واجتماعهم في المعركة ، و

ص: 170

الا لم يكن مقتولية زيد بمناط مقتولية عمرو ، بل زيد انما قتل لمناط يخصه ، حسب موجبات قتله من خصوصياته وخصوصيات القاتل ، وكذا مقتولية عمرو.

وبالجملة : العبرة في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص وان كانت بصورة القضية الكلية ، مثل كل من في العسكر قتل ، فإنه بمنزلة زيد قتل ، وعمرو قتل ، وبكر قتل ، وهكذا.

واما القضية الحقيقية : فهي عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على عنوان اخذ على وجه المرآتية لافراده المقدرة الوجود ، حيث إن العناوين يمكن ان تكون منظرة لمصاديقها ومرآة لافرادها ، سواء كان لها افراد فعلية أو لم يكن ، بل يصح اخذ العنوان منظرة للأفراد وان لم يتحقق له فرد في الخارج لا بالفعل ولا فيما سيأتي ، لوضوح انه لا يتوقف اخذ العنوان مرآة على ذلك ، بل العبرة في القضية الحقيقية هو اخذ العنوان موضوعا فيها ، لكن لا بما هو هو حتى يمتنع فرض صدقه على الخارجيات ويكون كليا عقليا ، بل بما هو مرآة لافراده المقدر وجودها بحيث كلما وجد في الخارج فرد ترتب عليه ذلك الوصف والحكم ، سواء كانت القضية خبرية ، أو طلبية ، نحو كل جسم ذو ابعاد ثلاثة ، أو كل عاقل بالغ مستطيع يجب عليه الحج ، فان الحكم في مثل هذا يترتب على جميع الافراد التي يفرض وجودها بجامع واحد وبملاك واحد.

وبذلك تمتاز القضية الخارجية عن القضية الحقيقية ، حيث إنه في القضية الخارجية ليس هناك ملاك جامع وعنوان عام ينطبق على الافراد ، بل كل فرد يكون له حكم يخصه بملاك لا يتعدى عنه ، ومن هنا لا تقع القضية الخارجية كبرى القياس ولا تقع في طريق الاستنباط ، لان القضية الخارجية تكون في قوة الجزئية لا تكون كاسبة ولا مكتسبة ، فلا يصح استنتاج مقتولية زيد من قوله : كل من في العسكر قتل ، لأنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بمن في العسكر وان زيدا منهم ، وبعد علمه بذلك لا حاجة إلى تأليف القياس لاستنتاج مقتولية زيد ، وعلى فرض التأليف يكون صورة قياس لا واقع له ، كقوله : زيد في العسكر وكل من في العسكر قتل فزيد قتل ، لما عرفت : من أنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بقتل زيد ، فلا يكون هذا من الأقيسة المنتجة.

ص: 171

وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فإنها تكون كبرى لقياس الاستنتاج ويستفاد منها حكم الافراد ، كما يقال : زيد مستطيع وكل مستطيع يجب عليه الحج فزيد يجب عليه الحج ، ولا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باستطاعة زيد ووجوب الحج عليه ، كما كان يتوقف العلم بكلية القضية الخارجية على العلم بكون زيد في العسكر وانه قد قتل ، بل كلية الكبرى في القضية الحقيقية انما تستفاد من قوله تعالى (1) « ولله على الناس حج البيت » الخ.

وبما ذكرنا ظهر : ان ما أشكل على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج من استلزامه الدور - حيث إن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والعلم بكلية الكبرى يتوقف على العلم باندراج النتيجة فيها - فإنما هو لمكان الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان في القضية الحقيقية لا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باندراج النتيجة فيها ، بل كلية الكبرى انما تستفاد من مكان آخر كما عرفت. نعم في القضية الخارجية العلم بكلية القضية يتوقف على العلم بما يندرج تحتها من الافراد ، وقد عرفت : ان القضية الخارجية لا تقع كبرى القياس ، ولا يتألف منها القياس حقيقة ، وانما يكون صورة قياس لا واقع له ، فان القضايا المعتبرة في العلوم التي يتألف منها الأقيسة انما هي ما كانت على نحو القضايا الحقيقية ، فيرتفع الاشكال من أصله ، ولا حاجة إلى التفصي عن الدور بالاجمال والتفصيل ، كما في بعض كلمات أهل المعقول.

وقد وقع الخلط بين القضية الخارجية والحقيقية في جملة من الموارد ، كمسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرائط ، وكمسألة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وكمسألة الشرط المتأخر ، وغير ذلك مما يأتي الإشارة إليه كل في محله. فان هذه الفروع كلها تبتنى على تخيل كون القضايا الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، وهو ضروري البطلان ، لوضوح ان القضايا الواردة في الكتاب والسنة انما

ص: 172


1- سورة آل عمران ، 97

هي قضايا حقيقية ، وليست اخبارات عما سيأتي بان يكون مثل قوله تعالى ولله على الناس الخ اخبارا بان كل من يوجد مستطيعا فأوجه عليه خطابا يخصه ، بل انما هي اخبارات عن انشاءات في عالم اللوح المحفوظ. وبالجملة : كون القضايا الشرعية من القضايا الحقيقية واضح لا يحتاج إلى مزيد برهان وبيان.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية وان كانت كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، الا ان ما يرتبط بما نحن فيه من الواجب المشروط والمط ، هي جهات ثلاث :

الجهة الأولى :

ان العبرة في القضية الخارجية ، هو علم الآمر باجتماع الشروط وما له دخل في حكمه ، فلا يوجه التكليف على عمرو مثلا بوجوب اكرام زيد الا بعد علمه باجتماع عمرو لجميع الشروط المعتبرة في حكمه : من العقل ، والبلوغ ، والقدرة ، وغير ذلك مما يرى دخله في مناط حكمه ، ولو فرض ان الآمر كان جاهلا بوجود شرط من شروط صدور الحكم ، كمجئ بكر الذي له دخل في تكليف عمرو بوجوب اكرام زيد ، فلا محالة يعلق حكمه بصورة وجود الشرط ، ويقول : ان جاء بكر فأكرم زيدا ، وتكون القضية الخارجية من هذه الجهة - أي من جهة تعليقها على الشرط - ملحقة بالقضية الحقيقية ، على ما سيأتي بيانه.

والحاصل : ان المدار في صدور الحكم في القضية الخارجية انما هو على علم الآمر باجتماع شروط حكمه وعدم عمله ، فان كان عالما بها فلا محالة يصدر منه الحكم ولو فرض خطأ علمه وعدم اجتماع الشروط واقعا ، إذ لا دخل لوجودها الواقعي في ذلك ، بل المناط في صدور الحكم هو وجودها العلمي ، فان كان عالما بها يحكم وان لم تكن في الواقع موجودة ، وان لم يكن عالما بها لا يحكم وان كانت موجودة في الواقع الاعلى وجه الاشتراط بوجودها ، فيرجع إلى القضية الحقيقية من هذه الجهة ، فلا يعتبر في صدور الحكم في القضية الخارجية الا علم الآمر باجتماع الشرائط.

واما في القضية الحقيقية : فيعتبر فيها تحقق الموضوع خارجا ، إذ الشرط في

ص: 173

القضية الحقيقية هو وجود الموضوع عينا ولا عبرة بوجوده العلمي ، لان الحكم في القضية الحقيقية على الافراد المفروض وجودها ، فيعتبر في ثبوت الحكم وجود الافراد ، ولا حكم مع عدم وجودها ولو فرض علم الآمر بوجودها ، فالحكم في مثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مترتب على واقع العاقل البالغ المستطيع ، لا على ما يعلم كونه عاقلا بالغا مستطيعا ، إذ لا اثر لعلمه في ذلك ، فلو فرض انه لم يعلم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع لترتب حكم وجوب الحج عليه قهرا بعد جعل وجوب الحج على العاقل البالغ المستطيع ، كما أنه لو علم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع وفي الواقع لم يكن كذلك لما كان يجب عليه الحج ، فالمدار في ثبوت الحكم في القضية الحقيقية انما هو على وجود الموضوع خارجا ، من دون دخل للعلم وعدمه في ذلك.

وبذلك يظهر : امتناع الشرط المتأخر ، لأنه بعد ما كان الشيء شرطا وقيدا للموضوع فلا يعقل ثبوت الحكم قبل وجوده ، والا يلزم الخلف وعدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، على ما سيأتي بيانه ، وارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان الوجود العلمي بتحقق الشرائط انما ينفع في القضية الخارجية كما عرفت ، لا في القضية الحقيقية.

نعم في القضية العلم بترتب الملاك والمصلحة على متعلق حكمه له دخل أيضا في صدور الحكم ، الا ان ذلك يرجع إلى باب الدواعي التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، وأين هذا من باب الشروط الراجعة إلى قيود الموضوع كما سيأتي بيانه ، فان العبرة في ذلك انما هو بوجودها العيني ، ولا اثر لوجودها العلمي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الشرط في ثبوت الحكم في القضية الخارجية هو العلم باجتماع شرائط التكليف لا وجودها الواقعي وفي القضية الحقيقية هو وجودها الواقعي لا وجودها العلمي. فهذه إحدى الجهات الثلاث التي تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الجهة الثانية :

هي ان القضية الخارجية لا يتخلف فيها زمان الجعل والانشاء عن زمان ثبوت الحكم وفعليته ، بل فعليته تكون بعين تشريعه وانشائه ، فبمجرد قوله : أكرم

ص: 174

زيدا ، يتحقق وجوب الاكرام ، الا إذا كان مشروطا بشرط لم يحرزه الآمر فتلحق بالقضية الحقيقية من هذه الجهة كما أشرنا إليه ، والا لا يعقل تخلف الانشاء عن فعلية الحكم زمانا ، وان كان متخلفا رتبة نحو تخلف الانفعال عن الفعل.

واما في القضية الحقيقية : فالجعل والانشاء انما يكون أزليا ، والفعلية انما تكون بتحقق الموضوع خارجا ، فان انشائه انما كان على الموضوع المقدر وجوده ، فلا يعقل تقدم الحكم على الموضوع ، لأنه انما انشاء حكم ذلك الموضوع ، وليس للحكم نحو وجود قبل وجود الموضوع حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، كما في بعض الكلمات.

والحاصل : انه فرق بين انشاء الحكم وبين الحكم الانشائي ، والذي تتكفله القضايا الحقيقية الشرعية انما هو انشاء الحكم ، نظير الوصية ، حيث إن الوصية انما هي تمليك بعد الموت ولا يعقل تقدمه على الموت ، لان الذي أنشأ بصيغة الوصية هو هذا أي ملكية الموصى له بعد موته ، فلو تقدمت الملكية على الموت يلزم خلاف ما أنشأ ، ولا معنى لان يقال الملكية بعد الموت الآن موجودة ، لان هذا تناقض. فكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان انشائها عبارة عن جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده ، فما لم يتحقق الموضوع لايكون شيء أصلا ، وإذا تحقق الموضوع يتحقق الحكم لا محالة ولا يمكن ان يتخلف.

فتحصل : انه ليس قبل تحقق الموضوع شيء أصلا حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، إذ ليس الانشاء الا عبارة عن جعل الحكم في موطن وجود موضوعه ، فقبل تحقق موطن الوجود لا شيء أصلا ، ومع تحققه يثبت الحكم ويكون ثبوته عين فعليته ، وليس لفعلية الحكم معنى آخر غير ذلك.

وحاصل الكلام : انه ليس للحكم نحو ان من الوجود يسمى بالانشاء تارة ، وبالفعلي أخرى ، بل الحكم هو عبارة عما يتحقق بتحقق موضوعه ، وهذا هو الذي أنشأ أزلا قبل خلق عالم وآدم ، فلو فرض انه لم يتحقق في الخارج عاقل بالغ مستطيع فلم يتحقق حكم أيضا أصلا ، فالحكم الفعلي عبارة عن الذي أنشأ وليس وراء ذلك شيء آخر ، فلو أنشأ الحكم على العاقل البالغ المستطيع ، فلا محيص من

ص: 175

ثبوت الحكم بمجرد تحقق العاقل البالغ المستطيع ، ولا يعقل ان يتخلف عنه ، فلو توقف ثبوت الحكم وفعليته على قيد اخر كعدم قيام الامارة على الخلاف مثلا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء ، لأنا فرضنا ان ذلك القيد لم يؤخذ في انشائه ، بل انشاء الحكم على خصوص العاقل البالغ المستطيع ، فإذا وجد العاقل البالغ المستطيع ولم يوجد الحكم يلزم ان لا يوجد ما أنشأه وهو محال ، إذ لا يعقل تخلف المنشأ عن الانشاء. ومعنى عدم معقولية تخلف المنشأ عن الانشاء ، هو انه لابد من أن يوجد المنشأ على طبق ما أنشأ وعلى الوجه الذي أنشأه ، فلو أنشأ الملكية في الغد فلابد من وجود الملكية في الغد ، ولا يعقل ان تتقدم عليه أو تتأخر عنه ، بان توجد الملكية قبل الغد أو بعد الغد ، لأنه يلزم تخلف المنشأ من الانشاء ، إذ الذي أنشأ هو خصوص ملكية الغد لا غير ، فكيف تتقدم الملكية على الغد أو تتأخر عنه؟.

وحاصل الكلام : انه لو كان زمام المنشأ بيد المنشى وله السلطنة على ايجاده كيف شاء وباي خصوصية أراد كما هو مفروض الكلام ، فح يدور المنشأ مدار كيفية انشائه ، فله انشائه في الحال كما في البيع الفعلي فلا بد ان يتحقق المنشأ في الحال والا يلزم التخلف ، وله ان ينشأه في الغد فلا بد ان يكون البيع في الغد والا لزم التخلف. وليس الانشاء والمنشأ من قبيل الكسر والانكسار التكويني ، بحيث لا يمكن ان يتخلف زمان الانكسار عن الكسر ، كما ربما يختلج في بعض الأذهان ، ولأجل ذلك تخيل انه لا يعقل تخلف زمان وجود المنشأ عن زمان وجود الانشاء ، فيكف يعقل ان يكون انشاءات الاحكام أزلية ومنشائها تتحقق بعد ذلك عند وجود موضوعاتها في الخارج؟ مع أنه يلزم ان يتخلف زمان الانشاء عن زمان وجود المنشأ لأنه لا يمكن ان يتخلف زمان الوجود عن الايجاد ، وزمان الانكسار عن الكسر ، ولأجل هذه الشبهة ربما وقع بعض في اشكال كيفية تصور كون انشاءات الاحكام أزلية مع عدم وجود منشئاتها في موطن انشائها ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعف الشبهة ، وان قياس باب الانشائيات بباب التكوينيات في غير محله ، فان في التكوينيات زمام الانكسار ليس بيد الكاسر ، بل الذي بيده هو الكسر واما الانكسار فيحصل قهرا عليه.

ص: 176

وهذا بخلاف باب المنشئات ، فإنها أمور اعتبارية ، ويكون زمامها بيد المعتبر النافذ اعتباره ، وله ايجادها على أي وجه أراد. فالذي بيده زمام الملكية ، له ان يوجد الملكية في الحال ، وله ان يوجدها في المستقبل كما في الوصية ، فلو أنشأ الملكية في المستقبل بمعنى انه جعل ملكية هذا الشيء لزيد في الغد فلا بد من أن توجد الملكية في الغد ، والا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء.

وكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان زمام الاحكام بيد الشارع ، فله جعلها وانشائها على أي وجه أراد ، فلو جعل الحكم على موضوع ليس له وجود في زمان الجعل بل يوجد بعد الف سنة ، فلابد ان يوجد الحكم عند وجود موضوعه ولا يمكن ان يتخلف عنه. والسر في ذلك : هو انه الآن يلاحظ ذلك الزمان المستقبل ويجعل الحكم في ذلك الزمان ، حيث إن اجزاء الزمان بهذا اللحاظ تكون عرضية كاجزاء المكان ، فكما انه يمكن وضع الحجر في المكان البعيد عن الواضع إذا أمكنه ذلك لطول يده ، كذلك يمكن وضع الشيء في الزمان البعيد لمن كان محيطا بالزمان.

فظهر معنى كون انشاءات الاحكام أزلية ، وان تحقق المنشأ يكون بتحقق الموضوع ولا يلزم منه تخلف المنشأ عن الانشاء ، وانما التخلف يحصل فيما إذا وجد غير ما أنشأه ، اما لمكان الاختلاف في الكيف ، واما لمكان الاختلاف في الزمان ، أو غير ذلك من سائر أنحاء الاختلافات. فتأمل في المقام جيدا ، لئلا ترسخ الشبهة المتقدمة في ذهنك.

فظهر الفرق ، بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، بعدم تخلف زمان الفعلية عن الانشاء في الخارجية نظير الهبة ، وتخلفه في الحقيقية نظير الوصية. فهذه هي الجهة الثانية التي تمتاز إحديهما عن الأخرى.

الجهة الثالثة :

ان السببية المتنازع فيها من حيث كونها مجعولة أو غير مجعولة وان المجعول الشرعي هل هو نفس المسببات عند وجود أسبابها أو سببية السبب ، انما يجرى في القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، لوضوح ان القضايا الخارجية ليس لها موضوع اخذ مفروض الوجود حتى يتنازع في أن المجعول ما هو ، بل ليس فيها الا

ص: 177

حكم شخصي على شخص خاص ، كقول الآمر لزيد اضرب عمروا ، فلا معنى لان يقال : ان المجعول في قوله اضرب عمروا ما هو ، إذ ليس فيه الا حكم وعلم باجتماع شرائط الحكم من المصالح ، والمصالح غير مجعولة بجعل شرعي ، بل هي أمور واقعية تكوينية تترتب على أفعال المكلفين فلم يبق فيها الا الحكم وهو المجعول الشرعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لما اخذ فيها موضوع ورتب الحكم على ذلك الموضوع في ظرف وجوده ، كان للنزاع في أن المجعول الشرعي ما هو ، هل هو الحكم على فرض وجود الموضوع؟ أو سببية الموضوع لترتب الحكم عليه؟ مجال. وان كان الحق هو الأول ، والثاني غير معقول ، على ما أوضحناه في باب الأحكام الوضعية. والغرض في المقام مجرد بيان ان النزاع انما يتأتى فيما إذا كان جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ، ولا يتصور النزاع في القضايا الخارجية لانتفاء الموضوع فيها بالمعنى المتقدم ، أي بمعنى اخذ عنوان الموضوع منظرة ومرآة لافراد المقدر وجودها. فهذه جهات ثلث تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الامر الثاني :

من الأمور التي أردنا رسمها في مبحث الواجب المطلق والمشروط ، هو انه قد عرفت ان القضايا الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، وح تكون الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا واثباتا.

اما ثبوتا ، فلما تقدم من أن القضية الحقيقية عبارة عن ترتب حكم أو وصف على عنوان اخذ منظرة لافراده المقدر وجودها ، فلا يمكن جعل الحكم الا بعد فرض الموضوع ، فالحكم ثبوتا مشروط بوجود الموضوع ، نظير اشتراط المعلول بوجود علته.

واما اثباتا ، والمراد به مرحلة الابراز واظهار الجعل فتارة : يكون الابراز لا بصورة الاشتراط أي لا تكون القضية ، مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : المستطيع يحج. وأخرى : تكون القضية مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : ان استطعت فحج ، وعلى أي تقدير لا يتفاوت الحال ، إذ مآل كل إلى الآخر ، فان مآل الشرط إلى الموضوع ومآل الموضوع إلى الشرط ، والنتيجة واحدة ، وهي عدم تحقق الحكم الا بعد وجود الموضوع والشرط.

ص: 178

نعم يختلف الحال بحسب الصناعة العربية والقواعد اللغوية ، فإنه ان لم تكن القضية مصدرة بأداة الشرط تكن القضية ح حملية طلبية أو خبرية ، وان كانت مصدرة بأداة الشرط تكون القضية الشرطية ، ولكن مآل القضية الحملية إلى القضية الشرطية أيضا ، كما قالوا : ان كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية ، مقدمها وجود الموضوع ، تاليها عنوان المحمول. فقولنا الجسم ذو ابعاد ثلاثة يكون بمنزلة قولنا : كلما وجد في العالم شيء وكان ذلك الشيء جسما فهو ذو ابعاد ثلاثة ، فبالآخرة لا يتفاوت الحال ، بين كون القضية حملية طلبية ، أو شرطية طلبية. كما هو الشأن في الخبرية ، حيث لا يتفاوت الحال فيها ، بين كونها حملية كالمثال المتقدم ، أو شرطية كقوله كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، إذ الحملية ترجع إلى الشرطية ، كما أن نتيجة القضية الشرطية ترجع إلى قضية حملية ، فان النتيجة في قولنا كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، هي عبارة عن وجود النهار عند طلوع الشمس ، فلا فرق ، بين ان نقول : النهار موجود عند طلوع الشمس ، وبين قولنا : كلما طلعت الشمس فالنهار موجود. وقس على ذلك حال القضايا الطلبية ، وان مرجع الحملية منها إلى الشرطية ، والشرطية إلى الحملية ، والنتيجة هي وجود الحكم عند وجود الموضوع والشرط. ومن هنا قلنا : ان الشرط يرجع إلى الموضوع ، والموضوع يرجع إلى الشرط.

فتحصل : انه لافرق ، بين ابراز القضية بصورة الشرطية ، وبين ابرازها بصورة الحملية. نعم بحسب الصناعة ينبغي ان يعلم محل الاشتراط والذي يقع الشرط عليه ، بحسب القواعد العربية عند ابراز القضية بصورة الشرطية.

فنقول : يمكن تصورا ان يرجع الشرط إلى المفهوم الافرادي قبل ورود التركيب والنسبة عليه ، أي يرجع القيد إلى المتعلق الذي هو فعل المكلف في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه ، وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادة الذي ينتج الوجوب المط ، فان معنى رجوع القيد إلى المادة هو لحاظ المتعلق في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه مقيدا بذلك القيد ، وبعد ذلك يرد الحكم عليه بما انه مقيد بذلك القيد ، كما ذا لاحظ الصلاة مقيدة بكونها إلى القبلة أو مع الطهارة وبعد ذلك أوجبها على هذا الوجه. فح يكون وجوب الصلاة مطلقا غير مقيد بقيد ، وان المقيد هو

ص: 179

الصلاة.

ويمكن ان يرجع الشرط إلى المفهوم التركيبي أي إلى النسبة التركيبية ، بمعنى ان تكون النسبة الايقاعية التي تتكفلها الهيئة مقيدة بذلك القيد.

ويمكن ان يكون المنشأ بتلك النسبة أي الطلب المستفاد منها مقيدا بذلك القيد.

ويمكن ان يكون راجعا إلى المحمول المنتسب ، وهذا وان كان يرجع إلى تقييد المنشأ ، الا انهما يفترقان اعتبارا من حيث المعنى الأسمى والحرفي على ما يأتي بيانه.

ثم إن رجوعه إلى المحمول المنتسب تارة : يكون في رتبة انتسابه ، وأخرى : يكون في الرتبة المتأخرة رتبة أو زمانا ، فهذه جملة الوجوه المتصورة في الشرط والقيد ، ولكن بعض هذه الوجوه مما لا يمكن.

وبيان ذلك : هو انهم عرفوا القضية الشرطية بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى ، ومعنى ذلك هو لزوم ان يكون راجعا إلى مفاد الجملة والمفهوم التركيبي ، ولا يصح ارجاعه إلى المفهوم الافرادي ، بل تقييد المفهوم الافرادي انما يكون بنحو التوصيف والإضافة ، لا بأداة الشرط ، فما في التقرير (1) من ارجاع الشرط إلى المادة اشتباه.

ص: 180


1- وربما يختلج في البال : ان رجوع الشرط إلى وجوب الاكرام عبارة عن رجوع الشرط إلى المنشأ الذي قد تقدم انه لا يمكن رجوع الشرط إليه لكونه معنى حرفيا ، إذ المنشأ هو وجوب الاكرام المستفاد من الهيئة ، وكونه في المرتبة المتأخرة عن النسبة الايقاعية لا يخرجه عن كونه معنى حرفيا غير ملتفت إليه عند ايقاع النسبة الطلبية. كما أنه ربما يختلج في البال : عدم امكان رجوع الشرط إلى المادة الواجبة ، لأنه عند ورود الهيئة على المادة ، اما ان ترد عليها غير مشروطة بشرط ، واما ان ترد عليها مشروطة. وعلى الأول : لا يمكن لحوق الاشتراط لها. وعلى الثاني : يرجع القيد إلى المادة الذي أنكرناه. وربما يختلج في البال أيضا : رجوع الشرط إلى ما هو الموضوع في القضية الجزائية ، وهو النهار في مثل النهار موجود إذا كانت القضية خبرية ، والى الفاعل المكلف إذا كانت القضية طلبية ، فيكون المعنى : النهار الذي طلع عليه الشمس موجود ، وزيد المستطيع يحج ، فتأمل جيدا - منه.

وقد حكى عن السيد الكبير الشيرازي قده ، بان المقرر قد اشتبه ولم يصل إلى مطلب الشيخ قده ، وكان نظر الشيخ قده في انكار رجوع الشرط إلى الهيئة إلى أن الانشاء غير قابل للتقييد ، وعلى كل حال لا يهمنا تصحيح ما في التقرير بعد وضوح المطلب ، وان الشرط لا يمكن ان يرجع إلى المفهوم الافرادي ، بل الشرط لابد ان يرجع إلى المفهوم التركيبي ومفاد الجملة ، كما هو ظاهر تعريف القضية الشرطية : بأنها ما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى.

وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى الهيئة بمعناها الايقاعي ، بحيث يرجع الشرط إلى الانشاء ، لوضوح ان الانشاء غير قابل للاشتراط والتعليق ، ولا يتصف بالاطلاق والاشتراط ، وانما يتصف بالوجود والعدم.

وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى المنشأ بالهيئة ، لان الاشتراط يتوقف على لحاظ المعنى اسميا استقلاليا ، ولا يعقل ورود الشرط على المعنى الحرفي ، لا لكون المعنى الحرفي جزئيا وان الموضوع له فيه خاص ، حتى يرد عليه ان المعنى الحرفي ليس بجزئي بل الموضوع له فيه عام كالوضع ، بل لان المعنى الحرفي مما لا يمكن ان يلتفت إليه بما انه معنى حرفي ، لفنائه في الغير وكونه مغفولا عنه في موطن وجوده الذي هو موطن الاستعمال ، على ما تقدم بيانه في مبحث الحروف ، فالمنشأ بهذه الهيئة لا يمكن ان يقيد ، لعدم الالتفات إليه ولا يقع النظر الاستقلالي نحوه ، بل هو مغفول عنه عند القاء الهيئة ، فلا يعقل ان يرجع الشرط إلى مفاد الهيئة الذي هو معنى حرفي.

وكذا لا يعقل ان يرجع الشرط إلى المحمول المنتسب بعد الانتساب في الزمان لاستلزامه النسخ ، إذ لو فرض تأخر الاشتراط عن وجوب الاكرام مثلا زمانا يلزم النسخ كما لا يخفى. وكذا لا يمكن ان يرجع الشرط إلى المحمول في رتبة الانتساب ، سواء أريد من المحمول المتعلق ، وهو الاكرام الذي يحمل على الفاعل ، أو أريد منه الوجوب ، لأنه على كل تقدير يرجع التقييد إلى المفهوم الافرادي. فلا بد من أن يرجع التقييد إلى المحمول المنتسب بوصف كونه منتسبا ، (1) أي وجوب الاكرام أو ه

ص: 181


1- مطارح الأنظار - الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب « إذا ثبت وجوب شيء وشك في كونه مشروطا أو مطلقا .. » ص 46. وقد تكلم صاحب التقريرات حول هذا المعنى في الهداية الخامسة أيضا راجع ص 48 من المصدر. واعلم أن المذكور في « قوامع الفضول » أيضا رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة واستدل له بنفس الوجهين الذين استدل بهما صاحب التقريرات حكاية عن الشيخ قدس سره . راجع قوامع الفضول - المقالة الأولى - مبحث مقدمة الواجب الامر الثاني ، ص 141 - 140. والمحقق الجليل الحاج ميرزا حبيب اله الرشتي قدس سره نسب هذا الوجه في « بدايع الأفكار » إلى الشيخ قدس سره مترددا ، قال : « وقد يجاب عن هذا الاشكال بما أجبنا به عن الاشكال الأول من رجوع القيد إلى المادة ، وكانه يقول به شيخ مشايخنا الأعظم العلامة الأنصاري طاب ثراه وان معنى قوله : أكرم زيدا ان جائك ، أريد منك الاكرام بعد المجيئ فيكون أصل الاكرام مقيدا لا الوجوب المتعلق به حتى يرد : ان التقييد لا يناسب المبهمات .. ». راجع بدايع الأفكار. المقصد الأول من المقاصد الخمسة. المبحث الثالث من مباحث تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط. ص 314. وهذا ما يستفاد منه عدم تفرد صاحب التقريرات في تقرير هذا المعنى من الشيخ قدس سرهما واللّه أعلم.

الاكرام الواجب.

وبعبارة أوضح : الشرط لابد ان يرجع إلى ما هو نتيجة الحمل في القضية الخبرية ، أو نتيجة الطلب في القضية الطلبية. ففي مثل كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يكون المشروط هو وجود النهار ، وفي مثل ان جائك زيد فأكرمه ، يكون المشروط هو الاكرام الواجب أو وجوب الاكرام. والظاهر رجوع كل منهما إلى الاخر ، والسر في لزوم رجوع الشرط إلى مفاد الجملة والمتحصل منها ، هو ما عرفت : من كون القضية الشرطية انما هي تعليق جملة بجملة أخرى ، وهذا لا يستقيم الا ان يرجع الشرط إلى مفاد الجملة الخبرية أو الطلبية ، وهو في القضية الخبرية وجود النهار مثلا ، وفي القضية الطلبية وجوب الاكرام أو الاكرام المتلون بالوجوب ، والنتيجة امر واحد. وعلى كل تقدير يحصل المطلوب ، وهو اخذ الشرط مفروض الوجود ، لان أداة الشرط انما خلقت لفرض وجود متلوها ، ويرجع بالآخرة إلى الموضوع ويكون مفاد ( ان استطعت فحج ) مع ( يجب الحج على المستطيع ) أمرا واحدا ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ص: 182

قد ظهر مما قدمناه : الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية ، حيث إن المقدمة الوجوبية ما كانت واقعة فوق دائرة الطلب ، وتؤخذ مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الطلب ، ولا يمكن وقوعها بعد ذلك تحت دائرة الطلب بحيث يلزم تحصيلها ، للزوم الخلف كما لا يخفى.

وهذا بخلاف المقدمة الوجودية ، فإنها واقعة تحت دائرة الطلب ويلزم تحصيلها.

وبعد ذلك نقول : ان القيود والإضافات التي اعتبرت في ناحية المتعلق أو المكلف على اختلافها ، من حيث كونها من مقولة المكان أو الزمان وغير ذلك من ملابسات الفعل حتى الحال ، لا تخلو اما ان تكون اختيارية تتعلق بها إرادة الفاعل ، واما ان تكون غير اختيارية.

فان كانت غير اختيارية فلا محيص من خروجها عن تحت دائرة الطلب ، إذ لا يعقل التكليف بأمر غير اختياري ، فكل طرف إضافة خارج عن تحت الاختيار لابد من خروجه عن تحت الطلب ويكون الطلب متعلقا بالقطعة الاختيارية ، والقطعة الغير الاختيارية لابد من اخذها مفروضة الوجود واقعة فوق دائرة الطلب ، وتكون ح من المقدمات الوجوبية ويكون الواجب مشروطا بالنسبة إليها.

وأما إذا كانت الملابسات اختيارية وتتعلق بها إرادة الفاعل فوقوعها تحت دائرة الطلب بمكان من الامكان ، كما أن وقوعها فوق دائرة الطلب أيضا بمكان من الامكان ، فتصلح ان تكون مقدمة وجودية بحيث يتعلق الطلب بها ، وتكون لازمة التحصيل كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وتصلح ان تكون مقدمة وجوبية تؤخذ مفروضة الوجود وتكون غير لازمة التحصيل كالاستطاعة في الحج. هذا بحسب عالم الثبوت.

واما في عالم الاثبات فالمتبع هو لسان الدليل وما يستفاد منه بحسب القرائن ومناسبات الحكم والموضوع. فان استفيد منه انه مقدمة وجوبية فهو ، وان استفيد انه مقدمة وجودية كانت لازمة التحصيل. وان لم يمكن استفادة أحد الوجهين من الأدلة ووصلت النوبة إلى الشك ، كان ذلك من الشك بين الواجب المشروط و

ص: 183

المطلق ، وسيأتي ما هو الوظيفة عند الشك في ذلك.

ثم إن القيود ربما يكون لها دخل في أصل مصلحة الوجوب بحيث لا يتم ملاك الامر الا بعد تحقق القيد. وقد تكون لها دخل في مصلحة الواجب ، بمعنى ان فعل الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد تحقق القيد الكذائي ، وان لم يكن ذلك القيد له دخل في مصلحة الوجوب. (1) وهذان الوجهان يتطرقان في جميع القيود الاختيارية وغيرها. مثلا الزمان الخاص يمكن ان يكون له دخل في مصلحة الوجوب ، ويمكن ان لايكون له دخل في ذلك بل له دخل في مصلحة الواجب ، ولا ملازمة بين الامرين ، مثلا خراب البيت يقتضى الامر بالبناء ، وهذا الخراب حصل في أول الصبح ، فمصلحة الامر بالبناء قد تمت وتحققت من أول الصبح ، ولكن البناء والتعمير الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد الزوال.

والحاصل : انه يمكن ان تكون مصلحة الوجوب قد تحققت ، ولكن مصلحة الواجب لم تتحقق الا من بعد مضى زمان ، كما ربما يدعى ذلك في باب الصوم ، حيث يدعى ان المستفاد من الاخبار هو ان مصلحة وجوب الصوم في الغد متحقق من أول الليل ، ولكن المصلحة القائمة بالصوم لا يمكن تحققها الا عند الفجر ، كما ربما يدعى ظهور مثل قوله : إذا زالت الشمس وجب الصلاة والطهور (2) في أن الزوال له دخل في كل من مصلحة الوجوب والواجب.

وعلى كل حال ، إذا كان القيد غير اختياري ، فلا بد من أن يؤخذ مفروض الوجود ، ويكون من الشرائط الوجوبية الواقعة فوق دائرة الطلب ، سواء كان ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب أو كان له دخل في مصلحة الواجب ، وسواء كان ذلك القيد من مقولة الزمان أو كان من سائر المقولات ، إذ العبرة في اخذه مفروض الوجود ، هو كونه غير اختياري غير قابل لتعلق الطلب به ، من غير فرق في ذلك »

ص: 184


1- كما أنه يمكن ان لايكون للخصوصية الكذائية دخل لا في ملاك الوجوب ولا في ملاك الواجب ، فيكون كل من الوجوب والواجب بالنسبة إليه مطلقا ، كطيران الغراب مثلا - منه.
2- الوسائل ، الجزء الأول ، الباب 4 من أبواب الوضوء الحديث 1 ص 261 ولا يخفى ان في الخبر « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة »

بين الزمان وغيره.

وخالف في ذلك صاحب الفصول (1) وقال : بامكان وقوع الطلب فوق قيد غير اختياري إذا لم يكن ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب وان كان له دخل في مصلحة الواجب ، والتزم بامكان كون الطلب والوجوب حاليا وان كان الواجب استقباليا ، وسمى ذلك بالواجب المعلق ، وجعله مقابل الواجب المشروط والمطلق ، وتبعه في ذلك بعض من تأخر عنه ، وعليه بنى لزوم تحصيل مقدماته قبل حضور وقت الواجب إذا كان لا يمكنه تحصيلها في وقته ، كالغسل قبل الفجر في باب الصوم ، فإنه لما كان الوجوب حاليا قبل حضور وقت الواجب كان ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى مقدماته بمكان من الامكان ، ويرتفع اشكال وجوب المقدمة قبل وقت ذيها.

ثم إن صاحب الفصول قد عمم ذلك بالنسبة إلى المقدمة المقدورة ، وقال : بامكان الواجب المطلق فيما إذا كان القيد أمرا اختياريا ، فراجع (2) كلامه في المقام. وعلى كل حال ، قد تبع بعض صاحب الفصول في امكان الواجب المعلق وانه مقابل الواجب المشروط والمط ، الا انه قال : لا ينحصر التفصي عن اشكال وجوب تحصيل المقدمات قبل مجيء وقت الواجب بذلك ، بل يمكن دفع الاشكال أيضا بالتزام كون الوقت أو غيره مما اخذ قيدا للواجب من قبيل الشرط المتأخر ، وحينئذ

ص: 185


1- الفصول ص 81 - 80 تمهيد مقال لتوضيح حال. « وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا ، والى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج ، فان وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيئ وقته وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل .. »
2- نفس المصدر فإنه قدس سره ذكر بعد سطور مما نقلنا عنه في الصدر : « واعلم أنه كما يصح ان يكون وجوب الواجب على تقدير حصول امر غير مقدور ( وقد عرفت بيانه ) كذلك يصح ان يكون وجوبه على تقدير حصول امر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله وذلك كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة. »

يكون الوجوب فيه أيضا حاليا إذا فرض وجود الشرط في موطنه ، فتجب مقدماته قبل وقته.

والفرق بين هذا والواجب المعلق الذي قال به صاحب الفصول ، هو ان الشرط في الواجب المعلق انما يكون شرط الواجب ومما يكون له دخل في مصلحته ، من دون ان يكون الوجوب مشروطا به وله دخل في ملاكه. وهذا بخلاف ذلك ، فان الشرط انما يكون شرطا للوجوب وله دخل في ملاكه ، لكن لما اخذ على نحو الشرط المتأخر كان تقدم الوجوب عليه بمكان من الامكان ، للعلم بحصول الشرط في موطنه ، على ما حققه من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي.

وعلى كل حال ، كلامنا الان في امكان الواجب المعلق وعدم امكانه ، وانه هل يعقل ان يكون الوجوب حاليا مع توقف الواجب على قيد غير اختياري بحيث يترشح منه الوجوب إلى مقدماته؟ أو ان ذلك غير معقول ، بل لابد ان يكون الوجوب مشروطا بالنسبة إلى ذلك الامر الغير الاختياري ، ولا محيص من اخذه مفروض الوجود قبل الطلب حتى يكون الطلب متأخرا عنه على ما أوضحناه. وح إذا فرض وجوب مقدماته قبل ذلك ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك آخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ، إذ لا وجوب له قبل حصول الشرط ، فكيف يترشح الوجوب إلى مقدماته؟ بل وجوب المقدمات يكون حينئذ لبرهان التفويت على ما سيأتي بيانه.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : ان امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال للتوهم فيه. نعم في القضايا الخارجية يكون للتوهم مجال ، وان كان الحق في ذلك أيضا امتناعه كما سيأتي.

اما امتناعه في القضايا الحقيقية ، فلان معنى كون القضية حقيقية ، هو اخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعا للحكم ، فيكون كل حكم مشروطا بوجود الموضوع بما له من القيود ، من غير فرق بين ان يكون الحكم من الموقتات أو غيرها ، غايته ان في الموقتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة

ص: 186

في موضوعات سائر الأحكام : من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك ، وهذه القضية انشائها انما يكون أزليا وفعليتها انما تكون بوجود الموضوع خارجا. وحينئذ ينبغي ان يسئل ممن قال بالواجب المعلق ، انه أي خصوصية بالنسبة إلى الوقت حيث قلت بتقدم الوجوب عليه ، ولم تقل بذلك في سائر القيود؟ فكيف لم تقل بفعلية الوجوب قبل وجود سائر القيود من البلوغ والاستطاعة ، وقلت بها قبل وجود الوقت مع اشتراك الكل في اخذه قيدا للموضوع؟.

وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم ، حيث كان وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة بحيث لا وجوب قبلها ، وكان وجوب الصوم غير مشروط بالفجر بحيث يتقدم الوجوب عليه ، فان كان ملاك اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة لمكان قيدية الاستطاعة للموضوع واخذها مفروضة الوجود ، فلا يمكن ان يتقدم الوجوب عليها والا يلزم الخلف ، فالوقت أيضا كذلك بالنسبة إلى الصوم فإنه قد اخذ قيدا للموضوع ، بل الامر في الوقت أوضح ، لأنه لا يمكن الا اخذه مفروض الوجود ، لأنه امر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك ولا يمكن ان تتعلق به إرادة الفاعل من وجوه ، وقد عرفت ان كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ويقع فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا لا محالة والا يلزم تكليف العاجز. وهذا بخلاف الاستطاعة ، فإنها من الأمور الاختيارية التي يمكن تحصيلها.

وبالجملة : التكليف في القضايا الحقيقية لابد ان يكون مشروطا بالنسبة إلى جميع القيود المعتبرة في الموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الزمان وغيره ، مضافا إلى ما في الزمان وأمثاله من الأمور الغير الاختيارية ، من أنه لا بد من اخذه مفروض الوجود ، والا يلزم تكليف العاجز. وح كيف يمكن القول بان التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطا؟ وبالنسبة إلى خصوصية الوقت والزمان يكون مط؟ فإنه مضافا إلى امتناع ان يكون مط بالنسبة إليه ، يسئل عن الخصوصية التي امتاز الوقت بها عن سائر القيود ، فإنه ان كان لمكان تقدم الانشاء عليه فالانشاء متقدم على جميع القيود ، لأنه أزلي ، وان كان لمكان عدم دخله في مصلحة الوجوب

ص: 187

وانما يكون له دخل في مصلحة الواجب ، فهذا مما لا دخل له بالمقام بعد ما فرض انه اخذ قيدا للموضوع وقال : يجب الصوم عند طلوع الفجر ، وقد عرفت : ان قيدية شيء للموضوع انما يكون باعتبار اخذه مفروض الوجود ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يعقل ان يتقدم التكليف عليه ، لان معنى تقدم التكليف عليه هو ان يكون التكليف بالنسبة إليه مط ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدم التكليف عليها ، كالطهارة ، والساتر ، وغير ذلك. وهذا كما ترى يستلزم محالا في محال ، لأنه يلزم أولا لزوم تحصيله ، كما هو الشأن في جميع القيود التي تقع تحت دائرة الطلب ، كالطهارة والستر ، والمفروض انه لا يمكن تحصيله ، لأنه غير اختياري للمكلف ، ويلزم أيضا تحصيل الحاصل لاستلزامه تحصيل ما هو مفروض الوجود.

وبالجملة : دعوى امكان الواجب المعلق في القضايا الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية في غاية السقوط والفساد ، بحيث لا ينبغي ان يتوهم.

واما دعوى امكانه في القضايا الخارجية فكذلك أيضا ، بل إن برهان الامتناع يطرد في كلا المقامين على نسق واحد ، لوضوح انه لو قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، فقد اخذ طلوع الفجر مفروض الوجود ، ولا يمكن ان لا يأخذه كذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يتقدم التكليف عليه ، والا يلزم ما تقدم من المحال ، فكما ان التكليف يكون مشروطا بمجئ زيد عند قوله : لو جائك زيد فأكرمه ، فكذلك يكون التكليف مشروطا بطلوع الفجر عند قوله : صل في المسجد عند طلوع الفجر ، وبرهان الاشتراط في الجميع واحد ، وانه لابد من اخذ القيد مفروض الوجود إذا كان القيد غير اختياري للمكلف ، كمجئ زيد ، وقدوم الحاج ، وطلوع الفجر ، وغير ذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يكون التكليف مط ويتقدم الوجوب عليه.

فظهر : ان برهان امتناع الواجب المعلق انما هو لأجل انه لا يمكن ان يكون التكليف مطلقا بالنسبة إلى قيد غير اختياري للمكلف ، بحيث لا يمكن ان تتعلق ارادته به ، بل لابد ان يكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا. وليس برهان امتناع

ص: 188

الواجب المعلق هو امتناع تعلق التكليف بأمر مستقبل كما توهم ، فان ذلك مما لا يدعيه أحد ولا يمكن ادعائه ، وكيف يمكن انكار امكان تعلق التكليف بأمر مستقبل؟ مع أن الواجبات الشرعية كلها من هذا القبيل ، فلا كلام في ذلك ، وانما الكلام في كون التكليف مط أو مشروطا ، والا فان تعلق الإرادة بأمر مستقبل بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال لانكاره ، بل يستحيل ان لا تتعلق الإرادة من الملتفت بأمر مستقبل إذا كان متعلقا لغرضه ، لوضوح ان الشخص إذا التفت إلى شيء : من اكل ، وشرب ، وصلاة ، وصوم ، فاما ان لايكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ولا تقوم به مصلحة ولا مفسدة ، فلا كلام فيه. وأمان ان يكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ، فاما ان يكون متعلقا لغرضه على كل تقدير وفي جميع الحالات ، واما ان يكون متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير. وعلى الثاني اما ان يكون ذلك التقدير حاصلا عند الالتفات إلى الشيء ، واما ان يكون غير حاصل. وعلى الجميع ، اما ان يكون ذلك أمرا اختياريا له بحيث يمكن ان تتعلق الإرادة به ، واما ان يكون غير اختياري فهذه جملة ما يمكن ان يكون الشخص الملتفت عليه ، ولا يمكن ان يخلو عن أحدها. فان التفت إلى الشيء وكان ذلك الشيء متعلقا لغرضه بقول مط وعلى جميع التقادير ، فلا محيص من أن تنقدح الإرادة الفاعلية والآمرية نحو ذلك الشيء إرادة فعلية غير منوطة بأمر أصلا. وان كان ذلك الشيء متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير ، فان لم يكن ذلك التقدير حاصلا فلا يمكن ان تتعلق ارادته الفعلية به ، بل تتعلق الإرادة به على تقدير حصول ذلك التقدير ، بمعنى انه تحصل له إرادة منوطة بذلك التقدير ، واما فعلية الإرادة بان يستتبع حملة النفس وتصديها المستتبع لحركة العضلات فلا يمكن الا بعد حصول ذلك التقدير ، هذا بالنسبة إلى إرادة الفاعل.

وقس على ذلك إرادة الآمر ، فان الآمر لو التفت إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة على تقدير خاص من مجيء زيد ، أو طلوع الفجر ، فلابد له من الامر بذلك الشيء مشروطا بحصول ذلك التقدير ، ولا يتوقف عن الامر عند الالتفات إليه ويصبر حتى يحصل التقدير فيأمر في ذلك الحال ، بل يأمر في حال الالتفات قبل حصول التقدير لكن مشروطا بحصول التقدير ، وهذا هو معنى كون انشاء الاحكام أزلية ، و

ص: 189

انه ليست الاحكام من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، بحيث يكون انشاء الحكم بعد حصول الموضوع وتحقق القيود خارجا ، فإنه مضافا إلى امكان دعوى قيام الضرورة على خلافه ، لا يمكن ذلك بعد ما كان الآمر الحكيم ملتفتا أزلا إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة في موطن وجوده ، فلا بد من الامر بذلك الشيء قبلا ، لكن مشروطا بتحقق موطن وجوده ، ولا يصبر ويسكت فعلا عن الامر إلى أن يتحقق موطن وجوده.

والى هذا كان نظر الشيخ قده فيما افاده بقوله : لان العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه به أولا يتعلق الخ ، (1) فراجع ما في التقرير ،

ص: 190


1- اعلم أن لصاحب التقريرات في المقام تقريبان ذكرهما في دفع ما ذهب إليه صاحب الفصول من التخلص عن العويصة بالالتزام بالواجب المعلق. أحدهما : ما ذكره بناء على ما ذهب إليه الإمامية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، قال : « فالطالب إذا تصور الفعل المطلوب فهو اما ان تكون المصحلة الداعية إلى طلبه موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أولا يكون كذلك ، بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا ، فعلى الأول فلا بد ان يتعلق الامر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة كان يكون المأمور به هو الفعل المقيد بحصوله في الزمان الخاص ، وعلى الثاني يجب ان يتعلق الامر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيات الزمان ولا يعقل ان يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فان تقييد الطلب حقيقة مما لا معنى له ، إذ لا اطلاق في الفرد الموجود منه المتعلق بالفعل حتى يصح القول بتقييده بالزمان أو نحوه ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدمة. ». ثانيهما : ما ذكره بناء على عدم الالتزام بالتبعية. قال : « فان العاقل إذا توجه إلى امر والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه بذلك الشيء أولا يتعلق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأول فاما ان يكون ذلك الامر موردا لامره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طواريه أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير الخاص قد يكون شيئا من الأمور الاختيارية كما في قولك : ان دخلت الدار فافعل كذا وقد يكون من أمور التي لا مدخل للمأمور به فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه كما في الزمان وأمثاله ، لا اشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأما إذا كان مقيدا بتقدير خاص راجع إلى الأفعال الاختيارية فقد عرفت فيما تقدم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلف به بمعنى ان المصلحة في الفعل المقيد لكن على وجه لايكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. واما على تقدير عدمها كما هو المفروض فالطلب متعلق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا ، وقد يكون المصلحة في الفعل المقيد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاص يجب تحصيل تلك الخصوصية أيضا ، ومما ذكرنا في المشروط يظهر الاطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلق الطلب بالفعل على الوجه المذكور. وأما إذا لم يكن راجعا إلى الأمور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيد بذلك التقدير الخاص ولا يعقل فيه فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريا كما عرفت ، فرجوع القيد تارة إلى الفعل وأخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربية مما لا يجهل بعد اتحاد المناط في هذه المسألة العقلية. » ( مطارح الأنظار ، الهداية الخامسة من مباحث مقدمة الواجب ص 49 - 48 )

فان نظر الشيخ في هذا التقسيم انما هو إلى ما ذكرنا : من أنه ليس انشاءات الأحكام الشرعية بعد تحقق الموضوع خارجا حتى تكون من قبيل القضايا الخارجية ، بل انما تكون انشاءاتها أزلية حيث إن الآمر يكون ملتفتا إليها أزلا ، وليس غرض الشيخ قده من هذا التقسيم ارجاع القيود إلى المادة حتى ينتج امتناع الواجب المشروط ، أو اثبات الواجب المعلق كما استظهره بعض ، وان كانت عبارة التقرير لا تخلو عن مسامحة وايهام.

وعلى كل تقدير ، ليس مبنى انكار الواجب المعلق هو امتناع التكليف بأمر مستقبل ، بل مبنى الانكار هو ما عرفت : من أن كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ، ويقع فوق دائرة الطلب ، ومعه لا يكاد يمكن تقدم الوجوب عليه لأنه يلزم الخلف ، وح لو وجبت مقدماته قبل الوقت ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك اخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ويستتبع ارادته ارادتها.

فان قلت :

نحن لا نجد فرقا ، بين ما لو امر المولى بشيء في وقت خاص على نحو اخذ الوقت قيدا ، كما إذا قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، وبين ما لو أطلق امره ولم يقيده بوقت خاص ، ولكن المكلف لا يتمكن من امتثاله الا بعد مضى مقدار من الوقت ، كما لو امر بالصلاة في مسجد الكوفة من غير تقييد ، ولكن المكلف كان في مكان لا يمكنه الصلاة في مسجد الكوفة الا عند طلوع الفجر لاحتياجه إلى السير والمشي الذي لا يصل إليه قبل ذلك ، فإنه كما أن نفس الامر يقتضى وجوب المشي و

ص: 191

السير عند اطلاقه ، ويستتبع وجوب مقدمات الصلاة في المسجد ، وتترشح إرادة المقدمات من نفس إرادة الصلاة في المسجد ، فكذلك في صورة تقييد الامر بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، فإنه يجب عليه أيضا المشي والسير لادراك الصلاة في المسجد عند الطلوع ويستتبع وجوب المقدمات وتترشح ارادتها من نفس إرادة الصلاة في المسجد عند الطلوع ، وهذا لايكون الا بتقدم الوجوب على الفجر حتى يقتضى وجوب السير وان كان الواجب استقباليا ، ولا نعنى بالواجب المعلق الا هذا.

والحاصل : انه بعد تمامية مبادئ الإرادة كما هو مفروض الكلام ، حيث إن الكلام فيما إذا لم يكن للزمان دخل في مصلحة الوجوب وكان له دخل في مصلحة الواجب ، فلابد من انقداح الإرادة الآمرية والفاعلية في نفس الآمر والفاعل ، وكون المراد متأخرا أو متوقفا على قيد غير حاصل لا يمنع من انقداح الإرادة الفعلية في النفس ، كما يتضح ذلك بما قدمناه من المثال ، حيث لا نجد فرقا بين ما كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد ، أو كان المطلوب الصلاة في المسجد في وقت خاص ، فإنه في كلا المقامين يقتضى الجري نحو المقدمات ، ويوجب السعي والمشي لادراك المطلوب ، وليس ذلك الا لمكان فعلية الإرادة.

قلت :

ليس الامر كذلك ، فإنه لو كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد من غير اعتبار وقت خاص ، فالإرادة الفاعلية أو الآمرية تتعلق بنفس الصلاة لكونها مقدورة ، وان توقف فعلها على سعى ومشى ولكن ذلك لا يخرجها عن كونها مقدورة ولو بالواسطة ، كما هو الشأن في جميع ما يكون مقدورا بالواسطة ، حيث تتعلق الإرادة به نفسه في الحال ، ومن تعلق الإرادة به تتعلق إرادة تبعية بمقدماته ، فلو كانت نفس الصلاة بلا قيد مطلوبا كانت الإرادة لا محالة متعلقة بها ، ويلزمها تعلق الإرادة التبعية بمقدماتها من السعي والمشي.

واما لو كانت الصلاة مطلوبة على تقدير خاص من وقت مخصوص ، والمفروض ان ذلك التقدير ليس اختياريا للشخص بحيث يمكنه تحصيله ، فلا يمكن ان

ص: 192

تتعلق الإرادة بها مرسلة ، بل انما تتعلق الإرادة بها على تقدير حصول الوقت ، وكيف يمكن ان تتعلق الإرادة بأمر مقيد بما هو خارج عن القدرة مع عدم حصوله؟ إذ ليست الإرادة عبارة عن نفس الحب والشوق حتى يقال : يمكن تعلق الحب والشوق بأمر محال التحقق ، فضلا عما يمكن تحققه ولو عن غير اختيار ، فضلا عما هو مقطوع التحقق كالفجر في المثال ، بل المراد من الإرادة هي التي يعبر عنها بالطلب عند من يقول باتحاد الطلب والإرادة ، ومعلوم : ان الطلب عبارة عن حملة النفس وتصديها نحو المطلوب ، وهل يعقل تصدى النفس نحو ما يكون مقيدا بأمر غير اختياري؟ كلا لا يمكن ذلك ، بل النفس انما تتصدى نحو الامر الاختياري ، وهو ذات الصلاة ، والمفروض ان ذاتها ليست مطلوبة ، بل المطلوب منها هو خصوص المقيدة بكونها عند الطلوع ، وفرضنا انها باعتبار القيد غير اختيارية ، فكيف يمكن ان تتعلق الإرادة الفعلية بها؟ وما يترائى من المشي والسعي نحو مسجد الكوفة لادراك الصلاة عند طلوع الفجر إذا كانت مطلوبة بهذا الوجه ، فإنما هو لمكان التفويت ، حيث إنه لو لم يسع إلى ذلك يفوت عنه مصلحة الصلاة في المسجد عند الفجر ، وأين هذا مما نحن فيه ، من تعلق الإرادة التبعية الناشئة من إرادة ذي المقدمة؟ فان باب الإرادة التبعية امر ، وباب التفويت امر آخر ، فالمستشكل كان حقه ان لا يمثل بما يجرى فيه برهان التفويت ، بل يفرض الكلام فيما إذا لم يتوقف المطلوب على مقدمات يلزم تحصيلها لمكان التفويت ، كما لو فرض ان الشخص حاضر في مسجد الكوفة ، ففي مثل هذا يتضح الفرق بين المثالين : مثال كون الصلاة مطلوبة بلا قيد ، ومثال كونها مطلوبة عند طلوع الفجر ، فهل يمكنه ان يقول : انه لا نجد فرقا بين المثالين؟ كلا لا يمكنه ذلك ، فإنه لو كانت نفس الصلاة مطلوبة بلا قيد فلا محالة انه يحرك عضلاته نحوها ويأتي بها في الحال ، بخلاف ما إذا كانت مطلوبة على تقدير طلوع الفجر ، فإنه لا يحرك عضلاته نحوها في الحال بل ينتظر ويصبر حتى يطلع الفجر. وليس ذلك الا لمكان عدم تعلق الإرادة الفعلية بها ، وهل يمكن لاحد ان يدعى عدم الفرق بين المثالين وان الإرادتين في كليهما على نهج واحد؟.

فعلم من جميع ما ذكرنا : انه لا مجال لدعوى امكان الواجب المعلق ، وان

ص: 193

تثليث الأقسام مما لاوجه له ، بل الواجب ينقسم إلى مطلق ومشروط ، من دون ان يكون لهما ثالث ، فكل خصوصية لم تؤخذ مفروضة الوجود فالواجب يكون بالنسبة إليها مط ، وان اخذت مفروضة الوجود فالواجب بالنسبة إليها مشروط ، وتقسيم المقدمة إلى الوجودية والوجوبية انما ينشأ من هذا ، فان المقدمة الوجودية هي ما اخذت تحت دائرة الطلب ، والمقدمة الوجوبية هي ما اخذت فوق دائرة الطلب ، وهي التي لوحظت مفروضة الوجود ، سواء كانت اختيارية أو غير اختيارية ، فإنه لا يفترق الحال في ذلك بعد اخذها مفروضة الوجود.

ثم انه لا اشكال ، في أن وجوب المقدمات الوجودية يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، فان كان وجوب ذي المقدمة مط فلابد ان يكون وجوب المقدمات الوجودية أيضا مط ، وان كان مشروطا فكذلك ، والسر في ذلك واضح ، لان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فلا يعقل ان يكون وجوب ذي المقدمة مشروطا ووجوب المقدمة مط ، لان فاقد الشيء لا يمكن ان يكون معطي الشيء ، فلا تجب المقدمات الوجودية الا عند وجوب ذيها وحصول ما يكون شرطا لوجوبها. هذا حسب ما تقتضيه قاعدة التبعية عقلا.

ولكن انحزمت هذه القاعدة في عدة موارد ، حيث كانت المقدمات الوجودية لازمة التحصيل قبل وجوب ذيها وحصول المقدمة الوجوبية ، والذي ألجأ صاحب الفصول إلى الالتزام بالواجب المعلق هو هذا ، حيث شاهد وجوب بعض المقدمات الوجودية قبل حصول ما هو الشرط في وجوب ذي المقدمة كالوقت ، فالتزم بتقدم الوجوب على الوقت. وحيث أبطلنا الواجب المعلق فلا بد لنا من بيان وجه وجوب تلك المقدمات الوجودية قبل وجوب ذيها.

ولا يخفى عليك : اختلاف كلمات الفقهاء واضطرابها في بيان الموارد التي تجب فيها المقدمات ، فتريهم في مورد يحكمون بوجوب المقدمة الوجودية قبل حصول وقت ذي المقدمة ، وتريهم في مورد آخر لا يحكمون بذلك ، كما أنه في المورد الواحد يفرقون بين المقدمات الوجودية ، فيوجبون بعضها ولا يوجبون البعض الاخر ، مثلا تريهم يقولون : لا يجوز إراقة الماء قبل الوقت لمن يعلم بأنه لا يتمكن من الوضوء بعد

ص: 194

الوقت ، ومع ذلك يقولون : بجواز اجناب نفسه مع علمه بعدم تمكنه من الغسل. وكذا تريهم في باب الاستطاعة يقولون : انه لا يجوز تفويتها بعد حصولها ولو قبل أشهر الحج ، وربما خص ذلك بعض بأشهر الحج وانه قبل ذلك يجوز تفويتها. وربما يفرقون ، بين المقدمات الوجودية الحاصلة قبل الوقت فلا يجوز تفويتها ، وبين المقدمات الغير الحاصلة فلا يجب تحصيلها.

وبالجملة : المسألة مشكلة جدا والكلمات فيها مضطربة غاية الاضطراب.

وقد يدفع الاشكال باعتبار الملاك ، حيث إن المقدمات الوجودية لما لم يكن لها دخل في الملاك ، فكل مورد تم ملاك الوجوب لزم تحصيل مقدمات الواجب وإن كان ظرف امتثال الواجب متأخرا ، الا انه لما لم يتمكن من تحصيل المقدمات في ظرف وجوبه ، كان اللازم عليه عقلا حفظ قدرته من قبل لمكان تمامية الملاك ، ويكون هذا الحكم العقلي كاشفا عن متمم الجعل وان هناك جعلا مولويا بلزوم تحصيل المقدمات.

لكن هذا البيان لا يفي بالموارد التي حكموا فيها بلزوم تحصيل المقدمات قبل وجوب ذي المقدمة ، فإنك تريهم يحكمون بلزوم تحصيل بعض المقدمات ولو قبل تمامية الملاك ، كإراقة الماء قبل الوقت ، مع أن الوقت في باب الصلاة له دخل في أصل الملاك ، كما ربما يستظهر ذلك من قوله : إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة ، فان الظاهر منه ان للزوال دخلا في أصل ملاك الوجوب ، مع أنه بناء على هذا لا ينبغي الفرق بين المقدمات الوجودية ، فكيف حرم إراقة الماء؟ ولم يجب تحصيل الماء لمن كان فاقدا له؟ حيث إن الظاهر أنهم لم يقولوا بوجوب تحصيل الماء قبل الوقت لمن يعلم بعدم حصوله بعده.

وبالجملة : هذا البيان انما يتم في بعض موارد المسألة كوجوب المسير للحج بعد الاستطاعة ، والغسل قبل الفجر ، حيث تم ملاك وجوب الحج والصوم بالاستطاعة ودخول الليل ، فلابد من بيان آخر يكون حاويا لأطراف المسألة.

والذي ينبغي ان يقال هو انه تارة : يقع الكلام في المقدمات المفوتة التي يوجب فواتها عجز المكلف عن فعل المأمور به وعدم قدرته عليه ، كترك المسير إلى

ص: 195

الحج ، وإراقة الماء ، وعدم الغسل قبل الفجر ، وأمثال ذلك من المقدمات الوجودية التي يوجب فواتها سلب قدرة المكلف عن الفعل. وأخرى : يقع الكلام في المقدمات العلمية ، أي في لزوم تحصيل العلم بالأحكام والفحص عنها ، ولا يندرج هذا في المقدمات المفوتة على ما سيأتي بيانه ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول :

في المقدمات المفوتة أي المقدمات التي لها دخل في قدرة المكلف على فعل المأمور به بحيث انه لولاها لما كان قادرا عليه ، وبعبارة أخرى : المراد من المقدمات المفوتة هي المقدمات التي لها دخل في حصول الواجب بما له من القيود الشرعية في وقته على وجه لا يتمكن المكلف من فعله في وقته بدون تلك المقدمات ، كالماء الذي يتوقف الصلاة مع الطهارة عليه ، والساتر الذي يتوقف الصلاة مع الستر عليه ، وهكذا ، وكنفس حفظ القدرة التي يتوقف عليها الواجب ، كما لو فرض انه لو عمل العمل الكذائي لا يتمكن من الصلاة في وقتها فيكون العمل مفوتا للقدرة عليها ، وبذلك يندرج في المقدمات المفوتة ، فالمراد من المقدمات المفوتة هي المقدمات العقلية التي يتوقف عليها الواجب ، لا المقدمات الشرعية من القيود والشرائط ، ومن هنا نقول : لا يجب الوضوء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يتمكن من الوضوء بعده ، بخلاف حفظ الماء حيث إنه يجب حفظه.

والسر في ذلك : هو ان الوضوء انما يجب بعد الوقت لأنه من قيود المأمور به ، فحاله من هذه الجهة كحال الاجزاء وكذا الستر وغير ذلك من القيود الشرعية ، ومعلوم : انه لم يقم دليل على هذه الكلية بحيث يلزم تحصيل كل مقدمة يكون لها دخل في قدرة المكلف مط ولو قبل حصول شرط الوجوب وقبل مجيئ وقته لمن يعلم بحصوله فيما بعد ، إذ لم يقل أحد بوجوب السير إلى الحج قبل الاستطاعة لمن يعلم بحصولها فيما بعد مع عدم تمكنه من السير بعدها ، فلزوم تحصيل المقدمات المفوتة بهذه الكلية مما لا دليل عليه ، ولم يدعه أحد ، بل انما قالوا بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة في الجملة في بعض الموارد ، وفي بعض الحالات في خصوص بعض المقدمات ، ومعلوم : انه لم يقم دليل بالخصوص في كل مورد حكموا فيه بلزوم تحصيل المقدمات

ص: 196

المفوتة ، فلابد ح من بيان ما يكون ضابطا للموارد التي يجب تحصيل المقدمات فيها ويحرم تفويتها ، ويتوقف ذلك على تحرير كيفية اعتبار القدرة على متعلقات التكاليف بعد ما كان لا اشكال في اعتبارها.

فنقول :

ان القدرة اما ان تكون عقلية ، واما ان تكون شرعية ، ونعني بالقدرة العقلية : ما إذا لم تؤخذ في لسان الدليل ، بل كان اعتبارها لمكان حكم العقل بقبح تكليف العاجز من دون ان يكون الشارع قد اعتبرها ، ويقابلها القدرة الشرعية ، وهي ما إذا اخذت في لسان الدليل بحيث يكون الشارع قد اعتبرها.

فان كانت القدرة المعتبرة هي القدرة العقلية ، فحيث لم يكن للقدرة العقلية دخل في ملاك الحكم وانما يكون لها دخل في حسن الخطاب ، فلابد من الاقتصار على المقدار الذي يحكم العقل باعتباره ، ومعلوم : ان مناط حكم العقل باعتبار القدرة انما هو قبح تكليف العاجز ، وهذا انما يكون إذا كان الشخص عاجزا بنفسه وبذاته ، بحيث لايكون له إلى الفعل سبيل كالطيران في الهواء فان التكليف بمثل هذا قبيح على المولى كما يقبح العقاب منه عليه.

وأما إذا لم يكن الشخص عاجزا بنفسه وبذاته ، بل هو عجز نفسه بسوء اختياره وسلب عنه القدرة ، ففي مثل هذا لا يحكم العقل بقبح عقابه وان قبح تكليفه بعد عجزه ، ولا ملازمة بين قبح التكليف وقبح العقاب ، فان قبح التكليف لمن عجز نفسه انما هو لمكان لغوية التكليف حيث لا يصلح ان يكون التكليف محركا وباعثا نحو الفعل ، وهذا بخلاف العقاب فإنه لا يقبح عقابه بعد ما كان الامتناع بسوء اختياره. وهذا معنى ما يقال : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنه انما لا ينافيه عقابا لا خطابا خلافا للمحكى عن أبي هاشم حيث قال : انه لا ينافيه لا خطابا ولا عقابا ، وسيأتي ضعفه في بعض المباحث الآتية انشاء اللّه تعالى.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان كل واجب لم يعتبر فيه القدرة شرعا ، كان مقتضى القاعدة لزوم

ص: 197

تحصيل مقدماته التي لم تكن حاصلة وحرمة تفويت المقدمات الحاصلة ولو قبل مجيئ زمان الواجب ، بل وقبل تمامية ملاك الوجوب أيضا ، إذ العقل يستقل بحفظ القدرة ولزوم تحصيل المقدمات الاعدادية ، لما عرفت : من أن اعتبار القدرة العقلية انما هو لمكان قبح تكليف العاجز ، ومثل هذا الشخص لايكون عاجزا بل يكون قادرا ولو بحفظ قدرته ، أو تحصيلها بتهيئته المقدمات الاعدادية التي له إليها سبيل ، والا لا ندرج في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فان القاعدة لا تختص بما بعد ثبوت التكليف وتوجه الخطاب ، حتى يقال : ان الكلام في لزوم تحصيل المقدمات قبل ثبوت التكليف وتوجه الخطاب ، بل مورد القاعدة أعم من ذلك ، فتشمل ما نحن فيه ، فأنه لو فرض ان التكليف بصوم الغد لم يقيد بالقدرة الشرعية ، وانما اعتبر فيه القدرة العقلية حتى لايكون من التكليف العاجز ، وكان صوم الغد يتوقف على مقدمات لا يمكن تهيئتها في الغد ، وكان متمكنا من تهيئتها قبل ذلك ، كان عدم تهيئة المقدمات موجبا لامتناع التكليف بالصوم بسوء اختياره ، فيندرج في القاعدة ، من غير فرق بين ان يكون لزمان الغد دخل في ملاك الواجب فقط ، أو كان له دخل في ملاك الوجوب أيضا ، فان العبرة انما هو بكون الامتناع بالاختيار ، وهذا لا يفرق فيه بين القسمين كما لا يخفى.

فتحصل : ان كل واجب كان مشروطا بالقدرة العقلية يلزم تحصيل مقدماته التي يتوقف القدرة عليه في زمانه عليها. هذا إذا كانت القدرة المعتبرة عقلية.

وان كانت القدرة المعتبرة شرعية ، فلابد من النظر في كيفية اعتبارها ، فتارة : تعتبر شرعا على النحو الذي تعتبر عقلا من دون ان يتصرف الشارع فيها ، بان اعتبر القدرة على وجه خاص أو في زمان مخصوص ، بل اعتبرها بتلك السعة التي كان العقل معتبرا لها ، كما إذا قال : ان قدرت فأكرم زيدا في الغد ، وح يكون الكلام فيها هو عين الكلام في القدرة العقلية ، من لزوم تهيئة المقدمات التي يتوقف القدرة على صوم الغد عليها ، فإنه لافرق ح بين هذه القدرة الشرعية والقدرة العقلية. سوى ان القدرة العقلية لا دخل لها في الملاك ، والقدرة الشرعية لها دخل فيه ، وهذا لا يصلح فارقا في المقام.

ص: 198

فان قلت :

كيف لا يصلح فارقا؟ فإنه بعد البناء على أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك كيف يمكن القول بلزوم تهيئة مقدمات القدرة؟ فان معنى ذلك هو لزوم تهيئة مقدمات حدوث الملاك ، وبعبارة أخرى : الملاك انما يحصل ويحدث بالقدرة ، بحيث لولا القدرة لما كان هناك ملاك ، كما هو الحال في سائر القيود الشرعية التي لها دخل في الملاك ، ومع هذا كيف توجبون تحصيل القدرة عليه؟ وكيف يندرج عند عدم تحصيلها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟ فإنه لو لم يحصل القدرة لم يكن هناك ملاك للحكم ومع عدم ثبوت الملاك واقعا كيف يعاقب وعلى أي شيء يعاقب؟ مع أنه لا ملاك ولا حكم واقعا ، ومورد قاعدة الامتناع بالاختيار - حيث نقول بالعقاب فيه انما هو فيما إذا أوجب الامتناع بالاختيار تفويت الملاك بعد ثبوته ، واما الامتناع بالاختيار مع عدم ثبوت الملاك واقعا في ظرف التفويت ، فان العقاب يكون حينئذ بلا موجب.

قلت :

نعم القدرة الشرعية وان كان لها دخل في الملاك بحيث لولاها لما كان هناك ملاك واقعا ، الا ان المفروض ان الذي له دخل في الملاك ، هي القدرة بمعناها الأعم الشامل للقدرة على تحصيلها وتهيئة مقدماتها الاعدادية ، لان محل الكلام هو ما إذا اعتبر القدرة بتلك السعة التي يحكم بها العقل في لسان الدليل ، فالذي يكون له دخل في الملاك هي القدرة الواسعة الشاملة للقدرة على تحصيلها وحفظها بعد حصولها وتهيئة مقدماتها ، وهذا المعنى من القدرة حاصل بالفرض ، لان الكلام فيمن يمكنه تهيئة مقدمات القدرة وحفظها ، والا كان خارجا عن الكلام موضوعا ، فما له دخل في الملاك حاصل ، ومعه يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لأنه لو لم يحفظ قدرته مع تمكنه من حفظها فقد فوت الملاك بسوء اختياره مع ثبوته ، لحصول شرطه وهو تمكنه من حفظ القدرة أو تحصيلها ، فتأمل في المقام جيدا فإنه لا يخلوا من دقة.

فتحصل : انه لو اعتبرت القدرة شرعا بنحو ما يعتبرها العقل من السعة ،

ص: 199

كان اللازم وجوب تهيئة مقدمات القدرة على الواجب ، ولو قبل مجيئ زمان وجوبه إذا لم يتمكن من تهيئتها في زمانه ، والا كان مندرجا تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

ويندرج في هذه القسم مسألة حفظ الماء قبل الوقت ، فان القدرة على الماء انما اعتبرت شرعا بقرينة قوله تعالى : (1) « فلم تجدوا ماء فتيمموا » الخ ، حيث إن التفصيل قاطع للشركة ، فيظهر منه ان الوضوء مقيد شرعا بوجدان الماء ، وبعد قيام الدليل على وجوب حفظ الماء قبل الوقت - على ما حكى شيخنا الأستاذ مد ظله بأنه وردت رواية في ذلك ، وان لم أعثر عليها - يستفاد منه : ان القدرة المعتبرة في الوضوء انما تكون على نحو القدرة العقلية وبتلك السعة (2) ولكن هذا بعد قيام الدليل على وجوب حفظ الماء ، والا فان من نفس اخذ القدرة شرعا في الوضوء لا يمكن استفادة ذلك ، بل غايته استفادة القدرة بعد الوقت. هذا بالنسبة إلى الماء.

واما بالنسبة إلى الساتر ونحوه مما يتوقف عليه القدرة على الواجب بقيوده في الوقت ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون عقلية محضة كالقدرة على نفس الصلاة ، وعليه يجب حفظ الساتر أو تحصيله قبل الوقت لمن لا يتمكن منه بعده ، ولا نحتاج في ذلك إلى قيام دليل عليه ، بل القدرة العقلية تقتضي ذلك كلزوم حفظ القدرة على أصل الصلاة بان لا يعمل عملا يوجب فوات القدرة عليها في وقتها ، والسر في ذلك : هو ان القدرة المعتبرة فيها عقلية فيجب حفظها. هذا إذا اعتبرت القدرة شرعا بتلك السعة.

وأخرى : لا تعتبر بتلك السعة ، بل اعتبرت على وجه خاص ، فالمعتبر ملاحظة كيفية الاعتبار ، فتارة : تعتبر على كيفية يقتضى أيضا تحصيل مقدمات القدرة ولو قبل مجيء وقت الواجب ، كما إذا قال : أكرم عمروا في الغد ان ، قدرت عليه بعد مجيء زيد ، ففي مثل هذا يكون العبرة بحصول القدرة بعد مجيء زيد ، ولا اثر .

ص: 200


1- المائدة ، الآية 6
2- ولازم ذلك هو لزوم تحصيل الماء قبل الوقت ، والظاهر : انه لا يلتزمون بذلك ، فتأمل - منه.

للقدرة قبل مجيئه ولا يلزم تحصيلها من قبل لو علم بعدمها بعد مجيء زيد ، لأن المفروض ان القدرة بعد المجئ هي المعتبرة وهي التي يكون لها دخل في الملاك ، فما لم تحصل القدرة بعد المجئ لم يكن هناك ملاك للحكم ثبوتا ، وح لا موجب لايجاب تحصيلها قبل مجيء زيد ، فان عدم تحصيلها لا يوجب الا عدم ثبوت الملاك ، وهذا لا ضير فيه لعدم اندراجه تحت دائرة الامتناع بالاختيار ، لما عرفت غير مرة ان مورد القاعدة انما هو فيما إذا كان الامتناع موجبا لتفويت الملاك بعد ثبوته ، فلا يدخل فيها مورد عدم ثبوته ، نعم يلزمه تحصيل القدرة على الاكرام في الغد بعد مجيء زيد بتهيئة مقدماته لو لم يمكنه ذلك في الغد ، لاندراجه حينئذ تحت قاعدة الامتناع بالاختيار كما لا يخفى وجهه.

ولعل مثال الحج من هذا القبيل ، حيث نقول : انه لا يجب عليه تحصيل المقدمات من السير وغيره قبل تحقق الاستطاعة ، ويجب عليه ذلك بعد حصولها ، فان السير قبل الاستطاعة يكون من قبيل تحصيل القدرة قبل مجيء زيد في المثال المتقدم ، بخلافه بعد الاستطاعة فإنه يكون من قبيل تحصيلها بعد مجيئه الذي قلنا بلزومه.

وأخرى : تعتبر على وجه لا يلزم تحصيل المقدمات قبل مجيء زمان الواجب ، كما إذا اخذت القدرة شرطا شرعيا في وقت وجوب الواجب ، كما إذا قال : ان قدرت على اكرام زيد في الغد فأكرمه ، بان يكون الغد قيدا للقدرة أيضا ، كما أنه قيد للاكرام ، وفي مثل هذا لا يلزم تحصيل مقدمات القدرة من قبل الغد كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك : ان عدم وجوب تحصيل القدرة في هذا القسم ، انما هو فيما إذا لم يتوقف الواجب على تهيئة مقدماته العقلية التي لها دخل في القدرة قبل الوقت دائما أو غالبا ، فلو توقف الواجب دائما أو غالبا على تهيئة المعدات قبل الوقت ، بحيث يكون حصول المقدمات في الوقت لا يمكن ، أو أمكن بضرب من الاتفاق ، كان اللازم تهيئة المقدمات من قبل ، لان نفس كون الواجب كذلك يلازم الامر بتحصيل المقدمات من قبل ، والا للغي الواجب بالمرة فيما إذا كان التوقف دائميا ، أو قل مورده فيما إذا كان غالبيا ، ففي مثل هذا لا نحتاج إلى قاعدة الامتناع بالاختيار ، بل نفس

ص: 201

الدليل الدال على وجوب الواجب يدل على وجوب تحصيل مقدماته من قبل بالملازمة ودليل الاقتضاء ، وذلك كما في الغسل قبل الفجر ، حيث إن الامر بالصوم متطهرا من الحدث الأكبر من أول الفجر يلازم دائما وقوع الغسل قبل الفجر ، وح نفس الامر بالصوم يقتضى ايجاب الغسل قبله بالملازمة المذكورة ، هذا.

ولكن المثال خارج عما نحن فيه لان الغسل من القيود الشرعية ، وقد عرفت في أول البحث ان الكلام في المقدمات المفوتة ، انما هو في المقدمات العقلية والمعدات التي لها دخل في القدرة على الواجب ، ولك ان تجعل مثال الحج مما نحن فيه ، حيث إن الحج بالنسبة إلى البعيد دائما يتوقف على السير من قبل ، فنفس الامر بالحج يقتضى الامر بالسير من قبل أيام الحج للملازمة المذكورة.

وعلى كل حال ، قد عرفت اقسام اعتبار القدرة في الواجب ، من كونها عقلية ، أو شرعية على أقسامها الثلاثة ، وعرفت أيضا مورد المقدمات المفوتة للقدرة ، واندراجها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وحينئذ نقول : ان كل مورد حكم العقل بتحصيل القدرة أو حفظها قبل مجيئ زمان الواجب ، فلابد ان نستكشف من ذلك خطابا شرعيا على طبق ما حكم به العقل بقاعدة الملازمة ، وعليه يجب تحصيل القدرة أو حفظها شرعا ، ويكون السير للحج وحفظ الماء وتحصيل الساتر مأمورا به شرعا ، وكذا حرمة العمل الذي يوجب سلب القدرة على الواجب ، وغير ذلك من المقدمات المفوتة.

ولكن ينبغي ان يعلم : ان الوجوب الشرعي في المقام ليس على حد سائر الواجبات الشرعية في كونه نفسيا يثاب ويعاقب على فعله وتركه ، بل الوجوب في المقام مقدمي ويكون من سنخ وجوب المقدمة غايته : ان وجوب المقدمة في سائر المقامات يجئ من قبل وجوب ذيها ويترشح منه إليها ، وهذا في المقام لا يمكن لعدم وجوب ذيها بعد ، فلا يعقل ان يكون وجوبها ترشحيا ، الا انه مع ذلك لم يكن وجوب المقدمات المفوتة نفسيا لمصلحة قائمة بنفسها بحيث يكون الثواب والعقاب على فعلها وتركها ، بل وجوبها انما يكون لرعاية ذلك الواجب المستقبل ، ولمكان التحفظ عليه وعدم فواته في وقته أوجب الشارع تحصيل المقدمات وحفظ القدرة ، فيكون

ص: 202

وجوبها من سنخ وجوب المقدمة ، وان افترقا فيما ذكرناه ، فالثواب والعقاب انما يكون على ذلك الواجب المستقبل.

وحاصل الكلام : ان التكليف الشرعي المتعلق بحفظ المقدمات المفوتة ليس تكليفا نفسيا استقلاليا ، بل يكون من متمم الجعل ، ويكون كل من هذا التكليف المتعلق بحفظ المقدمات مع ذلك التكليف المتعلق بنفس الواجب المستقبل ناشيا عن ملاك واحد ومناط فارد ، لا ان لكل منهما ملاكا يخصه ، حتى يكونا من قبيل الصوم والصلاة يستدعى كل منهما ثوابا وعقابا ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، ولما لم يمكن استيفاء ذلك الملاك بخطاب واحد ، حيث إن خطاب الحج في أيام عرفة لا يمكن ان يستوفى الملاك وحده مع عدم وجوب السير ، احتجنا إلى خطاب آخر بوجوب السير يكون متمما لذلك الخطاب ، ويستوفيان الملاك باجتماعهما ، فليس هناك الا ملاك واحد اقتضى خطابين ، وليس لهذين الخطأ بين الا ثواب واحد وعقاب فارد ، ويكون عصيان الخطاب المقدمي عصيانا للخطاب الآخر ، حيث إنه يمتنع الحج بنفس ترك السير ، فبتركه للسير قد ترك الحج وتحقق عصيانه ، ولا يتوقف العصيان على مضى أيام الحج إذ قد امتنع عليه الحج بسوء اختياره لتركه السير في أوانه ، فبنفس ترك السير يتحقق عصيان الحج.

فان قلت :

لا اشكال في أن العقاب انما يكون لعصيان الخطاب وترك المأمور به ، وح نقول في المقام : ان العقاب على أي شيء يكون؟ لا يمكن ان يقال على عصيان خطاب السير وتركه له ، لان خطاب السير انما كان مقدميا ولم يكن الملاك قائما به ، وليس في البين خطاب آخر يوجب العصيان ، لان الحج لم يكن له خطاب فعلى قبل أيام عرفه ، لاشتراطه بها حسب ما تقدم من امتناع الواجب المعلق ، والمفروض انه بتركه للسير قد امتنع عليه الحج فلا يعقل تكليفه بالحج ، ومن هنا اطبقوا على رد الهاشم ، حيث ذهب إلى أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا ، فالتارك للسير ليس مخاطبا بالحج لعدم القدرة عليه ولو بسوء اختياره ، فإذا لم يكن مخاطبا بالحج لم يكن معاقبا على تركه ، لان العقاب انما يكون على ترك المأمور به.

ص: 203

ومجرد اشتمال الحج على الملاك وتفويته له لا يوجب العقاب ما لم يكن الحج واجبا ومتعلقا للامر ، حسبما تقدم منا مرارا ، من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ولا يوجب فواتها شيئا ، وانما العبد ملزم عقلا بالخطابات الشرعية لا بملاكاتها.

قلت :

ما كنت أحب بعد البيان المتقدم موقعا لهذا الاشكال ، ولا مجال لهذا التوهم ، فان السير انما صار واجبا لرعاية الحج ، وامر به شرعا تحفظا على تركه ، ومع ذلك كيف يسئل عن أن العقاب على أي شيء يكون؟ مع وضوح ان العقاب يكون على ترك الحج حينئذ ، لان مناط حكم العقل باستحقاق العقاب على ترك الواجب الفعلي كترك الصلاة بعد الوقت - ولو لمكان امتناعها بسوء اختياره - بعينه متحقق في مثل المقام ، وما أنكرناه سابقا من أن الملاكات غير لازمة التحصيل انما هو لمكان ان الملاكات ليست مقدورة للمكلف ، ولا تكون من المسببات التوليدية لأفعاله ، وأين هذا من ترك الحج الذي يقوم به الملاك بسوء اختياره ، مع ايجاب الشارع السير عليه تحفظا عن ترك الحج وعدم فواته منه؟.

وبالجملة : لافرق في نظر العقل الذي هو الحاكم في هذا الباب ، بين ان يعجز المكلف نفسه عن الحج في أيام عرفه ، وبين ان يعجز نفسه عنه قبل ذلك بتركه السير ، فإنه في كلا المقامين يستحق العقاب على ترك الحج على نسق واحد ، فتأمل في المقام جيدا. هذا تمام الكلام في المقام الأول ، وهو باب المقدمات المفوتة.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو باب وجوب تعلم الاحكام. فحاصله : انه يظهر من الشيخ قده (1) في آخر مبحث الاشتغال عند التعرض لشرائط الأصول ، ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ، وجعله من صغريات باب القدرة ، ولكن الانصاف انه ليس الامر كذلك ، فان بين البابين بونا بعيدا ، إذ باب المقدمات المفوتة يرجع إلى مسألة القدرة على ما عرفت ، وباب وجوب التعلم أجنبي عن باب القدرة ، لان الجهل بالحكم لا يوجب .

ص: 204


1- راجع الرسائل. آخر مباحث البراءة ، خاتمة في ما يعتبر في العمل بالأصل. شرط البراءة. ص 282.

سلب القدرة ، ومن هنا كانت الاحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

والحاصل : انه فرق بين ترك الشيء لعدم القدرة عليه ، وبين تركه لجهله بحكمه ، فالتعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة ، وح لايكون تركه من باب ترك المقدمات المفوتة ، وليس ملاك وجوبه هو قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل ملاك وجوب التعلم هو ملاك وجوب الفحص في الشبهات الحكمية ، وهو حكم العقل بلزوم أداء العبد وظيفته ، حيث إن العقل يرى أن ذلك من وظائف العبد بعد تمامية وظائف المولى ، فان العقل يستقل بان لكل من المولى والعبد وظيفة ، فوظيفة المولى هي اظهار مراداته ، وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث هناك مانع ، فوظيفة المولى هي تشريع الاحكام وارسال الرسل وانزال الكتب ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد ، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه ، وحينئذ يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته ، كما يستقل بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.

والحاصل : انه بعد التفات العبد إلى أن هناك شرعا وشريعة ، يلزمه تحصيل العلم بأحكام تلك الشريعة ، والا كان مخلا بوظيفته ، حيث إن وظيفة العبد هو الرواح إلى باب المولى لامتثال أوامره ، ولولا استقلال العقل بذلك لا نسد طريق وجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، وللزم افحام الأنبياء ، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعى النبوة لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له ، إذ للعبد ان يقول : لم اعلم انك نبي ، وليس للنبي ان يقول : لم لم تنظر في معجزتي ليظهر لك صدق مقالتي؟ إذ للعبد ان يقول إنه لم يجب على النظر في معجزتك.

وبالجملة : العقل كما يستقل بوجوب النظر في معجزة مدعى النبوة ، كذلك يستقل بوجوب تعلم أحكام الشريعة والفحص عن الأدلة والمقيدات والمخصصات ، إذ المناط في الجميع واحد ، وهو استقلال العقل بان ذلك من وظيفة العبد ، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ ، كما لا يختص وجوب النظر إلى المعجزة به ، بل يجب ذلك قبل البلوغ إذا كان مميزا مراهقا ليكون أول بلوغه مؤمنا ومصدقا بالنبوة ،

ص: 205

والا يلزم ان لايكون الايمان واجبا عليه في أول البلوغ ، هذا بالنسبة إلى الايمان وكذلك بالنسبة إلى سائر أحكام الشريعة يجب على الصبي تعلمها إذا لم يتمكن منه بعد البلوغ ، أو نفرض الكلام في الاحكام المتوجهة عليه في آن أول البلوغ ، فإنه يلزمه تعلم تلك الأحكام قبل البلوغ ، كما لو فرض انه سيبلغ في آخر وقت ادراك الصلاة ، فإنه لا اشكال في وجوب الصلاة عليه حينئذ ، ويلزمه تعلم مسائلها قبل ذلك.

وما قيل من أن الاحكام مشروطة بالبلوغ ، ليس المراد ان جميع الأحكام مشروطة به ، حتى مثل هذا الحكم العقلي المستقل ، فان هذا غير مشروط بالبلوغ ، بل مشروط بالتميز والالتفات مع العلم بعدم التمكن من التعلم عند حضور وقت الواجب.

فتحصل : انه لا يقبح عند العقل عقاب تارك التعلم ، والاحكام تتنجز عليه بمجرد الالتفات إليها والقدرة على امتثالها الا ان يكون هناك مؤمن عقلي أو شرعي.

نعم حكم العقل بوجوب التعلم ليس نفسيا ، بان يكون العقاب على تركه وان لم يتفق مخالفة الواقع ، وان قال بذلك صاحب المدارك ، بل حكم العقل في المقام انما يكون على وجه الطريقية ، ويدور العقاب مدار مخالفة الواقع كما استقصينا الكلام في ذلك في اخر مبحث الاشتغال فراجع ذلك المقام.

ومن الغريب ان الشيخ قده مع التزامه بان التعلم لم يكن واجبا نفسيا وان العقاب على مخالفة الواقع ، حكم بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو في الصلاة ولو لم يتفق الشك والسهو فيها ، على ما حكى عنه في بعض الرسائل العملية ، وهذه الفتوى من الشيخ قده لا توافق مسلكه في وجوب التعلم.

ثم انه لا اشكال في وجوب التعلم قبل الوقت مع العلم أو الاطمينان بعدم تمكنه منه بعد الوقت ، وعلمه أو اطمئنانه أيضا بتوجه التكليف إليه في وقته ، سواء كان الحكم مما تعم به البلوى أولا ، إذ ليس ما وراء العلم شيء.

واما لو لم يعلم بتوجه التكليف إليه بعد ذلك ، ولكنه كان يحتمل ، فان كانت المسألة مما تعم بها البلوى فكذلك يجب التعلم ، لأنه يكفي في حكم العقل

ص: 206

كون الشخص في معرض الابتلاء وان لم يعلم بالابتلاء ، لان مناط حكم العقل - وهو لزوم رواح العبد إلى باب المولى وان ذلك من وظيفته - لا يختص بالعالم بان للمولى مرادا ، بل يكفي احتمال ذلك مع كونه في معرض ذلك ، ومن هنا قلنا : انه يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو ولو لم يعلم بابتلائه بهما ، الا إذا علم بعدم الابتلاء فإنه لا يجب عليه ذلك ، ولكن انى له بهذا العلم؟ وكيف يمكن ان يحصل لاحد ، مع أن الشك والسهو امر يقع بغير اختيار وعلى خلاف العادة ، فمجرد انه ليس من عادته السهو والشك لا يكفي في حصول العلم.

وعلى كل حال : لا اشكال في لزوم التعلم إذا كانت المسألة مما تعم بها البلوى ، كمسائل السهو والشك ، والتيمم وغير ذلك ، من غير فرق بين ان يعلم بالابتلاء أولا يعلم.

واما لو لم تكن المسألة مما تعم بها البلوى ، فظاهر الفتاوى عدم وجوب التعلم مع عدم العلم أو الاطمئنان بعد الابتلاء ولعله لجريان أصالة عدم الابتلاء ، فان حكم العقل بوجوب التعلم لما كان حكما طريقيا ، نظير حكمه بالاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال ، كان الأصل الموضوعي رافعا لموضوع حكم العقل ، فيكون استصحاب عدم الابتلاء في المقام نظير استصحاب ملكية المال في باب الأموال ، فكما لا يجب الاحتياط عند استصحاب ملكية المال لخروج المال ببركة الاستصحاب عن احتمال كونه مال الغير الذي هو موضوع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كذلك استصحاب عدم الابتلاء يوجب دفع احتمال الابتلاء الذي هو الموضوع عند العقل بلزوم التعلم.

وبعبارة أخرى : موضوع حكم العقل بلزوم التعلم انما هو الحكم الذي يبتلى به ، واستصحاب عدم الابتلاء يرفع ذلك الموضوع ، ولا دافع لهذا الاستصحاب الا توهم عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل ، أو توهم ان حكم العقل في المقام نظير حكمه بقبح التشريع الذي يحكم بقبحه في صورة العلم والظن والشك والوهم بمناط واحد ، ومن هنا لا تصل النوبة إلى الأصول الشرعية كما فصلنا الكلام في ذلك في محله.

ص: 207

ويدفع الأول بأنه : لا مانع من جريان الاستصحاب في المستقبل إذا كان الشيء بوجوده الاستقبالي ذا اثر ، وان لم يكن بوجوده الماضي أو الحالي ذا اثر ، وتفصيل ذلك في محله.

ويدفع الثاني : ان حكم العقل في المقام ، ليس كحكمه في باب التشريع ، فان مناط حكمه بقبح التشريع انما هو لمكان حكمه بقبح اسناد ما لا يعلم أنه من قبل المولى إلى المولى ، وهذا المناط موجود في صورة العلم والظن والشك ، وليس حكم العقل بقبح التشريع يدور مدار واقع عدم التشريع حتى يكون حكمه في صورة عدم العلم حكما طريقيا ، كحكمه بلزوم التحرز عن المال المحتمل كونه مال الغير حذرا عن الوقوع في الظلم والتصرف في مال الغير ، وحكم العقل في المقام كذلك يكون طريقيا محضا ، وح يكون الاستصحاب الموضوعي حاكما عليه هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، كان بنائه في السابق ، هو التفصيل بين ما تعم به البلوى وما لاتعم ، من حيث وجوب التعلم في الأول دون الثاني ، وعليه جرى في رسائله العملية ، ولكن لما وصل بحثه إلى هذا المقام توقف في ذلك بل قرب عدم التفصيل ، وان احتمال الابتلاء يكفي في حكم العقل بوجوب التعلم كحكمه بوجوب النظر عند احتمال صدق مدعى النبوة ، فتأمل في المقام ، فان المسألة مما تعم بها البلوى ويترتب عليها آثار عملية.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة وما يلحق بها من وجوب التعلم. وتحصل : ان وجوب بعض المقدمات قبل الوقت لا يتوقف على القول بالواجب المعلق كما ذكره في الفصول ، أو على أحد الامرين من الواجب المعلق أو الشرط المتأخر كما ذكره في الكفاية.

بقى في المقام ، التنبيه على بعض المسائل الفقهية ، التي توهم انها تبتنى على تصحيح الواجب المعلق والشرط المتأخر معا.

( منها ) مسألة الصوم ، حيث إنه لا اشكال في أنه يعتبر في الصوم اجتماع شرائط التكليف من القدرة والصحة وعدم الحيض والسفر ، من أول الطلوع إلى الغروب ، بحيث لو اختل أحد هذه الشرائط في جزء من النهار لم يكن الصوم واجبا ،

ص: 208

فوجوب الامساك في أول الفجر يتوقف على بقاء الحياة والقدرة إلى الغروب ، وهذا لايكون الا على نحو الشرط المتأخر بحيث تكون القدرة على الامساك فيما قبل الغروب شرطا في وجوب الامساك في أول الفجر ، وهذا عين الشرط المتأخر ، وأيضا لا اشكال في أن التكليف بالامساك في الآن الثاني ، والثالث ، وهكذا ، انما يكون متحققا في الآن الأول ، وهو آن طلوع الفجر ، إذ ليس هناك الا تكليف واحد يتحقق في أول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، وليس هناك تكاليف متعددة يحدث في كل آن تكليف يخصه ، فان ذلك ينافي الارتباطية ، بل التكليف بالامساك في جميع آنات النهار انما يتحقق في الآن الأول ، وهو آن الطلوع ، فيكون التكليف بامساك ما قبل الغروب ثابتا قبل ذلك ، وهذا عين الواجب المعلق حيث يتحقق الوجوب الفعلي قبل وقت الواجب ، وهو آن ما قبل الغروب الذي هو وقت الامساك الواجب فيه. وكذا الحال بالنسبة إلى التكليف بالصلاة في أول الوقت ، حيث إن الكلام فيها عين الكلام في الصوم ، من حيث ابتنائه على الشرط المتأخر والواجب المعلق كما لا يخفى ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك بكلا وجهيه.

اما ضعف وجه ابتنائه على الشرط المتأخر ، فلما يأتي انشاء اللّه تعالى من أن الشرط في أمثال ذلك هو وصف التعقب ، ويكون الامساك في أول الطلوع واجبا عند وجود الحياة في ذلك الآن وتعقبه بالحياة فيما بعد إلى الغروب ، فيكون الشرط في وجوب الامساك في كل آن هو فعلية الحياة في ذلك الآن وتعقبها بالحياة في الان الثاني ، وهذا المعنى امر معقول يساعد عليه الدليل والاعتبار ، بل المقام من أوضح ما قيل فيه : ان الشرط هو وصف التعقب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى.

واما ضعف ابتنائه على الواجب المعلق ، فلان الخطاب وان كان أمرا واحدا مستمرا يتحقق بأول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، الا ان فعليته تدريجية حسب تدريجية المتعلق والشروط ، فكما ان الشروط من الحياة والقدرة وغير ذلك تحصل تدريجا - إذ لا يعقل تحقق الحياة من الطلوع إلى الغروب دفعة واحدة وفي آن واحد ، بل لا بد من أن تتحقق تدريجا حسب تدرج آنات الزمان ، وكذا الحال

ص: 209

بالنسبة إلى الامساك فيما بينها الذي يكون متعلقا لابد وان يتحقق متدرجا في آنات الزمان - فكذلك فعلية الخطاب انما تكون تدريجية ، ويكون فعلية وجوب الامساك في كل آن مشروطا بوجود ذلك الآن ، وتكون الفعلية متدرجة في الوجود حسب تدرج آنات الزمان ، ولا يعقل غير ذلك ، إذ كما لا يعقل تحقق امساك الآن الثاني في الآن الأول لعدم معقولية جر الزمان ، كذلك لا يعقل فعلية وجوب امساك الآن الثاني في الآن الأول ، وكما يكون امساك كل آن موقوفا على وجود ذلك الآن ، كذلك فعلية وجوب الامساك في كل آن موقوفة على وجود ذلك الآن ، ففعلية الخطاب في التدرج والدفعية تتبع الشروط والمتعلق في التدرج والدفعية ، فإذا كانت الشروط والمتعلق تدريجية فلا بد ان يكون فعلية الخطاب أيضا تدريجية ، ولا فرق في هذا بين ان نقول ان الزمان في باب الصوم اخذ قيدا للمتعلق ، أو اخذ قيدا لنفس الحكم على ما بينا (1) تفصيله في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب في مسألة استصحاب حكم المخصص أو الرجوع إلى حكم العام.

نعم تظهر الثمرة بين الوجهين في وجوب امساك بعض اليوم لمن يعلم بفقدان بعض الشروط في أثناء النهار أو عدم وجوبه ، فإنه بناء على أن يكون الزمان قيدا لنفس الحكم يكون وجوب الامساك في البعض والكفارة عند المخالفة على القاعدة ، بخلاف ما إذا قلنا بكون الزمان قيدا للمتعلق ، فإنه يكون وجوب امساك البعض والكفارة على خلاف القاعدة ، يتبع ورود الدليل ، ولا باس بالإشارة إلى وجه ذلك اجمالا.

فنقول :

ان كان الزمان قيدا للمتعلق وهو الامساك فيكون الواجب هو الامساك ما بين الحدين ( الطلوع والغروب ) عند اجتماع الشرائط : من القدرة وعدم السفر والحيض فيما بين الحدين ، فيكون متعلق التكليف أمرا واحدا مستمرا وهو الامساك ة

ص: 210


1- راجع تفصيل هذا البحث في التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب. الجزء الرابع من هذا الكتاب - ص 196 الطبعة القديمة

ما بين الطلوع والغروب ، ويكون هذا هو الصوم المأمور به ، فلو اختل أحد الشرائط في جزء من النهار لم يكن الامساك حينئذ واجبا واقعا ، إذ امساك بعض اليوم لم يكن واجبا وليس صوما شرعا ، وحينئذ كان مقتضى القاعدة عدم وجوب الامساك من أول الفجر عند العلم باختلال بعض الشرائط ، كمن يعلم أنه يسافر في أثناء النهار أو علمت المرأة انها تحيض ، فوجوب الامساك عليه وثبوت الكفارة يحتاج إلى دليل تعبدي ، ولا يكفي في ذلك أدلة نفس وجوب الصوم.

وأما إذا كان الزمان قيدا للحكم ، فيصير المعنى ، ان الحكم بوجوب الصوم والامساك مستمر إلى الغروب ، بحيث يكون الغروب منتهى عمر الحكم ، فيحدث من أول الطلوع وينتهي بالغروب ، ومرجع ذلك إلى أن الحكم بالامساك في كل آن من آنات النهار ثابت ، فاختلال الشرائط في أثناء النهار لايكون كاشفا عن عدم ثبوت الحكم من أول الامر ، بل الحكم كان واقعا ثابتا إلى زمان اختلال الشرائط وينقطع بالاختلال.

وهذا لا ينافي ارتباطية الصوم وانه ليس هناك تكاليف متعددة مستقلة ، فان ارتباطية التكليف ليس الا عبارة عن وحدة الملاك وترتبه على مجموع الامساك الواقع في النهار ، لا ان لكل امساك ملاكا يخصه ، وهذا أجنبي عما نحن فيه من استمرار الحكم في مجموع النهار على وجه يكون قيدا للحكم ، فيكون ثبوت الحكم في كل زمان تابعا لثبوت الشرط في ذلك الزمان ، وانتفاء الشرط في زمان لا يوجب انتفاء الحكم في الزمان السابق عليه ، وح يجب الامساك على من يعلم أنه يسافر وتلزمه الكفارة عند المخالفة ، لأنه قد خالف حكما واقعيا ثابتا في الواقع ، فتأمل في المقام جيدا.

وعلى كل حال تكون فعلية الحكم في باب الصوم تدريجية ، سواء قلنا بان الزمان فيه قيد للحكم أو قيد للمتعلق ، لان مناط التدريجية هو تدريجية الشروط والمتعلق ، الذي قد عرفت ان مع تدريجيتها لا يعقل فعلية الحكم دفعة ، إذ فعلية الحكم يدور مدار تحقق شرطه ، وتكون تابعة لوجوده ، ومع كون الشرط تدريجي الحصول فلا محالة يكون الفعلية أيضا تدريجية ، حسبما تقتضيه التبعية ، هذا بالنسبة إلى الصوم.

ص: 211

واما بالنسبة إلى الصلاة فيفترق الحال فيها بالنسبة إلى أول الوقت في مضى مقدار أربع ركعات منه ، وما عدا ذلك من بقية الوقت ، فان التكليف بأربع ركعات لما كان مشروطا بالزمان الذي يمكن ايقاع الأربع فيه ، إذ لا يعقل ان يكون الزمان أضيق دائرة عن متعلق التكليف ، فالتكليف بأربع ركعات مشروط بزمان يسع الأربع ، وح لا يمكن ان يكون التكليف بالأربع من أول الوقت فعليا ، بل لابد ان يكون فعليته تدريجية حسب تدريجية اجزاء الزمان إلى مقدار أربع ركعات ، وعند انقضاء ذلك المقدار تتم الفعلية لتمامية شرطها من مضى مقدار أربع ركعات ، ولأجل ذلك أفتوا بعدم وجوب القضاء على من حصل له أحد الاعذار الموجبة لسقوط التكليف كالجنون والحيض قبل مضى مقدار أربع ركعات من الوقت ووجوب القضاء عند حصوله بعد ذلك ، والسر في ذلك هو ما ذكرنا من أن الحكم بالأربع لايكون فعليا من أول الوقت دفعة واحدة ، بل فعليته تكون تدريجية حسب تدرج شرط الحكم من الزمان ، فلا تتم الفعلية الا عند انقضاء ذلك المقدار من الزمان ، فالعذر الحاصل قبل ذلك يكون حاصلا قبل تمامية فعلية لحكم ، فلا موجب للقضاء. وهذا بخلاف ما إذا انقضى ذلك المقدار من الزمان فان شرط الفعلية ح حاصل ، فلا مانع من فعلية الحكم بالأربع ، وتكون التسليمة ح في عوض التكبيرة من حيث فعلية حكمها وكونه مخاطبا بها كخطابه بالتكبيرة.

فان قلت :

كيف يكون الحكم بالتسليمة فعليا مع عدم القدرة عليها شرعا الا بعد التكبيرة وما يلحقها من الاجزاء ، وبعبارة أخرى : كيف يكون الحكم فعليا دفعة مع تدريجية المتعلق؟.

قلت :

العبرة في الفعلية التدريجية هي تدريجية الشرائط لا تدريجية المتعلق ، وقولك : لا يقدر على التسليمة في الحال ، قلنا : هي مقدورة له بتوسط القدرة على الاجزاء السابقة ، فتكون ح من المقدور بالواسطة ، غايته ان الواسطة تارة تكون عقلية كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، وأخرى تكون جعلية شرعية كالاجزاء

ص: 212

السابقة بالنسبة إلى التسليمة ، وقد تقدم صحة فعلية التكليف بالنسبة إلى كل ما يكون مقدورا بالواسطة ، فالتكليف بالتسليمة بعد مضى مقدار أربع ركعات من الوقت يكون كالتكليف بالصلاة في مسجد الكوفة غير مقيد بالزمان ، واما التكليف بها قبل ذلك فيكون كالتكليف بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين المثالين ، وان التكليف في أحدهما يكون مط وفي الآخر يكون مشروطا ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق والمعلق.

بقى في المقام : حكم صورة الشك في كون الواجب مشروطا أو مطلقا ، الذي يرجع الشك فيه إلى الشك في كون القيد قيدا للهيئة أو قيدا للمادة ، وقد اضطربت الكلمات في ذلك ، وسلك كل مسلكا ، وينبغي ان يعلم أولا : ان محل الكلام فيما إذا كان القيد فعلا اختياريا للمكلف ، إذ لو لم يكن كذلك فلا بد ان يكون التكليف مشروطا به ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، وكذا محل الكلام فيما إذا لم يكن في البين ما يعين أحدهما كما إذا سيق القيد بصورة القضية الشرطية فإنه يتعين رجوعه إلى الهيئة ، حيث إن القضية الشرطية ما تكون ربط جملة بجملة أخرى على ما تقدم بيانه أيضا ، أو سيق القيد على وجه اخذ وصفا للمادة ، كما إذا قيل متطهرا وأمثال ذلك ، مما يكون القيد ظاهرا في رجوعه إلى المادة.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ربما قيل إنه عند الدوران يقدم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، لان في تقييد الهيئة يلزم كثرة التقييد وتعدده ، والأصل يقتضى خلافه ، بخلاف تقييد المادة ، فان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة لا محالة ، إذ لا يمكن اطلاق المادة مع تقييد الهيئة ، وهذا معنى ما يقال : من أن اشتراط الوجوب بشيء يرجع إلى اشتراط الواجب به أيضا ولا عكس ، إذ تقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة كما لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

لان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فإذا امتنع الاطلاق امتنع التقييد وحينئذ نقول في المقام : انه لو رجع القيد إلى الهيئة وكان وجوب الحج مثلا مشروطا بالاستطاعة ، فلا يعقل الاطلاق في طرف المادة ، إذ بعد ما

ص: 213

كان وجوب الحج بعد فرض حصول الاستطاعة ، فكيف يكون الحج واجبا في كلتا صورتي وجود الاستطاعة وعدمها الذي هو معنى الاطلاق؟ وهل هذا الا الخلف والتناقض؟ فإذا امتنع الاطلاق في طرف المادة امتنع التقييد أيضا لا محالة ، فان تقييد المادة بالاستطاعة مثلا يقتضى لزوم تحصيلها ، كما هو الشأن في كل قيد يرجع إلى المادة ، وبعد فرض حصول الاستطاعة ، كما هو لازم اخذها قيدا للهيئة - لما عرفت من أن القيود الراجعة إلى الحكم لا بد ان يؤخذ مفروضة الوجود - لا معنى لتقييد المادة بالاستطاعة الذي يقتضى تحصيلها ، لأنه يكون من طلب الحاصل. فدعوى ان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة مما لا ترجع إلى محصل.

نعم النتيجة المقصودة من تقييد المادة حاصلة عند تقييد الهيئة ، لان المقصود من تقييد الحج بالاستطاعة ليس الا وقوع الحج بعد التلبس بالاستطاعة ، كما أن المقصود عن تقييد الصلاة بالطهارة هو وقوع الصلاة في حال التلبس بالطهارة ، وهذا المعنى حاصل بعد تقييد الهيئة ، لأنه لو تأخر وجوب الحج من الاستطاعة ، فالحج الواجب يقع بعد الاستطاعة لا محالة ، فالنتيجة المطلوبة من تقييد المادة حاصلة قهرا عند تقييد الهيئة ، ولكن هذا غير تقييد المادة بحيث يكون رجوع القيد إلى لهيئة موجبا لتعدد التقييد ويرجع الشك في المقام إلى الشك في قلة التقيد وكثرته حتى يقال : ان الأصل اللفظي يقتضى قلة التقييد.

فظهر انه عند دوران الامر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة يكون من الدوران بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر.

وبعد ذلك نقول : ان القيد تارة يكون متصلا بالكلام ، كما إذا ورد : حج مستطيعا ، ودار الامر بين رجوع قيد الاستطاعة إلى الوجوب حتى لا يجب تحصيلها ، أو إلى الحج حتى يجب تحصيلها.

وأخرى يكون منفصلا ، كما إذا ورد حج ، وبعد ذلك ورد دليل منفصل يدل على اعتبار قيد الاستطاعة ، ودار أمرها بين الامرين ، فان كان القيد متصلا بالكلام فلا اشكال في اجمال الكلام حينئذ لاحتفافه بما يصلح لكلا الامرين بلا معين ، فلا يكون للهيئة اطلاق ولا للمادة ، لاتصال كل منهما بما يصلح للقرينية ،

ص: 214

فلا يمكن التمسك باطلاق أحدهما بعد العلم الاجمالي بورود القيد على أحدهما ، بل لابد ح من الرجوع إلى الأصول العملية ، وسيأتي البحث عن ذلك.

واما لو كان القيد منفصلا ، فهذا هو الذي (1) ذكر الشيخ ( قده ) فيه وجهين لرجوع القيد إلى المادة لا إلى الهيئة.

( الوجه الأول )

ان الامر في المقام يدور بين تقييد اطلاق الهيئة ، وتقييد اطلاق المادة ، لأن المفروض انه انعقد الظهور الاطلاقي لكل منهما حيث كان التقييد بالمنفصل ، ولذلك خصصنا كلام الشيخ ( قده ) بالمنفصل ، إذ مع الاتصال لا ينعقد ظهور اطلاقي لكل منهما ، فلا معنى للدوران ح. وهذا بخلاف ما إذا كان بالمنفصل ، فان الظهور الاطلاقي انعقد لكل منهما ، فيدور الامر بين تقييد اطلاق المادة وتقييد اطلاق الهيئة ، ولما كان اطلاق الهيئة شموليا وكان اطلاق المادة بدليا ، كان اللازم تقييد اطلاق المادة ، لأقوائية الاطلاق الشمولي من الاطلاق البدلي ، كما هو الشأن في كل ما دار الامر بين تقييد اطلاق الشمولي وتقييد اطلاق البدلي.

اما كون اطلاق الهيئة شموليا واطلاق المادة بدليا ، فلان معنى اطلاق الهيئة هو ثبوت الوجوب في كلتا حالتي ثبوت القيد وعدمه ، فيكون اطلاق الوجوب شاملا لصورة وجود الاستطاعة وصورة عدمها ، وهذا بخلاف اطلاق المادة فإنه بدلي ، حيث إن الواجب هو صرف وجود الحج ، والمطلوب فرد واحد منه على البدل بين الفرد قبل الاستطاعة والفرد بعده ، وهذا عين الاطلاق البدلي.

واما تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد الاطلاق الشمولي ، فهو موكول إلى محله في مبحث التعادل والتراجيح ، وقد أوضحناه في محله.

ثم إن المحقق الخراساني قده ، (2) سلم ان المقام يكون من دوران الامر بين تقييد الاطلاق البدلي والاطلاق الشمولي. الا انه ناقش في الكبرى ، ومنع تقديم

ص: 215


1- راجع مطارح الأنظار ، الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب ص 47.
2- الكفاية ، الجلد 1 ص 169 « فلان مفاد اطلاق الهيئة وان كان شموليا .. »

الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، نظرا إلى أن الاطلاق في كل منهما يكون بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، فلا موجب لتقديم أحدهما على الاخر هذا.

ولكن الانصاف ان المقام أجنبي عن مسألة تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، لان تلك المسألة انما هي في ما إذا تعارض الاطلاقان وتنافيا بحسب المدلول ، كما إذا ورد لا تكرم الفاسق وورد أيضا أكرم عالما ، حيث إن اطلاق لا تكرم الفاسق يقتضى عدم اكرام العالم الفاسق ، واطلاق أكرم عالما يقتضى اكرامه ، فيتنافيان في مورد الاجتماع ، ويصح التعارض بينهما ، فيبحث ح عن أن اطلاق الشمولي مقدم على الاطلاق البدلي أو غير مقدم. والمقام ليس من هذا القبيل ، إذ ليس بين اطلاق المادة واطلاق الهيئة تعارض وتناف ، بل بينهما كمال الملائمة والألفة ، إذ لا يلزم من اطلاق كل منهما محذور لزوم اجتماع المتناقضين الذي هو المناط في باب التعارض ، والعلم بورود المقيد على أحدهما من الخارج لمكان الدليل المنفصل لا يوجب التنافي بينهما. غايته انه يعلم بعدم إرادة أحد الاطلاقين وان أحدهما لا محالة مقيد ، وأي ربط لهذا باقوائية اطلاق الهيئة لكونه شموليا من اطلاق المادة لكونه بدليا؟ فان الأقوائية لا توجب ان يكون القيد واردا على الضعيف ، وأي ملازمة في ذلك؟ بل لو فرض ان الهيئة بالوضع تدل على الشمول لا بالاطلاق كان ذلك العلم الاجمالي بحاله ، فان القيد لا محالة اما ان يكون واردا على الهيئة أو يكون واردا على المادة ، وأقوائية الهيئة لا ربط لها بذلك ، فالمقام نظير ما إذا علم بكذب أحد الدليلين من دون ان يكون بين مدلوليهما تناف ، حيث أوضحنا في محله انه لا يعامل معاملة التعارض في مثل هذا ، بل يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ويعامل معهما معاملة قواعد العلم الاجمالي ، والمقام بعينه يكون من هذا القبيل.

( الوجه الثاني )

الذي ذكره الشيخ ( قده ) لترجيح ارجاع القيد إلى المادة ، هو ان تقييد الهيئة وان لم يستلزم تقييد المادة ، بحيث يلزم تعدد التقييد كما تقدم ، الا انه لا اشكال في أنه يوجب بطلان اقتضاء المادة للاطلاق ، ويخرجها عن قابليته ، وكما أن

ص: 216

أصل التقييد مخالف للأصل ، كذلك عمل ما ينتج نتيجة التقييد واخراج المحل عن قابلية الاطلاق يكون مخالفا للأصل ، لاشتراكهما في الأثر. وهذا بخلاف ارجاع القيد إلى المادة ، فإنه سالم عن هذا المحذور لبقاء اطلاق الهيئة على حاله هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه فان التقييد انما كان على خلاف الأصل لمكان جريان مقدمات الحكمة ، وأين هذا من عمل ما يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وهدم أساسها كما هو الحال عند ارجاع القيد إلى الهيئة حيث إنه يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في صرف المادة وهدم أساس اطلاقها ، فإنه لا أصل يقتضى بطلان مثل هذا العمل.

وبالجملة ما ذكره الشيخ ( قده ) من الوجهين لارجاع القيد إلى المادة ، مما لا يمكن المساعدة عليه. فلابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي ، إذ الأصول اللفظية من أصالة اطلاق المادة وأصالة اطلاق الهيئة متعارضة ، للعلم بتقييد أحد الاطلاقين ، فتصل النوبة حينئذ إلى الأصول العملية ، ومعلوم ان الشك في المقام يرجع إلى الشك في لزوم تحصيل القيد ، ومقتضى أصالة البراءة عدم لزوم تحصيله. هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام.

ثم تنظر في جميع ما افاده بما حاصله : ان المراد من تقييد الهيئة هو تقيد المادة المنتسبة على ما عرفت ، إذ تقييد الهيئة بما انها معنى حرفي لا يعقل ، فلا بد من رجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ويكون الفرق بين تقييد المادة وتقييد الهيئة هو انه تارة : يكون التقييد للمادة بلحاظ ما قبل الاستناد ، وأخرى : يكون تقييدا لها بلحاظ الاستناد - كما تقدم تفصيل ذلك - وحينئذ يكون رجوع القيد إلى المادة متيقنا ، والشك يرجع إلى امر زائد وهو تقييدها بلحاظ الاستناد ، واطلاق الهيئة ينفى هذا الامر الزائد ، من غير فرق بين ان يكون التقييد بالمتصل أو المنفصل ، إذ رجوع القيد المتصل إلى المادة أيضا متيقن ، ورجوعه إلى المادة المنتسبة مشكوك وأصالة الاطلاق الجارية في طرف الهيئة تنفى ذلك.

وتوهم انه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فاسد ، إذ الضابط فيما يصلح للقرينية هو امكان رجوع القيد إلى ما تقدم بلا حاجة إلى عناية زائدة و

ص: 217

صلوحه للقرينية بلا كلفة ، كاستثناء الفساق من العلماء مع تردد الفساق بين مرتكب الكبيرة فقط ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة لأجل اجمال المفهوم ، وكالضمير المتعقب لجمل متعددة ، أو الاستثناء المتعقب لذلك ، فإنه في الجميع يكون القيد صالحا لرجوعه إلى ما تقدم بلا عناية ، بحيث يصح للمتكلم الاعتماد على ذلك وبذلك ينهدم أساس مقدمات الحكمة. وهذا بخلاف المقام ، فان رجوع القيد إلى الهيئة يحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ الانتساب في طرف المادة هذا.

مع أن رجوع القيد إلى الهيئة والوجوب ، لا يصح الا بعد اخذ القيد مفروض الوجود كما تقدم ، وذلك أيضا امر زائد ينفيه اطلاق القيد ، حيث إنه لم يتعقب بمثل أداة الشرط التي خلقها اللّه تعالى لأجل فرض الوجود ، فمقتضى اطلاقه عدم لحاظه مفروض الوجود.

هذا كله. مضافا إلى أن القيود التي تصلح لان ترجع إلى المادة أو الوجوب انما هي القيود التي تكون بصيغة الحال ، كحج مستطيعا ، إذ ما عدا ذلك لا تصلح لذلك ، فان ما كان مصدرا بأدوات الشرط (1) وما يلحق بها لا تصلح الا للرجوع إلى الهيئة ، وما كان من قبيل المفعول به وفيه لا تصلح الا للمادة كصل في المسجد ، حيث إن ظاهره الأولى يقتضى بناء المسجد الا ان تقوم قرينة شخصية أو نوعية على خلافه. فينحصر ما يصلح للرجوع إلى كل منهما بما كان على هيئة الحال ، ومعلوم ان مقتضى الظهور النوعي في مثل حج مستطيعا ، وصل متطهرا ، وأمثال ذلك ، هو رجوع القيد إلى المادة ، حيث لا يستفاد منه الا ذلك ، هذا إذا كان التقييد بالمتصل. وأما إذا كان التقييد بالمنفصل ، فان كان لفظيا فالكلام فيه هو الكلام في المتصل ، بل هو أولى كما لا يخفى.

وان كان لبيا ، كما إذا انعقد اجماع على أن الحج لا يقع بصفة المطلوبية الا

ص: 218


1- كالعقود التي لا تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها خارجة عن القدرة كالزمان ، حيث عرفت ان مثل ذلك لابد ان يؤخذ مفروض الوجود - منه.

في حال الاستطاعة ، وشك في كون الاستطاعة شرطا للوجوب أو للحج ، فالظاهر أيضا رجوع القيد إلى المادة فقط ، لاحتياج رجوع القيد إلى الهيئة إلى عناية زائدة ، والاطلاق يدفع ذلك.

نعم لا يتمشى الوجه الثاني (1) والثالث فيما إذا كان دليل القيد لبيا كما لا يخفى. هذا حاصل ما افاده مد ظله ، ولكن للنظر فيه مجال ، كما لا يخفى على المتأمل. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق وما يتعلق بذلك من المباحث.

وينقسم الواجب أيضا إلى نفسي وغيري

وعرف الغيري : بما امر به للتوصل إلى واجب آخر. ويقابله النفسي ، وهو ما لم يؤمر به لأجل التوصل به إلى واجب آخر. وقد يعرف النفسي : بما امر به لنفسه ، والغيري : بما امر به لأجل غيره.

وقد أشكل على التعريف الأول بما حاصله : انه يلزم ان يكون جل الواجبات غيرية ، لان الامر بها انما هو لأجل التوصل بها إلى ما لها من الفوائد والملاكات المترتبة عليها ، التي تكون هي الواجبة في الحقيقة ، وكونها مقدورة بالواسطة لأنها من المسببات التوليدية.

ثم وجه المستشكل بان ترتب الملاكات على الواجبات وكون الملاكات من المسببات التوليدية لا ينافي الوجوب النفسي ، لأنه يمكن ان تكون الواجبات معنونة بعنوان حسن ، وبانطباقه عليها تكون واجبات نفسية ، وارجع تعريف الواجب النفسي بأنه ما امر به لنفسه إلى ذلك هذا.

وقد أشبعنا الكلام في بطلان توهم كون الملاكات من المسببات التوليدية في مبحث الصحيح والأعم ، وانه ليست الملاكات واجبة التحصيل لكونها من الدواعي ، ولا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها. فراجع ذلك المبحث. وعليه لا يرد .

ص: 219


1- مرادنا من الوجه الثاني : هو ظهور دليل القيد في عدم اخذه مفروض الوجود ، ومن الوجه الثالث : هو الظهور النوعي في رجوع ما كان بصيغة الحال إلى المادة فقط - منه.

الاشكال على التعريف المذكور.

نعم يرد عليه ، خروج الواجبات التهيئية والواجبات التي يستقل العقل بوجوبها لأجل برهان التفويت عن كونها واجبات نفسية ، لان الامر في جميعها انما يكون لأجل التوصل بها إلى واجبات آخر ، من الحج في وقته ، والصلاة مع الطهور في وقتها ، وغير ذلك ، فيلزم ان يكون جميعها واجبات غيرية ، مع أنها ليست كذلك كما تقدم سابقا.

فالأولى ان يعرف الواجب النفسي بما امر به لنفسه ، أي تعلق الامر به ابتداء وكان متعلقا للإرادة كذلك ، ويقابله الواجب الغيري ، وهو ما إذا كانت ارادته ترشحية من ناحية إرادة الغير ، فتكون الواجبات التهيئية كلها من الواجبات النفسية ، حيث لم تكن ارادتها مترشحة من إرادة الغير ، لوجوبها مع عدم وجوب الغير ، على ما تقدم تفصيل ذلك.

ثم إن ما دفع به الاشكال عن الواجبات النفسية ، بأنه يمكن ان يكون ذلك لأجل انطباق عنوان حسن الخ ، لم نعرف معناه ، فان العنوان الحسن من أين جاء؟ وهل ذلك العنوان الا جهة ترتب الملاكات عليها الذي التزم انها من تلك الجهة تكون واجبات غيرية؟ فتأمل جيدا.

وعلى كل حال لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فتارة ، يقع الكلام فيما يقتضيه الأصل اللفظي وأخرى ، فيما يقتضيه الأصل العملي.

( اما الأول )

فمجمل القول فيه : هو ان الواجب الغيري لما كان وجوبه مترشحا عن وجوب الغير ، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير ، كما أن وجود الغير يكون مشروطا بالواجب الغيري ، فيكون وجوب الغير من المقدمات الوجوبية للواجب الغيري ، ووجود الواجب الغيري من المقدمات الوجودية لذلك الغير ، مثلا يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصلاة ، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء ، فالوضوء بالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادة ، ووجوب الصلاة يكون من قيود الهيئة بالنسبة إلى الوضوء بالمعنى المتقدم من تقييد الهيئة ، بحيث لا يرجع إلى تقييد المعنى

ص: 220

الحرفي. وحينئذ يرجع الشك في كون الوجوب غيريا إلى شكين : أحدهما : الشك في تقييد وجوبه بوجوب الغير ، وثانيهما : الشك في تقييد مادة الغير به.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه ان كان هناك اطلاق في كلا طرفي الغير والواجب الغيري ، كما إذا كان دليل الصلاة مط لم يأخذ الوضوء قيدا لها ، وكذا كان دليل ايجاب الوضوء مط لم يقيد وجوبه بالصلاة ، كما في قوله تعالى (1) « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ ، حيث إنه قيد وجوب الوضوء بالقيام إلى الصلاة فلا اشكال في صحة التمسك بكل من الاطلاقين ، وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي للوضوء ، وعدم كونه قيدا وجوديا للصلاة ، فان اطلاق دليل الوضوء يقتضى الأول ، واطلاق دليل الصلاة يقتضى الثاني.

والاشكال في التمسك باطلاق الهيئة في طرف الوضوء ، بان الهيئة موضوعة لافراد الطلب ومصاديقه لا لمفهومه ، فلا معنى للرجوع إلى اطلاق الهيئة كما في التقريرات (2) ضعيف جدا. واضعف منه ، دفع الاشكال بان الهيئة موضوعة لمفهوم الطلب ، وهو الذي ينشأ ، إذ لا معنى لانشاء المصداق الخ ما ذكره في الكفاية (3).

اما ضعف ما في التقرير ، فلان كون الهيئة موضوعة لمفهوم الطلب أو لمصاديقه أجنبي عما نحن فيه ، إذ لا اشكال في ثبوت الواجبات الغيرية في الشريعة ، فيسئل ان الشيء بأي صناعة يكون واجبا غيريا؟ وهل يكون الشيء واجبا غيريا الا بتقييد وجوبه بالغير؟ على معنى تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم بيانه في الواجب المشروط. وبالجملة : الواجب الغيري يكون قسما من الواجب المشروط ، وكما أن اطلاق دليل الحج مثلا يقتضى عدم تقييد وجوبه بالاستطاعة ، كذلك

ص: 221


1- المائدة ، الآية 6
2- مطارح الأنظار ، مباحث مقدمة الواجب « هداية : ينقسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاص كما ستعرفه إلى غيري ونفسي .. » ص 65
3- كفاية الأصول ، الجلد 1 ص 173 « ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الافراد ، بل هو مفهوم الطلب .. »

اطلاق دليل الوضوء يقتضى عدم تقييد وجوبه بمثل « إذا قمتم إلى الصلاة » فتأمل.

واما ضعف ما في الكفاية ، فلانه لا معنى لوضع الهيئة لمفهوم الطلب ، ولا معنى لانشاء مفهوم الطلب ، بل الهيئة على ما عرفت لم توضع الا لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل بالنسبة الايقاعية ، مقابل النسبة التحققية والتلبسية ، التي وضعت هيئة الماضي والمضارع لهما ، وبايقاع هذه النسبة إذا كان بداعي الطلب يتحقق مصداق من الطلب ، حيث إن حقيقة الطلب هو التصدي لتحصيل المطلوب ، والآمر بايقاعه للنسبة مع كونه بداعي الطلب قد تصدى لتحصيل مطلوبه بتوسط عضلات العبد ، فالهيئة لم توضع للطلب أصلا لا لمفهومه ولا لمصداقه ، وقد تقدم ذلك مشروحا في أول مبحث الأوامر ، فراجع.

وعلى كل حال ظهر صحة التمسك باطلاق كل من الغير والواجب الغيري لو كان لكل منهما اطلاق. بل لو كان لأحدهما اطلاق يكفي في المقصود من اثبات الوجوب النفسي ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فلو فرض انه لم يكن لدليل الوضوء اطلاق وكان لدليل الصلاة اطلاق ، فمقتضى اطلاق دليلها هو عدم تقييد مادتها بالوضوء ، ويلزمه عدم تقييد وجوب الوضوء بها ، لما عرفت من الملازمة بين الامرين ، وكذا الحال لو انعكس الامر وكان لدليل الوضوء اطلاق دون دليل الصلاة.

وبالجملة الأصل اللفظي يقتضى النفسية عند الشك فيها ، سواء كان لكل من الدليلين اطلاق أو كان لأحدهما اطلاق ، ولا تصل النوبة إلى الأصول العملية ، الا إذا فقد الاطلاق من الجانبين ، وحينئذ ينبغي البحث عما يقتضيه الأصل العملي.

فنقول : الشك في الوجوب الغيري له اقسام ثلاثة :

القسم الأول

ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري من دون ان يكون وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة ، وشك في وجوب الوضوء من حيث كونه غيريا أو نفسيا ، ففي هذا القسم

ص: 222

يرجع الشك إلى الشك في تقييد الصلاة بالوضوء وانه شرط لصحتها ، حيث عرفت ملازمة الشك في ذلك للشك في تقييد الصلاة ، وح يرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، وأصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة وصحتها بدونه ، فمن هذه الجهة تكون النتيجة النفسية. واما من جهة تقييد وجوب الوضوء بوجوب الصلاة فلا اثر لها ، للعلم بوجوب الوضوء على كل حال نفسيا كان أو غيريا ، نعم ربما يثمر في وحدة العقاب وتعدده عند تركه لكل من الوضوء والصلاة ، وليس كلامنا الآن في العقاب.

القسم الثاني

ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري ، ولكن كان وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كالمثال المتقدم فيما إذا علم قبل الزوال ، ففي هذا القسم يرجع الشك في غيرية الوضوء ونفسيته إلى الشك في اشتراطه بالزوال وعدم اشتراطه ، إذ لو كان واجبا غيريا يكون مشروطا بالزوال لمكان اشتراط الصلاة به ، وحينئذ يكون من افراد الشك بين المط والمشروط ، وقد تقدم ان مقتضى الأصل العملي هو الاشتراط ، للشك في وجوبه قبل الزوال ، وأصالة البراءة تنفى وجوبه ، كما تنفى شرطية الصلاة بالوضوء ، ولا منافاة بين اجراء البراءة لنفى وجوب الوضوء قبل الزوال واجراء البراءة لنفى قيديته للصلاة كما لا يخفى.

القسم الثالث

ما إذا علم بوجوب ما شك في غيريته ، ولكن شك في وجوب الغير ، كما إذا شك في وجوب الصلاة في المثال المتقدم وعلم بوجوب الوضوء ، ولكن شك في كونه غيريا حتى لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضى البراءة ، أو نفسيا حتى يجب.

فقد قيل في هذا القسم بعدم وجوب الوضوء واجراء البراءة فيه ، لاحتمال كونه غيريا ، فلا يعلم بوجوبه على كل حال هذا.

ولكن الأقوى وجوبه ، لان المقام يكون من التوسط في التنجيز الذي عليه يبتنى جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي ، إذ كما أن العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشك في وجوبها يقتضى وجوب امتثال ما علم ، ولا يجوز اجراء البراءة

ص: 223

فيه ، مع أنه يحتمل كون ما عدا السورة واجبا غيريا ومقدمة للصلاة مع السورة ، فكذلك المقام من غير فرق بينهما ، سوى تعلق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة ، وفي المقام تعلق العلم بمقدار من الواجب كالوضوء فقط ، وهذا لا يصلح ان يكون فارقا فيما نحن بصدده. كما لا يصلح الفرق بين المقامين : بأنه في المقام قد تعلق العلم بما يحتمل كونه مقدمة خارجية كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، وفي ذلك المقام تعلق العلم بما يحتمل كونه مقدمة داخلية ، فان المناط في الجميع واحد وهو العلم بالوجوب ، مع أنه لنا ان نفرض مثال المقام بما يحتمل كونه مقدمة داخلية ، كما إذا علم بوجوب السورة فقط وشك في النفسية والغيرية ، فتأمل.

بقى في المقام التنبيه على أمرين

( الأول )

قد اختلف الاعلام في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه على أقوال.

( ثالثها ) التفصيل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب اصلى فيترتب ، أو تبعي فلا يترتب.

( رابعها ) التفصيل بين استحقاق الثواب فلا يترتب ، واستحقاق العقاب فيترتب.

والأولى تحرير محل النزاع في المقام ، بالأعم من الاستحقاق والتفضل ، إذ استحقاق الثواب في الواجبات النفسية محل كلام.

فقد حكى شيخنا الأستاذ مد ظله ، عن المفيد (رحمه اللّه) القول بعدم استحقاق العبد للثواب على الإطاعة وامتثال أوامر مولاه عقلا على وجه يكون عدم ترتب الثواب على اطاعته من الظلم المستحيل في حقه تعالى وكيف يحكم العقل بذلك؟ مع أن العبد مملوك لمولاه ، فعليه اطاعته وامتثال أوامره ، ولا يمتنع عقلا عدم إثابة العبد لإطاعة مولاه ، بل الثواب انما يكون بالتفضل منه تعالى على عبيده ومنة عليهم بذلك. وقد خالف في ذلك المتكلمون ، حيث قالوا بالاستحقاق. ونظير هذا البحث وقع في وجوب قبول التوبة ، حيث ذهب المتكلمون إلى وجوب قبولها عليه تعالى و

ص: 224

خالف في ذلك بعض. وعلى كل حال مسألة استحقاق الثواب في امتثال الواجبات النفسية محل كلام ، فما ظنك بالواجبات الغيرية؟ فالأولى تحرير النزاع بالأعم من الاستحقاق ، (1) والتفضل.

ثم انه لا اشكال في أن استحقاق الثواب على القول به ، انما يتوقف على قصد الطاعة وامتثال الامر ، وليس هو من لوازم فعل ذات الواجب من دون قصد ذلك ، بداهة ان الاتيان بذات الواجب من دون قصد امتثال الامر مما لا يوجب استحقاق الثواب.

إذا عرفت هذا

فنقول : انه لا معنى للبحث عن استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيري ، لان امتثاله انما يكون بعين امتثال ذي المقدمة الذي تولد امره منها ، وليس له امر بحيال ذاته ، حتى يبحث عن استحقاق الثواب عند امتثاله ، من غير فرق في ذلك بين المقدمات الشرعية أو العقلية.

اما المقدمات الشرعية فواضح ، لان أمرها انما يكون بعين الامر المنبسط على الواجب بما له من الاجزاء والشرائط والموانع ، ويكون حال المقدمات الخارجية حال المقدمات الداخلية ، من حيث إن امتثال أمرها انما يكون بامتثال الامر الواقع على الجملة ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، بداهة تعلق الامر بالشرائط في ضمن تعلقه بالمركب ، ويكون امتثال الامر بالشرائط بعين امتثال الامر بالمركب ، وينبسط الثواب على الجميع ، ويختلف سعة دائرة الثواب وضيقه بسعة المركب وضيقه ، فلا معنى للبحث عن أن امتثال الامر بالمقدمات الشرعية يوجب استحقاق الثواب ، وذلك واضح.

اما المقدمات العقلية : فما كان منها من قبيل الأسباب التوليدية ، فقد عرفت في بعض المباحث السابقة ان الامر بالسبب امر بالمسبب وكذا العكس ، لان

ص: 225


1- والانصاف : ان البحث عن التفضل مما لا ينبغي لسعة فضله ( تعالى ) فلا معنى للبحث عن تفضله بالثواب على الواجبات الغيرية ، فالأولى : ابقاء عنوان النزاع على حاله من استحقاق الثواب ، غايته انه يبنى البحث على استحقاق الثواب في الواجبات النفسية ، ويكون التكلم في المقام بعد الفراغ عن ذلك - منه.

المسبب يكون عنوانا للسبب ويكون وجوده بعين وجود سببه ويتحد معه في الوجود بنحو من الاتحاد ، فليس هناك أمران : تعلق أحدهما بالسبب والآخر بالمسبب ، حتى يبحث عن استحقاق الثواب على امتثال امر السبب ، بل هناك امر واحد وله امتثال فارد ، وذلك أيضا واضح.

واما ما كان منها من قبيل المعدات ، فقد يتوهم جريان البحث فيه ، حيث إنه قد تعلق بالمعد امر مقدمي ، فيبحث عن استحقاق الثواب عند امتثال ذلك الامر هذا.

ولكن الانصاف انه أيضا لا مجال للبحث عن ذلك ، لان الامر المقدمي بالمعد انما تولد من الامر بذى المقدمة ، فليس له امتثال بحيال ذاته ، بل امتثاله انما يكون بامتثال الامر الذي تولد هو منه ، وليس له امتثال على غير هذا الوجه ، فيسقط البحث عن استحقاق الثواب عند امتثال الواجب الغيري بالمرة ، فتأمل في المقام.

( الامر الثاني )

قد أشكل في الطهارات الثلث ، أولا في وجه استحقاق الثواب عند فعلها المعلوم بالضرورة ، مع أن أوامرها غيرية لمكان مقدميتها للصلاة ، وقد تقدم ان الامر الغيري لا يقتضى استحقاق الثواب.

وثانيا ان الأوامر الغيرية كلها توصلية ، لا يعتبر في سقوطها قصد امتثال أمرها والتعبد بها ، مع قيام الضرورة على اعتبار قصد التعبد بالطهارات الثلث.

وهذان الاشكالان قد ذكرهما الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) وتبعه صاحب الكفاية ( قده ) (2) ولكن الشيخ ( قده ) قد قرر الاشكال في كتاب الطهارة عند البحث عن نية الوضوء بوجه آخر (3) ولعله يرجع إلى اشكال ثالث.

ص: 226


1- راجع مطارح الأنظار ، مباحث مقدمة الواجب - « هداية ، لا ريب في استحقاق العقاب عقلا على مخالفة الواجب النفسي .. » ص 66
2- كفاية الأصول - الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري ، التذنيب الأول ص 175
3- كتاب الطهارة ، لأستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري. الركن الثاني ، في كيفية نية الوضوء ، الامر الأول مما لزم التنبيه عليه ، فيما بقى في نية الوضوء. ص 80

وحاصل ما ذكره في ذلك المقام : هو انه لا اشكال في أن نفس أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات ليست مقدمة للصلاة ، إذ ليست هذه الأفعال رافعة للحدث ، أو مبيحة للصلاة التي يكون الوضوء بهذا الاعتبار مقدمة لها ، بل المقدمة هو الوضوء المتعبد به وما يكون عبادة ، ولا اشكال أيضا ان العبادية تتوقف على الامر ، إذ لا يقع الشيء عبادة الا بقصد امتثال امره.

وبعد ذلك نقول : انه يتوقف رافعية الحدث للوضوء على أن يكون عبادة ، ويتوقف عباديته على الامر الغيري ، إذ المفروض انه لا امر له سوى ذلك ، والامر الغيري يتوقف على أن يكون الوضوء عبادة ، إذ الامر الغيري لا يقع الا على ما كان بالحمل الشايع مقدمة ، والوضوء العبادي يكون بالحمل الشايع مقدمة ، فلابد ان يكون عبادة قبل تعلق الامر الغيري به ، والمفروض ان عباديته تتوقف على الامر الغيري ، إذ لا امر له سوى ذلك حسب الفرض ، فيلزم الدور.

والانصاف ان الشيخ ( قده ) قد بعد المسافة في تقرب الاشكال ، لأنه قال في تقرير الدور ما لفظه : « فتحقق الامر الغيري يتوقف على كونه مقدمة ، ومقدميته بمعنى رفعه للمانع متوقفة على اتيانه على وجه العبادة المتوقفة على الامر به ، فيلزم الدور » انتهى. فإنه لا وجه لاخذ اتيانه على وجه العبادة من أحد المقدمات إذ لا ربط للاتيان وعدم الاتيان بالدور ، بل الدور انما يتوجه في مرحلة الجعل والامر ، فلا يحتاج إلى هذه المقدمة ، بل الأولى في تقريب الدور هو ان يقال : ان الامر الغيري يتوقف على أن يكون الوضوء عبادة ، وعباديته تتوقف على الامر الغيري ، فيلزم الدور المصرح ، فتأمل.

ثم لا يخفى عليك ان هذا الاشكال لا ربط له بالاشكال الثاني الذي ذكره في التقريرات ، فان ذلك الاشكال مبنى على أن الامر الغيري لا يقتضى العبادية بل هو توصلي. وهذا الاشكال يتوجه بعد الغض عن ذلك ، وتسليم اقتضاء الامر الغيري التعبدية ، ومع ذلك يلزم الدور ، كما هو واضح هذا.

ص: 227

ولكن لا يذهب عليك ، ان هذه الاشكالات كلها مبنية على أن جهة عبادية الوضوء انما تكون من ناحية امره الغيري ، وهو بمعزل عن التحقيق ، بل الوضوء انما يكتسب العبادية من ناحية الامر النفسي المتوجه إلى الصلاة بما لها من الاجزاء والشرائط ، بداهة ان نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الفاتحة إليها من الجهة التي نحن فيها ، حيث إن الوضوء قد اكتسب حصة من الامر بالصلاة لمكان قيديته له ، كاكتساب الفاتحة حصتها من الامر الصلواتي لمكان جزئيتها ، فكما ان الفاتحة اكتسبت العبادية من الامر الصلواتي ، كذلك الوضوء اكتسب العبادية من الامر الصلواتي بعد ما كان الامر الصلواتي عباديا ، وكذا الحال في الغسل والتيمم.

فان قلت : نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الستر والاستقبال إليها ، فكيف اكتسب الوضوء العبادية ، ولم يكتسب الستر والاستقبال العبادية؟.

قلت : التفاوت بين الطهارات الثلث وغيرها من القيود التي لا يعتبر ايقاعها على وجه العبادية ، انما هو من ناحية الملاك ، حيث إن الملاك الذي اقتضى قيدية الوضوء للصلاة اقتضاه على هذا الوجه ، أي وقوعه على وجه العبادية ، بخلاف ملاكات سائر الشروط ، حيث لم تقتضي ذلك.

والحاصل : ان عبادية الامر الصلواتي انما يكون بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله ، وذلك المتمم انما اقتضى عبادية الامر بالنسبة إلى خصوص الاجزاء والطهارات الثلث ، دون غيرها من الشرائط ، ولا منافاة في ذلك بعد ما كان استكشاف العبادية بأمر آخر اصطلحنا عليه بمتمم الجعل.

فتحصل ان الوضوء انما اكتسب العبادية من الامر الصلواتي ، والامر الغيري بالوضوء على القول به انما يكون متأخرا عن الامر الصلواتي الذي اخذ الوضوء حصة منه ، فالامر الغيري لايكون له جهة العبادية ، حتى يستشكل بان الأوامر الغيرية توصلية ، وكذا عبادية الوضوء لا يتوقف على الامر الغيري ، وان كان الامر الغيري متوقفا عليها ، فلا دور.

واما مسألة الثواب فقد عرفت الوجه فيها في الامر المتقدم ، فترتفع الاشكالات بحذافيرها.

ص: 228

ثم لو أغمضنا عن ذلك كله ، كان لنا التفصي عن الاشكالات بوجه آخر يختص بالوضوء والغسل فقط ، ولا يجرى في التيمم. وحاصل ذلك الوجه ، هو ان الوضوء والغسل لهما جهة محبوبية ذاتية ومطلوبية نفسية أوجبت استحبابهما قبل الوقت ، وعروض الوجوب لهما بعد الوقت لا ينافي بقاء تلك الجهة وان قربت بعد الوقت وحصلت لها شدة أوجبت الوجوب.

والحاصل : ان عروض ملاك الوجوب على ملاك الاستحباب لا يوجب انعدام الملاك الاستحبابي ، وحدوث ملاك آخر للوجوب ، بل غايته تبدل الاستحباب بالوجوب وفوات الرخصة من الترك التي كانت قبل الوقت ، مع اندكاك الملاك الاستحبابي في الملاك الوجوبي ، نظير اندكاك السواد الضعيف في السواد الشديد.

ولكن لا يخفى عليك ، ان ما ذكرناه من تبدل الاستحباب بالوجوب ، فإنما هو بالنسبة إلى الوجوب النفسي الثابت للوضوء بعد الوقت ، لا الوجوب الغيري له ، فان التبدل بالوجوب الغيري لا يعقل لاختلاف المتعلق.

ولا بأس بالإشارة إلى ضابط تبدل الاحكام بعضها مع بعض ، ليتضح المقصود في المقام.

فنقول :

ضابط التبدل هو ان يتعلق الوجوب بعين ما تعلق به الاستحباب ، كما لو نذر صلاة الليل ، فان الامر الاستحبابي انما تعلق بذات صلاة الليل لا بما انها مستحبة ، والنذر أيضا انما يتعلق بالذات ، إذ لا يمكن ان يتعلق النذر بصلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لأنها بالنذر يصير واجبة فلا يمكنه اتيانها بوصف الاستحباب ، فلابد ان يتعلق النذر بالذات ، فيكون الامر الوجوبي الجائي من قبل النذر متعلقا بعين ما تعلق به الامر الاستحبابي ، فيتبدل الامر الاستحبابي بالامر الوجوبي ، ويكتسب الامر الوجوبي التعبدية ، كما اكتسب الامر الاستحبابي الوجوب ، فان الامر النذري وان كان توصليا ، الا انه لما تعلق بموضوع عبادي اكتسب التعبدية ، فتأمل.

ص: 229

فتحصل : ان تبدل حكم إلى غيره ، انما يكون بوحدة المتعلق ، وتعلق الثاني بعين ما تعلق به الأول. وأما إذا لم يكن كذلك ، بل تعلق الثاني بما تعلق به الأول بقيد كونه مأمورا به بالامر الأول ، ففي مثل هذا لا يعقل التبدل كما في صلاة الظهر ، حيث اجتمع فيها أمران : امر تعلق بذاتها وهو الامر النفسي العبادي الذي لا يسقط الا بامتثاله والتعبد به ، ولمكان كون صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر - حيث إن فعلها شرط لصحتها - قد تعلق بها امر آخر مقدمي ، ولكن الامر المقدمي قد تعلق بصلاة الظهر بقيد كونها مأمورا بها بالامر النفسي وبوصف وقوعها عبادة امتثالا لأمرها النفسي ، حيث إن ذات صلاة الظهر لم تكن مقدمة لصلاة العصر ، بل المقدمة هي صلاة الظهر المتعبد بها بالامر النفسي ، والامر المقدمي انما يقع على ما هو مقدمة ، فيختلف موضوع الامر النفسي مع موضوع الامر المقدمي ، ولا يتحدان ، فلا يمكن التبدل في مثل هذا ، فلو قصد الامر المقدمي في فعل صلاة الظهر تقع باطلة ، فان الامر المقدمي يكون توصليا ولا يكتسب التعبدية ، لاختلاف متعلق الامر العبادي مع الامر التوصلي.

وكذا الحال بالنسبة إلى الصوم حيث يكون للاعتكاف. ومثل ذلك أيضا الامر الإجاري عند استيجار شخص لعبادة فان المستأجر عليه هو العبادة المأمور بها بالنسبة إلى المنوب عنه ، وهي بهذا الوصف تقع متعلقا للإجارة ، فلا يعقل ان يتحد الامر الجائي من قبل الإجارة مع الامر المتعلق بالعبادة ، حيث إن الامر العبادي انما تعلق بالذات ، والامر الإجاري تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها بالنسبة إلى المنوب عنه ، فلا اتحاد. ومن هنا يظهر : انه لا يمكن تصحيح عبادة الاجراء ، بقصد امتثال الامر الإجاري ، وللكلام محل آخر.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الوضوء قبل الوقت كان امره استحبابيا ، وبعد الوقت يكون وجوبيا بالامر الصلواتي ، ولمكان اتحاد المتعلق يتبدل الامر الاستحبابي بالامر الوجوبي ، حيث إن الامر الاستحبابي قبل الوقت قد تعلق بالذات ، والامر الوجوبي النفسي العارض من جهة الامر بالصلاة بعده أيضا تعلق بالذات ، فيتبادلان. واما الامر الغيري العارض له بعد الامر بالصلاة ، فلا يعقل ان يتحد مع

ص: 230

الامر الاستحبابي أو النفسي ، لان الامر الغيري اما يعرض على ما هو بالحمل الشايع مقدمة ، والوضوء المأمور به بالامر الصلواتي يكون مقدمة ، فيكون حال الوضوء بالنسبة إلى الامر النفسي والامر الغيري كحال صلاة الظهر التي تكون مقدمة لصلاة العصر من حيث عدم تبدل أمريها ، وبالنسبة إلى الامر النفسي والامر الاستحبابي كحال نذر صلاة الليل من حيث التبدل ، فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر : ان قصد الامر الغيري لا يكفي في وقوع الوضوء عبادة ، لان العبرة في وقوع الشيء عبادة هو قصد امره المتعلق به نفسه ، لا قصد الامر المتعلق به بوصف كونه مأمور به بأمره الذي تعلق به أولا وبالذات فتأمل.

ثم انه قد بقى في المقام بعض الفروع المتعلقة بباب الطهارات ، قد تعرض لها الشيخ ( قده ) في كتاب الطهارة (1) وأشار إليها شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام.

منها : انه هل يعتبر في وقوع الطهارات بل كل مقدمة عبادية قصد فعل ذي المقدمة ولا يكفي قصد أمرها الغيري من دون قصد امتثال امر ذي المقدمة ، أو انه لا يعتبر ذلك؟ والأقوى اعتبار ذلك ، لان امتثال الامر الغيري بنفسه لا يوجب قربا من دون امتثال امر ذيها ، فلا يقع الستر أو الاستقبال مثلا عبادة بقصد أمرهما الغيري مع عدم القصد إلى الصلاة.

ومنها : انه لو توضأ بقصد الصلاة ثم بداله عدم الصلاة ، فلا ينبغي الاشكال في صحة وضوئه ، لان قصد الصلاة عند فعل الوضوء يكون شرطا لصحته ، مع قطع النظر عن كونه بنفسه عبادة ، أو نفرض الكلام في التيمم ، فإذا قصد ذلك يقع وضوئه صحيحا ورافعا للحدث ، ويجوز فعل كل مشروط بالطهارة ، كما لا يخفى. ولا يقتضى المقام تفصيل ذلك ، فإنه من المسائل الفرعية الخارجة عن عنوان البحث. هذا تمام الكلام في الواجب النفسي والغيري.

ص: 231


1- طهارة الشيخ قدس سره ، الركن الثاني ، في كيفية نية الوضوء ، الكلام هنا في مقامات ، المقام الأول ، الثالث ص 82 - 81
وينقسم الواجب ، باعتبار آخر إلى تعييني وتخييري.

وقد يستشكل في تصوير الواجب التخييري ، وانه كيف يعقل تعلق إرادة الآمر بأحد الشيئين أو الأشياء من غير تعيين؟ مع عدم امكان تعلق إرادة الفاعل بذلك ، لوضوح ان إرادة الفاعل المستتبعة لحركة العضلات لا تتعلق الا بمعين محدود بحدوده الشخصية ، ولا يعقل تعلقها بأحد الشيئين على وجه الابهام والترديد ، فإذا لم يعقل تعلق إرادة الفاعل على هذا الوجه ، فكيف يعقل تعلق إرادة الآمر بذلك؟ ومن هنا اختلفت الكلمات في كيفية الواجب التخييري. والوجوه العلمية التي ذكروها في المقام ترجع إلى أربعة :

الوجه الأول :

هو ان الواجب في الواجب التخييري ، الكلي الانتزاعي ، وهو عنوان ( أحدها ) ولا مانع من تعلق التكليف بالأمور الانتزاعية إذا كان منشأ انتزاعها بيد المكلف ، ولم تكن من أنياب الأغوال ، وواضح ان هذا العنوان الانتزاعي قابل للانطباق على كل من افراد الواجب المخير ، فإنه يصدق على كل من العتق والصيام والاطعام عنوان ( أحدها ) فيكون هو متعلق التكليف هذا.

ولكن يرد عليه

ان ذلك خلاف ظواهر الأدلة المتكفلة لبيان الواجب التخييري ، حيث إن الظاهر منها ، كون كل من الخصال واجبا ، لا ان الواجب هو عنوان ( أحدها ).

والحاصل : ان هذا الوجه وان كان ممكنا ثبوتا ، ولا محذور فيه عقلا ، الا انه خلاف ظواهر الأدلة لا يصار إليه الا بقرينة معينة ، أو انحصار الوجه في ذلك وعدم تمامية الوجوه الآتية.

الوجه الثاني :

هو ان يكون الوجوب في كل واحد من افراد التخيير مشروطا بعدم فعل الاخر ، فيكون العتق واجبا عند عدم الصيام والاطعام ، وكذا العكس ، فتكون الإرادة قد تعلقت بكل على نحو الواجب المشروط ، وذلك انما يكون إذا كان لكل من الصيام والعتق والاطعام ملاك يخصه ، ولكن لا يمكن الجمع بين الملاكات و

ص: 232

كان استيفاء واحد منها مانعا عن استيفاء الباقي ، فإذا كان كذلك فلا بد من ايجاب الكل على نحو الواجب المشروط ، إذ تخصيص الوجوب بأحدهما يكون بلا مرجح ، هذا.

ولكن يرد عليه : أولا : انه لا يتوقف الواجب التخييري على أن يكون لكل من الافراد ملاك يخصه ، بل يمكن ان يكون هناك ملاك واحد قائم بكل من الافراد ، غايته انه يحتاج إلى جامع بينها حتى لا يصدر الواحد من المتعدد. وسيأتي توضيح ذلك.

وثانيا : لو فرض ان هناك ملاكات متعددة ، ولكن بعد فرض وقوع التزاحم والتمانع بينها في المرتبة السابقة على الخطاب لا يمكن ان يكون كل واحد منها تاما في الملاكية ، إذ الملاك المزاحم بغيره لايكون تاما في ملاكيته ، فبالآخرة يرجع إلى أن الملاك التام واحد ، والعبرة بالملاك التام ، ومع وحدة الملاك لا تكون الافراد من الواجب المشروط ، إذ مبنى ذلك كان على تعدد الملاكات.

نعم : لو وقع التزاحم في المرتبة المتأخرة عن الخطاب لمكان عدم القدرة على الجمع بين متعلقي الخطابين - كما في انقاذ الغريقين - كان الخطاب في كل واحد مشروطا بعدم فعل متعلق الاخر ، إذا قلنا في باب التزاحم بسقوط اطلاق الخطابين ، لا أصل الخطابين ، كما سيأتي تفصيله في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى ، لان الملاك في كل واحد يكون تاما ، وانما المانع عدم قدرة المكلف على الجمع بين المتعلقين ، ولمكان اشتراط كل تكليف بالقدرة يكون الخطاب في كل مشروطا بعدم فعل الآخر ، لثبوت القدرة على هذا الوجه.

والحاصل : انه فرق بين عروض التزاحم في المرتبة المتأخرة عن الخطاب بعد تمامية الملاك في كل من المتعلقين ، وبين وقوع التزاحم في المرتبة السابقة على الخطاب لمكان التمانع بين الملاكات ، ففي الأول يكون الخطاب في كل مشروطا بعدم الاخر ، لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة ، وينتج نتيجة ، الواجب التخييري ، حيث يكون المكلف مخيرا في اختيار أيهما شاء.

وفى الثاني لايكون الخطاب بكل مشروطا بعدم الاخر ، إذ ليس هناك الا

ص: 233

ملاك واحد ، ومع وحده الملاك وانطباقه على كل واحد من الخصال مثلا لا يمكن ان يكون التكليف بكل واحد مشروطا بعدم فعل الآخر ، إذ يلزم فعلية جميع التكاليف عند ترك فعل الكل ، لتحقق شرط الوجوب في كل واحد ، ولازم ذلك تعدد العقاب وهو ضروري البطلان إذ ليس في ترك الواجب التخييري الا عقاب واحد ، مع أنه كيف يعقل ان يكون هناك واجبات متعددة فعلية مع وحدة الملاك؟ وهذا بخلاف الاشتراط الناشئ عن تزاحم الخطابين ، فان تعدد العقاب لا مانع منه ، وفعلية كل من الواجبين لا محذور فيه لتمامية الملاك في كل منهما ، كما سيأتي تفصيله في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى. مع أن ارجاع الواجب التخييري إلى الواجب المشروط خلاف ظاهر الأدلة ، حيث إن الواجب المشروط لابد ان يكون مشروطا بأحد أدوات الشرط فتأمل جيدا.

( الوجه الثالث )

هو ان الواجب في الحقيقة في الواجب التخييري هو الجامع بين الافراد الذي يؤثر في الملاك الواحد ، لوضوح ان المتعدد بما هو متعدد لا يمكن ان يقتضى اثرا واحدا ، لان الواحد لا يصدر الا من واحد ، فلا بد ان يكون هناك جامع بين الافراد يقتضى الأثر الواحد ، ويكون الواجب هو ذلك الجامع ، فيرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

فان وجود الجامع بين الافراد وان كان مما لا بد منه فرارا عن المحذور المتقدم ، الا انه ليس كل جامع ينفع في التخيير العقلي ، بل يعتبر في الجامع ان يكون أمرا قريبا عرفيا يصح تعلق التكليف به بنفسه ، بحيث يكون من المسببات التوليدية ، بل لا يكفي مجرد كونه سببا توليديا ، إذ التسخين يكون من المسببات التوليدية ، لكل من الشمس والنار ، ومع ذلك ليس بينهما جامع قريب عرفي ، وان كان بينهما جامع عقلي لا محالة ، وتباين افراد خصال الكفارة عرفا ليس بأدون من تباين الشمس والنار ، فلا يمكن ارجاع التخيير بينهما إلى التخيير العقلي ، لما عرفت من أنه يعتبر في التخيير العقلي ان يكون الجامع بين الافراد جامعا قريبا عرفيا ، كالماء ، و

ص: 234

الانسان ، والحيوان ، وغير ذلك من العناوين المنطبقة على الافراد الخارجية ، فهذا الوجه أردء من الوجهين السابقين.

( الوجه الرابع )

هو الذي اختاره شيخنا الأستاذ مد ظله ، وحاصله : انه لا مانع من تعلق إرادة الامر بكل واحد من الشيئين أو الأشياء على وجه البدلية ، بان يكون كل واحد بدلا عن الاخر ، ولا يلزم التعيين في إرادة الامر بان تتعلق ارادته بأمر معين ، بل يمكن تعلق إرادة الآمر بأحد الشيئين بهما ، وان لم يمكن تعلق إرادة الفاعل بذلك ، ولا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه. مثلا لا اشكال في تعلق إرادة الآمر بالكلي ، مع أن إرادة الفاعل لا يعقل ان تتعلق بالكلي مجردا عن الخصوصية الفردية.

والحاصل : ان بعض الخصوصيات من لوازم الإرادة الفاعلية ، حيث إن الإرادة الفاعلية انما تكون مستتبعة لحركة عضلاته ولا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردد ، وهذا بخلاف إرادة الآمر ، فإنه لو كان كل من الشيئين أو الأشياء مما يقوم به غرضه الوجداني ، فلا بد ان تتعلق ارادته بكل واحد لا على وجه التعيين بحيث يوجب الجمع ، فان ذلك ينافي وحدة الغرض ، بل على وجه البدلية ، ويكون الاختيار ح بيد المكلف في اختيار أيهما شاء ، ويتضح ذلك بملاحظة الأوامر العرفية ، فان امر المولى عبده بأحد الشيئين أو الأشياء بمكان من الامكان ، ولا يمكن ارجاعه إلى الكلي المنتزع كعنوان ( أحدهما ) ، فان ذلك غير ملحوظ في الأوامر العرفية قطعا ولا يلتفت إليه ، فلتكن الأوامر الشرعية كذلك ، فالإرادة في الواجب التخييري سنخ من الإرادة في قبال الإرادة المشروطة أو الإرادة المطلقة بشيء معين ، فتأمل جيدا.

بقى في المقام : التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو مع ملاحظة الأقل لا بشرط لا يعقل ، ومع ملاحظته بشرط لا بمكان من الامكان ، ويخرج حينئذ عن الأقل والأكثر ، لمباينة الشيء بشرط لا مع الشيء بشرط شيء كما هو واضح. هذا تمام الكلام في الواجب التعييني والتخييري.

وينقسم الواجب أيضا : إلى عيني وكفائي

والبحث في الواجب الكفائي هو البحث في الواجب التخييري ، غايته ان

ص: 235

البحث في الواجب التخييري كان بالنسبة إلى المكلف به ومتعلق التكليف ، وفي الكفائي بالنسبة إلى الفاعل والمكلف ، ويكون المكلف هو جميع الآحاد وجميع الأشخاص على وجه يكون كل واحد بدلا عن الآخر ، ومن هنا يتجه عقاب الجميع عند ترك الكل ، أو ثواب الجميع عند فعل الكل دفعة واحدة ، لعصيان كل واحد حيث إنه ترك متعلق التكليف لا إلى بدل ، أي مع عدم قيام الآخر به ، وإطاعة كل واحد حيث فعل متعلق التكليف ، وقد أطال شيخنا الأستاذ مد ظله البحث في ذلك ، ولقلة فائدته قد تسامحنا في كتابته.

وينقسم الواجب : إلى موقت وعير موقت

والموقت إلى مضيق وموسع ، ولا اشكال في امكان كل واحد من ذلك ووقوعه في الشريعة ،

نعم : ربما يستشكل في المضيق بأنه لا يعقل اتحاد زمان البعث والانبعاث ، بل لابد من تقدم البعث ولو آنا ما ، ولكن سيأتي في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى ضعف هذا الاشكال ، وعدم اختصاصه بالمضيق فانتظر.

ثم انه وقع البحث في الموقتات ، في أن الأصل يقتضى سقوط الواجب فيما بعد الوقت ، أو ان الأصل يقتضى عدم سقوطه. وبعبارة أخرى : وقع البحث في دلالة الامر بالموقت على بقاء الوجوب بعد الوقت وعدم دلالته ، وربما يعنون البحث بان القضاء هل هو بالامر الأول أو بأمر جديد؟ ولا يخفى ما في هذا التعبير من المسامحة ، لوضوح ان لا معنى لتسمية الفعل قضاء مع دلالة الدليل الأول على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، بل يكون الواجب بعد الوقت هو ذلك الواجب بعينه قبل الوقت ، فلا معنى لاطلاق القضاء عليه ، وعلى كل حال ان البحث في الواجب الموقت يقع من جهات.

( الجهة الأولى )

في دلالة الامر على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، وهو المراد من كون القضاء بالامر الأول ، والوجوه المحتملة في ذلك ثلاثة :

الأول : دلالة الامر على ذلك مط ، سواء كان التوقيت بالمتصل أو المنفصل.

ص: 236

الثاني : عدم دلالته على ذلك مط.

الثالث : التفصيل بين المتصل فلا دلالة فيه ، والمنفصل فيدل على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، ولكن إذا لم يكن لدليل القيد اطلاق ، وهذا هو الذي اختاره في الكفاية (1).

والأقوى : هو الوجه الثاني ، ووجهه ظاهر ، لان التقييد بالوقت يكون كالتقييد بغيره من الأوصاف والملابسات ، وقد بينا في محله وجه حمل المط على المقيد مط متصلا كان أو منفصلا ، وعدم صحة حمل دليل القيد على كونه واجبا في واجب ، أو كونه أفضل الافراد ، ولا خصوصية لقيدية الوقت ، فكما ان التقييد بالايمان يوجب انحصار الواجب في المؤمنة وعدم وجوب عتق الكافرة من غير فرق بين المتصل والمنفصل ، فكذا التقييد بالوقت. وما ذكره في الكفاية من التفصيل مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان دليل التوقيت اما ان يدل على التقييد واما ان لا يدل ، فان دل على التقييد فلا يمكن دلالته على بقاء الوجوب بعد ذلك واستفادة كونه من قبيل تعدد المطلوب ، وان لم يدل على التقييد فيخرج عن كونه واجبا موقتا.

والحاصل : انه مع كون الواجب موقتا لا يمكن دعوى ان التقييد بالوقت يكون على نحو تعدد المطلوب وانه من قبيل الواجب في واجب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل. فوجوب الفعل في خارج الوقت يحتاج إلى دليل ، ولا يكفي الدليل الأول.

( الجهة الثانية )

لا اشكال في قيام الدليل في بعض الموارد على وجوب الفعل في خارج الوقت عند فوته في الوقت كالفرائض اليومية ، وصوم رمضان ، والنذر المعين ، فح يقع البحث في أنه بعد قيام الدليل على ذلك هل يكون التقييد بالوقت من باب تعدد المطلوب وكونه واجبا في واجب؟ أو يكون من باب التقييد ولكن قيديته مقصورة

ص: 237


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ، ص 230 « ثم انه لا دلالة للامر بالموقت بوجه .. »

بحال التمكن ، كما هو الشأن في سائر القيود المعتبرة في العبادة ما عدا الطهور ، حيث تكون مقصورة بحال التمكن وتسقط عند التعذر ، لا ان المقيد يسقط ، لان الصلاة لا تسقط بحال ، أو انه لايكون هذا ولا ذاك ، بل يكون القضاء واجبا آخر مغايرا للواجب الأول بحسب العنوان ، وليس هو ذلك الواجب بعينه وانما سقط قيده.

ولا يخفى عليك الفرق بين الوجوه الثلاثة ، فإنه لو كان من قبيل الواجب في واجب ، لكان اللازم عند ترك القيد عمدا حصول الامتثال بالنسبة إلى أصل الواجب وان تحقق العصيان بالنسبة إلى الواجب الآخر ، ولو كان من قبيل القيدية المقصورة بحال التمكن كان اللازم عدم حصول الامتثال عند ترك القيد عمدا مع التمكن منه ، ولكن هذا انما يثمر بالنسبة إلى غير التقييد بالوقت من سائر القيود التي يمكن فيها الاتيان بالمقيد بدون القيد كالصلاة بلا ركوع مع التمكن ، واما بالنسبة إلى التقييد بالوقت فلا يتحقق اثر بين الوجهين ، إذ لا يعقل وقوع الصلاة في خارج الوقت مع كونها في الوقت ، فلا فرق بين ان يكون قيدية الوقت من باب الواجب في واجب ، أو من باب القيدية المقصورة بحال التمكن.

نعم : ثبوتا يمكن ان يكون على أحد الوجهين ، كما يمكن ان يكون على الوجه الثالث ، وهو اختصاص الواجب بما كان في الوقت والذي يجب خارجه هو واجب آخر أجنبي عما وجب في الوقت ، وان اشتمل على مقدار من مصلحة ذلك الواجب.

والفرق بين هذا الوجه والوجهين الأولين : هو ان الواجب في خارج الوقت بناء على الوجهين الأولين ، هو ذلك الواجب في الوقت بعينه ، وانما الساقط قيد من قيوده ، أو واجب آخر الذي كان يجب في ذلك الظرف ، ويكون وجوبه في خارج الوقت بنفس العنوان الذي كان يجب قبله ، وهذا بخلاف الوجه الثالث فإنه يكون ح واجبا آخر مغايرا للواجب الأول ومعنونا بغير ذلك العنوان.

والحاصل : انه لو لم يقم دليل على وجوب القضاء كان مقتضى الدليل ، القيدية المطلقة التي يسقط فيها المقيد عند تعذر القيد ، ولا يكون من قبيل تعدد المطلوب ، ولا من قبيل كون القيدية مقصورة بحال التمكن ، من غير فرق بين ان

ص: 238

يكون دليل التوقيت متصلا أو منفصلا كما عرفت ، ولكن بعد قيام الدليل على القضاء يمكن ان يستظهر منه أحد الوجوه الثلاثة ، فإنه لا مانع من كل منها ثبوتا.

ولكن الانصاف : انه لا سبيل إلى أحد الوجهين الأولين ، لان الظاهر من قوله علیه السلام (1) ( اقض ما فات ) هو ان الواجب في خارج الوقت امر آخر مغاير لما وجب أولا ، وان ما وجب أولا قد فات ، وان هذا الواجب هو قضاء ذلك.

وبالجملة دلالة لفظة القضاء والفوت على أنه لم يكن التوقيت من قبيل تعدد المطلوب ولا من قبيل القيدية المقصورة بحال التمكن ، مما لا تخفى ، لأنه لو كان على أحد الوجهين لا يستقيم التعبير بالفوت ، إذ بناء عليهما لم يتحقق فوت ، بل كان ذلك الواجب هو بعينه باق ، فيظهر منه ان الواجب في خارج الوقت امر آخر مغاير لما وجب أولا ومعنون بعنوان آخر. ويدل على ذلك أيضا انه ربما يتحقق الفعل زمانا بين وجوب الأداء ووجوب القضاء ، كما إذا لم يبق من الوقت مقدار ركعة ولم يتحقق الغروب بعد ، فإنه لم يكن مكلفا في هذا المقدار من الزمان إلى أن يتحقق الغروب لا بالأداء ولا بالقضاء ، فيظهر منه ان المكلف به في خارج الوقت مغاير لما كلف به أولا ، فتأمل.

( الجهة الثالثة )

بعد ما ثبت ان القضاء انما يكون بأمر جديد ، ويكون الواجب في خارج الوقت مغايرا لما وجب في الوقت ، فيقع البحث ح عن موضوع ما يجب في خارج الوقت وانه هل يمكن احراز موضوعه باستصحاب عدم الفعل في الوقت؟ وبعبارة أخرى : الفوت الذي اخذ موضوعا في دليل القضاء هل هو عبارة عن عدم الفعل في الوقت؟ حتى يجرى استصحاب عدم الفعل في الوقت ويحرز به الفوت ، أو ان الفوت ليس عبارة عن عدم الفعل ، بل هو ملازم لذلك ، فالاستصحاب لا ينفع »

ص: 239


1- راجع الوسائل ، الجزء 5 الباب 6 من أبواب قضاء الصلاة الحديث 1 ص 359 وفي متن الخبر « يقضى ما فاته كما فاته »

الا بناء على اعتبار الأصل المثبت.

ثم لا يخفى عليك : ان هذا البحث لا اثر له بالنسبة إلى قضاء الصلوات ، لجريان قاعدة الشك بعد الوقت الحاكمة على الاستصحاب المذكور. ومن هنا أشكلنا على الشيخ قده - عنه توجيه مقالة المشهور القائلين بوجوب قضاء الفوائت حتى يعلم بالبرائة مع أن قاعدة الشك في الأقل والأكثر الغير الارتباطي تقضى جريان البراءة فيما عدا المتيقن من الفوائت ، بان استصحاب عدم فعل المشكوك في وقته يقتضى وجوب قضائه - بما حاصله : ان الاستصحاب لا ينفع ولا يوجه به مقالة المشهور ، لجريان قاعدة الشك بعد الوقت ، كما اعترف هو ( قده ) بذلك ، بل لابد من العمل بما يقتضيه العلم الاجمالي فيما ذكره المشهور وقد بينا وجه مقالة المشهور في تنبيهات البراءة ، فراجع. وعلى كل حال البحث عن معنى الفوت لا اثر له في باب الصلاة.

نعم : تظهر الثمرة في سائر المقامات مما ثبت فيه القضاء كالصوم المعين ونحوه ، فلو قلنا : بان الفوت عبارة عن عدم الفعل في وقته فبأصالة عدم الفعل فيه يترتب وجوب القضاء ولو قلنا : ان الفوت ليس مجرد عدم الفعل ، بل هو عبارة عن خلو المحل عن الشيء وعدم وجوده مع أنه كان فيه اقتضاء الوجود وكان مما من شانه ان يوجد بحيث يبقى المحل خاليا عنه وهذا المعنى ملازم لعدم الفعل لا انه هو بعينه ، فيكون أصالة عدم الفعل مثبتة بالنسبة إلى ذلك ، ولا يتحقق بها موضوع الفوت ، فيكون المرجع في صورة الشك البراءة ، للشك في التكليف. وقد اختار هذا الوجه شيخنا الأستاذ مد ظله ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في اقسام الواجب

فلنشرع ح في مباحث الاجزاء ، والفور والتراخي ، والمرة والتكرار ، ولما كانت مباحث مسئلتي الفور والتراخي ، والمرة والتكرار ، قليلة الجدوى بل لا طائل تحتها كان الاعراض عنهما أجدر ، ولكن تبعا للقوم لا بأس بالإشارة الاجمالية إليهما أولا ، ثم نتكلم في مسألة الاجزاء فنقول :

ص: 240

اما مسألة المرة والتكرار

فقد أطالوا القول في البحث عنها ، وذهب إلى دلالة الامر على التكرار طائفة ، والى المرة طائفة أخرى ، وإذا لاحظت أدلة الطرفين ترى انها خالية عن السداد ولم يكن فيها ما يدل على المدعى ، فان من جملة أدلة القائلين بالتكرار ، هو تكرار الصلاة في كل يوم وهذا كما ترى ، فان تكرار الصلاة في كل يوم انما هو لمكان قيام الدليل ، وان الامر بالصلاة من قبيل الأوامر الانحلالية التي تتعدد حسب تعدد موضوعاتها ، وليس هذا محل الكلام ، بل محل الكلام في التكرار انما هو بالنسبة إلى موضوع واحد كتكرار اكرام العالم الواحد ، كما إذا قال : أكرم عالما ، ولا أظن أن يلتزم أحد في إفادة مثل هذا الامر للتكرار ، كما لا يستفاد منه المرة أيضا ، والاكتفاء بالمرة لمكان ان الامر لا يقتضى الا طرد العدم ، وهو يتحقق بأول الوجود ، لا ان الامر بالدلالة اللفظية يدل على ذلك ، فالبحث عن المرة والتكرار مما لا طائل تحته ، كالبحث عن الفور والتراخي ، فان الامر يصلح لكل منهما من دون ان يكون له دلالة لفظية على أحدهما.

فالأولى عطف الكلام إلى مسألة الاجزاء التي تعم بها البلوى.

فنقول :

ربما عنون في بعض الكلامات مسألة الاجزاء ، بان الامر هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ ولمكان ان التعبير بذلك فيه مسامحة واضحة - بداهة ان الاجزاء لا يستند إلى الامر وليس من مقتضياته ، بل يستند إلى فعل المكلف وما هو الصادر عنه - عدل المحققون وأبدلوا العنوان بان اتيان المأمور به على وجهه هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ ومعلوم ان المراد من قيد ( وجهه ) ليس الوجه الذي اعتبره المتكلمون في العبادة من قصد الوجوب أو الاستحباب أو جهتهما ، بل المراد منه الكيفية التي اعتبرت في متعلق الامر ، أي ان اتيان المأمور به على الوجه الذي امر به وبالكيفية التي تعلق الامر بها هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟.

ثم لا يخفى عليك : انه لا ربط لهذه المسألة بمسألة المرة والتكرار ، فان البحث عن مسألة المرة والتكرار انما هو في مفاد الامر بحسب ما يقتضيه من الدلالة ، و

ص: 241

البحث عن مسألة الاجزاء انما هو بعد الفراغ عن مفاد الامر ، فتكون تلك المسألة بمنزلة الموضوع لهذه المسألة ، فإنه لو قلنا بان الامر يدل على المرة يقع البحث في أن الاتيان بالمتعلق يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه ، وكذا لو قلنا بالتكرار فإنه يقع البحث في أن الاتيان بالتكرار بأي مقدار أريد من التكرار هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ نعم : لو قلنا بإفادته للتكرار ابدا تتحد نتيجة المسئلتين.

والحاصل : ان البحث في هذا المقام عقلي ، وفي ذلك المقام لفظي ، وعلى كل حال ان استقصاء الكلام في مسألة الاجزاء يتم برسم مقامات.

( المقام الأول )

في أن الاتيان بالمأمور به يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر ، أو لا يقتضيه؟ أي الاتيان بمتعلق الامر الواقعي الأولى يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر ويوجب سقوطه؟ أو لا يقتضيه؟ والآتيان بمتعلق الامر الواقعي الثانوي يقتضى الاجزاء من نفس ذلك الامر؟ أو لا يقتضيه؟ وكذا الحال في الامر الظاهري. والحاصل : انه يلاحظ كل امر بالنسبة إلى متعلقه ويبحث عن اقتضائه للاجزاء وعدم اقتضائه له.

( المقام الثاني )

في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي هل يقتضى الاجزاء عن الامر الواقعي الأولى عند تبدل الموضوع وزوال العذر في الوقت أو في خارجه؟ أو لا يقتضيه؟.

( المقام الثالث )

في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يقتضى الاجزاء عن الامر الواقعي؟ أو لا يقتضيه؟ عند انكشاف الخلاف ظنا أو علما.

اما الكلام في المقام الأول :

فالانصاف انه مما لا ينبغي فيه توهم عدم الاجزاء ، بل الاتيان بمتعلق كل امر يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر عقلا ، ويسقط به الامر قهرا ، فلا ينبغي البحث عن ذلك. نعم : ينبغي البحث عن مسألة تبديل الامتثال مع سقوط الامر. و

ص: 242

الذي يظهر من بعض الاعلام : ان تبديل الامتثال يكون على القاعدة ، وللمكلف ان يبدل امتثاله ، ويعرض عما امتثل به أولا ، ويأتي بالفعل ثانيا ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لا يمكن المساعدة على ذلك ، بل يحتاج تبديل الامتثال إلى قيام دليل على ذلك ، فان تبديل الامتثال يحتاج إلى عدم سقوط الغرض عند سقوط الامر ، كما لو امر بالماء لغرض الشرب واتى به العبد والمولى لم يشربه بعد ، فان الامر بالاتيان بالماء وان سقط الا ان الغرض بعد لم يحصل ، فللعبد تبديل الامتثال ورفع ما اتى به من الماء وتبديله بماء آخر ، فيحتاج تبديل الامتثال إلى بقاء الغرض أو مقدار منه ، وامكان قيام الفعل الثاني مقام الغرض.

وهذا كما ترى يحتاج في الشرعيات إلى دليل يكشف عن ذلك ، ومع عدم قيامه لا يمكن للمكلف التبديل من عند نفسه ، ولم نعثر في الشريعة على دليل يقوم على جواز تبديل الامتثال ، الا ما ورد (1) في باب إعادة الصلاة جماعة وان اللّه يختار أحبهما إليه ، وذلك مقصور أيضا على إعادة المنفرد صلوته جماعة ، أو إعادة الامام صلوته إماما لا مأموما ولا منفردا مرة واحدة ، وليس له الإعادة ثانيا وثالثا على ما هو مذكور في محله.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالامر الثانوي للاجزاء عن الامر الواقعي الأولى ، فالبحث فيه يقع في مقامين :

( المقام الأول )

في اقتضائه للاجزاء بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت عند استيعاب العذر لتمام الوقت وزواله بعد الوقت.

( المقام الثاني ) في اقتضائه للاجزاء بالنسبة إلى الإعادة عند زوال العذر في الوقت. 7

ص: 243


1- الوسائل ، الجزء 5 الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة الحديث 10 ص 457
اما المقام الأول :

فاجمال القول فيه ، انه لا محيص عن الاجزاء وعدم وجوب القضاء ، والسر في ذلك هو ان القيد الساقط بالتعذر كالطهارة المائية لابد ان لايكون ركنا مقوما للمصلحة الصلواتية مط ، والا لما امر بالصلاة مع الطهارة الترابية ، فان امره يكون ح بلا ملاك ، وهو مناف لمسلك العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، فمن نفس تعلق الامر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية عند تعذرها يستكشف عدم ركنية الطهارة المائية للصلاة ، وعدم قوام المصلحة الصلواتية بها في حال تعذرها ، وان الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لمصلحة الصلواتية التي لابد منها في الامر بها ، فلا بد من اجزائها وسقوط القضاء ، فان وجوب القضاء يدور مدار الفوت ، والمفروض انه لم يفت من المكلف شيء ، لفعله المكلف به الواجد للمصلحة الصلواتية. مع أنه لم يكن الشخص مكلفا الا بصلاة واحدة وقد اتى بها ، فأي موجب للقضاء؟ وأي شيء فات من المكلف حتى يقضيه؟ فلو وجبت في خارج الوقت والحال هذه كان ذلك واجبا آخر مستقلا أجنبيا عما نحن بصدده من قضاء ما فات من المكلف.

وحاصل الكلام : ان قيدية الطهارة المائية ، اما ان تكون ركنا في الصلاة مط ، وبها قوام مصلحتها في كلتا حالتي التمكن وعدمه ، واما ان لا تكون ركنا كذلك ، بل كانت ركنا في خصوص حال التمكن واما في غير ذلك الحال فليست بركن ولا تقوم بها المصلحة الصلواتية. فان كانت ركنا مط فلا يعقل الامر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية ، بل لابد من سقوط الامر الصلواتي كما في صورة فقد الطهورين ، وحيث انه امر بالصلاة كذلك ، فلا بد ان لايكون لها دخل لا في الخطاب بالصلاة ولا في الملاك الصلواتي وتكون الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لكل من الخطاب والملاك الذي يتقوم به الصلاة ، ولا محذور في أن يكون الشيء له دخل في الملاك في حال وليس له دخل في حال أخرى ، فتكون الطهارة المائية لها دخل في الملاك في حال التمكن ولا يكون لها دخل فيه في حال عدم التمكن ، فإذا كانت الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة للخطاب وللملاك الصلواتي ، اما على الوجه الذي كانت الصلاة مع الطهارة المائية واجدة له في حال التمكن منها ، بان تكون تلك

ص: 244

المصلحة بما لها من المرتبة قائمة بالصلاة مع الطهارة الترابية عند عدم التمكن ، فان ذلك بمكان من الامكان كما لا يخفى ، واما لا على ذلك الوجه بل دون تلك المصلحة ولكن كانت واجدة لأصل المصلحة الصلواتية ، فان هذا المقدار مما لا محيص عنه لكشف الامر انا عن ذلك. فلا يعقل القضاء ح إذا لم يفت من المكلف شيء حتى يقضيه. اما على الوجه الأول فواضح ، فإنه تكون الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لجميع الملاك بماله من المرتبة ، فلم يتحقق فوت شيء أصلا.

واما على الوجه الثاني ، فلانه وان فات من المكلف مقدار من المصلحة ، الا ان ذلك المقدار مما لا يمكن استيفائه ، لان استيفائه انما يكون في طي استيفاء المصلحة الصلواتية وفي ضمنه ، والمفروض ان المكلف قد استوفى المصلحة الصلواتية في ضمن الطهارة الترابية ، فلا يمكنه استيفاء مصلحة الطهارة المائية ، إذ ليست مصلحتها قائمة بنفسها بل في ضمن الصلاة ، مع أن القضاء لا يدور مدار فوت المصحلة ، بل يدور مدار فوت المكلف به ، والمفروض انه قد اتى به في وقته فلا يمكن قضائه.

واما المقام الثاني :

وهو سقوط الإعادة ، فقد اتضح وجهه مما ذكرناه في سقوط القضاء ، إذ الكلام فيه هو الكلام في القضاء ، فإنه بعد البناء على جواز البدار لذوي الاعذار اما مط ، أو مع القطع بعدم زوال العذر إلى آخر الوقت ، أو مع اليأس عن زواله - على الأقوال في المسألة - وبعد البناء على أن جواز البدار له يكون حكما واقعيا لا حكما ظاهريا لا يمكن القول بعدم الاجزاء ، لأن جواز البدار على هذا يرجع إلى سقوط القيد المتعذر وعدم ركنيته للواجب وعدم قوام المصلحة الصلواتية به مط فتكون التوسعة في الوقت محفوظة وعدم خروج تلك القطعة من الزمان الذي تعذر فيه القيد عن صلاحية وقوع الصلاة فيها ، ويكون معنى البدار البدار إلى صلاة الظهر المكلف بها ، ومعه كيف يمكن القول بعدم الاجزاء؟ مع أنه لا يجب على المكلف في الوقت صلاتان للظهر.

والحاصل : انه اما ان نقول بعدم جواز البدار لذوي الاعذار مط ، واما ان

ص: 245

نقول بجوازه اما مط أو على التفصيل المتقدم ، فان قلنا بعدم جواز البدار له كان ما اتى به من الفعل الفاقد للقيد غير مأمور به وخاليا عن المصلحة ، ومعه لا يعقل الاجزاء ، وليس الكلام فيه أيضا ، وان قلنا بجواز البدار له على الوجه الذي نقول به كاليأس عن زوال العذر - كما هو المختار - فاما ان نقول : ان جواز البدار يكون حكما طريقيا ظاهريا ، واما ان نقول : انه حكم واقعي. فان قلنا : انه حكم طريقي ظاهري فهو خارج عن محل الكلام ، فإنه عند زوال العذر في الوقت ينكشف عدم كون المأتى به مأمورا به ، فلا يكون مجزيا على ما سيأتي في المقام الثالث من عدم اقتضاء الحكم الظاهري للاجزاء ، وان قلنا : ان جواز البدار يكون حكما واقعيا ، فمعناه ان المصلحة الصلواتية قائمة بالفاقد للقيد في زمان تعذره وانه ليس ركنا مقوما للمصلحة وان التوسعة في الوقت بعد محفوظة ، ومعه لا محيص من القول بالاجزاء وسقوط الإعادة عند زوال العذر.

واما المقام الثالث :

وهو اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري للاجزاء عن الامر الواقعي عند انكشاف الخلاف ، فالكلام فيه أيضا يقع في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي لاجزاء كما في موارد الطرق والامارات والأصول الشرعية.

المقام الثاني : في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري العقلي للاجزاء ، كما في موارد القطع.

اما الكلام في المقام الأول فيقع من جهات :

الجهة الأولى :

في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الطرق والامارات في باب الاحكام الكلية الشرعية عند انكشاف الخلاف القطعي ، كما إذا قام خبر الواحد على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فأفتى المجتهد على طبقه ، وعمل هو ومقلدوه عليه ، ثم بعد بذلك عثر على خبر متواتر قطعي يدل على وجوب السورة في الصلاة ، ففي مثل هذه الصورة ، الحق عدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة والقضاء ، بل

ص: 246

يلزمه الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه ،

وقد حكى على ذلك دعوى الاجماع ، بل جعلوا ذلك من فروع التخطئة والتصويب ، وان القول بالاجزاء يلازم القول بالتصويب ، حيث إنه لا يمكن القول بالاجزاء الا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلق الامارة عند قيام الامارة عليه وانشاء حكم على طبق الامارة على خلاف الحكم الواقعي المجعول الأولى ، بحيث يوجب تقييد الاحكام الأولية أو صرفها إلى مؤديات الطرق والامارات ، وهذا كما ترى عين القول بالتصويب المخالف لمسلك الامامية ، فإنه بناء على أصول المخطئة ليست الاحكام الا الاحكام الواقعية المجعولة الأولية من غير تقييدها بالعلم والظن والشك ، ولا بقيام الامارة على الوفاق أو الخلاف ، وليس هناك تقييد وصرف إلى مؤديات الطرق والامارات ، وليس شأن الطرق والامارات الا التنجيز عند الموافقة والعذر عند المخالفة ، وان المجعول فيها ليس الا الطريقية والحجية والوسطية في الاثبات ، من دون ان توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل المتعلق باق على ما هو عليه قبل قيام الامارة عليه ، ومع هذا كيف يمكن القول بالاجزاء؟ مع أنه لم يأت بالمأمور به والمكلف به الواقعي.

وبالجملة : ليس حال الطرق والامارات الا كحال العلم ، وانما الفرق ان العلم طريق عقلي والطريقية ذاتية له ، والامارات طرق شرعية وطريقيتها مجعولة بجعل شرعي ، فكأنما جعلها من افراد العلم جعلا تشريعيا لا تكوينيا ، وح يكون حالها حال العلم ، وسيأتي في المقام الثاني ان الطريق العقلي من العلم والقطع لا يوجب الاجزاء وكذا الطريق الشرعي.

وتوهم ان السببية التي ذهب جملة من الامامية إليها في باب الطرق والامارات يلازم القول بالاجزاء ، فاسد ، فان المراد من تلك السببية هي اقتضاء جعل الامارة للمصلحة السلوكية ، وليس المراد من السببية المذكورة هو سببية الامارة لحدوث مصلحة في المتعلق ، لما عرفت من أنها عين التصويب ، فكيف يقول بها من أنكر التصويب؟ ومن المعلوم : ان المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء عند انكشاف الخلاف ، فان المصلحة السلوكية على القول بها انما هو لتدارك فوت

ص: 247

مصلحة الواقع ، وهذا مع انكشاف الخلاف وامكان تحصيل المصلحة الواقعية لا يتحقق. فتحصل : انه لا محيص عن القول بعدم الاجزاء في باب الطرف والامارات القائمة على الاحكام الكلية الشرعية.

الجهة الثانية :

في اقتضاء المأتى بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الامارات في باب الموضوعات الشرعية للاجزاء ، كما إذا قامت البينة على نجاسة الماء ، فصلى مثلا مع التيمم ، ثم انكشف مخالفة البينة للواقع وان الماء كان طاهرا ، والحق فيه أيضا عدم الاجزاء ، فان تقييد الموضوعات الشرعية بالعلم والظن والشك واقعا وان كان بمكان من الامكان ، كما إذا رتب النجاسة على معلوم البولية ، والحرمة على معلوم الخمرية أو الذي لم تقم امارة على نجاسته أو خمريته ، الا ان الكلام فيما إذا لم يقيد الموضوع بذلك ، وكان الشيء بعنوانه الأولى موضوعا للحكم ، وان حجية البينة لمجرد الطريقية من دون ان يكون لها شائبة الموضوعية - كما هو ظاهر أدلة اعتبارها - وح يكون الكلام في هذه الجهة كالكلام في الجهة الأولى ، من حيث عدم اقتضاء الاجزاء ، على ما عرفت تفصيله.

الجهة الثالثة :

في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الأصول الشرعية العملية للاجزاء ، كقاعدة الطهارة ، واستصحابها.

وقد ذهب بعض الاعلام إلى اقتضاء ذلك للاجزاء ، على تفصيل بين الأصول الغير المتكلفة للتنزيل كاصالة الطهارة والحل ، وبين الأصول المتكفلة للتنزيل كاستصحابهما ، حيث إنه في الأول جزم بالاجزاء ، وفي الثاني تردد ، ولعل الوجه في التفصيل ، هو ان الاستصحاب له جهتان : جهة تلحقه بالطرق والامارات ، وجهة تلحقه بالأصول العملية ، والجهة التي تلحقه بالامارات هي جهة احرازه وتكفله للتنزيل ، والجهة التي تلحقه بالأصل العملية هي كون المجعول فيه البناء العملي لا الطريقية ، فبالنظر إلى الجهة الأولى يقتضى عدم الاجزاء ، كما في الطرق والامارات ، وبالنظر إلى الجهة الثانية يقتضى الاجزاء.

ص: 248

وعلى كل حال : ان نظره في اقتضاء الأصول للاجزاء إلى أنها توجب توسعة في دائرة الشرط وتعميما له ، بحيث يعم الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية المجعولة بقاعدتها أو باستصحابها ، وحينئذ تكون الصلاة المأتى بها بقاعدة الطهارة أو الحلية واجدة للشرط ، فلا موجب للإعادة والقضاء ، والالتزام بهذه التوسعة انما هو لحكومة أدلة الأصول على الأدلة الواقعية ، ودليل الحاكم قد يوجب التوسعة ، وقد يوجب التضييق ، وفي المقام أوجب التوسعة هذا.

ولكن قد أشكل عليه شيخنا الأستاذ مد ظله.

أولا : بان هذا لا يستقيم على مسلكه ، من تفسير الحكومة من كون أحد الدليلين مفسرا للدليل الآخر على وجه يكون بمنزلة قوله : أي أو أعني أو أريد وما شابه ذلك من أدوات التفسير ، لوضوح ان قوله : كل شيء طاهر أو حلال ، ليس مفسرا لما دل على أن الماء طاهر والغنم حلال ، ولا لما دل على أنه يعتبر الوضوء بالماء المطلق الطاهر ، وا الصلاة مع اللباس المباح وأمثال ذلك ، فتأمل.

وثانيا :

ان التوسعة والحكومة انما تستقيم إذا كانت الطهارة أو الحلية الظاهرية مجعولة أولا ، ثم يأتي دليل على أن ما هو الشرط في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية والطاهرة الظاهرية فيكون حينئذ هذا الدليل موسعا وحاكما على ما دل على اعتبار الطهارة الواقعية ، والمفروض انه لم يقم دليل سوى ما دل على جعل الطهارة الظاهرية وهو قوله (1) علیه السلام : كل شيء لك طاهر ، والسر في اعتبار كون الطهارة الظاهرية مجعولة في التوسعة والحكومة ، هو ان الطهارة الظاهرية بناء على التوسعة والحكومة تكون بمنزلة الموضوع للدليل الحاكم ، فتأمل.

ص: 249


1- الوسائل ، الجزء 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4 ص 1054 وفي هذا الخبر « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر » وروى في المستدرك عن الصدوق قدس سره في ( المقنع ) كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » راجع المستدرك الجلد 1 ص 164

وثالثا :

وهو العمدة ، ان الحكومة التي نقول بها في الطرق والامارات والأصول غير الحكومة التي توجب التوسعة والتضييق ، فان الحكومة التي توجب التوسعة والتضييق انما هي بالنسبة إلى الأدلة الأولية الواقعية بعضها مع بعض ، كما في مثل قوله (1) لا شك لكثير الشك ، حيث يكون حاكما على مثل قوله (2) ان شككت فابن على الأكثر ، وأين هذا من حكومة أدلة الاحكام الظاهرية على أدلة الاحكام الواقعية؟ واجمال الفرق بينهما - وان كان تفصيله موكولا إلى محله - هو ان الحكمين اللذين تكفلهما الدليل الحاكم والدليل المحكوم في الأدلة الواقعية انما يكونان عرضيين ، بان يكونا مجعولين في الواقع في عرض واحد ، لان الحكومة بمنزلة التخصيص ، وحكم الخاص انما يكون مجعولا واقعيا في عرض جعل الحكم العام من دون ان يكون بينهما طولية وترتب ، فكان هناك حكم مجعول على كثير الشك ، وحكم آخر مجعول على غير كثير الشك ، وتسمية ذلك حكومة لا تخصيصا انما هو باعتبار عدم ملاحظة النسبة بين الدليلين ، والا فنتيجة الحكومة التخصيص.

واما الحكومة في الأدلة الظاهرية ، فالمجعول فيها انما هو في طول المجعول الواقعي وفي المرتبة المتأخرة عنه ، خصوصا بالنسبة إلى الأصول التي اخذ الشك في موضوعها. وبعبارة أخرى : المجعول الظاهري انما هو واقع في مرتبة احراز الواقع والبناء العملي عليه بعد جعل الواقع وانحفاظه على ما هو عليه من التوسعة والتضييق ، فلا يمكن ان يكون المجعول الظاهري موسعا أو مضيقا للمجعول الواقعي ، مع أنه لم يكن في عرضه وليس هناك حكمان واقعيان مجعولان. ولتفصيل الكلام محل آخر ، والغرض في المقام مجرد بيان ان الاحكام الظاهرية ليست موسعة للأحكام الواقعية ولا مضيقة لها ، ولا توجب تصرفا في الواقع ابدا. .

ص: 250


1- الوسائل ، الجزء 5 الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص 329
2- الوسائل ، الجزء 5 الباب 8 من أبواب الخلل ، ص 317 الحديث 1. وفي متن هذا الخبر « متى شككت فخذ بالأكثر » وفي خبر 3 من هذا الباب. « إذا سهوت فابن على الأكثر ».

ورابعا :

انه لو كانت الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة أو استصحابها موسعة للطهارة الواقعية ، لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة وعدم القول بنجاسته بعد انكشاف الخلاف وان الملاقى ( بالفتح ) كان نجسا ، لأنه حين الملاقاة كان طاهرا بمقتضى التوسعة التي جاء بها الاستصحاب ، وبعد انكشاف الخلاف لم تحدث ملاقاة أخرى توجب نجاسة الملاقى ( بالكسر ) فينبغي القول بطهارته ، وهو كما ترى.

فظهر من جميع ما ذكرنا : ان التوسعة المدعاة في باب الأصول مما لا محصل لها ، ومعه لا محيص عن القول بعدم اقتضاء الأصول للاجزاء عند انكشاف الخلاف القطعي مط ، سواء كانت جارية في الشبهات الحكمية أو في الشبهات الموضوعية.

الجهة الرابعة :

في اقتضاء الماتى به بالامر الظاهري الشرعي للاجزاء عند انكشاف الخلاف الظني ، كما في موارد تبدل الاجتهاد والتقليد ، ولا يتفاوت الحال في البحث عن هذه الجهة بين كون الامر الظاهري مؤدى الطرق والامارات ، أو مؤدى الأصول العملية ، نعم : البحث في المقام مقصور على خصوص الطرق والامارات والأصول التي يكون مؤديها الأحكام الشرعية.

واما ما كانت جارية في الموضوعات الخارجية ، فلا اشكال في عدم اقتضائها الاجزاء ، كما لو كان الشيء مستصحب الطهارة أو الملكية ، ثم قامت البينة على النجاسة أو عدم الملكية ، فان البينة توجب نقض الآثار التي عمل بها بمقتضى الاستصحاب من أول الامر ، ولا يتوهم الاجزاء في مثل هذا. وهذا بخلاف ما إذا كانت الامارات والأصول قائمة على الأحكام الشرعية ، ثم انكشف الخلاف ، كما في موارد تبدل الاجتهاد ، فان الاجزاء في مثل ذلك وقع محل الخلاف ، وقد قيل فيها بالأجزاء ، وان كان الأقوى عندنا عدم الاجزاء ايض مط في جميع موارد تبدل الاجتهاد ، سواء كان تبدله لأجل استظهاره من الدليل خلاف ما استظهره أولا ، كما لو استظهر من الدليل الاستحباب أو الإباحة ثم عدل عن استظهاره واستظهر

ص: 251

الوجوب أو الحرمة ، أو كان تبدله لأجل عثوره على المقيد أو المخصص أو الحاكم أو المعارض الأقوى ، وغير ذلك من موارد تبدل الرأي ، فان مقتضى القاعدة في جميع ذلك عدم الاجزاء ، وان حال متعلق الطرق والامارات والأصول حال متعلق العلم عند انكشاف الخلاف ، وكذا حال الامارات والأصول حال نفس العلم إذا زال وتبدل بغيره. فلنا في المقام دعويان :

الأولى : اتحاد متعلق الامارات والأصول مع متعلق العلم من الجهة التي نحن فيها.

الثانية : اتحاد نفس الامارات والأصول مع العلم ، وان قيام الامارة على شيء كقيام العلم عليه ، ويتضح الوجه في كلتا الدعويين برسم أمور :

( الامر الأول )

انه ليس المراد من الحكم الظاهري الا عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والامارات والأصول ، وليس هناك حكمان : حكم واقعي وحكم ظاهري ، بان يكون للشارع انشائان وجعلان ، بل ليس الحكم الا الحكم الواقعي المجعول أزلا والحكم الظاهري عبارة عن احراز ذلك الحكم بالطرق والأصول المقررة الشرعية ، وتسميته ظاهريا لمكان احتمال مخالفة الطريق والأصل للواقع وعدم ايصاله إليه ، والا فليس الحكم الظاهري الا هو الحكم الواقعي الذي قامت عليه الامارات والأصول مط ، محرزة كانت الأصول أو غير محرزة ، وهذا هو الذي قام عليه المذهب ويقتضيه أصول المخطئة.

نعم : بناء على أصول المصوبة من المعتزلة ، من أن قيام الامارة يوجب حدوث مصلحة في المتعلق ، ويقع التزاحم بينها وبين المصلحة الواقعية ، وتكون مصلحة مؤدى الطريق غالبة على مصلحة الواقع ، يكون هناك حكمان وانشائان ، ويكون للشارع جعلان ، أحدهما متعلق بالواقع الأولى ، والثاني متعلق بمؤدى الطريق والأصل ، ولكن بناء على هذا لا ينبغي تسمية ذلك حكما ظاهريا ، بل يكون ح حكما واقعيا ثانويا كما لا يخفى وجهه ، وهذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة من وجوه التصويب التي ذكرها الشيخ ( قده ) في أول حجية الظن حيث ذكر للتصويب

ص: 252

وجوها ثلاثة : (1).

الأول التصويب الأشعري ، وانه لم يكن في الواقع حكم الا مؤدى الامارات والأصول.

الثاني التصويب المعتزلي ، وهو ما أشرنا إليه ، وحاصله انه وان كان هناك في الواقع حكم يشترك فيه العالم والجاهل ، الا انه قيام الامارة على الخلاف يحدث في المتعلق مصلحة غالبة على مصلحة الواقع ، ويكون الحكم الفعلي هو مؤديات الطرق والأصول.

الثالث التصويب الامامي وهو المصلحة السلوكية على ما يأتي الإشارة إليها.

وبالجملة ، بناء على أصول المخطئة ليس الحكم الظاهري أمرا في قبال الحكم الواقعي ، بل الحكم الظاهري هو عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والأصول.

( الامر الثاني )

ان جعل الطرق والامارات والأصول انما يكون في رتبة احراز الحكم الواقعي ، ومن هنا كان في طول الحكم الواقعي ولا يعارضه ويزاحمه ، فكما ان احراز الواقع بالعلم يكون في المرتبة المتأخرة عن الواقع ، كذلك ما جعله الشارع بمنزلة العلم من الطرق والامارات والأصول ، حيث إنه جعلها محرزة له تشريعا ، وفردا للعلم شرعا ، فكان الشارع بجعله للطرق والأصول خلق فردا آخر للعلم في عالم التشريع ، ونفخ فيها صفة الاحراز وجعلها علما ، فجعل الطرق والأصول انما يكون في واد الاحراز واقعا في رتبة العلم ، وهذا معنى حكومتها على الواقع ، فان معنى حكومتها عليه ، هو انها محرزة للواقع وموصلة إليه ، لا انها توجب توسعة أو تضييقا في ناحية الواقع.

وبالجملة : ليس حال الطرق والامارات والأصول الا كحال العلم في

ص: 253


1- راجع الرسائل ، أو مباحث حجية الظن. ص 24

كونه محرزا للواقع ، غايته ان العلم محرز بذاته ، وتلك محرزة بالجعل التشريعي.

( الامر الثالث )

بعد ما عرفت من أن جعل الامارات والأصول واقع في رتبة الاحراز ، يظهر لك ان طريقية الطريق ومحرزيته يتوقف على وجود العلم به ، بان يكون واصلا لدى المكلف عالما به موضوعا وحكما ، إذ لا معنى لكون الشيء طريقا وحجة فعلية مع عدم الوصول إليه ، لان طريقيته انما تكون لمحرزيته ومحرزيته تتوقف على الوصول ، وبذلك تمتاز الطرق والأصول عن الاحكام الواقعية ، فان ثبوت الاحكام الواقعية وتحققها لا يتوقف على العلم بها ، وانما العلم يكون موجبا لتنجيزها بخلاف الامارات والأصول ، فان أصل تحققها يتوقف على العلم بها.

لا أقول ان أصل انشائها وجعلها يتوقف على العلم بها ، فان ذلك واضح البطلان لاستلزامه الدور.

بل أقول تحقق المنشأ خارجا وثبوت وصف الحجية والطريقية والمحرزية للشيء فعلا يتوقف على الوصول والوجود العلمي ، فانشائها يكون نظير ايجاب الموجب الذي لا يتحقق ما أوجبه خارجا الا بقبول الاخر ، كما أن انشاء الاحكام الواقعية يكون نظير الايقاعات التي لا يتوقف تحقق منشئاتها على شيء.

وبالجملة : انشاء الطرق والأصول وان لم يتوقف على العلم ، الا ان واجدية المنشأ لصفة الطريقية والمحرزية وكونه طريقا فعلا يتوقف على العلم به ، ولا معنى لطريقية طريق لم يعلم به المكلف ، كما إذا كان هناك خبر عدل لم يعثر عليه ، فالخاص الذي لم يعثر عليه المكلف ولم يصل إليه لايكون حجة فعلية ، ولا طريقا محرزا ، بل الحجة الفعلية والطريق المحرز هو العام ، نعم بعد العثور على الخاص والوصول إليه يتبدل احرازه ويخرج العام عن الطريقية ، ويكون الخاص ح طريقا.

ولا يتوهم : ان العام المخصص واقعا الذي لم يعثر المكلف على مخصصه لم يكن حجة واقعا بل كان من تخيل الحجة ، فان ذلك واضح البطلان ، لأن المفروض ان الخاص لم يكن حجة فعلية ، وحيث لم تخل الواقعة عن حجة فالعام الذي كان قد عثر عليه هو الحجة فعلا ، كما أنه لو لم يعثر على العام أيضا كان الأصل الجاري في

ص: 254

المسألة هو الحجة.

وبالجملة : الحجة هو الطريق الواصل ليس الا ، ومن هنا كانت أصالة العموم متبعة عند الشك في المخصص ولو كان هناك مخصص في الواقع ، فإنه حيث لم يصل الخاص إليه كان العموم هو المرجع والحجة فعلا.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك الوجه في عدم الاجزاء عند تبدل الاجتهاد ، فان حقيقة تبدل الاجتهاد ليس الا تبدل الاحراز ، حيث كانت الطرق والأصول واقعة في مرتبة الاحراز ، فتبدل اجتهاده عبارة عن تبدل حجته وطريقه واحرازه ، وانه إلى الان كان الحجة هو العام ، والآن صار الحجة هو الخاص ، فيكون حاله حال تبدل الاحراز العلمي بغيره ، وليس حال ما قام عليه الطريق الا حال متعلق العلم عند مخالفته للواقع ، من حيث عدم ايجاب العلم في المتعلق شيئا من مصلحة أو مفسدة ، بل هو باق على ما هو عليه قبل تعلق العلم ، ولا يوجب تبدلا في الواقع ، فكذا الحال في متعلق الطريق ، فلا فرق بين تعلق العلم بشيء وبين تعلق الطريق به ، وكذا لا فرق بين تبدل العلم وتبدل الطريق ، فلا معنى للفرق بينهما من حيث الاجزاء وعدمه ، فكل من قال بعدم الاجزاء عند تبدل العلم يلزمه القول بعدم الاجزاء عند تبدل الاجتهاد. هذا إذا لم يعلم في استنباطه بعض الظنون الاجتهادية.

وأما إذا اعمل ذلك ، كما هو الغالب ، حيث إن الاستنباط غالبا يتوقف على الاستفادة وأعمال الرأي في الجمع بين الأدلة ومقدار مفادها ، فعدم الاجزاء يكون ح أوضح ، لان تبديل الاجتهاد في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى عدم صحة الاجتهاد الأول ، وعدم استناده إلى حجة شرعية ، بل هو مستند إلى فهمه ورايه وهو ليس حجة شرعية.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين القول بالسببية أو الطريقية ، لان المراد من السببية على وجه لا ترجع إلى التصويب هو انها توجب مصلحة سلوكية ، لا انها توجب مصلحة في المؤدى ، ومن المعلوم : ان المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء مع انكشاف الخلاف ، فان المراد من المصلحة السلوكية هي مصلحة تدارك الواقع ، حيث إن الشارع لمكان نصبه الطرق في حال تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع

ص: 255

وانفتاح باب العلم لديه قد فوت الواقع عليه فلابد من تداركه ، ومن المعلوم : ان تدارك الواقع انما يكون بالمقدار الذي يستند فوته إلى الشارع ، أي بمقدار سلوك الامارة مع كونها قائمة عنده ، فلو فرض انه قامت الامارة في أول الوقت على وجوب الجمعة ، فصلاها ثم بعد انقضاء فضيلة الوقت تبين مخالفة الامارة للواقع وان الواجب هو صلاة الظهر ، فالذي فات من المكلف في مثل هذا هو فضيلة أول الوقت ليس الا ، واما فضيلة أصل الوقت واصل الصلاة فلم تفت من المكلف ، لامكان تحصيلها. وكذا الكلام فيما إذا انكشف الخلاف بعد الوقت ، فإنه بالنسبة إلى القضاء لم يفت.

وبالجملة : المصلحة السلوكية تدور مدار البناء على مقدار اعمال الامارة ومقدار فوت الواقع. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القاعدة لا تقتضي الاجزاء عند تبدل الاجتهاد ، بل القاعدة تقتضي عدم الاجزاء.

وربما قيل بان القاعدة تقتضي الاجزاء لوجوه :
الأول.

لزوم العسر والحرج من القول بعدم الاجزاء ، وقد وقع الاستدلال بذلك في جملة من الكلمات بدعوى انه يكفي الحرج النوعي في نفى الحكم رأسا ، ولا يعتبر الحرج الشخصي حتى يدور الاجزاء مداره ، ونظير هذا وقع في التمسك بلا ضرر. وقد تكرر في جملة من الكلمات كون العبرة بالضرر والحرج الشخصي أو النوعي ، حتى أثبتوا جملة من الاحكام بواسطة استلزام عدمها الحرج في الجملة ، ولو بالنسبة إلى بعض الأشخاص وفي بعض الأحوال كمسئلتنا ، حيث أثبتوا الاجزاء بواسطة استلزام عدم الاجزاء الحرج في بعض المقامات ، وكان منشأ ذلك هو تعليل بعض الأحكام الشرعية الكلية بالضرر والحرج ، كما ورد في بعض اخبار الشفعة (1) تعليلها بنفي الضرر ، وطهارة الحديد بنفي الحرج ، ومن المعلوم ان عدم الشفعة ونجاسة الحديد لا يستلزم الضرر والحرج بالنسبة إلى جميع الأشخاص في جميع الأحوال ،

ص: 256


1- الوسائل ، الجزء 17 الباب 5 ، من أبواب الشفعة الحديث 1 ص 319

فتخيل ان الضرر والحرج المنفى هو الضرر والحرج النوعي لا الشخصي هذا.

ولكن الظاهر أن ذلك من جهة الاشتباه والخلط بين ما يكون حكمة التشريع ، وبين ما يكون علة الحكم ، فان الضرر والحرج المعلل بهما حكم الشفعة وطهارة الحديد انما يكونان حكمة للتشريع ، حيث إن الحكيم تعالى لمكان فضله على العباد وتوسعته على الناس جعل طهارة الحديد مع أن فيه مقتضى النجاسة ، وجعل الاخذ بالشفعة لحكمة استلزامه الضرر والحرج بالنسبة إلى نوع العباد ، ولكن هذه الحكمة صارت سببا لجعل حكم كلي إلهي على جميع العباد ، وليس من شان الحكمة الاطراد ، ففي مثل هذا لا معنى لدعوى الضرر الشخصي ، وليس لاحد الفتوى بنجاسة الحديد أو عدم الشفعة بالنسبة إلى من لم يكن في حقه ضرر وحرج ، لان الفتوى بذلك فتوى على خلاف حكم اللّه تعالى ، حيث جعل الشفعة وطهارة الحديد حكما كليا في حق جميع العباد ، فكيف يمكن الفتوى على خلاف ذلك؟ الا ان يكون مبدعا في الدين والعياذ باللّه. ولكن هذا غير الضرر المنفى بمثل قوله : لا ضرر ولا ضرار - الوارد في قضية سمرة بن جندب ، والحرج المنفى بقوله تعالى : ما جعل عليكم في الدين من حرج ، فان الضرر والحرج في مثل ذلك انما يكون علة لنفى الحكم الضرري والحرجي ، ويكون أدلة نفي الضرر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية المتكلفة لبيان احكام الموضوعات مط الشاملة لحالة الضرر والحرج ، ففي مثل هذا لا يمكن ان يكون الضرر والحرج نوعيا ، لان حكومتها على تلك الأدلة تكون بمنزلة تخصيصها وقصر دائرتها بغير حالة الضرر والحرج ، فيكون الحكم الأولى ثابتا في غير صورة الضرر والحرج ، ولا معنى لتوهم ان العبرة في ذلك بالضرر والحرج النوعي ، ولا يمكن الفتوى بنفي الحكم كلية في حق جميع العباد بعد تشريعه لمكان استلزامه الضرر والحرج بالنسبة إلى بعض العباد ، فان المفتى بذلك يكون مبدعا في الدين ، وكيف يمكن رفع الحكم الثابت في الشريعة لمكان استلزامه الضرر والحرج في الجملة؟ فالعبرة في ذلك لايكون الا بالضرر والحرج الشخصي.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه بعد تشريع الاحكام من وجوب صلاة الظهر في الوقت وقضائها في خارجه بالنسبة إلى كل أحد ، كيف يمكن القول بعدم وجوب

ص: 257

ذلك مط إعادة وقضاء بالنسبة إلى جميع العباد لمكان استلزام الإعادة والقضاء الحرج في الجملة في حق بعض الأشخاص في بعض الأحوال ، بل لابد في مثل ذلك من الاقتصار على المورد الذي يلزم منه الحرج.

وبالجملة : اثبات حكم كلي إلهي وهو الاجزاء مط بأدلة نفى الحرج لا يمكن ، لان أدلة نفي الحرج والضرر انما تنفى الحكم الضرري والحرجي ، وليس من شانها اثبات حكم في الشريعة.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدلوا بها للاجزاء ، هو انه لا ترجيح للاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول ، بعد ما كان كل منهما مستندا إلى الطرق الشرعية الظنية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الاستدلال ، فإنه ليس المقام من باب التعارض حتى يقال : انه لا موجب لترجيح أحدهما على الاخر ، بل المفروض ان الاجتهاد الأول قد زال بسبب الاجتهاد الثاني ، وكان المستنبط بالاجتهاد الثاني هو الحكم الإلهي الأزلي والأبدي ، والمستنبط بالاجتهاد الأول وان كان كذلك أيضا ، الا انه قد زال ، فلم يبق الا العمل على مقتضى الاجتهاد الثاني ، وليس ذلك ترجيحا للاجتهاد الثاني ، حتى يقال : انه ترجيح بلا مرجح.

الوجه الثالث :

هو ما حكى عن بعض الكلمات ، من أن المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ، فلا يمكن ان يرد الاجتهادان على صلاة ظهر هذا اليوم ، وح فإذا اجتهد في عدم وجوب السورة وصلى صلاة الظهر بلا سورة بمقتضى اجتهاده ، فالاجتهاد الثاني الذي يكون مؤداه وجوب السورة لا يتعلق بتلك الصلاة التي صلاها في ذلك اليوم ، بل يتعلق بصلاة سائر الأيام ، هذا.

ولكن لم يظهر لنا معنى محصل لقولهم : ان المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ، فإنه ان أريد عدم التحمل في زمان واحد فذلك ضروري ، لعدم تعلق اجتهادين في زمان واحد بمسألة واحدة ، وان أريد عدم التعلق ولو في زمانين فذلك واضح البطلان ، لتحملها الف اجتهاد ، ولم يكن مؤدى الاجتهاد صلاة هذا اليوم أو ذلك

ص: 258

اليوم ، بل مؤداه هو الحكم الكلي المتعلق بجميع الأيام ، وعليك بملاحظة سائر الوجوه التي استدلوا بها للاجزاء ، فإنها مما لا تسمن ولا تغنى.

فتحصل : ان مقتضى القاعدة عدم الاجزاء مط في جميع موارد تبدل الاجتهاد. وكذا الحال بالنسبة إلى المقلد إذا عدل من تقليده لموجب من موت ، أو خروج المقلد من أهلية التقليد ، أو غير ذلك من موجبات العدول ، فان حال المقلد حال المجتهد ، غايته ان طريق المجتهد هو الأدلة الاجتهادية والأصول العملية التي يجريها في الشبهات الحكمية ، وطريق المقلد هو رأى المجتهد ، وليس لرأى المجتهد موضوعية حتى يتوهم الاجزاء ، بل انما يكون طريقا صرفا كطريقية الأدلة بالنسبة إلى المجتهد ، كما لا يخفى.

ثم انك بعد ما عرفت من أن القاعدة لا تقتضي الاجزاء بل تقتضي عدمه ، فنقول : انه قد حكى الاجماع على الاجزاء ، ونحن وان لم نعثر على من ادعى الاجماع ، الا ان شيخنا الأستاذ مد ظله ادعاه ، ولكن لو فرض تحقق الاجماع ، فربما يشكل التمسك به من جهة احتمال كون الاجماع في المقام مدركيا ، لذهاب جمله إلى أن القاعدة تقتضي الاجزاء ، ومع هذا لا عبرة بهذا الاجماع.

ثم لو أغمضنا عن ذلك وقلنا بكفاية الاجماع على النتيجة ، فيقع الكلام في مقدار دلالة هذا الاجماع ، فنقول : لعل المتيقن من هذا الاجماع هو سقوط الإعادة والقضاء ، واما فيما عدا ذلك من الوضعيات - في باب العقود والايقاعات ، وباب الطهارة والنجاسة ، ومسألة الاقتداء وغير ذلك من المسائل العامة البلوى التي تتفرع على مسألة الاجزاء - فالامر فيها مشكل ، ولا بد من الفحص التام في كلمات الاعلام في المقام. هذا تمام الكلام في اقتضاء الامر الظاهري الشرعي للاجزاء.

واما اقتضاء الامر الظاهري العقلي للاجزاء ، فمجمل القول فيه ، هو ان المراد من الامر الظاهري العلم ، وما يلحق به من الأصول العقلية ، وما يعمله المجتهد من الظنون الاجتهادية والاستفادات ، حيث إنه في الجميع ليس أمرا شرعيا ظاهريا ، لما عرفت من أن المراد من الامر الشرعي هو الطرق والأصول الشرعية ، وما عدا ذلك يكون ملحقا بالعلم الذي يكون حجيته عقلية محضة ،

ص: 259

وعلى كل حال فلا ينبغي توهم الاجزاء في الامر العقلي ، بل لا يفيد شيئا سوى المعذورية ، وذلك أيضا إذا لم يكن مقصرا في المقدمات والا لا يفيد المعذورية أيضا ، من غير فرق بين تعلق العلم بالفروع أو الأصول ، وذلك واضح لا غبار عليه ، هذا تمام الكلام في مسألة الاجزاء.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، تعرض في المقام لبعض المسائل الأصولية التي لا طائل تحتها ، كمسألة ان الامر بالامر امر ، ومسألة انه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أم لا؟ ومسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ، ونحن قد اعرضنا عن ذكرها لأنه لا فائدة فيها وهو مد ظله أيضا قد طواها ولم يعتن بالبحث فيها.

والحمد لله أولا وآخرا

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة 10 شعبان سنه 1346.

ص: 260

القول في مقدمة الواجب

اشارة

وتنقيح البحث فيها يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

لا ينبغي الاشكال في كون المسألة من المسائل الأصولية ، وليست من المبادئ الأحكامية ، ولا من المسائل الفقهية ، وذلك لما تقدم من أن الضابط في مسألة الأصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بحيث تكون نتيجتها كبرى لقياس الاستنباط على وجه يستنتج منها حكم فرعى كلي ، وهذا المعنى موجود في المقام ، فان البحث في المقام انما يكون عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته ، لا عن نفس وجوب المقدمة ، بل يكون وجوب المقدمة نتيجة الملازمة على القول بها ، فلا وجه لجعل المسألة من المسائل الفقهية ، كما لا وجه لجعلها من المبادئ الأحكامية التي هي عبارة عن البحث عن الاحكام وما يلازمها ، كالبحث عن تضاد الأحكام الخمسة ، وتقسيم الحكم إلى الوضعي والتكليفي ، وغير ذلك مما عدوه من المبادئ الأحكامية ، في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية ، فان جعلها من المبادئ الأحكامية بلا موجب ، بعد امكان جعلها من المسائل الأصولية.

نعم : هي ليست من المسائل اللفظية ، كما يظهر من المعالم (رحمه اللّه) بل هي من المسائل العقلية ، ولكن ليست من المستقلات العقلية الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح ومناطاة الاحكام ، بل هي من الملازمات العقلية ، حيث إن حكم العقل في المقام يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة ، فيحكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب مقدماته ، وليس من قبيل حكم العقل بقبح القعاب من غير بيان الذي

ص: 261

لا يحتاج إلى توسيط حكم شرعي ، بل البحث في المقام نظير البحث عن مسألة الضد ومسألة اجتماع الأمر والنهي يتوقف على ثبوت امر أو نهى شرعي ، حتى تصل النوبة إلى حكم العقل بالملازمة كما في مسئلتنا ، أو اقتضاء النهى عن الضد كما في مسألة الضد ، أو جواز الاجتماع وعدمه كما في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، ولكن القوم لما لم يفردوا بابا للبحث عن الملازمات العقلية - مع أنه كان حقه ذلك أدرجوا المسألة وما شابهها في مباحث الألفاظ مع أنها ليست منها كما لا يخفى.

الامر الثاني :

ليس الوجوب المبحوث عنه في المقام بمعنى اللا بدية العقلية ، فان ذلك مما لا سبيل إلى انكاره إذ هو معنى المقدمية كما هو واضح ، وليس المراد من الوجوب أيضا الوجوب التبعي العرضي نظير وجوب استدبار الجدي عند وجوب استقبال القبلة ، حيث إن الاستدبار لم يكن واجبا ، وانما ينتسب الوجوب إليه بالعرض والمجاز لمكان الملازمة نظير اسناد الحركة إلى الجالس في السفينة ، فان هذا المعنى من الوجوب أيضا مما لا ينبغي انكاره ، بل هو يرجع إلى المعنى الأول من اللابدية ، وكذا ليس المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام الوجوب الاستقلالي الناشئ عن مبادئ مستقلة وإرادة متأصلة ، فان هذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به ، وكيف يمكن ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة مغفولا عنها ولا يلتفت إلى أصل مقدميتها ، بل ربما يقطع بعدمها ، مع أنها في الواقع تكون مقدمة ، وهذا المعنى من وجوبها يستدعى الالتفات إليها تفصيلا.

بل المراد من الوجوب في المقام : هو الوجوب القهري المتولد من ايجاب ذي المقدمة ، بحيث يريد المقدمة عند الالتفات إليها ولا يمكن ان لا يريدها ، فالمقدمة متعلقة لإرادة الآمر ، وليس اسناد الوجوب إليها بالعرض والمجاز بل يكون الاسناد على وجه الحقيقة ، ولكن ليست الإرادة عن مبادئ مستقلة ، بل يكون مقهورا في ارادتها بعد إرادة ذي المقدمة ولو على جهة الاجمال ، بحيث تتعلق الإرادة بالعنوان الكلي الذي يتوقف عليه ذو المقدمة وان لم يلتفت إلى المقدمات الخاصة ، ولكن المقدمات الخاصة تتصف بالوجوب حقيقة بعد انطباق العنوان عليها.

ص: 262

الامر الثالث :

في تقسيمات المقدمة : ولها تقسيمات باعتبارات مختلفة فمنها تقسيمها إلى الداخلية والخارجية ، والداخلية إلى الداخلية بالمعنى الأخص والداخلية بالمعنى الأعم. كما أن الخارجية أيضا تنقسم إلى الأعم والأخص. والمراد من الداخلية بالمعنى الأخص خصوص الاجزاء التي يتألف منها المركب ، والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما يعم الاجزاء والشرائط والموانع التي اعتبر التعبد بها داخلا في المأمور به.

وبعبارة أخرى : المراد من الداخلية بالمعنى الأخص ما كان كل من القيد والتقييد داخلا في حقيقة المأمور به وهويته ، وذلك يختص بالاجزاء لا غير ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأعم ، وهي ما كان ذات الشيء خارجا عن حقيقة المأمور به ، سواء كان التقييد والإضافة داخلا كالشرائط والموانع ، حيث يكون ذات الشرط والمانع خارجا والتقييد والإضافة داخلا ، أو كانت الإضافة أيضا خارجة كالمقدمات العقلية التي لا دخل لها في المأمور به أصلا ، كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود إلى السطح.

والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما كان التقييد داخلا ، سواء كان نفس القيد أيضا داخلا كالاجزاء أو كان نفسه خارجا كالشرائط ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأخص ، وهي ما كان كل من القيد والتقييد خارجا ، كالمقدمات العقلية ، فالشرط والمانع له جهتان : بجهة يكون من المقدمات الداخلية باعتبار دخول التقييد ، وبجهة يكون من المقدمات الخارجية باعتبار خروج ذاته.

ثم إن المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص تنقسم إلى علة ومعد ، والمراد من المعد ما كان له دخل في وجود الشيء ، من دون ان يكون وجود ذلك الشيء مترشحا منه بحيث يكون مفيضا لوجوده ، بل كان لمجرد التهيئة والاستعداد لإفاضة العلة وجود معلولها ، كدرجات السلم ما عدا الدرجة الأخيرة ، حيث إن كل درجة تكون معدة للكون على السطح ، كما تكون معدة أيضا للكون على الدرجة التي فوقها بمعنى انه يتوقف وجود الكون على الدرجة الثانية على الكون على الدرجة الأولى ، وقد

ص: 263

يطلق المعد على ما يكون له دخل في وجود المعلول ، من دون ان يكون له دخل في وجود الجزء اللاحق كالبذر ، حيث إن له دخلا في وجود الزرع ، ولا يتوقف وجود الشمس أو الهواء عليه ، وان توقف تأثيرهما عليه. ولكن فرق بين التوقف في التأثير ، وبين التوقف في الوجود ، كمثال السلم. وقد يطلق المعد بهذا المعنى على المعد بالمعنى الأخص. والمراد من العلة هو ما يترشح منه وجود المعلول وبإفاضته يتحقق.

ثم إن العلة تنقسم إلى بسيطة ، ومركبة ، والمركبة إلى ما تكون اجزائها متدرجة في الوجود ، وما لا تكون كذلك.

فالأول كالصعود على السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، حيث إن الصعود على السلم يكون متدرجا في الوجود.

والثاني كالنار المجاورة مع عدم البلة بالنسبة إلى الاحراق ، حيث تكون العلة مركبة من النار والمجاورة وعدم البلة ، ولكن ليست هذه الاجزاء متدرجة في الوجود ، بل يمكن ان توجد العلة بجميع اجزائها دفعة واحدة ، فان كانت العلة متدرجة في الوجود كانت العلة التامة هي الجزء الأخير منها التي يتعقبها وجود المعلول ، والاجزاء السابقة عليها تكون من المعدات. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن متدرجة في الوجود ، فان العلة التامة هو مجموع الاجزاء ، بل المعلول يستند إلى المقتضى وان فرض تأخره في الوجود عن الشرط وعدم المانع ، فظهر ان ما اشتهر من أن الشيء يستند إلى الجزء الأخير من العلة انما هو فيما إذا كانت اجزاء العلة متدرجة في الوجود.

وعلى كل حال ، لا اشكال في دخول المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص في محل النزاع ما عدا العلة التامة ، واما العلة التامة ففيها كلام يأتي انشاء اللّه تعالى ، وكذا لا اشكال في دخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل النزاع ، سواء جعلت من المقدمات الداخلية أو المقدمات الخارجية على اختلاف الاعتبارات كما تقدم.

واما دخول المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص أي الاجزاء في محل النزاع فلا يخلو عن كلام ، بل ربما حكى عن بعض خروجها عن حريم النزاع ، بل ربما

ص: 264

يستشكل في كون الاجزاء مقدمة ، مع أنه لا بد من المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة ، إذ لا يعقل ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فكيف تكون الاجزاء مقدمة للكل مع أنها ليست الا عين الكل إذ الكل عبارة عن نفس الاجزاء بالأسر ، وح تكون الاجزاء واجبة بالوجوب النفسي ولا معنى لوجوبها بالوجوب المقدمي بعد كونها عين الكل واتحادها معه هذا.

وقد دفع الاشكال الشيخ ( قده ) على ما في التقريرات (1) بما حاصله : ان الكل هو عبارة عن الاجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا ، فالاجزاء لها لحاظان : لحاظها بشرط لا فتكون اجزاء ومقدمة ، ولحاظها لا بشرط فتكون عين الكل وذا المقدمة ، فاختلفت المقدمة مع ذيها اعتبارا ولحاظا هذا.

وكان الشيخ ( قده ) قاس المقام بالهيولى والصورة ، والجنس والفصل ، والمشتق ومبدء الاشتقاق ، حيث إنهم في ذلك المقام يفرقون بين الهيولي والصورة ، وبين الجنس والفصل ، باللابشرطية والبشرط اللائية ، فان اجزاء الانسان مثلا ان لوحظت بشرط لا ، تكون هيولى وصورة ، ويغاير كل منهما الآخر ، ويمتنع حمل أحدهما على الاخر ، وحملهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وان لوحظت لا بشرط تكون جنسا وفصلا ويصح حمل أحدهما على الاخر ، وحمل كل منهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وكذا الحال بالنسبة إلى المشتق ومبدء الاشتقاق على ما تقدم تفصيله في مبحث المشتق هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان قياس الاجزاء في المقام بمثل الهيولي والصورة والجنس والفصل مع الفارق ، فان معنى اللابشرط الذي يذكرونه في ذلك المقام انما هو بمعنى لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه بنحو من الاتحاد ، سواء كان من قبيل اتحاد المشتق مع ما يجرى عليه من الذات على اختلاف أنواعه : من كونه

ص: 265


1- راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث مقدمة الواجب ، « وتحقيق ذلك أن يقال .. » ص 38 - 37

اتحادا صدوريا ، أو حلوليا ، أو غير ذلك ، أو كان من قبيل اتحاد الجنس والفصل ، فإنه في مثل هذا إذا لوحظ الشيء لا بشرط كان قابلا للحمل لمكان الاتحاد الذي بينهما ، وأين هذا مما نحن فيه من الاجزاء العرضية التي يكون كل جزء منها مبائنا للاخر وللكل؟ ولا يعقل ان يتحد الجزء مع الكل في الوجود وان لوحظ بألف لا بشرط ، ولا يمكن حمل الفاتحة على الصلاة ولا حمل الأنكبين على السكنجبين.

والسر في ذلك : هو ان المركب من الاجزاء العرضية الذي يكون التركيب فيه انضماميا لا يمكن فيه اتحاد الاجزاء بعضها مع بعض ولا بعضها مع الكل في الوجود ، بل لكل وجود مغاير ، سواء كان من المركبات الاعتبارية أو كان من المركبات الخارجية ، فلا يصح حمل الفاتحة على الصلاة وان لوحظت لا بشرط ، فان لحاظ الفاتحة لا بشرط ليس معناه لحاظها لا بشرط عما يتحد معها ، إذ لم تتحد هي مع شيء في الوجود حتى يمكن لحاظها كذلك ، كما أمكن لحاظ الجنس كذلك لمكان الاتحاد الذي بينه وبين الفصل ، بل المعنى المتصور من لحاظ الفاتحة لا بشرط انما هو لحاظها بنفسها ، سواء كانت منضمة إلى غيرها أو غير منضمة ، وهذا المعنى كما ترى لا يوجب ان تكون عين الكل ولا حملها عليه ، بل بعد بينهما كمال المباينة.

وهذا بخلاف التركيب الاتحادي بنحو من الاتحاد ، ولو كان من قبيل اتحاد المشتق مع الذات الذي هو أضعف من اتحاد الجنس والفصل ، فإنه لمكان الاتحاد الذي بينهما - حيث إن وجود العرض لنفسه عين وجوده لغيره - يمكن لحاظ الاجزاء لا بشرط ، أي لحاظها على ما هي عليها من الاتحاد من دون لحاظ تجردها عما اتحد معها ، فتكون بهذا اللحاظ عين الكل ويصح الحمل حينئذ ، كما يمكن لحاظها بشرط لا - أي لحاظها غير متحدة - فتكون مغايرة للكل ويمتنع الحمل ، وأين هذا من اجزاء المركب بالتركيب الانضمامي الذي ليس فيه شائبة الاتحاد؟ كما فيما نحن فيه.

وبالجملة : دعوى ان الاجزاء في المقام ان لوحظت لا بشرط تكون عين الكل ، ما كانت ينبغي ان تصدر من مثل الشيخ ( قده ) ولعل المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ ( قده )

ص: 266

والذي ينبغي ان يقال في المقام : هو ان الكل عبارة عن الاجزاء بالأسر ، أي مجموع الاجزاء منضما بعضها مع بعض ، فهي بشرط الاجتماع تكون عين الكل ، لا هي لا بشرط ، كما في التقرير ، والاجزاء انما تكون لا بشرط. واعتبار الكل والاجزاء على هذا الوجه مما لا اشكال فيه.

ولكن مع ذلك اشكال دخول الاجزاء في محل النزاع بعد على حاله ، لأنه هب ان الاجزاء انما تكون لا بشرط ، والكل يكون بشرط الانضمام ، الا ان اللابشرط لما كان يجتمع مع الف شرط من دون ان يكون ذلك موجبا لتبدل في ذاته وتغير في حقيقته ، فالفاتحة التي تكون لا بشرط هي بعينها الفاتحة التي تكون منضمة إلى السورة والركوع والسجود وغير ذلك من اجزاء الصلاة ، فان لا بشرطيتها لا يمنع عن انضمام الغير معها ، والمفروض ان الفاتحة التي تكون منضمة إلى غيرها واجبة بالوجوب النفسي المتعلق بالكل ، وليس هناك ذات أخرى وشيء آخر يكون واجبا بالوجوب المقدمي.

وحاصل الكلام : ان اعتبار الجزء لا بشرط واعتبار الكل بشرط الانضمام ، لا يدفع اشكال كون ما وجب بالوجوب النفسي يلزم ان يكون واجبا مقدميا لنفسه بناء على دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان الاجزاء التي اعتبرت لا بشرط هي بعينها تكون منضما بعضها مع بعض ، لما عرفت من أن اللاشرطية لا تنافى الانضمام ، وما يكون واجبا بالوجوب النفسي هو هذه الاجزاء المنضمة بعينها ، فيعود محذور كون الشيء واجبا مقدميا لنفسه الواجب بالوجوب النفسي حسب الفرض.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في تقريب الاشكال في الدورة السابقة على ما حكى عنه ، وكان الاشكال كان قويا في نظره سابقا ورجح قول من قال بخروج الاجزاء عن محل النزاع ، ولكنه في هذه الدورة قد ضعف الاشكال وبنى على دخول الاجزاء في محل النزاع.

وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان المراد من البشرط الشيئية التي هي عبارة عن الكل ليس مجرد انضمام الاجزاء بعضها مع بعض بمعنى مجرد الاجتماع في الوجود ، حتى يقال : ان لا بشرطية الاجزاء لا ينافي هذا الانضمام والاجتماع في

ص: 267

الوجود بل هي هي بعينها لان اللابشرط يجامع هذا الانضمام فلا يحصل المغايرة بين الاجزاء والكل ، بل المراد من البشرط الشيئية في المقام هو لحاظ الجملة شيئا واحدا على وجه يكون للاجزاء المجتمع حالة وحدة بها يقوم الملاك والمصلحة ، وهذا المعنى من البشرط الشيئية يباين اللابشرطية ويضاده ، إذ ذوات الاجزاء ح لم تكن ملحوظة بهذا اللحاظ ، بل هذا اللحاظ يوجب فناء الذوات واندكاكها في ضمن الوحدة على وجه لا تكون الذوات ملحوظة الا تبعا ، ولا بشرطية الجزء لا يمكن ان يجامع هذا المعنى من الاجتماع والانضمام ، بل الذي يجامعه هو مجرد الاجتماع في الوجود وانضمام بعضها مع بعض. ولكن قد عرفت انه ليس المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، بل الانضمام المعتبر هو الانضمام على وجه تكون الجملة شيئا واحدا.

والذي يدل على أن المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، هو انه لو نوى الصلاة لا على وجه لحاظ الوحدة ، بل نوى كل جزء جزء مستقلا واتى بالاجزاء على هذا الوجه متعاقبة ومنضما بعضها مع بعض كانت صلوته باطلة. فيظهر من ذلك : ان المعتبر في الكل ليس مجرد الانضمام ، بل لا بد من لحاظ الوحدة. وهذا المعنى من الانضمام كما ترى متأخر في الرتبة عن لحاظ ذوات الاجزاء لا بشرط ، إذ لا بد أولا من تصور ذوات الاجزاء وبعد ذلك يجعل الجملة شيئا واحدا ، فحصلت المغايرة بين الاجزاء والكل ، وتقدم الأول على الثاني. هذا غاية ما يمكن ان يوجه دعوى مقدمية الاجزاء للكل.

ولكن مع ذلك لا ينفع في دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان التقدم المدعى للاجزاء انما هو التقدم بحسب عالم اللحاظ والتصور ، واما بحسب عالم الوجود والتحقق فليس بين الاجزاء والكل تقدم وتأخر ، بل الاجزاء بوجودها العيني عين الكل ، وتوكن واجبة بنفس وجوب الكل ، وليس لها وجود آخر تكون به واجبة بالوجوب المقدمي ، فتأمل في المقام جيدا ، هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص ، واما المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص قد عرفت ان ما عدا العلة التامة منها داخلة في محل النزاع.

ص: 268

واما العلة التامة :

فقد يقال بخروجها عن محل النزاع ، نظرا إلى أن إرادة الآمر لا بد ان تتعلق بما تتعلق به إرادة الفاعل ، وإرادة الفاعل لا تتعلق بالمعلول لأنه ليس فعلا اختياريا له ، بل هو يتبع العلة ويترشح وجوده منها قهرا ، بل إرادة الفاعل انما تتعلق بالعلة التي هي فعل اختياري له ، ومقتضى الملازمة بين الإرادتين ان تكون العلة هي متعلقة لإرادة الآمر ، فتكون هي الواجبة بالوجوب النفسي ، ولا معنى لان تكون واجبة بالوجوب المقدمي ، وربما ينقل عن السيد المرتضى (رحمه اللّه) القول بذلك ، ولكن العبارة المحكية عنه لا تنطبق على ذلك فراجع.

وعلى كل حال الذي ينبغي ان يقال : هو انه تارة يكون لكل من العلة والمعلول وجود مستقل ، وكان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر كطلوع الشمس التي يكون علة لضوء النهار ، حيث إن لكل من الطلوع والضوء وجودا يخصه ، وان كان وجود الضوء مترشحا عن وجود الطلوع وكان متولدا منه ، الا انه مع ذلك يكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر.

وأخرى لايكون كذلك ، بل كان هناك وجود واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى ، وعنوان ثانوي ، كالالقاء والاحراق ، والغسل والطهارة ، حيث إنه ليس هناك الا فعل واحد ، ويكون هذا الفعل بعنوانه الأولى القاء أو غسلا ، وبعنوانه الثانوي احراقا أو تطهيرا ، وليس ما بحذاء الالقاء أو الغسل غير ما بحذاء الاحراق أو الطهارة ، بل هو هو ولذا يحمل أحدهما على الآخر فيقال : الالقاء احراق وبالعكس والغسل طهارة وبالعكس ، لما بين العنوانين من الاتحاد في الوجود.

فان كانت العلة على الوجه الأول بحيث يغاير وجودها وجود المعلول ، فالحق انها داخلة في محل النزاع ، وتكون واجبة بالوجوب المقدمي ، والذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وإرادة الفاعل انما تتعلق به لكونه مقدورا له ولو بالواسطة ، ولا يعتبر في متعلق التكليف أزيد من ذلك. ولا يمكن ان تكون العلة واجبة بالوجوب النفسي مع أن المصلحة والملاك قائمة بالمعلول ، بل الذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وهو الذي تتعلق به إرادة الفاعل والآمر ، و

ص: 269

العلة لا تكون واجبة الا بالوجوب المقدمي.

وان كانت العلة على الوجه الثاني أي لم يكن هناك وجودان منحازان ، بل كان هناك فعل واحد معنون بعنوانين طوليين ، فالحق انه ليس هناك الا وجوب نفسي تعلق بالفعل ، غايته انه لا بعنوانه الأولى بل بعنوانه الثانوي ، فان الامر بالاحراق امر بالالقاء والامر بالالقاء امر بالاحراق ، وكذا الحال في الغسل والطهارة والانحناء والتعظيم ، وغير ذلك من العناوين التوليدية ، وذلك لوضوح انه لم يصدر من المكلف فعلان يكون أحدهما الالقاء والاخر احراقا ، بل ليس هناك الا فعل واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى وعنوان ثانوي ، بل ليس ذلك في الحقيقة من باب العلة والمعلول ، إذ العلة والمعلول يستدعيان وجودين ، وليس هنا الا وجود واحد وفعل واحد ، فليس الاحراق معلولا للالقاء ، بل المعلول والمسبب التوليدي هو الاحتراق لا الاحراق الذي هو فعل المكلف ، وكذا لكلام في الغسل والتطهير ، حيث إن التطهير ليس معلولا للغسل ، بل المعلول هو الطهارة ، ومن ذلك ظهر ان اطلاق المسببات التوليدية على العناوين التوليدية لا يخلو عن مسامحة لان المسبب التوليدي ما كان له وجود يخصه غير وجود السبب كطلوع الشمس وإضاءة النهار ، وليس المقام من هذا القبيل ، مثلا فرق بين فرى الأوداج الذي يكون معنونا بعنوان القتل ، وبين اسقاء السم الذي يتولد منه القتل ، فان القتل في الأول يكون من العناوين التوليدية ، وفي الثاني يكون من المسببات التوليدية ، والأسباب التي جعلوها موجبة للضمان في مقابل المباشرة كلها ترجع إلى المسببات التوليدية ، فتأمل جيدا.

فالالقاء أو الغسل ليس واجبا بالوجوب المقدمي ، بل هو واجب بالوجوب النفسي ، غايته لا بعنوانه الأولى أي بما انه القاء أو صب الماء ، بل بعنوانه الثانوي أي بما انه احراق وافراغ للمحل عن النجاسة ، والذي يدل على أنه ليس هناك فعلان وليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، هو صحة حمل أحدهما على الاخر وصحة تعلق التكليف بكل منهما ، كما ورد : اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يوكل ، وورد أيضا وثيابك فطهر.

ص: 270

وبالجملة باب العناوين التوليدية ، ليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، فليس هناك الا واجب نفسي واحد تعلق بالفعل لا بما هو وبعنوانه الأولى ، بل بعنوانه الثانوي. هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية والخارجية بمعناهما الأعم والأخص.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى العقلية والعادية والشرعية. والمراد من الشرعية الشروط والموانع ، وقد تقدم انها مندرجة في المقدمات الداخلية أو الخارجية على اختلاف الاعتبارين. والمراد من العادية ما جرت العادة على التوقف عليها كنصب السلم ، وهي في الحقيقة ترجع إلى العقلية باعتبار وليس هذا تقسيما آخر للمقدمة ، بل تكون من الخارجية بالمعنى الأخص.

وقد تقسم المقدمة إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ترجع إلى مقدمة الوجود ، وهي تدخل في المقدمة الداخلية أو الخارجية.

وقد تقسم أيضا إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود ، ولا يخفى ان مقدمة العلم ليست من اقسام المقدمة المبحوث عنها في المقام ، بل هي مقدمة للعلم بتحقق الامتثال الذي يحكم به العقل في موارد العلم الاجمالي.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى المقارنة ، والمتقدمة ، والمتأخرة في الوجود ، وهي المعبر عنها بالشرط المتأخر ، وقد وقع النزاع في جوازه وامتناعه. وتحرير محل النزاع يتوقف على تقديم أمور :

( الامر الأول )

ينبغي خروج شرط متعلق التكليف عن حريم النزاع ، لان حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه وعدم الخروج عن عهدة التكليف الا به ، فكما انه لا اشكال فيما إذا كان بعض اجزاء المركب متأخرا عن الاخر في الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، كما إذا امر بمركب بعض اجزائه في أول النهار والبعض الاخر في آخر النهار ، كذلك لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا في

ص: 271

الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، ومجرد دخول الجزء قيدا وتقييدا في المركب وخروج الشرط قيدا لايكون فارقا في المقام بعد ما كان التقييد داخلا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان اشكال الشرط المتأخر انما هو لزوم الخلف والمناقضة ، وتقدم المعلول على علته ، وتأثير المعدوم في الموجود على ما سيأتي بيانه ، وشيء من ذلك لا يجرى في شرط متعلق التكليف ، لأنه بعد ما كان الملاك والامتثال والخروج عن عهدة التكليف موقوفا على حصول التقييد الحاصل بحصول ذات القيد ، فأي خلف يلزم؟ وأي معلول يتقدم على علته؟ أو أي معدوم يؤثر في الموجود؟ فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم المستحاضة؟ فان حقيقة الاشتراط يرجع إلى أن الإضافة الحاصلة بين الصوم والغسل شرط في صحة الصوم ، بحيث لايكون الصوم صحيحا الا بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل.

نعم لو قلنا : ان غسل الليل المستقبل موجب لرفع حدث الاستحاضة عن الزمان الماضي ، بحيث يكون غسل المغرب يوجب رفع الحدث من الظهر ، أو قلنا : ان غسل الليل يوجب تحقق الامتثال من السابق وان لم يوجب رفع الحدث عنه ، كان الاشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه كما لا يخفى ، الا ان حديث جعل الغسل شرطا للصوم لا يقتضى ذلك ، بل أقصاه انه لا يتحقق صحة الصوم الا به ، غايته انه لا على وجه الجزئية ، بل على وجه القيدية ، وذلك مما لا محذور فيه بعد ما كان الغسل فعلا اختياريا للمكلف وكان قادرا على ايجاده في موطنه ، فتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى قيود متعلق التكليف مما لا وجه له.

( الامر الثاني )

لا اشكال في خروج العلل الفائتة عن حريم النزاع ، فان العلل الفائتة غالبا متأخرة في الوجود عما تترتب عليه ، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة وحركة العضلات نحو ما تترتب عليه حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وتقدم المعلول على علته ، بل العلة والمحرك هو وجوده ا العلمي ، مثلا علم النجار بترتب النوم على السرير موجب لحركة عضلاته نحو صنع السرير ، وكذا علم المستقبل

ص: 272

بمجيئ زيد في الغد يوجب ارادته للاستقبال ، ولا اثر لوجودهما العيني في ذلك ، فان من لم يعلم بقدوم زيد في الغد لا يتحقق منه إرادة الاستقبال وان فرض قدومه في الغد ، كما أن علمه بقدومه يوجب إرادة الاستقبال وان فرض عدم قدومه ، فالمؤثر هو الوجود العلمي ، وكذا الحال في علل التشريع ، فان علل التشريع هي العلل الفائتة ولا فرق بينهما ، الا انهم اصطلحوا في التعبير عنها في الشرعيات بعلل التشريع وحكم التشريع ، وفي التكوينيات بالعلل الفائتة ، وعلى كل حال علم الآمر بترتب الحكمة موجب للامر وان كانت هي بوجودها العيني متأخرة عن الامر ، فما كان من العلل الفائتة والعلل التشريعية لا يندرج في الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام ، وذلك واضح.

( الامر الثالث )

ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعية ، كالتقدم ، والتأخر ، والسبق ، واللحوق ، والتعقب ، وغير ذلك من الإضافات والأمور الانتزاعية ، فلو كان عنوان التقدم والتعقب شرطا لوضع أو تكليف لايكون ذلك من الشرط المتأخر ، ولا يلزم الخلف وتأثير المعدوم في الموجود وتقدم المعلول على علته ، وذلك لان عنوان التقدم ينتزع من ذات المتقدم عند تأخر شيء عنه ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم عن شيء على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل في بعض المقامات مما لا يمكن ذلك ، كتقدم بعض اجزاء الزمان على بعض ، فان عنوان التقدم ينتزع لليوم الحاضر لتحقق الغد في موطنه ، فيقال : هذا اليوم متقدم على غد ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم لليوم الحاضر على مجيء الغد ، بل لا يصح لتصرم اليوم الحاضر عند مجيء الغد ، ولا معنى لاتصافه بالتقدم حال تصرمه وانعدامه. هذا حال الزمان ، وقس على ذلك حال الزمانيات الطولية في الزمان ، حيث يكون أحد الزمانيين مقدما على الاخر في موطن وجوده لمكان وجود المتأخر في موطنه ، فيقال زيد مقدم على عمرو ولو لم يكن عمرو موجودا في الحال ، بل يكفي وجوده فيما بعد في انتزاع عنوان التقدم لزيد في موطن وجوده.

ص: 273

( الامر الرابع )

لا اشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع مط بجميع أقسامها وشؤونها : من البسيطة ، والمركبة ، والتامة ، والناقصة ، والشرط ، والمقتضى ، وعدم المانع ، والمعد ، وكل ما يكون له دخل في التأثير ، سواء كان له دخل في تأثير المقتضى كالشرط وعدم المانع ، أو كان له دخل في وجود المعلول بحيث يترشح منه وجود المعلول كالمقتضى ، فان امتناع تأخر بعض اجزاء العلة عن المعلول من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى مؤنة برهان ، لان اجزاء العلة بجميع أقسامها تكون مما لها دخل في وجود المعلول على اختلاف مراتب الدخل حسب اختلاف مراتب اجزاء العلة من الجزء الأخير منها إلى أول مقدمة اعدادية ، ويشترك الكل في اعطاء الوجود للمعلول ، ومعلوم : ان فاقد الشيء لايكون معطي الشيء ، وكيف يعقل الإفاضة والرشح مما لا حظ له من الوجود.

وبالجملة : امتناع الشرط المتأخر في باب العلل العقلية أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصور معنى العلية والمعلولية. وعليك بمراجعة (1) ما علقه السيد

ص: 274


1- هذا إشارة إلى ما ذكره الفقيه الجليل السيد محمد كاظم الطباطبائي في التعليقة في دفع ما افاده الشيخ قدس سره في المكاسب من عدم الفرق في استحالة تأثير المتأخر في المتقدم شرطا كان أو سببا بين الأمور العقلية والشرعية. توضيح ذلك : ان صاحب الجواهر قدس سره التزم بكاشفية الإجازة في العقد الفضولي وذكر ان استحالة تأثير المتأخر في المتقدم سببا كان أو شرطا تختص بالأمور العقلية ، واما الاعتباريات ومنها المجعولات الشرعية ليست مجرى هذه القاعدة ، وذكر ان الشارع كثيرا ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبب كغسل الجمعة يوم الخميس واعطاء الفطرة قبل وقته فضلا عن تقدم المشروط على الشرط كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة و .. ودفعه الشيخ قدس سره : بأنه لا فرق فيما فرض شرطا أو سببا بين الشرعي وغيره ، وتكثير الامثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي. وأورد عليه السيد في حاشيته على المكاسب بما هذا لفظه : « ودعوى ان ذلك من المحال العقلي ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه مدفوعة. أولا : بان الوجه في الاستحالة ليس الا كونه معدوما ولا يمكن تأثير المعدوم في الموجود وهذا يستلزم عدم جواز تقدم الشرط أيضا على المشروط ، لأنه حال وجود المشروط معدوم ، وكذا تقدم المقتضى واجزائه ، ولازم هذا التزام ان المؤثر في النقل ( التاء ) من قوله : ( قبلت ) وان الاجزاء السابقة ليست بمؤثرة أو انها معدات. وثانيا : بامكان دعوى ان المؤثر انما هو الوجود الدهري للإجازة وهو متحقق حال العقد وانما تأخره في سلسلة الزمان. وثالثا : نقول : ان الممتنع انما هو تأثير المعدوم الصرف ، لا ما يوجد ولو بعد ذلك. ورابعا : على فرض تسليم الامتناع نقول : ان ذلك مسلم فيما إذا كان المؤثر تاما لا مجرد المدخلية ، فان التأخر في مثل هذا مما لا مانع منه ، وأدل الدليل على امكانه وقوعه اما في الشرعيات ففوق حد الاحصاء ، واما في العقليات فلان من المعلوم ان وصف التعقب مثلا متحقق حين العقد مع أنه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك ، فان كانت في علم اللّه موجودة فيما بعد فهو متصف الان بهذا الوصف والا فلا ، لا يقال : انه من الأمور الاعتبارية. لأنا نقول : لو لم يكن هناك معتبر أيضا يكون هذا الوصف متحققا ، وكذا الكلام في وصف الأولوية والتقدم مثلا يوم أول الشهر متصف الان بأنه أول ، مع أنه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك ومتصف بالتقدم فعلا مع أنه مشروط بمجيئ التأخر ، وهكذا الجزء الأول من الصلاة متصف بأنه صلاة إذا وجد في علم اللّه بقية الاجزاء ، وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أول الشروع يقال : انه مشتغل بالتصوير بشرط ان يأتي ببقية الاجزاء ، وهكذا امساك أول الفجر صوم لو بقى إلى الآخر ، وكذا لو هيأ غذاء للضيف يقال : انه فيه مصلحة وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك ، والا فهو من أول الامر متصف بأنه لغو ، وكذا لو حفر بئرا ليصل إلى الماء فإنه متصف من الأول بعدم اللغوية ان وصل إليه ، والا فباللغوية ، وهكذا إلى ما شاء اللّه من اتصاف شيء بوصف فعلى مع اناطته بوجود مستقبلي. بل أقول : لا مانع من أن يدعى مدع ان النفوس الفلكية والأوضاع السماوية والأرضية كما أن كل سابق معد لوجود اللاحق كذلك كل لاحق له مدخلية في وجود السابق. بل يمكن ان يقال : ان جميع اجزاء العالم مرتبطة بمعنى انه لولا هذا لم يوجد ذاك وبالعكس ، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم ، وهكذا ، فجميع العالم موجود واحد تدريجي ولا يمكن ايجاد بعضه من دون بعض والانصاف : انه لا ساد لهذا الاحتمال ولا دليل على بطلان هذا المقال .. » ( حاشية السيد على المكاسب. كتاب البيع. في تحقيق وجوه الكشف والنقل ص 150

الطباطبائي ره على المكاسب في باب الإجازة في العقد الفضولي ، ليظهر لك ما وقع في كلامه من الخلط والاشتباه.

إذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك ان محل النزاع في الشرط المتأخر انما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف ، وبعبارة أخرى : محل الكلام انما هو في موضوعات الاحكام وضعية كانت أو تكليفية ، فقيود متعلق التكليف ، و

ص: 275

العلل الفائتة ، والأمور الانتزاعية ، والعلل العقلية ، خارجة عن حريم النزاع.

وبعد ذلك نقول : ان امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الاحكام يتوقف على بيان المراد من الموضوع ، وهو يتوقف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، وقد تقدم منا شطر من الكلام في ذلك في باب الواجب المشروط والمطلق ، ولا بأس بالإشارة الاجمالية إليه ثانيا.

فنقول : القضايا الخارجية عبارة عن قضايا جزئية شخصية خارجية ، كقوله : يا زيد أكرم عمروا ، ويا عمرو حج ، ويا بكر صل ، وغير ذلك من القضايا المتوجهة إلى آحاد الناس من دون ان يجمعها جامع ، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فان الأشخاص والآحاد لم تلاحظ فيها ، وانما الملحوظ فيها عنوان كلي رتب المحمول عليه ، كما إذا قيل : أهن الجاهل ، وأكرم العالم ، فان الملحوظ هو عنوان الجاهل والعالم ويكون هو الموضوع لوجوب الاكرام من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد وعمرو وبكر ، بل إن كان زيد من افراد العالم أو الجاهل فالعنوان ينطبق عليه قهرا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، حيث يكون الموضوع فيها هو العنوان الكلي الجامع ويكون ذلك العنوان بمنزلة الكبرى الكلية ، ومن هنا يحتاج في اثبات المحمول لموضوع خاص إلى تأليف قياس ، ويجعل الموضوع الخاص صغرى القياس والعنوان الكلي كبرى القياس ، فيقال : زيد عالم وكل عالم يجب اكرامه فزيد يجب اكرامه ، وهذا بخلاف القضايا الخارجية ، فان المحمول فيها ثابت لموضوعه ابتداء من دون توسط قياس كما هو واضح ، وقد استقصينا الكلام في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والأمور التي تترتب عليه ، والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى الفرق ، حيث إن المقام أيضا من تلك الأمور المترتبة على الفرق بين القضيتين. ومجمل الفرق بينهما : هو ان الموضوع في القضية الحقيقية حملية كانت أو شرطية ، خبرية كانت أو انشائية ، هو العنوان الكلي الجامع بين ما ينطبق عليه من الافراد ، وفي القضية الخارجية يكون هو الشخص الخارجي الجزئي ، ويتفرع على هذا الفرق أمور تقدمت الإشارة إليها - منها : ان العلم انما يكون له دخل في القضية

ص: 276

الخارجية دون القضية الحقيقية.

وتوضيح ذلك : هو ان حركة إرادة الفاعل نحو الفعل ، أو الآمر نحو الامر انما يكون لمكان علم الفاعل والآمر بما يترتب على فعله وأمره ، وما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، وليس لوجود تلك القيود دخل في الإرادة ، بل الذي يكون له دخل فيها هو العلم بتحققها ، مثلا لو كان لعلم زيد دخل في اكرامه ، فمتى كان الشخص عالما بان زيدا عالم يقدم على اكرامه مباشرة أو يأمر باكرامه ، سواء كان زيد في الواقع عالما أو لم يكن ، وان لم يكن الشخص عالما بعلم زيد لا يباشر اكرامه ولا يأمر به وان كان في الواقع عالما ، فدخل العلم في وجوب اكرام زيد يلحق بالعلل الفائتة التي قد عرفت انها انما تؤثر بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، وهكذا الحال في سائر الأمور الخارجية ، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار لا نفس وجود الأسد واقعا ، وكذا العلم بوجود الماء في الطريق يوجب الطلب لا نفس الماء ، وهكذا جميع القضايا الشخصية حملية كانت أو انشائية المدار فيها انما يكون على العلم بوجود ما يعتبر في ثبوت المحمول ، لا على نفس الثبوت الواقعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لا دخل للعلم فيها أصلا ، لمكان ان الموضوع فيها انما هو العنوان الكلي الجامع لما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، والمحمول فيها انما هو مترتب على ذلك العنوان الجامع ، ولا دخل لعلم الآمر بتحقق تلك القيود وعدم تحققها ، بل المدار على تحققها العيني الخارجي ، مثلا الموضوع في مثل - لله على الناس حج البيت الخ - انما هو المستطيع ، فان كان زيد مستطيعا يجب عليه الحج ويترتب عليه المحمول ، ولو فرض ان الآمر لم يعلم باستطاعة زيد بل علم عدم استطاعته. ولو لم يكن مستطيعا لا يجب عليه الحج ولو فرض ان الآمر علم بكونه مستطيعا. فالقضية الخارجية انما تكون في طريق النقيض للقضية الحقيقية من حيث دخل العلم وعدمه. وان أردت توضيح ذلك فعليك بمراجعة ما سطرناه في الواجب المعلق. (1)

ص: 277


1- راجع بحث الواجب المعلق من مباحث تقسيمات الواجب من هذا الكتاب ، ص 170
إذا عرفت ذلك

فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الشخصية الخارجية ، بحيث يكون ما ورد في الكتاب والسنة اخبارات عن انشاءات لا حقة ، حتى يكون لكل فرد من افراد المكلفين انشاء يخصه عند وجوده ، فان ذلك ضروري البطلان كما أوضحناه فيما سبق ، بل هي انشاءات أزلية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، كما هو ظاهر ما ورد في الكتاب والسنة.

وحيث عرفت الفرق بين القضيتين ، وان المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الخارجية ، ظهر لك المراد من موضوعات الاحكام التي هي محل النزاع في المقام ، وانها عبارة عن العناوين الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها ، ويكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العلة إلى معلولها وان لم يكن من ذاك الباب حقيقة بناء على المختار من عدم جعل السببية ، الا انه يكون نظير ذلك من حيث التوقف والترتب ، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلى تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع على جهة الجزئية أو الشرطية عن الحكم التكليفي أو الوضعي ، بان يتقدم الحكم على بعض اجزاء موضوعه.

ومما ذكرنا ظهر ان ما صنعه في الكفاية (1) والفوائد (2) من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي والى عالم اللحاظ ، مما لا ماس له فيما هو محل النزاع ، وخروج عن موضوع البحث بالكلية ، فان تأثير الوجود العلمي انما يكون في العلل الفائتة ، لا في موضوعات الاحكام. وارجاع الشرط المتأخر في باب الاحكام إلى الوجود العلمي لا يستقيم ، الا إذا جعلنا الاحكام من قبيل القضايا الخارجية ، وأن يكون ما ورد في الكتاب اخبارا عن انشاء لاحق عند تحقق افراد المكلفين ،

ص: 278


1- راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، مباحث مقدمة الواجب منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة. ص 145 إلى 148
2- راجع الفوائد ، المطبوعة في آخر حاشية على الرسائل ص 291 ، فائدة : لا يخفى ان قضية الاشتراط تقدم الشرط على المشروط ..

فيكون لكل فرد انشاء يخصه عند وجوده ، وح يكون المناط هو علم الآمر بواجدية الفرد لمناط حكمه من كونه عالما مستطيعا ، أو كون هذا العقد مما يلحقه إجازة المالك ، وغير ذلك من العناوين التي تكون في القضايا الخارجية كلها من العلل الفائتة التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، على ما تقدم بيانه ، وليس في القضايا الخارجية طائفتان : طائفة تسمى بموضوعات الاحكام ، وطائفة تسمى بالعلل الفائتة وعلل التشريع ، كما كان في القضايا الحقيقية كذلك ، أي كان لكل قضية طائفتان : موضوع الحكم ، وعلة التشريع ، بناء على ما ذهبت إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فان جميع العناوين فيها تكون من علل التشريع ، وليس لها موضوع يترتب الحكم عليه سوى شخص زيد ، وما عدا شخص زيد لا دخل له في الحكم بوجوده العيني ، وانما يكون له دخل بوجوده العلمي ، ومن هنا تسالم الفقهاء : على أنه لو اذن لزيد في اكل الطعام أو دخول الدار لمكان علمه بان زيدا صديق له جاز لزيد اكل الطعام أو دخول الدار ، وان لم يكن في الواقع صديقا له ، بل كان عدوا له ، لان الاذن قد تعلق بشخص زيد ولا اثر لعلمه بصداقته في جواز الدخول ، وانما يكون العلم له دخل في نفس اذنه.

وهذا بخلاف ما إذا اذن لعنوان صديقه وقال : من كان صديقي فليدخل ، أو قيد الحكم بالصداقة وقال : يا زيد ادخل الدار ان كنت صديقي ، فإنه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدار إذا لم يكن صديقا وان علم الآذن بأنه صديق ، فإنه ليس المدار على علم الآذن ، بل المدار على واقع الصداقة ، من غير فرق بين اخذ الصداقة عنوانا أو قيدا من الجهة التي نحن فيها.

نعم : بينهما فرق من جهة أخرى : وهو انه لو اخذ الشيء على جهة العنوانية أوجب تعدى الحكم عن مورده إلى كل ما يكون العنوان منطبقا عليه ، فلو قال مخاطبا لزيد : يا صديقي ادخل الدار جاز لعمرو أيضا دخول الدار إذا كان صديقا ، الا إذا علم مدخلية خصوصية زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا كان قيدا ، فإنه لا يجوز لغير زيد دخول الدار وان كان مشاركا له في القيد ، و

ص: 279

تفترق العنوانية والقيدية أيضا في باب العقود ، حيث إن العقد على عنوان يوجب بطلان العقد عند تخلفه ، بخلاف العقد على مقيد ، فإنه عند تخلف القيد يوجب الخيار.

وعلى كل حال : قد أطلنا الكلام في ذلك ، لتوضيح ان العلم لا دخل له في القضايا التي تكون موضوعاتها العناوين الكلية. وانما العلم يكون له دخل في القضايا الشخصية. وارجاع الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام إلى الوجود العلمي وان المؤثر هو العلم ، لا يستقيم الا بجعل الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، ولكن هو ( قده ) لم يلتزم بذلك ، ولا يمكن الالتزام به ، لما تقدم من أن الضرورة قاضية بان الأحكام الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا معنى لارجاع الشرط المتأخر إلى عالم اللحاظ والوجود العلمي.

إذا عرفت ذلك ظهر لك : ان امتناع الشرط المتأخر من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى برهان ، بل يكفي في امتناعه نفس تصوره ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بجعل السببية ، أو لا نقول بذلك وقلنا : ان المجعول هو نفس الحكم الشرعي مترتبا على موضوعه ، فإنه بناء على جعل السببية يكون حال الشرعيات حال العقليات ، التي قد تقدم امتناع تأخر العلة فيها أو جزئها أو شرطها أو غير ذلك مما له أدنى دخل في تحقق المعلول ، عن معلولها.

واما توهم ان الممتنع هو تأخر المقتضى الذي يستند وجود المعلول إليه - دون تأخر الشرط حيث لا محذور في تأخره - ففساده غنى عن البيان ، وان كان ربما يظهر من بعض الكلمات القول به ، فإنه بعد فرض كون الشيء شرطا اما لتأثير المقتضى ، واما لقابلية المحل - على الوجهين في الشروط العقلية - كيف يعقل حصول اثر المقتضى مع عدم وجود شرطه؟ وهل هذا الا لزوم تقدم المعلول على علته؟ واما بناء على عدم جعل السببية كما هو المختار ، فلان الموضوع وان لم يكن علة للحكم ، الا انه ملحق بالعلة من حيث ترتب الحكم عليه ، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد فرض اخذه موضوعا ، للزوم الخلف ، وان ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا.

واما توهم ان امتناع الشرط المتأخر انما يكون في التكوينيات - دون

ص: 280

الاعتباريات والشرعيات التي أمرها بيد المعتبر والشارع ، حيث إن له ان يعتبر كون الشيء المتأخر شرطا لأمر متقدم - ففساده أيضا غنى عن البيان ، لأنه ليس المراد من الاعتبار مجرد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع ، غايته ان واقعها عين اعتبارها ، وبعد اعتبار شيء شرطا لشيء واخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كل شرط ، كيف يمكن تقدم الحكم على شرطه؟ وهل هذا الا خلاف ما اعتبره؟.

وبالجملة : بعد فرض اعتبار شيء موضوعا للحكم لا يمكن ان يتخلف ويتقدم ذلك الحكم على موضوعه ، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر. وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه : هو ان الشرط عنوان التعقب والوصف الانتزاعي ، وقد تقدم عدم توقف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه ، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب ، وان السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقب بالإجازة ، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا الوجه وان لم يلزم منه محذور عقلي ، ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة في الشرط المتأخر ، الا ان ارجاع الشرط إلى الامر الانتزاعي ووصف التعقب يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وأن يكون مما يساعد عليه العقل والاعتبار ، وليس لنا ارجاع كل شرط إلى عنوان التعقب.

نعم : يستقيم ذلك في باب المركبات الارتباطية التي اعتبرت الوحدة فيها ، كالصوم على ما تقدم بيانه في الواجب المعلق ، حيث قلنا : ان في باب الصوم ، لما كان ظرف التكليف وشرطه وامتثاله متحدا ، لمكان ان الصوم ليس الا عبارة عن الامساكات المتتابعة في آنات النهار المتصلة ، والتكليف بالامساك في كل آن مشروط بالقدرة عليه في ذلك الآن ، واما القدرة على الامساكات الاخر المتأخرة فليست شرطا للتكليف بالامساك في الآن السابق حتى يلزم اشتراط التكليف بأمر متأخر ، بل الشرط هو تعقب القدرة في الآن السابق بالقدرة في الآن اللاحق ، فالتكليف في كل آن يكون مشروطا بالقدرة على ذلك الآن نفسه ، ومشروطا أيضا

ص: 281

بتعقبها بالقدرة على الآن اللاحق لمكان اعتبار الصوم أمرا واحدا وكون امساكاته مرتبطا بعضها مع بعض ، فنفس اعتبار الوحدة والارتباطية يقتضى ان يكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر. وان أردت تفصيل ذلك فعليك بمراجعة ما ذكرناه في الواجب المعلق.

وبالجملة : اعتبار عنوان التعقب في الارتباطيات التي لها جهة وحدة مما يساعد عليه الاعتبار ، حيث إن أصل التكليف بالجزء السابق وحصول امتثاله بما انه جزء للمركب انما يكون بتعقب ذلك الجزء للاجزاء الاخر ، فاعتبار الوحدة في المكلف به يقتضى ذلك.

وليس الشأن في باب الإجازة كذلك ، لأن الاعتبار والعقل لا يساعد على انتقال المال عن مالكه من زمن العقد لمجرد انه يتعقبه الرضا والإجازة ، مع أن الرضا مقوم للانتقال ، حيث إنه لا يحل مال امرء الا عن طيب نفسه. وهل يمكن لاحد ان يقول : بإباحة مال الناس لمكان تحقق الرضاء منهم بعد ذلك؟ أو هل يفرق بين الإباحة وبين خروج المال عن ملكه؟ فدعوى ان الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب مما لا يساعد عليه لا العقل ، ولا الدليل ، ولا الاعتبار ، فلا محيص ح عن القول بالنقل وانه من حين الإجازة ينتقل المال إلى المشترى. الا ان يقوم دليل على ترتيب بعض الآثار من حين الإجازة من زمن العقد ، بان يقوم دليل على أنه حين ما أجاز المالك يكون النماء للمشتري من حين العقد ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى النقل ، لأنه من حين الإجازة ينتقل النماء السابق إلى المشترى ، كما ربما يدعى دلالة رواية عروة البارقي على ذلك ، وهذا هو المراد من الكشف الحكمي الذي اختاره الشيخ ( قده ) (1).

وربما حكى عن بعض المشايخ عدم الحاجة إلى قيام دليل في الكشف الحكمي ، بل نفس دليل نفوذ الإجازة واعتبارها يقتضى ترتيب الآثار من حين العقد عند إجازة المالك ، وذلك لان مفاد العقد هو النقل من حينه ، والإجازة انما 3

ص: 282


1- راجع المكاسب ، قسم البيع ، تحقيق وجوه الكشف من مباحث بيع الفضولي ص 133

تتعلق بما أنشأه العاقد ، فيكون مفاد الإجازة هو انفاذ ما أنشأه العاقد ، وقام الدليل على صحة انفاذ المالك ما أنشأه العاقد ، والمفروض ان العاقد انما أنشأ الملكية من حين العقد ، غايته ان أصل الملكية لا يمكن ان تكون حين العقد ، لاستلزامه المحذور المتقدم في الشرط المتأخر ، واما ترتيب الآثار من زمن العقد عند الإجازة فلا محذور فيه ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر غير دليل صحة الإجازة هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان العاقد لم ينشأ الملكية من حين العقد ، بل انشائه كان في ذلك الحين ، واما منشأه فهو أصل الملكية معراة عن الزمان ، وليس للعاقد تقييد الملكية من زمان خاص ، فان امر ذلك ليس بيده ، فهل ترى ان يكون للعاقد انشاء الملكية من قبل السنة؟.

وبالجملة : المنشأ هو أصل الملكية معراة عن الزمان ، والإجازة انما تتعلق بأصل الملكية المنشأة ، ودليل نفوذها لا يقتضى أزيد من تحقق الملكية ، ومقتضى ذلك هو النقل من حيث الملكية ومن حيث الآثار ، فالكشف الحكمي لا بد من قيام الدليل عليه ، والا فالقاعدة لا تقتضي أزيد من النقل.

وما استدل به على بطلان النقل وان القاعدة تقتضي الكشف الحقيقي : من أن العقد عدم حين الإجازة ، فلو قيل بالنقل يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وهذا هو الذي حكاه الفخر عن بعض ، وليس من كلام نفس الفخر - على ما حكاه شيخنا الأستاذ من عبارته - حيث نقل ( مد ظله ) ان الفخر بعد ما نقل الاستدلال بذلك رده والتزم بالنقل بعد التنزل والقول بصحة عقد الفضولي ، والا فهو منكر لأصل صحة الفضولي.

وعلى كل حال : ان الاستدلال للكشف بذلك واضح الفساد ، فان العقد بناء على كون الإجازة شرطا يكون حاله حال العقد في الصرف والسلم ، حيث تتوقف الملكية على القبض فيهما ، وليس المقام من باب التأثير والتأثر حتى يقال : يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، لان التأثير والتأثر انما يكون بناء على جعل السببية الذي قد أبطلناه.

واما بناء على أن المجعول هو الحكم على فرض وجود موضوعه فلا يلزم تأثير

ص: 283

المعدوم في الموجود ، بل غايته ان الشارع رتب الملكية على الايجاب والقبول والإجازة ، فيكون كل من الايجاب والقبول والإجازة جزء الموضوع ، ولا يلزم ان تكون اجزاء الموضوع مجتمعة في الزمان ، بل يكفي وجودها ولو متفرقة ، ويكون نسبة الجزء السابق إلى اللاحق نسبة المعد في اجزاء العلة التكوينية المتصرمة في الوجود ، حيث إن الجزء السابق انما يكون معدا واثره ليس الا الاعداد وهو حاصل عند وجوده ، فلا يلزم تأخر الأثر عن المؤثر ، بل اثر كل جزء انما يتحقق في زمان ذلك الجزء ، غايته ان الأثر يختلف ، فاثر الاجزاء السابقة على الجزء الأخير من العلة التامة انما هو الاعداد ، واثر الجزء الأخير هو وجود المعلول ، فليس في سلسلة اجزاء العلة المتدرجة في الوجود ما يلزم منه تأخر الأثر عن المؤثر وتأثير المعدوم في الموجود.

وبما ذكرنا ظهر فساد مقايسة الشرط المتأخر بالشرط المتقدم ، وتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى الشرط المتقدم ، وذلك لما عرفت من أن الشرط المتقدم كالجزء المتقدم مما لا اشكال فيه حيث إنه ليس اثر المتقدم الا الاعداد ، وهو حاصل مقارنا لوجود المتقدم ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في مقدمة الواجب. وبعد ذلك نقول : لا ينبغي الاشكال في وجوب المقدمة بالمعنى المتقدم ، لوضوح انه لا يكاد يتخلف إرادة المقدمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدمة وانه لا يمكن التوصل إلى المطلوب الا بها ، وان أردت توضيح ذلك ، فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فهل ترى انك لو أردت شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات يمكنك ان لا تريد تلك المقدمات؟ لا بل لابد من أن تتولد إرادة المقدمات من إرادة ذلك الشيء قهرا عليك ، بحيث لا يمكنك ان لا تريد بعد الالتفات إلى المقدمات ، والا يلزم ان لا تريد ذا المقدمة ، وهذا واضح وجدانا ، إرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل.

ودعوى انه لا موجب لإرادة المقدمات - بعد حكم العقل بأنه لابد من اتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها - فاسدة ، فإنه ليس كلامنا في الحاجة وعدم الحاجة ، بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الآمر قهرا ، بحيث لا يمكن ان لا يريدها ، فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدم

ص: 284

الحاجة ، حتى يقال : لا حاجة إلى ارادتها بعد حكم العقل.

نعم : لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها ، وكان الأقوى ح عدم وجوبها ، الا انه ليس الكلام في هذا النحو من الوجوب ، بل الكلام في الوجوب القهري التبعي الترشحي ، وهذا النحو من الوجوب مما لابد منه وان لم يكن له اثر على ما يأتي بيانه في ثمرة المسألة - الا ان عدم الثمرة لا يضر بهذا المعنى من الوجوب القهري ، وانما يضر بالوجوب الأصلي النفسي ، ونحن لا نقول به.

وبالجملة : بعد شهادة الوجدان بتعلق الإرادة بالمقدمة عند إرادة ذيها ، لا حاجة إلى إطالة الكلام في الاستدلال على ذلك بما لا يخلو عن مناقشة ، فلاحظ ما استدل به في المقام للطرفين ، والأولى إحالة الامر إلى الوجدان.

وينبغي التنبيه على أمور :
( الامر الأول )

لا اشكال في أن وجوب المقدمة يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، ولا يعقل ان يكون وجوبها مغايرا لوجوب ذيها ، لأن المفروض ان وجوبها انما تولد من ذلك ، فلا يمكن ان يتلون بلون مغاير ، وما يشاهد في بعض المقامات من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها فإنما هو لبرهان التفويت ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

( الامر الثاني )

اختلفوا في أن معروض الوجوب في باب المقدمة ما هو؟.

فقيل : ان معروضه هو ذات المقدمة مط.

وقيل : ان معروضه هو الذات الموصلة إلى ذيها.

وقيل : هو الذات عند إرادة ذيها ،

وقيل : هو الذات بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها ،

ولعل منشأ اعتبار القيود الزائدة على الذات هو استبعاد كون الواجب هو نفس الذات من غير اعتبار شيء ، مع أنه قد تكون الذات محرمة ويتوقف واجب أهم عليها ، كما لو فرض توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير ، فان القول بكون

ص: 285

التصرف واجبا مط ولو لم يكن من قصد المتصرف انقاذ الغريق - بل تصرف للعدوان ، أو للتنزه والتفرج - مما يأباه الذوق ولا يساعد عليه الوجدان ، وكذا يبعد ان يكون خروج من وجب عليه الحج من داره إلى السوق لقضاء حاجة واجبا ، بحيث يكون كلما خرج من داره قد اشتغل بفعل الواجب ، ويكون عوده إلى داره هدما لذلك الواجب ، فان هذا بعيد غايته.

ولمكان هذا الاستبعاد قيد صاحب المعالم (رحمه اللّه) (1) وجوب المقدمة بقيد إرادة ذيها ، فلا تتصف المقدمة بالوجوب الا عند إرادة ذيها. وقيد الشيخ ( قده ) (2) على ما في التقرير وجوبها بصورة قصد التوصل إلى ذي المقدمة. وقيد (3) صاحب الفصول بصورة التوصل بها إلى ذيها ، فيكون الواجب هو المقدمة الموصلة. كل ذلك يكون دفعا للاستبعاد المذكور هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، انه لا يمكن المساعدة على شيء من هذه القيود.

اما ما اختاره صاحب المعالم (رحمه اللّه) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة ، ففيه : ان اشتراط الوجوب بالإرادة ، اما ان يكون مقصورا على .

ص: 286


1- هذا ما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم في آخر بحث الضد. المعالم بحث الضد ص 77 قال : « وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها انما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر ». وقد صرح الشيخ قدس سره في التقريرات دفعا لهذا التوهم « ونحن بعد ما أعطينا الحجج الناهضة على وجوب المقدمة حق النظر واستقصينا التأمل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ... » ( مطارح الأنظار ، ص 70 )
2- مطارح الأنظار ص 70 قوله : « وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب ان يكون الاتيان بالواجب الغيري لأجل التوصل به إلى الغير أولا ، وجهان أقواهما الأول ... »
3- الفصول ، ص ، 87 التنبيه الأول. « ان مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها مقدمة الا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة ، لا بمعنى ان وجوبها مشروط بوجود فيلزم الا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه فان ذلك متضح الفساد ، كيف؟ واطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لاطلاق وجوبه وعدمه ، بل بمعنى ان وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب حتى أنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب والمطلوبية ، لعدم وجوبها على الوجه المعتبر ، فالتوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه ، وان لم اقف على من يتفطن له ».

وجوب المقدمة وليس هذا شرطا في وجوب ذيها ، واما ان يكون وجوب ذيها أيضا مشروطا بإرادته. فعلى الأول : يلزم ان يكون وجوب المقدمة مشروطا بشرط لايكون وجوب ذيها مشروطا به ، وهذا ينافي ما قدمناه في الامر الأول ، من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، قضية للتبعية والترشحية.

وعلى الثاني : يلزم إناطة التكليف بشيء بإرادة ذلك الشيء وهو محال ، لأنه يلزم ان يكون التكليف به واقعا في رتبة حٍصوله ، لحصول الشيء عند تعلق الإرادة به ، فلو تأخر التكليف عن الإرادة - كما هو لازم الاشتراط - يلزم ما ذكرنا : من وقوع التكليف في مرتبه حًصول المكلف به.

هذا مضافا : إلى أنه لا معنى لاشتراط التكليف بالإرادة ، لان التكليف انما هو بعث للإرادة وتحريكها ، فلا يمكن إناطة التكليف بها ، لاستلزام ذلك إباحة الشيء ، كما لا يخفى.

واما ما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة لا وجوبها ، فيكون قصد التوصل من قيود الواجب ، فهو يتلو كلام المعالم في الضعف.

والانصاف : ان المحكى عن الشيخ في المقام مضطرب غاية الاضطراب ، ولم يتحصل لنا مراد الشيخ (رحمه اللّه) كما هو حقه ، فان جملة من كلامه ظاهرة في أن قصد التوصل انما يكون شرطا في وقوع المقدمة على صفة العبادية ، بحيث لا تقع المقدمة عبادة الا إذا قصد بها التوصل إلى ذيها. وجملة أخرى من كلامه ظاهرة في أن الواجب هو عنوان المقدمة لا ذات ما يتوقف عليه الشيء بل بوصف كونه مما يتوقف عليه الشيء. وجملة من كلامه ظاهرة فيما ذكرناه : من أن قصد التوصل من قيود الواجب ، وانه يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب قصد التوصل إلى ذيها.

ثم إن الا عجب من ذلك ، ما فرعه على اعتبار قصد التوصل ، من بطلان الصلاة إلى بعض الجهات إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى الجهات الأربع فيمن كان تكليفه ذلك ، وانه لو صلى إلى بعض الجهات قاصدا للاقتصار عليه فبدا له الصلاة إلى سائر الجهات الاخر فلا يجزيه ، الا إذا أعاد ما صلاه أولا. فان تفريع ذلك

ص: 287

على اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة مما لم يظهر لنا وجهه ، حيث إن الكلام في المقام انما هو في مقدمة الواجب ، والتفريع انما يكون في مقدمة العلم ، ولا ملازمة بين البابين ، لأنه هب انه لم نعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، مع ذلك يقع الكلام في المقدمة العلمية ، وانه هل يعتبر في صحة المقدمة العلمية إذا كانت عبادة ان يكون قاصدا لامتثال الواجب المعلوم في البين على كل تقدير؟ أو انه لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي قصد امتثال الواجب على تقدير دون تقدير. وتظهر الثمرة ، فيما إذا تبين مطابقة ما اتى به للواقع ، فإنه بناء على الأول لا يكفي عن الواقع إذا لم يكن من قصده الامتثال على كل تقدير ، بل يجب عليه الإعادة. وبناء على الثاني يكفي ولا يجب عليه الإعادة. وأين هذا مما نحن فيه من اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة؟.

وبالجملة : المحكى عن الشيخ ( قده ) في المقام مضطرب من حيث المبنى ، ومن حيث ما فرع عليه ، وظني ان المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ.

وعلى كل حال : لا ينبغي الاشكال ، في أنه لا يعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، فان اعتبار القصد اما ان يكون في العناوين القصدية التي يتوقف تحقق عنوان المأمور به على القصد نظير التعظيم والتأديب وغير ذلك من العناوين القصدية ، واما عن جهة قيام الدليل على ذلك. وليس المقام من العناوين القصدية ، ولا مما قام الدليل عليه ، فمن أين يجئ اعتبار القصد في وقوع المقدمة على صفة الوجوب؟.

وتوهم ان الواجب هو عنوان المقدمة ، فلا بد من القصد إلى ذلك العنوان ، وقصده انما يكون بقصد التوصل إلى ذيها - والى ذلك ينظر بعض ما حكى عن الشيخ (رحمه اللّه) في المقام - واضح الفساد ، فان عنوان المقدمة ليس موضوعا للحكم بل الموضوع للحكم هو الذات ، ومقدميتها انما تكون علة لثبوت الحكم على الذات ، فهي تكون من قبيل علل التشريع. وبعبارة أوضح : جهة المقدمية انما تكون من الجهات التعليلية لا التقييدية ، وليست المقدمية واسطة في العروض بل هي واسطة في الثبوت.

ص: 288

وبالجملة : دعوى ان الواجب هو الذات المقيدة بقصد التوصل أو عنوان المقدمة مما لا يمكن المساعدة عليها ، وهي من الشيخ غريبة. هذا إذا أريد اعتبار قصد التوصل في مطلق المقدمات.

وأما إذا أريد اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة بالذات الذي صارت مقدمة لواجب أهم - كما ذكر شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ان ببالي حكاية ذلك عن الشيخ ( قده ) وانه خص اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة - فمما يمكن ان يوجه بدعوى ان وجوب المقدمة حينئذ لمكان حكم العقل حيث زاحم حرمتها واجب أهم ، والمقدار الذي يحكم به العقل هو ما إذا اتى بها بقصد التوصل إلى الواجب الأهم ، لا بقصد التنزه والتفرج والتصرف في ملك الغير عدوانا ، فان مثل ذلك يأبى العقل عن وجوبه. ولا يقاس ذلك بالمقدمة المباحة ، فان المقدمة المباحة لمكان وجوبها لمجرد توقف واجب عليها وكان ما يتوقف عليه هو الذات ، وحيث لم تكن الذات مقتضية لشيء بل كانت لا اقتضاء ، فتكون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصل ، لان اللامقتضى لا يزاحم المقتضى. واما المقدمة المحرمة فوجوبها انما هو لأجل المزاحمة ، والا فالذات بنفسها مقتضية للحرمة ، والمقدار الذي نرفع اليد عما يقتضيه الذات من الحرمة هو صورة قصد التوصل بها إلى الواجب الأهم لا مط. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة الشيخ ( قده ) على تقدير اختصاص اعتبار قصد التوصل بخصوص المقدمة المحرمة.

ولكن مع ذلك لا يتم ، لان وجوب المقدمة وان كان لأجل المزاحمة الا ان المزاحمة انما تكون بين الانقاذ الذي يتوقف على التصرف في ملك الغير وبين التصرف في ملك الغير ، ولا ربط لها بالقصد وعدم القصد.

وبعبارة أخرى : التصرف المؤدى إلى الانقاذ واقعا هو الذي يكون مزاحما لحرمة التصرف في ملك الغير ، لا التصرف الذي قصد به الانقاذ ، إذ لا يلزم التصرف الذي قصد به الانقاذ ان يترتب عليه الانقاذ ، ويرجع ح إلى تقييد حرمة التصرف بخصوص الصورة التي لا يترتب عليها الانقاذ ، وهو راجع إلى مسألة الترتب ، على ما سيأتي بيانه عن قريب انشاء اللّه تعالى.

ص: 289

واما ما افاده صاحب الفصول من اعتبار نفس التوصل فهو أوضح فسادا ، فان اعتبار التوصل ان اخذ قيدا للوجوب ، فيلزم ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجوب المقدمة ، لان قيدية التوصل انما تحصل بحصول ذي المقدمة ، وهو كما ترى يكون أردء من طلب الحاصل ، إذ يلزم ان يتأخر الطلب عن وجود المقدمة وعن وجود ذيها المتأخر عن وجودها ، ولكن الظاهر أن لايكون هذا مراد صاحب الفصول ، لأنه يصرح بان التوصل يكون قيدا للواجب لا للوجوب ، فلا يرد عليه ما ذكرنا.

نعم يرد عليه : انه يلزم حينئذ ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة ، وان لم يكن من شرائط وجوبها ، الا انه لا فرق في الاستحالة ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة لاستلزامه الدور ، فإنه يلزم ان يكون وجود كل من المقدمة وذي المقدمة متوقفا على الاخر.

هذا مضافا إلى أنه يلزمه القول بمقدمية الذات أيضا ، فان المقدمة ح تكون مركبة من أمرين : أحدهما الذات ، والاخر قيدية التوصل ، ولو على وجه دخول التقييد وخروج القيد ، فتكون الذات مقدمة لحصول المقدمة المركبة ، كما هو الشأن في جميع اجزاء المركب ، حيث يكون وجود كل جزء مقدمة لوجود المركب. مثلا لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدمة أو السير الموصل إلى الحج مقدمة ، فذات الوضوء والسير يكون مقدمة للوضوء الموصل والسير الموصل ، وان اعتبر قيد الايصال فيه أيضا يلزم التسلسل. ولا محيص بالآخرة من أن ينتهى إلى ما يكون الذات مقدمة.

فإذا كان الامر كذلك ، فلتكن الذات من أول الامر مقدمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصل.

وبالجملة : ان وصف التوصل للمقدمة لما لم يكن منوعا لها حال وجودها ، نظير الفصول بالنسبة إلى الأجناس ، بل يكون متأخر عن وجودها ، ويكون رتبة حصول الوصف رتبة وجود ذي المقدمة ، فلو اعتبر قيد التوصل يلزم ما ذكرنا من المحاذير المتقدمة.

ص: 290

ومن الغريب (1) ما استدل به على مدعاه بما حاصله : ان العقل لا يأبى ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى الحج ، دون ما لا يتوصل به إليه ، والضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك. وذلك لان الكلام في إرادة المقدمة التي تترشح من إرادة ذيها ، ومعلوم : ان مناط إرادة المقدمة انما هو توقف ذيها عليها ، بمعنى انها لولاها لما أمكن التوصل إلى ذي المقدمة ، واستلزام عدمها عدم ذيها ، وليس مناط وجوب المقدمة استلزام وجودها وجود ذيها ، فان الشأن في غالب المقدمات ليس كذلك ، فان الملازمة بين الوجودين انما يكون في العلة التامة بحيث لا يمكن التخلف بينها وبين معلولها ، فلو كان مناط وجوب المقدمة هو استلزام وجودها لوجود ذيها يلزم القول بوجوب خصوص العلة التامة ، وصاحب الفصول لا يقول بذلك. فيظهر من ذلك : انه ليس ملاك إرادة المقدمة الا استلزام عدمها عدم ذيها ، وهذا الملاك مطرد في جميع المقدمات موصلها وغير موصلها.

فتحصل : ان الامر المقدمي لا يدعو الا إلى ما يلزم من عدمه عدم الواجب ، فكل ما يعتبر زائدا على ذلك يكون خارجا عما يقتضيه الامر المقدمي.

وبذلك يظهر ما في استدلاله بجواز تصريح الآمر الحكيم بإرادة خصوص السير الموصل إلى الواجب ، فان التصريح بذلك انما يجوز إذا كان السير واجبا نفسيا مشروطا بشرط متأخر ، لما عرفت من أن اعتبار التوصل مما لا يقتضيه الامر المقدمي ، فاعتباره يكون أمرا زايدا ، ولا محالة يكون واجبا نفسيا ، فمجرد جواز تصريح الآمر بذلك لا يوجب ان يكون التوصل من مقتضيات الامر المقدمي ، بل يكون من الواجبات النفسية الخارجة عن محل الكلام ، فالذي يهم صاحب الفصول ، هو اثبات »

ص: 291


1- الفصول ص 87 قوله : « وأيضا لا يأبى العقل ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الحج له دون ما لا يتوصل به إليه وان كان من شأنه ان يتوصل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك كما انها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدمته على تقدير عدم التوصل بها إليه. »

ان التوصل ما يقتضيه الامر المقدمي ، وانى له باثبات ذلك بعد ما عرفت من أن ملاك إرادة المقدمة هو الاستلزام بين العدمين ، لا الملازمة بين الوجودين.

ثم انه استدل صاحب الفصول (1) أيضا على عدم المانع من اعتبار خصوص المقدمة الموصلة بجواز منع المولى من غيرها وقصر الرخصة عليها ، كما إذا قال : أنت مرخص في التصرف في ملك الغير المؤدى إلى انقاذ الغريق وممنوع عما عداه.

ورد بمنع ذلك ، وانه ليس للمولى قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة لاستلزامه التكليف بما لا يطاق وطلب الحاصل ، لان رتبة موصلية المقدمة رتبة حصول ذيها ، فلا يمكن ان يريدها بهذا القيد ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لو أغمضنا عما يرد على المقدمة الموصلة من المحاذير المتقدمة لم يتوجه على استدلاله ما ذكر من الرد ، لان قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة مما لا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، لأنه يكون من قبيل اشتراط الشيء بأمر متأخر ، فالتوصل وان تأخر وجوده عن وجود المقدمة ، وكان يحصل بالانقاذ مثلا ، الا انه اخذ شرطا في جواز المقدمة ، وهذا مما لا محذور فيه بعد ما كان الانقاذ فعلا اختياريا للمكلف ، فيكون شرطية التوصل كشرطية الغسل للصوم ، فلا يجوز له الدخول الا إذا كان من عزمه انقاذ الغريق.

ولا يرد على ذلك شيء أصلا لو قطعنا النظر عما تقدم من محاذير المقدمة الموصلة ، ولكن لا يمكن قطع النظر عن تلك المحاذير ، فإنها لازمة على القول باعتبار قيد التوصل لا محالة.

ثم انه ربما يوجه مقالة اعتبار المقدمة الموصلة بما حاصله : انه ليس المراد »

ص: 292


1- نفس المصدر قوله : « وأيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذ انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله. »

تقييد الواجب بخصوص الموصلة ، بان يكون التوصل قيدا للواجب ، بل يكون على وجه خروج القيد والتقييد معا ، ولكن مع ذلك لا تكون الذات مط واجبة بل الذات من حيث الايصال ، والمراد بالذات من حيث الايصال هو الذات في حال الايصال ، على وجه يلاحظ الآمر المقدمة وذا المقدمة توأمين ، من دون ان يكون أحدهما قيدا للآخر ، بل يلاحظ المقدمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلة ، فإنه لو كانت سلسلة العلة مركبة من اجزاء فكل جزء انما يكون جزء العلة إذا كان واقعا في سلسلة العلة لا واقعا منفردا ، فان لحاظ حالة انفراده ينافي لحاظه جزء للعلة ، بل انما يكون جزء العلة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة ، أي حالة وقوعه في سلسلة العلة من دون ان تؤخذ سائر الا جزأ قيدا له ، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدمي هي الذات ، لكن لا بلحاظ انفرادها ، ولا بلحاظ التوصل بها ، بان يؤخذ التوصل قيدا ، بل بلحاظها في حال كونها مما يتوصل بها أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأمية. وبذلك يسلم عن المحاذير المتقدمة ، فان تلك المحاذير انما كانت ترد على تقدير كون التوصل قيدا ، وبعد خروج قيدية التوصل لايكون فيه محذور. وقد تقدم (1) نظير هذا الكلام في المعاني الحرفية ، حيث كانت لصاحب الفصول في ذلك المقام عبارة خروج القيد والتقييد معا ، وقد وجهنا مراده من ذلك في ذلك المقام بما لا مزيد عليه فراجع. فيمكن ان يكون المقام أيضا من باب خروج القيد والتقييد معا.

وهذا وان لم يمكن ان ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول لتصريحه بأخذ التوصل قيدا ، الا انه يمكن ان ينطبق عليه كلام (2) أخيه المحقق صاحب الحاشية ، حيث إنه قد تكرر في كلامه نفى اعتبار قيد التوصل ، ومع ذلك يقول إن الواجب هو المقدمة من حيث الايصال ، فيمكن ان يكون مراده من قيد الحيثية ما ذكرنا من »

ص: 293


1- قد مر توجيه ذلك في المقام الثاني من المبحث الأول ص 55
2- راجع هداية المسترشدين في شرح معالم الدين ، الامر الرابع من الأمور التي ذكرها في خاتمة بحث مقدمة الواجب. « قد يتخيل ان الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى الواجب دون غيره ... »

خروج كل من القيد والتقييد على وجه لا يستلزم الاطلاق أيضا هذا. (1)

ولكن لا يخفى عليك ، انه ان كان المراد من الحيثية ، والتوأمية ، والحالية وغير ذلك مما شئت ان تعبر به ، هو نفى التقييد بالموصلة لحاظا وان أوجب التقييد بها نتيجة ، فسيأتي ان نتيجة التقييد بالموصلة أيضا لا يمكن كالتقييد اللحاظي ، وان أريد نفى نتيجة التقييد أيضا فمرجعه إلى أن معروض الوجوب هي الذات المهملة لا اطلاق فيها ولا تقييد لا لحاظا ولا نتيجة ، فهو حق لا محيص عنه ، فان امتناع التقييد عين امتناع الاطلاق ، لما سيأتي في محله من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة على ما هو الحق ، أو تقابل التضاد على ما هو المشهور قبل سلطان العلماء ، حيث جعلوا الاطلاق أمرا وجوديا مدلولا للفظ ، ولأجل ذلك قالوا ان التقييد يوجب المجازية وسيأتي ضعف ذلك في محله. وعلى كلا التقديرين يكون امتناع التقييد موجبا لامتناع الاطلاق ، وليس التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، حتى يقال : ان امتناع أحدهما يوجب ثبوت الآخر لئلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما سلكه الشيخ ( قده ) في المقام (2) وغير الشيخ ، حيث قالوا باطلاق القول بوجود المقدمة مط موصلة كانت أو غيرها ، لمكان امتناع التقييد بالموصلة ، فجعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق ، مع انك قد عرفت ان ذلك لا يعقل ، لان امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق أيضا. وقد سلك الشيخ قده (3) هذا المسلك أيضا في مسألة امتناع اعتبار قصد القربة في متعلق الامر و .

ص: 294


1- ولكن الظاهر أن مراد المحقق من الحيثية الحيثية التعليلية ، ويكون حيثية الايصال علة لعروض الوجوب على ذات المقدمة ولو لم تكن موصلة ، وظني ان المحقق يصرح بذلك منه.
2- راجع ما حققه الشيخ قدس سره في دفع مقالة صاحب الفصول من اطلاق القول بوجوب المقدمة لامتناع تقييده بالموصلة. مطارح الأنظار مباحث مقدمة الواجب ، « هداية ، زعم بعض الأجلة ... » ص 74
3- نفس المصدر. مبحث التعبدي والتوالي ص 58 وقد نقلنا ما افاده الشيخ قدس سره هناك ، من عدم جواز التمسك باطلاق الامر عند الشك في تقييده بقصد القربة ، لمكان امتناع تقييده به في هامش ص 158 فراجع.

امتناع تقييد الاحكام بالعلم بها ، حيث إنه استنتج الاطلاق من امتناع ذلك وقال : بأصالة التوصلية واشتراك الاحكام بين العالم بها والجاهل ، وقد عرفت ان امتناع الاطلاق ملازم لامتناع التقييد مط في المقام ، وفي مسألة اعتبار قصد القربة ، وفي مسألة العلم بالأحكام.

نعم : بين المقام وبين المسئلتين فرق ، وهو ان الممتنع في تينك المسئلتين انما هو الاطلاق والتقييد اللحاظي ، لا نتيجة الاطلاق والتقييد ، فإنه بمكان من الامكان ، بل هو ثابت كما في مسألة الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، حيث كان الحكم مخصوصا بالعالم به بنتيجة التقييد ، وفيما عدا ذلك كان الحكم يعم العالم والجاهل بنتيجة الاطلاق لقيام الدليل على كل ذلك. واما في المقام فلا يمكن فيه ، لا الاطلاق والتقييد اللحاظيان ، ولا نتيجة الاطلاق والتقييد ، بل معروض الوجوب يكون مهملا ثبوتا ، وذلك لان خطاب المقدمة انما يتولد من خطاب ذيها ، فهو تابع لخطاب ذي المقدمة ، ويكون له ما يكون له ، ولا يكون له ما لايكون له ، وسيأتي انشاء اللّه تعالى في مبحث الترتب ، ان كل خطاب لا يمكن ان يكون مط أو مقيدا بالنسبة إلى حالتي حصول متعلقه وعدم حصوله أي حالتي اطاعته وعصيانه ، فان ذلك لا يعقل لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، بل يكون الخطاب من هذه الجهة مهملا ثبوتا ليس له تعرض إلى ذلك ، إذ الشيء لا يمكن ان يكون متعرضا لحالة وجوده أو عدمه ، وسيأتي برهان ذلك انشاء اللّه تعالى ، فإذا كان خطاب ذي المقدمة بالنسبة إلى حالة حصوله وعدم حصوله مهملا ، فلا بد ان يكون خطاب المقدمة بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها أيضا مهملا ، قضية للتبعية والترشحية.

وليس خطاب المقدمة مع خطاب ذيها خطابين ، حتى يقال : ان الممتنع هو الاطلاق والتقييد في كل خطاب بالنسبة إلى متعلق نفسه ، واما بالنسبة إلى متعلق خطاب آخر فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، فلا مانع من اطلاق أو تقييد خطاب المقدمة بحصول متعلق خطاب ذيها ، وربما يختلج ذلك في جملة من الأذهان.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الممكن هو اطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إلى

ص: 295

متعلق خطاب آخر مغاير له ، كاطلاق خطاب الصلاة بالنسبة إلى الصوم وعدمه ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، لان خطاب المقدمة لم يكن مغايرا لخطاب ذيها ، لمكان التولد والتبعية فلابد ان يكون تابعا له فيما هو مهمل فيه ، كما كان تابعا له في الاطلاق والاشتراط ، فإذا كان خطاب المقدمة مهملا بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصوله ، فلا يمكن تقييد المقدمة بالموصلة التي هي بمعنى الحصول ، ولا اطلاقها لا لحاظا ولا نتيجة. فتصل النوبة ح إلى الخطاب الترتبي ، وتكون حرمة المقدمة فيما إذا كانت محرمة واباحتها فيما إذا كانت مباحة لولا عروض وصف توقف الواجب عليها مشروطة بعصيان خطاب ذي المقدمة وعدم انقاذ الغريق ، فيتحقق الترتب بين الخطاب الا إلى الذي كان للمقدمة ، وبين خطاب ذيها المتولد منه خطاب المقدمة ، وببركة الخطاب الترتبي يرتفع ما ذكرناه من استبعاد كون مطلق التصرف في ملك الغير واجبا ولو لم يتوصل به إلى انقاذ الغريق.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة ، وبعده لم يبق لنا من مباحث المقدمة الواجبة ما يهمنا البحث عنه ، لان أكثر المباحث التي تعرضوا لها في مقدمة الواجب قد تقدم منا الكلام فيها ، نعم ينبغي ختم المسألة بذكر أمرين :

الامر الأول :

في الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة.

فمنها : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم ، حيث إن ترك تلك العبادة يكون مقدمة لذاك الواجب ، وعلى القول بوجوب المقدمة يكون الترك واجبا ، فيكون الفعل منهيا عنه فلا يصلح لان يتقرب به فيفسد ، فلا تصح الصلاة إذا توقف إزالة النجاسة عن المسجد على تركها ، لان تركها يكون واجبا من باب كونه مقدمة لإزالة النجاسة ، فيكون فعلها منهيا عنه فلا تصح ، هذا.

وقد أشكل على هذه الثمرة بما حاصله : انه مبنى أولا : على أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ، وسيأتي فساد ذلك. وثانيا : انه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة ، بل لو لم نقل بوجوب المقدمة أو بمقدمية الترك لكانت العبادة فاسدة أيضا لمكان عدم الامر بها ، حيث إن ضدها و

ص: 296

هو الإزالة مثلا يكون مأمورا به ، ولا يمكن الامر بالضدين ، فلا تكون الصلاة مأمورا بها ، وعدم الامر بها يكفي في فسادها. وسيأتي البحث عن ذلك انشاء اللّه تعالى في مبحث الضد.

ثم إن صاحب الفصول (1) أنكر هذه الثمرة على طريقته من القول بالمقدمة الموصلة ، وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان مطلق ترك الصلاة مثلا لم يكن واجبا بالوجوب المقدمي ، حتى يكون نقيضه - وهو فعل الصلاة - منهيا عنه ، بل الواجب هو الترك الموصل للإزالة ، ومع فعل الصلاة لا تحصل الإزالة ، ومع عدم حصولها لايكون ترك الصلاة واجبا ، ومع عدم وجوب تركها لايكون فعلها منهيا عنه ، ومع عدم النهى لا تفسد ، هذا.

وقد أشكل (2) عليه الشيخ ( قده ) على ما في التقرير بما حاصله : ان فعل الصلاة وان لم يكن ح نقيض الترك الموصل ، لان نقيض الأخص أعم كما أن نقيض الأعم أخص ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وترك الترك الموصل له افراد ، منها النوم والأكل والشرب ، ومنها الصلاة ، فالصلاة تكون أحد افراد النقيض المنهى عنه ، ومعلوم ان النهى عن الكلي يسرى إلى افراده ، فتكون الصلاة منهيا عنها ، غايته انه لا بخصوصها بل بما انها من أحد افراد نقيض الواجب.

والحاصل انه لو كان مط ترك الصلاة واجبا بالوجوب المقدمي لإزالة النجاسة ، فنقيض مط الترك ترك الترك وهو متحد خارجا مع فعل الصلاة ، فتكون الصلاة بما انها نقيض الترك الواجب منهيا عنها. واما لو كان الترك الخاص واجبا أي الترك الموصل للإزالة ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وهو الذي يكون منهيا عنه لكونه نقيض الواجب ، وترك الترك الموصل المنهى عنه له افراد ،

ص: 297


1- الفصول - مسألة الضد « إذا تقرر هذا فاعلم أن جماعة زعموا ان ثمرة النزاع في الضد الخاص تظهر ... » ص 96
2- مطارح الأنظار ، مبحث مقدمة الواجب ، تذنيب ، « إذا تقرر ذلك نقول : ان الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك .... » ص 76

منها الصلاة ، فتكون الصلاة منهيا عنها. فلا فرق في فساد الصلاة بين ان نقول مط الترك واجب ، أو خصوص الترك الموصل - بعد البناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الضد الاخر - هذا.

وقد أورد عليه المحقق الخراساني ره (1) في كفايته بما حاصله : انه فرق بين القول بوجوب مط الترك وبين القول بوجوب الترك الموصل ، فإنه على الأول يكون نقيضه ترك الترك ، وترك الترك وان كان مفهوما غير الصلاة ، الا انه خارجا عين الصلاة ، لان ترك ترك الصلاة ليس هو الا عبارة عن الصلاة. وهذا بخلاف ما إذا كان الترك الخاص واجبا ، فان نقيض الترك الخاص ترك الترك الخاص ، والصلاة ليست من افراد هذا النقيض بحيث يحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي وتتحد معه خارجا ، بل هي من المقارنات ، فان رفع الترك الخاص قد يجامع فعل الصلاة وقد لا يجامعها ، كما إذا ترك الصلاة والإزالة معا ، ومعلوم ان النهى عن شيء لا يسرى إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه ، هذا. وقد ارتضى شيخنا الأستاذ مد ظله ما ذكره المحقق في المقام واستجوده ، فتأمل.

ومنها : برء النذر باتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب بناء على القول بوجوب المقدمة ، هذا.

ولكن لا يخفى ان مسألة برء النذر لا تصلح ان تكون ثمرة للمسألة الأصولية ، لان ثمرتها ما تقع في طريق الاستنباط ، وتكون كبرى قياس الاستنباط ، ومسألة برء النذر هي بنفسها حكم فرعى ، مع أن البرء يتبع قصد الناذر ، فقد يقصد نذر الواجب النفسي فلا يحصل بفعل الواجب المقدمي ، وقد لا يقصد ذلك.

ومنها : حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة ، حيث يحصل به الاصرار ، لمكان ترك عدة واجبات بناء على وجوب المقدمة.

وفيه ، ان الواجب مهما تعددت مقدماته ليس فيه الا عصيان واحد وإطاعة واحدة ، ويكون تركه بترك أول مقدمة له ، حيث يمتنع الواجب ح عليه فلا يحصل

ص: 298


1- كفاية الأصول ، « قلت : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ... » ص 193

الاصرار.

ومنها : صلاحية وقوع التعبد بها ، بناء على وجوبها وذلك بقصد أمرها. وفيه ، انه قد تقدم ان الامر الغيري يكون التعبد به بتعبد امر ذي المقدمة ، وليس هو بما انه امر غيري مما يتعبد به ما لم يرجع إلى التعبد بأمر ذيها.

ومنها : عدم جواز اخذ الأجرة عليها ، بناء على عدم جواز اخذ الأجرة على الواجبات.

وفيه ، انه ليس مط الواجب مما لا يجوز اخذ الأجرة عليه ، بل تختلف الواجبات في ذلك ، فربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه المصدري فيجوز اخذ الأجرة عليه ، وربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه الاسم المصدري فلا يجوز اخذ الأجرة عليه ، على ما أوضحناه في محله ، وجواز اخذ الأجرة على المقدمات يتبع وجوب ذي المقدمة ، فلو كان الواجب فيها هو الفعل بمعناه الاسم المصدري لا يجوز اخذ الأجرة حتى على مقدماتها ، لأنه قد خرجت المقدمات عن تحت سلطانه ، ولو لمكان اللا بدية العقلية ، فتكون الإجارة عليها من قبيل وهب الأمير ما لا يملك. وان كان الواجب في ذي المقدمة هو الفعل بمعناه المصدري يجوز اخذ الأجرة على مقدماتها ولو قلنا بوجوبها ، لان وجوبها لا يزيد على وجوب ذيها ، كما لا يخفى.

ومنها : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني ره من لزوم اجتماع الأمر والنهي على القول بوجوب المقدمة ، فيما إذا كانت المقدمة محرمة.

وقد أورد عليه : بأنه لايكون من ذاك الباب ، بل من باب النهى في العبادة أو المعاملة. والانصاف ان ما نسب إلى الوحيد باطلاقه غير تام ، وكذا ما أورد عليه ، وتوضيح ذلك : هو انه تارة : تكون المقدمة في نوعها محرمة بحيث لايكون للمكلف مندوحة ، كما إذا انحصر الانقاذ بالتصرف في ملك الغير ، ففي مثل هذا يقع التزاحم بين وجوب الانقاذ وحرمة التصرف ، وينبغي مراعاة الأهم أو سائر مرجحات باب التزاحم ، ولا يندرج هذا الا في باب اجتماع الأمر والنهي ، لا في باب النهى من العبادة أو المعاملة. وأخرى : لا تكون المقدمة في نوعها محرمة بل كان لها افراد مباحة ، فتارة : يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، كما إذا نهى عن سير

ص: 299

خاص للحج ، فهذا يندرج في باب النهى عن العبادة ان كانت المقدمة عبادية ، أو المعاملة ان لم تكن كذلك.

وأخرى : لا يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، بل كان المنهى عنه عنوانا كليا انطبق على بعض افراد المقدمة ، كما في السير على الدابة المغصوبة في الحج ، حيث إن الواجب بالوجوب المقدمي هو السير الذي له افراد والمنهى عنه هو الغصب الذي له افراد أيضا ، وقد اجتمع كل من عنوان الواجب والحرام في السير على الدابة المغصوبة ، فهذا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي ، وليس من باب النهى عن العبادة أو المعاملة ، ولا يتوقف اندراجه في باب الاجتماع على أن يكون الواجب بالوجوب المقدمي هو عنوان المقدمة حتى يمنع عن ذلك بل يكفي ان يكون الواجب عنوانا كليا ذا افراد ، كالمثال المتقدم فتأمل جيدا.

ثم انه لا ثمرة في ادراج المسألة بباب اجتماع الأمر والنهي ، فإنه ان كانت المقدمة توصلية فالغرض منها يحصل بمجرد فعلها ، قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو لم نقل. وان كانت عبادية فلما كان وجوبها مترشحا عن وجوب ذيها وكان لها افراد مباحة فالوجوب انما يترشح إلى المقدمة المباحة لامحة ، ومعه لا يصح التعبد بها على كل حال ، فتأمل.

الامر الثاني :

لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسألة الأصولية ، ولا من حيث المسألة الفقهية. اما من حيث المسألة الأصولية ، فلان البحث فيها من هذه الحيثية انما كان في الملازمة وعدمها ، ومعلوم : ان الملازمة وعدم الملازمة ليست مجرى لأصل من الأصول ، لعدم الحالة السابقة لها ، بل إن كانت فهي أزلية ، وان لم تكن فكذلك.

واما من حيث المسألة الفقهية ، فلان وجوب المقدمة وان لم يكن عند عدم وجوب ذيها ، فتكون بهذا الاعتبار مجرى للاستصحاب عند وجوب ذيها والشك في وجوبها ، الا انه لا اثر لهذا الاستصحاب بعد ما فرض كونها مقدمة وانه مما لا بد منها ، لمكان التوقف.

ص: 300

والحاصل : انه بعد ما تقدم من أنه لا يترتب على البحث في وجوب المقدمة ثمرة عملية أصلا ، بل كان البحث علميا صرفا ، فلا تكون المسألة مجرى لأصل من الأصول ، بعد ما كانت الأصول مجعولة في مقام العمل ، وذلك واضح.

هذا تمام الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد واله.

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الحاد يعشر من شهر ذي القعدة.

القول في اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضده

اشارة

وتنقيح البحث فيه يستدعى تقديم أمور.

الامر الأول :

لا اشكال في أن المسألة من مسائل الأصول ، وليست من المبادئ الأحكامية ، وان كان فيها جهتها ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في عدها من المبادئ بعد ما كان نتيجتها تقع في طريق الاستنباط ، على ما تكرر منا في ضابط المسألة الأصولية.

الامر الثاني :

ليست المسألة من المباحث اللفظية ، لوضوح ان المراد من الامر العنوان الأعم من اللفظي واللبي المستكشف من الاجماع ونحوه ، بل هي من المباحث العقلية ، وليست من المستقلات العقلية ، بل هي من الملازمات - على ما تقدم شرح ذلك في أول البحث عن وجوب المقدمة - وذكرها في المباحث اللفظية لكون الغالب في الأوامر كونها لفظية.

الامر الثالث :

المراد من الاقتضاء في العنوان الأعم من كونه على نحو العينية ، أو التضمن ، أو الالتزام بالمعنى الأخص أو الأعم ، لان لكل وجها بل قائلا. كما أن المراد من الضد ليس خصوص الامر الوجودي ، وان كان الظاهر منه ذلك ، بل المراد منه مطلق المعاند الشامل : للنقيض بمعنى الترك ، وللامر الوجودي الخاص المعبر عنه

ص: 301

بالضد الخاص ، وللقدر المشترك بين الأضداد الوجودية ان كان للشيء اضداد متعددة ، وهو المعبر عنه بالضد العام في كلام جملة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : البحث يقع في مقامين :

المقام الأول

في اقتضاء الامر النهى عن ضده بمعنى النقيض ، والظ انه لا خلاف في اقتضائه ، انما الكلام في كيفية الاقتضاء.

فربما قيل : انه بنحو العينية ، وان الامر بالصلاة عين النهى عن تركها ، لان النهى عن الترك عبارة عن طلب ترك الترك ، وهو عين طلب الفعل خارجا ، حيث إنه لا فرق بين ان يقول : صل ، وبين ان يقول : لا تترك الصلاة ، فان العبارتين تؤديان معنى واحدا ، وهو طلب وجود الصلاة في الخارج ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعفه ، فإنه ان كان المراد من عدم الفرق بين العبارتين : انهما يكونان بمنزلة الانسان والبشر لفظين مترادفين ، وكان ما بإزاء أحدهما عين ما بحذاء الآخر مفهوما وخارجا ، ففساده غنى عن البيان ، لوضوح ان مدلول لا تترك الصلاة أو اطلب منك ترك ترك الصلاة غير مدلول صل ، لان معاني مفردات تلك الجملة غير معنى جملة صل ، فلا يكون هناك اتحاد مفهومي. وان كان المراد : ان النتيجة واحدة والمقصود هو طلب وجود الصلاة ، فهو مما لا ينفع القائل بالعينية ، فان حديث العينية ان يكون قوله : صل - عين قوله : لا تترك الصلاة ، وذلك لايكون الا بدعوى الاتحاد المفهومي ، وقد عرفت ، انه مما لا سبيل إلى دعواه.

وربما قيل : انه بنحو التضمن ، بتوهم ان معنى الوجوب مركب من الاذن في الفعل مع المنع من الترك ، فيدل على المنع من الترك تضمنا.

وفيه ، انه ليس معنى الوجوب مركبا بل هو بسيط بالهوية لا تركيب فيه أصلا ، وانما الوجوب عبارة عن مرتبة من الطلب ، وبذاته يمتاز عن الاستحباب ، بل قد تقدم في أول الأوامر (1) انه ليس الفرق بين الوجوب والاستحباب باختلاف

ص: 302


1- بحث الأوامر - الامر الخامس ص 134

المرتبة أيضا ، وانما الوجوب حكم عقلي ، والشددة والضعف انما تكون في ملاكات الاحكام لا في نفسها ، فراجع. فلا دعوى العينية تستقيم ولا دعوى التضمن.

نعم : لا بأس بدعوى اللزوم بالمعنى الأخص ، حيث إن نفس تصور الوجوب والحتم والالزام يوجب تصور المنع من الترك والانتقال إليه ، وذلك معنى اللازم بالمعنى الأخص.

والحاصل : انه سواء قلنا : بان الوجوب عبارة عن مرتبة شديدة من الطلب ، أو قلنا : بان الوجوب عبارة عن حكم العقل بلزوم الانبعاث من بعث المولى ، يلزمه المنع من الترك ، كما لا يخفى. وعلى كل حال الامر في ذلك سهل ، لان الظاهر عدم ترتب ثمرة عملية على ذلك ، كما هو واضح.

المقام الثاني

في اقتضاء الامر للنهي عن ضده الوجودي ، سواء كان الضد الخاص ، أو القدر المشترك بين الأضداد الوجودية. فقد قيل : بالاقتضاء أيضا على نحو العينية ، أو الاستلزام بالمعنى الأخص أو الأعم ، على اختلاف الأقوال في ذلك.

نعم : لا يعهد القول بالتضمن في هذا المقام ، ولا سبيل إلى دعواه. والأقوى في هذا المقام عدم الاقتضاء مطلقا.

وقد استدل القائل بالاقتضاء بوجهين :

الوجه الأول : استلزام وجود الضد المأمور به لعدم الضد الآخر ان كان الضدان مما لا ثالث لهما ، ولعدم كل من الأضداد الآخران كان هناك ثالث ، لوضوح انه لا يمكن الجمع بين الضدين أو الأضداد في الوجود ، فوجود كل ضد يلازم عدم الأضداد الاخر ، والمتلازمان لابد ان يكونا متوافقين في الحكم ، فلو كان أحد الضدين واجبا لابد ان يكون عدم الاخر أيضا واجبا ، قضية للتوافق ، فإذا كان عدمه واجبا كان وجوده محرما ، فيثبت المقصود من كونه منهيا عنه ، هذا.

وفيه ، ان المتلازمين لا يلزم ان يكونا متوافقين في الحكم ، بل الذي لابد منه هو ان لا يكونا متخالفين في الحكم ، بان يكون أحد الضدين واجبا والاخر محرما ، و

ص: 303

الا كان بين الدليلين تعارض ان كانت الملازمة دائمية ، وان كانت اتفاقية كان من التزاحم.

وبالجملة ، حديث الملازمة لا يقتضى أزيد من عدم المخالفة بين حكمي المتلازمين ، واما التوافق ، فلا ، بل يمكن ان لايكون أحد المتلازمين محكوما بحكم ملازمه أصلا هذا.

ولكن يمكن ان يقال : في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ( بناء على أن يكون السكون والافتراق وجوديين ) ان الامر بأحد الضدين يلازم الامر بعدم ضده الاخر ، فان الحركة وان لم تكن مفهوما عين عدم السكون ، ولا الاجتماع عين عدم الافتراق مفهوما ، الا انه خارجا يكون عدم السكون عبارة عن الحركة ، وعدم الافتراق عبارة عن الاجتماع بحسب المتعارف العرفي ، وان كان بحسب العقل ليس كذلك ، لوضوح انه عقلا لايكون عدم السكون عين الحركة ، بل يلازمها ، فان العدم لا يتحد مع الوجود خارجا ولايكون هو هو مفهوما وعينا ، ولكن بحسب المتعارف العرفي يكون الحركة عبارة عن عدم السكون ، ويكون الامر بأحدهما أمرا بالآخر ، بحيث لا يرى العرف فرقا بين ان يقول - تحرك - وبين ان يقول - لا تسكن - ويكون مفاد إحدى العبارتين عين مفاد الأخرى ، فيكون حكم الضدين الذين لا ثالث لهما حكم النقيضين ، من حيث إن الامر بأحدهما امر بعدم الآخر ، وان كان في النقيضين أوضح من جهة ان عدم العدم في النقيضين هو عين الوجود خارجا ، وليس الامر في الضدين كذلك ، الا ان العرف لا يرى فرقا بينهما ، والاحكام انما تكون منزلة على ما هو المتعارف العرفي ، فدعوى ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص فيما لا ثالث لهما ليس بكل البعيد ، واما فيما كان لهما ثالث فالامر بأحد الأضداد لا عقلا يلازم النهى عن الأضداد الاخر ولا عرفا ، إذ لايكون صل بمعنى لا تبع مثلا ولا بمعنى لا تأكل حتى عند العرف.

وتوهم انه وان لم يقتض النهى عن كل واحد من الأضداد الوجودية بخصوصه عرفا ، الا انه يقتضى النهى عن الجامع بين أضداده الوجودية ، فان الضد المأمور به مع ذلك الجامع يرجع إلى الضدين الذين لا ثالث لهما ، فيكون ذلك الجامع

ص: 304

منهيا عنه ، ولمكان انطباق ذلك الجامع على كل واحد من الأضداد الوجودية يسرى النهى إلى كل واحد من تلك الأضداد ، لسراية النهى أو الامر المتعلق بالكلي إلى افراده ، فيكون كل واحد من تلك الأضداد الوجودية منهيا عنه ، غايته انه لا بخصوصه ، بل لمكان انطباق المنهى عنه عليه ، فيصح ان يقال : ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص مط ، سواء كان الضدان مما لا ثالث لهما أو لم يكن فاسد.

فإنه يرد عليه :

أولا : ان هذا الجامع ليس من الأمور المتأصلة التي يتعلق بها التكليف كالكلي الطبيعي ، بل هو من الأمور الانتزاعية ، والنهى عن الجامع الانتزاعي يكون نهيا عن منشأ الانتزاع ، ومنشأ الانتزاع في المقام ليس الا الأضداد الخاصة ، ولا ملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن شيء منها.

وثانيا : ان النهى عن كل جامع وكلي انما يكون بلحاظ المرآتية لما ينطبق عليه في الخارج ، كما أن الامر بكل جامع يكون كذلك ، لوضوح ان الكلي بما هو هو من غير لحاظه مرآة لما في الخارج لا يتعلق به امر ولا نهى ، لأنه كلي عقلي لا موطن له الا العقل ويمتنع امتثاله ، وفي المقام يكون المرئي بذلك الجامع انما هو الأضداد الخاصة ، والامر بشيء لا يلازم النهى عن شيء منها كما هو واضح. فتأمل ، فان ما افاده مد ظله في المقام لا يخلو عن اشكال.

هذا كله ، إذا كان بين الشيئين تناقض أو تضاد ، وقد عرفت ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن النقيض باللازم بالمعنى الأخص ، ويقتضيه بالنسبة إلى الضدين الذين لا ثالث لهما باللازم بالمعنى الأعم ، حيث لم يكن بوضوح النقيض كما عرفت ، وفي الضدين الذين لهما ثالث لا يقتضيه أصلا. واما فيما إذا كان بين الشيئين عدم وملكة فالظاهر أنه ملحق بالنقيضين في الموضوع القابل لهما ، حيث إن الامر بأحدهما يلازم النهى عن الآخر باللزوم بالمعنى الأخص ، فالامر بالعدالة يلزمه النهى عن الفسق ، كما لا يخفى.

* * *

ص: 305

الوجه الثاني :

من الوجهين الذين استدل بهما القائل باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ، هو مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر ، فيكون عدمه واجبا لوجوب مقدمة الواجب ، فيكون وجوده منهيا عنه وهو المقصود. اما وجه كون عدم الضد مقدمة لوجود الآخر ، فلما بين المتضادين من التمانع ، ومعلوم ان عدم المانع من اجزاء علة وجود الشيء ، وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بالإشارة إلى مسألة مقدمية ترك أحد الضدين للآخر التي وقعت معركة للآراء بين المتقدمين والمتأخرين. فنقول : الأقوال في هذه المسألة على ما يظهر منهم خمسة :

(1) قول بمقدمية وجود أحد الضدين لعدم الآخر ومقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر ، فتكون المقدمية من الطرفين وهذا هو الذي ينسب إلى الحاجبي والعضدي.

(2) وقول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ولا عكس ، وهذا هو الذي ينسب إلى المحقق القمي ، وصاحب الحاشية ، والسبزواري وغيرهم ، وعلى ذلك بنوا اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص.

(3) وقول بمقدمية الوجود للعدم ولا عكس ، وعليه يبتنى شبهة الكعبي من نفى المباح.

(4) وقول بنفي المقدمية من الجانبين لا مقدمية الوجود للعدم ولا مقدمية العدم للوجود وهذا هو الذي اختاره بعض المحققين والذي ينبغي البناء عليه ، على ما سيأتي.

(5) وقول بالتفصيل بين الضد الموجود فيتوقف وجود الآخر على رفع الموجود وعدمه فيكون عدم الضد الموجود من اجزاء علة وجود الضد الآخر ، وبين ما لم يكن أحد الضدين موجودا ، فإنه لا توقف ح من الجانبين.

اما القول الأول ، ففساده غنى عن البيان ، لاستلزامه الدور الذي لا يخفى على أحد.

واما القول الثاني ، فقد عرفت ان عمدة استدلالهم عليه هو تمانع الضدين

ص: 306

وان عدم المانع من اجزاء علة وجود الشيء ، وتوضيح فساده يتوقف على بيان المراد من المانع الذي يكون عدمه من اجزاء العلة.

فنقول : المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضى ، بحيث انه لولاه لاثر المقتضى اثره من افاضته لوجود المعلول ، فيكون الموجب لعدم الرشح والإفاضة هو وجود المانع ، وهذا المعنى من المانع لا يتحقق الا بعد فرض وجود المقتضى بما له من الشرائط فإنه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع ، ويكون عدم الشيء مستندا إلى وجود المانع ، واما قبل ذلك فليس رتبة المانع ، لوضوح انه لايكون الشيء مانعا عند عدم المقتضى أو شرطه ، فلا يقال للبلة الموجودة في الثوب انها مانعة عن احتراق الثوب الا بعد وجود النار وتحقق المجاورة والمماسة بينها وبين الثوب ، فح يستند عدم احتراق الثوب إلى البلة الموجودة فيه ، واما مع عدم النار أو عدم المجاورة فيكون عدم الاحتراق مستندا إلى عدم المقتضى أو شرطه ، فان الشيء يستند إلى أسبق علله ، ولا يصح اطلاق المانع على البلة مع عدم وجود النار ، فرتبة المانع متأخرة عن رتبة المقتضى والشرط ولا يقال للشيء انه مانع الا بعد وجود المقتضى والشرط ، فكما ان المعلول مترتب على علته بجميع اجزائها فيقال : وجدت العلة فوجد المعلول ويتخلل بينهما فاء الترتب ، كذلك اجزاء العلة من المقتضى والشرط وعدم المانع تكون مترتبة ، فيقال : وجد المقتضى فوجد شرطه فلم يكن ما يمنعه ، فالشرط والمانع متأخران عن المقتضى ، والمانع متأخر عن الشرط أيضا. ومرادنا من ترتب اجزاء العلة ليس ذواتها في الوجود فان ذلك واضح البطلان لوضوح انه يمكن وجود ذات البلة في الثوب قبل وجود النار ، كما أنه يمكن وجود النار والمجاورة دفعة واحدة ، بل مرادنا من الترتب في الاستناد والتأثير على وجه يصح اطلاق الشرط أو المانع على الشيء ، وقد عرفت الترتب في التأثير وصحة الاطلاق وانه لا يصح اطلاق كون الشيء شرطا أو مانعا الا بعد وجود المقتضى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه مما يتفرع على ما قلناه من تأخر رتبة المانع عن المقتضى والشرط ، هو عدم امكان جعل أحد الضدين شرطا والآخر مانعا ، وان مثل هذا الجعل ممتنع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في رسالة اللباس المشكوك عند

ص: 307

بيان كون اللباس من محلل الاكل شرطا أو ان كونه من محرم الاكل مانعا ، حيث أوضحنا بما لا مزيد عليه في ذلك أنه لا يمكن الجمع بين هذين الجعلين فراجع. (1).

ومما يتفرع على ما قلناه : من تأخر رتبة المانع عن وجود المقتضى والشرط ، هو عدم امكان مانعية وجود أحد الضدين للآخر ، لان مانعية وجود أحدهما لوجود الآخر انما يمكن بعد فرض وجود المقتضى لكلا الضدين ، لان كون وجود أحدهما مانعا لايكون الا بعد تحقق علته التامة من المقتضى والشرط وعدم المانع ، حتى يتحقق له وجود ليكون مانعا من وجود الآخر ، فالمقتضي لهذا الضد الذي فرض مانعا لابد ان يكون موجودا ، ثم فرض مانعية هذا الضد للضد الاخر لايكون الا بعد وجود مقتضيه ، لما تقدم من أنه لايكون الشيء مانعا عن وجود الشيء الا بعد وجود مقتضى ذلك الشيء ، ففرض مانعية أحد الضدين للآخر لايكون الا بعد فرض وجود المقتضى لكل من الضدين وذلك محال. لأنه كما لا يمكن اجتماع الضدين ، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضى الضدين لمضادة مقتضيهما أيضا ، وبعد عدم امكان اجتماع مقتضى الضدين لا يمكن كون أحدهما مانعا عن الآخر ، لما عرفت من توقف المانعية على ذلك ، فالمانعية موقوفة على فرض محال ، وهو اجتماع كل من مقتضى الضدين ، من غير فرق بين المقتضيات التكوينية الخارجة عن القدرة والإرادة وبين المقتضيات الإرادية ، فان تعلق الإرادة بايجاد كل من الضدين محال ، سواء كانت إرادة شخص واحد أو إرادة شخصين ، فان المقتضى في الشخصين يكون هو الإرادة القاهرة والغالبة على إرادة الاخر ، فتخرج الإرادة المغلوبة عن كونها مقتضية فعلا ، فلا يمكن وجود المقتضى لكل من الضدين مط.

ومن الغريب ان المحقق الخونساري ، والمحقق صاحب الحاشية ، قد حاولا دفع الدور الوارد على القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر - على ما سيأتي بيانه - بذلك ، أي بامتناع اجتماع المقتضيين للضدين ، ومع ذلك ذهبا إلى المقدمية ، و

ص: 308


1- راجع ما الفه المحقق النائيني قدس سره في حكم اللباس المشكوك فيه المطبوع في آخر الجزء الثاني من كتاب « منية الطالب في حاشية المكاسب » ، الامر الثالث من مقدمة البحث ، ص 243

الحال ان ما دفعا به الدور يهدم أساس المقدمية ، لما عرفت من أن امتناع اجتماع المقتضيين يوجب ان لايكون وجود أحد الضدين مانعا عن وجود الاخر ، فلا يكون عدمه من اجزاء علة وجوده ، فلا يجتمع القول بالمقدمية مع القول بامتناع اجتماع المقتضيين.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك انه لا سبيل إلى القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر.

هذا كله ، مضافا إلى ما يرد على القول بالمقدمية من لزوم الدور ، فإنه لو كان عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر ، كان وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر ، وذلك لأنه لا موجب لدعوى مقدمية العدم للوجود الا كون وجود أحدهما مانعا عن وجود الآخر ليكون عدمه من اجزاء العلة ، فإذا كان وجود أحد الضدين مانعا عن وجود الاخر ، فيكون علة لعدم الاخر ، لان كل مانع يكون سببا لعدم ما لولاه لوجد ، فيلزم ان يكون وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر وعدم أحدهما من اجزاء علة وجود الآخر وان لم يكن تمام علته ، الا انه لا فرق في الاستحالة ولزوم الدور بين ان يكون كل من طرفي التوقف علة تامة للآخر ، وبين ان يكون أحدهما علة تامة والآخر جزء العلة كما في المقام ، حيث إن وجود أحد الضدين علة تامة لعدم الاخر لكونه مانعا ، وعدم أحد الضدين من اجزاء علة وجود الآخر لكونه من قبيل عدم المانع الذي هو جزء العلة ، فالقول بمقدمية العدم للوجود موجب للدور المحال. وقد أجيب عن هذا الدور بوجوه :

أحدها : ما حكى عن المحقق الخونساري وصاحب الحاشية (1) من امكان منع مانعية أحد الضدين لوجود الآخر حتى يكون علة لعدمه ، لان مانعيته له .

ص: 309


1- حكاه الشيخ قدس سره في التقريرات ، راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث الضد ، ص 102. هداية المسترشدين ، مبحث الضد ، ما افاده في مقام الجواب عن الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها لنفى المقدمية ، وهو محذور الدور ، « ان وجود الضد من موانع وجود الضد الآخر ... ».

فرع وجود المقتضى له ، ولا يمكن فرض وجود المقتضى له مع وجود المقتضى للآخر - على ما تقدم بيانه - فلا دور.

وتوهم انه يفرض وجود المقتضى والشرط للضد الآخر فيكون وجود هذا الضد مانعا فيعود محذور الدور ، فاسد ، لاستحالة هذا الفرض وامتناع صلاحية وجود الضد لان يكون مانعا عن الاخر وعلة لعدمه على هذا الفرض المحال ، فان فرض وجود المقتضى له ممنوع ، أي لا نسلم امتناع مثل هذه الصلاحية الفرضية ، لان ذلك لا يوجب دورا فعليا ، فتأمل ، فإنه يكفي في الدور الصلاحية. ولقد أجادوا في منع كون أحد الضدين مانعا عن الآخر ، وفي عدم امكان اجتماع المقتضيين ، الا انهم غفلوا عن أن لازم ذلك انكار المقدمية من الطرفين ، وذهبوا إلى مقدمية العدم للوجود.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه لا يمكن القول بمقدمية العدم للوجود ، ومنه يظهر فساد القول الثالث من مقدمية الوجود للعدم.

واما التفصيل بين الضد الموجود فيتوقف وجود الاخر على رفعه ، وبين فراغ المحل عن كلا الضدين فلا توقف من الجانبين ، فهو الذي ينسب إلى المحقق الخونساري ، وحكى ميل الشيخ إليه ، ولعل منشأ التوهم هو ما يشاهد بالوجدان من أن وجود البياض في مكان مشغول بالسواد يتوقف على رفع السواد واعدامه ، فيكون اعدام السواد من مقدمات وجود البياض.

ولكن لا يخفى عليك ، ان مناط الاستحالة مطرد في الضد الموجود والضد المعدوم ، فإنه لا يفرق الحال في كون الشيء مقدمة بين ان يكون موجودا وبين ان يكون معدوما ، فإنه في كلا الحالين يكون مقدمة ، لان مناط المقدمية هو كونه مما يتوقف عليه الشيء ، فإذا امتنع كون الشيء مقدمة في حال عدمه امتنع كونه مقدمة في حال وجوده أيضا ، فان صعود السلم مقدمة للكون على السطح في كل حال.

ومن الغريب ، ان المحقق الخونساري مع اعترافه بامتناع اجتماع المقتضيين للضدين كيف ذهب إلى ذلك ، مع أنه يلزمه القول باجتماع المقتضيين ، فان الضد الموجود انما يكون وجوده بوجود المقتضى ، ومع وجود مقتضيه كيف يمكن وجود

ص: 310

مقتضى الآخر حتى يكون عدم الموجود ورفعه من مقدمات وجود الآخر؟ الا ان يقول : باستغناء الضد الموجود في بقائه عن المؤثر والمقتضى ، وانما الذي يحتاج إلى المقتضى هو الحدوث واما البقاء فلا يحتاج إلى ذلك بل هو يبقى بنفسه ، فلا يكون بقاء وجود الضد الموجود مجامعا لوجود مقتضيه حتى يمتنع وجود مقتضى الاخر ، هذا.

ولكن مع أن هذه المقالة من أصلها فاسدة ، لوضوح ان الموجب لحاجة الشيء في حدوثه إلى المؤثر ليس هو الا الامكان ، وذلك بعينه يقتضى الحاجة في بقائه إلى المؤثر لبقائه على صفة الامكان ، والا يلزم تعطيل الباري تعالى ، وما مثل به من الحجر واللون حيث إن بقائه لا يحتاج إلى مؤثر فليس كذلك بل يحتاج أيضا إلى ذلك ، غايته انه في بعض المقامات تكون العلة المحدثة هي المبقية ، مثلا في مثل الحجر يكون الميل إلى المركز موجبا لبقائه في المكان ، وفي مثل اللون يكون الموجب هو ما أودعه اللّه تعالى في طبعه من أنه لا يزول الا برافع ، وبالجملة : كون المحدثة هي المبقية غير كون البقاء لا يحتاج إلى مؤثر ، كما لا يخفى.

ثم إن ذلك على تقدير تسلميه فهو في الأمور التكوينية الخارجة عن الإرادة ، واما في الأمور الإرادية فلا يمكن ذلك ، لان الفعل الإرادي لابد ان يكون حدوثه وبقائه بالإرادة ، فبقاء الصلاة انما تكون ببقاء ارادتها ، ومع ذلك كيف يجامع إرادة ضدها من الإزالة ، وهل هو الا اجتماع المقتضيين؟ فلو كان وجود الإزالة متوقفا على عدم الصلاة ورفعها يلزم ما فر منه : من اجتماع المقتضيين.

فالانصاف : انه لا فرق في الاستحالة بين كون المحل ، مشغولا بأحد الضدين أو كونه خاليا عنها ، وانه ليس في البين توقف ومقدمية أصلا ، ومجرد تمانع الضدين في الوجود لا يقتضى المقدمية ، بل هو مجرد التعاند في الوجود حسب ذاتهما ، ولكن العلة المحدثة لأحدهما هي الطاردة للآخر ، وليس التعاند بين الضدين أقوى من التعاند بين النقيضين ، بل تعاند النقيضيين أقوى وأشد وأتم ، ومع ذلك ليس بين النقيضين ترتب وتوقف ومقدمية ، والا يلزم توقف الشيء على نفسه ، فكذلك ليس بين الضدين ترتب وتوقف لاستلزام توقف الشيء على نفسه أيضا كالنقيضين. وكما أن العلة للوجود هي الطاردة للعدم في النقيضيين ، فكذلك العلة

ص: 311

لوجود أحد الضدين هي الطاردة للاخر ، سواء كان المحل فارغا عنه أو مشغولا به.

وبما ذكرنا اندفعت شبهة الكعبي أيضا ، وهي انتفاء المباح بدعوى ان ترك الحرام يتوقف على فعل وجودي لعدم خلو الانسان عنه ، فيكون الفعل مقدمة لترك الحرام. وجه الدفع : هو ان ترك الحرام لا يتوقف على فعل وجودي ، بل يتوقف على الصارف عنه ، والفعل لايكون الا من المقارنات ، نعم لا مضايقة في وجوب الفعل إذا توقف بقاء الصارف عليه ، كما إذا توقف بقاء الصارف عن الزناء على الخروج عن الدار بحيث لولاه لوقع في الزنا ، فالالتزام بوجوب الخروج في مثل هذا الفرض لا محذور فيه ولا يلزم نفى المباح رأسا. مع أنه يمكن المنع حتى في هذا الفرض ، لان الصارف لم يكن واجبا شرعيا حتى يجب ما يتوقف عليه ، بل هو واقع في مرحلة الامتثال الذي يكون الحاكم به العقل ، فتأمل جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الامر بالشيء لا يقتضى النهى عن ضده الخاص فيما كان للضد ين ثالث ، كما هو الغالب ، لا من جهة الملازمة ولا من جهة المقدمية ، كما مر. ثم انهم عدوا للنزاع في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ثمرات :

منها : وهي العمدة - فساد الضد إذا كان عبادة بناء على الاقتضاء لأنه يكون من النهى في العبادة ، وعدم فساده بناء على عدم الاقتضاء. وعن البهائي (1) انكار هذه الثمرة ، والقول بان الفساد لا يتوقف على القول بالاقتضاء ، بل يكفي في الفساد عدم الامر بالضد ، حيث إن صحة العبادة تتوقف على الامر بها ، وبعد ما لم يكن الضد مأمورا به لامتناع الامر بالضدين فلا محالة من أن يقع فاسدا ، هذا. وحكى (2) عن المحقق الكركي (3) وجماعة ممن تأخر عنه : المنع عن .

ص: 312


1- راجع زبدة الأصول ، المطلب الأول من المنهج الثالث بحث الضد ، ص 82.
2- ولا يخفى عليك انه ليس في عبارة المحقق تصريح بهذا البيان والتفصيل ، بل له كلام في شرح قول العلامة ببطلان الصلاة في أول وقتها لمن كان عليه دين واجب الأداء فورا يظهر منه ان اطلاق الامر بالموسع يعم الفرد المزاحم للمضيق ولازم كلامه ذلك هو ما ذكرناه من التفصيل في المقام ، كما أن له كلاما يظهر منه صحة الامر الترتبي ، فراجع كلامه وتأمل في ما افاده من جواب الاشكالات التي أوردها على نفسه - منه.
3- راجع « جامع المقاصد في شرح القواعد » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.

اطلاق مقالة البهائي ره من فساد الضد لو قلنا بتوقف العبادة على الامر ، بل ذلك انما يتم في خصوص المتزاحمين المضيقين إذا كان أحدهما أهم ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في اخر الوقت لواجب آخر أهم ، فان في مثل هذا يتم كلام البهائي من فساد الصلاة بناء على توقف صحة العبادة على الامر بها ، لأنه لا امر بها ح مع مزاحمتها لواجب أهم. واما لو فرض وقوع التزاحم بين مضيق وموسع ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في بعض أوقات وجوبها لواجب آخر مضيق ، ففي مثل هذا يمكن القول بصحة الفرد المزاحم من الصلاة لذلك الواجب ، ولو قلنا بتوقف صحة العبادة على الامر.

وحاصل ما يمكن من توجيه ما افاده المحقق هو انه : لما تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، لا على نحو السريان كما في النهى عن الطبيعة كانت القدرة على ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد ما كافية في تعلق الامر بالطبيعة ، لخروجه بذلك عن قبح التكليف بما لا يطاق ، ولا يتوقف الامر بالطبيعة على القدرة على جميع افرادها ، بل يكفي في صحة تعلق الامر بالطبيعة تمكن المكلف من صرف الايجاد حتى لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، وبعد تعلق الامر بالطبيعة تكون جميع الافراد متساوية الاقدام في الانطباق ، لان انطباق الكلي على افراده قهري ، وبعد الانطباق يكون الاجزاء عقليا ، وحينئذ لا مانع من الاتيان بذاك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة مثلا بداعي امتثال الامر المتعلق بالطبيعة ، ولا يتوقف صحته على تعلق الامر به بالخصوص ، حتى يقال : بعد الامر بالإزالة لا يمكن الامر بذاك الفرد المزاحم لاستلزامه الامر بالضدين ، بل يكفي في صحته تعلق الامر بالطبيعة ، وبعد ذلك يكون الانطباق قهريا والاجزاء عقليا. فلو قلنا : ان صحة العبادة تتوقف على الامر بها كان الضد الموسع صحيحا إذا كان عبادة ، نعم لو قلنا : ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده كان ذلك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة منهيا عنه ، وبعد تعلق النهى به يخرج عن قابلية انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، فلا يصلح ان يأتي به بداعي الامر بالطبيعة ، لان هذا الداعي انما يصح في الافراد المنطبقة لا الافراد الغير المنطقة.

فظهر ان نفى الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدم اقتضائه

ص: 313

بناء على توقف صحة العبادة على الامر - كما عن البهائي ره - على اطلاقه لا يستقيم ، بل هو مختص بالمضيقين المتزاحمين ، واما في المضيق والموسع فالثمرة تظهر على ما بينا. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة المحقق ومن وافقه.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فإنه لو كان وجه اعتبار القدرة في التكاليف هو مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز لكان الامر كما ذكر ، حيث إنه يكفي في صحة التكليف بالطبيعة القدرة على ايجادها ولو في ضمن فرد ما ، ولكن هناك وجه آخر في اعتبار القدرة وهو اقتضاء الخطاب ذلك ، حيث إن البعث والتكليف انما يكون لتحريك إرادة المكلف نحو أحد طرفي المقدور ، بل حقيقة التكليف ليس الا ذلك ، فالقدرة على المتعلق مما يقتضيه نفس الخطاب ، بحيث انه لو فرض عدم حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وقلنا بمقالة الأشاعرة من نفى التحسين والتقبيح العقليين ، لقلنا باعتبار القدرة في متعلق التكليف لمكان اقتضاء الخطاب والبعث ذلك ، حيث إن حقيقة الخطاب هي البعث وتحريك الإرادة نحو أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفيه ، وحينئذ يدور سعة دائرة المتعلق وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ولا يمكن ان يكون دائرة المتعلق أوسع من دائرة القدرة ، فالفرد المزاحم لواجب مضيق لا يمكن ان يعمه سعة المتعلق لعدم سعة قدرته ذلك حسب الفرض ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، ومجرد انطباق طبيعة الصلاة على ذلك الفرد لا ينفع بعد عدم انطباق الصلاة المتعلقة للطلب عليه. فدعوى انه لا يحتاج الفرد إلى القدرة عليه بعد القدرة على ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد ما - لان الانطباق يكون ح قهريا والاجزاء عقليا - مما لا تستقيم ، بعد ما كان الخطاب يقتضى القدرة على المتعلق بحيث يدور سعة دائرة المتعلق أو ضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ، وبعد عدم القدرة على ايجاد الطبيعة في ضمن الفرد المزاحم لواجب مضيق تخرج تلك الحصة من الطبيعة عن متعلق الامر ، فلا يمكن ايجاد الفرد امتثالا للامر المتعلق بالطبيعة ، فلو قلنا بتوقف العبادة على الامر يبطل ذلك الفرد المزاحم ولا يمكن تصحيحه.

تبصرة :

لا يخفى عليك ان ما قلناه : من أن كل خطاب يقتضى القدرة على متعلقه ،

ص: 314

لا يلزم منه ان يكون القدرة المعتبرة في جل التكاليف شرعية حتى ينافي تقسيم القدرة إلى شرعية وعقلية وترتيب ما يترتب على هذا التقسيم من الثمرات كما سيأتي ، وذلك لان مرادنا من القدرة الشرعية ما اخذت في لسان الدليل بحيث يستكشف منه ان لها دخلا في ملاك الحكم ومناطه ، كما في قوله (1) تعالى ، « لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، حيث قيد الوجوب بالاستطاعة في نفس الدليل ، وأين هذا مما نقوله في المقام من اقتضاء كل خطاب القدرة على متعلقه ، فان ذلك لا يوجب ان تكون القدرة شرعية.

وحاصل الضابط بين القدرة التي نسميها شرعية والقدرة التي نسميها عقلية ، هو انه إذا اخذت القدرة في موضوع الخطاب المستكشف من ذلك مدخليتها في ملاك الخطاب كانت القدرة حينئذ شرعية ، سواء اخذت في موضوع الخطاب صريحا كما في آية الحج ، أو كانت مستفادة من خطاب آخر كما في آية الوضوء - على ما سيأتي بيانه - وان لم تؤخذ في موضوع الخطاب ، بل كانت مما يقتضيه نفس الخطاب ، اما لمكان قبح مخاطبة العاجز عقلا ، واما لمكان كون الخطاب هو البعث والتحريك نحو المقدور - على ما بيناه - كانت القدرة عقلية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك : ان بناء على توقف صحة العبادة على الامر بها يكون الحق مع البهائي من عدم الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدم اقتضائه ، إذ لا امر بالضد على كل حال ، فالعبادة لا تصح مطلقا ، الا ان الشأن في أصل المبنى ، لوضوح انه لا يتوقف صحة العبادة على الامر بها ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام ، وان لم يؤمر بها فعلا لمانع. ومن هنا قلنا : يكفي قصد الجهة في العبادة ولا يحتاج إلى قصد امتثال الامر ، خلافا للمحكى عن صاحب الجواهر (2) حيث اعتبر خصوص قصد امتثال الامر في صحة العبادة ، ويلزمه القول ببطلان الضد إذا كان عبادة. ولكن الانصاف : ان الالتزام بذلك

ص: 315


1- آل عمران ، الآية 97.
2- قدم كلام صاحب الجواهر قدس سره في المقام في هامش ص 150

بلا موجب ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام سواء امر بها فعلا كما إذا لم يتزاحم ما هو أهم منها ، أو لم يؤمر بها فعلا كما في صورة المزاحمة ، فوجود الامر وعدمه سيان في ذلك.

ولكن مع ذلك لا تظهر الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لأنه هب ان الضد يكون منهيا عنه ، ولكن لما كان النهى غيريا لمكان الملازمة أو المقدمية - على الوجهين الذين بنوا عليهما النهى عن الضد - لم يكن ذلك موجبا لخلل في الملاك ، بل الضد يكون باقيا على ما هو عليه من الملاك لولا المزاحمة ، وليس النهى في المقام عن ملاك يقتضيه ، كما في باب النهى عن العبادة ، وباب الاجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى ، فان النهى في البابين يكون استقلاليا عن ملاك يتقضيه ولم يبق معه الملاك المصحح للعبادة ، لأنه لا يتعلق النهى الاستقلالي بالعبادة الا لمكان اقوائية ملاك النهى والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها ، ومعه لايكون في العبادة ملاك تام يقتضى صحة العبادة. وهذا بخلاف النهى الغيري المتعلق بالعبادة ، فإنه لما لم يكن عن مفسدة تقتضيه بل كان لمجرد المزاحمة لواجب آخر أهم والوصلة إليه كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التام المقتضى لصحتها.

ومما ذكرنا ظهر فساد ما تسالموا عليه من فساد العبادة بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لما عرفت من أنه لا فساد حتى بناء على الاقتضاء لصحة الضد بالملاك لذي لا يضره النهى الغيري.

واما توهم انه لا طريق لنا إلى احراز الملاك ، لتعارض الامر بالإزالة مثلا مع الامر بالصلاة ، وبعد تقديم الامر بالإزالة ، اما لضيق وقتها ، واما لأهميتها ، لم يبق مجال لاستكشاف الملاك للصلاة كما هو الشأن في جميع موارد التعارض ، حيث إنه لا يمكن القول ببقاء الملاك لاحد المتعارضين عند تقديم الآخر لاحد موجبات التقديم.

ففساده غنى عن البيان ، لوضوح انه ليس المقام من باب التعارض ، بل من باب التزاحم ، وكم بين البابين من الفرق بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر.

ص: 316

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتفصيل الكلام في التزاحم واحكامه ، حيث إن الاعلام أهملوا ذلك ، مع أنه مما يترتب عليه فروع كثيرة ، وكان حقه ان يفردوا له عنوانا مستقلا. وعلى كل حال : ان تفصيل القول في التزاحم يقع في مقامات ثلاثة :

المقام الأول
اشارة

في الفرق بين التزاحم والتعارض.

وتوضيح الفرق : هو انه يفترق باب التعارض عن باب التزاحم من جهات :

( الجهة الأولى )

هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت ، بحيث لا يمكن جمعهما في مرحلة الجعل والتشريع ، لاستلزامه التناقض واجتماع الإرادة والكراهة في نفس الآمر بالنسبة إلى متعلق واحد ، أو لزوم التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم ، كما إذا أوجب القيام دائما وأوجب القعود كذلك ، أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا أوجب استقبال المشرق وحرم استدبار المغرب ، أو غير ذلك مما لا يمكن فيه الجمع بين الحكمين ثبوتا لتعاندهما في مقام تشريع الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، بحيث يلزم من الجمع : اما اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد ، واما لزوم التكليف بما لا يطاق ، كل ذلك في مقام الجعل والتشريع.

وهذا بخلاف باب التزاحم ، فإنه لم يكن بين الحكمين المتزاحمين منافرة وتعاند في مقام الجعل والتشريع ، بل كان بينهما كمال الملائمة والموافقة ، وانما نشأ التعاند في مقام فعلية الحكمين وتحقق موضوعهما خارجا ، كالمزاحمة بين انقاذي الغريقين ، أو بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها ، أو غير ذلك من اقسام التزاحم على ما يأتي بيانه ، فإنه لا محذور في تشريع انقاذ كل غريق ، أو تشريع حرمة التصرف في ملك الغير ووجوب انجاء المؤمن من الهلكة ، إذ لا ربط لاحد الحكمين بالآخر ، بل شرع كل منهما على موضوعه المقدر وجوده من دون ان يستلزم ذلك التشريع اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، أو التكليف بما لا يطاق ، بل اتفق التزاحم في مقام

ص: 317

الفعلية كما إذا اتفق انه صار التصرف في ملك الغير مقدمة لانجاء المؤمن ، أو اتفق عدم التمكن من انقاذ كل من الغريقين ، فان هذا الاتفاق لا يضر بذلك التشريع والجعل أصلا.

( الجهة الثانية )

هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الاخر - بأحد وجوه التقديم المذكورة في محلها - ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه. وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه ، مثلا في العامين من وجه ، لو حكمنا أكرم العلماء على لا تكرم الفساق في مورد الاجتماع يكون نتيجة التحكيم هو رفع حكم لا تكرم عن موضوعه ، حيث إنه مع بقاء زيد العالم مثلا على فسقه ومع قدرة المكلف على اكرامه يرتفع حكمه. واما في مثل الغريقين ، لو قدمنا أحدهما على الآخر لاحد موجبات التقديم في باب التزاحم تكون نتيجة التقديم هو سلب قدرة المكلف عن انقاذ الاخر وتعجيزا مولويا بالنسبة إليه ، لوجوب صرف قدرته إلى الأهم ، فعدم وجوب انقاذه لعدم قدرته عليه ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي.

( الجهة الثالثة )

هي ان المرجحات لاحد المتعارضين على الاخر كلها ترجع ، اما إلى باب الدلالة ، واما إلى باب السند. واما في باب التزاحم : فالمرجحات هي أمور آخر لا ربط لها بباب الدلالة والسند ، بل ربما يقدم ما هو أضعف دلالة وسندا على ما هو الأقوى ، نعم : ربما يكون بعض المرجحات مرجحا لكلا البابين ، لكن لا بمناط واحد بل بمناطين ، كالأهمية مثلا ، حيث إنه في باب التعارض تكون مرجحة أيضا في بعض الأحيان ، كما قيل فيما لو تعارض الأمر والنهي قدم جانب النهى ، لأهمية التحرز عن المفسدة ، أو أولوية دفعها عن جلب المصلحة. وفي باب التزاحم أيضا يقدم ما هو الأهم ، لكن مناط التقديم ليس من جهة ان في النهى مفسدة ، بل امر آخر بحسب ما يقتضيه المقام ، وكتقديم ما لا بدل له على ماله البدل ، فإنه في باب التعارض يقدم ذلك من باب ان ما لا بدل له يكون حاكما ومبينا لما له البدل ، كما في مثل تقديم العام الأصولي والمطلق الشمولي على المطلق البدلي. وفي باب التزاحم

ص: 318

أيضا يقدم ما لا بدل له ، لكن لا بذلك المناط ، بل بمناط ان ماله البدل لا يصلح ان يكون معجزا مولويا لما لا بدل له ، بخلاف العكس - على ما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى وبالجملة : المرجحات في أحد البابين أجنبية عن المرجحات في الباب الاخر.

( الجهة الرابعة )

هي ان التزاحم انما يكون باعتبار الشرائط المعتبرة في التكليف التي يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع ، فمثل العقل والبلوغ من الأمور التكوينية المعتبرة في التكليف لا يقع فيها التزاحم ، بل الذي يقع فيه التزاحم هو خصوص القدرة ، حيث إن للشارع تعجيز العبد وصرف قدرته إلى أحد الواجبين في عالم التشريع ، وان كان قادرا في عالم التكوين.

وان شئت قلت : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك ، بل كانت من شرائط حسن الخطاب ، فمثل البلوغ والعقل اللذين لهما دخل في ثبوت الملاك ليسا موقعا للتزاحم ، وانما الذي يكون موقع التزاحم هو خصوص القدرة التي هي من شرائط حسن الخطاب ،

نعم : قد يتفق التزاحم في غير باب القدرة ، كما في بعض فروع الزكاة مثل ما إذا كان مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ، ثم ملك واحدة أخرى ، فمقتضى القاعدة الأولية هو انه عند انقضاء حول الخمس والعشرين يؤدى خمس شياه ( لكل خمس شاة ) وبعد انقضاء ستة أشهر الذي به يتم حول الستة والعشرين يؤدى ( بنت لبون ) زكاة الست والعشرين ، فيلزمه في كل ستة أشهر زكاة. ولكن بعد ما قام الدليل على أنه لا يزكى المال في عام مرتين ، يقع التزاحم بين حول النصاب الخمس والعشرين والست والعشرين ولا بد من سقوط ستة أشهر من حول أحدهما ، ولعله يتفق التزاحم في غير هذا المورد ، الا ان الغالب في باب التزاحم هو التزاحم في القدرة.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض ، وان بينهما بونا بعيدا ، بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر ، فلا محل بعد ذلك لان يقال : ان الأصل في الدليلين المتنافيين هو التزاحم ، أو التعارض ، إذ لم يكن مورد

ص: 319

يصلح لكل منهما حتى يبحث عما هو الأصل عند الشك.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أيضا ضعف ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين ، والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى ، وجعل مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من باب التزاحم لوجود المقتضى لكل منهما ، وليسا من باب التعارض. وذلك لان مجرد تزاحم المقتضيين لا يصحح الاندراج في باب التزاحم المقابل لباب التعارض ، والا لكان جميع موارد التعارض من باب التزاحم ، لكاشفية كل دليل عن ثبوت المقتضى لمؤداه ، فيلزم ان يكون جميع موارد تعارض الدليلين من تزاحم المقتضيين.

فالعبرة في التزاحم انما يكون بتزاحم الحكمين في مقام الفعلية لا تزاحم المقتضيين ، والا فقد يتزاحم المقتضيان ثبوتا في نفس الامر ولا محالة يقع الكسر والانكسار بينهما ، فينشأ الحكم على طبق أحدهما ان ترجح في نظره أحد المقتضيين ، والا فعلى كل منهما تخييرا. وليس ذلك من تزاحم الحكمين ، ولذا يعتبر في باب التزاحم ان يكون المكلف عالما بالحكم واصلا إليه ، لان الحكم الذي لم يصل إلى المكلف لا يمكن ان يكون مزاحما لغيره ، لان المزاحمة انما تنشأ من شاغلية كل من الحكمين عن الآخر واقتضاء صرف القدرة إليه ، والحكم الغير الواصل لايكون شاغلا لنفسه ، فكيف يكون شاغلا عن غيره؟ فالتزاحم لايكون الا بعد العلم والوصول. وهذا لا ربط له بتزاحم المقتضيين ، لان تزاحم المقتضيين انما يكون في عالم الثبوت ونفس الامر من دون دخل لعلم المكلف وجهله ، فارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين مما لا يستقيم ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى في مبحث اجتماع الأمر والنهي.

المقام الثاني

في منشأ التزاحم وهو أمور خمسة :

الأول : تضاد المتعلقين ، بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد ، بحيث لا يمكن للمكلف فعلهما ، كما في الغريقين ، والإزالة والصلاة ، وأمثال ذلك مما اجتمع المتعلقان في زمان واحد.

ص: 320

الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في أحدهما فقط. والفرق بين هذا وسابقه : هو ان عدم القدرة في هذا الوجه ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفي سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف في حد ذاته عاجزا لولا اتحاد الزمان.

الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي ، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

الرابع : اتحاد المتعلقين وجودا ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز ، وسيأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي انشاء اللّه تعالى توضيح هذا الوجه والفرق بينه وبين الاتحاد المصداقي ، كالعالم الفاسق ، وان الثاني ليس من باب التزاحم.

الخامس : صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الاخر ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه. وليعلم ان هذه الأمور انما تكون من باب التزاحم إذا كان وقوعها اتفاقيا لا دائميا ، بحيث اتفق تضاد المتعلقين واجتماعهما في الزمان ، أو اتفق عدم قدرة المكلف على جمعهما ، أو اتفق تلازم المتعلقين ، أو اتحادهما ، أو مقدمية أحدهما للاخر.

وأما إذا كان التضاد أو التلازم أو الاتحاد أو غير ذلك من الأمور المذكورة دائميا ، فيخرج عن باب التزاحم ويندرج في باب التعارض ، على ما تقدم من الضابط بين البابين ، فان دائمية ذلك توجب امتناع جعل الحكمين وتشريعهما ثبوتا ، كما لا يخفى. وليعلم أيضا ان التزاحم انما يتحقق بعد البناء على كون الاحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقية. واما لو قلنا بجعلها على نهج القضايا الخارجية فالتزاحم غير معقول ، بل جميع ذلك يكون من التعارض ، لأنه يرجع إلى امتناع الجعل أيضا كما لا يخفى وجهه.

المقام الثالث
اشارة

في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور :

ص: 321

( الامر الأول )

ترجيح ما لا بدل له ، على ما له البدل عرضا ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له ، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب تعييني ، فإنه لا اشكال في تقديم ما لا بدل له على ما له البدل ، بل هذا في الحقيقة خارج عن باب التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي ، لان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فان الواجب المضيق يقتضى صرف القدرة له في زمانه ، والواجب الموسع لا يقتضى صرف القدرة في ذلك الزمان ، لأن المفروض انه موسع ، فلا معنى لمزاحمته للمضيق ، وذلك واضح.

( الامر الثاني )

من المرجحات ، ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، والمراد من القدرة الشرعية هي ما إذا اخذت في لسان الدليل ، كما في الحج وأمثاله مما قيد المتعلق بالقدرة في نفس الخطاب. والسر في ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، هو ان الغير المشروط بها يصلح لان يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، حيث إن وجوبه لم يكن مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية ، والمفروض انها حاصلة فلا مانع من وجوبه ، ومع وجوبه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية عن تحت سلطانه وقدرته شرعا ، للزوم صرف قدرته في ذلك ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب ، لانتفاء شرط وجوبه ، وهو القدرة.

والحاصل : ان ما يكون مشروطا بالقدرة العقلية يصلح ان يكون معجزا مولويا عما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان وجوبه لا يتوقف على أزيد من القدرة العقلية الحاصلة بالفرض ، ومع التعجيز المولوي لم يتحقق شرط وجوب الواجب الاخر ، وهذا من غير فرق بين فعلية وجوب ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية لمكان تحقق شرائط وجوبه ، وبين ما إذا كان مشروطا بشرط لم يتحقق بعد ، غايته ان المزاحم لما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية نفس وجوب الواجب الغير المشروط بها على الأول ، أي إذا كان وجوب الغير فعليا قد تحقق زمان امتثاله. وعلى الثاني يكون المزاحم هو الخطاب الطريقي العقلي وهو خطاب احفظ قدرتك.

وبعبارة أخرى : المزاحم هو عدم جواز تفويت القدرة ، فان وجوب حفظ

ص: 322

القدرة وعدم جواز تفويتها لا يتوقف على فعلية وجوب ما يجب حفظ القدرة له ، على ما تقدم تفصيله في المقدمات المفوتة. وكذا لافرق بين ان يكون الغير المشروط بالقدرة الشرعية أهم مما يكون مشروطا بها ، أو مساويا له ، أو أضعف منه ، لأنه على جميع التقادير يكون معجزا مولويا ، اما بنفسه ، واما بخطاب لزوم حفظ القدرة له ، فأي واجب فرض يكون مقدما على الحج مثلا عند المزاحمة ، سواء كان أهم من الحج أو أضعف ، وسواء كان وجوبه فعليا ، أو مشروطا بشرط يتحقق بعد ذلك. كل ذلك لمكان عدم اشتراط ذلك الواجب بالقدرة الشرعية.

ثم إن في المقام اشكالا ربما يختلج في البال ، وحاصله : انه لا طريق لنا إلى معرفة تقييد المتعلق بالقدرة شرعا وعدم تقييده ، لأنه في غير المقام لو شك في التقييد وعدمه فالاطلاق يدفعه ، واما في المقام فلا سبيل إلى دفع احتمال التقييد باطلاق الخطاب.

اما أولا : فلما عرفت من أن كل خطاب بنفسه يقتضى القدرة على متعلقه ، لان حقيقة الخطاب ليس الا ترجيح أحد طرفي المقدور ، فاعتبار القدرة على المتعلق وتقييده بها انما يكون من مقتضيات نفس الخطاب ، بناء على ما هو الحق عندنا من أن المدرك في اعتبار القدرة انما هو اقتضاء الخطاب ذلك ، لا مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز. وعليه بنينا فساد مقالة المحقق الكركي من صحة اتيان الفرد الواجب الموسع المزاحم للمضيق امتثالا للامر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا فيجزى عقلا. ومع اقتضاء كل امر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك باطلاق الامر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة ، حتى يقال : ان القدرة المعتبرة فيه عقلية لا شرعية ، فيقدم على ما قيد بالقدرة الشرعية عند المزاحمة ، بل نتيجة اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقة هو ان القدرة في جميع التكاليف تكون شرعية ، وليس لنا ما يكون القدرة المعتبرة فيه عقلية محضة ليترتب عليها ما يترتب.

واما ثانيا : فلانه هب ان اقتضاء الخطاب ذلك لا يوجب تقييد المتعلق شرعا بالقدرة ، الا انه لا أقل من أن يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من التمسك بالاطلاق ، لأنه لا اشكال في صلاحية اقتضاء الخطاب

ص: 323

لان يكون مقيدا شرعا ، وكفاية اكتفاء الشارع بذلك عن التصريح بتقييد المتعلق بالقدرة ، ومع هذه الصلاحية كيف يجوز التمسك باطلاق المتعلق على عدم اخذ القدرة قيدا له؟.

واما ثالثا : فلان التمسك بالاطلاق في رفع ما شك في قيديته في سائر المقامات انما هو لأجل مقدمات الحكمة ، التي منها لزوم نقض الغرض ، وايقاع المكلف في خلاف الواقع ، لو كان المشكوك في الواقع قيدا ، فمن عدم بيانه نستفيد انه لم يكن في الواقع قيدا. وهذا البيان في المقام لا يتمشى لان المتعلق لو كان في الواقع مقيدا بالقدرة وكانت القدرة لها دخل في ملاكه لم يلزم من اهمال ذكر القدرة نقض الغرض ولا ايقاع المكلف في خلاف الواقع لأنه لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع. فلا مجال ح للتمسك بالاطلاق لعدم قيدية القدرة.

وهذا الاشكال يرد على كلا المسلكين في كيفية اعتبار القدرة ، من كونها من مقتضيات الخطاب كما هو الحق عندنا ، أو كونها من باب حكم العقل بقبح مطالبة العاجز ، لان مقدمات الحكمة لا تجرى على كل تقدير.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاشكال يوجب هدم أساس ما قلناه من صحة الضد إذا كان عبادة بالملاك كما عليه بعض الاعلام ، أو بالامر الترتبي كما هو الحق عندنا ، لأنه لا طريق لنا إلى استكشاف الملاك واشتمال الصلاة مثلا على المصلحة الا من ناحية اطلاق الامر وعدم تقييد المتعلق بالقدرة ، فلو لم يكن للامر اطلاق كما حرر في وجه الاشكال ، فمن أين يمكن استفادة الملاك في صورة سقوط الامر للمزاحمة؟ حتى نقول ان سقوط الامر لا يوجب سقوط الملاك فتصح العبادة به أو بالامر الترتبي.

وبالجملة : بعد تقييد المتعلق بالقدرة ، أو احتمال تقييده - على اختلاف وجوه تقرير الاشكال ، حيث إن على بعض وجوهه يوجب التقييد ، كما هو مقتضى الوجه الأول ، وعلى بعض وجوهه يحتمل التقييد كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - لا يمكن دعوى بقاء الملاك عند سقوط الامر بالمزاحمة.

ولعله لأجل ذلك حكى عن صاحب الجواهر : المنع عن ثبوت الملاك ، بعد

ص: 324

المنع عن كفايته في صحة العبادة واحتياج العبادة إلى الامر. فعلى كل من قال بصحة العبادة بالملاك أو بالامر الترتبي دفع هذا الاشكال. كما أنه يتوقف على دفعه دعوى ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها عند المزاحمة ، لان مقتضى الاشكال هو ان جميع التكاليف مشروطة بالقدرة الشرعية ، فليس هناك واجب لم يكن مشروطا بها حتى يقدم على ما يكون مشروطا بها ، هذا.

والذي ينبغي ان يقال في حل الاشكال على الوجه الأخير من وجوه تقريره : هو انه ليس من مقدمات الحكمة لزوم ايقاع المكلف في خلاف الواقع ، حتى يقال في المقام انه لا يلزم ذلك ، بل الذي نحتاج إليه في مقدمات الحكمة هو كون المتكلم في مقام بيان مراده ، وحيث لم يبين القيد فلا بد ان يكون مراده الاطلاق.

والحاصل : انه يكفي في صحة التمسك بالاطلاق مجرد عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد بيان مراده. ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى توسيط لزوم وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، مع أنه في المقام أيضا يلزم ذلك لو كانت القدرة المعتبرة قيدا في المتعلق ، لوضوح ان المراد من القدرة الأعم من القدرة العقلية المقابلة للعجز العقلي ، أو القدرة الشرعية المقابلة للعجز الشرعي ، فلو كان المتعلق مقيدا ثبوتا بالقدرة عليه وعدم العجز عنه ومع ذلك لم يبينه في لسان الدليل واخل ببيان ذلك يلزم أحيانا وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، لأنه ربما يتخيل المكلف انه قادر على ايجاد المتعلق شرعا فيأتي به ، مع أنه عاجز عنه شرعا ، فيلزم وقوعه في خلاف الواقع من جهة عدم تقييد المولى المتعلق بالقدرة ، فإنه لو قيده بذلك لم يلزم ذلك. مثلا لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها وعدم العجز عنها ولو شرعا ، بان اعتبر فيها عدم العجز الشرعي عنها ، ومع ذلك أخل ببيان ذلك في لسان الدليل ، فقد يكون الشخص عاجزا عن الصلاة شرعا لمكان مزاحمتها بالأهم ، ومع هذا يغره اطلاق الامر بالصلاة وعدم تقييدها بالقدرة عليها فيأتي بها ، مع أنه لو لم يخل ببيان التقييد لم يأت بها ، فالاتيان بها وايقاع الشخص في مخالفة الواقع انما جاء من قبل الاطلاق.

فدعوى : ان اعتبار القدرة في المتعلق لا يضر بايراد الكلام مطلقا ولا قبح في

ص: 325

الاخلال ببيانه لأنه لا يلزم منه مخالفة الواقع ، فاسدة جدا. فالانصاف انه لو كان المدرك في اعتبار القدرة في التكاليف مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز وأغمضنا عن أن ذلك من مقتضيات نفس الخطاب ، لكان التمسك بالاطلاق في رفع احتمال قيدية القدرة ودخلها في الملاك في محله. فالتقرير الثالث من وجوه تقرير الاشكال ساقط.

نعم : يبقى التقرير الأول والثاني منه ، وقد عرفت ان هذين التقريرين انما يردان بناء على المختار : من أن اعتبار القدرة ليس لمجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بل لمكان اقتضاء الخطاب ذلك.

والتحقيق في حل الاشكال بناء على المختار هو ان هذا الاقتضاء الآتي من قبل الخطاب لا يمكن ان يكون مقيدا للمتعلق وغير صالح لذلك ، وتوضيح ذلك : هو ان للاطلاق جهتين : جهة اثباته للمراد ، وجهة كشفه عن قيام الملاك بالمتعلق.

والمحرز للجهة الأولى هو مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم ذكر القيد ، فلا بد ان يكون مراده الاطلاق. وهذه المقدمات وحدها لا تنفع في احراز الجهة الثانية ، لأنه لا يمكن اثبات كون المتكلم في مقام بيان ما قام به الملاك ومتى كان المتكلم في مقام بيان ذلك بل يحتاج في اثبات قيام الملاك بالمتعلق إلى مقدمة أخرى وهي : ما ذهب إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في مسألة المتعلقات ، ولولا هذه المقدمة لم يكن لنا طريق إلى قيام الملاك بالمتعلق ، فاطلاق الامر بضميمة تلك المقدمة يكون كاشفا عن قيام الملاك بذات المتعلق والمادة ، فلا بد ان يكون ذات المتعلق مما قام به الملاك ثبوتا ، ليتطابق عالم الاثبات وعالم الثبوت ، والكاشف والمنكشف ، فالاطلاق يكشف عن قيام الملاك بما يرد عليه الهيئة ، والذي يرد عليه الهيئة هو نفس المتعلق بلا قيد وان كان بورود الهيئة يتقيد ، فالتقييد الآتي من قبل الهيئة لا ينافي اطلاق ما يرد عليه الهيئة.

والذي ينفعنا في المقام في استكشاف الملاك وعدم قيدية القدرة هو الثاني ، والمفروض ان الكلام فيما إذا كان ما يرد عليه الهيئة مط غير مقيد بالقدرة ، وان كان يتقيد بورود الهيئة. فيصح التمسك بالاطلاق في قيام الملاك بالمتعلق وعدم

ص: 326

تقييده بالقدرة ، فتكون القدرة المعتبرة في مثل هذا عقلية لا شرعية ، وينحصر القدرة الشرعية بما إذا قيد المتعلق بالقدرة ، كما في مثال الحج. فارتفع الاشكال بحذافيره ، فتأمل في المقام جيدا.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من مرجحات باب التزاحم. وقد ظهر لك : ان المرجح الثاني ما كان أحد المتزاحمين غير مشروط بالقدرة الشرعية فإنه يقدم على ما كان مشروطا بها.

( المرجح الثالث )

ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له البدل شرعا ، كما إذا زاحمت الطهارة المائية واجبا آخر لا بدل له ، فإنه يقدم ما لا بدل له على ما له البدل. والسر في ذلك واضح ، لان كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة والتمكن ، لأنه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وعدم التمكن منه ، ولازم ذلك هو تقييد ذلك الواجب بصورة التمكن والقدرة ، سواء وقع التصريح بذلك في لسان الدليل - كما في قوله تعالى : فان لم تجدوا ماء فتيمموا ، حيث إنه قيد التيمم بصورة عدم وجدان الماء فيستفاد منه تقييد الوضوء بصورة وجدان الماء والتمكن منه - أو لم يقع التصريح بذلك في لسان الدليل.

وبالجملة : نفس جعل البدلية الطولية يقتضى التقييد بالقدرة ، فتكون النسبة بين هذا المرجح والمرجح السابق العموم المطلق ، لان كل ماله البدل يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، وليس كل ما يكون مقيدا بالقدرة الشرعية له البدل ، كما هو واضح.

فالوضوء إذا زاحم واجبا آخر من واجبات الصلاة يسقط وينتقل التكليف إلى التيمم ، من غير فرق في ذلك بين الوقت وغيره ، فلو دار الامر بين الوضوء وادراك ركعة أو أزيد من الوقت وبين التيمم وادراك جميع الوقت ، قدم الوقت وتيمم ليدرك جميع الوقت.

واما توهم ان الوقت أيضا مما ثبت له البدل ، حيث إن الظاهر من

ص: 327

قوله : (1) من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت جميعا ، هو بدلية الركعة من الوقت عن جمع الوقت ، فيكون الوقت أيضا مقيدا بالقدرة كتقييد الوضوء بها ، فلا وجه لتقديمه على الوضوء عند المزاحمة ، بل لا بد اما من التخيير ، واما من ملاحظة الأهمية على الوجهين الآتيين في تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة الشرعية - ولعله لذلك حكى عن بعض الاعلام تقديم الوضوء عند مزاحمته للوقت - فهو في غاية الفساد ، لوضوح ان الوقت غير مقيد بالقدرة من أول الامر كتقييد الوضوء بها كذلك ، بل بعد فرض تحقق العجز عن المكلف وعدم تمكنه من الوقت واداركه له ، جعل الشارع ادراك الركعة من الوقت بمنزلة ادراك جميع الوقت.

والحاصل : انه فرق بين تقييد الشيء من أول الامر بالقدرة اما بلا واسطة واما بواسطة جعل البدلية ، وبين جعل شيء بدلا عن شيء بعد فرض تحقق العجز خارجا وعدم تمكن المكلف منه كذلك ، أي بعد فرض عدم التمكن خارجا ، فان الثاني لا يقتضى التقييد بالقدرة شرعا ، بل أقصاه جعل البدلية بعد فرض العجز عن القدرة العقلية. ومسألة من أدرك ركعة من الوقت فقد الخ يكون من هذا القبيل ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، قد ظهر : ان المرجح الثالث من مرجحات باب التزاحم هو ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له الدبل. وفي هذه المرجحات الثلاثة لا يلاحظ مسألة الأهمية والمهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني. فيقدم ما لا بدل له أو ما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية ، على ماله البدل أو المشروط بالقدرة الشرعية وان تأخر زمان امتثاله أو زمان خطابه ، إذا فرض تمامية ملاكه ، كالصلاة قبل الوقت ، حيث تقدم منا في الواجب المعلق : انه يستفاد من وجوب حفظ الماء قبل الوقت تمامية ملاك الصلاة قبله ، وان الوقت شرط للخطاب بالصلاة لا لملاكها.

وحينئذ لو فرض قبل الوقت انه توجه عليه تكليف له بدل أو مشروط بالقدرة الشرعية وكان الاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الصلاة في وقتها ،

ص: 328


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة ، ولعله مصطاد من روايات الباب ، راجع الوسائل باب 30 من أبواب المواقيت والمستدرك باب 24 منه.

فمقتضى القاعدة ترك الاشتغال بذلك الواجب ووجوب حفظ قدرته للصلاة في وقتها كما تقدم. نعم لو فرض عدم ثبوت الملاك للصلاة قبل وقتها وكان ملاكها كخطابها مشروطا بالوقت ، كان اللازم الاشتغال بذلك الواجب الذي له بدل أو المشروط بالقدرة الشرعية ، حيث لا مزاحم له فعلا ، بل في الحقيقة هذا خارج عما نحن فيه ، فتأمل. (1).

فتحصل : انه في هذه المرجحات الثلاث لا يلاحظ الأهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني ، نعم : لو فرض تساوى المتزاحمين من هذه المرجحات ، بان كان كل من المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو كان كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فتصل النوبة ح إلى الترجيح بالأهمية والمهمية ، والسبق واللحوق.

وتفصيل ذلك : هو ان لو تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات الثلاثة المتقدمة ، فاما ان يكون الواجبان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية. فان كان الأول ، فلا يخلو اما ان يتقدم زمان امتثال أحدهما أو لا يتقدم ، فان تقدم زمان امتثال أحدهما فهو المتقدم ، وفي مثل هذا لا يلاحظ أهمية المتأخر وعدم أهميته ، لأن المفروض انه ليس هناك الا ملاك واحد ، حيث إنه لا يمكنه الجمع بينهما ، وكانت القدرة في كل منها معتبرة في الملاك ، ومع عدم القدرة على كل منهما لا يتحقق الملاك في كل منهما ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا موقع لملاحظة الأهمية والمهمية ، فان لحاظ ذلك يستدعى ثبوت ملاكين ، فلا محيص من ترجيح المتقدم زمان امتثاله ، لقدرته عليه فعلا وعدم ما يوجب سلب قدرته عنه شرعا. فلو فرض انه نذر صوم يوم الخميس ، وصوم يوم الجمعة ، وبعد ذلك عرض له ما يمنعه من الجمع بين صوم اليومين ، ودار امره بين صوم أحدهما وترك الآخر ، كان مقتضى القاعدة تقديم صوم يوم الخميس وترك صوم يوم الجمعة ، لتقدم زمان امتثال الأول وعدم مانع شرعي عنه ، لاعتبار القدرة

ص: 329


1- وجهه : هو انه يمكن ان يقال بلزوم حفظ القدرة في هذا الفرض أيضا ، للعلم بتحقق الملاك التام بعد ذلك ، فيكون اشتغاله بذلك الواجب موجبا لتفويت الملاك في موطنه ، فتأمل - منه.

الشرعية في كل منهما ، حيث إن خطاب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية ، لان دليل الوفاء بالنذر تابع لما التزم به المكلف على نفسه ، وما التزم به المكلف على نفسه هو الفعل المقدور ، فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام فالخطاب يرد على الفعل الذي اخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا ، فتأمل جيدا.

وبعد ما ظهر ان النذر مشروط بالقدرة الشرعية ، ففي الفرع المتقدم - من تزاحم الواجبين المشروط كل منها بالقدرة الشرعية مع تقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر - فقد عرفت ان المتقدم زمان امتثاله هو المتقدم ، وكذا إذا فرض اتحاد زمان امتثالهما ولكن تقدم زمان خطاب أحدهما ، كما إذا وجب عليه فعل شيء معين في وقت خاص مشروط بالقدرة الشرعية ، وصادف توجه واجب آخر مشروط بالقدرة الشرعية في ذلك الوقت ، فإنه يقدم الأول لمكان سبق خطابه ، فيكون خطاب السابق قد شغل ذلك الوقت ، فلم يبق موقع للواجب الآخر ، الا إذا كان السابق مشتملا على خصوصية توجب تأخره وتعين امتثال اللاحق خطابه ، كما في النذر وشبهه ، حيث إنه يعتبر فيه ان لايكون موجبا لتحليل حرام أو تحريم حلال ، سواء كان نفس متعلقه حراما ، كما إذا نذر ما يحرم فعله لولا النذر ، أو كان ملازما لذلك (1) كما إذا نذر ما يوجب تفويت واجب لولا النذر. كما لو نذر زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة قبل أشهر الحج ، ثم حصلت له الاستطاعة في أشهر الحج ، فان مقتضى القاعدة انحلال النذر وتعين الحج عليه ، وان تقدم خطاب الوفاء بالنذر وكان كل من النذر والحج مشروطا بالقدرة الشرعية.

والسر في ذلك : هو ان النذر في المقام يوجب تفويت الحج الواجب لولا النذر ، وتفويت الواجب كذلك يوجب انحلال النذر ، والمفروض ان الحج لولا

ص: 330


1- ولا يخفى عليك ان الظاهر من تحليل الحرام هو ان يكون نفس المتعلق موجبا لذلك ، بان نذر ما هو حرام أو نذر ترك واجب ، لا ما إذا استلزم ذلك كما في المقام ، فتأمل. منه

النذر كان واجبا لحصول ما هو شرط وجوبه وهو الاستطاعة ، فلا مانع من وجوبه سوى النذر ، والنذر لا يصلح ان يكون مانعا ، لأنه قد اعتبر في انعقاد النذر ان لايكون موجبا لتحليل الحرام ولو بالاستلزام ، فالنذر والحج وان اشتركا في اخذ القدرة الشرعية في متعلقهما ، الا ان النذر قد اشتمل على خصوصية أوجبت عدم مزاحمته للحج وتقدم الحج عليه ، وتلك الخصوصية هي عدم كونه موجبا لتحليل ما هو حرام أو واجب لولا النذر ، والحج واجب لولا النذر فلا بد من انحلاله.

فانحلال النذر في مثل هذا ليس لمكان اعتبار الرجحان في متعلقه حال الفعل حتى يستشكل بأنه يكفي الرجحان حال النذر ، وزيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة في حال النذر كانت راجحة لعدم تحقق الاستطاعة بعد ، فلا موجب لانحلاله. أو يفرض الكلام في العهد واليمين الذين لا يعتبر الرجحان في متعلقهما - ولعله لذلك حكى انه كان عمل صاحب الجواهر ( قده ) على ذلك ، حيث كان ينذر قبل أشهر الحج زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج في اشهره - بل إن انحلال النذر انما هو لمكان استلزامه تفويت واجب لولا النذر.

فان قلت :

ان هذه الخصوصية لا تختص بالنذر ، بل ورد في باب الشروط والصلح وغير ذلك أن لايكون موجبا لتحليل الحرام أو تحريم الحلال. وح يلزم وجوب الحج عليه إذا آجر نفسه قبل أشهر الحج لعمل كذائي في يوم عرفة ، ثم حصلت الاستطاعة له ، فان مقتضى ما تقدم هو بطلان الإجارة ووجوب الحج عليه ، مع أن الظاهر أنه لا يمكن الالتزام به ، وان سبق الإجارة يوجب عدم تحقق الاستطاعة ، فلا يتحقق موضوع وجوب الحج.

قلت :

فرق بين التكليف والوضع ، وكلامنا في المقام من الحيثية الأولى ، وان التكليف بالوفاء بالنذر لا يزاحم تكليف الحج ، فلو فرض ان هناك جهة أخرى من وضع وملكية بحيث كان عمله مملوكا للغير فذلك امر آخر لا ربط له بالجهة التي نحن فيها ، فتأمل.

ص: 331

وحاصل الكلام : ان تصحيح عمل صاحب الجواهر ره لايكون الا بأمرين :

الأول : ان مثل هذا النذر لا يوجب تحليل الحرام ، بل الموجب له هو ما كان متعلقه حراما والمقام ليس كذلك.

الثاني : كفاية الرجحان حال النذر في انعقاده ، وزيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة حال النذر كانت راجحة ، لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك الحال.

وكل من الامرين محل منع.

اما الامر الأول : فقد عرفت كفاية كون المتعلق مما يوجب تفويت واجب لولا النذر في اندراجه في كونه محللا للحرام.

واما الامر الثاني : فلان المستفاد من أدلة النذر هو اعتبار ان يكون متعلق النذر حال الفعل راجحا ولا عبرة بحال النذر ، وزيارة الحسين علیه السلام حال فعلها مع كون الشخص مستطيعا يجب عليه الحج لولا النذر ليست راجحة ، ولذا لا يصح نذرها بعد أشهر الحج ، وليس المراد من الرجحان هو الرجحان الذاتي ، حتى يقال : ان زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة راجحة ذاتا ولو مع الاستطاعة ، ولذا لو ترك الحج وزار الحسين علیه السلام يوم عرفة فقد يثاب لزيارته وليس ذلك الا لمكان رجحانها الذاتي ، بل المراد من الرجحان المعتبر في متعلق النذر هو الرجحان الفعلي ، بحيث يكون مما رغب فيه شرعا ، وزيارة الحسين علیه السلام في حق المستطيع ليست مما رغب فيها ، ولذا لا يصح نذرها في حال كونه مستطيعا اتفاقا. فيظهر منه ان الرجحان الذاتي لا ينفع.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام. وعليك بالتأمل في أطراف المسألة وفي أدلة النذر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان المتزاحمين المشروطين بالقدرة الشرعية يقدم منهما ما هو الأسبق امتثالا أو خطابا ، والا فالتخيير. ولا يلاحظ في مثل هذا الأهمية والمهمية ، فإنه ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا معنى لملاحظة الأهمية ، فتأمل.

ص: 332

ولا يخفى عليك : ان التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية عند التساوي غير التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية عند التساوي ، فان التخيير في القدرة العقلية انما هو لمكان تقييد كل من الاطلاقين بعدم فعل الاخر ، من دون سقوط أصل الخطابين على أقوى المسلكين فيه كما يأتي ، ولكن في القدرة الشرعية التخيير انما هو لسقوط الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، لمكان وجود ملاك تام في البين وعدم العلم بمتعلقه ، فيكون التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية كالتخيير في المشروطين بالقدرة العقلية على المسلك الاخر الذي هو خلاف التحقيق عندنا ، وسيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى.

واما المتزاحمان المشروطان بالقدرة العقلية : فان كان أحدهما أهم قدم على الآخر سواء تقدم زمان امتثاله أو خطابه أو تأخر ، للزوم حفظ القدرة له فيكون خطابه أو خطاب ( احفظ قدرتك ) معجزا مولويا عن المهم. واما ان لم يكن في البين أهمية ومهمية فالسابق امتثاله هو المقدم ، ولا تصل النوبة إلى التخيير سواء كان من قبيل المقدمة وذيها ، أو كان من قبيل القيام في الركعة الأولى والثانية ، وسواء تنجز التكليف بالمتأخر كمثال القيام أولا ، كما إذا كان المتأخر مشروطا بشرط لم يحصل بعد ، فإنه على جميع التقادير يقدم ما هو الأقدم امتثالا ، الا إذا كان المتأخر أهم ، كما إذا دار الامر بين القيام حال الفاتحة ، أو القيام قبل الركوع ، حيث إن الثاني أهم لركنية ، فان أهمية المتأخر يوجب التعجيز المولوي عن المتقدم ، لمكان انه يتولد من أهمية خطاب ( احفظ قدرتك ) فيكون عاجزا شرعا عن المتقدم.

وأما إذا لم يكن المتأخر أهم كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية أو التصرف في ارض الغير لانقاذ مال الغير حيث إنه ليس انقاذ مال الغير أهم من التصرف في ارض الغير ، فمقتضى القاعدة تقديم قيام الركعة الأولى وان أوجب القعود في الثانية ، وترك التصرف في ارض الغير وان أوجب تلف مال الغير المتوقف عليه. والسر في ذلك : هو انه ليس له معجز مولوي عن القيام في الركعة الأولى ، أو ترك التصرف في ارض الغير ، لعدم أهمية المتأخر حتى يلزم حفظ القدرة له ، فليس

ص: 333

خطاب المتأخر شاغلا مولويا عن المتقدم. وإذا لم يكن للمتقدم شاغل مولوي كان هو المتعين ، لحصول القدرة عليه بالفعل ، فلا موجب لتركه ليحفظ قدرته للمتأخر.

وبالجملة : التخيير انما يكون في الواجبين المتساويين من حيث عدم أهمية أحدهما مع اتحاد زمان امتثالهما ، لصلاحية الاشتغال بكل منهما للتعجيز عن الآخر. فالتعجيز في العرضيين انما يكون بالاشتغال بأحدهما لا بنفس الخطاب ، وانما يكون التعجيز بالخطاب إذا كان أحدهما أهم.

واما في غير ذلك فالتعجيز انما يكون بالاشتغال ، لعدم صلاحية الخطاب للتعجيز ، لتساوي كل من الخطابين ، والتعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر انما يكون في العرضيين.

واما في الطوليين المتقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر ، فلا يتصور فيه التعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم لتقدم زمان امتثاله ، وبالاشتغال به يحصل التعجيز عن المتأخر.

فتحصل : انه لا موقع للتخيير في الطوليين ، ولعل منشأ القول بالتخيير هو توهم سقوط الخطابين في المتزاحمين ، واستكشاف العقل من تمامية الملاك في كل منهما وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما خطابا تخييريا شرعيا. واما بناء على المختار : من أن التخيير في المتزاحمين العرضيين انما هو لمكان اشتراط اطلاق كل من الخطابين بعدم فعل الآخر مع بقاء أصل الخطاب ، فلا معنى للتخيير في الطوليين ، إذ ليس المتأخر في رتبة المتقدم حتى يقيد به اطلاق خطاب المتقدم. وسيأتي بيان وجه المختار وضعف القول الأول ، وما يتفرع على القولين من الفروع التي :

منها : تعدد العقاب عند ترك الكل بناء على المختار ، ووحدته بناء على القول الاخر.

ومنها : دوران الامر بين التعيين والتخيير عند احتمال أهمية أحدهما ، بناء على سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، فيبنى : اما على البراءة ، أو الاشتغال ، على القولين في مسألة دوران الأمريين التعيين والتخيير.

واما بناء على المختار : من تقييد الاطلاقين ، فلا محيص من القول بالاشتغال

ص: 334

عند أهمية أحدهما ، للقطع بتقييد غير محتمل الأهمية والشك في تقييد محتمل الأهمية ، فيرجع الشك فيه إلى الشك في المسقط.

هذا إذا تقدم زمان امتثال أحد المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقلية. وأما إذا اتحد زمان امتثالهما كالغريقين فحينئذ تصل النوبة إلى الترجيح بالأهمية ، فأي منهما أهم يقدم ، لان الامر بالأهم يكون معجزا مولويا عن غيره. ومسألة الأهمية يختلف باختلاف ما يستفاد من الأدلة ومناسبة الحكم والموضوع ، فما كان لحفظ بيضة الاسلام يقدم على كل شيء ، وما كان من حقوق الناس يقدم على غيره ، كما أن ما كان من قبيل الدماء والفروج يقدم على غيره ، واما فيما عدا ذلك فاستفادة الأهمية يحتاج إلى ملاحظة المورد وملاحظة الأدلة.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الترجيح بالأهمية ، انما هو بعد فقد المرجحات السابقة : من البدلية واللابدلية ، والاشتراط بالقدرة الشرعية وعدم الاشتراط ، وغير ذلك من المرجحات السابقة ، وعند فقد جميع المرجحات يكون الحكم هو التخيير. هذا تمام الكلام في تزاحم الحكمين في التكليف الاستقلالية.

واما الكلام في التزاحم في باب القيود والواجبات الغيرية ، كما لو دار الامر بين ترك جزء أو شرط ، أو دار الامر بين ترك شرط أو شرط آخر ، أو جزء وجزء آخر ، فله عرض عريض ويحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المقام ، وان كان شيخنا الأستاذ قد تعرض له في هذا المقام على سبيل الاجمال ، الا انا قد اعرضنا عن بيانه لاجمال ما ذكره ( مد ظله ) في هذا المقام. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة الترتب التي هي من فروع باب التزاحم ، ووقعت معركة الآراء بين الاعلام خصوصا في زماننا الحاضر.

وينبغي أولا تنقيح ما هو محل النزاع في المقام فنقول : قد عرفت ان اقسام التزاحم خمسة.

الأول : تضاد المتعلقين ، لاجتماعهما في زمان واحد ، كالغريقين.

الثاني : قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون ان يكون بينهما مضادة ، لاختلاف زمانهما ، كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية.

ص: 335

الثالث : تلازم المتعلقين كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

الرابع : مقدمية أحد المتعلقين للآخر ، كالتصرف في ارض الغير لانجاء مؤمن.

الخامس : اتحاد المتعلقين في الوجود ، كالصلاة في الأرض المغصوبة. وعنوان النزاع في مسألة الترتب في كلمات الاعلام وان كان في خصوص القسم الأول ، وهو ما إذا كان التزاحم لأجل تضاد المتعلقين ، الا ان الظاهر عدم اختصاص مسألة الترتب بذلك ، بل تجرى في بعض الأقسام الاخر وان لم تجر في جميع الأقسام الخمسة. فالأولى جعل الكلام في باب الترتب في مسائل خمس حسب اقسام التزاحم ، وافراد كل قسم بالبحث عن جريان الترتب فيه.

المسألة الأولى :

في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيها لأجل تضاد المتعلقين ، وكان أحدهما أهم من الآخر ، بحيث يكون اطلاق الامر بالأهم على حاله ، والامر بالمهم يقيد بصورة عصيان الأهم وتركه. فيرجع النزاع في الترتب إلى أن تقييد المهم بذلك مع بقاء اطلاق الأعم هل يوجب رفع غائلة التمانع والمطاردة ، والتكليف بالمحال ، وخروج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية؟ كما هو مقالة مصحح الترتب. أو ان هذا التقييد لا يوجب رفع تلك الغائلة ، بل التكاليف بالمحال بعد على حاله ، ولا يخرج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية بذلك التقييد. بل رفع تلك الغائلة لايكون الا بسقوط الامر بالمهم رأسا كما هو مقالة منكر الترتب. والأقوى هو الأول.

وينبغي ان يعلم أنه لا يختص الترتب بخصوص الأهم والمهم ، بل يجرى في الموسع والمضيق أيضا ، وعلى كل حال ان تنقيح البحث فيه يستدعى رسم مقدمات :

المقدمة الأولى :

لا اشكال في أن الذي يوجب وقوع المكلف في مضيقة المحال واستلزام التكليف بما لا يطاق ، انما هو ايجاب الجمع بين الضدين ، إذ لولا ايجاب الجمع على

ص: 336

المكلف لم يقع المكلف في مضيقة المحال. فالمحذور كل المحذور انما ينشأ من ايجاب الجمع بين الضدين. ولا اشكال أيضا في أنه لابد من سقوط ما هو منشأ ايجاب الجمع ليس الا ، ولا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك. وهذان الأمران مما لا كلام فيهما. فالكلام كله في أن الموجب لايجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين واجتماعهما وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقق شرطهما؟ أو ان الموجب لايجاب الجمع ليس نفس الخطابين بل الموجب هو اطلاق كل من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه.

والحاصل : انه لا اشكال في أن الموجب لايجاب الجمع في غير باب الضدين انما هو اطلاق الخطابين لحالتي فعل متعلق الاخر وعدمه ، كالصلاة والصوم ، فان الموجب لايجاب الجمع بينهما انما هو اطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه ، واطلاق خطاب الصوم وشموله لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الاطلاقين ايجاب الجمع بين الصلاة والصوم على المكلف. ولو كان كل من خطاب الصوم والصلاة مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، لما كانت النتيجة ايجاب الجمع بين الصوم والصلاة. وهذا في غير الضدين واضح. فيقع الكلام في أن حال الضدين حال غيرهما في أن الموجب لايجاب الجمع بينهما هو اطلاق كل من الخطابين حتى يكون هو الساقط ليس الا؟ أو ان الموجب لذلك هو فعلية الخطأ بين مع وحدة زمان امتثالهما حتى يكون الساقط أصل الخطابين. وعلى ذلك يبتنى المسلكان في التخيير في المتزاحمين المتساويين من حيث المرجحات ، من حيث كون التخيير عقليا ، أو شرعيا ، فإنه لو كان المقتضى لايجاب الجمع هو اطلاق الخطابين فالساقط هو الاطلاق ليس الا مع بقاء أصل الخطابين ، ويكون التخيير لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة على متعلقة ، فيكون كل من الخطابين بالضدين مشروطا بترك الآخر ، لحصول القدرة عليه عند ترك الآخر وينتج التخيير عقلا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بان المقتضى لايجاب الجمع هو أصل الخطابين ووحدة زمان امتثالها ، فإنه ح لابد من سقوط كلا الخطابين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، ولمكان تمامية الملاك في كل منهما يستكشف

ص: 337

العقل خطابا شرعيا تخيريا بأحدهما ، ويكون كسائر التخييرات الشرعية كخصال الكفارات ، غايته ان التخيير الشرعي في الخصال يكون بجعل ابتدائي ، وفي المقام يكون بجعل طارئ. ويكون وزان التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية وزانه في المشروطين بالقدرة الشرعية ، حيث تقدم ان التخيير فيهما يكون شرعيا.

وعلى ذلك أيضا يبتنى وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا ، فإنه بناء على سقوط الخطابين لايكون هناك الا عقاب واحد ، لان الواجب شرعا ح هو أحدهما. واما بناء على اشتراط الاطلاقين فيتعدد العقاب ، لحصول القدرة على كل منهما ، فيتحقق شرط وجوب كل منهما ، فيعاقب على ترك كل منهما. وربما يترتب على ذلك ثمرات اخر قد تقدمت الإشارة إلى بعضها.

فتحصل : ان الذي ينبغي ان يقع محل النفي والاثبات ، هو ان الموجب لايجاب الجمع ما هو؟ هل اطلاق الخطابين؟ أو فعليتهما؟ وعلى الأول يبتنى صحة الترتب ، وعلى الثاني يبتنى بطلانه.

ومن الغريب : ما صدر عن الشيخ ( قده ) حيث إنه في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ينكر الترتب غاية الانكار (1) ولكن في مبحث التعادل والتراجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي وفقد المرجح ، حيث قال في ذلك المقام ، في ذيل قوله : « فنقول وباللّه المستعان قد يقال بل قيل : ان الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما » ما لفظه : « لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة ، والمفروض ان كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع ايجاد الآخر ، فكل منهما مع ترك الاخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ، ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الاخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة. وهذا مما يحكم به بديهة العقل ، كما في كل واجبين .

ص: 338


1- راجع تفصيل ما افاده الشيخ قدس سره في المقام في مباحث مقدمة الواجب من مطارح الأنظار ، الهداية التي تكلم فيها عن صحة اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرم مقدم عليه وعدمها ، ص 54 إلى 57.

اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله الا تعيين الاخر عليه كذلك » (1) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.

وهذا كما ترى صريح في أن التخيير في الواجبين المتزاحمين انما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه وتحقق القدرة في حال ترك الآخر ، فيجب كل منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتب من الجانبين مع أنه ( قده ) أنكره من جانب واحد وليت شعري ان ضم ترتب إلى ترتب آخر كيف يوجب تصحيحه.

وبالجملة : هذه المناقضة من الشيخ غريبة. وعلى كل حال ، فقد تحصل من المقدمة الأولى : ان العمدة هو اثبات ما يوجب ايجاب الجمع بين الضدين على المكلف ، حتى يكون هو الساقط.

المقدمة الثانية :

الواجب المشروط بعد تحقق شرطه حاله حاله قبل تحقق شرطه ، من حيث إنه بعد على صفة الاشتراط ، ولا يتصف بصفة الاطلاق ، ولا ينقلب عما هو عليه. وذلك لما عرفت في الواجب المشروط : من أن الشرط فيه يرجع إلى الموضوع ، فيكون الواجب المشروط عبارة عن الحكم المجعول على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية. وليست الاحكام من قبيل القضايا الشخصية ، بل هي احكام كلية مجعولة أزلية على موضوعاتها المقدرة ، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عما هو عليه ، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا ، ولا الحكم عن كونه مجعولا على موضوعه. ووجود الشرط في الواجب المشروط عبارة عن تحقق موضوعه خارجا ، وبتحقق الموضوع خارجا لا ينقلب الواجب المجعول الأزلي عن الكيفية التي جعل عليها ، ولا يتصف بصفة الاطلاق بعد ما كان مشروطا ، لان اتصافه بذلك يلزم خروج ما فرض كونه موضوعا عن كونه موضوعا. فوجوب الحج انما أنشأ أزلا مشروطا بوجود موضوعه الذي هو العاقل البالغ المستطيع ، وهذا لا يفرق الحال فيه ، بين تحقق الاستطاعة لزيد أو عدم تحققها ، إذ ليس لزيد حكم يخصه حتى يقال : انه

ص: 339


1- فرائد الأصول ( الرسائل ) ، مباحث التعادل والتراجيح ، المقام الأول في المتكافئين. ص 416.

لا معنى لكون وجوب الحج بالنسبة إلى زيد المستطيع مشروطا بالاستطاعة ، بل لابد من أن يكون الخطاب بالنسبة إلى زيد ح مط. وهو كذلك لو كانت الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، وعليه يكون الشرط من علل التشريع لا من قيود الموضوع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في الواجب المشروط والمعلق ، وتقدم بطلان ذلك وان الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية.

فما في بعض الكلمات : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط مبنى على ذلك المبنى الفاسد : من كون الأحكام الشرعية قضايا جزئية. واما بناء على ما هو الحق عندنا ، فالواجب المشروط دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه وفعليته.

وبعبارة أخرى : الشرط دائما يكون من وسائط العروض ، لا وسائط الثبوت. وبذلك ظهر فساد ما في بعض الألسن : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط. فالامر بالمهم المشروط بعصيان الامر بالأهم دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه. نعم يصير فعليا عنده. وعلى ذلك تبتنى طولية الامر بالمهم بالنسبة إلى الامر بالأهم وخروجه عن العرضية ، كما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى. والمحقق الخراساني ( قده ) مع اعترافه (1) برجوع الشرط إلى الموضوع الذي عليه يبتنى الواجب المشروط ، وأنه يكون قسيما للواجب المطلق - كما أوضحناه (2) في محله - ذهب في جملة من الموارد إلى كون الشرط من وسائط الثبوت ، وانه من قبيل العلل للتشريع كما يظهر من ارجاعه الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي - على ما تقدم تفصيله - (3) وكما يظهر منه في المقام (4) حيث جعل الامر بالمهم بعد تحقق 3

ص: 340


1- راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ص 152 -
2- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الامر الأول ص 170
3- الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية ص 276 وراجع الكفاية ، الجلد الأول. مباحث مقدمة الواجب. منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر.
4- كفاية الأصول. الجلد الأول ، الامر الرابع من الأمور التي رسمها في مقدمة بحث الضد ، ص 213

شرطه في عرض الامر بالأهم. وذلك لا يستقم الا بعد القول بصيرورة الواجب المشروط مطلقا بعد تحقق شرطه. ويظهر منه ذلك أيضا في موارد أخر لعله نشير إليها في محلها.

المقدمة الثالثة

قسموا الواجب إلى موسع ومضيق وعرفوا الأول بما إذا كان الزمان المضروب لفعل الواجب أوسع من الفعل ، وبعبارة أخرى : ما كان له افراد وابدال طولية بحسب الزمان. ويقابله المضيق وهو ما إذا كان الزمان المضروب للفعل بقدره ، أي ما لايكون له بدل طولي بحسب الزمان.

ثم إن المضيق على قسمين : قسم اخذ فيه الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال الانقضاء ، سواء كان ذلك الشيء من مقولة الزمان ، أو من مقولة الزماني ، أي يكون انقضاء ذلك الشيء وسبقه شرطا للتكليف. ولعل باب الحدود والديات من هذا القبيل ، بناء على أن يكون التكليف بالحد مضيقا ، فان الشرط لوجوب الحد هو انقضاء القتل من القاتل وتحققه منه ، ولا يتوجه التكليف بالحد حال تلبس القاتل بالقتل ، بل يعتبر انقضاء القتل منه ولو آنا ما. ولو ناقشت في المثال فهو غير عزيز ، مع أن مع المقصود في المقام مجرد تصور اخذ الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال انقضائه ، وجد له في الشريعة مثال أو لم يوجد.

ويمكن تصوير ذلك في الواجب الموسع أيضا ، بان يؤخذ الشيء شرطا للتكليف بالموسع بلحاظ حال الانقضاء ، وان لم نعثر على مثال له ، أو قلنا ان الحد من الواجبات الموسعة. والمقصود انه لا اختصاص لما قلناه بالمضيق.

وقسم اخذ الشيء فيه شرطا بلحاظ حال وجوده ، ولا يعتبر فيه الانقضاء ، فيثبت التكليف مقارنا لوجود الشرط ، ولا يتوقف ثبوته على انقضاء الشرط ، بل يتحد زمان وجود الشرط وزمان وجود التكليف وزمان امتثاله ويجتمع الجميع في آن واحد حقيقي. وأغلب الواجبات المضيقة في الشريعة من هذا القبيل ، كما في باب الصوم ، حيث إن الفجر شرط للتكليف بالصوم ، ومع ذلك يثبت التكليف مقارنا لطلوع الفجر ، كما أن زمان امتثال التكليف بالصوم أيضا يكون من أول

ص: 341

الطلوع ، لان الصوم هو الامساك من أول الطلوع ، ففي الآن الأول الحقيقي من الطلوع يتحقق شرط التكليف ونفس التكليف وامتثاله ، بمعنى ان ظرف أمثاله أيضا يكون في ذلك الآن وان لم يتحقق الامتثال خارجا وكان المكلف عاصيا ، الا ان اقتضاء التكليف بالصوم للامتثال انما يكون من أول الفجر ، ففي أول الطلوع تجتمع الأمور الثلاثة : شرط التكليف ، ونفس التكليف ، وزمان الامتثال. ولا يتوقف التكليف على سبق تحقق شرطه آنا ما. كما أنه لا يتوقف الامتثال على سبق التكليف آنا ما ، بل يستحيل ذلك.

اما استحالة تقدم زمان شرط التكليف على نفس التكليف ، فلما عرفت من رجوع كل شرط إلى الموضوع. ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى معلولها ، أي من سنخ العلة والمعلول ، وان لم يكن من العلة والمعلول حقيقة ، الا ان الإرادة التشريعية تعلقت بترتب الاحكام على موضوعاتها نحو تعلق الإرادة التكوينية بترتب المعلولات على عللها. فيستحيل تخلف الحكم عن موضوعه ، كاستحالة تخلف المعلول عن علته ، لان مع التخلف يلزم : اما عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا وهو خلف ، واما تأخر المعلول عن علته وهو محال. ولذا قلنا بامتناع كل من الشرط المتقدم والمتأخر ، وانه يعتبر في شرط المتكليف ان يكون مقارنا له زمانا ، وان تأخر عنه رتبة ، وذلك لان الآن المتخلف اما ان يكون له دخل في ثبوت الحكم ، واما ان لايكون ، فان كان له دخل فيلزم ان لايكون ما فرض كونه تمام الموضوع أو الجزء الأخير منه كذلك ، بل كان انقضاء ذلك الآن هو الجزء الأخير من الموضوع. وان لم يكن لذلك الآن دخل يلزم تخلف المترتب عما رتب عليه وتأخر المعلول عن علته ، وذلك واضح.

واما استحالة تأخر زمان الامتثال عن التكليف ، فلان التكليف هو الذي يقتضى الامتثال ويكون هو المحرك ، فيكون نسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح ، وغير ذلك من العلل والمعلولات التكوينية.

نعم : الفرق بين المقام ، والعلل التكوينية ، هو انه لا يتوسط في سلسلة العلل التكوينية العلم ولا الإرادة بل يوجد المعلول بعد علته التكوينية من دون دخل

ص: 342

للعلم والإرادة في ذلك. واما في المقام فيتوسط بين الامتثال والتكليف علم الفاعل بالتكليف وارادته الامتثال ، إذ مع عدم العلم بالتكليف ، أو عدم إرادة الامتثال ، يستحيل تحقق الامتثال. الا انه على كل تقدير لا يخرج التكليف عن كونه واقعا في سلسلة العلل ، غايته ان العلم والإرادة أيضا واقعة في سلسلتها ، ولا يتفاوت في استحالة تخلف المعلول عن علته زمانا بين قلة ما يقع في سلسلة العلة وكثرته. فالامتثال المعلول للتكليف والعلم والإرادة يستحيل ان يتخلف عن ذلك زمانا ، وانما التخلف في الرتبة فقط. فلا يعقل سبق زمان التكليف على زمان الامتثال. وقد تقدم منا في الواجب المعلق امتناع فعلية التكليف قبل زمان امتثاله ، لان الزمان المتخلل ، اما ان يكون لانقضائه دخل في فعلية التكليف فيستحيل فعلية التكليف قبل انقضائه ، واما ان لايكون له دخل فيستحيل تأخر الامتثال عنه أي اقتضائه للامتثال.

وبالجملة : مقتضى البرهان ، هو ان لا يتخلف التكليف عن الشرط ، ولا الامتثال عن التكليف زمانا ، بل يتقارنان في الزمان ، وان كان بينهما تقدم وتأخر رتبي ، هذا.

ولكن حكى عن بعض الاعلام : انه لا بد في هذا القسم من المضيق ( وهو ما إذا اتحد زمان وجود الشرط والتكليف والامتثال ، كالصوم وكصلاة الآيات ) من تقدير سبق التكليف آنا ما قبل زمان الامتثال ، ليتمكن المكلف من الامتثال ، ولا يمكن ان يقارن التكليف لزمان الامتثال.

بل يظهر (1) من المحقق الخراساني في الواجب المعلق : انه يعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات فراجع.

ص: 343


1- الكفاية المجلد الأول ص 163 ، قوله : « مع أنه لا يكاد يتعلق البعث الا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة ان البعث انما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بان يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا الا بعد البعث بزمان ، فلا محاله يكون البعث نحو امر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ».

وقد يوجه ذلك : بأنه لولا السبق يلزم : اما التكليف بالحاصل ، واما التكليف بالمتعذر ، لأنه ان كان المكلف في الآن الأول الحقيقي من الفجر ممسكا فتوجه التكليف إليه في ذلك يكون من الطلب الحاصل ، وان لم يكن ممسكا فيتعذر عليه التكليف بالامساك في آن الطلوع ، فلا بد من سبق التكليف على الطلوع آنا ما ليتمكن المكلف من الامساك في أول الفجر منبعثا عن التكليف السابق ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا :

فلانه لا موجب لهذا التقدير ، لان توقف الانبعاث على البعث ليس بأزيد من توقف المعلول على علته ، فكما ان وجود المعلول يكون مستندا إلى علته المقارنة له في الوجود ويكون صادرا عنها ، فكذلك الانبعاث يكون مستندا إلى البعث المقارن له في الوجود ويكون حاصلا بذلك البعث.

ودعوى انه يكون من تحصيل الحاصل ممنوعة ، فإنه لو كان الانبعاث حاصلا بنفسه لا عن البعث كان من تحصيل الحاصل ، وليس الامر كذلك ، بل يكون حاصلا عن البعث ، والا فيمكن تقريب ذلك بالنسبة إلى العلل والمعلولات التكوينية أيضا ، بان يقال : ان المعلول حاصل في زمان علته فتكون العلة علة لما هو حاصل. وكما يجاب عن ذلك بان المعلول حاصل من قبل علته المقارنة له في الوجود المتقدمة عليه في الرتبة ، كذلك يقال في المقام : ان الانبعاث حاصل من قبل البعث المقارن له في الوجود المتقدم عليه رتبة. فلا يتوقف الانبعاث على سبق البعث زمانا.

نعم : يتوقف على سبق العلم بالبعث في زمانه ، فإنه لو لم يكن عالما بتحقق البعث في أول طلوع الفجر لم يكن يصدر عنه الانبعاث والامساك من أول الطلوع. ومن هنا قلنا بوجوب تحصيل العلم بالأحكام قبل أوقاتها لمن لا يتمكن من تحصيله في وقتها ، كالمضيقات مط ، وكالموسعات في بعض الأحيان.

والحاصل : ان الذي يتوقف عليه الانبعاث في أول الفجر ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر. وأظن أن الذي أوجب القول بتقدير التكليف آنا ما قبل الفجر في هذا القسم من المضيقات ، هو ملاحظة

ص: 344

عدم امكان تحقق الانبعاث من أول الفجر الا بسبق التكليف عليه. ولكن هذا خلط بين سبق التكليف وبين سبق العلم به. والذي يتوقف عليه الانبعاث هو سبق العلم ، لا سبق التكليف ، والا فسبق التكليف لا يوجب تحقق الانبعاث من دون سبق العلم ، كما لا يخفى. فتقدير سبق التكليف آنا ما يكون بلا موجب.

واما ثانيا :

فلان سبق التكليف لا اثر له ، ويكون لغوا إذ المكلف انما ينبعث عن البعث المقارن لا عن البعث السابق ، لان البعث السابق ، اما ان يكون مستمرا إلى زمان الانبعاث ، واما ان لا يكون. فان لم يكن مستمرا لا يعقل الامتثال والانبعاث ، إذ لا يمكن امتثال تكليف معدوم ، وان كان مستمرا فالذي يوجب الانبعاث هو استمراره وانحفاظه إلى زمان الانبعاث ، فوجوده السابق لغو والانبعاث دائما يكون عن البعث المقارن.

واما ثالثا :

فلان سبق التكليف ولو آنا ما لا يعقل ومن المستحيل ، كما تقدمت الإشارة إليه في المقام ، وتقدم تفصيله في الواجب المعلق وعليه بنينا امتناع الواجب المعلق ، فراجع. (1).

واما رابعا :

فلانه لا اختصاص لهذا التقدير بهذا القسم من المضيقات ، بل يلزم القول بسبق التكليف حتى في الموسعات ، لوضوح صحة الصلاة المقارنة لأول الزوال حقيقة ، بحيث شرع فيها في الان الأول الحقيقي من الزوال ، فإنه وان لم يلزم ذلك ، الا انه لا اشكال في الصحة. ولو فعل ذلك فيلزم تقدير سبق التكليف بالصلاة على الزوال ليكون الامتثال عن التكليف السابق ، مع أن الظاهر أن القائل بالتقدير لم يلتزم به في الموسعات ، فيطالب حينئذ بالفرق.

ص: 345


1- راجع مباحث مقدمة الواجب ، ما افاده المصنف قدس سره في امتناع الواجب المعلق. ص 186
فتحصل من جميع ما ذكرنا :

انه لا يتوقف التكليف بالمضيقات على سبقه على زمان امتثالها ، بل يستحيل ذلك ، وانه لا بد من اجتماع التكليف والشرط والامتثال في زمان واحد حقيقي ، ويكون التقدم والتأخر بالرتبة فقط.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : دفع بعض الاشكالات التي أشكلوها على الخطاب الترتبي.

منها :

انه يتوقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث أبطلنا كلا منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي.

وهذا الاشكال انما يكون من القائل بالتقدير ، وانه يعتبر سبق التكليف على زمان الامتثال في الواجبات المضيقة. فالاشكال انما يرد على ذلك المبنى الفاسد. ووجه الابتناء : هو انه لما كان الكلام في الخطاب الترتبي واقعا في المتزاحمين المضيقين الذين كان أحدهما أهم ، فكان كل من خطاب الأهم والمهم مضيقا ، ولما كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم ، وكان زمان عصيانه هو زمان امتثال المهم ، كما هو لازم التضييق ، فلا يمكن ان يكون الخطاب بالمهم مقارنا لزمان عصيان الأهم ، لأنه زمان امتثاله. فلا بد ان يتقدم الخطاب بالمهم آنا ما على عصيان الأهم ، لما تقدم من اعتبار سبق التكليف في المضيقات ، فيلزم كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، لأنه باعتبار سبق زمان التكليف على زمان الامتثال يكون من الواجب المعلق ، إذ لا نعني بالواجب المعلق الا ما يكون ظرف الامتثال فيه متأخرا عن ظرف التكليف ، ويكون الامتثال معلقا على مضى ذلك الآن الذي قدر سبق التكليف عليه. وباعتبار ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وقد سبقه يكون من الشرط المتأخر ، فالخطاب الترتبي يتوقف على كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر هذا. ولكن لا يكاد ينقضي تعجبي من هذا الاشكال.

اما أولا :

فلا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، بل يجرى في جميع

ص: 346

المضيقات ، فان الصوم مثلا بناء على سبق التكليف به على الفجر يلزم أيضا كونه من الواجب المعلق والشرط المتأخر. فباعتبار سبق التكليف على زمان الامتثال يلزم الواجب المعلق. وباعتبار اشتراط التكليف بالصوم بالفجر يلزم الشرط المتأخر ، فهذا الاشكال بناء على التقدير يرد في جميع المضيقات ، بل في الموسعات أيضا ، بناء على ما تقدم من أن التقدير في المضيقات يلزمه التقدير في الموسعات أيضا ، ولا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، فما يجاب به عن الاشكال في سائر المقامات يجاب به أيضا في الخطاب الترتبي.

واما ثانيا :

فلما عرفت من أن الاشكال مبنى على ذلك المبنى الفاسد ، وهو تقدير سبق التكليف ، وقد أوضحنا فساده. فلا اشكال في المقام ، كما لا اشكال في سائر المضيقات ، فضلا عن الموسعات.

ومنها :

ان خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لم يلزم محذور طلب الجمع ، لان امتثال خطاب المهم اعتبر في زمان خلو المكلف عن الأهم ، فلا يعقل اقتضائه لطلب الجمع. واما ان اخذ الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب - أي كون المكلف ممن يعصى - فيلزم محذور طلب الجمع ، لان خطاب المهم يكون فعليا قبل عصيان الأهم إذا كان ممن يعصى بعد ذلك ، فلم يعتبر في ظرف امتثاله خلو المكلف عن الأهم ، بل يلزم اجتماع كل من الأهم والمهم في زمان واحد ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعفه ، لما فيه :

أولا :

انه لا موجب لجعل الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب الا بناء على اعتبار سبق التكليف آنا ما مع عدم القول بالشرط المتأخر ، فيستقيم ح ان يكون الشرط هو الوصف الانتزاعي ، لأن المفروض ان خطاب المهم لا بد ان يكون قبل زمان امتثاله وهو زمان عصيان الأهم ، ولا يمكن ح ان يكون نفس العصيان شرطا ، لاستلزامه الشرط المتأخر ، فلا بد ان يكون الشرط هو العنوان الانتزاعي. الا انه قد

ص: 347

تقدم فساد المبنى ، وان تقدير سبق التكليف بلا موجب بل مستحيل. وحينئذ لا يتم جعل الشرط هو العنوان المنتزع ، بل يكون الشرط هو نفس العصيان ، وقد اعترف انه بناء على ذلك لا يلزم طلب الجمع.

وثانيا :

لو فرض ان الشرط هو الوصف الانتزاعي فلا يلزم أيضا طلب الجمع ، لان الوصف انما انتزع من العصيان الذي هو زمان خلو المكلف عن الأهم ، فمعنى كونك ممن تعصى : كونك ممن تخلو عن فعل الأهم. ومع ذلك كيف يلزم طلب الجمع؟ ومجرد اجتماع الخطابين في زمان وفعليتهما بتحقق شرطهما لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل إن أساس الترتب انما هو على اجتماع الخطابين في زمان ، فغاية ما يلزم من اخذ الشرط الوصف الانتزاعي هو اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم في زمان واحد ، وهذا مما لا محيص عنه في الخطاب الترتبي. بل لو اخذ نفس العصيان شرطا فلا بد ان يؤخذ على وجه يجتمع فيه كل من خطاب الأهم والمهم ، وذلك بان يكون الشرط هو التلبس بالعصيان الذي يكون خطاب الأهم في حاله محفوظا ، لا تحقق العصيان بمعنى الانقضاء والمضي الذي يكون خطاب الأهم عنده ساقطا ، لسقوط كل خطاب بعصيانه.

وبالجملة : لا فرق بين ان يكون الشرط هو نفس العصيان أو الوصف الانتزاعي ، في اجتماع كل من الخطابين في زمان واحد ، وفي عدم اقتضائهما لطلب الجمع بعد ما اعتبر في خطاب المهم خلو المكلف عن فعل الأهم ، سواء كان الشرط نفس ذلك ، أو كان هو منشأ انتزاع ما هو الشرط كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

المقدمة الرابعة :

التي هي أهم المقدمات ، بل عليها يبتنى أساس الترتب ، هي ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير والانقسامات يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

الأول :

ما كان انحفاظه بالاطلاق أو التقييد اللحاظي ، وذلك بالنسبة إلى كل

ص: 348

تقدير وانقسام يمكن لحاظه عند الخطاب ، وذلك انما يكون في التقادير والانقسامات المتصورة في المتعلق مع قطع النظر عن ورود الخطاب ، بحيث أمكن وقوع المتعلق مقترنا بتلك التقادير وان لم يتعلق به خطاب أصلا ، كقيام زيد وقعوده ، وطيران الغراب وعدمه ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالاطلاق اللحاظي ، وكالوقت ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالتقييد اللحاظي ، لمكان امكان ايقاع الصلاة عند قيام زيد وقعوده ، وفي الوقت وخارجه ، ولو لم يتعلق بها امر ، فيمكن لحاظ هذه التقادير عند الخطاب والامر بالصلاة ، فلو لاحظ تقديرا خاصا كان ذلك تقييدا لحاظيا ، كما لاحظ الوقت عند الامر بالصلاة. وان لم يلاحظ تقديرا خاصا ، بل ساوى في امره لكلتا حالتي وجود التقدير وعدمه يكون ذلك اطلاقا لحاظيا ، كما ساوى في امره بالصلاة في كلتا حالتي قيام زيد وقعوده.

الثاني :

ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق أو التقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير وانقسام لاحق للمتعلق بعد تعلق الخطاب به ، بحيث لايكون لذلك التقدير وجود الا بعد ورود الخطاب كتقدير العلم والجهل بالخطاب ، حيث إن تقدير العلم والجهل بالأحكام لايكون الا بعد ورود الخطاب ، لأنه بعد ورود الخطاب ، يتحقق تقدير العلم والجهل بذلك الخطاب ، فلا وجود لهذا التقدير قبل الخطاب. فلا يمكن فيه الاطلاق أو التقييد اللحاظي ، بل لابد اما من نتيجة الاطلاق ، كما في تقديري العلم والجهل ، حيث يكون الخطاب محفوظا في كلا التقديرين بنتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد كما في العلم والجهل أيضا بالنسبة إلى خصوص مسئلتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، لان الاهمال الثبوتي في مثل هذه التقادير لا يعقل ، لان الملاك والمصلحة الباعثة للامر بالصلاة اما : ان يكون محفوظا في كلا الحالين ، أي حالة وجود التقدير وعدمه ، فلابد من نتيجة الاطلاق كما في العلم والجهل بعد قيام الأدلة والضرورة على اشتراك العالم والجاهل في الاحكام الا في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات ، واما : ان يكون الملاك محفوظا في تقدير خاص دون عدمه فلا بد من نتيجة التقييد.

ص: 349

الثالث :

ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد. وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب ، وهو الفعل أو الترك الذي يطالب به أو بنقيضه ، حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هوية ذاته ، لا باطلاقه لحاظا أو نتيجة ، إذ لا يعقل الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري فعل متعلق الخطاب وتركه ، بل يؤخذ المتعلق معرى عن حيثية فعله وتركه ويلاحظ نفس ذاته ، فيحمل عليه بالفعل ان كان الخطاب وجوبيا ، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا. فيكون البعث نحو فعل المتعلق أو تركه نظير حمل الوجود أو العدم على شيء ، حيث إنه يؤخذ ذلك الشيء معرى عن الوجود والعدم ، فيحمل عليه الوجود تارة ، والعدم أخرى ، ويقال مثلا زيد موجود أو معدوم. ولا يعقل تقييد زيد بالوجود في حمل الوجود عليه ، ولا تقييده بالعدم ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى الوجود والعدم ، للزوم حمل الشيء على نفسه في الأول ، واجتماع النقيضيين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث.

وكذا يقال في المقام : انه لا يمكن تقييد المتعلق بالفعل في مقام البعث إليه ، ولا تقييده بالترك ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى تقديري الفعل والترك ، لاستلزامه طلب الحاصل في الأول ، وطلب الجمع بين النقيضين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث ، فلا بد من لحاظ ذات المتعلق مهملا معرى عن كلا تقديري الفعل والترك ، فيخاطب به بعثا أو زجرا. وليس فيه تقييد ولا اطلاق لا لحاظا ولا نتيجة ، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا في كلتا حالتي الفعل والترك ما لم تتحقق الإطاعة أو العصيان ، فإنه عند ذلك يسقط الخطاب. وانحفاظ الخطاب في كلا التقديرين انما يكون باقتضاء ذاته ، لأنه بنفسه يقتضى فعل المتعلق وطرد تركه ، فيكون وجود الخطاب في الحالين لمكان نفسه ولأنه خطاب بالفعل أو الترك. وبذلك يظهر لك : ان الفرق بين هذا التقدير الذي يكون الخطاب محفوظا عنده ، وبين سائر التقادير التي يكون الخطاب محفوظا عندها أيضا من وجهين :

الأول : ان نسبة تلك التقادير إلى الخطاب نسبة العلة إلى معلولها ، بمعنى ان

ص: 350

تلك التقادير تكون علة أو ملحقة بالعلة بالنسبة إلى الخطاب ، ويكون الخطاب بمنزلة المعلول لها. فان اخذ تلك التقادير قيدا وشرطا للخطاب ، فلمكان رجوع الشرط إلى الموضوع وكون الموضوع علة لترتب الخطاب عليه يكون ذلك التقدير علة للخطاب. وان أطلق الخطاب بالنسبة إلى تقدير فذلك التقدير وان لم يكن علة للخطاب - لعدم اخذ ذلك التقدير شرطا - الا انه يجرى مجرى العلة من حيث إن الاطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فهما في مرتبة واحدة ، فإذا كان التقييد علة للخطاب ، فالاطلاق الواقع في رتبته يجرى مجرى العلة من حيث الرتبة ، فتأمل.

وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلق وتركه ، فان الامر يكون فيه بالعكس ، حيث إن التقدير معلول الخطاب والخطاب يكون علة له ، لان الخطاب يقتضى فعل متعلقه وطرد تركه ، فيكون تقديرا الفعل والترك معلولي الخطاب بالنسبة إلى الفعل من حيث الوجود ، وبالنسبة إلى الترك لمكان اقتضائه عدم الترك.

الثاني : ان الخطاب بالنسبة إلى سائر التقادير يكون متعرضا ومتكفلا لبيان امر آخر غير تلك التقادير. غايته انه تعرض لذلك الامر عند وجود تلك التقادير ، فان خطاب الحج يكون متعرضا لفعل الحج من الاحرام والطواف وغير ذلك عند وجود الاستطاعة ، وليس لخطاب الحج تعرض لتقدير الاستطاعة. وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك فان الخطاب بنفسه متكفل لبيان هذا التقدير ومتعرض لحاله ، حيث إنه يقتضى فعل المتعلق وعدم تركه ، وليس للخطاب تعرض لشيء آخر سوى هذا التقدير ، بخلاف سائر التقادير فان الخطاب فيها متعرض لشيء آخر غير تلك التقادير.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : انه يترتب على ما ذكرناه ( من الفرق بين تقديري الفعل أو الترك المطالب به بالخطاب أو بنقيضه وبين سائر التقادير ) طولية الخطابين ، وخروجها من العرضية. وذلك لان خطاب الأهم حينئذ يكون متعرضا لموضوع خطاب المهم وطاردا ومقتضيا لهدمه ورفعه في عالم التشريع ، لان موضوع خطاب المهم هو عصيان خطاب الأهم وترك امتثاله ، وخطاب الأهم دائما يقتضى طرد الترك ورفع

ص: 351

عصيانه ، لان البعث على الفعل يكون زجرا عن الترك ، فخطاب الأهم يقتضى طرد موضوع المهم ورفعه. واما خطاب المهم فهو انما يكون متعرضا لحال متعلقه ولا تعرض له لحال موضوعه ، لان الحكم لا يتكفل حال موضوعه من وضع أو رفع ، بل هو حكم على تقدير وجوده ومشروط به ، ولا يخرج عن هذا الاشتراط إلى الاطلاق ولو بعد تحقق موضوعه ، لما عرفت : من أن الواجب المشروط لا يصير مط بعد تحقق شرطه. فلسان خطاب المهم هو : انه ان وجد موضوعي وتحقق خارجا فيجب فعل متعلقي. ولسان خطاب الأهم هو : انه ينبغي ان لا يوجد موضوع خطاب المهم وان لا يتحقق. وهذان اللسانان كما ترى ليس بينهما مطاردة ومخالفة ، وليسا في رتبة واحدة ، بل خطاب الأهم يكون مقدما في الرتبة على خطاب المهم ، لان خطاب الأهم واقع في الرتبة السابقة على موضوع خطاب المهم السابق عليه ، فهو متقدم عليه برتبتين أو ثلاث ، ولا يمكن ان ينزل خطاب الأهم عن درجته ويساوي خطاب المهم في الرتبة ، وكذا لا يمكن ان يصعد خطاب المهم من درجته ويساوي خطاب الأهم ، بل كل منهما يقتضى مرتبة لا يقتضيها الآخر. ومع هذا الاختلاف في الرتبة كيف يعقل ان يكونا في عرض واحد؟.

فاتضح من المقدمة الثانية والمقدمة الرابعة ، طولية الخطابين المترتبين وخروجهما عن العرضية.

بقى في المقام : بيان ان هذين الخطابين المترتبين لا يقتضيان ايجاب الجمع ، فلا يبق محذور في الخطاب الترتبي. والمقدمة الخامسة التي سنذكرها هي المتكفلة لبيان عدم اقتضائهما ايجاب الجمع. ففي الحقيقة المقدمات التي يتوقف عليها صحة الخطاب الترتبي هي ثلث : المقدمة الثانية ، والمقدمة الرابعة ، والمقدمة الخامسة. واما المقدمة الأولى ، فهي لبيان تحرير محل النزاع. والمقدمة الثالثة ، لبيان دفع بعض ما تخيل : من توقف الخطاب الترتبي عليه ، من كونه موقوفا على الواجب المعلق والشرط المتأخر ، على ما تقدم تفصيله.

المقدمة الخامسة :

تنقسم موضوعات التكاليف وشرائطها ، إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع

ص: 352

والرفع التشريعي ، والى ما يمكن ان تناله ذلك.

فالأول : كالعقل ، والبلوغ ، والوقت ، وغير ذلك من الأمور التكوينية الخارجية التي لا يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع.

والثاني : كالاستطاعة في الحج ، وفاضل المؤنة في الخمس والزكاة ، فإنها وان كانت من الأمور التكوينية أيضا ، الا انها قابلة للوضع والرفع التشريعي ، فإنه يمكن رفع الاستطاعة بخطاب شرعي كوجوب أداء الدين ، حيث إنه بذلك يخرج عن كونه مستطيعا. وكذا الحال بالنسبة إلى فاضل المؤنة.

ثم إن الموضوع والشرط ، اما ان يكون لحدوثه دخل في ترتب الحكم وبقائه ، من دون ان يكون لبقائه دخل في بقاء الحكم ، كالسفر والحضر ، بناء على أن العبرة بحال الوجوب لا الأداء ، فان ثبوت السفر أو الحضر في أول الوقت يكون له دخل في وجوب القصر أو التمام وان زال السفر أو الحضر عنه ، فان الحكم يبقى وان زالا. وهذا القسم من الموضوع انما يكون قابلا للدفع فقط لا للرفع ، إذ ليس له بقاء حتى يكون قابلا للرفع.

واما ان يكون لبقائه أيضا دخل في بقاء الحكم ، بحيث يدور بقاء الحكم مدار بقاء الموضوع ، كما في المثال لو قلنا بان العبرة بحال الأداء ، فح يكون بقاء وجوب القصر لمن كان مسافرا في أول الوقت مشروطا ببقاء السفر إلى زمان الأداء ، ويسقط وجوب القصر بسقوط السفر.

واما ان يكون لبقائه في مقدار من الزمان دخل في بقاء الحكم ، كاشتراط وجوب الصوم بالحضر إلى الزوال فيكون بقاء الحضر إلى الزوال شرطا لبقاء وجوب الصوم إلى الغروب. وهذان القسمان قابلان لكل من الدفع والرفع ، كما لا يخفى.

وعلى كل حال : الموضوع القابل للوضع والرفع التشريعي ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع الاختياري أيضا بحيث يكون اختيار الموضوع بيد المكلف له ان يرفعه ليرتفع عنه التكليف ، واما ان لايكون قابلا للوضع والرفع الاختياريين ، بل كان أمرا وضعه ورفعه بيد الشارع فقط ، واما ان يكون امر رفعه بيد المكلف واختياره فقط وليس بيد الشارع.

ص: 353

فالأول : كالسفر فإنه للمكلف رفعه باختيار الحضر ، فيرتفع عنه وجوب القصر. وللشارع أيضا رفعه بايجاب الإقامة عليه فلا يجب عليه القصر أيضا.

والثاني : كالاستطاعة فإنه ليس للمكلف رفعها وتفويتها بعد حدوثها ، فلو فوتها لم يسقط عنه وجوب الحج ، بل يستقر في ذمته ، ولكن للشارع رفعها بخطاب مثل وجوب أداء الدين مثلا فيسقط عنه وجوب الحج.

والثالث : لم نعثر له على مثال.

ثم إن الخطاب الرافع لموضوع خطاب آخر ، اما ان يكون بنفس وجوده رافعا ، كالتكاليف المالية التي توجب ان تكون متعلقها من المؤن كخطاب أداء الدين إذا كان من عام الربح لا من العام الماضي ( وأما إذا كان من العام الماضي فأدائه وامتثال التكليف يكون رافعا لموضوع الخمس لا نفس اشتغال الذمة به ) فيرتفع موضوع وجوب الخمس الذي هو عبارة عن فاضل المؤنة ، فان نفس تلك التكاليف توجب جعل متعلقاتها من المؤن ، فيخرج الربح عن كونه فاضل المؤنة ، ولا يتوقف صيرورتها من المؤن على امتثالها ، بل نفس وجود الخطاب رافع لموضوع خطاب الخمس.

واما ان يكون بامتثاله رافعا كخطاب الأهم فيما نحن فيه ، حيث يكون بامتثاله رافعا لموضوع خطاب المهم لا بوجوده ، على ما سيأتي بيانه.

فهذه جملة الأقسام التي يهمنا تنقيحها في المقام ، ليعلم الموارد التي يلزم ايجاب الجمع من اجتماع الخطابين ، والموارد التي لا يلزم ذلك. والا فالأقسام المتصورة في موضوعات التكاليف أكثر من ذلك.

وحاصل التقسيم : هو ان الموضوع لحكم ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع التشريعي ، واما ان لايكون قابلا لذلك. والأول : اما ان يكون قابلا لكل من الدفع والرفع ، واما ان يكون قابلا للدفع فقط. وعلى كلا التقديرين : اما ان يكون قابلا للرفع الاختياري أيضا ، واما ان لا يكون. والرفع التشريعي اما ان يكون بنفس التكليف ، واما ان يكون بامتثاله. وقد تقدم أمثلة ذلك كله فينبغي ح التكلم في احكام هذه الأقسام.

ص: 354

فنقول :

فما كان الموضوع لخطاب مما لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ، فالخطاب المجامع لهذا الخطاب يقتضى ايجاب الجمع على المكلف ، إذا كان كل من الخطابين مط بالنسبة إلى حالتي فعل الآخر وتركه.

وان لم يكونا مطلقين ، بل كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بفعل الآخر ، فلا يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع. مثلا لو جامع خطاب آخر لخطاب الصلاة في وقتها ، فاما ان يكون كل من خطاب الصلاة وذلك الخطاب الاخر المجامع له مط بالنسبة إلى حالتي فعل متعلق الاخر وتركه ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا دون الآخر.

فان كان كل منهما مط ، فلا محالة يقتضيان ايجاب الجمع ، فان أمكن للمكلف جمع المتعلقين وجبا معا ، كالصوم المجامع للصلاة خطابا وامتثالا ويمكن للمكلف الجمع بينهما أيضا. والمفروض ان كلا من الخطابين أيضا مطلق فيجب الجمع بينهما. وان لم يكن للمكلف الجمع بينهما ، اما لتضاد المتعلقين ، واما لقصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما ، فلا محالة يكون الحكم فيه هو التخيير ، على ما تقدم تفصيله.

وان كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الاخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، فلا يعقل ان يقتضيا ايجاب الجمع ، لأن المفروض ان التكليف بكل منهما مقيد بعدم الآخر ، فيكون حكمه حكم الاحكام التخييرية الأولية ، كخصال الكفارات ، بل يكون هو هو بناء على أن الاحكام التخييرية عبارة عن اشتراط التكليف بكل فرد بعدم فعل الاخر ، كما هو أحد الوجوه في تصوير الواجب التخييري ، على ما تقدم بيانه. وكذا الحال ان كان أحدهما بالخصوص مشروطا بعدم فعل الآخر ، فإنه أيضا لا يلزم منه ايجاب الجمع كما هو واضح. وكيف يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع ، مع أن الجمع لايكون مطلوبا ، بحيث لو أمكن للمكلف الجمع بينهما لم يقعا على صفة المطلوبية ، بل لو قصد بكل منهما امتثال الامر كان من التشريع المحرم ، بل لا يقع الامتثال بكل منهما لو كان كل منهما مشروطا بعدم فعل

ص: 355

الآخر ، لعدم تحقق شرط التكليف في كل منهما ، فلا يكون كل منها متعلق التكليف وذلك كله واضح. هذا إذا كان موضوع الخطاب غير قابل للتصرف التشريعي.

وأما إذا كان قابلا لذلك ، فالخطاب المجامع له ان لم يكن متعرضا لموضوع الآخر : من دفع أو رفع ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق طابق النعل بالنعل. فان كان كل من الخطابين مط يلزم ايجاب الجمع ، فان أمكن وجب ، وان لم يمكن فالتخيير. وان لم يكن كل منهما مط فلا يلزم ايجاب الجمع ، لاتحاد المناط في هذا القسم والقسم السابق في ذلك. ومجرد كون الموضوع في هذا القسم قابلا للدفع والرفع التشريعي لايكون فارقا بين القسمين ، ما لم يكن أحد الخطابين متعرضا لدفع موضوع الآخر أو رفعه.

وهذا من غير فرق ، بين ان يكون الموضوع قابلا للرفع الاختياري أيضا ، أو لم يكن. فإنه يلزم ايجاب الجمع على المكلف أيضا إذا كان كل من الخطابين مطلقا. ومجرد انه يمكنه رفع الموضوع اختيارا لا يرتفع عنه محذور ايجاب الجمع ، إذا استلزم ايجاب الجمع محذورا ، كما إذا كان بين المتعلقين تضاد ، فان القدرة المعتبرة في التكاليف انما هو القدرة على متعلقاتها ، لا على موضوعاتها ، ولا اثر للقدرة على موضوعاتها ، فهل ترى انه يصح تكليف المسافر بالمحال من جهة انه قادر على رفع السفر؟.

والحاصل : ان قبح التكليف بما لا يطاق انما هو بالنظر إلى المتعلق فالعبرة به ، لا بالموضوع. فاجتماع التكليفين الموجبين لايجاب الجمع على المكلف مع عدم قدرة المكلف على الجمع قبيح ولو فرض ان امر الموضوع بيد المكلف وان له رفعه ، ليرتفع عنه أحد التكليفين.

وبذلك ظهر : ان تصحيح الامر الترتبي - بان العصيان الذي هو موضوع خطاب المهم امر اختياري للمكلف ، له رفعه بعدم عصيان الأهم وإطاعته فلا مانع من اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم - فاسد جدا. لما عرفت : من أن القدرة على رفع الموضوع لا اثر لها في قبح التكليف بما لا يطاق ، فالخطاب الترتبي لا يمكن تصحيحه بذلك. هذا إذا كان الخطاب المجامع لخطاب آخر غير متعرض لموضوع

ص: 356

الآخر من دفع ورفع.

وأما إذا كان متعرضا له ، فاما ان يكون نفس الخطاب رافعا أو دافعا لموضوع الآخر ، واما ان يكون امتثاله. فان كان الأول ، فهذا مما يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية ، ولا يعقل ان يكون كل من الخطابين فعليا ، لان وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر ، فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى يقع المزاحمة بينهما. بل أحد الخطابين يكون مقدما على الآخر بمرتبتين ، فإنه يكون مقدما على موضوع الآخر ، كما هو مقتضى رفعه له ، والموضوع أيضا يكون مقدما على ما يستتبعه من الخطاب ، فالخطاب الرافع لموضوع الاخر يكون مقدما على الآخر بمرتبتين. ومع هذا كيف يعقل ان يقع التزاحم بين الخطابين؟ فخطاب أداء الخمس لا يعقل ان يزاحم خطاب أداء الدين ، بعد ما كان خطاب أداء الدين رافعا لموضوع خطاب الخمس وذلك واضح.

وان كان الثاني ، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعا لموضوع الآخر ، فهذا هو محل البحث في الخطاب الترتبي ، حيث يتحقق اجتماع كل من الخطابين في الفعلية ، لأنه ما لم يتحقق امتثال أحد الخطابين الذي فرضنا انه رافع لموضوع الآخر بامتثاله لا يرتفع الخطاب الآخر ، لعدم ارتفاع موضوعه بعد ، فيجتمع الخطابان في الزمان وفي الفعلية بتحقق موضوعهما ، فيقع البحث حينئذ عن أن اجتماع مثل هذين الخطابين أيضا يوجب ايجاب الجمع حتى يكون من التكليف بالمحال ، أو لا يوجب ذلك؟.

والحق انه لا يوجب ذلك لجهتين. وينبغي أولا التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيث للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها تكون من الخطاب الترتبي.

منها :

ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى الزوال ، فلو فرض انه عصى هذا الخطاب وأقام ، فلا اشكال في أنه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به ، فيكون في الآن الأول الحقيقي من الفجر قد توجه إليه كل من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ، ولكن مترتبا ، يعنى ان وجوب الصوم يكون مترتبا على عصيان حرمة

ص: 357

الإقامة ، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة أيضا لأن المفروض حرمة الإقامة عليه إلى الزوال ، فيكون الخطاب الترتبي محفوظا من الفجر إلى الزوال. فيكون عين الخطاب الترتبي فيما نحن فيه من مسألة الضدين ، ان قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه يكون خطاب الصوم حينئذ مترتبا على عصيان خطاب الإقامة بلا توسيط شيء ، كترتب خطاب المهم على عصيان خطاب الأهم حذو النعل بالنعل.

نعم : لو قلنا بان الإقامة قاطعة لموضوع السفر ، كالمرور على الوطن ، كان خطاب الصوم مترتبا على موضوع الحاضر وغير المسافر ، لا على عصيان حرمة الإقامة. ولكن يكون عصيان حرمة الإقامة علة لتحقق ما هو موضوع وجوب الصوم ، حيث إن بعصيان حرمة الإقامة يتحقق عدم السفر وعنوان الحاضر ، وبتحقق ذلك العنوان يتحقق خطاب الصوم ، فيتوسط بين عصيان خطاب الإقامة وخطاب الصوم هذا العنوان. بخلاف ما إذا قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه لا يتوسط بين الخطابين شيء أصلا.

ولكن على كل حال وتقدير : ان توسط العنوان لا يدفع المحذور لو كان هناك محذور ، فإنه يجتمع كل من خطاب حرمة الإقامة ووجوب الصوم في الآن الأول من الفجر. غايته انه بناء على قاطعية الإقامة لحكم السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على نفس عصيان خطاب الإقامة. ولو كانت قاطعة لموضوع السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على ما يكون عصيان خطاب الإقامة علة له.

ومنها :

ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أول الزوال ، فيكون وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان وجوب الإقامة ، حيث إنه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجه عليه خطاب القصر. وكذا لو فرض حرمة الإقامة ، فان وجوب التمام يكون مترتبا على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها :

وجوب الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين

ص: 358

من عام الربح. وأما إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدين بنفس وجوده رافعا لخطاب الخمس لا بامتثاله ، على ما تقدم.

ومنها :

غير ذلك من الفروع التي لا مفر للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها كلها تتوقف على الخطاب الترتبي. ولا فرق بين الفروع المتقدمة وبين ما نحن فيه ، سوى ان الفروع المتقدمة تكون في ممكني الجمع ، حيث لا تضاد بين المتعلقين ، فيمكنه الجمع بين ترك الإقامة والصوم معا ، حيث لا تضاد بينهما من حيث أنفسهما وان كان بعد النهى الشرعي عن الصوم في السفر لا يمكنه الصوم الصحيح في السفر ، الا ان هذا غير التضاد بحسب ذاتهما ، كما فيما نحن فيه ، حيث إن الكلام في الخطاب الترتبي ، لا فيما إذا كان بين المتعلقين تضاد. ولكن امكان الجمع وعدم امكانه لا يوجب فرقا فيما هو ملاك الاستحالة كما لا يخفى. فان استحال الخطاب الترتبي ففي الجميع لا بد ان يستحيل ، والا ففي الجميع أيضا ينبغي الالتزام به. والغرض من هذا التطويل التنبيه على أن الخطاب الترتبي ليس بعزيز الوجود في الفقه.

فلنرجع إلى ما كنا فيه : من أن الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، وما لم يكن مقتضيا لايجاب الجمع لا وجه لاستحالته. اما عدم اقتضائه لايجاب الجمع فمن وجهين. ولا بد أولا من معرفة معنى الجمع وما يوجب ايجابه.

فنقول : اما الجمع فهو عبارة عن اجتماع كل منهما في زمان امتثال الآخر ، بحيث يكون امتثال أحد الخطابين مجامعا في الزمان لامتثال الاخر ، كمجامعة الصلاة للصوم وبالعكس.

واما الذي يوجب ايجاب الجمع فهو أحد أمرين :

اما تقييد كل من المتعلقين بحال فعل الاخر ، أو تقييد أحدهما بحال الآخر ، كتقييد القراءة بحال القيام.

واما اطلاق كل من الخطابين لحال فعل الاخر ، كاطلاق الامر بالصلاة في حال فعل الصوم وبالعكس ، فان الاطلاق ينتج نتيجة التقييد في اقتضائه ايجاب الجمع.

ص: 359

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك ان الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل يقتضى نقيض ايجاب الجمع ، بحيث لايكون الجمع مطلوبا لو فرض امكانه ، لمكان ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، ومع هذا كيف يقتضيان ايجاب الجمع؟ فلو اقتضيا ايجاب الجمع والحال هذه يلزم من المحالات ما يوجب العجب في كل من طرف الواجب الذي هو المهم ووجوبه ، أي يلزم المحال في كل من طرف الطلب والمطلوب.

اما استلزام المحال في طرف المطلوب : فلان مطلوبية المهم ووقوعه على هذه الصفة انما تكون في ظرف عصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، بداهة ان ما يكون قيدا للطلب يكون قيدا للمطلوب ، لا بمعنى انه يكون من قيود المادة التي يجب تحصيلها ، حتى يقال : ان ذلك ينافي كونه قيدا للطلب ، بل بمعنى انه يقتضى وقوع المطلوب عقيب وجود القيد ، كوقوع الحج على صفة المطلوبية عقيب الاستطاعة ، فوقوع المهم على صفة المطلوبية يكون بعد عصيان الأهم ، بحيث يعتبر فيه ذلك. فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم وامتثاله أيضا ، كما هو لازم ايجاب الجمع ، يلزم الجمع بين النقيضين ، إذ يلزم ان يعتبر في مطلوبية المهم وقوعه بعد العصيان ، ويعتبر أيضا في مطلوبيته وقوعه في حال عدم العصيان ، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيدا في المهم ، وهذا كما ترى يستلزم الجمع بين النقيضين.

واما استلزام المحال في طرف الوجوب : فلان خطاب الأهم يكون من علل عدم خطاب المهم ، لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع خطاب الأهم والمهم وصار خطاب المهم في عرض خطاب الأهم كما هو لازم ايجاب الجمع ، لكان من اجتماع الشيء مع علة عدمه. وح اما ان تقول : بأنه قد خرجت العلة عن كونها علة للعدم ، واما ان تقول : قد خرج العدم عن كونه عدما ، واما ان تقول : ببقاء العلة على عليتها والعدم على عدمه ومع ذلك اجتمعا ، وكل هذا كما ترى يلزم منه الخلف والمناقضات العجيبة.

فدعوى ان الخطاب الترتبي يقتضى ايجاب الجمع مساوقة لدعوى وقوع الخلف واجتماع النقيضين من جهات عديدة.

ص: 360

مضافا إلى أن البرهان المنطقي يقتضى أيضا عدم ايجاب الجمع ، فان الامر الترتبي المبحوث عنه في المقام إذا أبرزناه بصورة القضية الحملية يكون من المنفصلة المانعة الجمع لا مانعة الخلو. وذلك لان الضابط في كون القضية مانعة الجمع ، هو كون الحكم فيها بتنافي النسبتين بحيث يمتنع اجتماعهما ، كقولك : ان فاض ماء الشط فاما ان يغرق الزرع واما ان يسيل الماء إلى الأودية ، حيث يمتنع اجتماع كل من غرق الزرع وسيلان الماء إلى الأودية ، فان سيلان الماء إلى الأودية يوجب عدم غرق الزرع ، لنقصان ماء الشط بتوجه مائه إلى الأودية ، فلا يصل الماء إلى الزرع ليغرقه ، فغرق الزرع ينافي سيلان الماء إلى الأودية ، ولا يمكن اجتماعهما ، بل غرق الزرع مترتب على عدم السيلان ولا غرق مع السيلان.

وحينئذ نقول في المقام : ان امر الأهم له نسبتان ، كما تقدم منا في أول مبحث الأوامر من أن هيئة افعل تتضمن نسبتين : نسبة المادة إلى الآمر بالنسبة الطلبية ، ونسبتها إلى الفاعل بالنسبة التلبسية. والتنافي في الامر الترتبي انما يكون بين النسبة الطلبية في جانب المهم والنسبة الفاعلية في جانب الأهم ، لا النسبة الطلبية في جانبه فان المفروض انحفاظ طلب الأهم عند طلب المهم. فلا تنافى بين النسبتين الطلبيتين ، كما في باب الوضوء والتيمم ، حيث إن التنافي هناك بين النسبة الطلبية للتيمم والنسبة الطلبية للوضوء ، وكان طلب التيمم مترتبا على عدم طلب الوضوء. وهذا بخلاف المقام ، فان التنافي فيه انما يكون بين النسبة الطلبية من جانب المهم والنسبة الفاعلية من جانب الأهم. فصورة القضية الحملية تكون هكذا : اما ان يكون الشخص فاعلا للأهم ، واما ان يجب عليه المهم ، فهناك تناف بين وجوب المهم وفعل الأهم ، ومع هذا التنافي كيف يعقل ايجاب الجمع؟ مع أن ايجاب الجمع يقتضى عدم التنافي بين كون الشخص فاعلا للأهم وبين وجوب المهم عليه. بل لا بد ان يكون كذلك فضلا عن عدم التنافي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الامر الترتبي لا يعقل اقتضائه لايجاب الجمع ، حتى يقال باستحالته وانه تكليف بالمحال لعدم القدرة على الجمع بين الضدين ، وذلك لوجوه ثلاثة :

ص: 361

الأول :

ان الامر الترتبي لا يختص بالضدين الذين لا يمكن جمعهما في الوجود ، بل يجرى في ممكني الجمع أيضا ، كما في مثل الإقامة والصوم ، والدين والزكاة ، وغير ذلك من الأمثلة المتقدمة. فكما ان الامر الترتبي في ممكني الجمع لا يتقضى ايجاب الجمع ، فكذلك في ممتنعي الجمع كالضدين.

ودعوى ان الأمثلة المذكورة مجرد فرض لا تحقق له في الخارج فلا تصلح ان تجعل دليلا على امكان الخطاب الترتبي واضحة الفساد ، فان مبنى الاستنباط على فرض الاحكام على نهج القضايا الحقيقية. فهذه الدعوى أشبه شيء بما يقال : من أن الغراب لا يقع في البئر فلا معنى لتقدير ما ينزح له عند فرض وقوعه في البئر.

الثاني :

ان الامر الترتبي لو اقتضى ايجاب الجمع يلزم من الجمع بين المتنافيين في كل من طرف الوجوب والواجب ومن الخلف في طرف الوجوب ، ما لا يخفى ، على ما تقدم تفصيله.

الثالث :

ان ايجاب الجمع ينافي البرهان المنطقي ، كما تقدم. فهذه الوجوه الثلاثة كلها تقتضي ان الامر الترتبي لا يوجب ايجاب الجمع ، وبعد ذلك لا ينبغي لمن هو من أفضل العلماء الاصغاء إلى دعوى امتناع الخطاب الترتبي من جهة استلزامه ايجاب الجمع.

نعم بقى في المقام : بعض الاشكالات التي ربما تختلج في الذهن ونحن نوردها بلسان ( ان قلت ) ونجيب عن كل واحد منها.

فان قلت :

ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ، بل يكفي فيه ثبوت الاطلاق من طرف واحد. وفي المقام وان كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، الا ان خطاب الأهم مطلق ويعم كلتا حالتي فعل المهم وعدمه. ففي رتبه تحقق خطاب المهم وهي رتبة عصيان الأهم ، يكون خطاب

ص: 362

المهم مقتضيا لايجاد متعلقه وباعثا نحوه ، وفي تلك الرتبة يكون خطاب الأهم محفوظا حسب الفرض فيقتضى ايجاد متعلقه والبعث إليه ، فتكون نتيجة الخطابين البعث نحو الضدين ، ونتيجة ذلك هو ايجاب الجمع ، فإنه حال اشتغال المكلف بفعل المهم المطالب به يطالب بفعل الأهم أيضا حسب اطلاقه ، ومع هذا كيف لا يلزم ايجاب الجمع؟.

قلت :

دعوى ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ويكفي فيه الاطلاق من طرف واحد ، مساوقة لدعوى جواز اجتماع النقيضين ، لما عرفت : من أن ايجاب الجمع معناه انه في حال الاشتغال بكل من متعلقي الخطابين يطالب بالآخر ويؤمر به ، وفي المقام في حال الاشتغال بالأهم لا يطالب بالمهم ولا يتعلق الامر به ، فيكون نسبة المهم إلى الأهم في حال الاشتغال بالأهم كنسبة المباحات إليه ، ومع هذا كيف يلزم ايجاب الجمع؟.

والحاصل : ان ايجاب الجمع لايكون الا إذا كان هناك مطلوبان ، بحيث لو فرض محالا امكان الجمع بينهما ، كان كل منهما مطلوبا ويقع محبوبا. وفي المقام لو فرض محالا انه جمع المكلف بين الأهم والمهم كان المهم لغوا ، ولا يقع على صفة المطلوبية ، لعدم تحقق ملاك وجوبه من ترك الأهم ، فإذا لم يكن هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، غايته انه في حال فعل الأهم يكون هو المطلوب ، وفي حال تركه يكون المهم مطلوبا وان كان طلب الأهم لم يسقط ، فكيف يقال انه يجب الجمع ، وهل هذا الا تناقض؟.

فان قلت :

لا يصح الخطاب المولوي الشرعي الا إذا أمكن ان يكون داعيا نحو الفعل ، وباعثا إليه. وداعوية الخطاب بالنسبة إلى غالب نفوس البشر انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب ، إذ قل ما يكون نفس الخطاب بما هو خطاب صادرا من المولى المنعم داعيا نحو الامتثال ، الا بالنسبة إلى الأوحدي ، بل ينحصر ذلك بالأولياء المقربين الذين لا يعبدون اللّه خوفا من النار أو طمعا في الجنة بل وجدوه

ص: 363

اهلا للعبادة فعبدوه. واما ما سوى ذلك فالعبادة انما تكون للخوف من العقاب والطمع في الثواب ، فلا بد ان يكون كل خطاب الزامي مولوي مستتبعا لاستحقاق العقاب ليصلح ان يكون داعيا ، والا خرج عن المولوية إلى الارشادية.

وحينئذ نقول : ان الخطابين المترتبين ، اما ان يستتبعا عقابين ، واما ان لا يستتبعا الا عقابا واحدا. فان استتبعا عقابين يلزم ان يكون العقاب على غير المقدور ، وهو في الاستحالة كالخطاب بغير المقدور ، لوضوح انه لا يمكن للمكلف امتثال الخطابين المترتبين ، لتضاد متعلقهما ، فلا يمكنه الجمع في الامتثال. فإذا امتنع امتثالهما امتنع بالعقاب على تركهما ، لاستلزام العقاب على الممتنع وغير المقدور ، فلا بد ح من الالتزام بوحدة العقاب عند ترك امتثال الخطابين ، ومعلوم ان العقاب حينئذ يكون على ترك الأهم لا على ترك المهم ، فيخرج خطاب المهم عن كونه مولويا ، لامتناع ما يستتبعه من العقاب ، ويكون ارشاديا محضا لادراك مصلحته. فظهر ان الخطاب الترتبي لو لم يكن محالا من جهة اقتضائه لايجاب الجمع ، فهو محال من جهة ما يستتبعه من العقاب.

قلت :

منشأ امتناع تعدد العقاب في المقام ليس الا من جهة انه ليس هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، لا مطلوبان ، لعدم الامر بالجمع حتى يكون هناك مطلوبان ، كما تقدم من أنه حال فعل الأهم لايكون المطلوب الا هو ، وفي حال تركه لايكون المطلوب الا المهم ، وان لم يسقط طلب الأهم بعد ، والمطلوب الواحد لا يستتبع الا عقابا واحدا.

وحينئذ نقول : ان المطلوب الواحد لا يستلزم وحدة العقاب دائما لما فيه.

أولا : نقضا بالواجبات الكفيائة ، وتعاقب الأيادي ، فإنه ليس هناك الا مطلوب واحد وهو دفن الميت مثلا أو تكفينه ، أو أداء مال الناس في تعاقب الأيادي. وهذا المطلوب الواحد لا يمكن ان يجتمع المكلفون على امتثاله ، بل لا يصلح الخطاب الكفائي أو خطاب أداء مال الناس الا لامتثال واحد. وذلك الامتثال الواحد لا يمكن ان يصدر الا من مكلف واحد ، ومع ذلك عند ترك الجميع يتعدد

ص: 364

العقاب ، حسب تعدد المكلفين وذوي الأيادي ، فكيف تعدد العقاب مع عدم امكان تعدد الامتثال؟ فما يجاب به عن ذلك في ذلك المقام ، نجيب به في المقام.

وثانيا : حلا وحاصله : ان العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة كل خطاب بالنسبة إلى كل مكلف في حد نفسه وبحيال ذاته ، بمعنى انه يلاحظ الخطاب هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر ، ويلاحظ كل مكلف أيضا هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع مكلف آخر ، فان كان متعلق ذلك الخطاب الملحوظ وحده مقدورا بالنسبة إلى ذلك المكلف الملحوظ وحده ، فعند تركه وعصيانه يستحق العقاب ، والا فلا. واما ملاحظة اجتماع الخطاب لخطاب آخر ، أو اجتماع المكلف مع مكلف آخر ، واعتبار القدرة على المجموع من متعلقي الخطابين ، أو مجموع المكلفين ، فهو مما لا عبرة به ولا موجب لهذا اللحاظ ، بل العبرة انما هي بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه لكل مكلف كذلك.

نعم : لو تعلق التكليف في مكان بالجمع بين الشيئين ، أو اجتماع المكلفين في شيء واحد ، فلا بد حينئذ ان يكون الجمع بين الشيئين مقدورا ، ليصح التكليف به ، وكذا اجتماع المكلفين. الا ان هذا يحتاج إلى دليل بالخصوص على اعتبار الجمع. ومع عدم قيامه ، فالعبرة بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر وكل مكلف كذلك. ومن المعلوم : تحقق القدرة في كل من متعلق الخطابين المترتبين في حد نفسه وكل مكلف في الواجب الكفائي وفي أداء مال الناس من حيث نفسه ، فعند ترك كلا المتعلقين يستحق عقابين. وكذا عند ترك الكل للواجب الكفائي أو أداء مال الناس يستحق الجميع للعقاب ، لتحقق شرط استحقاق العقاب ، وهو القدرة على كل متعلق في حد نفسه وقدرة كل مكلف على امتثال الواجب الكفائي وأداء الدين. وان لم تتحقق القدرة على الاجتماع بعد عدم تعلق التكليف بالاجتماع ، فضم لفظ الاجتماع في المقام مما لا معنى له. مع أنه لو فرض ان للاجتماع دخلا في العقاب ، فالذي له دخل هو الجمع في العصيان لا الجمع في الامتثال ، فان العقاب انما يكون مترتبا على العصيان ، لا على الامتثال.

ص: 365

فالذي يعتبر فيه القدرة هو الجمع في العصيان ، والمفروض انه قادر على الجمع في العصيان بترك الأهم والمهم ، إذ ليس الكلام في الضدين الذي لا ثالث لهما ، فعند جمعه في العصيان لابد ان يتعدد عقابه ، كما أنه لابد عند اجتماع المكلفين في ترك الواجب الكفائي من استحقاق كل منهم العقاب. فلا محيص في المقام من الالتزام بتعدد العقاب عند ترك كل من الأهم والمهم ، ولا محذور فيه أصلا.

فان قلت :

هب انه أمكن الخطاب الترتبي من حيث الخطاب والعقاب ، الا انه مجرد الامكان لا يكفي في الوقوع ، بل لابد من إقامة الدليل عليه. نعم : الخطاب الترتبي في مثل الإقامة والصوم لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس أدلة وجوب الصوم على من كان مقيما في أول الفجر إلى الزوال يكفي في اثبات الامر الترتبي عند عصيان حرمة الإقامة ، ولكن في مثل الضدين لم يقم دليل على وجوب المهم عند عصيان الأهم. فالقائل بالترتب لابد له من إقامة الدليل على ذلك.

قلت :

نفس الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين مع قطع النظر عن تزاحمهما كافية في اثبات الامر الترتبي ، لأن المفروض ان لكل من الأهم والمهم حكما بحيال ذاته مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما ، وكان الدليل المتكفل لذلك الحكم مط يعم حالتي فعل الآخر وعدمه ، فإذا وقع التزاحم بينهما من حيث قدرة المكلف وعدم تمكنه من الجمع الذي كان يقتضيه الاطلاق ، فان لم يكن لاحد الحكمين مرجح من أهمية أو غيرها ، فلابد من سقوط كلا الاطلاقين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وتكون نتيجة الخطابين بعد سقوط اطلاقهما ( لمكان اعتبار القدرة ) هو التخيير عقلا. وان كان لأحدهما مرجح ، كالأهمية فيما نحن فيه ، فالساقط هو اطلاق المرجوح فقط ، مع بقاء اطلاق الراجح على حاله. واما أصل الخطاب بالمرجوح فلا موجب لسقوطه إذ من اطلاقه نشئت المزاحمة لا من أصل وجوده ، والضرورات تتقدر بقدرها ، فإذا سقط اطلاقه يبقى مشروطا بترك الراجح ، وهو المراد من الامر الترتبي. فالمتكفل لاثبات الامر الترتبي هي الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين من

ص: 366

حيث أنفسهما ، بضميمة حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة وقبح ترجيح المرجوح على الراجح أو مساواته له. فإنه من هذه الأمور الثلاثة ينتج اشتراط خطاب المهم بترك الأهم ، كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، وهي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن تضاد المتعلقين.

وينبغي التنبيه على أمور :
الامر الأول :

قد عرفت في أول البحث ، ان مورد البحث في الامر الترتبي انما هو فيما إذا كان الملاك لكل من الامرين - من المترتب والمترتب عليه - ثابتا ومتحققا عند التزاحم ، بحيث لو منعنا عن الامر الترتبي أمكن تصحيح العبادة بالملاك ، بناء على كفاية ذلك في صحة العبادة ، وعدم القول بمقالة صاحب الجواهر : من توقف الصحة على الامر وعدم كفاية الملاك على ما هو المحكى عنه. والسر في اعتبار الملاك في الامر الترتبي واضح ، فإنه لو لم يكن ملاك امتنع الامر ، لتوقف الامر على الملاك ، على ما عليه العدلية.

ومن ذلك يظهر : امتناع الامر الترتبي في المتزاحمين الذي كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان المزاحم المشروط بذلك يكون خاليا عن الملاك ، لما تقدم : من أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك ، فعند انتفائها ينتفى الملاك ، ومع انتفائه يمتنع الامر الترتبي.

وهذا من غير فرق بين استفادة اعتبار القدرة الشرعية من دليل متصل كما في الحج ، أو بدليل منفصل كما في الوضوء ، حيث إن الامر الوضوئي وان لم يقيد بالقدرة في لسان دليله ، الا انه من تقييد الامر التيممي بذلك يستفاد تقييد الامر الوضوئي بالقدرة. وهذا بعد تفسير الوجدان المأخوذ في آية التيمم بالتمكن ، فان مقتضى المقابلة بين الوضوء والتيمم من حيث تقييد التيمم بعدم التمكن من الماء يستفاد ان الوضوء مشروط شرعا بالتمكن ، والا لم تتحقق المقابلة بين الوضوء والتيمم ، ولزم ان يكون ما في طول الشيء في عرضه ، وأن يكون التفصيل غير قاطع للشركة ، وبطلان كل ذلك واضح. مع أن نفس بدلية التيمم للوضوء يقتضى

ص: 367

اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية ، على ما تقدم في مرجحات التزاحم : من أن لازم البدلية الشرعية ذلك. فاستفادة اعتبار القدرة الشرعية في الوضوء تكون من وجهين : من تقييد التيمم بعدم التمكن ، ومن بدلية التيمم للوضوء. وح لو فرض انتفاء القدرة الشرعية للوضوء ، بحيث انتقل تكليفه إلى التيمم - كما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة - كان وضوئه خاليا عن الملاك ، فلو عصى وتوضأ كان وضوئه باطلا ، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك ، ولا بالامر الترتبي. ومن الغريب ما حكى عن بعض الأعاظم في حاشيته على النجاة : من القول بصحة الوضوء والحال هذه ، ولا يخفى فساده.

الامر الثاني :

الامر الثاني : (1).

قد عرفت أيضا ان مورد الخطاب الترتبي انما هو في التكليفين المتزاحمين الذين لا يمكن الجمع بينهما لمكان عدم القدرة ، وتزاحم التكاليف انما يكون بعد تنجزها ووصولها إلى المكلف وكونها محرزة لديه بأنفسها ، اما بالاحراز الوجداني العلمي ، واما بالطرق المحرزة للتكاليف : من الطرق والامارات والأصول المحرزة ، فلا يتحقق التزاحم فيما إذا لم تكن التكاليف واصلة إلى المكلف وكانت مجهولة لديه ، وان كان بالجهل التقصيري ، بحيث كان الواجب عليه الاحتياط أو التعلم ، فان مجرد ذلك لا يكفي في التزاحم لعدم خروج التكليف بذلك عن كونه مجهولا. والعقاب انما يكون على ترك التعلم عند مصادفته لترك الواقع ، لا مطلقا كما هو المحكى من المدارك ، على ما فصلنا القول في ذلك في محله.

والحاصل : انه في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتبي ، لعدم المزاحمة بين التكليفين ، وان فرض استحقاق العقاب على ترك التكليف المجهول في .

ص: 368


1- لا يخفى عليك : ان شيخنا الأستاذ مد ظله عدل عما افاده في هذا التنبيه بكلا التقريبين الآتيين ، والتزم بالآخرة بجريان الخطاب الترتبي في كل ما يكون منجزا ، ولو كان من جهة وجوب التعلم ، سواء في ذلك الشبهات الموضوعية والحكمية. نعم : في خصوص مسئلتي الجهر والاخفات وما شابههما لا يجرى الخطاب الترتبي لكون التضاد فيهما دائميا وكونه يلزم الامر بالحاصل ، على ما بيناه في المتن ، فراجع - منه.

صورة كون الجاهل مقصرا. وكيف يعقل الخطاب الترتبي مع أنه عبارة عن اخذ عصيان أحد التكليفين شرطا للتكليف الآخر؟ ومعلوم ان الجاهل بالتكليف وان كان عن تقصير لا يرى نفسه عاصيا ولا يلتفت إلى ذلك ، إذ الالتفات إلى كونه عاصيا يتوقف على العلم بالتكليف ، فيخرج عن كونه جاهلا ، فلا يعقل ان يقال : أيها العاصي للتكليف المجهول يجب عليك كذا ، فإنه بمجرد التفاته إلى كونه عاصيا ينقلب جهله بالتكليف إلى كونه عالما به.

وهذا نظير ما قلنا في محله : من أنه لا يعقل تكليف الناسي لجزء بالفاقد له ، لأنه بمجرد الالتفات إلى كونه ناسيا يخرج عن كونه ناسيا. ومن هنا ظهر : ان تصحيح عبادة تارك الجهر أو الاخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي - كما عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء - (1) مما لا يستقيم. إذ لا يعقل ان يقال : أيها العاصي بترك الجهر أخفت أو بالعكس ، لان التفاته إلى كونه عاصيا يستدعى العلم بوجوب الجهر عليه ومع علمه بوجوب الجهر لا يصح الاخفات منه ، إذ صحة الاخفات مقصورة بصورة الجهل بوجوب الجهر عليه.

ولا يتوهم : ان لا يتوقف صحة التكليف بالاخفات على الالتفات إلى كونه عاصيا للجهر ، بل يكفي كونه عاصيا في الواقع ، كما حكى عن الشيخ ( قده ) نظير هذا في الناسي (2) وقال بصحة تكليف الناسي وان لم يلتفت إلى كونه ناسيا ، بل يرى نفسه ذاكرا إلى أنه يقصد الامر المتوجه إليه واقعا ، غايته انه يتخيل انه ذاكر

ص: 369


1- قال في مقدمة كشف الغطاء : « ان انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة وان استلزم المعصية ، وأي مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والاخفات والقصر والاتمام .. » ( مقدمات كشف الغطاء ، البحث الثامن عشر من المقصد الأول من الفن الثاني ، ص 27
2- ذكر المحقق المقرر قدس سره في المجلد الثاني من الفوائد ، في الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر « هذا ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره في مسائل الخلل وهو إلى الان لم يطبع » الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر ، الجهة الأولى من المقام الثاني ص 70 الطبعة القديمة

فيكون من قبيل الخطاء في التطبيق. وفي المقام يجرى هذا الكلام أيضا.

وذلك لأنه لا يصح التكليف الا فيما إذا أمكن الانبعاث عنه ، ولا يمكن الانبعاث عن التكليف الا بعد الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رتب التكليف عليه. وفي المقام لا يعقل الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف بالاخفات الذي هو كون الشخص عاصيا للتكليف الجهري ، وكذا الكلام في الناسي. وقد أوضحنا الكلام في ذلك وفساد كون المقام من باب الخطاء في التطبيق في تنبيهات الأقل والأكثر ، فراجع.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الأولى تحت عنوان ( الامر الثاني ) وفي الليلة الثانية قرر ما يلي :

الامر الثاني : يعتبر في الخطاب الترتبي ان يكون التكليف في المترتب عليه منجزا واصلا إلى المكلف بنفسه وجدانا ، أو بالطرق المحرزة من الامارات والأصول المحرزة. فلو لم يكن منجزا - كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة ، أو كان منجزا ولكن ما كان واصلا إلى المكلف بنفسه ، كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى الاحتياط ، كباب الدماء والفروج والأموال ، وكالشبهات الحكمية قبل الفحص والتعلم ، وكما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي - لم يكن موقع للخطاب الترتبي.

اما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة فمن جهات ثلث :

الأولى : ان التكليف الواقعي المجهول غير قابل لان يكون محركا وباعثا مولويا نحو متعلقه ، فلا يكون مزاحما للتكليف الاخر ، وبعبارة أخرى : التكليف الواقعي المجهول لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

الثانية : انه لا يتحقق عصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب ، لأن المفروض ان الشبهة مورد البراءة فلا عصيان له.

الثالثة : انه لا يمكن تحقق العلم بالخطاب المترتب ، لمكان عدم العلم بما هو موضوعه : من كونه عاصيا للخطاب المترتب عليه ، لان العلم بالعصيان فرع العلم بالتكليف ، والمفروض انه جاهل به.

ص: 370

واما الشبهات الحكمية قبل الفحص ، والشبهات التي تكون مجرى الاحتياط ، فلا يجرى فيها الخطاب الترتبي من جهتين :

الأولى : انه لا يتحقق عصيان التكليف المجهول ، حيث لا عقاب على نفس التكليف المجهول ، بل العقاب على ترك التعلم والاحتياط عند المصادفة.

الثانية : انه لا يتحقق العلم بالخطاب المترتب ، لعدم تحقق ما هو موضوعه من عصيان الخطاب المترتب عليه.

واما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فمن جهة واحدة لا يجرى فيها الخطاب الترتبي ، وهي الجهة الأخيرة أعني من عدم امكان حصول العلم بالخطاب الترتبي ، لعدم العلم بعصيان الخطاب المترتب عليه ، وان كان منجزا بالعلم الاجمالي وتحقق عصيانه في صورة المصادفة ، حيث إنه لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع كان عاصيا له ومعاقبا عليه ، لا على ترك الاحتياط ، بخلاف الشبهات البدوية.

هذا ما قرره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الثانية. وحيث انه يرد على هذا التقرير من الاشكال ما لا يخفى ، عدل مد ظله عن هذا التقرير في الليلة الثالثة والتزم بجريان الخطاب الترتبي في جميع الشبهات الموضوعية التي لا تجرى فيها البراءة ، وفي الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الاجمالي أو التي تكون مجرى الاحتياط ، كما إذا بنينا على الاحتياط في الشبهات التحريمية ، كما عليه الأخباريون حتى بعد الفحص. نعم في خصوص الشبهات الحكمية التي يجب فيها الفحص قال : بعدم جريان الخطاب الترتبي. (1)

اما تصحيح عبادة الجاهل بالجهر والاخفات والقصر والاتمام ، بالخطاب الترتبي فلا يمكن ، لان التضاد بين القصر والاتمام والجهر والاخفات

ص: 371


1- والذي يقوى في النظر : جريان الخطاب الترتبي حتى في ذلك أيضا ، الا إذا كان الجاهل مركبا قاطعا بعدم الحكم ، فان مثل هذا لا مجال فيه لجريان الخطاب الترتبي ، وان فرض كون الجاهل مقصرا معاقبا ، فتأمل جيدا - منه.

يكون دائميا ، بعد ما كان الواجب في اليوم فريضة واحدة ، اما جهرية أو اخفائية ، واما القصر أو الاتمام ، فليس في عالم التشريع الا حكم واحد وملاك واحد. ولو فرض ان كلا من الجهر والاخفات ذو ملاك في الواقع ، فلا بد من وقوع الكسر والانكسار بين الملاكين في عالم التشريع وانشاء الحكم على طبق أقوى الملاكين. وقد عرفت : ان مورد البحث عن الترتب انما هو بعد ثبوت الملاكين وتشريع الحكم على طبق كل منهما على نهج القضايا الحقيقية ووقوع التزاحم والتضاد بينهما اتفاقا ، لمكان عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما. وأين هذا مما إذا كان التضاد دائميا ، فإنه يكون حينئذ من باب التعارض ، لا التزاحم ، على ما تقدم من الفرق بينهما. والتضاد في مسألتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، يكون من التضاد الدائمي ، بحيث لو ورد الدليل على وجوب كل منهما كان الدليلان متعارضين ، وذلك بعد ما كان الواجب في اليوم صلاة واحدة واضح. فلا تندرج المسألة في صغرى التزاحم ، حتى يجرى فيها الخطاب الترتبي.

هذا كله ، مضافا إلى أن الامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالجهر والاخفات في القراءة ، مما لا يعقل - مع قطع النظر عما ذكرنا - فإنه يكون من الامر بالحاصل ، لان ترك الجهر يلازم خارجا الاخفات فيها فلا معنى للامر بالاخفات مثلا عند ترك الجهر ، لان الاخفات عند ترك الجهر يكون حاصلا بنفسه ، فلا يعقل ان يكون الامر به باعثا مولويا.

والحاصل : انه كما لا يعقل الامر بأحد النقيضين عند عدم الآخر - لان عدم أحد النقيضين عين وجود الآخر خارجا ، وان لم يكن عينه مفهوما ( على ما تقدم في بعض المباحث السابقة ) فلا يعقل ان يقال مثلا : لا تغصب الغصب الصلواتي ، وان غصبت الغصب الصلواتي فصل ، فإنه يكون من تحصيل الحاصل - كذلك لا يعقل الامر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما عند عدم الآخر ، فان عدم أحد الضدين وان لم يكن خارجا عين وجود الضد الآخر ، كما كان في النقيضين كذلك ، الا انه يلازمه خارجا ، فيلزم أيضا الامر بالحاصل. فالامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما لا يعقل ، كما في النقيضين.

ص: 372

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه يرد على ادراج مسألة جاهل القصر والاتمام والجهر والاخفات في صغرى الترتب ودفع الاشكال الوارد فيها الناشئ عن الالتزام باستحقاق العقاب مع القول بصحة الصلاة بذلك أمور ثلاثة :

الأول : ان مورد الامر الترتبي انما يكون بعد نحو تنجز التكليف بكل من الواجبين ووصول كل من التكليفين إلى المكلف وصولا وجدانيا أو بأحد طرقه ، والمفروض في المسألة كون الشخص جاهلا بوجوب الاخفات عليه.

الثاني : ان مورد الترتب انما هو في التضاد الاتفاقي ، والمسألة تكون من التضاد الدائمي.

الثالث : ان مورد الامر الترتبي في الضدين الذين لهما ثالث ، والمسألة مما لا ثالث لهما ، فتأمل جيدا.

الامر الثالث :

ان عقد الكلام في المسألة وان كان في المتزاحمين المضيقين كالغريقين ، الا انه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا حال مزاحمة المضيق للموسع ، كمزاحمة أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد للصلاة ، فإنه يجرى في الموسع أيضا الامر الترتبي ، بناء على ما اخترناه سابقا : من خروج الفرد من الموسع المزاحم للمضيق عن اطلاق الامر بالطبيعة وعدم اندراجه تحت الطبيعة المأمور بها. فإنه ح يصح ان يقال : ان خروجه عن تحت الاطلاق ليس مطلقا ، سواء اشتغل بالمضيق أو لم يشتغل ، بل إن الخروج مقصور على صورة الاشتغال بالمضيق ، واما عند عدم الاشتغال به وعصيانه فالاطلاق يعمه.

ويكون الفرق بين المضيقين والموسع والمضيق ، هو انه في المضيقين أصل الامر بالمهم يكون مشروطا بعصيان الأهم ، وفي الموسع والمضيق اطلاق الامر بالموسع على وجه يشمل الفرد المزاحم للمضيق يكون مشروطا بعصيان المضيق ، لا أصل الامر ، لان جميع افراد الموسع لم تكن مزاحمة للمضيق ، حتى يكون أصل الامر به مشروطا بعصيان المضيق. ولكن هذا إذا قلنا : بخروج الفرد المزاحم عن اطلاق الامر لمكان اشتراط كل امر بالقدرة على متعلقه ، حيث إن الامر يكون بعثا لاحد

ص: 373

طرفي المقدور وتحريكا لاحد جانبي الاختيار ، فإنه حينئذ نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي.

واما بناء على ما اختاره المحقق الكركي قده (1) « من أن تعلق الامر بالطبيعة مع القدرة عليها في الجملة ولو في بعض الافراد يكفي في صحة الفرد المزاحم للمضيق ، لانطباق الطبيعة عليه قهرا ، ويتحقق الاجزاء عقلا » فلا نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي ، بل نفس الامر الأول بالصلاة يكفي في صحة الفرد المزاحم. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ، فراجع. (2)

الامر الرابع :

الخطاب المترتب عليه ، تارة : يكون آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار في وعاء الزمان حتى يكون لعصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب أيضا نحو بقاء واستمرار ، بل يكون عصيانه دفعيا آنيا ولو عرفا ، لعدم قابلية بقاء الموضوع حتى يستمر عصيانه ، كانقاذ الغريق الذي لو لم يبادر إليه يوجب موت الغريق الموجب لسقوط التكليف. وأخرى : لايكون كذلك ، بل يكون له نحو بقاء واستمرار بحيث يستمر عصيانه ويبقى مع عدم الامتثال ، لبقاء الموضوع ، كأداء الدين حيث إنه يستمر الخطاب والعصيان ببقاء الدين ، ولا يسقط الا بأدائه.

فان لم يكن للخطاب المترتب عليه بقاء ولا يكون لعصيانه استمرار ، فهذا الذي تقدم الكلام عنه : من أن الخطاب المترتب يكون مشروطا بعصيان الخطاب المترتب عليه ، من دون استلزامه للشرط المتأخر ، بل يكون الشرط الذي هو العصيان مقارنا للامر المترتب ، سواء كان الامر المترتب أيضا كالمترتب عليه آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار ، كالغريقين الذين كان أحدهما أهم ، أو كان الامر المترتب له نحو

ص: 374


1- راجع ما افاده المحقق الثاني قدس سره في جامع المقاصد ، في شرح قول العلامة قدس سره في القواعد « ولا يصح الصلاة في أول وقتها ممن عليه دين واجب الأداء .. » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.
2- راجع ما افاده المصنف في تحقيق ثمرات الاقتضاء وعدمه ص 312 - 313 من هذا الكتاب.

بقاء واستمرار لتدرج امتثاله في الوجود وليس آني الحصول ، كالصلاة حيث إن فعلها ليس آني الحصول ، بل هو متدرج في الوجود حسب تدرج الاجزاء. غايته انه في مثل هذا يكون الامر بالجزء الأول من الصلاة المقارن لعصيان انقاذ الغريق من الامر الترتبي ، واما الامر بساير الاجزاء الاخر ، التي يكون وجودها بعد تحقق عصيان الامر المترتب عليه ، فلا يكون من الامر الترتبي ، لعدم بقاء الامر المترتب عليه ، لفرض تحقق عصيانه وانعدام موضوعه بموت الغريق مثلا. فمثل الحمد والركوع والسجود الذي يكون ظرف وجوده بعد موت الغريق ، لايكون امره من الامر الترتبي ، بل الامر بالتكبير يكون من ذلك ، لمقارنة وجودها لعصيان الامر بالانقاذ. وذلك واضح.

وأما إذا كان للخطاب المترتب عليه نحو بقاء ، وكان لعصيانه استمرار ، فان كان امتثال الخطاب المترتب دفعيا ليس متدرجا في الزمان - كالأمر برد السلام مثلا المترتب على الامر بترك أداء الدين أو إزالة النجاسة من المسجد مثلا - فهذا أيضا مما لا اشكال فيه ، فإنه يكون في حال رد السلام عاصيا لخطاب الإزالة ، ويكون عصيان الإزالة أيضا من الشرط المقارن لوجوب رد السلام ، وان كان العصيان يبقى بعد سقوط الامر برد السلام ، لمكان امتثاله.

وأما إذا كان امتثال الامر المترتب تدريجي الوجود كالصلاة ، وكان لعصيان الامر المترتب عليه استمرار وبقاء - كأداء الدين وإزالة النجاسة عن المسجد - فربما يستشكل في مثل هذا بتوقف الامر المترتب على الشرط المتأخر ، وحيث امتنع الشرط المتأخر امتنع الخطاب الترتبي.

وجه التوقف : هو توهم ان الامر بالمتدرج مشروط باستمرار عصيان الامر المترتب عليه إلى آخر جزء من المتدرج الذي فرض تعلق الامر الترتبي به ، مثلا الامر بالصلاة بالامر الترتبي يكون مشروطا باستمرار عصيان الامر بالإزالة إلى آخر الصلاة ، فيكون عصيان الامر بالإزالة في حال التسليمة شرطا للامر بالتكبيرة ، إذ لولا العصيان في ذلك الحال لما تعلق الامر بالتكبيرة ، فيكون تعلق الامر الترتبي بالتكبيرة مشروطا بشرط مقارن ، وهو عصيان الامر بالإزالة في حال التكبيرة ،

ص: 375

ومشروطا بالشرط المتأخر أيضا ، وهو العصيان في حال التسليمة ، وحيث كان المختار امتناع الشرط المتأخر كان اللازم امتناع الامر الترتبي. وارجاع الشرط إلى عنوان التعقب انما يكون بعد مساعدة الدليل والاعتبار عليه ، والمفروض انه لم يقم دليل بالخصوص على ثبوت الامر الترتبي في جميع موارد التدريجيات ، حتى يقال : ان دلالة الاقتضاء تقتضي كون الشرط هو عنوان التعقب ، بل قد تقدم ان نفس الأدلة الأولية تقتضي الخطاب الترتبي ، بعد اشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، ومعلوم : ان اقتضاء الأدلة الأولية ذلك انما هو فيما إذا لم يلزم من الخطاب الترتبي امر غير معقول : من الشرط المتأخر. واما مع استلزامه ذلك ، فالأدلة ح لا تقتضي الخطاب الترتبي ، وتقل فائدة البحث عنه ح ، لان الغالب في الخطابات الترتبية كون متعلقاتها تدريجية ، مع استمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فيلزم في الغالب من الخطاب الترتبي الشرط المتأخر.

أقول : ضعف هذا الاشكال مما لا يكاد يخفى ، لوضوح ان هذا ليس اشكالا مخصوصا بالامر الترتبي ، بل توهم هذا الاشكال مطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود ، كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، وغير ذلك من المركبات الارتباطية ، لوضوح ان الامر بكل جزء مشروط بالقدرة على الاجزاء اللاحقة ، فيلزم الشرط المتأخر في جميع المركبات ، ولو لم يكن هناك امر ترتبي. ولا يلزم من القول بالامر الترتبي اشكال زائد على الاشكال المطرد ، فان الامر المترتب المتعلق بما يكون تدريجي الحصول أيضا يكون مشروطا ببقاء القدرة إلى آخر الاجزاء ، غايته ان القدرة على الاجزاء اللاحقة انما تكون باستمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فليس في الامر الترتبي اشكال سوى اشكال اعتبار بقاء القدرة إلى آخر الاجزاء في الامر بأول الاجزاء في المركبات الارتباطية ، هذا.

وقد تقدم الجواب عن هذا الاشكال المطرد ، وبيان ضعف توهم استلزام الامر بالمركب للشرط المتأخر في بعض المباحث المتقدمة. وحاصل الجواب : هو ان لازم اعتبار الوحدة في المركب من عدة اجزاء متدرجة في الوجود ، هو ان تكون القدرة على كل جزء في حال وجوده شرطا بوجودها العيني الخارجي ، وبالنسبة إلى

ص: 376

الاجزاء الاخر من السابقة واللاحقة يكون الشرط هو التقدم والتأخر. مثلا الامر بالتكبيرة مشروط بالقدرة عليها خارجا وتعقبها بالقدرة على سائر الأجزاء. وكذا الامر بالحمد مشروط بالقدرة عليها خارجا وسبقها بالقدرة على التكبيرة وتعقبها بالقدرة على الاجزاء المتأخرة. فشرطية التعقب والتقدم مما يقتضيه نفس الامر بالمركب بعد اعتبار الوحدة فيه واخذه على جهة الارتباطية. فالقول بان الشرط في مثل هذا هو عنوان التعقب ليس قولا بلا دليل ، بل نفس دليل المركب بعد اعتبار الوحدة فيه يقتضى ذلك ، وعليه يساعد الاعتبار. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في مسألة الشرط المتأخر ، فراجع. (1) وعلى كل حال : لا يرد على الامر الترتبي في التدريجيات اشكال زائد على الاشكال في المركبات ، والجواب واحد في الجميع.

وحينئذ نقول : ان الامر بأول جزء من متعلق الامر المترتب مشروط بعصيان الامر المترتب عليه بالشرط المقارن وبتعقبه باستمرار العصيان إلى آخر الاجزاء. ولا محذور فيه أصلا ، لان شرطية عنوان التعقب انما تستفاد من نفس اعتبار الوحدة في متعلق الامر المترتب.

ثم لا يخفى عليك : ان الامر الترتبي قد يثبت من أول الشروع في العمل التدريجي ويستمر إلى آخره ، وقد يحدث في أثناء العمل ، وربما ينعكس الامر ، بحيث يكون الامر المترتب مترتبا عليه لو حدث في الأثناء ، بعد ما كان مترتبا لو كان من أول العمل. مثلا في إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة يختلف الحال فيها. فتارة : يعلم بنجاسة المسجد قبل الدخول في الصلاة ، وأخرى : يعلم به في أثناء الصلاة.

فان كان عالما بها قبل الصلاة مع سعة الوقت ، يكون ح الامر بالصلاة من أولها إلى آخرها مترتبا على عصيان الإزالة ، لأنه يكون من مزاحمة الموسع والمضيق. وقد تقدم ان الامر بالموسع يكون مترتبا على عصيان الامر بالمضيق. وهذا الامر الترتبي محفوظ من أول الصلاة إلى آخرها ، فله بعد الشروع في الصلاة قطع الصلاة

ص: 377


1- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث الشرط المتأخر ص 280 - 281

للاشتغال بالإزالة ، بل يجب عليه قطعها لبقاء موضوع الإزالة واستمرار عصيانها إلى آخر الصلاة ، فلا يحرم قطع مثل هذه الصلاة. ولا موقع للتمسك بحرمة الابطال ، بعد ما كان الامر الترتبي محفوظا من أول الصلاة إلى آخرها. فأقصى ما يقتضيه الامر الترتبي هو صحة الصلاة لو لم يقطعها ، ولا يقتضى حرمة قطعها. هذا إذا كان عالما بالنجاسة قبل الصلاة.

واما ان كان جاهلا بها ، فحيث لم يتنجز عليه الامر بالإزالة لمكان الجهل بها ، كان دخوله في الصلاة ليس بالامر الترتبي بل بأمرها الأولى ، وتوجه عليه حرمة الابطال وقطع الصلاة. فإذا علم بنجاسة المسجد في الأثناء ، فيكون كما لو حدثت النجاسة في المسجد في الأثناء ، ومن حين العلم يتوجه عليه الامر بالإزالة ، فتقع المزاحمة ح بين الامر بالإزالة مع حرمة قطع الصلاة ، وكل منهما يكون من المضيق. ودعوى أهمية حرمة القطع من وجوب الإزالة ليس بكل البعيد ، فيكون الامر بالإزالة حينئذ مترتبا على عصيان الامر باتمام الصلاة ، مع أنه كان مترتبا عليه لو كان عالما بالنجاسة من أول الصلاة. وهذا ما قلناه : من أن الامر قد ينعكس ويكون المترتب مرتبا عليه.

ثم إن هناك فرعا محكيا عن الفصول ، يناسب ذكره في المقام (1) وهو انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة ، على نحو يحرم عليه الاغتراف منها للوضوء ، وذلك فيما إذا لم يكن بقصد التخليص - على ما سيأتي ضابط التخليص - فان اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، فهذا مما لا اشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه ، وان عصى في أصل الاغتراف ، الا انه بعد العصيان والاغتراف يكون واجدا للماء ، فيجب عليه الوضوء. وأما إذا لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط ، فالمحكي عن صاحب الفصول : انه لا مانع من صحة وضوئه ح بالامر

ص: 378


1- راجع الفصول ، تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى الواجب والمشروط ، بيان وجه الفرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي .. » ص 81

الترتبي ، فإنه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية والثالثة التي تتم بها الغسلات الثلث للوضوء ، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة إذا كان مما يستمر عصيانه لإزالة إلى آخر الصلاة ، فان المصحح للامر بالصلاة ، انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها حال وجوده ، لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك الحال وتعقبه بالعصيان بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، على ما تقدم بيانه. وفي الوضوء يأتي هذا البيان أيضا ، فان القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة ، لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة ، والعصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين ، فيجرى في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : الفرق بين باب الوضوء ، وباب الصلاة ، فان الصلاة لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية على اجزائها ، المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة ، فلا مانع من الامر الترتبي فيها. واما في الوضوء ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون شرعية ومما لها دخل في الملاك ، ولا قدرة شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المغصوبة ، ولا ملاك له حينئذ ، فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له ، بعد ما لم يكن في ذلك الحال واجدا لماء مباح شرعا يكفي للوضوء ، فلا يجرى في الوضوء الامر الترتبي. هذا إذا لم يكن الاغتراف للتخليص. وأما إذا كان للتخليص ، فلا اشكال في جواز الاغتراف دفعة واحدة ، بل بدفعات - على اشكال في الأخير - فيكون مكلفا بالوضوء ولا ينتقل تكليفه إلى التيمم.

ثم انه ليس المراد من التخليص مجرد القصد والنية ، بل ضابطه ان يكون الماء الموجود في الآنية المغصوبة ملكا له لا مباحا ، وكان وقوعه في الآنية لا باختياره ، فإنه ح له تخليص مائه عن الآنية وان استلزم التصرف فيها.

وأما إذا كان مباحا ، أو كان وقوعه في الآنية بسوء اختياره ، ففي مثل هذا لا يجوز له التصرف في الآنية. اما فيما إذا كان الماء مباحا فواضح ، حيث إنه لا ربط له به حتى يجوز له التصرف في الآنية. واما فيما إذا كان ملكا له فلان الماء وان لم يخرج عن ملكه ، الا انه هو بسوء اختياره سلب سلطنته عن ملكه ، فليس له

ص: 379

التصرف في الآنية لاخراج مائه من دون اذن صاحبها ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، مع ما يستتبعها من التنبيهات.

المسألة الثانية :

هي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية. وقد تقدم حكم التزاحم في ذلك ، وان المتأخر ان كان أهم يجب حفظ القدرة له ، ويكون بأهميته شاغلا مولويا عن المتقدم. وان لم يكن أهم وجب صرف القدرة إلى المتقدم ، وليس مخيرا في صرف القدرة في أيهما شاء ، فان التخيير انما يكون في المتزاحمين العرضيين ، لا الطوليين. وقد تقدم ان عدم التخيير في المقام من ثمرات كون التخير في المتزاحمين المتساويين عقلا باعتبار اشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، لا شرعيا على ما تقدم تفصيله - فراجع - فلا موجب لإعادته.

والغرض في المقام هو بيان جريان الخطاب الترتبي فيما إذا كان المتأخر أهم الذي فرضنا وجوب حفظ القدرة إليه. فلو خالف وعصى ولم يحفظ القدرة إليه ، فهل يجب صرف القدرة إلى المتقدم بالخطاب الترتبي ، أو ان المقام لا يجرى فيه الخطاب الترتبي؟.

والأقوى : ان الخطاب الترتبي في هذه المسألة مما لا يمكن ولا يعقل ، وتوضيح ذلك هو ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخر واخذ عصيانه شرطا للامر بالمتقدم ، واما ان يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه ، وهو وجوب حفظ القدرة له ، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطا للامر بصرف القدرة إلى المتقدم.

فان كان الأول ، فيرد عليه - مضافا إلى استلزامه للشرط المتأخر من دون قيام دليل عليه بالخصوص ليرجع الشرط إلى وصف التعقب ، فإنه في التدريجيات التي قلنا فيها ان الامر بالاجزاء السابقة مشروط باستمرار العصيان إلى الاجزاء اللاحقة وارجعنا الشرط إلى عنوان التعقب انما كان من جهة ان استمرار العصيان

ص: 380

عبارة أخرى عن استمرار القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط هو عنوان التعقب ، لمكان اعتبار الوحدة في الاجزاء التدريجية ، وأين هذا مما نحن فيه؟ من جعل عصيان الواجب المتأخر شرطا للمتقدم ، فان هذا لا ربط له بباب اشتراط الواجب بالقدرة حتى نلتجي إلى ارجاع الشرط إلى عنوان التعقب كما لا يخفى - ان ذلك لا يجدى في رفع المزاحمة ، فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ولو كان أهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه ، وهو لزوم حفظ القدرة له وعدم صرفها في غيره ، إذ لولا ذلك لما كاد يقع مزاحمة بين المتقدم ، والمتأخر ، لعدم اجتماعهما في الزمان ، فالمزاحم هو خطاب وجوب حفظ القدرة ، ومعلوم : انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة ، لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب - احفظ قدرتك - فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها ، وخطاب - احفظ قدرتك - موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر ، فتأمل.

وان كان الثاني ، أي لو حظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب - احفظ قدرتك - فهو وان كان يسلم عن اشكال الشرط المتأخر الا انه يرد عليه : ان عدم حفظ القدرة للمتأخر لايكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه ، وذلك الفعل الوجودي اما نفس المتقدم ، أو فعل آخر. فان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع ، فإنه مع صرف قدرته في المتقدم يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك إلى الركعة المتأخرة مثلا وقمت في الركعة الأولى فقم فيها. وهذا كما ترى يلزم تحصيل الحاصل.

وان صرف قدرته في فعل آخر كما إذا صار حمالا بحيث يمتنع عليه القيام في الركعة الثانية مع ذلك الفعل ، يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك للقيام في الركعة الثانية وصرت حمالا فقم في الركعة الأولى. وهذا أيضا كما ترى يلزم طلب الممتنع ، لأنه مع صرف قدرته في ذلك يتعذر عليه القيام في الركعة الأولى.

وان كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر : المعنى الجامع بين صرف

ص: 381

القدرة إلى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك ، يلزم كلا المحذورين ، من طلب الحاصل ، والتكليف بالممتنع.

ولا يقاس المقام بالإزالة والصلاة ، حيث قلنا : انه يصح الامر بالصلاة عند ترك الإزالة ، ولا يلزم من ذلك طلب الحاصل ، ولا التكليف بالممتنع. مع أنه يمكن هذا التقريب في ذلك أيضا ، بان يقال : ان تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصل ، فيلزم طلب الحاصل ، وان اشتغلت بغيرها يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. فان قياس المقام بذلك فاسد جدا ، لوضوح ان ترك الإزالة لا يلازم الصلاة ، ولا فعلا آخر مضادا لها ، بل كل فعل وجودي يفرض فإنما هو مقارن لترك الإزالة ، لا عينه ولا يلازمه ، لتمكن المكلف من عصيان الامر بالإزالة مع عدم اشتغاله بفعل وجودي أصلا ، كما تقدم في رد شبهة الكعبي. وليست الافعال الوجودية من مصاديق ترك الإزالة ، إذ الوجود لايكون مصداقا للعدم ، فمع فرض تركه للإزالة يمكنه ان لا يشتغل بفعل وجودي ، فلا مانع من امره بالصلاة ح عند ترك الإزالة ، ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب بالممتنع ولو فرض انه اشتغل بفعل وجودي آخر ، لأنه لم يقيد الامر الصلواتي بصورة الاشتغال بالصلاة ، أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى يلزم ذلك ، بل الامر الصلواتي كان مقيدا بترك الإزالة فقط ليس الا. وقد عرفت ان الافعال الوجودية ، لا هي عين ترك الإزالة مفهوما أو مصداقا ، ولا ملازمة بينهما.

وهذا بخلاف المقام ، فان ترك حفظ قدرته للمتأخر لايكون الا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن المتأخر ، لوضوح انه لو لم يشتغل بفعل وجودي كذلك تكون قدرته إلى المتأخر محفوظة ، فالفعل الوجودي يكون ملازما لعدم انحفاظ القدرة ، ولا يكون الفعل الوجودي مقارنا. وحينئذ يرجع الكلام السابق : من أن ذلك الفعل الوجودي ، اما ان تفرضه هو المتقدم ، أو فعل آخر مضاد ، أو الجامع بين الافعال الوجودية الموجبة لسلب القدرة عن المتأخر ، وعلى كل تقدير يلزم أحد المحاذير المتقدمة.

وبتقريب آخر : ان الحكم في المقام عقلي ، وليس هناك دليل لفظي. و

ص: 382

العقل يستقل بقبح صرف القدرة إلى غير المتأخر الذي فرضناه أهم وبلزوم حفظ القدرة إلى المتأخر. ومعلوم ان كل فعل وجودي يفرض كونه موجبا لعدم القدرة على المتأخر ، فإنما هو من مصاديق صرف القدرة إلى غير المتأخر ، ومعلوم ان قبح الشيء يسرى إلى مصاديقه ، ولا مجال للامر الترتبي في مثل هذا.

فالمقام نظير ما سيأتي من عدم جريان الترتب في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، حيث نقول في ذلك : انه لا يمكن تصحيح الصلاة بالامر الترتبي بعد تقديم جانب النهى ، فلا يصح ان يقال : لا تغصب وان غصبت فصل. فان المراد من قوله ( ان غصبت ) ان كان خصوص الغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل ، وان كان غير ذلك يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. وليس ذلك الا لمكان ان كل فعل وجودي يفرض فإنما يكون من مصاديق الغصب ، فالصلاة أيضا تكون مصداقا للغصب ، لا مقارنة له ، كما في الصلاة والإزالة. فالصلاة تكون منهيا عنها بنفس النهى عن الغصب. ويرجع الامر الترتبي في ذلك إلى قوله : لا تغصب الغصب الصلواتي وان فعلت ذلك فصل ، وهو كما ترى يلزم طلب الحاصل. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء اللّه.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الامر الترتبي لا يجرى في المسألة الثانية من مسائل التزاحم ، وهي ما كان التزاحم فيه لقصور قدرة المكلف ، لا لتضاد المتعلقين.

المسألة الثالثة :

من مسائل الترتب هي : ما إذا كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها. والأقوى جريان الترتب فيها.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو ان المقدمة ، اما ان تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق. واما ان تكون مقارنة في الوجود لذيها كالتصرف في الماء الذي وقع الغريق فيه لانقاذه ، وكترك أحد الضدين لوجود الآخر ، بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر فينبغي عقد الكلام في مقامين :

ص: 383

( المقام الأول )

في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها. والكلام فيها يقع من جهات :

الجهة الأولى :

قد تقدم ان المقدمة المحرمة ذاتا بحسب حكمها الأولى لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب ، بل إن كان وجوب ذي المقدمة أهم من حرمة المقدمة ، ففي مثل هذا تسقط حرمتها وتجب بالوجوب المقدمي. وان لم تكن أهم فحرمة المقدمة باقية على حالها ، ولا تصل النوبة إلى التخيير في صورة التساوي. وقد تقدم أيضا ان ذلك من ثمرات كون التخيير في الواجبين المتزاحمين المتساويين عقليا أو شرعيا ، وانه بناء على المختار : من كون التخيير عقليا ، لا يتحقق التخيير بين المقدمة وذيها ، بل إن كان ذو المقدمة أهم كان بأهميته موجبا للتعجيز عن المقدمة وسلب القدرة عنها فتجب. وان لم تكن أهم فلا معجز مولوي يوجب سقوط الحرمة عن المقدمة ، بل يكون حرمتها الحالية معجزا عن وجوب ذيها ، فلا يجب وتبقى الحرمة على حالها. ولا يختص هذا بالمقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، بل يجرى في المقدمة المقارنة أيضا ، لوضوح ان التصرف في ماء الغير انما يجب إذا توقف عليه واجب أهم : من انقاذ نفس محترمة أو تلف مال كثير. وأما إذا لم يكن الواجب أهم ، فحرمة التصرف تبقى على حالها ، إذ ليس له معجز مولوي عن ذلك ، فتأمل.

هذا إذا كانت المقدمة محرمة ذاتا ، وأما إذا كانت مباحة أو مستحبة أو مكروهة ، فلا اشكال في سقوط كل من هذه الأحكام عند كونها مقدمة لواجب ، لان الوجوب لا يمكن ان يزاحمه الإباحة والاستحباب والكراهة.

الجهة الثانية :

قد تقدم في مبحث مقدمة الواجب : ان الذوق والاعتبار يأبى عن وقوع المقدمة المحرمة الذاتية على صفة الوجوب والمطلوبية الغيرية مطلقا ولو لم يقصد بها فعل ذي المقدمة ولا ترتب عليها ذلك ، لوضوح انه لا يمكن الالتزام بكون التصرف في ارض الغير واجبا لمجرد انه توقف انقاذ الغريق عليه ، مع أن الشخص لم يتصرف لأجل ذلك ، بل قصد في تصرفه النزهة والعدوان والتفرج. فان دعوى كون

ص: 384

التصرف مع هذا واجبا ومطلوبا يكذبها الوجدان والاعتبار ، ولأجل ذلك تشتتت الآراء فيما هو الواجب من المقدمة ، وسلك كل مسلكا. فذهب صاحب المعالم إلى أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها ، وذهب صاحب الفصول إلى المقدمة الموصلة ، وذهب الشيخ ( قده ) إلى اعتبار قصد التوصل. (1) كل ذلك لأجل استبعاد كون المقدمة واجبة مط. وقد تقدم منا بيان فساد ذلك كله ، وانه لا يمكن اعتبار قيد التوصل أو قصد التوصل في وجوب المقدمة ، أو في وقوعها على صفة الوجوب بحيث يكون قيدا للواجب ، لاستلزام تلك المحاذير المتقدمة.

ولنا في المقام مسلك آخر به يحسم مادة الاشكال ، ويوافق عليه الذوق والاعتبار وهو : ان الحرمة الذاتية التي كانت للمقدمة لم تسقط مطلقا ، بل سقط اطلاقها لحالتي فعل ذي المقدمة وتركها مع انحفاظ الحرمة في صورة ترك ذي المقدمة ، بل انحفاظ كل حكم كان للمقدمة ذاتا ولو لم يكن الحرمة ، بل كان الحكم هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب.

وبالجملة : الدعوى هو ان كل حكم كان للمقدمة مع قطع النظر عن عروض وصف المقدمية عليها فهو محفوظ في حال ترك ذي المقدمة ، أعني الواجب الذي فرضناه أهم. وذلك لايكون الا بالامر الترتبي الذي قد تقدم الكلام عنه ، وعن امكانه بل وقوعه. نعم : يختص الامر الترتبي في المقام ببعض الاشكالات ، التي لا ترد على الامر الترتبي في سائر المقامات. وحاصل تلك الاشكالات يرجع إلى أمرين :

الأول : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة ، والوجوب والحرمة متضاد ان لا يمكن اجتماعهما.

الثاني : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، لان الحرمة ح تكون مشروطة بعصيان ذي المقدمة المتأخر زمانا عن المقدمة ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في المقام ، حتى نرجعه إلى وصف التعقب. هذا

ص: 385


1- قدم تحقيق ذلك في هامش ص 286 من هذا الكتاب

وسيتضح لك دفع الاشكالين بما سنذكره في الجهة الثالثة التي نذكره فيها مقدمتين لبيان جريان الامر الترتبي في المقام.

( المقدمة الأولى )

لا اشكال في أن الامر بالمقدمة انما يكون في رتبة كون المولى بصدد تحصيل مراده من ذي المقدمة وفي مرتبة الوصول إلى غرضه ومطلوبه النفسي ، فإنه في هذه المرتبة تنقدح إرادة المقدمة في نفس المولى ، لوضوح ان إرادة المقدمة لا تكون الا لمكان الوصول إلى ذيها ، فتكون واقعة في رتبة الوصول إلى ذي المقدمة وكون المولى بصدد تحصيله ، لا في رتبة اليأس عن ذي المقدمة وعدم الوصول إليه ، فان هذه المرتبة ليست مرتبة انقداح إرادة المقدمة في نفس المولى ، وذلك واضح.

( المقدمة الثانية )

قد تقدم في المقدمة الرابعة من مقدمات الترتب : انه لا يعقل الاطلاق والتقييد لحاظا ونتيجة بالنسبة إلى حالتي فعل الواجب وتركه ، وان هذا الانقسام ليس كسائر الانقسامات اللاحقة للمتعلق مما يمكن فيها الاطلاق والتقييد اللحاظي أو نتيجة الاطلاق والتقييد ، لاستلزامه طلب الحاصل ، أو طلب النقيضين ، على ما تقدم تفصيله. ولكن هذا في كل واجب بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه.

واما بالنسبة إلى حالتي فعل واجب آخر وتركه ، فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، بل لا محيص عنه إذ لا يعقل الاهمال الثبوتي بالنسبة إلى ذلك ، الا ان هذا انما يكون في الواجبين الملحوظين على جهة الاستقلالية والاسمية ، كالصوم والصلاة ، حيث لا محيص : اما من اطلاق الامر بالصوم لحالتي فعل الصلاة وتركها ، واما من تقييده بإحدى الحالتين. وكذا الامر بالصلاة.

وأما إذا كان أحد الواجبين ملحوظا على جهة التبعية والحرفية ، كالأمر المقدمي فهو في الاطلاق ، والاشتراط ، والاهمال ، تابع للامر بذى المقدمة. وانه كل ما يكون الامر بذى المقدمة مطلقا أو مقيدا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا يكون مطلقا أو مقيدا بالنسبة إلى ذلك الشيء وكل ما يكون الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا مهمل بالنسبة إليه. والسر في ذلك واضح ، لان

ص: 386

الامر المقدمي انما يتولد من الامر بذى المقدمة ، ويكون معلولا له ومترشحا منه ، وليس ناشئا عن مبادئ استقلالية ، بل يكون انشائه قهرا على المولى ، بحيث لا يمكن ان لا ينشأه بعد انشاء الامر بذى المقدمة ، على ما تقدم بيانه في مقدمة الواجب. فإذا كان كذلك ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي تابعا في الاطلاق والاشتراط والاهمال للامر بذيها ، كما يكون تابعا في أصل وجوده ، فلا يقاس الامر بالمقدمة مع الامر بذيها بالامر بالصلاة والصوم حيث قلنا : انه في مثل الصلاة والصوم لا بد من الاطلاق أو التقييد ، من دون ان يكون الاطلاق في أحدهما تابعا للاطلاق في الآخر ، فان بين الامر المقدمي وذيها وبين الامر بالصلاة والصوم بونا بعيدا.

نعم : ان لوحظ الامر المقدمي معنى اسميا صح القياس ، الا ان الامر المقدمي لم يلاحظ معنى اسميا ، فلا بد ح من التبعية المذكورة. وحيث كان الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي أيضا مهملا بالنسبة إلى حالتي فعل ذي المقدمة وتركه ، فلا يكون فيه اطلاق ولا تقييد بالنسبة إلى ذلك ، بل يكون الامر المقدمي كالأمر بذيها مقتضيا في عالم التشريع لرفع الترك عن ذي المقدمة وطاردا له. وبعد ما عرفت ذلك ، يتضح جريان الامر الترتبي في باب المقدمة وذيها ، وانه لا مانع من انحفاظ حرمة المقدمة أو كل حكم فرض لها ولو كان هو الإباحة في مرتبة ترك ذي المقدمة وعصيان امره ، بحيث يكون الحكم الأصلي لها مترتبا على عصيان ذي المقدمة ، فان هذه الرتبة ليست رتبة الامر بالمقدمة. لأنا قد فرضنا ان الامر بالمقدمة مهمل بالنسبة إلى حالة ترك ذي المقدمة وعصيانه ، بل الامر بالمقدمة يكون في الرتبة السابقة على ذلك ، وهي رتبة الوصول إلى ذي المقدمة ، لا على وجه يكون مقيدا بذلك ، حتى يرجع إلى المقدمة الموصلة ، بل هو واقع في تلك الرتبة مع كونه مهملا بالنسبة إلى حالتي الفعل والترك. فارتفع الاشكال الأول الذي ذكرنا انه مختص بالامر الترتبي في المقام ، وهو لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في المقدمة ، لان الحكمين وان اجتمعا في المقدمة زمانا الا انهما قد اختلفا بالرتبة ، حيث إن الامر واقع في رتبة الوصول ، والنهى واقع في رتبة الياس وترك الوصول بعصيان ذي المقدمة. ولا مانع من اجتماع الحكمين

ص: 387

المتضادين في الزمان مع اختلافهما بالرتبة ، إذ ليس عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين مما قام عليه دليل لفظي ، حتى نتمسك باطلاقه ونقول : لا يكفي اختلاف الرتبة بل الحكم في المقام عقلي والعقل لا يمنع عن الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. إذ امتناع اجتماع الضدين انما هو لمكان انه يرجع إلى اجتماع النقيضين ، ويعتبر في النقيضين الممتنعي الجمع وحدة الرتبة.

فتحصل : انه لا مانع من كون المقدمة محكوما بحكمين متضادين ، مع كونهما مختلفي الرتبة.

نعم : يبقى اشكال استلزام الامر الترتبي في المقام للشرط المتأخر الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص. ولكن هذا الاشكال أيضا مندفع بان الشرط المتأخر في المقام مما يحكم به العقل ويستقل به ، بعد ما بينا سابقا : من اباء الذوق والاعتبار عن اتصاف المقدمة بالمطلوبية مط على أي وجه اتفقت ولو كان التصرف في ارض الغير مثلا لأجل التنزه والتفرج ، وبعد ما بيناه من أن الامر بالمقدمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها ، لا في رتبة اليأس عنه ، وبعد ما كان كل مقدمة منقسمة في حد ذاتها إلى ما يتعقبها وجود ذي المقدمة وما لا يتعقبها ، فان هذه الأمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخر ، فهو مما قام عليه دليل بالخصوص ، غايته انه ليس شرعيا بل عقليا.

والحاصل : انه لا يختص اعتبار الشرط المتأخر بمعنى التعقب بباب القدرة ، بل يجرى في المقام أيضا ، لان صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخر ( بمعنى التعقب ) بعد ما كان الوجدان شاهدا على عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية كيف ما اتفقت. وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخر ، وأوجب الامر الترتبي. فليس اعتبار الشرط المتأخر في المقام من جهة اقتضاء الامر الترتبي ذلك ، حتى يقال : انه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الامر الترتبي ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخر ، بل الموجب للذهاب إلى الامر الترتبي في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخر فيه ، وهو تلك المقدمات العقلية فلا تغفل.

ص: 388

ولا تقس المقام بالمسألة المتقدمة التي أنكرنا جريان الامر الترتبي فيها لمكان استلزام الشرط المتأخر ، وهي ما إذا كان التزاحم لأجل قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، وذلك لان المقدمات العقلية الجارية في المقام لم تكن جارية في تلك المسألة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

( المقام الثاني )

ما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها ، وله أمثلة كثيرة ، ولكن المثال المهم الذي يترتب عليه الأثر ، هو باب الضدين ، بناء على مقدمية ترك أحدهما لفعل الآخر. والأقوى جريان الامر الترتبي فيه أيضا. واشكال استلزام الامر الترتبي للشرط المتأخر لا يجرى في المقام ، لأن المفروض كون المقدمة مقارنة بحسب الزمان.

نعم : اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد يجرى ، كالمقدمة المتقدمة بحسب الزمان. ويزداد الاشكال في الضدين ، حيث إنه يلزم اجتماع الحكمين في كل من طرف الأهم والمهم ، حيث إنه كما أن ترك المهم يكون مقدمة لفعل الأهم فيجب من باب المقدمة مع أنه حرام لغرض وجوب فعل المهم بمقتضى الامر الترتبي ، فيكون ترك الصلاة واجبا بالوجوب الغيري وحراما نفسيا لغرض وجوب الصلاة. كذلك يكون ترك الأهم مقدمة لفعل المهم الذي فرضناه واجبا بالامر الترتبي ، فيجب ترك الأهم بالوجوب المقدمي مع أنه يحرم لوجوب فعل الأهم. فاشكال اجتماع الحكمين المتضادين يأتي في كل من الأهم والمهم بناء على المقدمية. ولكن يندفع الاشكال في طرف المهم بما دفعنا به الاشكال في المقدمة المتقدمة بحسب الزمان.

وحاصله : ان ترك المهم وان كان حراما نفسيا وواجبا مقدميا ، الا ان وجوبه المقدمي انما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهم ، والحرمة انما تكون في مرتبة تركه وعصيانه ، فتختلف رتبة الوجوب والحرمة ولا مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة.

واما الاشكال في طرف الأهم فلا يندفع بذلك ، لان الامر في طرف الأهم

ص: 389

ليس ترتبيا حتى يتحقق اختلاف الرتبة ويصح اجتماع كل من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة ، بل إن الامر في طرف الأهم هو الامر الأولى الذاتي. الا ان الذي يسهل الخطب هو ان ترك الأهم لايكون واجبا بالوجوب المقدمي أصلا ، بل ليس حكمه الا الحرمة ، فان ترك الأهم وان كان مقدمة وجودية لفعل المهم ، الا انه مع ذلك يكون مقدمة وجوبية له أيضا ، لان وجوب المهم مشروط بترك الأهم ، ومعلوم ان المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي ، فترك الأهم حرام ليس الا ، ولا يجتمع فيه الحكمان المتضادان.

نعم لو قيل : بان المقدمة الوجوبية أيضا تجب بالوجوب المقدمي يلزم ذلك ، الا انه لا يعقل القول بذلك لما فيه :

أولا : من أن المقدمة الوجوبية تكون علة لثبوت الوجوب على ذيها ، ولا يعقل ان يؤثر المعلول في علته ، لان التأثير يستدعى سبق الرتبة ، والمعلول لا يعقل ان يسبق علته في الرتبة ، بل هو متأخر عنها.

وثانيا : ان المقدمة الوجوبية لا بد ان تؤخذ مفروضة الوجود ، ومع اخذها مفروضة الوجود لا يعقل ان تجب بالوجوب المقدمي لاستلزامه طلب الحاصل.

وثالثا : انه يلزم من وجوب المقدمة الوجوبية ان يتقدم زمان وجوب ذيها على موطنه ، وذلك في كل مقدمة تكون سابقة التحقق في الزمان على موطن وجوب ذي المقدمة ، مثلا لو كان قيام زيد في أول طلوع الشمس مقدمة وجوبية لوجوب الصلاة في أول الزوال ، فلو وجب قيام زيد مع ذلك بالوجوب المقدمي يلزم تقدم وجوب الصلاة على موطنه ، وان يتحقق من أول الشمس ليترشح منه الوجوب إلى المقدمة. وهذا خلف ، لأنا فرضنا ان موطن وجوب الصلاة هو الزوال. فالمقدمة الوجوبية لا يمكن ان تتصف بالوجوب المقدمي لهذه الجهات الثلث. فترك الأهم الذي يكون مقدمة وجوبية للمهم لا يجب بالوجوب المقدمي من الجهات الثلث.

نعم : الجهة الأخيرة لا ترد ، بناء على القول بالتقدير وفرض سبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم آنا ما ، على ما تقدم تفصيله. فإنه لا يلزم من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي تقدم وجوب ذي المقدمة على موطنه وزمانه ، لأنا قد

ص: 390

فرضنا ان موطن وجوب ذي المقدمة الذي هو المهم سابق على مقدمته الوجوبية الذي هو ترك الأهم ، فلا يلزم الخلف من وجوب المقدمة الوجوبية.

ولكن مع ذلك لا يعقل ان يكون ترك الأهم واجبا بالوجوب المقدمي ، لكفاية الجهتين الأوليين في امتناعه ، وهما العمدة لاطرادها في جميع المقدمات الوجوبية واختصاص الجهة الثالثة بالمقدمة السابقة في الزمان على ذيها.

وكان المحقق الرشتي (رحمه اللّه) لم يلتف إلى الجهتين الأوليين ، واقتصر على الأخيرة ، فأنكر على المحقق صاحب الحاشية الذي أجاب (1) عن اشكال لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم بناء على المقدمية والامر الترتبي بما ذكرنا : من أن ترك الأهم مقدمة وجوبية فلا تجب ، بما حاصله : انه لا مانع من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي ، بعد القول بالتقدير وسبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم ، لأنه لا يلزم بناء على هذا القول سبق وجوب ذي المقدمة على موطنه. وحيث إن المحقق صاحب الحاشية من القائلين بالتقدير ، فأنكر (2) عليه المحقق الرشتي : بأنه يلزمك القول بوجوب ترك الأهم مقدمة لوجود المهم ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم. وجعل المحقق الرشتي هذا هو المانع عن الامر الترتبي ، وكانه سلم ان الامر الترتبي لا مانع عنه سوى ذلك ، وتخيل ان هذا المانع مما لا دافع عنه. وأنت خبير بأنه لو انحصر المانع عن الامر الترتبي بذلك فالامر فيه هين ، لأنه أولا مبنى على التقدير الذي قد تقدم فساده بما لا مزيد عليه ، وثانيا ان المانع عن وجوب المقدمة الوجوبية لا ينحصر بالجهة الثالثة ، بل الجهتان الأوليان هما العمدة في المنع ، فترك الأهم لا يعقل ان يجب بالوجوب المقدمي ، حتى يجتمع فيه الحكمان المتضادان. فتحصل : انه لا مانع من الامر الترتبي ، حتى بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده من جهة المقدمية ، فتأمل جيدا.

ص: 391


1- راجع هداية المسترشدين - بحث الضد - في بيان الثمرة المتفرعة - على الخلاف في المسألة. « فان قلت : ان المنافاة حاصلة في المقام .. »
2- بدايع الأفكار - المقصد الأول من المقاصد الخمسة - بحث الضد ، القول في ثمرات المسألة ، اما الاشكال الخامس .. » ص 391
المسألة الرابعة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل لملازمة بين المتعلقين. والأقوى عدم جريان الامر الترتبي في ذلك ، لأنه يلزم منه طلب الحاصل. فإنه لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبار الجدي هو المأمور به الأصلي ، وأريد اثبات وجوب استقبال الجدي بالامر الترتبي عند عصيان استقبال القبلة ، لزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله. فلا يصح ان يقال : ان لم تستقبل القبلة فاستقبل الجدي لان عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجا ، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله. وان ناقشت في المثال فعليك بمثال الجهر والاخفات ، وقد تقدم الكلام عن ذلك في الامر الثاني في رد مقالة الشيخ كاشف الغطاء (1).

المسألة الخامسة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الامر الترتبي فيه أيضا ، لأنه يلزم اما طلب الممتنع ، واما طلب الحاصل. فإنه لو قال : لا تغصب وان غصبت فصل ، فالمراد من ( ان غصبت ) ان كان العزم والقصد على الغصب ، فهذا لايكون من الامر الترتبي ، لان شرط الامر الترتبي هو التلبس بالعصيان ، لا العزم على العصيان ، والا لزم الامر بالضدين على وجه المحال كما لا يخفى. وان كان المراد منه التلبس بالعصيان خارجا وفعلية الغصب منه ، فان كان المراد التلبس بالغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل بالعينية لا بالملازمة ، وان كان المراد التلبس بغير الصلاة يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في طي المباحث السابقة. (2)

فتحصل : ان الامر الترتبي لا يجرى الا في مسئلتين من مسائل التزاحم ، إحديهما مسألة الضدين ، وثانيهما مسألة المقدمة وذيها. واما فيما عدى ذلك من

ص: 392


1- راجع الامر الثاني من تنبيهات الترتب ، ص 369
2- تقدم تفصيل هذا البحث في المسألة الثانية ص 380

المسائل الثلث الآخر فلا يعقل فيها الترتب أصلا.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الثلثا تاسع عشر من شهر ربيع المولود سنة 1347.

وانا الأحقر الجاني محمد على بن حسن الكاظمي الخراساني.

ص: 393

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

وفيه مباحث : المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى لا اشكال في أن متعلقات النواهي كمتعلقات الأوامر انما هي الطبايع الكلية ، وان كان المطلوب في باب الأوامر هو وجود الطبيعة ، وفي باب النواهي هو الترك. وليس المطلوب في باب النواهي هو الكف ، بتوهم ان نفس الترك امر عدمي ، والعدم خارج عن الاختيار ، فلا يصح ان يتعلق التكليف به. وذلك لان نفس العدم الأزلي وان كان خارجا عن الاختيار الا ان ابقاء العدم واستمراره امر اختياري ، وهو المطلوب في النواهي ، وهذا لا اشكال فيه.

انما الاشكال في أن المطلوب في باب النواهي ، هل هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي؟ بحيث يتحقق عصيانه بأول وجود الطبيعة ويسقط النهى حينئذ رأسا ، أو ان المطلوب هو العام الاستغراقي الانحلالي؟ بحيث تكون جميع وجودات الطبيعة مبغوضة ويكون لكل وجود عصيان يخصه. ولا اشكال في امكان كل من الوجهين في عالم الثبوت ، بل قد ذكرنا في رسالة المشكوك ، انه يتصور وجهان آخران في باب النواهي.

أحدهما : ان يكون المطلوب هو ترك مجموع الافراد ، بمعنى ان ارتكاب جميع الافراد مبغوض ، فلا يتحقق عصيانه الا بارتكاب الجميع. كما ربما يدعى ظهور مثل قوله - لا تأكل كل رمانة في البستان - في ذلك ، فلو اكل جميع رمانات البستان الا واحدة لم يكن فاعلا للمنهي عنه.

ثانيهما : ان يكون المطلوب في النهى على نحو القضية المعدولة المحمول ، بحيث يكون المطلوب في مثل لا تشرب الخمر هو كون الشخص لا شارب الخمر ، على وجه

ص: 394

يكون وصفا للمكلف. ففي عالم الثبوت يمكن ان يكون المطلوب بالنهي على أحد وجوه أربعة. واما في مقام الاثبات والاستظهار ، فلا اشكال في أن الوجهين الأخيرين خلاف ظواهر النواهي. واما الوجهان الأولان ، فاستظهار كون المطلوب بالنهي هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي مبنى على استظهار كون المطلوب بالنهي هو خلو صفحة الوجود عن الطبيعة المنهى عنها ، بحيث يلاحظ خلو الصفحة معنى اسميا ، ويكون المبغوض هو اشتغال صفحة الوجود بالطبيعة ، فيكون مفاد النهى ح هو السلب الكلي.

ومقتضى مقابلة النهى للامر ، هو ان يكون مفاد النهى السلب الكلي ، حيث إن المطلوب في باب الأوامر هو صرف الوجود على نحو الايجاب الجزئي ، لا مطلق الوجود على نحو الايجاب الكلي ، فان ظاهر تعلق الامر بالطبيعة يقتضى ان يكون المطلوب ايجاد الطبيعة وخروجها عن كتم العدم إلى عرصة الوجود ، وذلك يتحقق بأول وجود الطبيعة ، الا ان تقوم قرينة على إرادة مطلق الوجود. والايجاب الجزئي انما يقابل السلب الكلي ، حيث إن نقيض الموجبة الجزئية هو السالبة الكلية ، هذا.

ولكن الظاهر في باب النواهي ، ان يكون النهى لأجل مبغوضية متعلقه لقيام المفسدة فيه ، لا ان المطلوب هو خلو صفحة الوجود عنه ، بل مبغوضية الطبيعة بافرادها أوجبت النهى عنها ، ومبغوضية الطبيعة تسرى إلى جميع افرادها ، فينحل النهى حسب تعدد الافراد ويكون لكل فرد معصية تخصه ، من غير فرق بين ان يكون للنهي تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تشرب الخمر ، أو ليس له تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تكذب. غايته ان الانحلال فيما إذا كان له تعلق بموضوع خارجي يكون بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق ، فيكون كل فرد من افراد الشرب الذي يمكن ان يقع الشرب عليه لكل فرد من افراد الخمر مبغوضا ومتعلقا للنهي. وفيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي يكون الانحلال في ناحية المتعلق فقط. وعلى كل حال ، لا ينبغي التأمل في أن الظاهر في باب النواهي هو ان يكون المطلوب فيها هو ترك كل فرد فرد ، على نحو العام الاستغراقي. ودلالة النهى

ص: 395

على ذلك في الافراد العرضية مما لا اشكال فيه.

واما الافراد الطولية : فدلالة النهى عليها مبنية على أن يكون نفس تعلق النهى بالطبيعة يقتضى نهى جميع الافراد العرضية والطولية ، بحيث يكون مفاد صيغة النهى في مثل قوله : لا تشرب الخمر ، هو ان يكون شرب الخمر في كل آن آن مبغوضا ، فيدل النهى على المنع في الافراد الطولية أيضا ، ويكون العموم الزماني مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة ، بلا حاجة إلى استفادة العموم الزماني من دليل الحكمة بل النهى وضعا يدل على ذلك ، ويكون مصب العموم الزماني هو المتعلق لا الحكم.

وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، في - التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب - عند تعرض الشيخ ( قده ) لمقالة المحقق الكركي (رحمه اللّه) في مفاد أوفوا بالعقود ، من أن المرجع بعد تخصيص العام في بعض الأزمنة بالنسبة إلى بعض الافراد والشك في الزمان الزائد هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص ، وبينا الفرق بين استفادة العموم الزماني من نفس مفاد النهى ، أو من دليل الحكمة. وقد اختار شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام كون العموم الزماني في باب النهى مستفادا من دليل الحكمة ، وفي ذلك المقام اختار كونه مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة. فراجع ذلك المقام لكي تكون على بصيرة.

ثم إن القوم قد تعرضوا في باب النواهي لبعض المباحث التي لا يهمنا البحث عنها. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، التي وقعت معركة الآراء قديما وحديثا فنقول : ومن اللّه التوفيق. المبحث الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي.

والقوم وان عنونوا النزاع على هذا الوجه ، الا انه ليس ظاهر العنوان مرادا قطعا ، فان ظاهر العنوان يعطى ان يكون النزاع في تضاد الأمر والنهي وعدمه ، مع أن تضاد الاحكام بأسرها امر مفروغ عنه غير قابل للنزاع فيه. بل المبحوث عنه في المقام ، هو أصل لزوم الاجتماع وعدمه ، لا جوازه وعدمه. فالأولى تبديل العنوان بان يقال : إذا اجتمع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود ، فهل يلزم من

ص: 396

الاجتماع كذلك ان يتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر؟ كما هو مقالة القائل بالامتناع ، أو لا يلزم ذلك؟ كما هو مقالة القائل بالجواز. وسيأتي ما هو المراد من الاجتماع ايجادا ووجودا.

ثم إن البحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين.

المقام الأول :

هو ما عنونا به المسألة ، من أن اجتماع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود هل يوجب ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو لمكان اطلاق كل منهما لمتعلق الآخر؟ فيمتنع صدور مثل هذا الأمر والنهي وتشريعهما معا بلحاظ حال الاجتماع ، ويكون بين الدليلين المتكفلين لذلك تعارض العموم من وجه. أو انه لا يلزم من الاجتماع المذكور تعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فلا يمتنع تشريع مثل هذا الأمر والنهي ، ولا يكون بينهما تعارض. وبعبارة أخرى : البحث في المقام الأول ، انما هو في أن جهة الأمر والنهي هل تكون تقييدية مكثرة للموضوع؟ فلا تعلق لأحدهما بالآخر ، أو ان الجهة تعليلية؟ فيتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر.

المقام الثاني :

هو انه بعد ما كانت الجهتان تقييديتين ولا يتعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ولا يكون بين الدليلين تعارض ، فهل وجود المندوحة للمكلف وتمكنه من ايجاد الصلاة خارج الدار الغصبية يجدى في رفع غائلة التزاحم بين الامر والنهى؟ ويكفي في انطباق المأمور به والمنهى عنه على الجامع وهو الصلاة في الدار الغصبية فتصح الصلاة. أو ان وجود المندوحة لا يجد في ذلك؟ ولا ينطبق المأمور به على المجمع. والبحث عن المقام الثاني هو عين البحث المتقدم مع المحقق الكركي (رحمه اللّه) من أن القدرة على الطبيعة المأمور بها في الجملة ولو في ضمن فرد ما يكفي في انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم بالأهم فيكون الاجزاء عقليا - على ما (1)

ص: 397


1- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مبحث الضد ص 312 - 313

تقدم تفصيله في بعض مقدمات الترتب - والمحقق الكركي (رحمه اللّه) وان كانت مقالته في وجود المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، الا ان جهة البحث مشتركة بين الافراد الطولية والعرضية ، حيث إن العبرة بوجود المندوحة وتمكنه من فعل ما لايكون مزاحما بالأهم منه ، سواء في ذلك الافراد الطولية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مزاحما لأداء الدين أو إزالة النجاسة ، أو الافراد العرضية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مجامعا للغصب.

وعلى كل حال : البحث عن المقام الثاني ، انما يكون بعد الفراغ عن المقام الأول كما عرفت ، إذ لا يتفاوت الحال في البحث عن المقام الأول بين وجود المندوحة وعدمه ، فان البحث في ذلك المقام يكون بحثا عن عالم التشريع والثبوت ، الذي لا يتفاوت الحال فيه بين وجود المكلف والمندوحة وعدمه ، فاعتبار المندوحة انما تنفعنا في البحث عن المقام الثاني.

ومن هنا يمكن ان يستظهر من اخذ قيد المندوحة في عنوان النزاع - كما عليه قاطبة المتقدمين - ان النزاع انما كان في المقام الثاني ، وان المقام الأول كأنه كان مفروغا عنه ، وانه لا كلام في جواز الاجتماع من الجهة الأولى. ولكن المتأخرين كأنهم أهملوا البحث عن المقام الثاني ، وخصوا النزاع بالمقام الأول. ولكن نحن نتكلم في كل من المقامين على حده.

والأقوى عندنا في المقام الأول الجواز ، وان الاتحاد لا يوجب تلعق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، وفي المقام الثاني عدم كفاية المندوحة في رفع التزاحم. ولنقدم امام المقصود مقدمات : منها ما يشترك فيها كلا المقامين ، ومنها ما تختص بالمقام الأول ، ومنها ما تختص بالمقام الثاني. اما المقدمات المشتركة.

فمنها :

ان الظاهر كون المسألة من المبادئ ، لا من المسائل الأصولية ، ولا من مسائل علم الكلام ، ولا من المسائل الفقهية.

اما عدم كونها من المسائل الكلامية والفقهية فواضح ، فلان البحث في

ص: 398

المقام ليس عن امكان الاجتماع وامتناعه ، حتى يكون البحث عن مسألة كلامية ، حيث إن علم الكلام هو المتكفل لبيان حقايق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها. وكان توهم ، كون المسألة كلامية نشأ عن ظاهر العنوان ، حيث إن ظاهره يعطى كون البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، فتخيل كون البحث راجعا إلى مسألة كلامية ، الا انه قد تقدم ان البحث في المقام راجع إلى أصل الاجتماع وعدمه ، لا إلى جوازه وامتناعه.

وكذا ليس البحث في المقام راجعا إلى صحة الصلاة في الدار الغصبية وعدم الصحة أو حرمتها وعدم الحرمة حتى تكون المسألة فقهية ، فان جهة البحث ليست ذلك ، وان كانت النتيجة تنتهي بالآخرة إلى ذلك ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة فقهية ما لم تكن الجهة المبحوث عنها مما تتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، وذلك واضح.

واما عدم كون المسألة من المسائل الأصولية ، فلان البحث فيها وان كان راجعا إلى باب الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، كالبحث عن مقدمة الواجب ، واقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده - وان كان الفرق بين المسألة وتلك المسائل ، هو ان البحث في تلك المسائل عن لازم خطاب واحد ، وفي هذه المسألة عن لازم خطابين أعني خطاب الامر وخطاب النهى - الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة أصولية ما لم تكن الكبرى المبحوث عنها بنفسها واقعة في طريق الاستنباط ، بحيث تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ويستنتج منها حكم كلي فقهي. والكبرى المبحوث عنها في المقام لا تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ، فان الكبرى المبحوث عنها انما هي اقتضاء اتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود وتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر. وهذا كما ترى يكون بحثا عن صغرى التعارض. وفي المقام الثاني أعني كفاية المندوحة يكون بحثا عن صغرى التزاحم ، فتكون المسألة من مبادئ مسائل التعارض والتزاحم. فان حقيقة البحث في المقام ، يرجع إلى البحث عما يقتضى تعارض الأمر والنهي - في مورد الاجتماع واتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود - وعدم ما يقتضى تعارضهما ، أو تزاحم

ص: 399

الأمر والنهي عند وجود المندوحة وعدم التزاحم. وهذا بحث عن وجود ما هو الموضوع لمسائل التعارض والتزاحم ، وأين هذا من المسألة الأصولية؟.

والحاصل : ان البحث عن الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، تارة : يكون بحثا عن المسألة الأصولية ، كالبحث عن مسألة الضد ومقدمة الواجب ، فان المبحوث عنه في هذه المسألة عن اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، واقتضاء ايجاب الشيء لايجاب مقدماته يكون بحثا عن كبرى قياس الاستنباط ، ويستنتج منه حكم كلي فقهي ، وهو فساد الضد إذا كان عبادة ، ووجوب مقدمة الواجب. وأخرى : لايكون البحث عن الملازمات العقلية بنفسه بحثا عن مسألة أصولية ، لعدم وقوع المبحوث عنه كبرى لقياس الاستنباط ، كما في المقام.

فان المبحوث عنه فيما نحن فيه في المقام الأول انما هو استلزام تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر عند اتحاد المتعلقين ، فيكون الأمر والنهي متعارضين ، أو عدم استلزام ذلك فلا تعارض. وثبوت التعارض وعدمه لا يقع بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التعارض من الترجيح والتخيير. وفي المقام الثاني : انما هو في كفاية وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدم كفايته ، فيكون بحثا عما يقتضى وجود التزاحم وعدمه وهو أيضا ليس بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التزاحم.

فالانصاف : ان البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية ، لرجوع البحث فيه إلى البحث عما يقتضى وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم ، وليس بحثا عن المسألة الأصولية ، ولا عن المبادئ الاحكامية التي هي عبارة عما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة ، ككون الحكم تكليفيا أو وضعيا ، وان الحكم الوضعي قابل للجعل أو غير قابل. وقد كان بناء شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) سابقا على أن البحث في المقام راجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، الا انه عدل عن ذلك وجعل البحث راجعا إلى المبادئ. والامر في ذلك سهل.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي المفاهيم والعناوين الكلية ، التي يكون

ص: 400

موطنها العقل بما ان موطنها العقل ، لامتناع انطباق تلك المفاهيم على الحقايق الخارجية ، بل هي من المعقولات الثانوية الممتنعة الصدق على الخارجيات ، فلا يعقل ان يتعلق بها التكليف. بل تلك المفاهيم انما تكون كليات عقلية ليس موطنها الا العقل ، وهي باعتبار ذلك الموطن متباينة دائما ، ليس بينها نسبة التساوي ، أو العموم من وجه ، أو العموم المطلق ، بل متعلقات التكاليف انما هي المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لحقايقها الخارجية القابلة الصدق والانطباق على الخارجيات ، التي تكون بهذا الاعتبار كليات طبيعية ، وبذلك يصح ملاحظة النسبة بينها ، فتارة : يكونان متلازمين في الصدق فيكون النسبة هي التساوي. وأخرى : لا يكونان كذلك ، فاما ان يتصادقا في مورد أصلا فالنسبة تكون هي التباين ، وأخرى يتصادقان في مورد ويفترقان في مورد آخر فالنسبة تكون هي العموم من وجه ان كان الافتراق من الجانبين ، والا فالعموم المطلق ، على ما سيأتي من ضابطة النسب الأربع. وملاحظة النسبة كذلك لايكون الا في الكليات الطبيعية الملحوظة مرآة لما في الخارج ، لا الكليات العقلية.

ثم إن المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لما تنطبق عليه من الخارجيات ، تارة : تكون متأصلة في عالم العين سواء كانت من مقولة الجواهر أو الاعراض ، وأخرى : تكون متأصلة في عالم الاعتبار ، بحيث يكون وجودها عين اعتبارها ممن بيده الاعتبار. وللامر الاعتباري نحو وجود متأصل في عالمه نحو وجود المتأصل في عالم العين ، وان كان وجود الامر الاعتباري أضعف من وجود الامر العيني ، الا ان ذلك لا يلحقه بالانتزاعيات التي ليس لها وجود الا بوجود منشأ انتزاعها ، وتكون من خارج المحمول ، بل الانتزاعي امر والاعتباري امر آخر ، وليس الاعتباري عين الانتزاعي ، وان كان ربما يطلق أحدهما على الآخر ، الا ان ذلك لا يخلو عن مسامحة. فالامر الاعتباري مقابل للامر الانتزاعي ، حيث إن للأول نحو وجود في وعاء الاعتبار وليس للثاني وجود ، بل الموجود هو منشأ الانتزاع ، سواء كان المنشأ من الأمور المتأصلة في عالم العين ، أو كان من الأمور المتأصلة في عالم الاعتبار ، فان الامر الاعتباري يصلح ان يكون منشأ لانتزاع امر ، كصلاحية الامر العيني لذلك.

ص: 401

فالعنوان الملحوظ على وجه المرآتية يكون على اقسام ثلاثة : متأصل في عالم العين ، ومتأصل في عالم الاعتبار ، ومنتزع عن أحدهما ، وهو باقسامه يصلح ان يتعلق به التكليف ، غايته ان التكليف بالانتزاعي يكون تكليفا بمنشأ الانتزاع ، إذ هو المقدور الذي تتعلق به إرادة الفاعل ، والانتزاعي انما يكون مقدورا بواسطته ، وذلك كله واضح. (1).

ومنها :

ان العناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين الجزئي لا يعقل ان يتصادقا على متحد الجهة ، فان جهة الصدق والانطباق في أحد العنوانين لا بد ان تغاير جهة الصدق والانطباق في الآخر ، والا لامتنع صدق أحدهما بدون صدق الآخر ، وكانا متلازمين في الصدق والانطباق ولم يحصل بينهما افتراق. فإنه بعد فرض وحدة الجهة يكون الموجب لانطباق أحد العنوانين على شيء هو الموجب لانطباق العنوان الآخر عليه ، فلا يعقل الافتراق من جانب أو من جانبين ، فافتراق العنوانين في الصدق والانطباق يكشف عن تعدد جهة الصدق في مورد الاجتماع ، فلا يعقل تصادق عنوانين على متحد الجهة مع فرض امكان افتراق أحد العنوانين عن الآخر ولو في الجملة ومن جانب واحد.

ولا ينتقض ذلك بالباري تعالى حيث إنه ينطبق عليه عناوين متباينة بالتباين الجزئي ، مع أنه تعالى ليس فيه تعدد جهة لكونه تعالى بسيطا كل البساطة ، ومع ذلك ينطبق عليه عنوان العالم والقادر ، مع أن بينهما العموم من وجه : وذلك لأنه لا يقاس التراب مع رب الأرباب ، فان العناوين المنطبقة عليه تعالى كلها راجعة إلى الذات ، فهو بذاته قادر ، وعالم ، وحى قيوم ، وليس العلم أو القدرة مغايرا للذات.

والحاصل : ان القياس ليس في محله ، فان مقام الباري تعالى مقام لا تصل

ص: 402


1- ولا يخفى عليك ان هذه المقدمة وما يتلوها من المقدمات ليس لها كثير ربط بالمقام الثاني ، بل ينبغي جعلها من مقدمات المقام الأول كما لا يخفى - منه.

إليه الأوهام ، ولا يمكن تعقل حقيقة انطباق تلك العناوين عليه ، فلا يصح جعل ذلك نقضا للبرهان العقلي الفطري الذي هو - عدم امكان انطباق العناوين المتباينة المفترقة في الصدق على متحد الجهة - وهذا يكفي في تصديقه نفس تصوره ، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

نعم : ينبغي بيان مناط تصادق العناوين وعدم تصادقها وانه كيف يتصادق بعض العناوين دون بعض.

فنقول : لا اشكال في أن صدق أي عنوان على أي شيء لا بد ان يكون لجهة تقتضي ذلك الصدق ، سواء كانت تلك الجهة راجعة إلى الذات كصدق الانسان على زيد ، أو إلى امر خارج عن الذات كصدق العالم عليه ، إذ لا يعقل صدق عنوان من دون ان يكون هناك جهة الصدق ، والا لصدق كل شيء على كل شيء.

ثم إن جهة صدق أحد العنوانين ، اما ان تكون متباينة مع جهة صدق العنوان الآخر ، واما ان لا تكون متباينة. وما كانت متباينة ، فاما ان يكون بينهما مضافا إلى التباين منافرة ومضادة ، واما ان لا يكونا كذلك ، بل كان بينهما مجرد المخالفة والمغايرة. والمخالفة والمغايرة ، اما ان تكون من قبيل المغايرة الجنسية والفصلية وما يلحق بذلك بحيث يكون التخلف من إحدى الجهتين دون الأخرى ، واما ان لا تكون من هذا القبيل بل كان التخلف من الجهتين. فهذه جملة ما يمكن ان يتصور عقلا في الجهات الموجبة لصدق العناوين على حقايقها الخارجية ، ولا خامس لهذه الأقسام ، فان الحصر عقلي لا استقرائي.

فان لم يكن بين الجهتين مباينة ومخالفة : فلا محالة يتلازم العنوانان في الصدق ، فان عدم التلازم يكشف عن تخلف إحدى الجهتين عن الأخرى ، مع أن المفروض عدم المخالفة بينهما ، فلا بد ان يكون بين العنوانين تلازم في الصدق ويكون العنوانان متساويين في الانطباق ، بحيث انه كلما صدق أحدهما صدق الآخر كما في الانسان والضاحك.

وان كان بين الجهتين مخالفة ومباينة : فان كان التخالف على وجه التنافر والتضاد ، كالفصول المنوعة للأجناس - حيث إن بين الفصول والصور النوعية

ص: 403

كمال المنافرة والمضادة ، لان الجنس لا يمكن ان يتحمل فصلين ويعتوره صورتان مجتمعتان - فلا محالة يكون بين العنوانين تباين كلي ، كالانسان والشجر ، حيث إن جهة صدق الانسان هي الفصل المقوم له والصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، وجهة صدق الشجر أيضا هي الفصل والصورة النوعية التي يكون بها الشجر شجرا ، وبين الصورتين كمال المنافرة والمضادة ، فلامحة يكون بين الانسان والشجر تباين كلي.

وان لم يكن بين الجهتين تنافر وتضاد ، بل كان بينهما مجرد المخالفة : فان كان التخلف من إحدى الجهتين دون الأخرى ، كما إذا كان إحدى الجهتين جهة الجنسية والأخرى جهة الفصلية - حيث إن التخلف انما يكون من جهة الفصلية لامكان تحمل الجنس فصلا آخر دون جهة الجنسية ، لعدم امكان القاء الفصل جهة الجنسية ، كما يتضح ذلك في مثل الحيوان والانسان - فلامحة يكون بين العنوانين العموم المطلق. وان كان التخلف من جانب كل من الجهتين ، فيكون بين العنوانين العموم من وجه.

ومما ذكرنا ظهر ان نسبة العموم من وجه لا يعقل ان تتحقق بين العنوانين الجوهريين ، لان جهة صدق العنوان الجوهري على شيء انما يكون باعتبار ماله من الصورة النوعية التي بها يكون الشيء شيئا ، وقد عرفت : ان الصور النوعية متباينة بالتباين الكلي لا يمكن ان يجتمعا ، نعم : جهة الجنسية والفصلية يمكن اجتماعهما. والنسبة بين الجهة الجنسية والفصلية دائما تكون العموم المطلق. فالعموم من وجه لا بد ان يكون ، اما بين الجوهري والعرضي كالانسان والأبيض ، واما بين العرضيين كالعالم والفاسق. ومعلوم : ان جهة الصدق والانطباق في العرضيين المجتمعين انما تكون هي مبدء الاشتقاق ، حيث إن المبدء هو العلة لتولد عنوان المشتق منه ، ويكون انطباق العالم على زيد من جهة علمه ، وانطباق الفاسق عليه من جهة فسقه ، فالعلة لانطباق العنوانين الذين يكون بينهما العموم من وجه ليست الا مبدء الاشتقاق ، وذلك المبدء هو الذي أوجب حدوث نسبة العموم من وجه بين العنوانين ، حيث لم يكن بين المبدئين منافرة ومضادة ، وقد تقدم في المشتق انه لا فرق بين المشتق ومبدء

ص: 404

الاشتقاق الا باللابشرطية والبشرط اللائية ، حيث إن العرض ان لوحظ لا بشرط عما يتحد معه يكون عنوانا عرضيا محمولا ، وان لوحظ بشرط لايكون عرضا مفارقا غير محمول. فالعرض هو الذي يكون عرضيا عند ملاحظته لا بشرط ، ويكون هو العلة لصدق العرضي المشتق منه على الذات فجهة الصدق في المشتقات ليست الا مبدء الاشتقاق.

ومن هنا ظهر : ان الجهتين اللتين أوجبتا صدق العنوانين العرضيين على شيء لا تكونان الا تعليليتين ، ولا تصلحان ان تكونا تقييديتين ، لما عرفت : من أن المبدء دائما يكون علة لصدق المشتق على الذات المتحدة معه ، فجهة انطباق عنوان العالم على زيد وكذا جهة انطباق الفاسق عليه تكون تعليلية ، ويقال : زيد عالم وفاسق ، لعلة علمه وفسقه. هذا بالنسبة إلى العناوين الاشتقاقية.

واما بالنسبة إلى نفس المبادئ الاشتقاقية ، فلا يعقل اتحاد بعضها مع بعض ، ولا اتحادها مع الذات القائمة بها ، فإنها من هذه الحيثية تكون بشرط لا دائما ، ولا يعقل ان تلاحظ المبادئ بعضها مع بعض لا بشرط ، إذ المبادئ كلها متباينة ، والعلم على أي وجه لوحظ يكون غير الفسق ، وكذا الفسق يكون غير العلم ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على الذات ، فلا يقال : زيد علم ولا العلم فسق.

والحاصل : ان العرض بالنسبة إلى الذات القائم بها يصح لحاظه لا بشرط فيكون عنوانا مشتقا يصح حمله على الذات المنطبق عليها ، ويصح لحاظه بشرط لا فيكون مفارقا لا يصح حمله على الذات. فصحة لحاظه لا بشرط أو بشرط لا انما يكون بالنسبة إلى الذات القائم بها ، واما بالنسبة إلى عرض آخر فدائما يكون بشرط لا ، إذ لا ربط بينهما ، لعدم قيام عرض بعرض آخر ، فلا يصح لحاظ العلم لا بشرط بالنسبة إلى الفسق ، وان صح لحاظه لا بشرط بالنسبة إلى الذات القائم بها. وح فلا يعقل الاتحاد بين المبادئ.

نعم : تختلف المبادئ من حيث امكان اجتماع بعضها مع بعض في الوجود وعدم امكانه ، لان المبادئ ان كانت مقولة الكيف ، كالعلم ، والفسق ، والحلاوة ، والبياض ، فلا يعقل اجتماع بعضها مع بعض في الوجود ، بحث يكون مبدء مجامعا

ص: 405

لمبدء آخر في الوجود ، على وجه يلتصق به ويتحد معه في الوجود بنحو من الاتحاد ، لوضوح ان مثل العلم لا يلتصق بالفسق ولا يتحد معه بوجه من الوجوه. نعم هما يجتمعان في الذات التي يقومان بها ، فيكون زيد مثلا مجمعا للعلم والفسق ، بمعنى انه وجد فيه كل من المبدئين ، ولمكان وجود المبدئين فيه انطبق عليه عنوان العالم والفاسق ، الا ان اجتماعهما في الذات غير اجتماع العلم مع الفسق على وجه الالتصاق والتركيب ، بحيث يتركب العلم مع الفسق ويكونان بمنزلة شيء واحد وما بحذاء أحدهما عين ما بحذاء الآخر ، فان ذلك امر غير معقول في مثل ذلك.

واما ان كانت من الافعال الصادرة عن الشخص - بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء لا بالمعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول من معنى الفعل - فيمكن اجتماع المبادئ بعضها مع بعض ، على وجه يكون فعل واحد مصداقا لمبدئين ، ويتركب أحدهما مع الآخر ويلتصق به ، بحيث لايكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. وذلك كما في مثل الصلاة والغصب ، حيث يمكن ان يوجدا بفعل واحد وحركة فاردة ، وتكون تلك الحركة مجمعا لكل من الصلاة والغصب ، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر ، مع ما هما عليه من المغايرة وعدم الاتحاد ، لما تقدم : من أنه لا يعقل اتحاد المبدئين وملاحظتهما لا بشرط بالنسبة إلى الآخر الذي هو ملاك الاتحاد ، كما في العناوين المشتقة ، فيكون التركيب في مثل الصلاة والغصب نظير التركيب في الهيولي والصورة.

ومنها :

ان العناوين المجتمعة تارة : تكون من العناوين الاشتقاقية ، وأخرى : تكون من المبادئ. وما تكون من المبادئ تارة : يكون اجتماعها لا على وجه الانضمام والتركيب ، بل كان ما بحذاء أحدهما خارجا غير ما بحذاء الآخر وكان كل منهما قابلا للإشارة الحسية إليه وكان اجتماعهما مجرد واجدية الموضوع لهما واجتماعهما فيه ، سواء كان ذلك من جهة تلازمهما في الوجود ، كالاستقبال والاستدبار للقبلة والجدى ، حيث إنه وان وجد كل من استقبال القبلة واستدبار الجدي في الشخص ، الا ان الاستقبال انما يكون باعتبار مقاديم البدن والاستدبار

ص: 406

باعتبار مآخيره ، وكان لكل منهما ما بحذاء غير ما بحذاء الآخر وقابلا للإشارة الخارجية إليه وان كانا متلازمين في الوجود. أو كان ذلك من جهة الاتفاق والمقارنة من دون ان يكون بينهما تلازم ، كالعلم والفسق المجتمعين في زيد ، حيث إنه وان اجتمعا في زيد ، الا انه كان لكل منهما ما بحذاء في الخارج غير ما بحذاء الآخر ، وقابل للإشارة إليه.

وأخرى : يكون اجتماعهما على جهة التركيب والانضمام والالتصاق ، وذلك كما في الصلاة والغصب وأمثال ذلك مما كان المبدء من الأفعال الاختيارية ، حيث إنه وان اجتمعا في الدار الغصبية ، الا ان اجتماعهما يكون على وجه الانضمام والتركيب بينهما ، وكان الموجود في الدار الغصبية مركبا منهما على وجه لا يمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر. هذا مع ما هما عليه من المغايرة ، بحيث لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا تكون الصلاة غصبا ولا الغصب صلاة ، لما تقدم من أن المبادئ بالقياس إلى أنفسها تكون بشرط لا ، وان كان بالقياس إلى الذات التي تقوم بها يصح لحاظها لا بشرط.

وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية ، فإنها ملحوظة لا بشرط بالنسبة إلى أنفسها وبالنسبة إلى الذات القائمة بها. ومن هنا كان التركيب فيها تركيبا اتحاديا بحيث يصح حمل كل من العنوانين على الآخر ، وحملهما على الذات ، وحمل الذات عليهما ، فيقال : زيد عالم وفاسق ، والعالم والفاسق زيد ، والعالم فاسق ، والفاسق عالم ، لمكان اتحاد الجميع بحسب الخارج. وهذا بخلاف التركيب بين المبادئ فيما إذا كان بينهما تركيب ، فان التركيب بينها يكون انضماميا ، لا اتحاديا ، لاعتبارها بشرط لا ، فلا اتحاد بينها حتى يصح حمل بعضها على بعض ، لان العرض لا يعقل ان يقوم بعرض آخر حتى يمكن فيهما الاتحاد. فالتركيب بين المبادئ يكون نظير التركيب بين المادة والصورة ، حيث إن التركيب فيهما يكون انضماميا ، لا اتحاديا ، لمكان انهما أيضا ملحوظان بشرط لا ، كالمبادئ ، وان كان بين المبادئ والصورة والهيولي فرق وهو : ان اجتماع المبادئ انما يكون في الموضوع القائمة به ، إذ لا جامع بينها سوى ذلك ، والموضوع في مثل الصلاة والغصب هو الشخص. وهذا بخلاف اجتماع المادة والصورة ،

ص: 407

فان اجتماعهما يكون باعتبار كون الهيولي مركب الصورة ومحلا لها ، وهدا لمكان ان الهيولى قوة محضة والصورة فعلية محضة ، والا فالجواهران الفعليان أيضا كالعرضيين لا يعقل ان يقوم أحدهما بالآخر. وعلى كل حال : جهة تشبيه اجتماع المبادئ باجتماع الهيولي والصورة في مجرد كون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، كما أن التركيب بين العناوين المشتقة نظير التركيب بين الجنس والفصل من حيث كونه اتحاديا ، حيث إن الجنس والفصل أيضا ملحوظان لا بشرط كالعناوين المشتقة.

ومنها : ان التركيب الاتحادي يقتضى ان تكون جهة الصدق الانطباق فيه تعليلية ، ولا يعقل ان تكون تقييدية ، لان الجهة لا تكون مكثرة للموضوع ، فانا قد فرضنا كون التركيب اتحاديا ، ومع التركيب الاتحادي لا تكثر لوحدة الموضوع.

وبالجملة : علم زيد وفسقه لا يوجب ان يكون زيد العالم غير زيد الفاسق ، بل هو هو ، وانما يكون العلم والفسق علة لانطباق العالم والفاسق عليه. وهذا بخلاف التركيب الانضمامي فان الجهة فيه تكون تقييدية ولا تصلح ان تكون تعليلية ، لأنا قد فرضنا عدم الاتحاد بين العنوانين. والجهتان في التركيب الانضمامي هما عبارة عن نفس العنوانين المجتمعين ، وليس هناك عنوان آخر حتى يصح كون الجهة تعليلية.

وبالجملة : لازم عدم اتحاد العنوانين هو كون الجهة تقييدية ، والمراد من التقييد في المقام غير التقييد المراد منه في باب المطلق ، بمعنى ان التقييد في باب المطلق انما يرد على الماهية الجنسية أو النوعية ، ويوجب تضييق دائرة الماهية ، ويجعلها منقسمة إلى نوعين أو صنفين. والتقييد في المقام انما يرد على الشخص ، ويوجب اندراج الشخص تحت نوعين أو صنفين باعتبار الجهتين اللتين هما فيه. ففي مثل الصلاة في الدار الغصبية التي اجتمع فيها عنوان الغصب وعنوان الصلاة تكون كل من الجهتين اللتين هما عبارة عن الصلاة والغصب مقيدة لذلك الموجود في الدار وموجبة لاندراجه تحت نوعين ، أي مقولتين ، على ما سيأتي بيانه.

فظهر : ان هذه المقدمات الثلث الأخيرة كلها متلازمة ، وترتضع من ثدي

ص: 408

واحد ، فان لازم كون العنوانين ملحوظين على وجه اللابشرطية ، هوان يكون التركيب بينهما اتحاديا وكون الجهتين تعليليتين ، كالعالم ، والفاسق ، والمصلى ، والغاصب. ولازم لحاظها بشرط لا كون التركيب بينهما انضماميا وكون الجهتين تقييديتين ، كالصلاة والغصب ، وما شابه ذلك من المبادئ التي أمكن التركيب بينها ، لا مثل العلم والفسق الذين ليس بينهما تركيب.

فان قلت :

انه بناء على هذا يلزم ان لايكون بين المبادئ نسبة العموم من وجه ، لان ضابط العموم من وجه هو تصادق العنوانين على جهة الاتحاد الموجب لصحة الحمل ، فمثل الصلاة والغصب ينبغي ان لا تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، لعدم الاتحاد المصحح لحمل أحدهما على الآخر.

قلت :

لا يختص العموم من وجه بصورة تصادق العنوانين على جهة الاتحاد ، بل ضابط العموم من وجه هو تصادق العنوانين على جهة التركيب ، سواء كان التركيب اتحاديا أو انضماميا. مع أنه ليس كلامنا في المقام في التسمية والاصطلاح ، بل كلامنا في المقام فيما يمكن في العناوين وبيان أنحاء تصادقها عقلا ، واما التسمية فهي بيدك ما شئت فسم. والغرض في المقام : الفرق بين تصادق مثل العالم والفاسق ، وتصادق مثل الصلاة والغصب. والذي يدل على أن التصادق في مثل العالم والفاسق يكون على وجه التركيب الاتحادي وفي مثل الصلاة والغصب يكون على وجه الانضمام ، هو ان العناوين الاشتقاقية ليس الموجود منها في مادة الافتراق هو تمام ما هو الموجود في مادة الاجتماع ، بل الموجود في مادة الافتراق نفس الجهة وتبدل تلك الذات التي كان العنوانان قائمين بها بذات أخرى ، حيث إن الذي يكون عالما هو بكر ، والذي يكون فاسقا هو عمرو ، والذي يكون عالما وفاسقا هو زيد ، فهناك ذوات ثلث بحسب مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، ولا يكون تمام ما هو مناط الصدق في مادة الاجتماع من المبدء والذات محفوظا في مادة الافتراق. وهذا بخلاف مثل الصلاة والغصب ، فان تمام ما هو مناط صدق الصلاة بهويتا و

ص: 409

حقيقتها محفوظ في مادة الافتراق ، من دون نقصان شيء أصلا ، وكذا في مادة الافتراق في جانب الغصب. ولو كان التركيب في مثل الصلاة والغصب اتحاديا وكانت الجهة تعليلية ، لكان ينبغي ان يكون مثل العناوين الاشتقاقية موجبا لان لايكون في مادة الافتراق الصلاة بتمامها محفوظة ، كما لا يخفى.

ومنها :

ان مورد البحث انما هو فيما إذا كان بين العنوانين العموم من وجه ، فان في العموم المطلق يلزم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ان لم نقل بالتخصيص ، وان قلنا بالتخصيص فلا اجتماع ، فلو قال ( صل ولا تغصب بالصلاة ) كان الفرد من الصلاة الجامع للغصب خارجا من اطلاق الامر بالصلاة ، والا لزم ان يكون فعلا موردا لحكمين متضادين.

فما ذكره (1) في الفصول وغيره من جريان البحث في العموم المطلق فمما لا وجه له ، بل لابد ان تكون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وذلك أيضا ليس على اطلاقه ، بل لابد ان تكون نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف بإرادة واختيار الذين تعلق بهما الطلب الأمري والنهيي ، كما في مثل الصلاة والغصب.

وأما إذا كانت النسبة بين الموضوعين - كما في العالم والفاسق في مثل قوله : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق - فهو خارج عن محل البحث ، وان توهم أيضا دخوله فيه ، الا انه لا ينبغي التأمل في خروجه لما عرفت : من أن التركيب في مثل ذلك يكون على جهة الاتحاد ، ويكون متعلق الامر بعينه هو متعلق النهى ، من غير فرق بين العام الأصولي ، أو الاطلاق الشمولي ، أو الاطلاق البدلي ، أو بالاختلاف ، فإنه

ص: 410


1- قال في الفصول : « ثم لافرق في موضع النزاع بين ان يكون بين الجهتين عموم من وجه كالصلاة والغصب ، وبين ان يكون بينهما عموم مطلق مع عموم المأمور به ، كما لو امره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص فتحرك إليه ، فان الحركة والتداني طبيعتان متخالفتان ، وقد أوجدهما في فرد واحد والأولى منها أعم ... » راجع الفصول ، بحث الاجتماع ، في تحرير محل النزاع ، ص 126

في الجميع ينبغي اعمال قواعد التعارض. وليس من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بل مسألة الاجتماع انما تكون فيما إذا كانت النسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين من المكلف بإرادة واختيار ، بحيث يجتمع الفعلان بتأثير واحد وإيجاد فارد.

ومن ذلك ينقد ح أيضا انه ليس من ( مسألة الاجتماع ) ما إذا كانت النسبة بين العناوين المتولدة من الفعل الصادر عن المكلف ، كما إذا كان للفعل عنوانان توليديان تكون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، كما لو أكرم العالم المأمور باكرامه والفاسق المنهى عنه بفعل واحد تولد منه كل من الاكرامين ، كما لو قام بقصد التعظيم لكل من العالم والفاسق ، فان تعظيم كل منهما وان اجتمعا بتأثير واحد ، وكان اجتماع التعظيمين على وجه التركيب الانضمامي ، لا الاتحادي - فان تعظيم زيد غير تعظيم عمرو ، وكل منهما يكون بالإضافة إلى الآخر بشرط لا ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر - الا انه لما كان التعظيمان من المسببات التوليدية التي لم تتعلق إرادة المكلف بها أولا وبالذات ، لكونها غير مقدورة له بلا واسطة ، فلا جرم يكون متعلق التكليف هو السبب الذي يتولد منه ذلك ، لا بما هو هو ، بل بما انه معنون بعنوان التعظيم - على ما تقدم تفصيله في بعض المباحث السابقة - والمفروض ان السبب هو فعل واحد بالحقيقة والهوية ، ويكون العنوان المتولد منه بمنزلة العلة غير موجب لتكثر السبب ، بل العنوانان التوليديان يكونان من قبيل العلم والفسق القائمين بزيد ، من حيث إنهما لا يوجبان تكثرا في الذات ، بل الوحدة فيها محفوظة والجهتان تعليليتان. وباب العناوين التوليدية بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن تعدد العناوين لا يوجب تعدد المعنون ، والمفروض ان المعنون هو الفعل الاختياري الذي تعلق به الطلب ، فيجتمع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ، ولابد حينئذ من اعمال قواعد التعارض ، ولا يكون من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فتأمل. (1) .

ص: 411


1- سيأتي في بعض الأمور اللاحقة ان ذلك على اطلاقه ممنوع ، بل بعض العناوين التوليدية تندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي منه.

ولا يتوهم : ان الصلاة والغصب في الدار الغصبية يكونان كذلك ، أي يكون الغصب من العناوين التوليدية ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة ان الغصب الذي هو عبارة عن التصرف في ارض الغير بنفسه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلف أولا وبالذات ، وليس من العناوين التوليدية ، مع أن المناقشة في المثال ليس بسديد. فان لم يعجبك مثال الصلاة والغصب لمسألة الاجتماع - مع أنه من أوضح أمثلتها - فعليك بمثال آخر ، لان المثال ليس بعزيز.

والمقصود هو : ان مسألة الاجتماع ، انما تكون فيما إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف أولا وبالذات ، لا بين العناوين المتولدة عن الفعل ، ولا بين الموضوعين ، كالعالم والفاسق. بل نفس كون النسبة بين الفعلين العموم من وجه لا يكفي ما لم يكن التركيب بينهما على جهة الانضمام ، والا فربما تكون النسبة كذلك مع كون التركيب اتحاديا ، كما في مثل قوله : أنفق على أقاربك ، أو اشرب الماء ، ولا تغصب ، فان التركيب في مورد الاجتماع من شرب الماء المغصوب أو انفاق الدرهم المغصوب يكون على وجه الاتحاد ، فان الفرد من الماء الذي يشربه مصداق لكل من الشرب والغصب ، ويكون نفس شرب الماء غصبا ، فيتحد متعلق الأمر والنهي ، ولابد في مثل ذلك من اعمال قواعد التعارض ، وليس من مسألة اجتماع الأمر والنهي.

والسر في ذلك : هوان كلا من الأمر والنهي تعلق بموضوع خارجي ، ويكون الاتحاد من جهة هذا التعلق ، حيث إن المأمور به هو شرب الماء ، والمنهى عنه هو التصرف في مال الغير الذي من جملة افراده الماء الذي يكون من جملة افراد المأمور به ، فيتحد المتعلقان. نعم : الشرب من حيث كونه شربا وفعلا اختياريا للمكلف مع قطع النظر من متعلقه لا يتحد مع القصد. ومن هنا لو شرب الماء المباح في ارض الغير كان من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا يشتبه عليك الامر ، فتأمل جيدا.

ومنها :

انه بعد ما ظهر من أن التركيب بين المبادئ لايكون الا على وجه

ص: 412

الانضمام ، ولا يمكن ان يكون على وجه الاتحاد - حيث إن المبادئ دائما تكون بشرط لا بالنسبة إلى أنفسها ، أي بعضها مع بعض - فربما بتوهم في مثل الصلاة والغضب : ان الصلاة وان كانت بشرط لا بالنسبة إلى الغصب وكذا الغصب بالنسبة إلى الصلاة ، الا ان كلا من الصلاة والغصب يكون لا بشرط بالنسبة إلى الحركة الموجودة في الدار المغصوبة ، ويتحد كل من الصلاة والغصب في تلك الحركة وتكون تلك الحركة صلاة وغصبا ، فيعود اجتماع تعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، لان تلك الحركة حركة واحدة بالهوية ، وينطبق عليها كل من الصلاة والغصب ، كانطباق العالم والفاسق على زيد ، من غير فرق بينهما ، سوى ان كلا من العالم والفاسق يكون لا بشرط بالنسبة إلى الآخر ، ولا بشرط بالنسبة إلى زيد. واما في مثل الصلاة والغصب ، فاللابشرطية انما تكون بالنسبة إلى الحركة التي تقوم بها كل من الصلاة والغصب فقط ، ولكن النتيجة واحدة ، وهي استلزام اتحاد متعلق الأمر والنهي وتواردهما على واحد شخصي وهو المعنون بعنوان الصلاة والغصب ، والموجه بذلك هو الحركة الشخصية. فالمقدمات السابقة كلها تكون عقيمة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد التوهم ، لوضوح ان الغصب لا يعقل ان يكون قائما بالحركة ، فان الحركة لا تكون موضوعا للصلاة والغصب ، لان موضوعيتها لذلك اما ان يكون من قبيل موضوعية الجنس للفصل والمادة للصورة ، واما ان يكون من قبيل موضوعية المعروض لعرضه ، وكل منهما لا يعقل ، لان الجنس لا يعقل ان يتحمل فصلين ، والعرض لا يعقل ان يقوم بعرض ، مع أن الحركة في كل مقولة تكون عين تلك المقولة ، وليست هي مقولة مستقلة ، مع أن الاعراض بسيطة ليست مركبة وكان ما به الامتيار فيها عين ما به الاشتراك ، فلا يعقل ان يكون الغصب قائما بالحركة. الا ان يدعى ان الغصب من العناوين التوليدية ، وهو بمراحل عن الواقع ، بل الغصب هو بنفسه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلف بلا واسطة. وليس الغصب من مقولة الفعل باصطلاح أهل المعقول ، بل الغصب انما يكون من مقولة الأين ، وليس الغصب الا عبارة عن شاغلية الشخص للمكان ، فهو قائم بالشخص ، ويكون الغصب عبارة عن الكون الصلواتي الذي هو عبارة عن شاغلية

ص: 413

المكان ، وأين هذا من قيام الغصب بالحركة واتحاده معها؟ فليست الحركة معنونة بعنوان الغصب وموجهة به ، وليس اجتماع الصلاة والغصب من قبيل اجتماع العناوين في المعنونات والجهات في الموجهات ، بل ليس هناك الا نفس العنوانين والجهتين ، من دون ان يكون هناك معنون وموجه يكون الغصب والصلاة قائمين به ، والغصب والصلاة انما يكونان قائمين بالشخص ، ويكون هو الموضوع ، نظير قيام العلم والفسق بزيد ، وان كان بينهما فرق من حيث عدم التركيب في مثل العلم والفسق ، بخلاف الصلاة والغصب ، على ما تقدم تفصيله.

فان قلت :

ان التركيب بين الصلاة والغصب على أي وجه يكون ، بعد ما لم يكن هناك جامع بينهما وكانا متباينين بالهوية والحقيقة وليسا من مقولة واحدة ، فمن أين جاء التركيب بينهما؟ وليس تركيبهما نحو تركيب المادة والصورة ، فان التركيب هناك لمكان ان المادة صرف القوة وفعليتها تكون بالصورة ، وفي المقام كل من الصلاة والغصب يكون فعليا.

قلت :

التركيب في المقام انما يكون لأجل تشخص كل من الصلاة والغصب بالآخر ويجرى كل منهما بالنسبة إلى الآخر مجرى المشخص ، فتكون الصلاة متشخصة بالغصب ، ويكون الغصب متشخصا بالصلاة. ومن المعلوم : ان كل طبيعي يوجد في الخارج لابد ان يكون محفوفا بمشخصات عديدة من مقولات متعددة ، وكل واحد من تلك المشخصات لابد ان يكون مندرجا تحت عنوان كلي ، ويكون من أحد مصاديقه. مثلا المشخص المكاني مندرج تحت مقولة الأين ، والمشخص الزماني مندرج تحت مقولة متى ، وغير ذلك من المشخصات. والمشخصات ، تارة : تكون ملتفتا إليها ، وأخرى : تكون مغفولا عنها ، ولكن مع ذلك لا محيص من وقوع الطبيعي محفوفا بمشخص. ففي المقام تكون كل من طبيعة الصلاة والغصب ، متشخصة بالأخرى ، أي يكون وجود كل من الصلاة والغصب مشخصا للآخر ، والتشخص بذلك يكون في رتبة وجودهما ، ويكون من المشخص للصلاة هو الفرد

ص: 414

الغصبي ، وبالعكس.

ومنها :

ان العناوين المجتمعة في فعل المكلف وما هو الصادر عنه بايجاد واحد لا تخلو : اما ان تكون من العناوين القابلة للحمل مستقلا والمتأصلة في الصدق ، كالصلاة والغصب ، حيث إن كلا من الصلاة والغصب قابل للحمل على فعل المكلف ، ويكون هو الصادر عنه ابتداء ، وليسم مثل هذه العناوين بالمقولات المستقلة ، وتسميتها بذلك لا ينافي كونها من المقولات النسبية التي لا تكون مستقلة في التعقل ، كالكم والكيف ، حيث إنهما مستقلان في التعقل ، من دون توقف تعقلهما على تعقل امر آخر ، بخلاف ما عداهما من المقولات النسبية ، حيث إن تعقلها يتوقف على تعقل المنتسبين ، ولكن عدم استقلالها في التعقل لا ينافي استقلالها في الحمل والصدق على ما هو الصادر من الشخص ابتداء ، كما لا يخفى.

واما ان لا تكون من العناوين المستقلة ، بمعنى انها لا تكون هي الصادرة عن المكلف ابتداء ، بل كانت من متعلقات الفعل ومتمماته ، كالإضافات اللاحقة لفعل المكلف : من الظرفية ، والابتدائية ، والانتهائية ، كما تقول : ضرب زيد في الدار ، وسير زيد من البصرة ، وانتهائه إلى الكوفة ، وكون اكله استعمالا لآنية الذهب والفضة ، وغير ذلك من المتعلقات مما يكون الظرف فيها لغوا ، حيث إنه في ظرف اللغو دائما يكون من اجتماع المقولتين ، غايته ان إحدى المقولتين تكون من متعلقات الأخرى ومتمماتها ، بخلاف الظرف المستقر ، حيث إنه ليس فيه الا مقولة واحدة ، كقولك : زيد في الدار ، بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، حيث إنه اجتمع فيه عنوانان أحدهما : الضرب ، والآخر : اضافته إلى الدار ، وكما في الاكل من آنية الذهب والفضة ، حيث إنه اجتمع فيه أيضا الاكل والاستعمال ، وليس الاكل عين الاستعمال ، بل هناك مقولتان مجتمعتان ، غايته ان إحداهما تكون من متممات الأخرى ، لان الاستعمال لايكون الا بإضافته إلى الاكل أو الشرب أو غير ذلك من وجوه الاستعمالات.

وهناك قسم آخر من العناوين المجتمعة ، وهو اجتماع العناوين التوليدية

ص: 415

مع أسبابها. ونحن سابقا وان قلنا بخروجها عن محل الكلام ، الا ان الأقوى دخولها في محل البحث في غير العناوين القصدية ، كالتعظيم والتوهين ، فلو كان الالقاء مثلا مأمورا به والاحراق منهيا عنه ، فالقى المكلف ما امر بالقائه في النار فيكون من اجتماع الأمر والنهي ، لان الالقاء بنفسه لايكون احراقا ، والا كان كل القاء احراقا ، بل الالقاء انما يكون احراقا باعتبار اضافته إلى النار ، فيكون من اجتماع المقولتين لا محالة. وكذا الحال لو فرض ان هناك عنوانين توليديين لسبب واحد ، فان السبب الواحد لا يعقل ان يتولد منه عنوانان ، الا ان يكون فيه جهتان من الإضافة ، فيتعدد السبب حسب تعدد الجهة ، وتكون الجهة تقييدية لا محالة ، على ما تقدم من الضابط. وعلى كل حال : جميع هذه الأقسام الثلاثة من اجتماع العنوانين يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا تغفل وتأمل جيدا.

ومنها : انهم قد بنوا المسألة على كون متعلقات الاحكام ، هل هي الطبايع أو الافراد؟ وقد أنكر بعض الاعلام هذا الابتناء ، وأفاد انه لا يفترق الحال في الجواز والامتناع ، بين ان نقول بتعلق الاحكام بالطبايع ، أو الافراد ، هذا.

ولكن الحق : هو ان يقال : انه يختلف الحال في ذلك على بعض وجوه تحرير النزاع في مسألة تعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد ، ولا يختلف الحال على بعض الوجوه الآخر.

وتفصيل ذلك : هو ان النزاع في كون متعلقات الاحكام الطبايع أو الافراد يمكن ان يكون مبنيا على وجود الطبيعي وعدمه ، وان القائل بتعلق الاحكام بالافراد مبناه على عدم وجود الكلي الطبيعي وانه انتزاعي صرف ، بخلاف القائل بتعلق الاحكام بالطبايع ، فإنه يقول بوجود الكلي الطبيعي ، وعلى هذا لا تبتنى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على ذلك ، بل إن للبحث عن المسألة مجالا ، سواء قلنا بوجود الكلي الطبيعي ، أو لم نقل ، غايته انه بناء على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلق للأحكام هو منشأ الانتزاع ، ويجرى فيه ما يجرى على القول بوجود الطبيعي : من كون الجهة تقييدية أو تعليلية ، وان التركيب اتحادي أو انضمامي ، لوضوح ان انتزاع الصلاة لابد ان يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب ، هذا.

ص: 416

ولكن يبعد ان يكون النزاع بتعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد مبنيا على وجود الطبيعي وعدمه ، إذا لظاهر ان من يقول بتعلق الاحكام بالافراد ، لا ينكر وجود الطبيعي. فلا بد ان يرجع نزاعهم في ذلك إلى امر آخر. ومعلوم : انه ليس المراد من تعلق الاحكام بالافراد تعلقها بالافراد الشخصية ، لاستلزام ذلك طلب الحاصل حيث إن فردية الفرد انما يكون بالتشخص ، والتشخص يساوق الوجود.

ولا يمكن أيضا ان يكون مراد القائل بتعلق الاحكام بالافراد ، تعلقها بها على وجه يكون التخيير بينها شرعيا ، بحيث تكون الخصوصيات الشخصية مطلوبة على البدل ، فيكون قوله ( صل ) بمنزلة قوله : صل في هذا المكان أو في ذلك المكان ، وفي هذا الزمان أو ذلك الزمان ، وهكذا. بحيث يكون قوله ( صل ) بمنزلة الف ( صل ) فان سد باب التخيير العقلي بمكان من الفساد.

فالذي يمكن ان يكون محل النزاع على وجه يرجع إلى امر معقول : هو ان يكون النزاع في سراية الامر بالطبيعة إلى الامر بالخصوصيات ولو على النحو الكلي ، أي خصوصية ما ، بحيث تكون الخصوصية داخلة تحت الطلب تبعا ، نظير تعلق الإرادة التبعية بالمقدمة وان لم يكن من ذلك. فالقائل بتعلق الاحكام بالافراد يدعى السراية والتبعية ، القائل بتعلق الاحكام بالطبايع يدعى عدم السراية وان المأمور به هو الطبيعة المعراة عن كل خصوصية ، أي الساذجة الغير الملحوظ معها خصوصية أصلا ، ولا يسرى الامر إلى الخصوصيات بوجه من الوجوه. فلو كان النزاع في تعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد على هذا الوجه ، فالحق ان مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتنى على ذلك ، وتكون من مقدمات المسألة ، فإنه بعد ما عرفت : من أن كلا من متعلق الأمر والنهي يجرى بالنسبة إلى الآخر مجرى المشخص ، لو قيل بتعلق الاحكام بالافراد بالمعنى المتقدم من سراية الامر إلى الخصوصية ولو تبعا ، فلا مجال للنزاع في جواز الاجتماع ، لأنه يلزم ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو بالتبعية ، فيمتنع الاجتماع ، ولو قلنا بتعلق الاحكام بالطبايع ، من دون ان يسرى الامر إلى الخصوصيات كان للنزاع مجال ، من جهة وجود المتعلقين بتأثير واحد. فظهر : ان منع ابتناء المسألة على تلك المسألة باطلاقه لا يستقيم.

ص: 417

نعم : ابتناء المسألة على مسألة أصالة الوجود أو الماهية مما لاوجه له ، فإنه لا يفرق الحال فيما نحن فيه ، بين ان نقول : بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهية ، فإنه حتى على القول بأصالة الوجود يجرى النزاع ، من جهة دعوى اتحاد وجود المتعلقين أو عدم اتحاده ، وان لكل منهما حظا من الوجود يخصه لأربط له بالآخر ، وان كان المترائي وجودا واحدا بالعدد ، الا انه في الحقيقة وجودان منضمان ، فلا ربط للمسألة بمسألة أصالة الوجود أو الماهية.

كما أن ابتناء المسألة ، على كون كل من الدليلين متكفلا للمناط والمصلحة التي أوجبت الامر والمفسدة التي أوجبت النهى مما لاوجه له ، فان البحث في المقام لا يتوقف على المناط والمصلحة والمفسدة ، حيث إن البحث يجرى ولو قلنا بمقالة الأشاعرة وأنكرنا المصالح والمفاسد ، بل الذي يتوقف عليه البحث في المقام ، هو ان يكون الموجود في مورد الاجتماع تمام ما هو موضوع الامر وتمام ما هو موضوع النهى ، من دون ان يكون أحدهما فاقدا لقيد اعتبر فيه. فراجع ما ذكره في الكفاية في هذا المقام وما وقع منه من الخلط والاشتباه وتقسيمه الحكم إلى : اقتضائي ، وانشائي ، وفعلي ، وتصويره كون الحكم انشائيا بعد تحقق موضوعه. فان ذلك كله لا نعقله. وتقدم منا في بحث الواجب المشروط : المعنى الصحيح للانشاء والفعلية ، فراجع (1) ولعله يأتي أيضا ما يتعلق بمراتب الاحكام وفسادها في بعض المباحث.

إذا عرفت ما مهدناه لك من المقدمات فاعلم : ان المسألة ذات أقوال : ثالثها : التفصيل بالامتناع عرفا والجواز عقلا.

ورابعها : التفصيل بين الأوامر النفسية فالامتناع ، والأوامر الغيرية فالجواز. وقد استدل لكل من الجواز والامتناع بوجوه ، لا بأس أولا بالإشارة إلى جملة منها وبيان ما فيها من الخلل ثم نذكر ما عندنا من الوجه الصحيح ، فنقول : قد استدل للجواز بوجوه :

ص: 418


1- راجع الجزء الأول ، مباحث تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الجهة الثانية من الامر الأول ص 174

منها : ما افاده المحقق القمي ( قده ) : من أن متعلقات الأوامر والنواهي هي الطبايع ، والفرد انما يكون مقدمة لوجودها ، فالفرد من الصلاة الموجود في الدار الغصبية انما يكون مقدمة لوجود الطبيعة المأمور بها ، ومقدمة الواجب ليست واجبة ، فلم يجتمع هناك الوجوب والحرمة. ولو قيل : بوجوب المقدمة ، فوجوبها يكون غيريا تبعيا ، ولا مانع من اجتماع الوجوب الغيري مع النهى النفسي ، وانما المانع هو اجتماع الوجوب النفسي مع النهى النفسي ، على ما صرح به في مبحث مقدمة الواجب (1) هذا.

ص: 419


1- قوانين الأصول ، بحث الاجتماع ، الوجه الأول من الوجوه التي استدل بها لجواز الاجتماع ، ص 77. واليك نص ما افاده في المقام : « ان الحكم انما تعلق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه ، فمتعلق الامر طبيعة الصلاة ومتعلق النهى طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما المكلف بسوء اختياره في شخص واحد ولا يرد من ذلك قبح على الآمر لتغاير متعلق المتضادين ، فلا يلزم التكليف بالمتضادين ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة. فان قلت : الكلي لا وجود له الا بالفرد ، فالمراد بالتكليف بالكي هو ايجاد الفرد وان كان متعلقا بالكلي على الظاهر ، وما لا يمكن وجوده في الخارج يقبح التكليف بايجاده في الخارج. قلت : ان أردت عدم امكان الوجود في الخارج بشرط لا فهو مسلم ولا كلام لنا فيه ، وان أردت استحالة وجوده لا بشرط فهو باطل جزما ، لان وجود الكلي لا بشرط لا ينافي وجوده مع الف شرط فإذا تمكن من اتيانه في ضمن فرد فقد تمكن من اتيانه لا بشرط ، غاية الامر توقف حصوله في الخارج على وجود الفرد والممكن بالواسطة لا يخرج عن الامكان وان كان ممتنعا بدون الواسطة وهذا كلام سار في جميع الواجبات بالنسبة إلى المقدمات ، فالفرد هنا مقدمة لتحقق الكلي في الخارج فلا غاية في التكليف به مع التمكن عن المقدمات. فان قلت : سلمنا ذلك ، لكن نقل ان الامر بالمقدمة اللازم من الامر بالكلي على ما بنيت عليه الامر يكفينا ، فان الامر بالصلاة امر بالكون ، والامر بالكون امر بهذا الكون الخاص الذي هو مقدمة الكون الذي هو جزء الصلاة ، فهدا لكون الخاص مأمور به وهو بعينه منهي عنه لأنه فرد من الغصب ، والنهى عن الطبيعة يستلزم النهى عن جميع افراده ولو كان ذلك أيضا من باب مقدمة الامتثال بمقتضى النهى فان مقدمة الحرام حرام أيضا فعاد المحذور وهو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي. قلت : نمنع أولا وجوب المقدمة ، ثم نسلم وجوبه التبعي الذي بيناه في موضعه ولكن غاية الامر حينئذ توقف الصلاة على فرد ما من الكون ، لا الكون الخاص الجزئي وانما اختار المكلف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرم ». وقد بين في المقدمة السابعة من المقدمات التي مهدها لتحقيق وجوب مقدمة الواجب ، في مبحث المقدمة ،ص 49. « واما الوجوب المذكور أي وجوب المقدمة فلما كان هو أيضا تبعيا كاصل الخطاب به بمعنى انه لازم لأجل التوصل إلى ذي المقدمة ، وحكمه حكم الخطابات الأصلية التوصلية كانقاذ الغريق واطفاء الحريق وغسل الثوب النجس للصلاة ، فلم يحكم بكونه واجبا أصليا ولم يثبت له احكام الواجب الأصلي الذاتي ، فلا عقاب عليه لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي كما سنشير إليه ، ويجتمع مع الحرام لأجل كونه توصليا نظير الانقاذ والغسل الواجبين لاستخلاص النفس المحترمة والصلاة في الثوب الطاهر ولذلك يحصل المطلوب بالحرام أيضا ، بل بفعل الغير أيضا .. »

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا : فلان الفرد لايكون مقدمة لوجود الطبيعي ، بل هو عينه خارجا. ولو قيل : ان المحقق لم يدع مقدمية الفرد للطبيعة مطلقا ، بل ادعى ذلك في طرف الامر فقط ، بقرينة قوله ( انه بناء على وجوب المقدمة يلزم اجتماع الامر الغيري مع النهى النفسي ) فلو كان مدعاه مقدمية الفرد مطلقا ، لكان في طرف النهى أيضا نهى غيري ، فمن ذلك يعلم : ان ما قاله من المقدمية مقصور على طرف الامر ، وحينئذ لابد ان يكون مراده من الامر خصوص الامر المطلوب منه صرف الوجود ، لا الامر الانحلالي ، لأنه لافرق بين الأوامر الانحلالية والنواهي الانحلالية من حيث عدم مقدمية الفرد للطبيعة. والذي يمكن ، هو الفرق بين الأوامر المطلوب منها صرف الوجود ، كالصلاة ، وبين الأوامر والنواهي الانحلالية ، حيث إنه تصح دعوى كون الفرد مقدمة لتحقق صرف الوجود ، بحيث يكون الفرد من المحصلات والمحققات لصرف الوجود.

ففيه : ان ذلك وان كان توجيها لكلامه ، الا انه مع ذلك لا يستقيم ، بداهة ان الفرد في صرف الوجود أيضا لم يكن مقدمة ، بل هو عينه. نعم : لو قلنا بعدم وجود الكلي الطبيعي وانه انتزاعي صرف ، كان الفرد مقدمة لانتزاعه ، كما هو الشأن في جميع الأمور الانتزاعية ، حيث يكون منشأ الانتزاع مقدمة لانتزاعها ، ولكن لا المحقق قائل بعدم وجود الطبيعي ، ولا يمكن القول به. فدعوى مقدمية الفرد مما لا أساس لها مطلقا.

ص: 420

واما ثانيا : فلان دعوى عدم وجوب المقدمة مما يكذبها الوجدان ، ولا يمكن القول به ، كما تقدم في بحث مقدمة (1) الواجب.

واما ثالثا : فلان دعوى : ان الممنوع هو اجتماع الوجوب النفسي مع النهى النفسي لا الوجوب الغيري ، فمما لا شاهد عليها ، ضرورة انه لافرق بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري بعد ما كان مطلق الوجوب مضادا من حيث الاقتضاء للحرمة ، حيث إن الوجوب يقتضى البعث ، والحرمة تقتضي الزجر ، والتدافع بين الاقتضائين مما لا يخفى. نعم : لو سقط أحدهما عن اقتضائه أمكن الاجتماع ، وذلك لايكون الا بالامر الترتبي ، كما تقدم في مسألة المقدمة المحرمة.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي الموجودات الخارجية ، بل الصور الذهنية ، والصور الذهنية متباينة لا اتحاد بينها.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاستدلال بظاهره في غاية الفساد ، لوضوح ان الصور الذهنية ، بما هي صور ذهنية ، لا يعقل ان يتعلق بها الطلب والتكليف ، لأنها كليات عقلية غير منطبقة على الخارجيات ، ولا تحمل عليها ، كما تقدم في المقدمات ، بل الصور الذهنية انما تتعلق بها التكاليف بلحاظ المرآتية لما في خارج ، والاتحاد والاجتماع بين المتعلقات انما يكون بهذا اللحاظ.

ومنها :

ان الاجتماع انما يكون مأموريا لا آمريا ، بمعنى ان المأمور جمع بين متعلق الامر ومتعلق النهى بسوء اختياره ، والآمر لم يجمع بين المتعلقين في امره ، حيث إن الآمر اخذ متعلق الامر أمرا مباينا لمتعلق النهى ، وكان أحدهما الصلاة والآخر الغصب ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

وهذا الوجه كسابقه في وضوح فساده ، فان المأمور انما جمع في مقام الامتثال ، ولا بد ان يكون الامتثال على طبق المأمور به ، فلو لم يجمع الآمر بين المتعلقين

ص: 421


1- راجع مباحث مقدمة الواجب ، بيان وجوب المقدمة ص 284

ولو بالاطلاق الشمولي أو البدلي ، فكيف يمكن للمكلف الجمع في الامتثال؟ مع أنه ان كان المراد من ( ان الآمر لم يجمع بين المتعلقين ) هو ان المتعلقات لا تكون بلحاظ الخارج ، رجع إلى أن الصور الذهنية بما انها صور ذهنية متعلقات الطلب ، وقد عرفت فساد ذلك. وان كان المراد : انه لم يجمع مع كونها مرآة لما في الخارج ، فالاجتماع لا محالة يكون آمريا لا مأموريا ، مع أنه لو بنينا على أن الاجتماع مأموري يلزم سد باب التعارض من وجه ، فإنه دائما يكون الاجتماع مأموريا وفي مقام الامتثال ، فيلزم ان لا يتحقق مورد للتعارض من وجه ، وتكون جميع الموارد من باب التزاحم. فهذا الوجه أيضا ليس بشيء ، وان حكى انه كان هو المعتمد عليه في عصر شريف العلماء.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام انما تكون هي الماهيات الواقعة في رتبة الحمل ، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل ، ولا الواقعة في الرتبة المباينة للحمل التي تكون بتلك الرتبة كليات عقلية ، كما أن الواقعة في رتبة نتيجة الحمل تكون من الأمور الخارجية وتكون تلك الرتبة رتبة الاتحاد ورتبة عينية الكلي لمصداقه. فلو كان المتعلق للحكم هي الماهية الواقعة في هذه الرتبة ، يلزم اتحاد المتعلقين ، لان هذه الرتبة كما عرفت رتبة عينية كل كلي لمصداقه ، والمفروض ان المصداق واحد ، فيلزم اتحاد المتعلقين. وأما إذا كان متعلق الحكم هو الماهية بلحاظ الرتبة السابقة على الحمل القابلة للحمل ، فلا يلزم حينئذ اتحاد المتعلقين ، لان هذه الرتبة رتبة مغايرة الموضوع للمحمول المصححة للحمل ، فلا اتحاد.

وبعبارة أوضح : متعلقات التكاليف انما تكون هي الصور الذهنية ، القابلة الصدق على الخارجيات ، الممكنة الانطباق عليها ، وهي بهذا المعنى متغايرة لا اتحاد بينها. والتي بينها اتحاد ، هي المنطبقة على الخارجيات انطباق المحمول على موضوعه ، المعبر عنه بنتيجة الحمل. ولعل هذا مراد من قال : ان ظرف عروض الاحكام على متعلقاتها انما هو الذهن ، وظرف اتصاف المتعلقات بالمطلوبية هو الخارج. والاتحاد انما يكون في ظرف الاتصاف ، لا في ظرف العروض ، هذا.

ص: 422

ولكن لا يخفى عليك : فساد هذا الوجه أيضا ، فان واقع الامر لا يخلو عن أحد وجهين : فإنه اما ان يكون متعلقات الاحكام هي الصور الذهنية بما انها صور ذهنية ، واما ان تكون هي بما انها مرآة لما في الخارج فانية فيه فناء الوجه في ذي الوجه والمرآة في المرئي. فان كان الأول ، يلزم ان تكون المتعلقات هي الكليات العقلية ، وهذا مما لا يعقل. وان كان الثاني يلزم محذور الاتحاد ، لاتحاد المرئي وذي الوجه ، وتعدد المرآت والوجه لا اثر له ، بعد ما لم يكن هو الملحوظ استقلالا والمتعلق للحكم بنفسه. فدعوى ان متعلقات الاحكام انما تكون الماهيات الواقعة في رتبة الحمل لا الواقعة في نتيجة الحمل ، مما ليس لها محصل.

ويتلو هذا الوجه في الضعف ، دعوى : ان متعلقات الاحكام هي الماهيات الغير المتحصلة وهي ليست متحدة بعضها مع بعض ، والاتحاد انما يكون بين الماهيات المتحصلة ، فان هذا عبارة أخرى عن الوجه السابق ، ولا يكون له معنى محصل ، فان متعلقات الاحكام وان كانت هي الماهيات الغير المتحصلة ، الا ان الامر بها انما يكون بلحاظ التحصل ، وهي في مقام التحصل متحدة.

والحاصل : ان الأمر والنهي ، انما يكونان بعثا لتحصيل الطبيعة ، أو عدم تحصيلها. وبالجملة : هذه الوجوه كلها مشتركة في المعنى ، وانما التفاوت بالتعبير ، وهي جميعا ناظرة إلى أن الاحكام من العوارض الذهنية للصور الذهنية ، وليست من العوارض الخارجية ، وانما الخارج يكون ظرف الاتصاف ، لا العروض ، بل ظرف العروض هو الذهن ليس الا ، وان كان المتصور الذهني ملحوظا على وجه المرآتية لما في الخارج.

والجواب عن الكل أيضا مشترك بأنه بعد تسليم اتحاد المتعلقين في الخارج وكون التركيب بينهما اتحاديا - كما هو مبنى الوجوه - لا سبيل إلى دعوى تغاير متعلق الأمر والنهي ، من جهة كون المتعلقات هي الصور الذهنية ، فان الصور الذهنية الملحوظة مرآة لما في الخارج يكون العبرة فيها بالمرئي وذي الوجه. فلو كانت وجوه الجواز هذه ، فالحق مع المانعين. والذي ينفع في المقام هو اثبات عدم الاتحاد بين المتعلقين في الخارج وكون التركيب بينهما انضماميا ، لا اتحاديا ، على ما سيأتي

ص: 423

توضيحه.

واما أدلة المانعين : فعمدتها ما ذكره المحقق الخراساني ( قده ) في كفايته (1) وحاصل ما افاده في وجه المنع يتركب من مقدمات ، بعضها مسلمة ، ككون متعلقات التكاليف هي الكليات الطبيعية ونفس المعنونات ، لا العناوين والكليات العقلية. وبعضها ممنوعة أشد المنع ، ككون تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وانه يمكن انطباق العناوين المتعددة على ما ليس فيه جهة وان ذلك لا يوجب عدم بساطته. فإنه قد تقدم في المقدمات ان ذلك غير معقول ، وقياسه بصفات الباري مع الفارق ، بل لا بد من تعدد الجهة عند تعدد العنوان ، غايته انه يمكن ان تكون الجهة تعليلية ، ويمكن ان تكون تقييدية. فالمهم اثبات هذا المعنى.

وإذ قد عرفت عدم تمامية ما استدل به للجواز والامتناع ، فينبغي حينئذ بيان وجه المختار ، وهو وان تقدمت الإشارة إليه في ضمن المقدمات ، الا اننا نزيده في المقام وضوحا.

وحاصله : ان اجتماع المبادئ والمقولات ، لا يعقل ان يكون على نحو الاتحاد ، بحيث يكون ما بحذاء أحدهما في الخارج عين ما بحذاء الآخر حتى يلزم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، وذلك لما عرفت : من بساطة المقولات وعدم تركبها من مادة وصورة ، بحيث كان ما به الاشتراك فيها غير ما به الامتياز ، بل إن ما به الاشتراك فيها يكون عين ما به الامتياز ، ويكون السواد مثلا بهوية ذاته يمتاز عن البياض ، مع اشتراكهما في كون كل منهما لونا ، ولكن يمتازان أيضا بنفس اللون ، وليس اللون فيهما من قبيل الجنس ويكون هناك فصل مميز لأحدهما عن الآخر. وكذا الحال في سائر المقولات ، من غير فرق بين ان تكون من مقولة الكم والكيف ، أو من المقولات النسبية : من الفعل ، والانفعال ، والإضافة ، والأين ، ومتى ، والوضع ، والنسبة المتكررة ، فإنها جميعا تكون بسائط خارجية ، ويكون ما به الاشتراك فيها

ص: 424


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 248 قوله قدس سره « وتحقيقه على وجه يتضح به ... » إلى ص 253

عين ما به الامتياز ، وحينئذ لا يعقل التركيب الاتحادي بينها ، لان التركيب الاتحادي يستدعى ان يكون ما به الامتياز غير ما به الاشتراك حتى يتحدا في الموضوع في مادة الاجتماع ، ويفترقا عنه في مادة الافتراق ، ويستدعى كل منهما موضوعا غير موضوع الآخر ، كما في - العالم والفاسق - المجتمعين في زيد ، والمفترقين في عمرو وبكر ، ويكون ما به يمتاز العالم عن الفاسق في مادة الافتراق مغايرا لما يشتركان فيه في مادة الاجتماع.

وهذا بخلاف المبادئ ، فان امتيازها واشتراكها في مادة الاجتماع والافتراق يكون بنهج واحد ، ويكون امتيازها بهوية ذاتها وبنفس حقيقتها مجتمعة ومفترقة ، والا كان ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم تركبها.

وحينئذ نقول : أي مقولتين فرض اجتماعهما فلا محالة انهما يكونان في عين اجتماعهما ممتازتين ، ويكون ما بحذاء إحديهما في الخارج غير ما بحذاء الأخرى ، وهذه المغايرة تكون بهوية ذاتهما ، من دون ان تكون هذه المغايرة بالفصول المنوعة لها ، بان يكون هناك ما هو بمنزلة الجنس لهما ، فان ذلك كله غير معقول ، بل هما على حد سواء اجتمعا أو افترقا ، وتكون الهوية والحقيقة محفوظة بتمامها وكمالها في صورتي الافتراق والاجتماع ، فكل ما تستحق الصلاة من الحقيقة والهوية محفوظا في صورة اجتماعها مع الغصب وفي صورة افتراقها عنه ، وكذا الحال في الغصب ، من دون ان تكون الصلاة المجامعة مع الغصب مغايرة مع الصلاة المفترقة عنه بجنس أو فصل ، وانما المغايرة تكون بالخصوصيات الفردية ، حيث إنها في صورة الاجتماع متشخصة بالغصب ، وفي صورة الافتراق متشخصة بأمر آخر : من كونها في المسجد ، أو الدار ، والخصوصيات الشخصية لا ربط لها بالحقيقة وليست مما يتعلق بها الطلب ، لا أصالة ولا تبعا ، كما عرفت من أن الاحكام متعلقة بنفس الطبايع والحقائق ، بلا سراية إلى الخصوصيات. والمفروض امتياز الحقائق مجتمعة ومفترقة ، وبعد ذلك لا يهمنا البحث عن أن الصلاة من أي مقولة ، والغصب من أي مقولة ، فإنهما من أي مقولة يفرضان على كل حال هما متعددان بحسب الحقيقة والمقولة كتعدد هما بحسب المفهوم. والظاهر أن تكون أفعال الصلاة من مقولة الوضع ، سواء قلنا ان

ص: 425

المأمور به في مثل الركوع والسجود هو الهيئة ، كما هو مختار الجواهر (1) أو الفعل كما هو المختار (2) فان المراد من ( الفعل ) ليس هو الفعل باصطلاح أهل المعقول ، بل الفعل الصادر عن المكلف ، فيكون الانحناء إلى الركوع أوضاعا متلاصقة متصلة.

وبذلك يندفع ، توهم اجتماع الصلاة والغصب في الحركة ، مع وحدتها وكونها من أصول الأكوان الأربعة التي لابد منها في كل جسم وعدم خلوه عن أحدها. وفي هذا الأصل الكوني قد اجتمع عنوان الغصب والصلاة ، مع أنه كون واحد.

وجه الدفع هو انه : ان كان المراد من وحدة الحركة وحدتها بالعدد ، بحيث تعد حركة واحدة ، فهذا مما لا ينفع. وان كان المراد من وحدة الحركة وحدة الحركة الصلواتية والحركة الغصبية بالهوية والحقيقة ، فهذا مما لا يعقل ، لاستدعاء ذلك اتحاد المقولتين ، لان الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة. فلو كانت الحركة حركة واحدة حقيقة وهوية يلزم عينية الصلاة للغصب ، وهو كما ترى بمكان من الفساد ، لان المقولات تكون بشرط لا بعضها مع بعض ، فلا يعقل الاتحاد فيها ، كما تقدم.

وبالجملة : الحركة لا يعقل ان تكون بمنزلة الجنس للصلاة والغصب ، بحيث يشتركان فيها ويمتازان بأمر آخر ، لما عرفت من أنه يلزم التركيب في الاعراض ، مع كونها بسيطة. وليست هي أيضا عرضا آخر غير المقولات ، لأنه يلزم قيام العرض بالعرض ، وهو محال. فلا بد ان تكون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة. وحينئذ نقول : كما أن الصلاة مغايرة بالحقيقة والهوية للغصب ، فكذا الحركة الصلواتية مغايرة 4

ص: 426


1- إشارة إلى ما اختاره صاحب الجواهر قدس سره من أن الركوع هو الانحناء الخاص والحالة الخاصة من التقوس والسجود القسم الخاص من الخضوع والانحناء بالمعنى الاسم المصدري ( راجع جواهر الكلام الجزء 10 الخامس من أفعال الصلاة الركوع ص 74 ، الواجب السادس السجود ص 123 الجزء 9 تحقيق القول في القيام المتصل بالركوع. ص 238.
2- راجع تفصيل ما افاده قدس سره في المقام ، الجزء الثاني من تقرير أبحاثه في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره . الفصل الثالث في القيام ص 60 الفصل الخامس في الركوع ص 194

للحركة الغصبية ، بعين مغايرة الصلاة والغصب ، ويكون في المجمع حركتان : حركة صلواتية ، وحركة غصبية. وليس المراد من الحركة رفع اليد ووضع اليد وحركة الرأس والرجل ووضعهما ، فان ذلك لا دخل له في المقام حتى يبحث عن انها واحدة أو متعددة ، بل المراد من الحركة : الحركة الصلواتية والحركة الغصبية ، وهما متعددتان لا محالة. وحاصل البرهان على ذلك يتركب من أمور بديهية :

الأول : بساطة المقولات ، وان ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.

الثاني : تغاير المقولات بحسب الحقيقة والهوية ، واعتبارها بشرط لا بالنسبة إلى أنفسها ، وان كانت بالنسبة إلى موضوعها يمكن لحاظها لا بشرط.

الثالث : كون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة ، وليست هي بمنزلة الجنس للمقولات ، حتى يلزم التركيب فيها ، ولا هي أيضا من الاعراض المستقلة ، حتى يلزم قيام عرض بعرض. وبعد هذه الأمور الواضحة ، كيف يعقل اتحاد متعلق الأمر والنهي وتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فإنه يلزم الخلف ، إذا الاتحاد يوجب عدم تباين المقولات وان ما به اشتراكها غير ما به امتيازها.

هذا كله ، مضافا إلى أن نسبة المكان إلى المكين والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل ان تختلف بين ان يكون المكين من مقولة الجواهر أو من مقولة الاعراض. وكما لا يعقل التركيب الاتحادي بين الجوهر والإضافة في قولك : زيد في الدار ، فكذلك لا يعقل التركيب الاتحادي بين الضرب والإضافة في قولك : ضرب زيد في الدار ، أو الصلاة والإضافة في قولك : صلاة زيد في الدار. وكما لايكون زيد غصبا ، كذلك لا تكون الصلاة غصبا ، أو الضرب غصبا ، لما عرفت من وحدة الإضافة والنسبة في الظرف المستقر والظرف اللغو ، وانه لا تختلف بين ان يكون طرف الإضافة من مقولة الجواهر ، أو مقولة الاعراض ، وذلك واضح. وبعد هذا لا ينبغي الشبهة في جواز اجتماع الأمر والنهي ، وعدم لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى وبذلك يمتاز باب اجتماع الأمر والنهي عن باب التعارض بالعموم من وجه ، حيث إن اجتماع العنوانين في باب التعارض يكون على وجه

ص: 427

التركيب الاتحادي ، كالعالم والفاسق ، وفي باب اجتماع الأمر والنهي على وجه التركيب الانضمامي. وبين البابين بون بعيد.

ومن الغريب : ما افاده بعض الاعلام من أن الفرق بين البابين انما هو باشتمال كل من الحكمين على المقتضى في باب اجتماع الأمر والنهي ، وعدم اشتمال أحدهما على ذلك في باب التعارض بالعموم من وجه ، فان الفرق بذلك مما لا محصل له ، لما فيه :

أولا : ان المسألة لا تبتنى على المقتضيات والملاكات ، بل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي أعم من ذلك ، فان النزاع جار حتى لو قلنا بمقالة الأشاعرة من عدم الملاكات.

وثانيا : انه عدم ثبوت المقتضى لاحد الحكمين لايكون ضابطا لباب التعارض ، ضرورة انه مع العلم بعدم المقتضى لأحدهما يعلم بكذب أحد الدليلين ، ومعه يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ولا يكون حينئذ من باب التعارض ، ولا يجرى فيه شيء من احكام التعارض ، بل لابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي حينئذ.

وثالثا : انه لا طريق لنا إلى احراز المقتضى والملاك الا بالدليل ، حيث إن كل دليل كاشف عن ثبوت المقتضى ، وليس لنا طريق سوى ذلك الا بالهام أو وحى. والدليلان في باب اجتماع الأمر والنهي وفي باب التعارض من وجه سيان في الكاشفية ، فمن أين صار الدليلان في مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق متعارضين؟ وفي مثل صل ولا تغصب من مسألة اجتماع الأمر والنهي؟ وإحالة الامر إلى الاجماع كما ترى ، لأنه ليس في جميع موارد البابين اجماع يمكن الاعتماد عليه.

وبالجملة : ارجاع المايز بين البابين إلى المقضيات والملاكات مما لا يستقيم ، بل المايز بين البابين هو ما ذكرنا من أن اجتماع المتعلقين في باب الاجتماع يكون على وجه الانضمام ، وفي باب التعارض يكون على وجه الاتحاد. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تندرج في صغرى التعارض ، لكون

ص: 428

التركيب فيها انضماميا.

وبعد ذلك ينبغي التنبيه على أمور.

الأول :

انه لو قلنا : بالتركيب الاتحادي وامتناع اجتماع الأمر والنهي ، فلا محالة تندرج المسألة في صغرى التعارض ، للزوم تعلق الامر حينئذ بعين ما تعلق به النهى ، واستلزامه لاجتماع الضدين في واحد شخصي عددا وهوية ، وعليه لا بد من اعمال قواعد التعارض.

ومن الغريب (1) ان الشيخ ( قده ) قال : ان المسألة بناء على الامتناع تكون من صغرى التعارض ، ومع ذلك يجعلها من صغرى التزاحم عند ذكر الوجه الثالث للجواز. وحيث كان المطلوب في ( صل ) هو صرف الوجود ويكون الاطلاق فيه )

ص: 429


1- فإنه قدس سره قد أفاد في التقريرات في مقدمة بحث الاجتماع : « وقد يظهر من بعض آخر ان البحث فيها يرجع إلى البحث عن مقاصد الأصول ، فإنها يستنبط منها صحة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها ، وليس بشيء فان الصحة والفساد لا يترتبان على الجواز والعدم ، بل التحقيق ان الصحة متفرعة على عدم التعارض والتناقض بين مدلولي الأمر والنهي وتشخيص ذلك موقوف على مسألة الجواز والامتناع ، فهذه المسألة من مباني المسألة الأصولية وهي وجود التعارض وتحقق التناقض بين الأدلة وعدمه .. » ( مطارح الأنظار - مقدمة بحث اجتماع الأمر والنهي ص 124 ). وذكر في الوجه الثالث من وجوه الجواز. « فان قلت : فعلى ما ذكرت من أن الآمر لا بد وأن يكون الفرد المحرم خارجا عن مطلوبه ومقصوده أيضا يلزم فساد الصلاة في الدار المغصوبة ولو في حال النسيان والاضطرار ، لا بواسطة امتناع الامتثال بالمحرم بل بواسطة امتناع الامر كما هو قضية التقييد مع أن المشهور ان المانعين يحكمون بصحتها ، وكذا صحة نظائرها كصلاة الصبي بناء على كونها تشريعية في الدار المغصوبة وقد سمعت فيما تقدم كلام المقدس الأردبيلي طيب اللّه رمسه. قلت : ان المخصص لو كان لفظا كما في قولك : أكرم العلماء الا زيدا كان الوجه عدم اكرام زيد في جميع الأحوال ، واما لو كان المخصص عقلا فلابد من الاقتصار على قدر يقضيه ، وليس وجه التخصيص بالافراد الغير المحرمة في المقام الا مناقضة الطلب التحريمي والطلب الوجوبي ، وبعد ارتفاع التحريم بواسطة النسيان فلا مانع من القول بالصحة والاخذ باطلاق الامر بالصلاة ، فيكون ذلك من باب التزاحم كانقاذ الغريقين فان عدم تعلق التكليف بكل واحد منهما على سبيل الاجتماع ليس الا بواسطة وجود المصلحة فيهما على وجه سواء مع امتناع الاجتماع منهما ، وإذا فرضنا ارتفاع المانع صح الامر من غير اشكال. » ( نفس المصدر ، ص 148 )

بدليا ، وفي ( لا تغصب ) مطلق الوجود ويكون الاطلاق فيه شموليا ، وكان الاطلاق الشمولي مقدما عند التعارض مع الاطلاق البدلي ، حيث إن مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي موجبة لخروج الافراد عن كونها متساوية الاقدام في الاطلاق البدلي ، على ما بيناه في محله (1) فلابد حينئذ من تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا الفرد المجامع للغصب ، ويكون المأمور به حينئذ هو الصلاة المقيدة بان لا تكون في الدار الغصبية ، وهذا التقييد راجع إلى مرحلة الثبوت والواقع ، كما هو الشأن في جميع الاطلاقات والمقيدات ، حيث إن دليل المقيد كاشف عن عدم تعلق إرادة الآمر بما تضمنه المطلق ، ولا دخل لعلم المأمور وجهله بذلك ، فان علم المأمور وجهله انما ينفع في باب التزاحم ، لا في باب التعارض ، كما تقدم تفصيله في مبحث التزاحم (2) ولازم ذلك هو فساد الصلاة في الدار الغصبية ، سواء علم المكلف بغصبية الدار أو لم يعلم ، لأنه لم يأت بما هو المأمور به. مع أن الظاهر تسالم الفقهاء على صحة الصلاة في الدار الغصبية عند الجهل بالغصب ، وهذا يكشف عن عدم ادراجهم المسألة في صغرى التعارض ، وذلك لايكون الا بالبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي. ويدل على ذلك اخذهم في عنوان البحث قيد المندوحة ، فان المندوحة لا دخل لها بالتعارض ، وانما تنفع في باب التزاحم ، لان الضابط في باب التعارض ، هو عدم امكان تشريع الحكمين الذين تكفلهما الدليلان في عالم الثبوت والتشريع ، كان هناك مكلف أو لم يكن ، حصلت القدرة أو لم تحصل ، فاعتبار المندوحة لا دخل له بباب التعارض.

نعم : هي تنفع في باب التزاحم ، حيث إن التزاحم انما يكون باعتبار القدرة ، فيتوهم حينئذ ان القدرة على ايجاد الطبيعة في الجملة تكفى في صحة الفرد المزاحم للأهم أو المضيق ، على ما تقدم من مقالة المحقق الكركي وسيأتي توضيحه أيضا.

ص: 430


1- راجع الجزء الرابع من الفوائد ، التعادل والتراجيح ، المبحث الخامس ، ص 272 - 273 الطبعة القديمة
2- راجع بحث الضد ، المقام الأول في الفرق بين التزاحم والتعارض ص 317

وبالجملة : التسالم على اخذ قيد المندوحة في عنوان المسألة وعلى صحة الصلاة في الدار الغصبية عند الجهل بالغصب ، يكشف كشفا قطعيا عن كون الجواز من الجهة الأولى كان عندهم مفروغا عنه.

وما يقال : من أن الصحة عند الجهل انما هي لوجود الملاك والمقتضى ، حيث إنه يعتبر في مورد الاجتماع ثبوت كل من ملاك الحكمين ، وبذلك حصل المايز بين باب الاجتماع وباب التعارض من وجه ، فليس بشيء ، لان ثبوت الملاك المغلوب بما هو أقوى منه والمسكور بغيره في عالم الجعل والتشريع - بحيث كان الحكم المنشأ في عالم الثبوت والواقع هو خصوص ما كان واجدا للملاك الغالب والمقتضى الأقوى - لا يصلح ان يكون موجبا للصحة ، فان الموجب للصحة ، هو الملاك التام الذي لايكون مكسورا بما هو أقوى منه في عام الجعل والتشريع.

والحاصل : ان تصحيح العبادة بالملاك انما يكون بعد الفراغ عن ثبوت حكمها وتشريعه مطلقا ، غايته انه وقع التزاحم بين ذلك الحكم وبين حكم آخر في مقام الامتثال وصرف القدرة عند عدم تمكن المكلف من كلا الامتثالين ، والتزاحم بين الحكمين امر ، وبين المقتضيين امر آخر ، بينهما بون بعيد ، فان تزاحم الحكمين على ما عرفت ، انما يكون في مقام الفعلية وتحقق الموضوع بعد الفراغ عن تشريعهما على طبق موضوعاتهما المقدر وجودها ، وفي هذا القسم من التزاحم يكون لعلم المكلف وجهله دخل ، حيث إن الحكم المجهول لا يصلح ان يكون مزاحما لغيره ، فإنه لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

واما تزاحم المقتضيين ، فإنما يكون في مقام الجعل والتشريع ، حيث يتزاحم المقتضيان في نفس الآمر وارادته ، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام ، ويكون لعلم الآمر وجهله دخل في تزاحم المقتضيين ، حيث لو لم يعلم الآمر بثبوت المقتضيين ، لا يعقل ان يقع التزاحم بينهما في إرادة الآمر. وعلم المكلف وجهله أجنبي عن ذلك ، فان عالم الجعل والتشريع انما يكون بيد الآمر ، والمأمور أجنبي عنه ، فيكون لعلم الآمر وجهله دخل ، كما أن عالم الامتثال وصرف القدرة وأعمالها يكون بيد المكلف ، والآمر أجنبي عنه ، فيكون لعلم المأمور دخل.

ص: 431

واما دعوى : انه بعد ما كان لكل من الحكمين مقتض في عالم الثبوت فلا مانع من انشاء كل من الحكمين على طبق المقتضى ويكون الحكم في كل منهما اقتضائيا وكان الحكم الفعلي هو ما يكون ملاكه أقوى وأتم ، ففسادها غنى عن البيان ، بداهة ان المقتضى المزاحم بما هو أقوى منه دائما ، لا يصلح لانشاء حكم على طبقه ، لأنه.

أولا : يلزم اللغوية ، إذا لحكم الذي لا يصير فعليا ولا يجب امتثاله بوجه من الوجوه يكون تشريعه لغوا ، مثلا لو فرض ان العالم له اقتضاء الاكرام ، والفاسق له اقتضاء عدم الاكرام ، ففي غير مورد التصادق لا مزاحمة بين المقتضيين ، واما في مورد التصادق فيتزاحم المقتضيان ، فان لم يكن أحدهما أقوى ، فلابد من الحكم بالتخيير ثبوتا ، وان كان أحدهما أقوى - كما لو فرض ، ان العلم أقوى ملاكا للاكرام من الفسق لعدم الاكرام - فلا بد حينئذ من انشاء الحكم على طبق الأقوى وتشريع وجوب اكرام العالم مطلقا بحيث يشتمل مورد التصادق وعدم تشريع حرمة اكرام الفاسق مطلقا ، بل لابد من تخصيص دائرة التشريع بما عدا مورد التصادق. وتشريعه مطلقا - حتى في مورد التصادق ولكن الحكم الفعلي يدور مدار الأقوى ، ويكون الحكم الفعلي في مورد التصادق هو وجوب الاكرام - يوجب اللغوية ، إذ لا اثر للتشريع المطلق ، مع أنه لا تصل النوبة إلى امتثاله في مورد التصادق ، لأن المفروض ان الحكم الفعلي غيره. (1).

وثانيا : ان ذلك غير معقول ، لان إرادة الآمر في عالم الثبوت ، اما ان تتعلق باكرام العالم الفاسق ، واما ان تتعلق بعدم اكرامه ، ولا يعقل الاهمال الثبوتي ، فان تعلقت ارادته باكرام العالم الفاسق لأقوائية ملاكه ، فلابد ان لا تتعلق ارادته بعدم ه

ص: 432


1- لا يخفى عليك ان القائل بهذه المقالة يدعى : انه في صورة الجهل لايكون الحكم الذي ملاكه أتم وأقوى فعليا ، بل الحكم الفعلي هو الذي يكون ملاكه انقص واضعف ، فيظهر لتشريعه اثر في صورة الجهل ، فهو على مبناه من معنى الحكم الفعلي صحيح لا يرد عليه شيء من الايرادات ، نعم الاشكال الذي يرد عليه هو فساد المبنى وان معنى الحكم الفعلي ليس ذلك ، على ما تقدم بيانه. منه

الاكرام ، لامتناع اجتماع النقيضين ، ومع عدم تعلق ارادته بعدم الاكرام في مورد التصادق والاجتماع ، كيف يعقل ان يكون محكوما بحرمة الاكرام؟ حتى نسميه حكما اقتضائيا. وقس على ذلك مسألة الصلاة والغصب ، فإنه بناء على الامتناع ، يكون حالهما حال العالم والفاسق.

والحاصل : ان تشريع الحكم على وجه الاهمال لا يعقل في عالم الثبوت ، وان كان الاهمال في عالم الاثبات والدليل ممكنا ، من جهة انه لم يكن فعلا بصدد بيان تمام غرضه ، بل اعتمد على المبين المنفصل. واما في عالم الثبوت ، فذلك امر غير معقول ، إذ لا يعقل ان لا يدرى الآمر الملتفت أين تعلقت ارادته ، وتعلق الإرادتين المتضادتين في مورد الاجتماع والتصادق لا يعقل ، فلابد ان تكون الإرادة واحدة ، اما ان تتعلق بوجود الاكرام ، واما ان تتعلق بعدمه. وبعد ذلك ما معنى انشاء الحكمين على طبق كلا المقتضيين وكون الحكم الفعلي هو الأقوى ملاكا؟ وهل للحكم معنى غير الإرادة؟ وهل هذا الا عبارة عن القول باهمال متعلق الإرادة؟ أو اجتماع الإرادتين المتضادتين؟.

وثالثا : هب ، انه سلمنا ذلك كله وقلنا بهذا المحال ، ولكن مع ذلك لا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك ، لا في مقام تشريع الحكمين على طبق كلا المقتضيين ، ولا في مقام فعلية الحكم بالمعنى المذكور ، لان فعلية الحكم على هذا تدور مدار ما هو الأقوى ملاكا ، وهو امر واقعي لا دخل فيه لعلم المكلف وجهله ، فبأي وجه صحت الصلاة في الدار الغصبية في صورة الجهل؟ مع أن الحكم الفعلي بناء على هذا المبنى الفاسد ، هو حرمة الغصب ، لأقوائية ملاكه ، والملاك الثابت في الصلاة لا يصلح لذلك ، لمغلوبيته وانكساره بالأقوى ، فتأمل (1) جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه بناء على الامتناع لا محيص عن القول بفساد ه

ص: 433


1- وجهه هو ما تقدم منا في الحاشية السابقة ، من أنه في صورة الجهل لايكون الحكم فعليا ، فلعلم المكلف وجهله دخل في فعلية الحكم وعدمه فالمهم هو منع دخل علم المكلف وجهله في فعلية الحكم ، بل فعلية الحكم تدور مدار تحقق موضوعه ، على ما أوضحناه في محله. منه

الصلاة ، وتندرج المسألة في باب التعارض ، وتكون بعد تقديم جانب النهى من صغريات النهى في العبادة. وقد عرفت انه لابد من تقديم جانب النهى ، لكون الاطلاق فيه شموليا ، دون الامر.

واما بناء على الجواز ، فتكون المسألة مندرجة في باب التزاحم. والحكم فيه وان كان أيضا تقديم جانب الحرمة ، الا انه بملاك آخر ، وهو تقديم مالا بدل له على ماله البدل - على ما تقدم تفصيله في مرجحات باب التزاحم - ويكون لعلم المكلف وجهله حينئذ دخل في ذلك ، لما عرفت من أن المزاحمة تتوقف على الاحراز والوجود العلمي ،

فظهر مما ذكرنا : ان القول بصحة الصلاة في الدار الغصبية في صورة الجهل والنسيان لا يجتمع مع القول بالامتناع. ومن هنا يمكن ان نستكشف ان المشهور بنائهم على الجواز ، لقولهم بصحة الصلاة في صورة الجهل ، مضافا إلى اعتبار قيد المندوحة ، التي لا تنفع الا بعد الفراغ من الجهة الأولى ، كما أشرنا إليه.

التنبيه الثاني :

قد استدل لجواز اجتماع الأمر والنهي بوقوعه في الشرعيات كثيرا ، وجعلوا موارد العبادات المكروهة من ذلك الباب ، بتقريب : ان الاحكام بأسرها متضادة ، ولا اختصاص لذلك بالوجوب والحرمة ، وقد اجتمع في العبادات المكروهة الوجوب والكراهة ، أو الاستحباب والكراهة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاستدلال بذلك لما عرفت : من أن مورد البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، هو ما إذا كان بين المتعلقين العموم من وجه ، والنسبة بين المتعلقين في العبادات المكروهة هو العموم المطلق ، فلا ينبغي جعلها من موارد اجتماع الأمر والنهي.

نعم : ينبغي البحث عن كيفية تعلق الكراهة بالعبادة ، وانه ما المراد من الكراهة فيها ، فهل هي بمعناها المصطلح؟ أو انها بمعنى الأقل ثوابا؟ كما قيل. فنقول - ومن اللّه التوفيق - تعلق النهى التنزيهي بالعبادة يكون على اقسام ثلاثة :

الأول : ما إذا تعلق الامر بعنوان ، والنهى التنزيهي بعنوان آخر ، وكان

ص: 434

بين العنوانين العموم من وجه ، كالأمر بالصلاة والنهى عن الكون في بيوت الظلمة ، وهذا القسم يكون داخلا في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، غايته ان النهى تارة يكون تحريميا ، وأخرى يكون تنزيهيا ، نعم يختلف النهى التحريمي والتنزيهي من جهة أخرى ، كما سنبين.

الثاني : ان يكون بين متعلق النهى التنزيهي ومتعلق الامر العموم المطلق ، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

الثالث : ان يتعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، وذلك كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، كالنهي عن النوافل المبتدئة في الأوقات الخاصة ، وكالنهي عن صوم يوم عاشوراء وأمثال ذلك ، مما تكون نفس العبادة المأمور بها منهيا عنها بالنهي التنزيهي ، وينبغي البحث عن كل واحد من هذه الأقسام مستقلا ، فنقول :

اما القسم الأول :

فحاصل الكلام فيه : هو ان التنزيهي ليس كالنهي التحريمي مما يوجب تقييد متعلق الامر بما عدا مورد الاجتماع مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ، أو قلنا بامتناعه. اما لو قلنا بالجواز فواضح. واما لو قلنا بالامتناع ، فلان منشأ التقييد في النهى التحريمي انما هو لمكان منافاة المنع عن كل وجود للطبيعة - الذي تضمنه النهى التحريمي المتعلق بالطبيعة بلحاظ مطلق الوجود - مع الرخصة المستفادة من اطلاق الامر بأي وجود من وجودات الطبيعة ، لان تعلق الامر بالطبيعة بلحاظ صرف الوجود لا محالة يتضمن الرخصة بالنسبة إلى أي وجود يفرض من الطبيعة وأي فرد يأتي به المكلف ، لمكان انطباق الطبيعة المأمور بها على كل فرد ، وليس المأتى به في الخارج هو عين متعلق الامر ، لأنه لو كان المأمور به عين ذلك وكان هو الواجب لما جاز تركه إلى بدل ، والمفروض جواز تركه إلى بدل ، فالمأتي به لايكون هو عين متعلق الامر ، بل متعلق الامر هو الطبيعة المنطبقة على المأتى به انطباق الطبيعي على افراده ، والامر بالطبيعة يقتضى الرخصة باتيان الفرد المأتى به بمقتضى الاطلاق ، والمفروض ان النهى التحريمي لمكان اطلاقه الشمولي يقتضى المنع و

ص: 435

عدم الرخصة في اتيان ذلك الفرد ، فيحصل التدافع بين كل من اطلاق الامر واطلاق النهى ، من حيث ما يقتضيانه : من الرخصة وعدم الرخصة. فلا بد حينئذ من اطلاق متعلق الامر بما عدا ذلك الفرد ، لقوة اطلاق النهى من حيث كونه شموليا ، ويخرج ذلك الفرد من صلاحيته لانطباق الطبيعة المأمور بها عليه.

وهذا بخلاف النهى التنزيهي ، فان النهى التنزيهي لا يقتضى المنع وعدم الرخصة عن ذلك الفرد ، بل النهى التنزيهي بنفسه يقتضى الرخصة والمفروض ان الامر أيضا يقتضى الرخصة بذلك الفرد ، فلا تدافع بين ما يقتضيه اطلاق الامر ، وما يقتضيه اطلاق النهى التنزيهي ، وبعد عدم التدافع لا موجب لتقييد اطلاق الأوامر بما عدا المجمع ، بل اطلاق الامر بعد محفوظ على حاله ، من دون تصرف فيه. وذلك لا ينافي التضاد بين الوجوب والكراهة ، فان التضاد بينهما انما يمنع عن اجتماعهما في امر واحد شخصي ، بحيث تتعلق الكراهة بعين ما تعلق به الوجوب ، كما إذا كان هناك شيء واحد تعلق به الوجوب بحيث لا يرضى الآمر بتركه ، وتعلق به الكراهة بحيث يرضى بتركه ، من غير فرق بين ان يكون ذلك الشيء متعلقا للوجوب والكراهة ، بالنصوصية ، أو بالاطلاق ، بان يكون كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا يعم جميع الافراد ، فإنه يلزم أيضا تعلق الامر والكراهة في واحد شخصي.

وأما إذا لم يتعلق الامر الوجوبي بعين ما تعلق به النهى الكراهتي - لا بالنصوصية ولا بالاطلاق الشمولي ، بحيث ينحل إلى جميع الافراد والوجودات التي تفرض للطبيعة ، بل تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وتعلق النهى الكراهتي بالطبيعة على نحو مطلق الوجود - فلم تجتمع الكراهة مع الوجوب حتى يلزم اجتماع الضدين ، لما عرفت : من أن الافراد فيما إذا كان المطلوب صرف الوجود ليست هي بنفسها متعلق الامر ، والا للزم الاتيان بجميعها ، وليس المطلوب ومتعلق الامر ( أحدها ) على نحو الواجب التخييري الشرعي ، بل كان كل فرد من الافراد مما تنطبق عليه الطبيعة ، لمكان الاطلاق. وانطباق الطبيعة على فرد انما يقتضى الرخصة في اتيانه بحيث يجوز تركه إلى بدل ، لا تعينه ، كما إذا كان المطلوب مطلق الوجود. والرخصة في الفرد لا ينافي كراهته ، لأنها أيضا تتضمن الرخصة.

ص: 436

فالقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي لا يلزمه التقييد واخراج المجمع عن اطلاق الامر فيما إذا كان النهى تنزيهيا ، كما كان يلزمه فيما كان النهى تحريميا ، للمنافاة بين الرخصة في اتيان الفرد المستفادة من اطلاق الامر ، وعدم الرخصة فيه المستفاد من اطلاق النهى ، كما عرفت.

ولا يتوهم : ان القائل بالامتناع ، انما يقول به لأجل لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، ومع العينية لا يفرق الحال بين ما إذا كان النهى تحريميا أو كان تنزيهيا ، لثبوت المضادة بين جميع الأحكام الخمسة.

وذلك : لان المراد من حديث العينية ، ليس هو ان المأتى به من الفرد هو عين ما تعلق به الأمر والنهي ، لوضوح ان الامر لم يتعلق بالمأتى به ، بل تعلق الامر بالطبيعة بما انها مرآة لما في الخارج ، ويكون المأتى به مما ينطبق عليه الطبيعة بمقتضى اطلاقها. وقد عرفت : ان الاطلاق لا يقتضى أزيد من الرخصة في كل فرد مع جواز تركه إلى بدل ، لمكان كون الافراد متساوية الاقدام في انطباق الطبيعة على كل منها. والنهى التحريمي يوجب دفع هذا التساوي ، والا لزم اجتماع الرخصة واللارخصة ، والنهى التنزيهي لا يرفع هذا التساوي لبقاء الرخصة على حالها ، فتأمل جيدا. فإنه لا يخلو عن دقة ولطافة.

هذا إذا كان بين متعلق الأمر والنهي التنزيهي العموم من وجه.

واما القسم الثاني :

وهو ما إذا كان بين المتعلقين العموم المطلق ، كصل ، ولا تصل في الحمام ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق ، لما عرفت سابقا : من أن القسم السابق بناء على الامتناع يكون من صغريات مسألة النهى عن العبادة ، وقد عرفت ان النهى التنزيهي عن العبادة لا يقتضى التقييد وليس كالنهي التحريمي. ففي مثل قوله : صل ، ولا تصل في الحمام ، يكون كل من الامر الوجوبي والنهى التنزيهي على حاله ، حيث إن الامر الوجوبي باطلاقه يقتضى الرخصة في الصلاة في الحمام. والنهى التنزيهي لا ينافي هذه الرخصة ، ولا يلزم أيضا اتحاد متعلق الامر الوجوبي والنهى التنزيهي وعينية أحدهما للآخر ، حتى يلزم اجتماع الضدين ، فان الامر الوجوبي

ص: 437

تعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، والامر المتعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا يقتضى أزيد من الرخصة في ايجاد الطبيعة في ضمن أي حصة ، وهذا لا ينافي النهى التنزيهي عن حصة خاصة ، لأنه أيضا يقتضى الرخصة.

وهذا هو السر فيما يصنعه الفقهاء في مقام الجمع بين الاخبار : من حمل النهى على التنزيه والكراهة ، ولا يعاملون النهى التنزيهي معاملة التعارض من وجه أو المطلق ، ولا يحملون المطلق على المقيد في مثل أعتق رقبة ولا تعتق الكافرة ، إذا استفادوا منه كون النهى تنزيهيا وكذا لا يعملون قواعد التعارض من وجه في مثل : أكرم عالما ، ولا تكرم الفاسق ، إذا كان النهى للتنزيه. بل ربما يجمعون بين الاخبار المتعارضة بحمل النهى فيها على التنزيه ، ويستشكلون بأنه لا شاهد على هذا الجمع. واشكالهم من حيث عدم ما يدل على أن النهى تنزيهي ، لا من حيث إن النهى التنزيهي بعد الفراغ عن كونه تنزيهيا لا يوجب الجمع بين الاخبار المتعارضة ، بل ذلك عندهم مفروغ عنه ، وانما ينازعون في الصغرى. فاحفظ ما ذكرناه فإنه يفتح به باب من أبواب الفقه في مقام الجمع بين الاخبار.

وما قيل : من أن التنزيهي في باب العبادات انما يكون بمعنى أقل ثوابا ، فهو بظاهره مما لا يستقيم ، لأنه ليس معنى النهى التنزيهي أقلية الثواب ، ولا موجب لاخراج النهى عن ظاهره من المولوية إلى الارشادية وجعله بمنزلة الاخبار عن قلة الثواب ، بل النهى على ظاهره من المولوية. نعم هو كاشف عن وجود حزازة ومنقصة في تلك الحصة من الطبيعة. وبهذا المعنى تكون جميع الأوامر والنواهي كاشفة وارشادا إلى المصالح والمفاسد ، ومع ذلك تكون الأوامر والنواهي مولوية.

بقى الكلام في القسم الثالث :

وهو ما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، كصوم يوم عاشوا. والتوجيه الذي ذكرناه في القسمين الأولين لا يجرى في هذا القسم ، لان صوم يوم عاشوراء بما انه صوم يوم عاشورا مستحب ، لاستحباب صوم كل يوم بالخصوص ، ومعه لا يعقل ان يتعلق به النهى التنزيهي ، لما بين الأمر والنهي من التضاد ، وان

ص: 438

كان أحدهما استحبابيا والآخر تنزيهيا.

وما قيل في توجيه ذلك : من أنه يمكن ان يكون ترك صوم يوم عاشوراء ملازما لعنوان راجح ، أو سببا توليديا له ، فيكون الترك كالفعل راجحا ومستحبا وان كان الترك أرجح ، لمواظبة الأئمة علیهم السلام وأصحابهم عليه.

فاسد ، فإنه لا يعقل ان يكون كل من الفعل والترك راجحا ومستحبا شرعا ، لان المتيقن من وقوع الكسر والانكسار بين الجهات والمصالح هو ما إذا كانت الجهات بين النقيضين : من فعل شيء وتركه ، وكيف يعقل عدم وقوع الكسر والانكسار بين النقيضين؟ مع وقوعهما بين الضدين الذين لا ثالث لهما والمتلازمين في الوجود دائما. فإذا كان هذا حال المتضادين والمتلازمين ، فما ظنك في النقيضين.

وبالجملة : لا يعقل ان لا يقع الكسر والانكسار بين الجهات في باب النقيضين ، ولا يعقل ان يكون كل من النقيضين مأمورا به بالامر الاستحبابي ويكون كل من الفعل والترك راجحا مبعوثا إليه شرعا ، فلا محيص من وقوع الكسر والانكسار إذا كان في كل من الفعل والترك مصلحة. وحينئذ اما ان تغلب إحدى المصلحتين على الأخرى ، فيكون البعث نحوها فقط. واما ان لا تغلب ، فيكون الحكم هو التخيير ليس الا. فهذا الوجه الذي افاده في التقرير (1) وتبعه صاحب (2) الكفاية مما لا يحسم مادة الاشكال.

فالأولى في التوجيه ، هو ان يقال : ان مركب النهى التنزيهي غير مركب الامر الاستحبابي ، وان مركب الامر الاستحبابي هو نفس العمل وذات الصوم ، ومركب النهى التنزيهي هو التعبد بالعمل والتقرب به إليه تعالى ، فيكون الصوم مستحبا ، ومع ذلك يكون التعبد به مكروها. ولا منافاة بينهما ، إذ لم يتحد مركب الامر الاستحبابي ومركب النهى التنزيهي ، حتى يلزم اجتماع الضدين.

ص: 439


1- مطارح الأنظار ، بحيث الاجتماع ، الهداية التي تكلم فيها عن حجج المجوزين. المقام الثاني في تصوير الكراهة في العبادات. قوله : « الثالث لا يبعد ان يكون حاسما لمادة الاشكال وهو .. » ص 135
2- كفاية الأصول ، الجلد الأول ، بحث الاجتماع قوله : « اما القسم الأول فالنهي تنزيها عنه .. » ص 255

فالمقام يكون نظير تعلق الامر النفسي بصلاة الظهر ، مع الامر المقدمي بها ، من حيث كونها مقدمة وجودية لصلاة العصر ، فان الامر النفسي متعلق بذات صلاة الظهر ، والامر المقدمي تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها ، إذ ليست ذات صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر ، بل صلاة الظهر المأتى بها بداعي أمرها وبما انها متعبد بها تكون مقدمة لصلاة العصر ، فيختلف مركب الامر المقدمي مع مركب الامر النفسي. ولا يكون من اجتماع المثلين ، ولا من اتحاد الامرين ، كاتحاد الامر بالوفاء بالنذر مع الامر بصلاة الليل عند نذرها ، لوحدة متعلق الامرين في مثل هذا ، فان المنذور هو فعل ذات صلاة الليل ، لا صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، فان وصف الاستحباب لا يدخل تحت النذر ، إذ لا يمكنه بعد النذر اتيان صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لصيرورتها واجبة بالنذر ، والمنذور لا بد ان يكون مقدورا للناذر في ظرف الامتثال ، فلابد ان يكون متعلق النذر هو ذات صلاة الليل ، والامر الاستحبابي أيضا تعلق بالذات ، فيتحد متعلق الامر الاستحبابي المتعلق بالذات مع متعلق الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالنذر ، ومعلوم ان الامر الاستحبابي يندك حينئذ في الامر الوجوبي ، كما أن الامر التوصلي الآتي من قبل النذر يكتسب التعبدية ، فيكتسب كل من الامر الوجوبي والاستحبابي من الاخر ما يكون فاقدا له ، فالامر الوجوبي يكتسب التعبدية ، والامر الاستحبابي يكتسب الوجوب ، لان الفاقد يكون من قبيل اللامقتضى ، والواجد يكون من المقتضى. ولا يعقل في مثل هذا بقاء الامر الاستحبابي على حاله ، لما عرفت من وحدة المتعلقين ، فيلزم اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد.

وهذا بخلاف مثل الامر الآتي من قبل الإجارة إذا آجر الشخص نفسه لما يكون مستحبا على الغير أو واجبا ، فأن الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالعقود انما يكون متعلقا بالعمل بوصف كونه مستحبا على الغير أو واجبا عليه ، لا بما هو ذات العمل حتى يلزم اجتماع الضدين أو المثلين ، لان الشخص انما صار أجيرا لتفريغ ذمة الغير ، ولا يحصل ذلك الا بقصد الامر المتوجه إلى ذلك الغير ، فيكون متعلق الإجارة هو العمل المأمور به بوصف كونه كذلك.

ص: 440

والمقام بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن الامر الاستحبابي انما يكون متعلقا بذات الصوم في يوم عاشوراء ، أو الصلاة عند طلوع الشمس. والنهى التنزيهي غير متعلق بذلك ، بل تعلق بالتعبد بالصوم والصلاة في ذلك اليوم والوقت ، لما في التعبد بهما من التشبه ببني أمية وعبدة الشمس ، حيث إن بنى أمية لعنهم اللّه انما كانوا يتعبدون بصوم يوم عاشوراء ويتقربون به إلى اللّه ، وكذا عبدة الشمس كانوا يتعبدون بعملهم في أول الشمس ، فيكون المنهى عنه بالنهي التنزيهي هو ما كان عليه عمل أولئك ، وليس هو الا التعبد ، فيكون التعبد مكروها مع كون العمل مستحبا ، إذ لا منافاة بين كراهة التعبد ورجحان تركه وبين استحباب العمل ورجحان فعله.

نعم : لو كان النهى تحريميا ، كان ذلك منافيا لاستحباب العمل ، لان حرمة التعبد لا يجامع صحة العمل. بخلاف كراهة التعبد المتضمن للرخصة ، فتأمل في ما ذكرناه جيدا. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالعبادات المكروهة.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، أراد ان يتعرض للتنبيه الثالث ، المتعلق بالمضطر والمتوسط في الأرض المغصوبة ، ولكنه اعرض عن ذلك واخره ، لان له تعلقا بكلا المقامين المبحوث عنهما في مسألة اجتماع الأمر والنهي. والأولى عطف عنان الكلام إلى المقام الثاني ، وهو انه هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم والتكليف بما لا يطاق ، أو انه لا يكفي؟ والأقوى في هذا المقام عدم الكفاية. وان كان مقتضى ما تقدم عن المحقق الكركي ( قده ) - من كفاية القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في بعض الافراد في صحة تعلق التكليف بها وانطباقها على الفرد المزاحم للمضيق أو الأهم ويتحقق الاجزاء عقلا - هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وان كان فرق بين المقام وبين ما افاده المحقق ( قده ) من حيث إن المراد بالمندوحة في المقام انما هي بالنسبة إلى الافراد العرضية ، حيث إن للمكلف ايجاد الصلاة في الدار المباحة وفي المسجد وفي الدار الغصبية ، فتكون الصلاة في الدار الغصبية من أحد افراد الصلاة العرضية. والمراد من المندوحة في مقالة

ص: 441

المحقق ( قده ) هي المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، لان كلامه انما كان في الواجب المضيق المزاحم لبعض افراد الواجب الموسع في بعض الوقت. ولكن هذا الفرق لايكون فارقا في المناط ، فان مناط كفاية المندوحة في الافراد الطولية ، هو القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في غير الفرد المزاحم للمضيق ، وهذا المقدار يكفي في حسن التكليف عقلا ، إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق لقدرة الفاعل على ايجاد الطبيعة ولو في الجملة. فلا مانع من شمول اطلاق الامر بالصلاة للفرد المزاحم للإزالة ، وتنطبق الطبيعة المأمور بها عليه قهرا فيتحقق الاجزاء عقلا. وهذا الكلام كما ترى يجرى في الافراد العرضية أيضا ، لتمكن المكلف من ايجاد الصلاة مثلا في غير الدار الغصبية ، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف بالصلاة ، ويكون الفرد المأتى به من الصلاة في الدار الغصبية مما تنطبق عليه الطبيعة ، هذا.

ولكن أصل المبنى عندنا فاسد ، كما تقدم في مبحث الترتب ، حيث إن القدرة المعتبرة في التكاليف لا ينحصر مدركها بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، بل القدرة معتبرة ولو لم يحكم العقل بذلك ، لمكان اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقه ، حيث إن حقيقة الخطاب هو البعث على أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفي الممكن ، فيعتبر في التكليف - مضافا إلى قدرة الفاعل التي يحكم بها العقل - القدرة على الفعل التي يقتضيها الخطاب. والفرد المزاحم للإزالة أو للغصب فيما نحن فيه ليس مقدورا عليه ، لان المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فلا تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها بما انها مأمور بها ، لان الانطباق من حيث السعة والضيق يدور مدار سعة القدرة وضيقها ، وليس للقدرة سعة تشمل الفرد ، على ما تقدم تفصيله في مبحث الترتب. وعليه لا تصح الصلاة في الدار الغصبية باطلاق الامر بالصلاة كما أنه لا يمكن تصحيحها بالامر الترتبي كما تقدم أيضا في ذلك المبحث ، لاستلزامه الامر بتحصيل الحاصل ، أو الامر بالمحال ، إذ لا معنى لقوله : لا تغصب وان غصبت بالصلاة فصل ، لأنه يكون من تحصيل الحاصل ، أو ان غصبت بغير الصلاة فصل ، لأنه يكون من طلب المحال ، على ما مر تفصيله.

واما تصحيحها بالملاك فربما يتوهم انه لا مانع عنه ، ولازم ذلك صحة

ص: 442

الصلاة في الدار الغصبية ، ولو عن علم وعمد ، مع أن الظاهر تسالم الاعلام على عدم الصحة حينئذ ، كتسالمهم على الصحة في صورة الجهل والنسيان. فيتوجه في المقام اشكال ، من حيث إنه لو بنينا على الامتناع في المقام الأول ، يلزم القول ببطلان الصلاة في صورة الجهل والنسيان ، ولو بنينا على الجواز ، يلزم القول بصحتها في صورة العلم والعمد ، ولا يمكن الالتزام بكل من القولين ، لتسالمهم على الخلاف ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال ، بأنه ليس لازم القول بالجواز في المقام الأول ، هو الصحة في صورة العمد ، لان الصلاة في الدار الغصبية وان كانت مشتملة على الملاك ، الا انها لمكان اتحادها مع الغصب في الايجاد والصدور كان ذلك مانعا عن التقرب بها ، لبغضها الفاعلي وعدم اتصاف صدورها منه بالحسن الفاعلي ، لخلطه بين المأمور به والمنهى عنه في الايجاد والصدور. والحسن الفعلي لا يكفي في التقرب ما لم ينضم إليه الحسن الفاعلي ، بحيث يصدر من الفاعل حسنا. وليس خلط الصلاة بالغصب واتحادها معه في الايجاد كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة ، فان النظر إلى الأجنبية لا ربط له بجهة ايجاد الصلاة ، بخلاف الغصب المتحد معها في الايجاد. فالقول بجواز اجتماع الأمر والنهي لا يلازم القول بصحة الصلاة في صورة العلم والعمد ، كما كان القول بالامتناع يلازم القول بالبطلان في صورة الجهل والنسيان ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا كان للمكلف مندوحة ، بحيث كان يمكنه فعل الصلاة في المكان المباح. وأما إذا لم يكن للمكلف مندوحة بل انحصر مكان الصلاة في الدار الغصبية ، فترجيح الغصب بكونه مما لا بدل له لا يجرى في الفرض ، لان الصلاة أيضا مما لا بدل لها حسب الفرض ، بل لابد من اعمال سائر مرجحات باب التزاحم. وقبل بيان ذلك ، لابد من التنبيه على امر ، وان كان حقه ان يذكر في المقام الأول ، الا انه قد فاتنا ذكره هناك.

وحاصل ذلك الامر : هو انه لو فرض تعلق الامر بعنوان وتعلق النهى بعنوان آخر ، وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، ولكن كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا ، فهل

ص: 443

يندرج ذلك في المسألة المبحوث عنها؟ ويتأتى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق في الفرض المذكور ، أو انه لا يندرج في ذلك؟ بل لابد من القول بتعارض الأمر والنهي في مورد التصادق وأعمال قواعد التعارض.

الحق هو الثاني ، لان التلازم بين متعلق الامر ومتعلق النهى في مورد التصادق دائمي ، ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم إذا كان التلازم دائميا ، لعدم قدرة العبد على امتثالهما ، كما في الضدين. فكما لا يجوز الامر بالقيام والقعود في زمان واحد ، كذلك لا يجوز الامر باستقبال المشرق والنهى عن استدبار المغرب في زمان واحد ، لأنه لا يعقل امتثال كل من الأمر والنهي ، والتكليف الغير القابل للامتثال لا يعقل تشريعه ، وذلك واضح.

فالأقوى اعمال قواعد التعارض ، فيما إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، سواء كان التركيب في مورد الاجتماع من التركيب الاتحادي ، أو من التركيب الانضمامي ، وبعد هذا لا تصل النوبة إلى اعمال مرجحات باب التزاحم.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه ، وهو انه لو لم يكن للمكلف مندوحة وانحصرت الصلاة في الدار الغصبية ، فهذا تارة : يكون بسوء اختياره كمن توسط في الأرض المغصوبة اختيارا وضاق الوقت الا عن الصلاة فيها. وأخرى : يكون لا بسوء اختياره كالمحبوس في الدار الغصبية. فان كان عدم المندوحة لا بسوء اختياره فهذا مما لا اشكال في صحة الصلاة منه في الدار الغصبية وسقوط قيدية لزوم عدم ايقاعها في المكان المغصوب مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي - كما هو المختار - أو قلنا بامتناعه.

اما بناء على القول بالامتناع : فلان القيدية انما استفيدت من تعلق النهى بالصلاة في الدار الغصبية ، لما عرفت : من أنه بناء على الامتناع يكون مورد التصادق من صغريات النهى في العبادة ، والقيدية المستفادة من الحرمة النفسية تدور مدار الحرمة. وليست كالقيدية المستفادة من النواهي الغيرية ، مثل قوله : لا تصل في غير المأكول ، حيث قلنا ان الظاهر منها هو القيدية المطلقة ، سواء تمكن المكلف منها

ص: 444

أولم يتمكن ، غايته انه مع عدم التمكن من القيد يسقط التكليف عن المقيد ، الا ان يقوم دليل على عدم سقوطه بسقوط القيد ، فيستفاد منه كون القيدية مخصوصة بحال التمكن ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن هذا في القيدية المستفادة من النهى أو الامر الغيري. واما القيدية المستفادة من النهى النفسي فهي تابعة للنهي ، وبعد سقوط النهى بالاضطرار تسقط القيدية فقط ، ولا موجب لسقوط المقيد ، هذا.

ولكن للتأمل في ذلك مجال ، لان القيدية وان استفيدت من النهى ، الا انها ليست معلولة للنهي ، بل هي معلولة للملاك الذي أوجب النهى. فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة ، وهو الملاك ، وسقوط أحد المعلولين بالاضطرار لا يوجب سقوط المعلول الآخر.

فالأولى ان يقال : ان القيدية المستفادة من النهى النفسي أيضا تقتضي القيدية المطلقة. وقد ذكرنا شطرا من الكلام في ذلك في رسالة المشكوك. وسيأتي انشاء اللّه البحث عنه أيضا في مسألة النهى في العبادات.

ولكن هذا لا اثر له في باب الصلاة ، لان الظاهر من قوله علیه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، هو كون قيدية كل قيد مقصورة بحال التمكن ، سواء كانت القيدية مستفادة من النهى الغيري ، أو من النهى النفسي. هذا كله بناء على الامتناع. واما بناء على الجواز فسقوط القيدية عند الاضطرار أولى ، من جهة انه بناء على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفت. والقيدية المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة ، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيدية لا محالة. وليس هناك ملاك اقتضى القيدية في صورة التزاحم ، حتى يقال : انه لا موجب لسقوط القيدية بسقوط المزاحم ، كما كان الامر في النهى النفسي كذلك - على ما عرفت - بل القيدية في باب التزاحم انما تكون معلولة للمزاحم ، وبعد سقوط المزاحم تسقط القيدية لا محالة ، ففساد الصلاة في الدار الغصبية لم يكن لها موجب الا حرمة الغصب ومزاحمة الصلاة للغصب ، بناء على الجواز ، وبعد الاضطرار إلى الغصب لايكون هناك مزاحم حتى يقتضى فساد الصلاة ، فالمحبوس في الدار الغصبية تصح

ص: 445

صلوته.

وتقييد بعض بما إذا لم تستلزم الصلاة تصرفا زائدا لم يظهر لنا وجهه ، فان شاغلية الشخص للمكان لا يختلف بين كونه قائما أو قاعدا أو نائما ، ولا يزيد بذلك أو ينقص ، فليس صلاة المحبوس تصرفا زائدا على ما إذا كان قاعدا ، بل لا يعقل ان يكون تصرفه في حال الصلاة زائدا على تصرفه في حال العقود ، وان كان العرف ربما يعد الصلاة لمكان اشتمالها على الهوى والجلوس والركوع والسجود تصرفا زائدا على ما إذا كان ساكنا ، الا ان لا عبرة بالنظر العرفي ، بعد ما كان تصرفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص.

هذا إذا كان محبوسا في الدار المغصوبة. وأما إذا دخل في الدار الغصبية لا عن اختيار ، ولكن كان مختارا في الخروج عنها ، فاللازم هو الصلاة في حال الخروج ماشيا إذا ضاق وقتها ، وليس له المكث فيها للصلاة ، لأنه اختياري محرم ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : ان المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب ، بحيث كان غير متمكن من ترك الغصب ، كالمحبوس. واما لو كان متمكنا من ترك الغصب ، ولكن كان غير متمكن من الصلاة الا في المغصوب ، بحيث دار الامر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب ، فهذا خارج عما نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بد من ملاحظة الأهمية والمهمية ، ولا يجرى فيه قوله علیه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، لأنه انما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرمة ذاتا ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا لم يكن عدم المندوحة بسوء الاختيار ، وأما إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، كمن توسط أرضا مغصوبة باختياره ، فالكلام فيه تارة : يقع من حيث الحكم التكليفي وان خروجه هل يكون مأمورا به أو منهيا عنه؟ وأخرى : يقع من حيث صحة الصلاة في حال الخروج وعدمها.

اما الجهة الأولى :

فقد وقعت معركة الآراء وتعددت فيها الأقوال.

فقول : بان الخروج واجب ليس الا ولا يعاقب عليه ، وهو المنسوب

ص: 446

إلى الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1).

وقول : بأنه واجب وحرام بمعنى انه مأمور به ومنهي عنه ، وهو المنسوب إلى أبى هاشم ، وحكى أيضا عن المحقق القمي (2).

وقول : بأنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه ، بمعنى انه يعاقب عليه لا بالنهي الفعلي ، بل بالنهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج ، وهو المنسوب إلى صاحب الفصول (3).

وقول : بأنه غير مأمور به ولا منهي عنه بالنهي الفعلي ، ولكن يعاقب عليه ويجرى عليه حكم المعصية مع الزام العقل بالخروج لكونه أقل محذورا ، من دون ان يكون مأمورا به شرعا ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني في كفايته (4).

وقول : بأنه منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بمأمور به شرعا.

والأقوى من هذه الأقوال هو القول الأول الذي اختاره الشيخ ( قده ) : فان مبنى سائر الأقوال هو كون المقام من صغريات قاعدة - الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار - وسيتضح فساد ذلك ، وان المقام ليس مندرجا في ذلك.

ولكن لو بنينا على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحق ما عليه المحقق الخراساني ( قده ) : من أنه ليس بمأمور به شرعا ولا منهيا عنه مع كونه يعاقب عليه ، وذلك لان الامتناع بالاختيار انما لا ينافي الاختيار عقابا ، لا خطابا ، فإنه

ص: 447


1- مطارح الأنظار ، ص 151 قوله قدس سره « والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيا عنه ولا يفترق فيه النهى السابق واللاحق »
2- قوانين الأصول ، التنبيه الثاني ص 86 قوله قدس سره « الثالث انه مأمور به ومنهى عنه أيضا ، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو الأقرب .. »
3- الفصول ، ص 140 قوله قدس سره « والحق انه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص ، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنه عاص به بالنظر إلى النهى السابق .. »
4- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 263 « والحق انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به .. »

يستحيل الخطاب بالممتنع وان كان امتناعه بسوء الاختيار ، حيث إنه لا يصلح الخطاب للداعوية والباعثية ، ومع هذا كيف يصح الخطاب؟.

ودعوى ان الخطاب في مثل هذا يكون تسجيليا ليس فيه بعث حقيقي مما لا نعقلها ، فان الخطاب التسجيلي من المولى الحكيم مما لا يعقل ، بل يتوقف صحة الخطاب من الحكيم على امكان ان يكون داعيا ومحركا لعضلات العبد ، وان لم يكن بمحرك فعلى ، كالخطابات المتوجهة إلى العصاة والكفار. واما الخطاب الذي لا يمكن ان يكون داعيا ومحركا فهو مستحيل من الحكيم. فدعوى : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، فاسدة جدا.

ومنه يظهر فساد القول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، مضافا إلى اقتضاء ذلك للامر بالنقيضين والنهى عنهما كما لا يخفى.

واما القول بكونه مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية عليه - لمكان النهى السابق الساقط - فهو أيضا مما لا يعقل ، لان اختلاف زمان الأمر والنهي مع تواردهما على شيء واحد بلحاظ حال وجوده مما لا اثر له ، لوضوح ان النهى عن الخروج في الزمان السابق على الدخول انما يكون بلحاظ حال وجود الخروج ، ومع كونه بهذا اللحاظ منهيا عنه كيف يكون مأمورا به؟ وهل هذا الا توارد الأمر والنهي على شيء واحد؟.

ودعوى : انه لا مانع من كون الخروج منهيا عنه قبل الدخول على نحو المعلق - بان يكون النهى فعليا وكان المنهى عنه استقباليا - لا تصحح هذا القول ، فان المعلق انما يقتضى تقدم زمان فعلية الحكم على زمان امتثاله ، ولكن مع استمرار الحكم إلى زمان الامتثال لا مع انقطاعه ، والمفروض من صاحب هذا القول هو سقوط النهى في حال الخروج ، وانما يجرى عليه حكم المعصية.

فظهر : انه بناء على كون المقام من صغريات قاعدة - الامتناع بالاختيار - لا محيص عن القول بان الخروج غير مأمور به ولا منهى عنه في الحال ، وان كان منهيا عنه قبل الدخول. ويجرى على الخروج حكم المعصية من حيث العقاب ، الا ان الشأن في كون المقام مندرجا تحت تلك القاعدة ، فان دعوى ذلك في غاية السقوط لما

ص: 448

فيها : (1).

أولا : ان الخروج غير ممتنع للتمكن من تركه ، والذي امتنع عليه هو مقدار من الكون في المغصوب ، الذي يحصل بالخروج تارة وبتركه أخرى ، ولكن ذلك لا يوجب امتناع الخروج ، لان الاضطرار إلى الجامع لا يلازم الاضطرار إلى ما يحصل به.

والحاصل : ان الاضطرار إلى مقدار من الغصب غير الاضطرار إلى الخروج ، ومحل الكلام هو امتناع الخروج. واما الاضطرار إلى الكون الغصبي في الجملة فسيأتي الكلام فيه ، فدعوى : ان الخروج مما يكون من الامتناع بالاختيار ، واضحة الفساد.

وثانيا : ان مورد قاعدة الامتناع بالاختيار ، هو ان يكون التكليف بالممتنع بالنسبة إلى المقدمة الاعدادية ، التي بتركها حصل الامتناع مطلقا ، بحيث تكون تلك المقدمة من المقدمات الوجودية ، على وجه لايكون الخطاب مشروطا بها ولا الملاك ، كالسير بالنسبة إلى الحج ، فان الحج وان كان مشروطا بالزمان من يوم عرفة امتثالا وخطابا - على ما هو الحق عندنا من امتناع الواجب المعلق - الا انه غير مشروط بالنسبة إلى السير. ومن هنا قلنا : ان السير واجب لا بالوجوب المقدمي الآتي من قبل وجوب الحج ، بل بالوجوب الطريقي الناشئ عن ملاك وجوب الحج ، على وجه يكون من قبيل متمم الجعل ، حيث إنه لا يمكن للآمر استيفاء ملاك الحج الا بأمرين : امر بالحج ، وامر بالسير إليه. وعلى كل حال ، ليس السير مقدمة وجوبية للحج ، بحيث يكون الملاك والخطاب مشروطا به ، فتركه حينئذ يوجب امتناع الحج عليه في يوم عرفة ، ويكون من الامتناع بالاختيار.

وأما إذا كان الواجب بالنسبة إلى تلك المقدمة الاعدادية مشروطا خطابا

ص: 449


1- ولا يخفى عليك : ان صاحب الكفاية لم يجعل الخروج مما امتنع على المكلف ، وانما يكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول ، وبعد الدخول لمكان الزام العقل به لا يعقل بقاء النهى ، بل لا بد من سقوطه ، وان يعاقب عليه. فالمهم في رد مقالة الكفاية ، هو اثبات ان الخروج لم يكن منهيا عنه قبل الدخول فتأمل - منه

وملاكا ، فترك تلك المقدمة الاعدادية وان كان يوجب امتناع الواجب ، الا انه ليس من صغريات تلك القاعدة. مثلا لو فرض ، ان السير كان مقدمة وجوبية للحج ، بحيث كان الحج واجبا إذا كان الشخص في الحرم واتفق وقوع السير منه ، فترك مثل هذا السير لا يوجب العقاب على ترك الحج ، وان امتنع عليه. وفي المقام يكون الدخول في الدار الغصبية من المقدمات التي يتوقف عليها أصل الخطاب بالخروج ، إذ لا يعقل الخروج الا بالدخول ، فلا يعقل النهى من الخروج الا مشروطا بالدخول ، ولا يتحقق للخروج ملاك النهى الا بعد الدخول ، فهو مشروط بالدخول خطابا وملاكا ، والمفروض انه بعد الدخول ليس الخروج منهيا عنه حسب تسليم الخصم. فمتى كان الخروج منهيا عنه؟ حتى يندرج تحت تلك القاعدة.

وبعبارة أخرى : الدخول يكون موضوعا للخروج ، حيث إنه لا موضوع للخروج بدون الدخول ، فكيف يعقل النهى عنه قبل الدخول؟ حتى يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

وبتقريب آخر : ( وان شئت فاجعله وجها ثالثا لفساد كون المقام من صغريات تلك القاعدة ) وهو ان امتناع الخروج انما يكون بترك الدخول لا بفعل الدخول ، فهو عكس قاعدة - الامتناع بالاختيار - لان مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان مخالفة الامر المقدمي يوجب امتناع ذي المقدمة ، كترك السير في مثال الحج. واما في المقام ، فامتثال النهى المقدمي وترك الدخول يوجب امتناع الخروج لعدم تحقق موضوعه ، لا فعل الدخول فان فعل الدخول موجب للتمكن من الخروج ، لا انه موجب لامتناعه.

وثالثا أو رابعا : انه يعتبر في مورد القاعدة ، ان يكون الفعل الممتنع عليه بالاختيار حال امتناعه غير محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع ، بل لا بد ان لايكون محكوما بحكم ، أولو كان محكوما بحكم لكان هو الحكم السابق على الامتناع ، كما يدعيه القائل بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا. مثلا الحج حال امتناعه على الشخص بترك المسير ، اما غير محكوم بحكم أصلا ، كما هو مقالة من يقول : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكا فقط ،

ص: 450

أو محكوما بحكم الوجوب كما هو مقالة من يقول : انه لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا.

واما لو فرض ان الفعل الممتنع حال امتناعه محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع فهو لايكون من صغريات تلك القاعدة ، كما في المقام ، حيث إن الخروج عن الدار الغصبية مما يحكم بلزومه العقل. وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه ، سواء قلنا : انه حكمه من باب اختيار أقل المحذورين ، كما قيل : أو قلنا : انه من باب وجوب رد المغصوب ، كما هو الأقوى على ما سيأتي. وعلى كل حال : يكون الخروج حال وقوعه مما يلزم به العقل ، ومعه كيف يندرج في قاعدة - الامتناع بالاختيار -.

هذا كله إذا كانت الدعوى ان الخروج مما يكون ممتنعا بالاختيار.

وأما إذا كانت الدعوى ان مقدارا من الكون الغصبي ممتنع ، فهي حق ، إذ لا محيص من مقدار من الكون الغصبي ، سواء مكث في الدار الغصبية أو خرج ، الا ان الكون الغصبي المتحقق في ضمن الخروج لايكون منهيا عنه بوجه من الوجوه وفي زمان من الأزمنة ، بل هو يكون واجبا في جميع الحالات ، لوجوب رد المغصوب إلى صاحبه بالضرورة من الدين. وكونه هو الذي أوقع نفسه في هذا التصرف الغصبي بسوء اختياره - حيث دخل في الدار عن اختيار - لا يوجب كون الخروج حال وقوعه مبغوضا ، كمن شرب دواء مهلكا وانحصر حفظ نفسه بشرب الخمر ، فان شرب الخمر في هذا الحال يكون واجبا عقلا وشرعا ، لتوقف حفظ النفس عليه ، وان كان بسوء اختياره أوقع نفسه في شرب الخمر. لمكان شربه الدواء المهلك. فالعقاب ( لو كان ) انما يكون في شرب ذلك الدواء لو كان شرب الخمر من الأمور التي لم يرد الشارع وقوعها في الخارج لما فيه من المفسدة ، فإنه ح يحرم على الشخص ادخال نفسه في موضوع يوجب شرب الخمر.

وليس ذلك كشرب المرأة الدواء الموجب للحيض المستلزم لعدم أمرها بالصلاة ، حيث إنه يمكن القول بجواز شربها للدواء ، إذ لم يعلم من مذاق الشارع مبغوضية ايقاع الشخص نفسه في موضوع يوجب عدم تكليفه بالصلاة. وهذا بخلاف

ص: 451

شرب الخمر ، فان ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليف بشرب الخمر مبغوض للشارع ، كما أن ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه بالتصرف في مال الغير مبغوض للشارع ، فالدخول في الدار الغصبية يكون مبغوضا ومحرما من جهتين : من جهة كونه هو بنفسه تصرفا في ملك الغير ، ومن جهة استلزامه للتصرف الخروجي ، بخلاف مثل شرب الدواء الموجب لشرب الخمر فإنه محرم من جهة استلزامه شرب الخمر ، وليس له جهة أخرى إذا كان الدواء في حد نفسه مما يجوز شربه.

والحاصل : انه ينبغي ان يقع التكلم في الدخول من جهة ان حرمته تكون من جهتين ، لا في الخروج فان الخروج واجب على كل حال. وليس وجوبه من باب حكم العقل باختيار أقل المحذورين ، فان مناط حكم العقل بلزوم الخروج عن ملك الغير في صورة ما إذا كان الدخول فيه بالاختيار ، وفي صورة ما إذا كان الدخول فيه بلا اختيار امر واحد ، وهو لزوم فراغ ملك الغير ورده إلى صاحبه ، الذي يحصل بالتخلية في غير المنقول. وليس حكم العقل بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بالاختيار بمناط يغاير مناط حكمه بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بغير الاختيار - حيث إنه في الأول يكون من باب أقل المحذورين ، وفي الثاني يكون من باب رد المغصوب ورفع اليد عنه - حتى يكون الثاني واجبا شرعا وعقلا دون الأول ، بل مناط حكم العقل معلوم عندنا مطرد في جميع اقسام الغصب من المنقول وغيره ، وانه في الجميع يجب رد المغصوب إلى أهله شرعا وعقلا ، غايته انه في المنقول يكون الرد بالقبض ، وفي غيره يكون برفع اليد والتخلية.

فظهر : انه لا محيص عن القول بان الخروج عن الدار الغصبية فيما إذا توسطها بالاختيار مأمور به ليس الا ، ولا يجرى عليه حكم المعصية. هذا تمام الكلام في الحكم التكليفي.

واما الحكم الوضعي :

وهو صحة الصلاة في حال الخروج عند ضيق الوقت ، فمجمل الكلام فيه : هو انه ان قلنا بان الخروج مأمور به ولا يجرى عليه حكم المعصية ، فلا اشكال في

ص: 452

صحة الصلاة في حال الخروج وكونها مأمورا بها ، نعم لا بد من ملاحظة عدم وقوع تصرف زائد على الخروج ، فيؤمى للركوع والسجود.

واما ان قلنا بجريان حكم المعصية عليه ، فبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي يقع التزاحم بين المأمور به والمنهى عنه ، حيث إن القيام في حال المشي يكون واجبا من جهة كونه من اجزاء الصلاة ، والساقط هو الاستقرار في حال القيام لا أصل القيام ، ولمكان انه يقتضى اشغال ملك الغير يكون منهيا عنه ، ولو بالنهي السابق الساقط ، حيث إن الكلام فيما إذا كان الخروج معصية حكمية ، فيقع التزاحم بين الامر بالقيام وبين النهى عن اشغال المكان حاله ، ولمكان - ان الصلاة لا تسقط بحال - يمكن ان يقال بوجوب الصلاة وسقوط قيدية القيام ، فتكون الصلاة في مثل هذا خالية عن القيام ، ان نقول ببقاء القيام على جزئيته للصلاة ويكون مأمورا به وان كان من جهة شاغليته لمكان الغير معصية ، أو نقول بأنه لا يجرى عليه حكم المعصية في مثل هذا الفرض لأهمية الصلاة ، فتأمل.

واما بناء على الامتناع ، فيكون نفس هذا القيام بما انه قيام معصية ومبغوضا للشارع ، ومعه ينبغي ان نقول بعدم صحة الصلاة ، وان كان يمكن ان يقال بسقوط قيدية القيام ، لمكان ان الصلاة لا تسقط بحال - فتأمل في المقام ، فإنه بعد لا يخلو عن اشكال ، ويحتاج إلى زيادة بيان. وشيخنا الأستاذ مد ظله لم يستوف الكلام في الحكم الوضعي على ما ينبغي. ونسئل اللّه حسن العاقبة والتوفيق لما يحب ويرضى. وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق المتعلقة بمبحث اجتماع الأمر والنهي في ليلة الثلثا غرة جمادى الأولى سنة 1347.

ص: 453

فصل في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

اشارة

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

قد أطالوا البحث في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي مع أنه ما كان ينبغي إطالة البحث عن ذلك ، فان الفرق بين المسئلتين جلى لا يكاد يخفى ، لما عرفت : من أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو ما إذا تعلق الامر بعنوان والنهى بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، والبحث فيه يكون عن اتحاد المتعلقين وعدم اتحادهما. والموضوع في هذه المسألة هو ما إذا تعلق النهى ببعض ما تعلق الامر به على وجه تكون النسبة بين المتعلقين العموم المطلق ، ويكون البحث فيها عن اقتضاء النهى للفساد. فموضوع كل من المسئلتين مع جهة البحث فيه يفترق عن موضوع الأخرى وعن جهة البحث فيها.

نعم : من لم يعتبر في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي كون النسبة العموم من وجه انحصر الفرق بين المسئلتين عنده في جهة البحث ، لا في الموضوع ، الا انه قد تقدم فساد ذلك وانه لابد في مسألة اجتماع الأمر والنهي من كون النسبة هي العموم من وجه.

نعم : بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب النهى تندرج مسألة الاجتماع في صغرى مسألة النهى عن العبادة وتكون من افرادها ، الا ان ذلك لا يوجب اتحاد المسئلتين.

ثم انه لا اشكال في كون المسألة من مسائل علم الأصول وليست من المبادئ ، فإنها تقع كبرى في قياس الاستنباط ابتداء. وليست كمسألة اجتماع

ص: 454

الأمر والنهي ، حيث تقدم انها تكون من مبادئ مسألة التعارض والتزاحم وليست هي بنفسها من المسائل. واما مسألة النهى عن العبادة والمعاملة فهي بنفسها من المسائل ، ويستنتج منها فساد العبادة أو المعاملة.

وبذلك يظهر فرق آخر بين المسئلتين وذلك واضح ، كوضوح ان المسألة ليست من مباحث الألفاظ ، بل البحث فيها انما يكون عن الملازمات العقلية للأحكام ، خصوصا بناء على ما هو التحقيق عندنا من أن الفساد يدور مدار عدم الامر والملاك معا ، ولا يكفي فيه عدم الامر كما حكى عن الجواهر ، فإنه لا دخل للفظ بالملاك ، بل الملاك امر واقعي تكويني لا بد من استكشاف عدمه في العبادة من مقدمات ، على ما سيأتي بيانها. والنهى بنفسه لا يكفي في الفساد مع قطع النظر عن كونه كاشفا عن عدم الملاك ، سواء كان مدلول اللفظ أو لم يكن ، كالنهي المستفاد من الاجماع والعقل.

نعم : لو قلنا بأنه يكفي في الفساد عدم الامر ولا يحتاج إلى عدم الملاك كان النهى بنفسه دالا على عدم الامر ، ومع ذلك لا دخل للفظ ، فان النهى الواقعي يدل على عدم الامر ، سواء كان الدال على النهى لفظا أو عقلا أو اجماعا ، فلا موجب لعد المسألة من مباحث الألفاظ. وكان حق الاعلام ان يعقدوا بابا مستقلا للبحث عن الملازمات العقلية ، ويبحثوا فيه عن هذه المسألة وما شابهها مما يكون البحث فيه عن الملازمات العقلية للأحكام الشرعية ، كمسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد. الا انهم لما لم يعقدوا لذلك بابا مستقلا ادرجوا هذه المسائل في مباحث الألفاظ.

الامر الثاني :

ينبغي خروج النهى التنزيهي عن حريم النزاع ، فإنه قد تقدم في مسألة الأمر والنهي انه لا يقتضى الفساد ، لان الرخصة الوضعية بالنسبة إلى الاتيان بأي فرد ( المستفادة من تعلق الامر بالطبيعة ) لا تنافى النهى التنزيهي المتضمن للرخصة أيضا ، على ما عرفت سابقا.

نعم : لو تعلق النهى التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه

ص: 455

الفساد مجال ، من جهة ان ما يكون مرجوحا ذاتا لا يصلح ان يتقرب به ، الا ان النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلقة بالعبادات لم تتعلق بذات العبادة على وجه يتحد متعلق الأمر والنهي ، على ما تقدم تفصيله. فالقول بان النهى التنزيهي كالنهي التحريمي داخل في حريم اقتضاء النهى للفساد ضعيف جدا.

ثم انه لا اشكال في دخول النهى النفسي في حريم النزاع ، وهل يختص النزاع به أو يعم النهى الغيري أيضا؟ والذي ينبغي ان يقال : هو ان النهى الغيري المسوق لبيان المعانعية كالنهي عن الصلاة في غير المأكول خارج عن مورد النزاع ، لأنه بنفسه يقتضى الفساد ، حيث يدل على دخل عدم ما تعلق النهى به في حقيقة المأمور به ، وانتفاء الشيء بوجود مانعه ضروري غير قابل للنزاع فيه.

واما النهى الغيري التبعي المستفاد من الامر بالشيء - بناء على اقتضائه النهى عن ضده - وأمثال ذلك من النواهي التبعية المتعلقة بالعبادة ، ففي دخوله في محل النزاع كلام ، من جهة كونه غير كاشف عن عدم الملاك ، بل غايته انه يوجب عدم الامر مع قطع النظر عن الامر الترتبي ، ومع عدم كشفه عن عدم الملاك لا يوجب الفساد ، بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة ، وسيأتي البحث في ذلك.

فظهر : ان المراد من النهى في عنوان النزاع هو النهى التحريمي النفسي ، أو الغيري التبعي ، على ما فيه من الكلام.

واما العبادة : فالمراد بها في المقام معناها الأخص ، أي الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ويتقرب بها منه تعالى.

والمراد من المعاملة : هي الانشائيات الأعم من العقود والايقاعات ، لا خصوص العقود ، ولا المعاملة بالمعنى الأعم الشاملة لمثل احياء الموات ، والحدود ، والمواريث ، وغير ذلك من الموضوعات لآثار شرعية ، فان النهى التحريمي فيها لا يوجب الفساد ، فان النهى عن الاحياء بالآلة الغصبية مثلا لا يوجب فساد الاحياء ، وذلك واضح. الا إذا كان النهى ارشاد إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيى ، وهذا خارج عما نحن فيه.

واما المراد من الفساد : فهو عبارة عن عدم ترتب الأثر المطلوب من الشئ

ص: 456

عليه. ومن هنا كان التقابل بين الصحة والفساد تقابل العدم والملكة لا التضاد ، على ما سيأتي بيانه.

الامر الثالث :

للصحة اطلاقان : اطلاق في مقابل العيب ، واطلاق في مقابل الفساد ، كما يقال : ان هذا الجوز صحيح ، أي غير معيوب ، وأخرى يقال : صحيح ، أي غير فاسد. والمراد من الصحة في المقام هو ما يقابل الفساد. وحيث كانت الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على الماهيات بعد وجودها ، فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، وحيث لم يكن الفساد أمرا وجوديا فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل التضاد ، وانحصر ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فيكون المراد من الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر المطلوب منه ، والفاسد ما لم يترتب عليه ذلك الأثر. وحينئذ لا بد ان يكون المورد قابلا لان يتصف بالصحة والفساد ، فيحمل عليه الصحيح تارة ، والفساد أخرى. فالبسائط لا تتصف بالصحة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، إذ فساد الشيء انما هو باعتبار عدم ترتب الأثر ، وذلك انما يكون باعتبار فقدانه بعض ما اعتبر فيه : من جزء ، أو شرط. وهذا انما يتصور في المركبات. واما البسائط ، فهي ان كانت موجودة فلامحة تكون صحيحه ، إذ ليس لها جزء أو شرط ، حتى يتصور فقدانه. وان لم تكن موجودة فلا تتصف ، لا بالصحة ، ولا بالفساد ، لما عرفت : من أن الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على وجود الشيء.

ثم انه ليس كل مركب ذي حكم شرعي مما يتصف بالصحة والفساد ، فان موضوعات التكاليف مع كونها مركبة لا تتصف بالصحة والفساد ، فمثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مع كون الموضوع فيه مركبا من العقل والبلوغ والاستطاعة ، لا يتصف بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم ، كالبسائط. والذي يتصف بالصحة والفساد هي متعلقات التكاليف وما يلحق بها من الأسباب كالعقد المركب من الايجاب والقبول ، والايقاع المشتمل على الشرائط المعتبرة فيه ، حيث إن المتعلق أو العقد يمكن ان يكون صحيحا باعتبار انطباقه على ما يترتب عليه الأثر ، ويمكن ان يكون فاسدا باعتبار عدم الانطباق. كما أن اجزاء المتعلق والعقد

ص: 457

أيضا تتصف بالصحة والفساد باعتبار اثرها الاعدادي ، ولا يلزم ان يكون الشيء صحيحا باعتبار كونه علة تامة للأثر المطلوب منه والمرغوب فيه ، بل يكفي ان يكون على وجه الاعداد ، كما هو الشأن في جميع متعلقات التكاليف ، حيث تكون من المعدات للمصالح التي من اجلها امر بها ، وليست هي علة تامة لذلك ، بحيث تكون المصالح من قبيل المسببات التوليدية لتلك المتعلقات ، والا كانت نفس الملاكات متعلقة للتكليف ، وكان فعل المكلف من قبيل المحصل والسبب لذلك ، وذلك يكون بمراحل عن الواقع وان توهمه بعض الاعلام ، وقد تقدم منا مرارا فساد التوهم.

فظهر : انه ليس المراد من الصحيح هو ما يكون علة تامة لترتب الأثر الذي لأجله صار متعلقا للتكليف ، بل يكفي ان يكون معدا لذلك. وان شئت قلت : ان المراد من الصحيح هو كون المأتى به في مقام الامتثال والخروج من عهدة التكليف مطابقا لما تعلق التكليف أو الوضع به ، لوضوح ان الذي يتصف بالصحة والفساد هو ما يوجد في الخارج من الافراد ، لا العنوان الكلي المتعلق للتكليف أو الوضع ، فان ذلك لا يتصف بالصحة والفساد ، واما المتصف بهما هو المأتى به في وادى الفراغ ، وما يلحق بذلك مما يأتي به في وادى الانشاء.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : انه بعد ما كان الصحيح عبارة عما ترتب الأثر والملاك عليه في باب العبادات ، فكيف قلتم بكون الأثر والملاك لم يتعلق به التكليف وكان متعلق التكليف هو الاجزاء والشرائط؟ فان ذلك ينافي لحاظ الصحة باعتبار ترتب الأثر.

وجه الدفع : هو ان لحاظ الصحة بهذا الاعتبار لا ينافي خروج الأثر عن دائرة التكليف ، بل يكفي في ذلك كون الأثر حكمة التشريع ، فإنه بعد ما كان الصحيح عبارة عن كون المأتى به مطابقا لما تعلق التكليف به أو الوضع به ، فلا فرق بين كون الأثر مما تعلق التكليف به ، أو لم يتعلق.

نعم يبقى في المقام اشكال : وهو ان ألفاظ المعاملات انما تكون موضوعة لنفس المسببات ، لا للأسباب ، فالبيع اسم للنقل ، والنكاح اسم للازدواج ، وهكذا سائر ألفاظ المعاملات. ومن المعلوم : ان المسببات تكون بسائط لا تتصف بالصحة

ص: 458

والفساد ، بل بالوجود والعدم ، فان النقل مثلا اما ان يكون حاصلا واما ان لايكون ، ولا معنى لحصوله فاسدا. وحينئذ ينبغي خروج المعاملات عن حريم النزاع ، لان الذي يتصف بالصحة والفساد هو الأسباب ، حيث تكون مركبة من الايجاب والقبول ، وهذا ليس بيعا ، والذي يكون بيعا لا يتصف بالصحة والفساد ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ، بما تقدم منا في الصحيح والأعم عند دفع اشكال التمسك بالاطلاقات لنفى شرطية ما شك في المعاملات بناء على كونها موضوعة للمسببات.

وحاصل ما ذكرناه في ذلك المقام ، هو ان العقد المؤلف من الايجاب والقبول في باب المعاملات ليس من قبيل العلل والأسباب ويكون النقل والانتقال في البيع معلولا له ، بل الايجاب والقبول انما يكون آلة لحصول النقل ، ويكون النقل هو الصادر عن المنشى ابتداء ، غايته انه لا بنفسه بل بآلته ، ويكون قوله ( بعت ) ايجادا للنقل بنفس القول ، لا ان القول علة لحصول النقل ، بحيث يكون هناك أمران ممتازان ، بل ليس هناك الا شيء واحد وفعل فارد صادر عن المنشى ، ويكون ذلك الفعل بما انه فعل صادر عن الشخص بمعناه المصدري ايجابا للبيع والنقل ، وبمعناه الاسم المصدري يكون بيعا ونقلا. ومن المعلوم : انه لا فرق بين المصدر واسم المصدر الا بالاعتبار ، فهذا القول ( ايجاب ) باعتبار صدوره وايجاده عن الشخص ، و ( نقل ) باعتبار انه اثر ذلك الصدور والايجاد. فحصول النقل من قوله ( بعت ) نظير حصول الكتابة من مد القلم على القرطاس ، وحصول قطع الخشب من اعمال النجار المنشار ، واشتراك الكل في كونها من الايجاد بالآلة. غايته ان القلم والمنشار آلة تكوينية ، بخلاف قوله ( بعت ) وحينئذ يكون المتصف بالصحة والفساد هو نفس الايجاب والقبول بما انه آلة لحصول النقل وبذلك يدخل في حريم النزاع في المقام. كما أنه بذلك يظهر وجه التمسك بالاطلاقات ، فراجع ما ذكرناه (1) في مبحث

ص: 459


1- راجع الجزء الأول من الفوائد ، بحث الصحيح والأعم ص 79 - 80. « واما المعاملات .. »

الصحيح والأعم.

فظهر : ان المعاملات تتصف بالصحة والفساد ، وان قلنا بكونها أسماء للمسببات.

ثم انه ربما يتوهم : ان الصحة والفساد في المعاملات من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بخلاف الصحة والفساد في العبادات ، فإنهما منتزعان عن مطابقة المأتى به للمأمور به وعدم المطابقة. وربما يقال : بأنهما مطلقا من المنتزعات الغير المتأصلة بالجعل في العبادات والمعاملات. وقد يقال : أيضا بأنهما مطلقا من المتأصلات في الجعل ، كالملكية والزوجية.

والأقوى : كونهما من الأمور الانتزاعية مطلقا في العبادات والمعاملات ، كالسببية والشرطية والجزئية والعانعية ، وانما المجعول هو منشأ الانتزاع. وهذا أيضا ليس على اطلاقه ، بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول شرعي.

وتفصيل ذلك : هو ان الاتيان بكل من متعلق الامر الواقعي الأولى ، والواقعي الاضطراري الثانوي ، والظاهري ، يكون مجزيا كل عن امره عقلا ، وينطبق عليه تكوينا ، ومن هذا الانطباق ينتزع وصف الصحة وكون ما اتى به صحيحا ، فالصحة في مثل هذا تنتزع عن كون المأتى به منطبقا على ما هو المأمور به ، حسب اختلاف المأمور به من كونه : واقعيا أوليا ، أو ثانويا ، أو ظاهريا. وكون المأتى به منطبقا على المأمور به ليس أمرا مجعولا شرعيا ، وانما المجعول الشرعي هو تعلق الامر بما ينطبق على المأتى به ، واما كون المأتى به منطبقا عليه أو غير منطبق فهو يدور مدار واقعه ، والصحة والفساد تنتزع من نفس الانطباق وعدمه. فلا الصحة والفساد في مثل هذا مجعولان شرعيان ، ولا منشأ الانتزاع مجعول شرعي.

هذا إذا كان الشيء منطبقا على المأمور به أو غير منطبق. وأما إذا شك في الانطباق وعدم الانطباق ، فللشارع حينئذ الحكم بالبناء على الانطباق ، كما هو شأن الأصول الجارية في وادى الفراغ ، ومن حكم الشارع بالانطباق ينتزع وصف الصحة ، فيكون منشأ الانتزاع في مثل هذا مجعولا شرعيا ، حيث إن الشارع حكم بكون المأتى به منطبقا على المأمور به حسب ما أدى إليه الأصل. ولكن هذه الصحة

ص: 460

الظاهرية المنتزعة عن حكم الشارع بانطباق المأتى به على المأمور به انما تكون إذا لم ينكشف الخلاف ، وأما إذا انكشف الخلاف وتبين عدم الانطباق فالصحة تنعدم ، بناء على ما هو الحق من عدم اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء.

نعم : للشارع أيضا بعد انكشاف الخلاف الحكم بالصحة ، ومرجع الصحة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما اتى به امتثالا للواقع عن الواقع وهذه ترجع إلى الصحة الواقعية بوجه.

وعلى كل حال : الصحة والفساد أينما كانا فإنما يكونان من الانتزاعيات.

ودعوى انها في المعاملات من الاحكام المجعولة فاسدة ، فان المجعول في باب المعاملات هو ترتب الأثر عند تحقق سببه ، وهذا لا يتصف بالصحة والفساد ، بل المتصف بهما هو الفرد المأتى به من المعاملة. وهذا الفرد انما يتصف بالصحة عند انطباقه على ما يكون مؤثرا ، وقد عرفت : ان الانطباق يكون أمرا واقعيا ومنه ينتزع الصحة ، فحال الصحة في المعاملات حالها في العبادات.

الامر الرابع :

البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهى عنه لولا النهى ، بحيث كان صحيحا لولا النهى لمكان اندراجه تحت اطلاق دليل العبادة أو المعاملة ، كما يظهر من المحقق القمي (رحمه اللّه) بل يصح البحث عن اقتضاء النهى للفساد ولو كان المنهى عنه لولا النهى مشكوك الصحة والفساد من جهة الشبهة الحكمية أو المفهومية ، وكان الأصل العملي فيه يقتضى الفساد. مثلا لو كان ( صوم الوصال ) أو ( المقامرة ) مشكوك الصحة والفساد من جهة : عدم الدليل ، أو تعارض الدليلين ، أو غير ذلك من أسباب الشك ، فلا اشكال في أن الأصل عند الشك في ذلك هو الفساد ، لأصالة عدم مشروعية صوم الوصال ، وأصالة عدم ترتب الأثر من النقل والانتقال في المقامرة ، إذا فرض ان أوفوا بالعقود لا يعم المقامرة ، وعمومات الصوم لا تشمل صوم الوصال. ولكن مع ذلك لو تعلق النهى عن صوم الوصال أو المعاملة القمارية ، كان للبحث عن اقتضاء مثل هذا النهى للفساد مجال.

ص: 461

ولا يتوهم : انه لا معنى للبحث عن ذلك بعد ما كان مقتضى الأصل الفساد ، لأنه بناء على اقتضاء النهى للفساد يكون الفساد مستندا إلى الدليل الاجتهادي الحاكم على الأصل العملي ، وان كان موافقا له في المؤدى كما حقق في محله. فدعوى ان مورد البحث يختص فيما إذا كان هناك مقتض للصحة مما لا شاهد عليها.

الامر الخامس :

لا أصل في نفس الجهة المبحوث عنها لو شك فيها ، سواء كان البحث عن اقتضاء النهى الفساد من حيث الدلالة اللفظية ، أو كان من حيث الملازمات العقلية ، إذا لملازمة العقلية لو كانت فهي أزلية فليس لها حالة سابقة ، فلا أصل يحرز الملازمة وعدم الملازمة ، وكذلك لا أصل لنا يعين دلالة اللفظ وعدم دلالته لو شك في الدلالة ، وذلك واضح. هذا بالنسبة إلى المسألة الأصولية المبحوث عنها في المقام.

واما بالنسبة إلى المسألة الفرعية المستنتجة عن المسألة الأصولية ، ففي العبادات يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لأن الشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في مانعية المنهى عنه عن العبادة ، ويندرج في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويكون المرجع هو البراءة فيها أو الاشتغال ، كل (1) على مسلكه.

هذا إذا كان هناك امر بالعبادة مع قطع النظر عن النهى. واما لو لم يكن امر بها فالشك في اقتضاء النهى للفساد يوجب الشك في مشروعية العبادة ، والأصل يقتضى عدم المشروعية ، فتأمل.

واما في المعاملات : فالشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في

ص: 462


1- وقد أطلق شيخنا الأستاذ مد ظله القول باندراج المقام في مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر ، ولكن ينبغي التفصيل ، بين ما إذا تعلق النهى بنفس العبادة ، وبين ما إذا تعلق بجزئها أو شرطها ، فإنه لو تعلق بنفس العبادة لا يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لاقتضاء النهى حرمة العبادة على كل حال وان شك في اقتضائه الفساد ، ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، إذ ليس هناك شيء وراء العبادة تعلق النهى به يشك في مانعية ، حتى ينفى بالأصل ، فتأمل جيدا. منه

صحة المعاملة ، والأصل يقتضى عدم الصحة ، لأصالة عدم ترتب الأثر عليها ، الا إذا كان هناك اطلاق أو عموم يقتضى الصحة وترتب الأثر فتدبر جيدا.

وإذ تمهدت هذه المقدمات ، فالكلام في اقتضاء النهى للفساد يقع في مقامين :

المقام الأول :

في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد.

وتعلق النهى عن العبادة يتصور على وجوه : إذ قد تكون العبادة منهيا عنها لذاتها ، وقد تكون منهيا عنها لجزئها على وجه يكون الجزء واسطة في الثبوت ، وقد تكون منهيا عنها لشرطها كذلك ، وقد تكون لوصفها الخارج كذلك. وقد يكون نفس الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف منهيا عنه ، وكان النهى عن العبادة المشتملة على ذلك الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف ، بالعرض والمجاز.

وقبل ذكر حكم هذه الأقسام ، لا بأس بالإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة.

فمنها : انه كيف يعقل ان تكون العبادة منهيا عنها؟ مع أن العبادة ما توجب القرب إليه تعالى ، ولا يعقل النهى عن ذلك.

ومنها : ان النهى عن العبادة لا يجتمع مع الامر بها ، ومع عدم الامر بها تكون العبادة فاسدة لعدم مشروعيتها ، فلا تصل النوبة إلى اقتضاء النهى للفساد ، بل الفساد يستند إلى أسبق علله ، وهو عدم المشروعية.

ومنها : انه لا يمكن النهى عن العبادة لذاتها ، حيث إن ذات العبادة بما انها ذات لم يتعلق بها النهى ، بل لا بد ان تكون هناك خصوصية أوجبت النهى ، كصلاة الحايض ، وصوم العيدين ، وأمثال ذلك مما كانت نفس العبادة منهيا عنها. فجعل النهى عن العبادة لذاتها قسيما للنهي عن العبادة لوصفها لا يستقيم ، بل دائما يكون النهى عن العبادة لوصفها ، ولو كان ذلك مثل الحيض في الحائض والزمان في العيدين ، هذا. ولكن لا يخفى عليك ضعف جميع ذلك.

اما الأول :

فلانه ، ليس المراد من تعلق النهى بالعبادة الفعلية ، بل المراد تعلق النهى بما

ص: 463

كان من سنخ الوظائف التي يتعبد بها ، بحيث لو لم يتعلق بها نهى وتعلق بها امر كان أمرها أمرا عباديا لا يسقط الا بالتعبد به والتقرب إليه تعالى ، من غير فرق بين ما كان ذاتا عبادة ، كالسجود لله - لو فرض تعلق النهى به - وما لم يكن كذلك ، كالصوم والصلاة ، فان السجود لله بوصف كونه مما يتقرب به إليه تعالى فعلا لا يعقل تعلق النهى به ، بل تعلق النهى به موجب لعدم كونه مقربا ، وان كان مقربا لولا النهى ، كما هو الحال في مثل الصلاة والصوم.

واما الثاني :

فلانه قد تقدم ان الفساد لولا النهى كان من جهة أصالة عدم المشروعية ، واما لو تعلق النهى بها كان الفساد من جهة قيام الدليل الاجتهادي عليه ، والأصل لا يقاوم الدليل ، مضافا إلى أنه ربما تكون العبادة مندرجة تحت اطلاق ما دل على مشروعيتها في نوعها ، فيكون الفساد مستندا إلى النهى ليس الا ، كما لا يخفى.

واما الثالث :

فلان ذلك مناقشة مثالية. والمقصود : ان النهى قد يتعلق بذات العبادة لأجل خصوصية نوعية قائمة بذاتها ، وان كانت تلك الخصوصية من قبيل أوصاف المكلف الآتي بالعبادة ، كالحيض. وأخرى : يتعلق النهى بالعبادة لأجل خصوصية صنفية أو شخصية خارجة عن الذات لاحقة لها. والمناقشة بان الحيض ليس من الخصوصيات المنوعة للذات لا أهمية لها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا ، سواء كان لذاتها ، أو لجزئها ، أو لشرطها ، أو لوصفها ، إذا كانت هذه من الوسائط الثبوتية ، سواء قلنا : بكفاية عدم الامر لفساد العبادة - كما يحكى عن الجواهر - أو عدم كفاية ذلك بل يتوقف الفساد على عدم الملاك أيضا - كما هو المختار - وسواء كان اطلاق الامر بدليا ( كصل ) أو شموليا ( كأكرم العالم ) لو فرض انه امر عبادي فإنه على جميع هذه التقادير النهى يقتضى الفساد ، فإنه لا محيص عن تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا مورد النهى بعد ما كانت النسبة بين المتعلقين العموم المطلق وكان متعلق النهى أخص ، فإنه لولا التقييد يلزم الغاء النهى بالمرة ، أو اجتماع

ص: 464

الضدين ، وكلاهما لا يمكن. فالتقييد مما لا بد منه ، فلا امر ، ومع عدم الامر ، فان قلنا بمقالة صاحب الجواهر ، ففساد العبادة المنهى عنها واضح لا يحتاج إلى تجشم برهان.

واما بناء على المختار : فكذلك أيضا لأنه وان قلنا بكفاية الملاك في صحة العبادة ، الا انه ليس كل ملاك مصححا للعبادة ، بل لا بد ان يكون الملاك تاما في عالم ملاكيته ، بحيث انه لم يكن مغلوبا ومقهورا بما هو أقوى منه ، إذا الملاك المغلوب غير صالح للعبادية ، والا لما صار مغلوبا. ومن المعلوم : ان النهى عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة في العبادة أقوى من مصلحتها لو فرض انه كان فيها جهة مصلحة ، والا فمن الممكن ان لايكون في العبادة المنهى عنها جهة مصلحة أصلا ، وعلى تقدير ثبوتها فهي مغلوبة بما هو أقوى منها الذي أوجب النهى عنها ، إذ لو كانت مساوية أو أقوى من مفسدة النهى لما تعلق بها النهى ، فإذا كانت المصلحة مغلوبة سقطت عن صلاحيتها للتقرب ، وكانت العبادة فاسدة لا محالة. وينحصر تصحيح العبادة بالملاك بما إذا كان عدم الامر بها لأجل عدم القدرة عليها لمكان المزاحمة ، لا ما إذا كان عدم الامر بها من جهة التقييد والتخصيص.

هذا إذا تعلق النهى بنفس العبادة

وأما إذا تعلق بجزئها : فالأقوى انه كذلك أي يقتضى الفساد ، سواء كان الجزء من سنخ الافعال ، أو كان من سنخ الأقوال. وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهى عنه ، كما إذا اقتصر على قرائة سورة العزيمة بناء على كونها منهيا عنها ، أو لم يقتصر ، كما إذا قرء سورة أخرى بعد قرائة العزيمة أو قبلها. وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا ، كما إذا قلنا بحرمة القران بين السورتين في الصلاة ، أو كان لا بشرط ، كما إذا قلنا بجواز القران. فإنه على جميع هذه التقادير يكون المنهى عنه مفسدا للعبادة ، لان النهى عن جزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء ، وتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة. ونفس اعتبار العبادة بشرط لا عن شيء يقتضى فساد العبادة الواجدة لذلك الشيء ، لعدم كون الواجد له من افراد المأمور به بل المأمور به غيره ، فالآتي بالمنهى عنه غير آت بالمأمور به. مضافا إلى أنه يعمه أدلة الزيادة ، و

ص: 465

يكون قد زاد في صلوته مثلا فتفسد. ومضافا إلى أنه يعمه أيضا أدلة التكلم إذا كان المنهى عنه من سنخ الأقوال ، فإنه وان لم يخرج بالنهي عن كونه قرآنا مثلا ولا يدخل في كلام الآدمي ، الا انه بعد النهى عنه يخرج عن أدلة جواز القرآن والذكر في الصلاة ، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في اطلاقات مبطلية مطلق التكلم من غير تقييد بكلام الآدمي ، والقدر الخارج عن هذا الاطلاق هو التكلم بالقرآن والذكر الجائز ، ويبقى الذكر أو القرآن المنهى عنه داخلا تحت الاطلاق.

وبما ذكرنا يظهر : انه لا فرق في بطلان الصلاة بقرائة العزيمة ، بين ما إذا قرئها بعد الحمد في مكان السورة ، أو قرئها في حال التشهد ، أو الركوع ، أو غير ذلك ، إذ مناط الفساد مطرد بعد ما كانت العزيمة منهيا عنها في الصلاة مطلقا وفي جميع الحالات ، فتأمل جيدا.

هذا إذا تعلق النهى بالجزء. وأما إذا تعلق بالشرط فهو كتعلقه بالوصف ، إذ الشرط يرجع إلى الوصف. ومجمل القول في ذلك : هو ان الوصف المنهى عنه تارة : يكون متحدا مع العبادة في الوجود وليس له وجود استقلالي مغاير للموصوف ، كالجهر والاخفات في القراءة ، حيث إنه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة ، بل هو من كيفياتها. وأخرى : يكون للوصف وجود مغاير ، كالتستر والاستقبال في الصلاة. فان كان على الوجه الأول ، فالنهي عنه في الحقيقة يرجع إلى النهى عن العبادة الموصوفة بذلك الوصف ، ويندرج فيما تقدم من اقتضاء النهى للفساد ، كما لا يخفى. وأما إذا كان على الوجه الثاني ، فالنهي عنه لا يقتضى فساد العبادة ، حيث إنه لا موجب له ، إذ أقصى ما يقتضيه ذلك النهى هو حرمة ذلك الوصف والشرط ، ووقوع شيء محرم في أثناء العبادة لا يوجب فسادها إذا لم تقيد العبادة بالخالي عنه ، فيكون حال الوصف المنهى عنه في العبادة حال النظر إلى الأجنبية في أثناء العبادة ، وغير ذلك من المقارنات.

نعم : إذا كان الشرط المنهى عنه عبادة يكون الشرط فاسدا وبفساده تفسد العبادة المشروطة به أيضا ، والسر في ذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان النهى عن العبادة نفسيا. وأما إذا كان غيريا تبعيا ، كالنهي المتولد من الامر بالشيء ، فقد تقدم

ص: 466

في مبحث الضد انه لا يقتضى الفساد ، الا إذا قلنا بتوقف العبادة على الامر ولم نقل بالامر الترتبي ، على ما تقدم. هذا تمام الكلام في النهى عن العبادة. وينبغي التنبيه على أمرين :

الامر الأول :

ان مقتضى القاعدة كون النهى عن العبادة موجبا لفسادها مطلقا ، وانه مانع من صحتها ، من غير فرق بين صورة الاضطرار والنسيان الموجب لارتفاع الحرمة واقعا ، لان المعانعية ليست معلولة للحرمة حتى تدور مدارها ، بل هي والحرمة كلاهما معلولان للجهة التي أوجبت النهى : من المفسدة والمبغوضية الواقعية التي لا ترتفع بالاضطرار والنسيان.

هدا ، ولكن المحكى عن المشهور خلاف ذلك ، حيث حكى عنهم : انه لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلوته ، وكذا في صورة النسيان. وكذا حكى عنهم : انه لو شك في كون اللباس حريرا ، أو كون الشيء ذهبا ، المستتبع للشك في حرمة لبسه المستتبع للشك في مانعيته ، فبأصالة الحل والبرائة يرتفع الشك في المانعية ، كما هو الشأن في كل شك سببي ومسببي ، حيث إن الأصل الجاري في الشك السببي رافع للشك المسببي ، ولا يجرى الأصل فيه موافقا كان أو مخالفا ، هذا.

ولنا في كل من المحكى عن المشهور نظر. اما في الأول : فلما فيه.

أولا : ان الموجب للمانعية ليس الا التضاد بين اطلاق الامر والحرمة ، إذ لولا التضاد لما كان وجه للمانعية وفساد العبادة ، وقد تقدم في مبحث الضد ان الضدين في عرض واحد ، ليس بينهما طولية وترتب ، وليس وجود أحدهما مقدمة لعدم الآخر ، ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر. فيكون في المقام عدم الامر بالعبادة مع حرمتها في رتبة واحدة ، وليست الحرمة مقدمة لعدم الامر ، ولا عدم الامر مقدمة للحرمة ، فلو كان عدم الحرمة وارتفاعها في صورة الاضطرار والنسيان موجبا للامر بالعبادة ، يلزم كون عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر. وكان المشهور غفلوا عن مبناهم من عدم المقدمية في باب الضد ، والتزموا في المقام بان ارتفاع الحرمة

ص: 467

عن العبادة موجب لثبوت الامر بالعبادة ، مع أن هذا عين القول بالمقدمية ، فتأمل جيدا.

وثانيا : انه هب ان الحرمة في طول الامر وبينهما ترتب ، الا ان المانعية ليست معلولة للحرمة ومسببة عنها ، حتى يكون ارتفاعها موجبا لارتفاع المانعية ، بل المانعية والحرمة معا معلولان لعلة ثالثة ، وهي الملاك والمفسدة التي أوجبت الحرمة وأوجبت المعانعية ، ومن المعلوم : ان ارتفاع أحد معلولي علة ثالثة لا يوجب ارتفاع المعلول الآخر الا إذا ارتفعت نفس العلة. والاضطرار والنسيان لا يوجبان الا رفع الحرمة ، واما الملاك والمفسدة فهو بعد على حاله.

الا ان يقال : ان الاضطرار والنسيان حيث وردا في حديث الرفع كان رفعهما في الدليل كاشفا عن عدم لملاك. ولكن هذا لا يستقيم ، لورود حديث الرفع مورد الامتنان فهو لا ينافي بقاء الملاك والمفسدة ، ويكون المرفوع هو الحرمة فقط.

واما في الثاني : فلما فيه أولا : ما عرفت من أن المانعية ليست مسببة عن الحرمة ، حتى يكون جريان أصالة الحل عند الشك في الحرمة موجبا لرفع الشك في المانعية ، بل الشك في المانعية بعد على حاله ، ولا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا يكفي جريان الأصل في الحرمة.

وثانيا : هب ، ان المعانعية مسببة عن الحرمة ، الا انه ليس كل أصل جار في السبب يكون رافعا للشك المسببي ، بل لا بد ان يكون المسبب من الآثار الشرعية المترتبة على السبب ، بحيث يكون التعبد بالسبب تعبدا بالمسبب ، كما في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرية. وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، لان الحلية المجعولة بأصالة الحل تكون من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار إلى اكل ما هو محرم الاكل ، كالأرنب ، غايته ان الحلية المجعولة في حال الاضطرار تكون واقعية ، والمجعولة بأصالة الحل تكون ظاهرية. ومن المعلوم : ان حلية اكل لحم الأرنب عند الاضطرار لا توجب عدم مانعية المتخذ منه من اللباس للصلاة ، لان الأرنب بعد محرم الاكل ، أي خلقه اللّه تعالى محرم الاكل ، كما خلق الغنم محلل الاكل ، وهذه الحرمة الاقتضائية المجعولة لذات الأرنب لا ترتفع بالحلية المجعولة في حال الاضطرار ، كما أن

ص: 468

الحلية المجعولة للغنم بحسب الذات لا ترتفع بالحرمة العارضة له بسبب الجلل أو الوطي ، إذ لا تنافي بينهما ، فان أحدهما حلية أو حرمة اقتضائية وضعية ذاتية ، والأخرى حلية أو حرمة تكليفية فعلية عارضية. والمانعية في غير المأكول على تقدير كونها معلولة للحرمة ، فإنما هي معلولة لتلك الحرمة الذاتية الاقتضائية ، وهي كما لا ترتفع بالاضطرار ، كذلك لا ترتفع بأصالة الحل عند الشك في كون الحيوان محلل الاكل أو محرمه ، لما عرفت : من أن الحلية المجعولة بأصالة الحل من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار المجامعة للحرمة الذاتية. فاجراء أصالة الحل لا ينفع في رفع الشك في المانعية ، بل إن الشك في المانعية بعد على حاله ، الا ان يدعى ان أصالة الحل تثبت الحلية الواقعية الاقتضائية ، وهو بمكان من الفساد بحيث لا يخفى. وهذا بالنسبة إلى مانعية غير المأكول واضح.

واما فيما نحن فيه. من مانعية الحرير والذهب ، فان كانت حرمة لبس الحرير والذهب في الصلاة ( نظير حرمة اكل لحم الأرنب ) المحفوظة في حال الاضطرار إلى لبس الحرير والذهب ، فأصالة الحل لا تنفع في رفع الشك في المانعية ، كما في غير المأكول. وأما إذا لم يكن للبس الحرير والذهب الا حرمة واحدة وحكم فارد ترتفع في حال الاضطرار إلى لبسهما ، فبجريان أصالة الحل يرتفع الشك في المانعية ، على تقدير تسليم كون المانعية معلولة للحرمة. وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله إلى أن الحرمة في لبس الحرير والذهب نظير الحرمة في غير المأكول ، وحينئذ تكون المانعية المستفادة من الحرمة كالمانعية المستفادة من النهى الغيري ، في أنها لا ترتفع بالاضطرار والنسيان ، وعند الشك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا تنفع أصالة الحل ، فتأمل في المقام جيدا.

الامر الثاني :

محل الكلام في اقتضاء النهى للفساد ، انما هو فيما إذا كان النهى متعلقا بالعبادة ابتداء ، أي كانت العبادة محرمة ذاتا. وأما إذا كان النهى عنها من جهة قبح التشريع ، أي الحرمة المأتية من قبل قبح التشريع ، فهل هو كذلك؟ أي يقتضى الفساد ، أو انه لا يقتضيه؟ أو التفصيل بين العبادة فيقتضيه ، والمعاملة فلا

ص: 469

يقتضيه ، ومحل الكلام انما هو في العبادة أو المعاملة التي كانت في الواقع مشروعة وممضاة ، أي كانت مما تعلق بها الامر والامضاء ولكن المكلف لم يعلم بذلك وأسندها إلى الشارع تشريعا.

والحق في مثل هذا ، التفصيل بين العبادة والمعاملة ، ففي المعاملة : حرمة التشريع لا تقتضي الفساد ، لأنه هب انه كان اصدارها قبيحا عقلا ومحرما شرعا ، الا ان حرمة الاصدار ومبغوضية الايجاد لا تقتضي الفساد ، على ما سيأتي في المقام الثاني.

واما في العبادة : فالحرمة التشريعية كالحرمة الذاتية تقتضي الفساد لقبح التشريع عقلا المستتبع بقاعدة الملازمة للحرمة الشرعية. وحكم العقل بقبح التشريع لا يدور مدار الواقع ، بحيث إذا كانت العبادة في الواقع مشروعة كان المكلف متجريا ، بل تمام مناط حكم العقل بقبح التشريع هو الاسناد إلى المولى ما لم يعلم أنه منه ، من غير فرق بين ان يعلم أنه ليس منه ، أو يظن ، أو يشك. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح التصرف في مال الغير ، بحيث يكون له حكم واقعي وحكم طريقي في صورة الشك ، على ما بيناه في محله. فنفس عدم العلم بان الشارع لم يأمر بالعبادة يتحقق تمام موضوع حكم العقل بقبح التشريع ، ويتبعه الحرمة الشرعية. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح المعصية مما لا يستتبع حكما شرعيا فان قبح المعصية من جعل بذاته كحجية العلم ، ليس يقبل جعلا شرعيا ، موافقا أو مخالفا. بخلاف قبح التشريع ، فإنه قابل لجعل حكم مخالف ولا محذور فيه ، إذ يصح للشارع تجويز التشريع ، فهذا يدل على أن قبح التشريع ليس مما لا يستتبع بقاعدة الملازمة حكما شرعيا ، فحكم العقل بقبح التشريع يقتضى الحرمة الشرعية. وليس قبح التشريع أيضا من الآثام القلبية ، بحيث لا يسرى إلى العمل والفعل المتشرع به ، بل الفعل يكون مبغوضا وقبيحا ، غايته انه لا لذاته ، بل القبيح هو جهة الاصدار والايجاد ، وهذا المقدار يكفي في فساد العبادة لجهة بغضها الفاعلي. وقد تقدم منا : ان العبادة تحتاج إلى حسنها الفعلي والفاعلي معا ، ولا يكفي حسنها الفعلي ، فالحرمة التشريعية وان لم تناف المطلوبية الذاتية لكونهما في مرتبتين ،

ص: 470

الا انها تنافى حسنها الفاعلي فتفسد ، فتأمل.

المقام الثاني في النهى عن المعاملة

ومجمل القول في ذلك : ان النهى عن المعاملة تارة يكون للارشاد إلى عدم حصولها ، فهذا لا اشكال في كونه موجبا لفسادها ، سواء تعلق بناحية السبب ، أو بناحية المسبب. فان تعلق بناحية السبب فهو يقتضى عدم ترتب المسبب على ذلك السبب ، وان تعلق بناحية المسبب فهو يقتضى عدم حصوله في الخارج. وهذا مما لا اشكال فيه ، فان النهى الارشادي حيث ما تعلق يقتضى الفساد ، حيث إنه ارشاد إلى الفساد.

وأما إذا كان النهى عن المعاملة مولويا مفاده الحرمة ، فتارة : يتعلق بالسبب ، وأخرى : يتعلق بالمسبب ، وثالثة : يتعلق بآثار المسبب : من التصرف في الثمن والمثمن ، وغير ذلك من الآثار المترتبة على المعاملة. والتعبير بالسبب والمسبب لا يخلو عن مسامحة ، لما تقدم من أنه ليس باب العقود والايقاعات من الأسباب والمسببات ، بل هي من باب الايجاديات ، والايجاب والقبول بمنزلة الآلة لذلك ، ويكون المنشأ بنفسه هو الصادر عن المكلف ابتداء ، وهو الموجد له في وعاء الاعتبار ، لا ان الصادر عنه هو السبب ، حتى يكون النقل والانتقال من المسببات التوليدية. وقد تقدم تفصيل ذلك. فالمراد من تعلق النهى بالسبب تعلقه بالايجاد بمعناه المصدري ، ويكون المحرم المنهى عنه هو ايجاد المعاملة وانشائها والاشتغال بها ، كالبيع وقت النداء ، حيث إن المحرم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء ، لا النقل والانتقال. والمراد من تعلقه بالمسبب تعلقه بالموجد ، بمعناه الاسم المصدري ، ويكون المحرم المبغوض هو المنشأ والنقل والانتقال ، كبيع المسلم والمصحف للكافر ، حيث إن المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر ، لا انشاء النقل ، ومبغوضية الانشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر ، وهو النقل والانتقال.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان النهى لو كان عن نفس الايجاد والانشاء والاشتغال بالمعاملة ، فهو لا يقتضى الفساد ، إذ حرمة الايجاد لا يلازم مبغوضية الموجد وعدم تحققه. واما لو تعلق النهى بنفس المنشأ والموجد ، فهو يقتضى الفساد

ص: 471

لخروج المنشأ حينئذ عن تحت سلطانه ، ولا قدرة عليه في عالم التشريع ، والمانع التشريعي كالمانع العقلي.

والحاصل :

ان الأمر والنهي الشرعيين موجبان لخروج متعلقهما عن سلطة المكلف ، ويكون في عالم التشريع مقهورا على الفعل أو الترك ، ومن هنا كان اخذ الأجرة على الواجبات حراما ، لخروج الفعل بالايجاب الشرعي عن تحت قدرته وسلطانه ، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الأجرة عليه ، الا إذا تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار كما في الصناعات النظامية ، فإنه له اخذ الأجرة على عمله ، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدري عن تحت سلطانه ، لعدم تعلق الايجاب به ، بل تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار وعدم احتكار العمل. وأما إذا تعلق الامر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدري فقد خرج العمل عن تحت سلطانه ، كما أنه لو تعلق النهى بنفس العمل فإنه أيضا يخرج عن تحت سلطانه ، ويكون النهى مخصصا لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى ذلك يبتنى عدم جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها في ضمن العقد ، أو نذر البيع من زيد أو شرط ذلك ، فإنه لا يصح بيعه من غير زيد.

والسر في جميع ذلك : هو ان النذر ، والشرط ، والامر والنهى ، موجب لخروج المتعلق عن دائرة السلطنة ، ومخصص لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) ومن شرائط صحة المعاملة السلطنة وعدم الحجر. ودعوى ان الوجوب والحرمة لا ينافيان السلطنة ضعيفة غايته ، فإنه لا معنى لبقاء السلطنة مع المنع الشرعي ، كما لا معنى لبقاء السلطنة مع سلبها عن نفسه بنذر أو شرط ، بعد ما دل الدليل على لزوم الوفاء بالنذر والشرط. وقد عرفت : ان جميع ذلك مندرج تحت جامع واحد وملاك فارد ، وهو ان الممنوع عنه شرعا موجب لسلب السلطنة. وبعض ما يترتب على ذلك من الفروع كأنه متسالم عليه عند الأصحاب ، وان كان بعضه الآخر لا يخلو عن خلاف. هذا إذا تعلق النهى بنفس المنشأ. وأما إذا تعلق بآثاره ، كقوله : ثمن العذرة أو الكلب سحت ، فهو يكشف أيضا انا عن عدم ترتب المنشأ وعدم تحققه. و

ص: 472

من الغريب : ان بعض الاعلام سلم دلالة النهى عن الآثار على الفساد ، وأنكر دلالة النهى عن نفس المنشأ على الفساد ، مع أن الثاني أولى ، فتأمل جيدا.

ثم انه ربما يستدل على الفساد ، ببعض الاخبار (1) المعللة لعدم فساد نكاح العبد بدون اذن مولاه : بأنه لم يعص اللّه وانما عصى سيده.

تقريب الاستدلال : هو ان الظاهر من الرواية ، ان الشيء إذا كان معصية لله تعالى فهو فاسد ، ولا يصححه إجازة الغير ، والنهى التحريمي المتعلق بالمعاملة يوجب كون المعاملة معصية لله فتفسد. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن المعاملة مما نهى عنها الشارع ابتداء ، بل كان نهيه عنها يتبع حق الغير ، لكونها تصرفا في سلطان الغير وتضييعا لحقه ، فهذا لا يقتضى الفساد ، لان الحق راجع إلى الغير ، فله اسقاط حقه وإجازة المعاملة. فهذه الرواية تكون من أدلة جريان الفضولي في كل ما يكون متعلقا لحق الغير ، ولا يختص الفضولي بما إذا كانت الرقبة ملكا للغير ، بل مطلق تعلق حق الغير بالرقبة ، ولو لأجل الرهانة ، أو الخيار ، أو الجناية ، يوجب كون المعاملة معصية لذلك الغير المستتبع لمعصية اللّه تعالى ، لمكان تضييع حق الغير ، وليست معصية اللّه تعالى فيما إذا كانت المعاملة مما تعلق بها حق الغير سوى كونه تضييعا لحق الغير وتفويتا لسلطنته. وهذا بخلاف ما إذا كانت المعاملة بنفسها معصية اللّه تعالى وتصرفا في سلطنته تعالى ، لمكان النهى عنها والبعث إلى تركها ، فان مثل هذه المعصية توجب الفساد.

فيكون متحصل مفاد الرواية : ان المعاملة ان كانت معصية اللّه تعالى ابتداء ولم تكن معصية لغيره تعالى فهي فاسدة ولا تتحقق. وان كانت معصية للغير ، لمكان كونها تصرفا في سلطنة الغير ، فهي لا تقع فاسدة ، بل أمرها يرجع إلى ذلك الغير ، فان أجاز نفذت. وبذلك يندفع ما يقال : من أن معصية السيد أيضا معصية اللّه ، فتدل الرواية على أن معصية اللّه لا توجب فساد المعاملة ، والمراد من قوله : لم يعص اللّه ، هو انه ليس نكاح العبد مما لم يشرع اللّه تعالى كالنكاح في العدة ، فأقصى ما تدل عليه

ص: 473


1- الوسائل ، الجزء 14 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ص 523

الرواية هو ان المعاملة ان كانت مما لم يشرعها اللّه تعالى فهي تقع فاسدة ، وان كانت مما شرعها اللّه تعالى في نوعها ولكن نهى عن بعض افرادها لخصوصية هناك ، كالنكاح بلا اذن السيد ، فهذه المعاملة لا تقع فاسدة ، فالرواية أدل على الصحة من دلالتها على الفساد.

وجه الدفع : هو ان معصية السيد وان كانت معصية اللّه تعالى الا انه قد عرفت ان المراد من كونها معصية اللّه ليس الا كون المعاملة تضييعا لحق السيد وتصرفا في سلطنته ، حيث إن العبد مملوك للمولى وليس له سلطنة على شيء ، فالرواية تدل على أن كل ما يكون تصرفا في سلطنة الغير. فأمره راجع إلى الغير ، وكل ما يكون تصرفا في سلطان اللّه تعالى فهو يقع فاسدا. والمعاملة المنهى عنها شرعا تكون تصرفا في سلطانه تعالى ومعصية له فتقع فاسدة ، لكونها خروجا عن وظيفة العبودية. كما أن اطلاق المعصية على معصية السيد تكون بهذه العناية ، حيث إن العبد خرج عن وظيفته بنكاحه بلا اذن سيده ، فتأمل جيدا.

تنبيه

حكى عن أبي حنيفة : دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة ، وقد تبعه في خصوص المعاملة بعض أصحابنا ، بتقريب : ان متعلق النهى كمتعلق الامر لا بد ان يكون مقدورا بعد النهى ، ليمكن موافقة النهى ومخالفته ، ومعلوم : ان النهى لم يتعلق بالعبادة أو المعاملة الفاسدة ، إذ لا حرمة في اتيان العبادة أو المعاملة الفاسدة ، فالمنهى عنه لا بد ان يكون صحيحا حتى بعد النهى ليمكن مخالفة النهى ، فلو اقتضى النهى الفساد يلزم ان يكون النهى سالبا لقدرة المكلف ، وموجبا لرفع قدرة المكلف على مخالفته ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاشكال. اما في العبادات : فلان النهى فيها لم يتعلق بما هو عبادة فعلية ، بل تعلق بشيء لو امر به لكان امره عباديا ، على ما تقدم بيانه ، والمكلف قادر على فعل متعلق النهى ومخالفته ولو بعد النهى. والذي لايكون قادرا عليه ، هو فعل ما يكون عبادة فعلية ، وليس هذا متعلق النهى ، وذلك واضح. واما في المعاملة : فلان متعلق النهى هو المبادلة التي يتعاطاها العرف وما

ص: 474

هي بيدهم ، لا المبادلة الصحيحة ، فان المبادلة العرفية لا تتصف بالصحة والفساد ، بل الصحة والفساد انما ينتزعان من امضاء الشارع لتلك المبادلة وعدم امضائها ، وما ينتزع عن الحكم الشرعي لا يعقل ان يؤخذ في متعلق ذلك الحكم ، والمبادلة العرفية مقدورة للمكلف ولو بعد النهى الشرعي ، كما هو المشاهد ان بايع الخمر مع علمه بالفساد والنهى الشرعي حقيقة يبيع الخمر ويقصد المبادلة ، بحيث يكون بيعه للخمر مع علمه بالفساد كبيعه له مع عدم علمه به ، بل مع علمه بالصحة. وكذا سائر المبادلات العرفية التي تكون منهيا عنها ، فان جميعها مقدورة ومما يتعلق بها القصد حقيقة ، والنهى الشرعي يوجب فسادها ، أي عدم تحقق المبادلة خارجا شرعا ، وان تحققت عرفا. فدعوى ان النهى من المعاملة يقتضى الصحة ضعيفة جدا ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في في النهى عن العبادة والمعاملة. وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة 25 ج 1 سنة 1347.

ص: 475

المقصد الثالث : في المفاهيم

اشارة

وقبل الخوض في المقصد ينبغي تقديم مقدمة.

وهي : ان المفهوم - على ما عرفت منا مرارا - عبارة عن المدرك العقلاني الذي يدركه العقل عند الالتفات إلى الشيء ، حيث إن لكل شيء وجودا عقلانيا على طبق وجوده الخارجي ، سواء كان ذلك الشيء من الماديات ، أو المجردات. وسواء كان جزئيا ، أو كليا. وذلك المدرك العقلاني يكون بسيطا ، وليس مركبا من مادة وصورة ، إذ المادة والصورة تكون من شؤون الوجود الخارجي ، واما الوجود العقلاني فهو مجرد عن ذلك لا تركيب فيه. وذلك المدرك هو المعبر عنه : بالمفهوم ، والمدلول ، والمعنى ، والمقصود ، كل من جهة ، الا ان الجميع يشير إلى امر فارد وشيء واحد.

والمفهوم ، كما يكون في الألفاظ ، الأفرادية ، كذلك يكون في الجمل التركيبية ، حيث إنه كما أن للمفردات معنى ومفهوما مدركا عقلانيا ، كزيد ، وعمرو ، وانسان ، وشجر ، كذلك يكون للجمل التركيبية معنى ومفهوم ، كزيد قائم ، والنهار موجود ، وغير ذلك. وكما أن للألفاظ المفردة معنى مطابقيا ومعنى التزاميا ، فكذلك يكون للجمل التركيبية معنى مطابقي ومعنى التزامي. وكما أن لازم المعنى الافرادي تارة : يكون بينا أخص ، وأخرى : يكون أعم ، فكذلك لازم المعنى التركيبي ينقسم إلى هذين القسمين.

واما الدلالة التضمنية فهي لا واقع لها ، سواء في الألفاظ الأفرادية أو الجمل التركيبية لما عرفت : من أن المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني الذي يكون بسيطا مجردا عن المادة وليس له جزء ، فالدلالة التضمنية لا أساس لها وان كانت مشهورة في الألسن ، بل الدلالة اما ان تكون مطابقية ، واما ان تكون التزامية.

ص: 476

واللازم في الدلالة الالتزامية ، اما ان يكون لازما بالمعنى الأخص ، واما ان يكون لازما بالمعنى الأعم. واللازم بالمعنى الأعم ، سواء كان في المعاني الأفرادية أو في الجمل التركيبية ، ليس من المداليل اللفظية لان اللفظ لا يدل عليه ولا ينتقل الذهن إليه بواسطة اللفظ ، بل يحتاج إلى مقدمة عقلية.

ومن هنا قلنا : ان مسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد ، ليست من المباحث اللفظية ، لكون اللازم فيها لازما بالمعنى الأعم ، لتوقف اللزوم على توسيط حكم العقل. ولعل دلالة الاقتضاء كقوله تعالى : واسئل القرية ، ودلالة الإشارة والايماء كدلالة الآيتين على أن أقل الحمل يكون ستة أشهر ، ودلالة قوله صلی اللّه علیه و آله : كفر ، عقيب قول السائل ( هلكت وأهلكت جامعت أهلي في نهار شهر رمضان ) على علية الجماع للتكفير - إذ لو العلية لبطل الاقتران - كل ذلك يكون اللازم فيه من اللازم بالمعنى الأعم ، فلا يكون من الدلالة اللفظية. وعلى تقدير تسليم كون بعضها من الدلالة اللفظية فهو ليس من المنطوق والمفهوم المبحوث عنه في المقام ، إذ المراد من المنطوق : هو ما دل عليه الجملة التركيبية بالدلالة المطابقية ، والمراد من المفهوم : هو ما دلت عليه الجملة التركيبية بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص. فما لم يكن مدلولا مطابقيا للجملة ولا مدلولا التزاميا بالمعنى الأخص ، لايكون من المنطوق والمفهوم ، سواء قلنا : بأنه مدلول اللفظ - كما قيل في مثل دلالة الإشارة - أو قلنا : بأنه خارج عن مدلول اللفظ وكان من اللازم بالمعنى الأعم. فما يظهر من بعض من ادراج مثل دلالة الإشارة في المنطوق فاسد. كما أن ما يظهر من بعض من ادراجها في المفهوم فاسد أيضا ، فإنها وان قلنا بأنها من الدلالة اللفظية تكون خارجة عن المفهوم والمنطوق ، ولا مانع من ثبوت الواسطة بين المنطوق والمفهوم.

وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، من جهة انه بحث يرجع إلى الاصطلاح.

والمقصود في المقام بيان ان المراد من المنطوق : هو المدلول المطابقي للجملة التركيبية ، والمراد من المفهوم : هو المدلول الالتزامي لها على وجه يكون بينا بالمعنى الأخص. ولعله إلى ذلك يرجع ما عن بعض من تعريف المنطوق بما دل عليه اللفظ

ص: 477

في محل النطق ، والمفهوم : بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، بان يكون المراد من محل النطق ولا محله هو المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي. وبعد ذلك لا يهمنا البحث وإطالة الكلام في التعريفات التي ذكروها للمنطوق والمفهوم ، مع ما يرد عليها من عدم الانعكاس والاطراد ، فإنها تعاريف لفظية قلما تسلم عن الاشكال. كما لا يهمنا البحث عن أن المنطوق والمفهوم من صفات الدال أو المدلول ، وانما المهم هو البحث عن الجمل التي يكون لمدلولها المطابقي لازم بالمعنى الأخص ، المعبر عنه بالمفهوم.

وينبغي ان يعلم : ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا ، أي انه بحث عن أصل ثبوت المفهوم واللازم ، لا عن حجيته ، لان حجيته بعد ثبوته مفروع عنها ولا كلام فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان هناك جملا تركيبية وقع النزاع في ثبوت اللازم والمفهوم لها.

الفصل الأول في مفهوم الشرط

والبحث عن القضية الشرطية تارة : يقع في معنى الشرط ، وأخرى : في مفاد القضية الشرطية أي المدلول المطابقي لها ، وثالثة : في ثبوت المفهوم لها أي المدلول الالتزامي.

اما معنى الشرط : فهو يطلق على معنيين :

أحدهما : المعنى الحدثي ( أي الجعل ) وهو بهذا المعنى يكون متصرفا يشتق منه الشارط والمشروط وغير ذلك ، وهو المراد من قوله علیه السلام : (1) شرط اللّه قبل شرطكم ، وقوله علیه السلام : في الدعاء ولك شرطي ان لا أعود في معصيتك. ولا يختص هذا المعنى من الشرط بان يكون في ضمن عقد ، وان كان يظهر من القاموس ذلك.

وثانيهما : ما يلزم من عدمه العدم ، مع قطع النظر عن استلزام وجوده

ص: 478


1- الوسائل ، الجزء 17 الباب 22 من أبواب موانع الإرث الحديث 1 ص 409

الوجود ، وهو بهذا المعنى جامد لا يتصرف. ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر ، إذ البحث عن ذلك لا ربط له بالمقام.

واما مفاد الجملة الشرطية ، وان الشرط إلى أي شيء يرجع ، فقد تقدم البحث عن ذلك مفصلا في الواجب المشروط (1) وقلنا : ان التعليق لا يرجع إلى النسبة ، وان كان يظهر من عبارة التهذيب ذلك ، حيث عرف القضية الشرطية : بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى. بل التعليق والشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، لا نفس المحمول بمعناه الافرادي ، حتى يرجع التقييد إلى المادة ويكون شرط الواجب ، بل يرجع إلى المحمول المنتسب. وبذلك دفعنا اشكال : ان النسبة معنى حرفي والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد لان التقييد يستدعى لحاظ المقيد معنى اسميا ، فراجع ما تقدم منا في الواجب المشروط. والمهم في المقام ، هو البحث عن المدلول الالتزامي للقضية الشرطية ، المعبر عنه بالمفهوم.

فاعلم : ان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية يتوقف :

على كون الترتب بين الجزاء والشرط ناشئا عن علاقة ثبوتية في نفس الامر والواقع ، وليس الترتب بينهما لمجرد الاتفاق والمصادفة ، كما في قولك : إذا كان الانسان ناطقا فالحمار ناهق ، إذ لا علاقة بين نهيق الحمار ونطق الانسان في نفس الامر ، بل العلاقة بينهما تكون علاقة جعلية لحاظية.

وعلى ان يكون الترتب ترتب العلية والمعلولية ، بان تكون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة العلية والمعلولية لا علاقة التلازم والتضايف ، وأن تكون العلة هو المقدم والشرط لا التالي والجزاء ، وأن يكون الشرط علة منحصرة لا يخلفه شرط آخر ، ولا يكون لشيء آخر دخل في عليته.

فإذا تمت هذه الأمور للقضية الشرطية كان لها مفهوم ، وإذا انتفى أحد هذه الأمور لم يكن للقضية مفهوم. والسر في اعتبار هذه الأمور واضح ، فإنه لو لم يكن بين

ص: 479


1- راجع الجزء الأول من الكتاب مبحث تقسيمات الواجب. الامر الثاني من بحث الواجب المشروط ص 178

الجزاء والشرط علقة ثبوتية وكانا متقارنين من باب الاتفاق ، لم يكن انتفاء الشرط مستتبعا لانتفاء الجزاء ، إذ لا مدخلية للشرط حينئذ في وجود الجزاء.

وكذا لو فرض ان بينهما علاقة ثبوتية ولكن لم تكن تلك العلاقة علاقة العلية والمعلولية بل كانت علاقة التلازم ، فإنه أيضا لا يقتضى انتفاء الشرط انتفاء الجزاء ، لان انتفاء أحد المتلازمين لا يستلزم انتفاء اللازم الآخر. الا إذا كان التلازم دائميا ، بحيث كانا معلولين لعلة ثالثة منحصرة ، فان انتفاء أحد المتلازمين في مثل هذا يقتضى انتفاء الآخر ، الا ان القضية الشرطية حينئذ لا تدل على هذا الوجه من التلازم ، فان العلة لم تكن مذكورة في القضية حتى يستفاد منها الانحصار أو عدم الانحصار ، وأقصى ما تقتضيه القضية الشرطية - بناء على عدم استفادة علية الشرط للجزاء - هو مجرد التلازم بين الشرط والجزاء ، واما كونه على هذا الوجه أو على ذلك الوجه فليس للقضية الشرطية دلالة عليه ، ولا بد في اثبات ذلك من الخارج ، فيخرج عما نحن فيه : من دلالة نفس القضية الشرطية على المفهوم. وكذا لو فرض عدم دلالة القضية الشرطية على كون الشرط علة منحصرة ، فان انتفاء الشرط في مثل ذلك أيضا لا يقتضى انتفاء الجزاء ، لامكان ان يخلفه شرط آخر. فالمهم هو اثبات ظهور القضية الشرطية في كون الشرط علة منحصرة ، اما وضعا واما اطلاقا.

فنقول : اما دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وانه ليس ذلك محض الاتفاق ، فمما لا ينبغي الاشكال فيها ، بل لا يبعد كون دلالتها على ذلك بالوضع ، لعدم صحة مثل - إذا كان الانسان ناطقا كان الحمار ناهقا - بلا عناية ، بل يتوقف على لحاظ عناية وعلاقة جعلية لحاظية. والا فان نفس القضية الشرطية تقتضي ان يكون بين الشرط والجزاء علاقة لزومية ، فان لم يكن ذلك بالوضع - كما هو ليس ببعيد - فلا أقل من ظهورها العرفي في ذلك.

واما دلالة القضية الشرطية على كون العلقة بين الجزاء والشرط علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء ، فهي وان لم تكن بالوضع وليس لنفس القضية الشرطية ظهور عرفي في ذلك ، الا انه لا يبعد دعوى الظهور السياقي في ذلك ، حيث إن سوق الكلام من جعل الشرط مقدما والجزاء تاليا ، هو ان يكون الكلام على وفق

ص: 480

ما هو الواقع بمقتضى تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ، فإنه لو كان الجزاء علة للشرط ، أو كانا معا معلولين لعلة ثالثة ، لكان الكلام مسوقا لبيان البرهان الآني ، ويتوقف ذلك على كون المتكلم في مقام الاستدلال على انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء ، حسب ما يقتضيه الاستدلال الآني ، وهذا يحتاج إلى مؤنة خارجية ، والا فان طبع الكلام يقتضى كون المقدم هو المقدم والتالي هو التالي في الواقع وعالم الثبوت ، فيكون الكلام قد سيق على طبق الواقع.

والانصاف : ان دعوى الظهور السياقي للقضية الشرطية في كون الشرط علة للجزاء قريبة جدا لا مجال لانكارها ، ولكن هذا بنفسه لا يكفي في ثبوت المفهوم للقضية ما لم يكن الشرط علة منحصرة ، واثبات الانحصار لا يمكن الا بدعوى اطلاق الشرط واجراء مقدمات الحكمة لاثبات انحصاره ، بتقريب : انه لو لم يكن الشرط وحده علة منحصرة لكان على المولى الحكيم ، الذي فرض انه في مقام البيان ، ان يقيد اطلاق الشرط بكلمة الواو ، أو بكلمة أو ، ليبين بذلك ان الشرط ليس بعلة وحده ، بل يشاركه في عليته شيء آخر ولو عند الاجتماع ، أو ان الشيء الفلاني أيضا علة ، وحيث لم يبين ذلك يستفاد منه ان الشرط وحده علة ، سواء سبقه شيء آخر أو لم يسبقه ، قارنه شيء أو لم يقارنه ، وهو معنى كون الشرط علة منحصرة ، هذا.

ولكن الانصاف : ان هذا التقريب لا يستقيم ، لأنه أولا : ان مقدمات الحكمة انما تجرى في المجعولات الشرعية ، ومسألة العلية والسببية غير مجعولة ، على ما تقدم منا مرارا ، وانما المجعول هو المسبب على تقدير وجود سببه ، فلا معنى للتمسك باطلاق الشرط على كونه علة منحصرة.

وثانيا : ان القضية الشرطية لا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط ، وكون وجوده معلولا لوجوده ، بل غاية ما تدل عليه القضية الشرطية ، هو الترتب بين الجزاء والشرط ووجود الجزاء عند وجود الشرط. وهذا المعنى لا يتفاوت الحال فيه ، بين كون الشرط علة منحصرة ، أو غير منحصرة ، فان الجزاء يكون مترتبا على الشرط على نسق واحد ، سواء كان هناك شرط آخر ، أو لم يكن. بل لو فرض دلالة القضية الشرطية على استناد الجزاء إلى الشرط وكونه معلولا له لم يكن أيضا موقع للتمسك

ص: 481

باطلاق الشرط وجريان مقدمات الحكمة على الانحصار ، فان استناد المعلول إلى علته المنحصرة وغير المنحصرة على نسق واحد ، إذ في العلة الغير المنحصرة يكون المعلول مستندا إليها ، على نحو استناده إلى المنحصرة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان هذه الكلمات كلها أجنبية عن مسألة استظهار المفهوم للقضية الشرطية ، بل استظهار المفهوم لها يحتاج إلى بيان آخر. وحاصله : هو انه قد عرفت ان المفهوم عبارة عما يكون لازما للكلام ، ويكون الكلام دالا عليه بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص ، والدلالة الالتزامية للكلام لا تكون الا إذا كان الكلام مشتملا على خصوصية توجب ذلك ، بحيث تكون تلك الخصوصية مما أنيط بها المحمول في الكلام ، سواء كان المحمول من سنخ الأحكام الشرعية ، أو غيرها ، على وجه يدور المحمول مدار تلك الخصوصية ، فإنه عند ذلك يدل الكلام بالدلالة الالتزامية على انتفاء المحمول عند انتفاء الخصوصية ، فلو لم تكن تلك الخصوصية مما أنيط بها المحمول لايكون انتفاء الخصوصية موجبا لانتفاء المحمول. وهذا المعنى لا يختص بالقضية الشرطية ، بل في جميع القضايا التي تكون من ذوات المفهوم لابد ان تكون على هذا الوجه ، أي تكون مشتملة على خصوصية قد أنيط بها المحمول ، وليست القضية الشرطية تختص بذلك ، فان كل قضية حملية تتضمن القضية الشرطية يكون موضوعها المقدم ومحمولها التالي. ومن هنا قلنا : ان كل شرط يرجع إلى الموضوع ، ويكون معنى ( ان جائك زيد فأكرمه ) هو ان زيد الجائي يجب اكرامه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان الشرط الذي تتضمنه القضية الشرطية ، تارة : يمكن ان يناط به المحمول منوطا بذلك الشرط ، وأخرى : لا يمكن جعل الإناطة ، بل يكون المحمول بنفسه منوطا بالشرط تكوينا ، بحيث لا يعقل تحققه بدون تحقق الشرط ، فان كان الشرط على الوجه الثاني فليس للقضية مفهوم ، لان القضية تكون حينئذ مسوقة لبيان فرض وجود الموضوع ، مثل : ان رزقت ولدا فاختنه ، وان ركب الأمير فخذ ركابه ، حيث لا يعقل ختان الولد واخذ ركاب الأمير الا بعد تحقق الشرط ، فالمحمول في مثل هذا لا يمكن ان يقيد بالشرط ويناط به ، إذا التقييد فرع امكان الاطلاق. والمحمول الذي يتوقف على الشرط عقلا لا يمكن فيه الاطلاق ، فهو

ص: 482

بنفسه مقيد تكوينا. وهذا هو السر في عدم المفهوم للقضية اللقبية ، من جهة ان الاشتراط الذي يتضمنه اللقب ليس الا فرض وجود الموضوع ، فمثل قوله : أكرم زيدا معناه انه ان وجد زيد فأكرمه ، والاكرام يتوقف عقلا على وجود زيد.

وان كان الشرط ، على الوجه الأول ، كمجيئ زيد ، وركوبه ، وجلوسه ، وغير ذلك من الحالات التي لا يتوقف اكرامه عليها عقلا ، فلا محالة يكون الجزاء مقيدا بذلك الشرط في عالم الجعل والتشريع ، ومعنى التقييد هو إناطة الجزاء بذلك الشرط ، ومقتضى اناطته به بالخصوص هو دوران الجزاء مداره وجودا وعدما ، بمقتضى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، حيث إنه قيد الجزاء بذلك الشرط بخصوصه ، ولم يقيد بشيء آخر ، لا على نحو الاشتراك بان جعل شيء آخر مجامعا لذلك الشرط قيدا للجزاء ، ولا على نحو الاستقلال بان جعل شيء آخر موجبا لترتب الجزاء عليه ولو عند انفراده وعدم مجامعته لما جعل في القضية شرطا ، ومقتضى ذلك هو دوران الجزاء مدار ما جعل شرطا في القضية ، بحيث ينتفى عند انتفائه ، وهو المقصود من تحقق المفهوم للقضية.

فمقدمات الحكمة انما تجرى في ناحية الجزاء من حيث عدم تقييده بغير ما جعل في القضية من الشرط ، لا في الشرط ، حتى يرد عليه ما تقدم من الاشكال.

والحاصل : ان اطلاق الجزاء في المقام بالنسبة إلى ما عدا الشرط في اقتضائه المفهوم يكون كاطلاق الوجوب في اقتضائه النفسية العينية التعيينية ، من غير فرق بين المقامين أصلا ، حيث إن مقدمات الحكمة انما تجرى لاستكشاف المراد ، وان المراد النفس الأمري هو ما تضمنه الكلام بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان ، كما هو الأصل الجاري عند العقلاء في محاوراتهم ، حيث إن الأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام بيان مراده النفس الأمري ، الا ان تكون هناك قرينة نوعية على الخلاف ، وفي المقام مقتضى تقييد الجزاء بالشرط هو كون المتكلم في مقام البيان.

ودعوى انه في مقام البيان من هذه الجهة دون سائر الجهات والقيود ، فاسدة فإنه لو بنى على ذلك لا نسد باب التمسك بالاطلاقات في جميع المقامات ، إذ ما من

ص: 483

مورد الا ويمكن فيه هذه الدعوى. ومقتضى كونه في مقام البيان وعدم تقييد الجزاء بقيد آخر هو ان الجزاء مترتب على ذلك الشرط فقط ، من دون ان يشاركه شرط آخر أو ينوب عنه. وبعد ذلك لا ينبغي التوقف في ثبوت المفهوم للقضية الشرطية التي لا يتوقف الجزاء فيها على الشرط عقلا ، فتأمل جيدا. وينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول :

ان المراد من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط - المعبر عنه بالمفهوم - هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه ، لا شخصه ، فان انتفاء الشخص انما يكون بانتفاء موضوعه عقلا ، من غير فرق في ذلك بين القضية الشرطية ، والوصفية ، واللقبية. فالذي تمتاز بها القضية الشرطية عن القضية اللقبية ، انما هو انتفاء سنخ الحكم في القضية الشرطية عند انتفاء الشرط ، دون القضية اللقبية ، حيث إن القضية الشرطية تدل على انتفاء سنخ الحكم ، بخلاف القضية اللقبية ، من غير فرق بين كون الجزاء في القضية الشرطية بصورة الاخبار ، كما إذا قال : ان جائك زيد يجب عليك اكرامه ، أو بصورة الانشاء كما إذا قال : ان جاء زيد أكرمه.

وتوهم الفرق بينهما - بان الشرط في الصورة الأولى انما كان شرطا للوجوب ، فبانتفاء الشرط ينتفى أصل الوجوب ونوعه ، وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فان الشرط انما كان شرطا للانشاء المستفاد منه الوجوب وانتفاء الشرط انما يوجب انتفاء الانشاء الخاص ، وهذا لا يقتضى انتفاء نوع الوجوب وسنخه - ضعيف غايته ، لما عرفت سابقا من أن الشرط لا يرجع إلى الهيئة وان قلنا بان الموضوع له في الحروف عام لان المعنى غير قابل للتعليق والتقييد فان التقييد والتعليق يقتضى لحاظ الشيء معنى اسميا ، بل الشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، أي المحمول في رتبة الانتساب ، على ما تقدم تفصيله في الواجب المشروط ، فالمعلق عليه هو وجوب الاكرام على جميع الصور ، وهو الذي ينتفى بانتفاء الشرط.

ومما ذكرنا ظهر : انه لا يبتنى التوهم المذكور على كون الوضع في الحروف خاصا ، ولا جوابه على كون الوضع فيها عاما ، فتأمل جيدا.

ص: 484

الامر الثاني :

ان المفهوم يتبع المنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه ، وانما التفاوت بينهما بالسلب والايجاب ، فالموضوع في المفهوم هو الموضوع في المنطوق ، والمحمول فيه هو المحمول فيه. فلو قال : ان جائك زيد في يوم الجمعة راكبا فأكرمه ، كان مفهومه ان لم يجئك زيد في يوم الجمعة راكبا فلا تكرمه. ويكفي في انتفاء وجوب الاكرام انتفاء أحد القيود المأخوذة في المنطوق فينتفى وجوب الاكرام إذا جاء زيد في يوم الجمعة غير راكب.

والسر في ذلك هو ما عرفت : من أن المفهوم تابع للمنطوق موضوعا ومحمولا ونسبة ، سوى ان المنطوق قضية موجبة أو سالبة ، والمفهوم عكس ذلك ، أي يكون مفهوم الايجاب السلب ومفهوم السلب الايجاب ، ولازم ذلك هو انه لو كان المنطوق سالبة كلية كان مفهومه موجبة جزئية ، لان نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، كما أن نقيض الموجة الكلية سالبة جزئية.

ومن هنا ربما يستشكل في الحكم بنجاسة الماء القليل ، بمفهوم قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، حيث إن المنطوق سالبة كلية ، لمكان إفادة النكرة في سياق النفي العموم ، فمفاد المنطوق هو عدم نجاسة الكر بكل نجاسة ، ويكون مفهومه هو انه إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه شيء ، والنكرة في سياق الاثبات لا تفيد العموم ، فأقصى ما يقتضيه المفهوم ، هو نجاسة الماء القليل في الجملة بنجاسة ما ، ولا يفيد نجاسته بجميع النجاسات ، هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المباحث الفقهية الأصولية انما يبتنى على الاستظهارات العرفية من الأدلة ، بخلاف المباحث المنطقية ، فإنها تبتنى على البراهين العقلية ، وربما يكون بين نظر الفقيه ونظر المنطقي العموم من وجه. فقد يكون نقيض السالبة الكلية موجبة كلية بحسب ما يستظهر من الدليل ، مع أنه بنظر المنطقي يكون النقيض موجبة جزئية كما في المقام ، فان المستفاد من المنطوق في مثل قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، هو عموم السلب ، لا سلب العموم ، أي يكون الظاهر من قوله : لم ينجسه شيء ، لم ينجسه كل فرد فرد من أنواع النجاسات :

ص: 485

من البول ، والدم ، والمنى وغير ذلك ، ويكون المنطوق في قوة قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه الدم ، والبول ، والغائط ، وهكذا ، لوضوح ان المراد من الشيء هو أنواع النجاسات ، لا كل شيء في العالم ، فيكون المفهوم إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه الدم ، والبول والغائط ، وغير ذلك ، فيكون دليلا على نجاسة الماء القليل بجميع أنواع النجاسات. وليست النكرة في سياق النفي كلفظة ( كل ) وما شابهها من أدوات العموم التي يكون لها معنى اسمى ، حتى يصح لحاظها على نحو العام المجموعي ويكون المنفى هو سلب العموم ، كقوله : لا تأكل كل رمانة في البستان ، بل العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي انما هو بمقدمات الحكمة ، حسب ما يقتضيه المقام ، والمنفي في المثال انما هو أنواع النجاسات ، أي كل فرد فرد منها ، ويلزمه ما ذكرنا من كون المفهوم من مثل هذا المنطوق هو الايجاب الكلي ، لا الجزئي. مع أنه يكفي الايجاب الجزئي في اثبات نجاسة ماء القليل في الجملة في قبال عدم نجاسته أصلا ، كما هو المدعى ، والمسألة فقهية ليس المقام محل تفصيلها.

الامر الثالث :

لو تعدد الشرط ، على وجه كان شرطية كل منهما تنافى شرطية الآخر ، اما لتباين الشرطين ، أو لحصول أحدهما قبل حصول الآخر دائما ، كما في خفاء الاذان والجدران ، الذي تجعل كل منهما شرطا لوجوب القصر ، مع أن خفاء الاذان دائما يحصل قبل خفاء الجدران على ما قيل ، فهل اللازم رفع اليد عن استقلال كل منهما في السببية وجعل كل منهما جزء السبب؟ أو ان اللازم رفع اليد عن انحصار كل منهما في السبيية وجعل كل منهما سببا مستقلا. فعلى الأول : يكون الحكم في المثال هو انحصار وجوب التقصير عند خفاء كل من الاذان والجدران معا ، ولا يكفي خفاء أحدهما. وعلى الثاني : يكفي خفاء أحدهما في الحكم. ولكن الوجه الثاني في مثل المثال لا يستقيم ، لأن المفروض حصول خفاء الاذان دائما قبل حصول خفاء الجدران ، فيلزم لغوية جعل خفاء الجدران شرطا ، لعدم وصول النوبة إليه ابدا. نعم فيما إذا كان بين الشرطين التباين في الجملة - ولو بالعموم من وجه - يجرى فيه كل من الوجهين.

ص: 486

والبحث في المقام تارة : يقع في خصوص المثال من حيث المسألة الفقهية. وأخرى : يقع في كلي ما كان من هذا القبيل من حيث المسألة الأصولية.

اما البحث عن المقام الأول : فهو وان كان خارجا عما نحن فيه الا انه لا بأس بالإشارة إليه فنقول :

انه لا تنافى في مثل قوله : إذا حفى الاذان فقصر ، وإذا خفى الجدران فقصر ، من حيث إن الظاهر من خفاء الجدران هو خفاء صورة الجدران لا شبحها ، فهو من هذه الجهة لا اجمال فيه. واما خفاء الاذان فلما كان له مراتب : مرتبة خفاء فصوله في مقابل تميزها على وجه يمتاز كل فصل عن الآخر ، ومرتبة خفاء مجموع الاذان في مقابل تميزه بنفسه وان الصوت صوت اذان ، ومرتبة خفاء الهمهمة في مقابل عدم خفائها ، بحيث لا يظهر من الصوت بنفسه كونه اذانا ، بل يستفاد كونه صوت اذان من القرائن.

ومقتضى الجمع بين الدليلين وحمل المجمل على المبين ، هو حمل خفاء الاذان على المرتبة التي تنطبق على خفاء الجدران ، ولا يبعد ان تكون تلك المرتبة حين خفاء الاذان المجموع من حيث المجموع ، لا خفاء خصوص الفصول ، ولا خفاء الهمهمة ، فيرتفع التنافي بين الشرطين ، وتفصيله موكول إلى محله.

واما البحث عن المقام الثاني : فمجمله انه وان قيل فيه وجوه أربعة أو خمسة : من تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى ، ومن رفع اليد عن المفهوم في كل منهما ، وغير ذلك ، كما لا تخفى على المراجع. الا ان الانصاف : ان ذلك تطويل بلا طائل ، بل لا محصل لبعض الوجوه ، فان تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى لا يستقيم ، إذ ليس المفهوم قضية مستقلة يمكن تقييدها ما لم يقيد أولا المنطوق ، فان المفهوم تابع للمنطوق في جميع القيود ، فلا يعقل تقييد المفهوم بلا تقييد المنطوق.

فالتحقيق ، هو ان يقال : انه بعد ما كان الشرط ظاهرا في العلة التامة المنحصرة ، وكان تعدد الشرط ينافي ذلك ، فلابد اما : من رفع اليد عن كونه علة تامة وجعله جزء العلة ، فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفى الجزاء عند انتفائهما معا ، ويكون قوله : مثلا ، إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجدران

ص: 487

فقصر ، بمنزلة قوله : إذا خفى الاذان والجدران فقصر. واما : من رفع اليد عن كونه علة منحصرة مع بقائه على كونه علة تامة ، فيكون الشرط أحدهما تخييرا ، ويكون المثال بمنزلة قوله : إذا خفى الاذان أو خفى الجدران فقصر ، ويكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء ، مع قطع النظر عن كون خفاء الاذان يحصل قبل خفاء الجدران دائما. وحينئذ لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين ، اما ظهور الشرط في كونه علة تامة ، واما ظهوره في كونه علة منحصرة. وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر ولا أحدهما حاكما على الآخر - لمكان ان كلا من الظهورين انما يكون بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، على ما تقدم - كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الاجمالي من ورود التقييد على أحد الاطلاقين.

وربما يتوهم ان ظهور الشرط في كونه علة تامة أقوى من ظهوره في الانحصار ، لان دلالة القضية على استناد الجزاء إلى الشرط انما يكون بالنصوصية فلابد ان يكون الشرط في الجملة ولو في مورد مما يستند إليه الجزاء ، واستناده إليه لايكون الا بان يكون الشرط علة تامة لترتب الجزاء ولو في مورد ، إذ استناد الشيء إلى جزء العلة ليس استنادا حقيقيا ، بل الاستناد الحقيقي هو ما يكون إلى تمام العلة. ولو تصرفنا في ظهور الشرط في كونه علة تامة وجعلناه جزء العلة يلزم ان لا يستند الجزاء إليه ابدا ولو في الجملة ، فظهور القضية في كون الشرط علة تامة ربما يدعى كونه بالنصوصية ، بخلاف ظهورها في الانحصار ، فإنه لايكون بتلك المثابة ، بل انما هو بالاطلاق ، فلابد من رفع اليد عن ظهوره في الانحصار والقول بكفاية أحد الشرطين.

وقد حكى : ان شيخنا الأستاذ مد ظله مال إلى هذا الوجه في الدورة السابقة ، ولكن عدل عنه في هذه الدورة ، وافسد التوهم المذكور بما حاصله : ان أصل استناد الجزاء إلى الشرط انما يكون بالاطلاق ، إذ من اطلاق الشرط وعدم ذكر شيء آخر معه يستفاد الاستناد ، ولولا الاطلاق لما كاد يستفاد الاستناد ، وهذا لا ينافي ان حقيقة الاستناد انما يكون في استناد الشيء إلى علته التامة ، فان ذلك بعد الفراغ عن الاستناد وان الجزاء يكون مستندا إلى الشرط ، وهذا المعنى انما يكون بالاطلاق ،

ص: 488

فظهور القضية في كون الشرط علة تامة كظهورها في الانحصار ، في أن كلا منهما يكون بالاطلاق.

وتوهم ان تقييد العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة يستلزم تقييد الانحصار أيضا - فإنه لا يعقل الانحصار مع كونه جزء العلة ، وهذا بخلاف تقييد الانحصار ، فإنه لا يلزم منه تقييد العلية التامة ، كما لا يخفى ، فيدور الامر بين : تقييد واحد ، وتقييدين ، ومعلوم ان الأول أولى ، فلا بد من تقييد الانحصار - فاسد أيضا ، فان تقييد العلة التامة يوجب رفع موضوع الانحصار ، لا انه يوجب تقييدا زايدا ، وهذا نظير ما تقدم في الواجب المشروط : من أن تقييد الهيئة يوجب رفع موضوع اطلاق المادة ، لا انه يوجب تقييدا زايدا. فراجع ما ذكرناه في ذلك المقام. (1).

فتحصل : انه لا محيص من اعمال قواعد العلم الاجمالي في المقام.

وما ربما يتوهم أيضا ، ان رتبة تقييد العلية التامة مقدمة على رتبة تقييد الانحصار - لوضوح ان كون الشيء علة منحصرة أو غير منحصرة انما يكون بعد كون الشيء علة تامة ، ومقتضى تقدم الرتبة هو ارجاع القيد إلى العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة - فهو في غاية الفساد ، فان تقدم الرتبة لا ينفع بعد العلم الاجمالي بورود التقييد على أحد الاطلاقين ، وليس تقدم الرتبة موجبا لانحلال هذا العلم الاجمالي ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :

لو تعدد الشرط واتحد الجزاء ، فهل اللازم تعدد الجزاء وفعله عقيب كل شرط؟ أولا ، بل يكتفى بفعل الجزاء مرة واحدة. وهذا هو العنوان المعروف بمسألة تداخل الأسباب ، أو تداخل المسببات. ولتوضيح البحث عن ذلك ينبغي تقديم أمور :

الأول : في المراد من تداخل الأسباب والمسببات.

اما المراد من تداخل الأسباب : فهو ان اجتماع الأسباب المتعددة لا يقتضى الا ايجاد جزاء واحد ، بمعنى ان الأسباب التي هي عند الانفراد تقتضي ايجاد

ص: 489


1- راجع الامر الثاني من مباحث الواجب المشروط ص 178

جزاء واحد ، فعند الاجتماع لا تقتضي أيضا الا ايجاد جزاء واحد ، لا انها يقتضى كل سبب ايجاد جزاء حتى يتعدد الجزاء حسب تعدد الأسباب. وهذا من غير فرق بين ان تكون الأسباب المجتمعة مندرجة تحت نوع واحد - كما إذا تعدد منه النوم أو البول - أو انها غير مندرجة تحت نوع واحد - كما إذا نام ، وبال - فهذا معنى تداخل الأسباب.

واما معنى تداخل المسببات : فهو عبارة عن الاكتفاء بايجاد جزاء واحد وعدم وجوب التعدد ، بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب واقتضاء كل سبب جزاء ، الا انه في مقام الامتثال يكتفى بجزاء واحد ، فان ذمته وان اشتغلت بالمتعدد الا انه صح تفريغها عن المتعدد بالواحد.

وتظهر الثمرة بين تداخل الأسباب وتداخل المسببات بالرخصة والعزيمة فإنه لو قلنا : بتداخل الأسباب ، لا يجوز له ايجاد الجزاء متعددا ، إذ لم تشتغل ذمته الا بجزاء واحد ، فالزايد يكون تشريعا محرما. ولو قلنا : بتداخل المسببات فله ايجاد الجزاء متعددا ، وله أيضا الاكتفاء بالواحد. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم تداخل الأسباب والمسببات ، فإنه لا بد له من ايجاد الجزاء متعددا حسب تعدد السبب.

الثاني :

مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب ، هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، لأن الشك في تداخل الأسباب يرجع إلى الشك في اقتضاء السبب الثاني لتعقبه بالجزاء وتوجه التكليف به زائدا على التكليف المتوجه بالسبب الأول. واما الشك في تداخل المسببات ، فالأصل فيه يقتضى الاشتغال لرجوع الشك فيه إلى الشك في فراغ الذمة بايجاد جزاء واحد ، مع أنها قد كانت مشغولة بالمتعدد. والمرجع في ذلك هو الاشتغال ليس الا. هذا في باب التكاليف.

واما باب الوضعيات فربما يختلف الأصل فيه. مثلا لو شك في اقتضاء العيب للخيار زائدا على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس ، فمقتضى الأصل وان كان عدم ثبوت خيار العيب ، ولكن يمكن ان يقال : ان مقتضى الأصل بقاء الخيار

ص: 490

بعدم الثلاثة أيام ، فتأمل حيدا.

الثالث :

الجزاء المأخوذ في القضية الشرطية : اما ان يكون قابلا للتعدد - كالوضوء والغسل - واما ان لايكون قابلا للتعدد - كالقتل والخيار - حيث إنه لا يمكن تكرر القتل وكذا الخيار ، فان الخيار ليس الا ملك فسخ العقد واقراره وهذا امر واحد لا يمكن فيه التعدد.

ثم إن الجزاء الغير القابل للتعدد : اما ان يكون قابلا للتقيد بالسبب كالخيار ، حيث إنه قابل للتقيد : بالمجلس والحيوان والعيب والغبن وغير ذلك من أسباب الخيار. ومعنى تقيده بالسبب ، هو انه يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس فيسقطه أو يصالح عليه ، ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان. وكذا في القتل لأجل حقوق الناس ، فلو قتل زيد عمروا وبكرا وخالدا ، فقتل زيد قصاصا وان لم يقبل التعدد ، الا انه قابل للتقيد بالسبب ، أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله لعمرو ، فلو أسقط ورثة عمرو حق القود لم يسقط حق ورثة بكر وخالد.

واما ان لايكون قابلا للتقيد بالسبب ، كقتل زيد إذا كان له أسباب متعددة راجعة إلى حقوق اللّه تعالى كما إذا كان محاربا ، وزانيا محصنا ، ومرتدا ، وغير ذلك من أسباب القتل ، فان قتل زيد لا يتقيد بهذه الأسباب ، إذ لا اثر لتقيده ، فان حقوق اللّه تعالى غير قابلة للاسقاط حتى يظهر للتقيد بالسبب اثر. نعم في المثال يتأكد وجوب قتل زيد من جهة اجتماع تلك الأسباب ، ولكن التأكد غير التقيد بالسبب ، كما لا يخفى.

ثم انه لا اشكال في دخول القسم الأول - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتعدد - في محل النزاع في تداخل الأسباب والمسببات وعدم التداخل. وكذا لا ينبغي الاشكال في دخول القسم الثاني - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتقيد بالسبب - في محل النزاع أيضا ، إذ يتحقق اثر للقول بعدم التداخل باعتبار قابلية الاسقاط من جهة خاصة ، مع بقاء الجزاء من سائر الجهات كما عرفت. واما القسم الثالث : فهو خارج عن محل النزاع ، إذ لا اثر عملي فيه للقول بالتداخل وعدم

ص: 491

التداخل ، ومجرد قابليته للتأكد لا يوجب اثرا عمليا ، كما هو واضح.

الرابع :

ربما يبتنى النزاع في المقام على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات ، فعلى الأول : فالأصل التداخل ، وعلى الثاني : فالأصل عدم التداخل.

ولكن الانصاف : ان قضية كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات مما لا محصل لها ، فإنه ان كان المراد من الأسباب الشرعية هي موضوعات التكاليف ، فدعوى كونها مؤثرة أو معرفة مما لا ترجع إلى محصل ، لان موضوع التكليف ليس بمؤثر ولا معرف ، الا إذا كان المراد من المؤثر عدم تخلف الأثر عنه فيستقيم ، لان الحكم لا يتخلف عن موضوعه ، الا ان اطلاق المؤثر على هذا الوجه مما لا يخلو عن مسامحة.

وان كان المراد من الأسباب المصالح والمفاسد فهي مؤثرة باعتبار ( من حيث تبعية الاحكام لها ) ومعرفة باعتبار ( من حيث إنها لا تقتضي الاطراد والانعكاس ) كما هو شأن الحكمة ان كان المراد من المعرف هذا المعنى ، أي عدم الاطراد والانعكاس. وعلى كل حال : الكلام في المقام انما هو في الشروط الراجعة إلى موضوعات التكاليف ، واطلاق المعرف على ذلك مما لا معنى له.

الخامس :

قد يقال : ان القول بعدم تداخل المسببات والأسباب يستلزم القول بتعدد التكليف والمكلف به ، في مثل قوله : صم يوما وصم يوما ، مع أن المحكى عن المشهور : القول بكفاية صوم يوم واحد في المثال وحمل الطلب الثاني على التأكيد لا التأسيس. ومن هنا ربما يتوهم : المنافاة بين المحكى عن المشهور في مثل المثال ، وبين المحكى عنهم في مسألة تداخل الأسباب والمسببات ، حيث إنهم ذهبوا إلى عدم التداخل ، ويتخيل ان القول بكفاية صوم يوم واحد في المثال يرجع إلى القول بتداخل الأسباب ، حيث إن كل طلب سبب لايجاد متعلقه ، فالاكتفاء بصوم واحد يرجع إلى تداخل الطلبين واقتضائهما ايجاد متعلق واحد ، هذا.

ولكن التحقيق : ان المثال ليس من تداخل الأسباب والمسببات ، فان

ص: 492

المثال لما كان المتعلق واحدا ، وهو صوم اليوم ، ولم يكن هناك ظهور لفظي في تعدد التكليف والطلب ، لان قوله ثانيا : صم يوما ، لايكون ظاهرا في التأسيس الا من جهة الظهور السياقي ، والظهور السياقي لا يقاوم الظهور اللفظي في وحدة المتعلق ، بل الظهور اللفظي في وحدة المتعلق أقوى من الظهور السياقي في كون الطلب الثاني للتأسيس ، ولأجل ذلك يحمل على كونه للتأكيد. ولو سلم انه ليس بأقوى ، فلا أقل من أنه يوجب التوقف. وأين هذا من مسألة تداخل الأسباب التي سيأتي ان الظهور اللفظي فيها يقتضى عدم التداخل ، فلا ملازمة بين المسئلتين.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : ان الأصل اللفظي يقتضى عدم تداخل الأسباب والمسببات. اما عدم تداخل الأسباب فتوضيحه : هو ان تعلق الطلب بصرف الوجود من الطبيعة وان كان مدلولا لفظيا ، الا ان عدم قابلية صرف الوجود للتكرر ليس مدلولا لفظيا ، حتى يعارض ظاهر القضية الشرطية في تأثير كل شرط لجزاء غير ما اثره الآخر ، بل من باب حكم العقل بان المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله ثانيا. واما ان المطلوب واحد أو متعدد ، فلا يحكم به العقل ، ولا يدل عليه اللفظ ، ولذا اختلف في دلالة الامر على المرة والتكرار. وبعبارة أخرى : وضعت صيغة الامر لطلب ايجاد الطبيعة ، والعقل يحكم بان ايجاد الطبيعة يحصل باتيانها مرة فلا موجب لاتيانها ثانيا ، وهذا لا ينافي ان يكون المطلوب ايجادها مرتين ، بحيث يكون امتثال كل مرة كافيا لامتثال مطلوب ، أي لو دل الدليل على أن المطلوب متعدد لا يعارضه حكم العقل على أن امتثال الطبيعة يحصل باتيانها ، لان كل مطلوب يحصل امتثاله باتيانه مرة عقلا. اما ان المطلوب متعدد أولا ، فلا يحكم به العقل. فإذا دل ظاهر الشرطيتين على تعدد المطلوب لا يعارضه شيء أصلا.

ومما ذكرنا انقدح : ما في تقديم ظهور القضيتين من جهة كونه بيانا لاطلاق الجزاء ، لأنه على ما ذكرنا ظهور الجزاء في الاكتفاء بالمرة ليس من باب الاطلاق أصلا ، حتى يقع التعارض ، بل يكون ظهور القضية الشرطية في تأثير الشرط مستقلا في الجزاء رافعا حقيقة لموضوع حكم العقل : بان المطلوب واحد يحصل امتثاله باتيانه مرة ، وواردا عليه ، بل على فرض ظهور الجزاء في المرة يكون ظهور الشرطية

ص: 493

حاكما عليه ، كما لا يخفى.

نعم : لو شك في الطلب الواحد ، كقوله : صل ، أو الجزاء المترتب على شرط واحد ، كقوله : إذا سهوت فاسجد سجدتي السهو ، انه يكفي المرة أم يجب تعدد الصلوات والسجدات ، فاطلاق الامر يقتضى حصول الامتثال بالمرة. وأين هذا مما إذا تعدد الامر أو الشرط؟ لأنه لا يمكن ان يكون الاطلاق متكفلا لوحدة الطلبين ، أو تأثير الشرطين اثرا واحدا. فتأمل في ذلك لئلا تخلط بين المقامين.

ثم إن عدم ظهور القضيتين في الاتحاد لا ينافي ما تقدم : من حكومة ظهور الامر في تعلقه بصرف الوجود في نحو ( صم يوما صم يوما ) على الظهور السياقي ، للفرق بين البابين ، فان الامر في مقام الجزاء حيث إنه متفرع على الشرط فيقتضى تعدد الشرط تعدد الجزاء. وهذا بخلاف الامر الابتدائي المكرر ، فإنه ليس ظاهرا في التعدد الا من جهة الظهور السياقي المحكوم بظهور تعلق الامر بصرف الوجود. واما الثاني فعلى فرض ظهور الجزاء في القضيتين في الاتحاد ، أي هذه الحقيقة التي جعلت جزاء في مثل ( إذا بلت توضأ ) بعينها هي التي جعلت جزاء فيما إذا تكرر منه البول ، والحقيقة الواحدة لا تقبل التكرار ، فيكون الجزاء الممكن فيه التعدد كالجزاء الذي لا يمكن فيه التعدد من لزوم التداخل في الأسباب.

ولكنا نقول : ان الجملة الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين ، وذلك لأنه لا شبهة ان القضية الشرطية كالقضية الحقيقة ، فكما ان قوله : المستطيع يحج - عام لمن استطاع في أي وقت ، فكذلك قوله : ان استطعت فحج ، لان كل قضية حقيقية راجعة إلى الشرطية ، وبالعكس ، غاية الامر انهما متعاكسان. فالشرطية تتضمن عنوان الموضوع ، لان نتيجة ( ان استطعت ) هو ( المستطيع ) وهي صريحة في الاشتراط. والحقيقية تتضمن الشرط ، وهي صريحة في عنوان الموضوع. ولازم الانحلالية ان يترتب على كل شرط جزاء غير ما رتب على الآخر. فعلى هذا لا اشكال في عدم التداخل ، حتى في مورد تعدد الشرط من جنس واحد ، فضلا عما إذا تعدد من الأجناس المختلفة ، فيصير هذا الظهور قرينة للجزاء ، ويصير بمنزلة ان يقال : إذا بلت فتوضأ وإذا بلت ثانيا فتوضأ وضوء آخر ، كما إذا تحقق منه النوم والبول.

ص: 494

ثم إن ظهور كل شرط في تأثيره اثرا غير اثر الشرط الآخر لا يختص بالأدلة اللفظية ، بل يمكن استفادته من اللبيات ، لان المدار على ظهور الشرط في الانحلالية ، فإذا كان الدليل عليه لفظيا فاستفادة الانحلالية اما : بالوضع ، كالعموم الأصولي المستفاد من الأسماء المتضمنة للشرط ، كمتى وانى وأين وإذا ومهما وحيثما ، وهكذا. واما : بالاطلاق ، ك ( إن ) وأخواتها ، فان استفادة كون مدخولها علة تامة لترتب الجزاء عليه بالاطلاق ، وإذا كان الدليل عليه لبيا ، فاستفادة الانحلال كأصل الاشتراط يمكن قيام الاجماع عليه ، أو دلالة العقل عليه.

ان قلت :

سلمنا ظهور كل شرط في كونه تمام السبب للجزاء ، الا ان الجزاء حيث إنه لم يترتب بوجوده على الشرط حتى يمكن التعدد - فان وجوده هو مقام امتثاله - بل رتب من حيث حكمه وهو لا يقبل التعدد. وبعبارة واضحة : وجود الاكرام لم يعلق على المجيئ حتى يمكن ان يتعدد ، بل وجوبه الذي هو حكمه علق عليه ، وغاية تأثير كل سبب ان يتأكد الحكم ، لان الوجوب لا يمكن فيه التعدد.

قلت :

قد بينا في المقدمات : ان الوجوب - وهو المعنى النسبي المستفاد من الهيئة - غير قابل للتعليق ، بل المعلق هو محصل الجملة ، وهو طلب الايجاد الذي يتحقق بايقاع نسبة المادة إلى الفاعل في مقام الانشاء. وبعبارة واضحة : قد تقدم في مبحث الأوامر (1) ان مفاد صيغة الامر ليس طلب الفعل كما هو المشهور ، لأنه ليس معنى ( صل ) اطلب منك الصلاة ، بل وضعت صيغة الامر لنسبة المادة إلى الفاعل انشاء وتشريعا ، فكون المتكلم في مقام التشريع ملقيا نسبة المادة إلى الفاعل يوجب ان يتحقق بنفس هذا الالقاء مصداق للطلب ، ففي مقام التشريع يطلب الشارع ايجاد الصلاة ، والايجاد قابل للتكرر.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما برهن عليه العلامة - على ما يحكى عنه - لعدم تداخل الأسباب فنقول : هو ( قده ) أتم البرهان بمقدمات ثلث ، والمقدمتان منها صريحتان في كونهما من برهان عدم التداخل في الأسباب ، والثالثة ظاهرة فيه ، لا

ص: 495


1- راجع تفصيل هذا البحث في الامر الثالث من المقصد الأول ، الجزء الأول من الفوائد ص 129

صريحة ، لامكان رجوعها إلى برهان عدم التداخل في المسبب.

المقدمة الأولى : انه لا اشكال ، في أن ظاهر القضية الشرطية ، هو كون الشرط مؤثرا في الجزاء.

والثانية : ان ظاهر كل شرط ان يكون اثره غير اثر الشرط الاخر.

والثالثة : ان ظاهر التأثير ، ان الأثر هو تعدد الوجود لا تأكد المطلوب.

والعمدة من هذه المقدمات هي الأولى ، لان المقدمتين الأخيرتين واضحتان. اما الثانية : فلانه ، بعد ثبوت الأولى لا بد ان يكون اثر كل شرط غير اثر الآخر ، لان معنى تأثير الشرط التأثير بالاستقلال لا الانضمام. واما الثالثة : فلان التأكيد وان كان مغايرا لغير المؤكد ، الا انه في الحقيقة راجع إلى وحدة الأثر ، فمهما أمكن التعدد في المسبب لا موجب لتأثير الشرط التأكد.

نعم : مع حفظ المقدمتين وعدم امكان التعدد يجب المصير إلى التأكيد.

واما المقدمة الأولى : فعمدة المناقشة فيها مناقشة فخر المحققين : (1) من ابتنائها على كون العلل الشرعية مؤثرات ، لأنها بناء على كونها معرفات ، لا تأثير للشرط في الجزاء. ولكن ظهر مما ذكرنا : ان التداخل وعدمه لا يبتنى على هذا النزاع ، بل لا محصل لهذا النزاع أصلا ، لان علل التشريع ليست عللا حقيقية ، فلا يمكن النزاع فيها والقول بأنها مؤثرات. واما موضوعات الاحكام ، فليست الا كالعلل الحقيقية ولا يمكن ان تكون معرفات. وبالجملة لا وجه لهذه المناقشة أصلا.

ثم انه ، قد ذكرنا ضابطا مميزا بين العلل للجعل وبين موضوعات المجعول في غير مبحث. واجماله : ان كل ما لا يمكن ان يجعل عنوانا لفعل المكلف ويلقى إليه لعدم تميزه بين مورد حصوله وعدم حصوله ، كاختلاط المياه والنهى عن الفحشاء ، فهذا لا يمكن ان يكون موضوعا الذي قد يعبر عنه بالعلة للمجعول ، بل يجب ان يكون علة للجعل وملاكا له ، فهذا غير مطرد ولا منعكس.

وما أمكن ان يلقى إلى المكلف ، كاسكار الخمر ، لامكان تمييز المكلف بين حصوله وعدم حصوله ، فهذا يلاحظ فيه لسان الدليل ، فان اخذ فيه علة للجعل والتشريع ، فهو لا يطرد ولا ينعكس ، كقولهم علیهم السلام أتدري لم جعل أو لم شرع

ص: 496


1- راجع إيضاح الفوائد الجزء 1 ص 48

كذا ، ولم صار ماء الاستنجاء لا بأس به لان الماء أكثر من القذر ، وأمثال هذه القضايا التي صنف الصدوق ( قده ) لها كتاب على حدة ، وسماه علل الشرايع. وان اخذ فيه علة للمجعول ، كقوله علیه السلام الخمر حرام لأنه مسكر ، فهذا هو العلة التي يتعدى عن مورد معلولها إلى المشارك معه في هذه العلة.

فتحصل مما ذكرنا ان عمدة برهان القائل بالتداخل ، هو ان صرف الشيء لا يتكرر. وهذا الكلام مما لا ريب فيه بعد اثبات ان متعلق الامر هو الطبيعة المشتركة بين المرة والتكرار ، لا خصوص المرة ، ولا التكرار ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ، فبالاطلاق يثبت انه أراد القدر الجامع ، وبحكم العقل يثبت ان القدر الجامع إذا تحقق لا مجال لامتثاله ثانيا.

ولكن فيه أولا : ان هذا لا ينافي ظهور القضية الشرطية في تأثير كل شرط اثرا غير اثر الشرط الآخر ، لان كون صرف الشيء لا يتكرر لايكون مستندا إلى ظهور لفظي ، حتى يعارض ظهور الشرطية. وبعبارة أخرى : حكم العقل مفاده ان المطلوب الواحد لا يتكرر ، فلا يعارض ظهور ما دل على تعدد المطلوب. وثانيا : ان ظهوره في عدم التكرار بالاطلاق وعدم موجب التعدد ، ويكفي ظهور الشرطيتين في بيان موجب التعدد.

واما المقام الثاني :

فالحق فيه أيضا عدم التداخل ، لأنه بعد ما ظهر ان كل سبب يؤثر غير ما اثره الآخر ، فمع امكان التعدد في المسبب لا موجب للتداخل ، ولا وجه لدعوى أصالة التداخل. فالاكتفاء في الامتثال بمسبب واحد ، مع القول بعدم التداخل في الأسباب ، لا بد فيه اما : من ثبوت دليل عليه ، كالاكتفاء بغسل واحد إذا اجتمع عليه حقوق (1) لقيام الدليل الواضح على كفاية غسل واحد ، اما مطلقا ، واما لو نوى الجميع ، واما لو كان في الأسباب الجنابة. وعلى أي حال : ان ثبوته بالدليل غير دعوى أصالة التداخل. واما : من كون المسبب مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، كضيافة الهاشمي العالم ، لو قال : أكرم هاشميا وأضف عالما ، فان اطلاق كل دليل حيث إنه يشمل مورد الاجتماع يوجب عدم البأس باتيان المجمع ، لامتثال الاكرام

ص: 497


1- المراد من الحقوق هو حقوق اللّه تعالى.

الذي بينه وبين الضيافة عموم من وجه في العالم الذي بينه وبين الهاشمي عموم من وجه. ولا يبتنى صحة الامتثال بالمجمع على مسألة الاجتماع ، لان موضوع تلك المسألة في الحكمين المتضادين. والمتماثلان وان كان كالمتضادين الا انه إذا بقى الحكمان باثنينيتهما ، واما مع اتحادهما كما في الحكمين الانحلاليين ، كقوله : أكرم العلماء وأكرم السادات ، واجتمع في مصداق واحد عنوان العالم والسيد ، أو في البدليين كما في امتثالهما باتيان المجمع ، فيتحدان ويؤثر كلاهما بوصف الاجتماع اثرا واحدا.

وبالجملة : تداخل المسبب لا بد ان يثبت بدليل ، أو يصدق الامتثال في اتيان واحد إذا كان بين العنوانين عموم من وجه. والكلام الذي نحن بصدد تنقيحه مفروض فيما كان بين الأسباب تباين ، كالبول والنوم ، أو الجماع والاكل ، أو تساو كتعدد النوم أو الاكل ، مع اتحاد المسبب بحسب المفهوم. ثم انه ينبغي التنبيه على أمرين :

الأول : ان هذا الذي ذكرنا من عدم تداخل الأسباب ، انما هو بمقتضى القواعد اللفظية ، فأصالة عدم التداخل تامة لو لم يقم دليل على خلافها ، كما في كل أصل قام الدليل على خلافه.

فمن جملة ما قام الدليل فيه على خلاف هذا الأصل موجبات الوضوء ، وبعض موجبات الكفارة. اما الوضوء : فقيام الدليل على كفاية وضوء واحد لجميع أسبابه موجب لاستكشاف أحد أمور ثلاثة فيه.

أولها : كون سبب الوضوء هو العنوان الواحد الحاصل بأحد النواقض ، بمعنى كون النواقض محصلة لهذا العنوان ، ونفس ذلك العنوان هو السبب ، وهذا غير قابل للتعدد بتعدد محصلاته ، ويعبر عنه بالقذارة المعنوية والحالة الحدثية. ثم انه إذا تحقق المحصلان في عرض واحد ، فالعنوان مستند إلى وصف الاجتماع ، ولو تحققا طولا فمستند إلى أول الوجود منهما ، كما لا يخفى.

ثانيها : كون السبب هو صرف الوجود من النواقض ، لا مطلق وجوده ، فأول سبب حصل في الخارج هو المؤثر في الوضوء ، دون ما يتحقق ثانيا وثالثا.

ثالثها : ان المسبب - وهو الطهارة الحاصلة بأول وضوء - غير قابل للتعدد ولا التأكد ولا الانتساب إلى سبب من حيث والى سبب آخر من حيث آخر ، فيخرج المورد عن محل النزاع. ولكنه لا يخفى : ان هذا الاحتمال في باب الوضوء لا

ص: 498

يتطرق ، لأنه ثبت : ان الوضوء على الوضوء نور على نور.

واما باب بعض الكفارات : فهو في غير الجماع ، كالأكل والشرب ونحوهما ، لأنه ورد في الدليل ( من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه الكفارة ) والمفطر صادق بأول وجود من المفطرات ، وهو عنوان غير قابل للتعدد ، فكل من شرب واكل وارتمس ، يصدق عليه انه أفطر بمجرد تحقق أول المفطرات ، فاكله بعد شربه غير قابل للتأثير. ولا ينافي ذلك وجوب الامساك على المفطر أو استحبابه ، لأنه حكم تعبدي من جهة احترام شهر رمضان ، لا لامكان الافطار ثانيا لبقاء الصوم.

وبالجملة : لا ينافي الأصل قيام الدليل على خلافه ، كما أن أصالة عدم تداخل المسببات - أي عدم كفاية امتثال واحد لأسباب متعددة مؤثرة - لا ينافي قيام الدليل على كفايته ، كما في الأغسال ، وكما لو لم يكن المسبب قابلا للتعدد والتأكد ولا التقيد ، كما إذا اجتمع حقوق اللّه تعالى في القتل ، فإنه لا يمكن ان يتقيد القتل بحق دون حق ، لان حقه تعالى غير قابل للعفو ، حتى يتقيد بسبب غير تقيده بسبب آخر ، وكما في تداخل المسببين في ضيافة العالم الهاشمي.

الثاني :

انه قيل : بتعدد حقايق الأغسال ، كما هو المشهور. وقيل : باتحادها ، كما هو المحكى عن الأردبيلي ( قده ) وتابعيه. ومعنى اتحاد حقيقتها ان ما يوجبه الجنابة من الغسل عين ما يوجبه الحيض أو مس الميت أو الجمعة ، وهكذا. ثم انه وان اختلف القولان بحسب الآثار الفقهية والأحكام الشرعية ، ككفاية غسل واحد حتى الجمعة عن جميع الأغسال ولو لم ينو غيرها ، وكفاية كل غسل عن الوضوء بناء على الاتحاد ، وعدم كفايته في كلا المقامين بناء على التغاير ، الا انه ليس المقام مقام البحث عن الحكم الفرعي وبيان ان المختار هو التعدد كما هو المشهور ، لظاهر الاخبار (1) بأنه « إذا اجتمع عليه حقوق أجزئك غسل واحد » الظاهر في أن الموجب للغسل متعدد. ولا معنى لاتحاد حقيقة الغسل مع تعدد موجبه ، لأنه لو كان ما

ص: 499


1- الوسائل ، الجزء 1 الباب 43 من أبواب الجنابة الحديث 1 ص 526

توجبه الجنابة عين ما يوجبه الحيض للزم ان يكون السبب واحدا أيضا ورجوع جميع الأسباب إلى حدث واحد ، كموجبات الوضوء ، على ما عرفت ، لعدم امكان ترتب معلول واحد على علل مختلفة ، كما برهن في محله. بل المهم في المقام ، انما هو بيان الحكم الأصولي على المسلكين.

فنقول : لو قلنا بالاتحاد ، فلا محيص عن الالتزام بالتداخل وعدم تأثير كل ما هو السبب في الظاهر ولو قلنا بأصالة عدم التداخل في الأسباب والمسببات ، لعدم قابلية المورد لتعدد الوجود ، لان محل النزاع في باب التداخل هو ما لو كان الجزاء المترتب على الأسباب واحدا مفهوما وقابلا للتعدد مصداقا ، أو بحكم المتعدد المصداق من التأكيد أو التقييد. والمفروض - بناء على الاتحاد - ان ما يوجبه الجنابة من الغسل عين ما يوجبه الحيض. ولو قلنا بالتباين فلا محيص عن الالتزام بعدم التداخل ولو قلنا بأصالة التداخل في باب الأسباب والمسببات ، لما عرفت ان مورد النزاع هو المتحد في المفهوم القابل لتعدد الوجود ، ومعنى متحد المفهوم المتعدد في الوجود هو المشترك المعنوي ، كالرقبة المترتب عتقها على الافطار والظهار. وهذا بخلاف متباين الحقيقة المترتب أحد المتباينين على سبب كالوضوء مثلا على البول ، والمباين الآخر كالكفارة عل سبب آخر كالافطار ، فإنه لا معنى في هذا المقام للتداخل.

ثم انه بناء عل التباين ، كما هو المختار ، فمقتضى القاعدة عدم كفاية غسل واحد عن الأسباب المتعددة ، الا انه قام الدليل على أنه لو نوى الجميع بغسل واحد يجزى ، كما أنه قام الدليل على كفاية نية الجنابة لجميع الأغسال ولو لم ينو غيرها. فالأول : كقوله في كتاب (1) حريز : إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزئك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة إلى آخر الحديث ، فان قوله : إذا اغتسلت - باطلاقه يشمل لو كان المتعدد هو الأغسال المستحبة ، أو الواجبة ، أو المركب منهما ، لا سيما بقرينة ذيل هذا الخبر ( فإذا اجتمعت لله عليك أجزئها عنك غسل واحد ) واما اعتبار نية الجميع ، فلقوله علیه السلام ( للجنابة والجمعة ) الظاهر في لحاظ الجنابة

ص: 500


1- الوسائل ، الجزء 1 الباب 43 من أبواب الجنابة الحديث 1 ص 526

والجمعة وغيرهما في الغسل.

والثاني : كقوله علیه السلام (1) « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزء عنه ذلك عن كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » فان اطلاقه يشمل ما لو لم يلتفت الجنب حين غسل الجنابة إلى أسباب آخر. وبالجملة : لو قام الدليل كذلك لكشف عن كفاية نية الشيء عن اتيانه عن الأسباب المتعددة ، ويصير المميز للأسباب هو النية.

الفصل الثاني : في مفهوم الوصف

ولا يخفى : ان عنوان محل البحث ، وان جعل في كلمات الأساطين - كالكفاية بل التقرير - هو الأعم ، ولكن الحق هو اختصاص محل النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف دون غيره ، فان غيره ليس الا كمفهوم اللقب ، فان اثبات حكم لموضوع بعد فرض كونه لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع لا فرق فيه ، بين ان يكون الموضوع في القضية شخصيا كأكرم زيدا ، أو كليا كجئ بانسان ، أو اشتقاقيا كأكرم عالما ، فكما لا يدل اثبات حكم لزيد على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غيره ، فكذلك اثبات حكم للعالم لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير العالم. وتوهم ان المشتق مأخوذ فيه الذات بناء على قول ، أو متضمن لها على آخر - فكان الموضوع قد ذكر في القضية - من أعجب الغرائب.

وبالجملة : الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحا ، انما هو لخروج الكلام عن اللغوية ، وتقريبه : ان الحكم لو لم يختص بمورد الوصف وكان ثابتا له وللفاقد لما كان لذكر الوصف وجه. وهذا لا يجرى في مثل أكرم عالما ، فان ذكر موضوع الحكم لا يحتاج إلى نكتة غير اثبات الحكم له ، لا اثباته له وانتفائه عن غيره. وبالجملة : الوصف الغير المعتمد على الموصوف ليس الا اللقب.

فالأولى ان يجعل العنوان هكذا : لو نعت موضوع القضية بنعت ، فهل يدل ذكر النعت بعد المنعوت على انتفاء الحكم عن ذات المنعوت الغير المتصف بهذا

ص: 501


1- الوسائل - الجزء الباب 43 - من أبواب الجنابة - الحديث 1 - 2 - ص 526

الوصف مطلقا؟ أو لا يدل مطلقا؟ أو يفصل بين ما إذا كان مبدء الاشتقاق للوصف علة للحكم فله الدلالة وبين ما لم يكن كذلك؟ أي التفصيل بين الوصف المشعر بعلية مبدء اشتقاقه للحكم ، وعدمه.

والحق : عدم الدلالة مطلقا ، وذلك لما ظهر في مفهوم الشرط : من أن كون القضية ذات مفهوم انما يتصور فيما إذا كان القيد راجعا إلى الحكم ، بالمعنى المعقول الذي بيناه ، وهو تقييد المتحصل من الجملة ، لا ذات الانتساب الذي هو معنى حرفي. واما لو كان القيد راجعا إلى عقدي الوضع والحمل - أي لو كان القيد واردا قبل الانتساب وكان مقيدا لاحد المنتسبين - فلا يتصور ثبوت المفهوم للقضية ، وفي المقام لا يمكن ارجاع القيد الا إلى الموضوع ، فيكون كالشرطية التي سيقت لفرض وجود الموضوع ، فلا مجال لتوهم المفهوم فيها. وبالجملة : القيد في المقام ليس كالقيد في باب القضية الشرطية ، ولا كالغاية التي يمكن ان تكون غاية للحكم.

ان قلت :

فلا وجه على هذا ، لحمل المطلق على المقيد ، فإنه لا وجه للحمل الا كون التقييد بالمنفصل كالتقييد بالمتصل ، ولا شبهة ان التقييد بالمتصل يوجب اختصاص الحكم بالمقيد ، فكذلك المنفصل ، ولو لم يكن الوصف ذا مفهوم لما كان وجه لحمل المطلق على المقيد وبعبارة أخرى : من اجل ظهور المقيد في اختصاص الحكم به ، لان الأصل في القيد الاحترازية ، يحمل المطلق على المقيد.

قلت :

حمل المطلق على المقيد ليس من جهة المفهوم ، بل من جهة التنافي بين التعين الذي يكون المقيد نصا فيه ، والتخيير الذي يكون المطلق ظاهرا فيه مع وحدة التكليف. والا فان مجرد اختصاص الحكم بالرقبة المؤمنة في المقيد ليس الا مثل ان يذكر المقيد ابتداء من دون ذكر المطلق ، فلا يفيد التقييد الا تضييق دائرة موضوع الحكم. وهذا ليس معنى المفهوم ، فإنه يجب ان يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع بأي سبب فرض.

وبعبارة أخرى : كون الموضوع خاصا وامرا مخصوصا غير دلالة القضية على

ص: 502

انتفاء الحكم من غير هذا الموضوع. ومن هنا ظهر : ان كون الأصل في القيد احترازيا - لا للفوائد الاخر التي تذكر لمجيئ القيد - لا يفيد اثبات المفهوم ، فان الاحترازية ان كانت بمعنى دلالة القيد على انتفاء الحكم عن ذات المقيد الخالي عن هذا القيد ، فالمسلم منها انما هو في الحدود ، لان بناء التعريف على الاطراد والانعكاس ، دون غيرها ، وان كانت بمعنى دلالته على اختصاص الحكم بالمقيد ، فهذا لا يفيد الا اختصاص هذا الحكم بهذا الموضوع الخاص ، لا نفيه عن غيره.

فان قلت :

حمل المطلق على المقيد في المطلق المطلوب منه صرف وجوده وان لم يكن من باب المفهوم ، الا انه في المطلق الانحلالي يكون التقييد مستلزما للمفهوم لامحة ، فان تقييد وجوب الزكاة في مطلق الغنم بالسائمة ، معناه نفيها عن المعلوفة ، فكون القيد احترازيا لا يستقيم الا باخراج المعلوفة من دليل المطلق ، وهذا عين المفهوم.

قلت :

أولا : لا موجب للتقييد في المطلق الانحلالي لو كان القيد منفصلا ، نعم في المتصل لا مناص عن اختصاص الحكم بمورد القيد ، وذلك لعدم التنافي بين تعلق الزكاة بمطلق الغنم وتعلقها بالسائمة.

وثانيا : على فرض تسليم التقييد ، ان التقييد ليس الا قصر دائرة الحكم على الموضوع المقيد ، لا نفيه عما عداه. وفرق بين اثبات حكم لموضوع خاص مع سكوته عن غير هذا الموضوع ، واثباته له ونفيه عما عداه ، والثاني هو المفهوم ، لا الأول. ولذا لو دل دليل ثالث على تعلق الزكاة بالمعلوفة ، فبناء على التقييد لا تعارض بين المقيدين ، ونتيجة تقييد الحكم بكليهما هو الاطلاق ، لاستيعابهما جميع افراد المطلق. وبناء على المفهوم يتعارضان ، لان اثبات الحكم في السائمة مع القول بالمفهوم معناه : عدم ثبوت الزكاة في المعلوفة.

ثم انه لا اشكال في أن محل البحث هو فيما لو كان بين الموصوف والصفة عموم مطلقا أي كان الموصوف عاما والصفة أخص منه ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموضوع ، أي وجد الموصوف كالغنم ولم يكن

ص: 503

سائمة. واما الافتراق من جانب الوصف ، أي وجدت السائمة ولم تكن غنما ، فهذا غير داخل في محل النزاع ، لان كون الوصف ذا مفهوم معناه تخصيص موصوفه به واخراج سائر افراد الموصوف عن ثبوت هذا الحكم لها ، لا تخصيص موصوف خارج عن هذين التركيبين. فلا بد من ملاحظة التقييد بالنسبة إلى الإبل السائمة وعدم وجوب الزكاة في معلوفها من ملاحظة نفس دليل تعلق الزكاة بالإبل ، وهذا واضح. وقول الشافية لا يعتنى به. واستفادة العلية من وصف خاص خارج عن ظهور الكلام بحسب طبعه.

الفصل الثالث : في مفهوم الغاية

وتنقيحه يتوقف على تحرير نزاع آخر وقع في باب الغاية ، وهو انه. هل الغاية داخلة في المغيى مطلقا ، أم لا مطلقا ، أو التفصيل بين أدواتها ، أو التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيى وعدمه؟ ولا يخفى : انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج. وكون لفظة الغاية والنهاية دالة على دخول الغاية - لان نهاية الشيء كابتدائه من حد الشيء ، وحد الشيء من اجزائه لا انه أول جزء من خارج الشيء - لا يفيد اثبات الوضع ( لحتى والى ) فإنهما لم يوصفا لما يستفاد من هذا اللفظ الأسمى. والأمثلة التي تذكر للدخول أو الخروج لا تفيد اثبات الوضع ، فان استفادة الدخول أو الخروج من هذه الأمثلة انما هي لقرائن خاصة خارجية. فدعوى ظهور الأداة في الدخول أو الخروج أو التفصيل دعوى بلا برهان. وليس هنا أصل لفظي يدل على الدخول أو الخروج ، فالمرجع عند الشك هو الأصول العملية.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في ثبوت المفهوم للغاية ، وقد ذكرنا في مفهوم الشرط : ان كون القضية ذات مفهوم مرجعه إلى تقييد الحكم ، وعدم كونها كذلك مرجعه إلى رجوع القيد إلى أحد عقدي الوضع أو الحمل. وبعبارة أخرى : لو كان التقييد - سواء كان للموضوع أو المحمول - قبل الاستناد فهذا يرجع إلى مفهوم اللقب. ولو كان في رتبة الاسناد - أي قيد الحكم وهو اسناد المحمول إلى الموضوع أي تقييد الجملة لا تقييد المفردات - فهذا يرجع إلى ثبوت المفهوم ، فهذان الأمران مما لا نزاع فيهما. فالأليق في النزاع ان يكون البحث في احراز الصغرى ، وان الغاية غاية للحكم

ص: 504

أو الموضوع.

والظاهر : ان الغاية قيد للحكم ، الا ان تقوم قرينة على خلافه ، لان قوله علیه السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام ، مع قوله (1) « عز اسمه » : وأتموا الصيام إلى الليل - بنسق واحد. فكما ان الحكم لو جعلت غايته المعرفة تكون الغاية قيدا للحكم ، فكذلك سائر الأمثلة التي جعلت فيها الغاية غاية بعد اسناد المحمول إلى موضوعه.

وكون الغاية قيد للموضوع - وأخرت عن الجملة لعدم امكان تقديمها - لا يصغى إليه ، لامكان تبديل هذا التركيب إلى آخر بان يقال : الصيام إلى الليل أتمه ، والسير من البصرة إلى الكوفة أوجده ، فجعل الغاية بعد اسناد المحمول إلى الموضوع كاشف عن رجوعها إلى الجملة ، لا إلى مفردات الكلام.

وبالجملة : ظاهر القضية بحسب القواعد العربية رجوع الغاية إلى اسناد المحمول إلى الموضوع ، فكأنه جعل وجوب اتمام الصيام مغيى بغاية الليل ، فيقتضى رجوع الغاية إلى الحكم انتفائه عما بعد الغاية ، وينفى ثبوت حكم آخر من سنخ هذا الحكم لليل.

الفصل الرابع : في مفهوم الحصر

لا يخفى : ان النزاع فيه أيضا يرجع إلى أن الحصر حصر للحكم ، أو للموضوع. ولا اشكال في أن مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد. وما نقل عن نجم الأئمة : ان رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء منحصر بان يخرج المستثنى قبل الاسناد ، كلام لا ينبغي صدوره عن جنابه ، لأنه لا تناقض ابدا بين المستثنى منه والمستثنى حتى يتوقف رفعه على جعل الاخراج قبل الاسناد ، لان الكلام يحمل على ما هو ظاهر فيه بعد تماميته بمتمماته : من لواحقه وتوابعه ، بل لو عول المتكلم على بيان مرامه بقرينة منفصلة لا تعد القرينة مناقضة لذي القرينة.

ص: 505


1- البقرة ، 178

وبالجملة : هذا التناقض المتوهم يجرى بين قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات ، مع ذي القرائن والعمومات والمطلقات ، ولا اختصاص له بباب الاستثناء ، مع أنه لا وقع لهذا التوهم أصلا. فاخذ الاخراج قبل الاسناد الذي يرجع في المآل إلى أن كلمة ( الا ) صفتية وبمعنى الغير لا استثنائية ، لا وجه له ، بعد ظهورها في الاستثنائية في القضايا المتعارفة ، لأنها لو كانت صفتية لاقتضى مجيء الاستثناء قبل الحكم ، بان يقال : القوم الا زيد أي الموصوف بغير زيد جاؤوا ، كما ورد هكذا في الآية المباركة : لو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا.

وبالجملة : فالنزاع في الحقيقة راجع في قوله : جاء القوم الا زيد - إلى أن قوله ( الا زيد ) من قيود القوم؟ حتى تكون ( الا ) صفتيه ، فيكون محصل المعنى : ان القوم الذين هم غير زيد جاءوا ، فلا يكون لهذه القضية مفهوم ، لان اثبات حكم لموضوع خاص لا يدل على انتفاء سنخه عن غير هذا الموضوع. أو من قيود الحكم؟ حتى تكون ( الا ) استثنائية ويكون للقضية مفهوم ، لان اثبات حكم القوم واخراج زيد عن هذا الحكم الثابت لعشيرته مع أنه منهم موضوعا عين المفهوم ، لان المدعى ليس الا دلالة القضية على عدم ثبوت الحكم المذكور للقوم نفيا واثباتا لزيد وخروج حكمه عن حكمهم. وعلى هذا فلا اشكال انه إذا قال : له على عشرة الا درهما فهو اقرار بالتسعة ، ولو قال : له على عشرة الا درهم بالرفع فهو اقرار بالعشرة ، لان مقتضى القواعد العربية التي يجب حمل كلام المتكلم عليها لا على الغلط ان يجعل الدرهم بالرفع صفة للعشرة ، فكأنه قال : العشرة التي هي غير الدرهم على ، هذا في الاثبات. واما في النفي فحيث انه يجوز الوجهان في الاستثناء الواقع بعده ، فلو قال : ما له على عشرة الا درهم أو الا درهما ، فيحمل على اقراره بالدرهم ، فما أفادوه في أنه على النصب لم يكن اقرارا بشيء لا وجه له.

والعجب مما يحكى عن (1) المسالك ، فإنه مع اعترافه بان كلمة الا

ص: 506


1- راجع المسالك ، المجلد الثاني ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ، ما افاده في شرح قول المحقق قدس سره في الشرايع « ولو قال : ماله عندي شيء الا درهم كان اقرارا بدرهم .. » ص 171

استثناء حمله على الاخراج قبل الاسناد فكان النفي دخل على المستثنى والمستثنى منه ، ومرجع الكلام إلى أن المقدار الذي هو عشرة الا درهما ليس على ، وبعبارة أخرى : التسعة ليس على ، لان العشرة الا الدرهم هي التسعة. ولا يخفى : انه مع كون كلمة ( الا ) استثنائية لا يعقل ان يكون الاخراج قبل الاسناد ، فإنها يكون حينئذ وصفية ، ورفع اشكال التناقض ليس باخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الاسناد. وبالجملة : مع أن القواعد العربية تساعد النصب بعد النفي أيضا ، فحمل ( الا ) على الوصفية لا وجه له. ومجرد كونه مطابقا لأصل البراءة لا يقتضى صرف الكلام عن ظاهره واخراجه عن كونه اقرارا ، فما افاده في الجواهر (1) هو الأقوى ، وهو ثبوت الدرهم على كل تقدير من الرفع والنصب.

ثم لا يخفى : انه يمكن ان يكون منشأ توهم أبي حنيفة : كون الموضوع له للفظة ( الا ) هو الأعم من الصفتية والاستثنائية ، والا فإنها لو كانت موضوعة للاستثناء لم يمكن توهم عدم ثبوت المفهوم للقضية. والأمثلة التي ذكرها لعدم الإفادة هي في الإفادة أظهر من عدمها ، لان قوله علیه السلام (2) لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، أو الا بطهور - مثلا - لو كان المراد من الصلاة هي الجامعة لجميع الشرائط الا الطهور ، فيفيد نفى الصلواتية عن فاقدة الطهور كون الصلاة المفروضة ( أي الجامعة مع الطهور ) صلاة ، ولا محذور فيه. ولو كان المراد من الصلاة الأعم من الجامع والفاقد فاثبات الصلواتية بمجرد وجدان الطهارة وحدها أيضا لا محذور فيه ، لان معناه ان الصلاة من هذه الجهة صلاة ، ولا ينافي عدم كونها كذلك من جهة فقد سائر الشروط والاجزاء. وبعبارة أخرى : بناء عليه ، الحصر إضافي ولا بأس به.

فتحصل مما ذكرنا : ان القيد لو كان راجعا إلى عقد الوضع والحمل ، أي كان التقييد قبل الاسناد ، فبانتفاء الموضوع المقيد أو المحمول المقيد لا ينتفى الحكم عن موضوع آخر ، وانتفاء الحكم عن هذا الموضوع عقلي لا ربط له بالمفهوم. والسر في

ص: 507


1- جواهر الكلام الجزء 35 ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ص 88
2- المستدرك الجلد الأول الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة الحديث 5 ص 274

ذلك : ان التقييد لا يوجب الا تضييق دائرة الموضوع أو المحمول ، وثبوت حكم لموضوع خاص لا يلازم انتفائه عن موضوع آخر. ولو كان راجعا إلى الحكم - أي المتحصل من الجملة أي كان التقييد في رتبة الاسناد - فالحكم المقيد ينتفى بانتفاء قيده بالملازمة ، وهذا هو المفهوم. ولا فرق فيما ذكرنا بين مفهوم الغاية ، والحصر ، أو غيرهما.

نعم : لا يمكن في باب الشرط ارجاع القيد إلى الموضوع ، لان أداة التعليق وضعت لتعليق جملة على جملة ، فمرجع النزاع فيه إلى كون القضية مسوقة لغرض وجود الموضوع ، أو لتحديد الحكم. فعلى هذا لو رجع الحصر إلى الاسناد - وكان الاخراج في رتبة قوله : جاء القوم الا زيدا - يدل على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ، ومحل النزاع انما هو في ( الا ) الاستثنائية لا الوصفية ، فالقول بعدم دلالة القضية على المفهوم مرجعه إلى استعمال ( الا ) الاستثنائي في الوصف ، والمصير إليه من دون قرينة عليه لا وجه له.

ثم إن هنا اشكالا ، في إفادة كلمة ( لا إله إلا اللّه ) التوحيد ، وحاصله : ان خبر ( الا ) لو قدر ( موجود ) فلا دلالة لهذه الكلمة على عدم امكان اله آخر ، ولو قدر ( ممكن ) فلا دلالة لها على وجود الباري تعالى وان دلت على عدم امكان آلهة أخرى.

ولا يخفى : ان هذا الاشكال انما نشأ من قول أكثر النحويين ان خبر ( لا ) مقدر ، ولذا عدوها من نواسخ المبتدأ والخبر ، وجعلوا الفرق بين لا النافية للجنس ولا المشبهة بليس ، هو الفرق بين لولا الغالبية ولولا الغير الغالبية ، فان لولا الغالبية حيث إن خبرها من أفعال العموم أي الوجود المطلق ، فيجب ان يكون محذوفا كقوله : لولا علي لهلك عمر ، ومنشأ وجوب حذفه دلالة الكلام عليه ، فيكون ذكره لغوا ، كحذف الفاعل في فعل الامر ، والمضارع المخاطب منه ، والمتكلم وحده ، ومع الغير. ولولا الغير الغالبية حيث إن خبرها فعل خاص وجب ذكره كقوله علیه السلام : لولا قومك حديثوا عهد بالاسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين. وقالوا : ان لولا الغالبية هي لا النافية للجنس المركبة مع لو ، وغيرها هي المشبهة بليس المركبة مع لو.

ص: 508

وبالجملة : ( لولا ) على قسمين : قسم يمتنع فيها جوابها بمجرد وجود المبتدأ بعدها ، وهذا القسم لا بد ان يكون خبر المبتدأ وهو الكون المطلق ، نحو لولا على ، ويجب ان يكون محذوفا لتعيين المحذوف. وقسم يمتنع فيها جوابها لا بمجرد وجود المبتدأ ، بل لنسبة الخبر إلى المبتدأ ، وهذا القسم خبر المبتدأ امر خاص ، ويجب ان يذكر ، الا ان يدل قرينة عليه. ولا النافية للجنس هي لولا الغالبية ، فيجب ان يكون خبره الوجود المطلق المحذوف ، فيكون معنى ( لا إله إلا اللّه ) لا اله موجود.

وحاصل الكلام : حيث إنهم عدوا كلمة ( لا ) من نواسخ المبتدأ والخبر فالتجأوا إلى تقدير الخبر. ولكن الالتزام بذلك بلا موجب ، فان كلمة ( لا ) كما وضعت لمعنى حرفي رابطي ، كذلك وضعت لمعنى استقلالي ، وهو نفى الحقيقة والهوية ، أي وضعت تارة : للنفي الربطي وعدم وصف لموضوع ، وأخرى : لنفى المحمول ، أي عدم الشيء. كما أن الافعال الناقصة ، مثل ( كان ) قد تكون ناسخة وهي الرابطة الزمانية ، وقد تكون تامة وغير محتاجة إلى الخبر ، بل قيل ( ان ) النافية من الافعال الناقصة كليس أيضا لها جهتان : ربطي ، وهو ليس الناقصة ، وغير ربطي ، وهو ليس التامة. وهذا الكلام في ( ليس ) وان لم يكن بصحيح ، بل ليس وضعها الا وضع الحروف ، ربطي صرف وضعت لنفى شيء عن موضوع في الحال ، واستعمالها في نفى الوجود مسامحة ، الا ان هذا التقسيم للأفعال الناقصة التي وضعها وهيئتها كهيئة الافعال تام ، فإنها قد تكون زمانية ، وأخرى منسلخة عنها وتكون أداة ربطية. وعلى أي حال : فلا النافية للجنس ، حيث إنها وضعت لنفى هوية الشيء المعراة عن الوجود والعدم ، فلا خبر لها ، لا انه محذوف دل عليه الكلام ، فيصير معنى الكلمة الشريفة نفى هوية واجب الوجود واثباته لذاته تعالى ، ونفى واجب الوجود واثبات فرد منه هو عين التوحيد ، لان غيره لو كان واجب الوجود لوجب وجوده لوجوبه ذاتا ، فلو لم يكن غيره تعالى واجب الوجود ، فاما : ممتنع الوجود ذاتا ، واما : ممكن الوجود ذاتا ، وكلاهما ليسا بواجب الوجود ذاتا ، فانحصر الواجب فيه تعالى.

وعلى أي حال : سواء قلنا بتقدير خبر لا ، أو لم نقل به لعدم احتياجه إليه ، لا يرد الاشكال على كلمة التوحيد ، اما بناء على عدم التقدير فلما ذكرنا ، واما بناء

ص: 509

عليه فكذلك ، سواء قدر ممكن ، أو موجود ، لان المراد من الاله المنفى هو واجب الوجود. فلو قدر ممكن فنفى الامكان عن غيره تعالى واثبات الامكان له مساوق لوجوده تعالى ، لأنه لو أمكن وجوده لوجب ، لأن المفروض انه واجب الوجود ، فلو لم يمتنع لوجب. ولو قدر موجود فنفى الوجود عن غيره ملازم لامتناع غيره ، لأنه لو لم يمتنع لوجب وجوده بالملازمة التي بيناها : من أنه لو خرج الشيء عن الامتناع وأمكن لوجب وجوده ، لأن المفروض انه واجب الوجود.

ثم انه لا اشكال في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، كإفادة الاستثناء له ، اما : لأنه بمعنى ما والا ، واما : لأنها مركبة من كلمة ( ان ) التي للتحقيق واثبات الشيء وكلمة ( ما ) التي لنفى الشيء ، والنفي يرد على تالي انما ، والاثبات على الجزء الآخر. وقوله علیه السلام : انما الأعمال الخ بمنزلة لا عمل الا بنية. نعم سائر أداة الحصر مثل ( بل ) وتعريف المسند إليه ، فأفادتها له انما هي بقرائن المقام ، لا الوضع ، ولا القرينة العامة.

ص: 510

المقصد الرابع : في العام والخاص

اشارة

وفيه مباحث. وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

العموم هو الشمول وسريان المفهوم لجميع ما يصلح الانطباق عليه. وهذا الشمول والسريان قد يكون مدلولا لفظيا ، وقد يكون بمقدمات الحكمة. والمقصود بالبحث في المقام هو الأول ، لان المتكفل للبحث عن الثاني هو مبحث المطلق والمقيد. ولا فرق بين هذين القسمين من الشمول سوى انه عند التعارض يقدم الشمول اللفظي على الشمول الاطلاقي ، لان الشمول اللفظي يصلح ان يكون بيانا للمطلق الذي علق الحكم فيه على الطبيعة ، فلا تجرى فيه مقدمات الحكمة. وسيجيئ توضيحه في بعض المباحث الآتية. والغرض في المقام : هو بيان ان البحث انما هو في الشمول الذي يكون مدلولا لفظيا ، المعبر عنه بالعام الأصولي ، في مقابل الاطلاق الشمولي ، كلفظة ( كل ) وما رادفها ، من أي لغة كان ، حيث إن الشمول في مثل ذلك مدلول للفظ بحسب الوضع. وبعد ما عرفت : من أن معنى العموم هو الشمول اللفظي ، فلا حاجة إلى اتعاب النفس وتعريف العموم بما لا يسلم عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس ، فان مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى التعريف.

الامر الثاني :

قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ونزيده في المقام وضوحا ، لابتناء كثير من المباحث الآتية على ذلك.

فنقول : القضية الحقيقية ، هي ما كان الحكم فيها واردا على العنوان

ص: 511

والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج ، بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع لها. وبذلك تمتاز القضية الحقيقية عن القضية الطبيعية ، حيث إن الحكم في القضية الطبيعية وارد على نفس الطبيعة ، لا بلحاظ وجودها الخارجي ، بل بلحاظ تقررها العقلي ، كما في قولك : الانسان نوع ، أو كلي ، وغير ذلك من القضايا الطبيعية. وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فان الحكم فيها وان رتب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقررها العقلي ، بل بلحاظ تقررها الخارجي ، وهو معنى لحاظ العنوان مرآة لما في الخارج.

ومما ذكرنا ظهر : المايز بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية أيضا ، فان الحكم في القضية الحقيقية كما عرفت مترتب على الخارج بتوسط العنوان ، واما في القضية الخارجية فالحكم فيها ابتداء مترتب على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فان الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضا انما يكون مترتبا على الافراد الخارجية ابتداء ، من دون ان يكون هناك بين الافراد جامع اقتضى ترتب الحكم عليها بذلك الجامع ، كما في القضية الحقيقية. ولو فرض ان هناك جامعا بين الافراد الخارجية فإنما هو جامع اتفاقي ، كما في قولك : كل من في العسكر قتل ، وكل ما في الدار نهب ، فان قولك : كل من في العسكر قتل ، بمنزلة قولك : زيد قتل ، عمرو قتل ، وبكر قتل ، وليس بين قتل زيد وعمرو وبكر جامع عنواني اقتضى ذلك الجامع قتل هؤلاء ، بل اتفق ان كلا من زيد وعمرو وبكر كان في المعركة ، واتفق انهم قتلوا ، وأين هذا من القضية الحقيقية التي يكون فيها جامع بين الافراد؟ بحيث متى تحقق ذلك الجامع ترتب الحكم ، سواء في ذلك الافراد الموجودة والتي توجد بعد ذلك. ولأجل ذلك تقع القضية الحقيقية كبرى لقياس الاستنتاج ، وتكون النتيجة ثبوتا واثباتا موقوفة على تلك الكبرى ، بحيث يتوصل بتلك الكبرى بعد ضم الصغرى إليها إلى امر مجهول يسمى بالنتيجة ، كما يقال : هذا خمر وكل خمر يحرم ، فان حرمة هذا الخمر انما يكون ثبوتا موقوفا على حرمة كل خمر ، كما أن العلم بحرمة هذا الخمر يكون موقوفا على العلم بحرمة كل خمر ، فالعلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، اما العلم بكلية الكبرى فلا يتوقف

ص: 512

على العلم بالنتيجة ، بل العلم بكلية الكبرى يكون موقوفا على مباد اخر : من عقل ، أو كتاب ، أو سنة.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فإنها لا تقع كبرى القياس بحيث تكون النتيجة موقوفة عليها ثبوتا ، وان كان قد يتوقف عليها اثباتا ، كما يقال للجاهل بقتل زيد : زيد في العسكر ، وكل من في العسكر قتل ، فزيد قتل ، فان العلم بقتل زيد وان كان يتوقف على العلم بقتل كل من في العسكر الا انه لا يتوقف على ذلك ثبوتا ، إذ ليس مقتولية كل من في العسكر علة لمقتولية زيد ، بل علة مقتولية زيد هو امر آخر بملاك يخصه ، فالقضية الكلية الخارجية ليست كبرى لقياس الاستنتاج بحيث تكون كليتها علة لتحقق النتيجة.

ومما ذكرنا ظهر : اندفاع الدور الوارد على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج ، فان منشأ توهم الدور ليس الا تخيل توقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة ، مع أن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والحال انه قد عرفت ان العلم بكلية الكبرى في القضايا الحقيقية لا يتوقف على العلم بالنتيجة ، بل يتوقف على مباد أخر : من عقل أو كتاب ، أو سنة ، أو اجماع.

والقضايا المعتبرة في العلوم انما هي القضايا الحقيقية ، ولا عبرة بالقضايا الخارجية ، لان القضية الخارجية وان كانت بصورة الكلية ، الا انها عبارة عن قضايا جزئية لا يجمعها عنوان كلي ، كما عرفت. فالقياس الذي يتألف من كبرى كلية على نهج القضية الحقيقية لايكون مستلزما للدور ، لما تقدم من أن النتيجة ثبوتا واثباتا تتوقف على كلية الكبرى ، ولا عكس. والقياس الذي يتألف من قضية خارجية أيضا لا يستلزم الدور ، فان النتيجة ثبوتا لا يتوقف على الكبرى ، بل ثبوت النتيجة له مبادئ أخر لا ربط لها بالكبرى ، على عكس نتيجة القضية الحقيقية.

وكان من توهم الدور في الشكل الأول قد خلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والحال انه قد عرفت انه لا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى. وقد وقع الخلط في عدة موارد بين القضيتين ، قد أشرنا إلى جملة منها في الشرط المتأخر ، وسيأتي جملة منها في محله أيضا.

ص: 513

ثم إن العموم والكلية كما تكون على نهج القضية الحقيقية وعلى نهج القضية الخارجية ، كذلك التخصيص تارة : يكون تخصيصا أنواعيا ، وأخرى : يكون تخصيصا افراديا ، سواء كان التخصيص بالمتصل أو بالمنفصل. والتخصيص الانواعي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الحقيقية ، كما أن التخصيص الافرادي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الخارجية ، بل القضية الخارجية لا تصلح الا للتخصيص الافرادي ، لما عرفت : من أن القضية الخارجية ما ورد الحكم فيها على الافراد ، فالتخصيص فيها انما يكون تخصيصا أفراديا ، ولو فرض ان المخصص سيق بصورة الأنواعي ، كما لو قال : كل من في العسكر قتل الا من كان في الجانب الشرقي ، فالمراد به أيضا الافرادي ، فهو بمنزلة قوله : الا زيد وعمرو وبكر ، كما أن أصل القضية كانت بهذا الوجه.

نعم : القضية الحقيقية تصلح لان يرد عليها المخصص الافرادي ، كما تصلح لان يرد عليها المخصص الأنواعي. ولا اشكال في أن التخصيص الأنواعي انما يهدم اطلاق مصب العموم ومدخوله ، واما التخصيص الافرادي فهو كذلك ، أي يرد على مصب العموم ، أو انه يرد على نفس العموم ويوجب هدمه ، ويكون التصرف في ( كل ) لا في ( العالم ) في قولك : أكرم كل عالم. والنتيجة وان كانت واحدة الا ان الصناعة اللفظية تختلف. وعلى كل حال : لما كانت الأحكام الشرعية كلها على نهج القضايا الحقيقية ، كان التخصيص الوارد في الأحكام الشرعية كلها من التخصيصات الأنواعية ، الا ما كان من قبيل خصائص النبي صلی اللّه علیه و آله .

الامر الثالث :

قسموا العموم إلى : عموم استغراقي ، وعموم مجموعي ، وعموم بدلي الذي هو بمعنى أي. وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أن العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافى الشمول لا تخلو عن مسامحة. وعلى كل تقدير : العموم بمعنى الشمول ليس الا الاستغراقي والمجموعي ، وتقسيم العموم إلى هذين القسمين ليس باعتبار معناه الافرادي بحيث يكون التقسيم إلى ذلك باعتبار وضع العموم بمعناه الافرادي ، بل التقسيم إلى ذلك انما يكون باعتبار الحكم ، حيث إن الغرض من الحكم تارة : تكون

ص: 514

على وجه يكون لاجتماع الافراد دخل ، بحيث تكون مجموع الافراد بمنزلة موضوع واحد ، وله إطاعة واحدة باكرام جميع افراد العلماء ، في مثل قوله : أكرم كل عالم ، وعصيانه يكون بعدم اكرام فرد واحد. وأخرى : يكون الغرض على وجه يكون كل فرد فرد من العالم موضوعا مستقلا ، وتتعدد الإطاعة والعصيان حسب تعدد الافراد ، وذلك أيضا واضح ، لان العموم بمعناه الافرادي بحسب الوضع ليس الا الشمول ، فالتقسيم إلى المجموعية والاستغراقية انما هو باعتبار ورود الحكم على العموم.

ثم انه ان كان هناك قرينة على أن المراد هو الاستغراقي أو المجموعي فهو ، والا فالأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية ، لان المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعا واحدا. وهذا من غير فرق بين اقسام العموم ، سواء كان العموم مدلولا اسميا للأداة ، ككل وما شابها ، أو عرفيا ، كالجمع المحلى باللام ، بناء على أن العموم وتعيين أقصى مراتب العلماء في قوله : أكرم العلماء ، انما هو لإفادة الألف واللام ذلك ، حيث لايكون هناك عهد - ويلحق بذلك الأسماء التي تتضمن المعنى الحرفي ، كأسماء الاستفهام والشرط - أو سياقيا كالنكرة الواقعة في سياق النفي بلاء النافية للجنس ، فان العموم في جميع هذه الأقسام انما يكون على نحو العموم الاستغراقي الانحلالي ، ولا يحمل على المجموعي الا إذا قامت قرينة على ذلك ، والسر في ذلك واضح.

اما في مثل - أكرم كل عالم - مما كان العموم فيه معنى اسميا ، فان مفاد ( كل ) انما هو استيعاب ما ينطبق عليه مدخولها ، والمدخول ينطبق على كل فرد فرد من افراد العالم ، فهي تدل على استيعاب كل فرد فرد من افراد العالم ، وهو معنى الاستيعاب الانحلالي.

واما العموم السياقي فكذلك ، فان العموم انما يستفاد من ورود النفي أو النهى على الطبيعة وهو يقتضى انتفاء كل ما يصدق عليه الطبيعة وتنطبق عليه ، وكل فرد فرد من افراد الجنس مما تنطبق عليه الطبيعة ، فيقتضى انتفاء كل فرد فرد ، وهو معنى الاستغراق.

واما العموم المستفاد من الجمع المحلى باللام وما يلحق به من الأسماء

ص: 515

المتضمنة للمعاني الحرفية ، فقد يتوهم ان ظاهره يقتضى المجموعي ، لان مدخول اللام هو الجميع ، فان مثل زيدون ، أو علماء ، لا ينطبق على كل فرد فرد ، بل ينطبق على كل جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق ، وغاية ما يستفاد من اللام ، هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب مع حفظ معنى الجمعية ، فاللام توجد معنى في المدخول كان فاقدا له ، وهو أقصى المراتب ، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفية التي توجد معنى في الغير ، وذلك يقتضى العموم المجموعي ، لا الاستغراقي.

وقد أفاد شيخنا الأستاذ مد ظله في دفع التوهم بما حاصله : ان أداة العموم من الألف واللام ان كان نفس الجمع ، بحيث كان ورود أداة العموم متأخرا عن ورود أداة الجمع : من الألف والتاء ، والواو والنون ، على المفرد لكان للتوهم المذكور مجال ، ولكن كيف يمكن اثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد انما يكون في مرتبة واحدة ، فالألف واللام تدل على استغراق افراد مدخولها ، وهو المفرد ، غايته انه لا مطلق المفرد حتى يقال : ان المفرد المحلى باللام لا يدل على العموم ، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم. والحاصل : ان مبنى الاشكال انما هو ورود أداة العموم على الجمع ، واما لو كانت أداة العموم واردة على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع ، فأداة العموم تدل على استغراق افراد ذلك المفرد ، ويكون حال الجمع المحلى باللام حال ( كل ) في الدلالة على استغراق الافراد على نحو الانحلال ، فتأمل. فان المقام يحتاج إلى بيان آخر.

الامر الرابع :

ذهب بعض إلى أن تخصيص العام يوجب المجازية مطلقا ، وبعض قال بذلك في خصوص المنفصل. وعليه رتبوا عدم حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، لاجماله بعد تعدد مراتب المجاز.

والحق : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، كما أن تقييد المطلق لا يقتضى ذلك ، وان قال به من تقدم على سلطان المحققين (رحمه اللّه) وقد استقرت طريقة المحققين من المتأخرين على عدم اقتضاء التخصيص والتقييد للمجازية. اما تقييد المطلق : فسيأتي الكلام فيه في محله انشاء اللّه.

ص: 516

واما تخصيص العام : فقد أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية ان العام لم يستعمل الا في العموم ، غايته ان العموم ليس بمراد بالإرادة الجدية النفس الامرية ، فالتخصيص انما يقتضى التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، والحقيقة المجاز انما تدور مدار الاستعمال ، لا مدار الإرادة الواقعية ، ففي مثل أكرم كل عالم لم تستعمل أداة العموم الا في الاستغراق واستيعاب جميع افراد العالم ، غايته انه لم تتعلق الإرادة الجدية باكرام جميع الافراد ، بل تعلقت الإرادة باكرام ما عدى الفاسق ، والمصلحة اقتضت عدم بيان المراد النفس الأمري متصلا بالكلام فيما إذا كان المخصص منفصلا ، ويكون العام قد سيق لضرب القاعدة ، ليكون عليه المعول قبل بيان المخصص والعثور عليه.

وبذلك وجه الشيخ ( قده ) (1) في مبحث التعادل والتراجيح ، العمومات الواردة في لسان الأئمة السابقين علیهم السلام ، والمخصصات الواردة في لسان الأئمة اللاحقين علیهم السلام ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله لم يرتض هذا الوجه. وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان حقيقة الاستعمال ليس الا القاء المعنى بلفظه ، بحيث لايكون الشخص حال الاستعمال ملتفتا إلى الألفاظ ، بل هي مغفول عنها ، وانما تكون الألفاظ قنطرة ومرآة إلى المعاني ، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، فالمستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، والا كان هازلا. ودعوى : ان العام قد سيق لبيان ضرب القاعدة مما لا محصل لها ، فان أداة

ص: 517


1- فرائد الأصول ، مبحث التعادل والتراجيح المقام الرابع المسألة الأولى ، ص 433. قال قدس سره : « فالأوجه هو الاحتمال الثالث ( كون المخاطبين بالعام تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا ) فكما ان رفع مقتضى البراءة العقلية ببيان التكليف كان على التدريج كما يظهر من الاخبار والآثار مع اشتراك الكل في الاحكام الواقعية ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز ان يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات وان كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك. »

العموم والمدخول انما سيقت لبيان الحكم النفس المري ، وليست القاعدة جزء مدلول الأداة ولا جزء مدلول المدخول.

نعم : قد يعبر عن العام بالقاعدة ، الا ان المراد من القاعدة هي القاعدة العقلائية : من حجية الظهور ، وأصالة العموم. وقد تكون القاعدة مجعولة شرعية ، كاصالة الطهارة والحل ، وأمثال ذلك من الاحكام الظاهرية. وأين هذا من العام المسوق لبيان الحكم الواقعي؟ والحاصل : ان تفكيك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا محصل له ، بل العام قبل ورود التخصيص عليه وبعده يكون على حد سواء في تعلق الإرادة به وان هناك إرادة واحدة متعلقة بمفاده ، فهذا الوجه ليس بشئ.

بل التحقيق ، هو ان يقال : ان كل من أداة العموم ومدخولها لم يستعمل الا في معناه ، والتخصيص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل ، وسواء كان التخصيص أنواعيا أو أفراديا ، وسواء كانت القضية حقيقية أو خارجية ، لا يوجب المجازية ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

اما في الأداة : فلان الأداة لم توضع الا للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول ، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول ، أو ضيقه. فلا فرق بين ان يقال : أكرم كل عالم ، وبين ان يقال : أكرم كل انسان ، فان لفظة ( كل ) في كلا المقامين انما تكون بمعنى واحد ، مع أن الثاني أوسع من الأول وذلك واضح.

واما في المدخول : فلان المدخول لم يوضع الا للطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية ، فالعالم مثلا لايكون معناه الا من انكشف لديه الشيء ، من دون دخل العدالة ، والفسق ، والنحو ، والمنطق فيه أصلا. فلو قيد العالم بالعادل أو النحوي أو غير ذلك من الخصوصيات والأنواع ، لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ العالم ، لأنه لم يرد من العالم الا معناه ولم يستعمل في غير من انكشف لديه الشيء ، والخصوصية انما استفيدت من دال آخر. وعلى هذا لا يفرق الحال بين ان يكون القيد متصلا بالكلام ، أو منفصلا ، أو لم يذكر تقييد أصلا لا متصلا ولا منفصلا ، ولكن كان المراد من العالم هو العالم العادل مثلا ، فإنه في جميع ذلك لم يستعمل العالم الا في

ص: 518

معناه ، فمن أين تأتى المجازية؟ وأي لفظ لم يستعمل في معناه؟ حتى يتوهم المجازية فيه. وهذا في التخصيص الأنواعي واضح لا سترة فيه.

نعم : في التخصيص الافرادي ربما يتوهم استلزامه المجازية ، سواء كان ذلك في القضية الحقيقية أو في القضية الخارجية ، من جهة ان التخصيص الافرادي لا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة كما في التخصيص الأنواعي ، من جهة ان المدخول كما تقدم لم يوضع الا للطبيعة ، فالتخصيص الافرادي انما يصادم نفس الأداة ، حيث إن الأداة موضوعة لاستيعاب افراد المدخول ، والتخصيص الافرادي يوجب عدم استيعاب الافراد ، فيلزم استعمال لفظ الأداة في خلاف ما وضع له. والذي يدل على وضع الأداة لاستيعاب افراد المدخول هو تقديم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، بعد اشتراكهما في الحاجة إلى مقدمات الحكمة لسريان الحكم إلى جميع الأنواع ، ولكن بالنسبة إلى افراد النوع الواحد يكون السريان مدلولا لفظيا في العام الأصولي ، وبحسب مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي ، فيكون زيد العالم الفاسق الذي تعارض فيه قوله : أكرم عالما ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، مندرجا تحت العام الأصولي بالدلالة اللفظية ، وتحت الاطلاق الشمولي بمقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح للبيان ، والدلالة اللفظية في العام الأصولي تصلح ان تكون بيانا ، فيحكم في المثال المتقدم بعدم وجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، فتأمل.

وهذا لايكون الا من جهة ان لفظ ( كل ) يدل على استيعاب الافراد. فيكون التخصيص الافرادي مصادر ما لمفاد الأداة واستعمالا لها في خلاف ما وضعت له. هذا. ولكن الأقوى : ان التخصيص الافرادي أيضا لا يوجب المجازية. اما في القضية الحقيقية : فلان الافراد ليست مشمولة للفظ ابتداء ، بحيث يكون مثل أكرم كل عالم بمدلوله اللفظي يدل على اكرام زيد ، وعمرو ، وبكر ، وغير ذلك ، والا لما احتجنا في القضية الحقيقية إلى تأليف القياس ، واستنتاج حكم الافراد من ضم الكبرى إلى الصغرى.

والحاصل : ان كل فرد في القضية الحقيقية انما يعلم حكمه وبواسطة تأليف القياس وتطبيق الكبرى الكلية عليه ، فهذا يدل على أن اللفظ بنفسه ابتداء لا يدل على

ص: 519

حكم الافراد ، بل التخصيص الافرادي أيضا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة. والسر في تقدم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، ليس من جهة ان العام الأصولي بنفسه متكفل لحكم الافراد ابتداء ، بل التقدم من جهة ان القضية الشرطية التي تتكفلها القضية الحقيقة في الاطلاق الشمولي انما تكون بمقدمات الحكمة ، وفي العام الأصولي انما تكون مفاد نفس اللفظ. مثلا في مثل أكرم العالم اللفظ لا يدل على أزيد من وجوب اكرام الطبيعة ، واما الشمول والاستيعاب ، بحيث كلما وجد في العالم عالم يجب اكرامه فإنما يستفاد من مقدمات الحكمة ، واما مفاد مثل أكرم كل عالم فهو بنفسه يدل على أنه كلما وجد في العالم عالم فأكرمه بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. فالفرق بين العام الأصولي والاطلاق الشمولي هو هذا ( فتأمل ) لا ان العام الأصولي ابتداء يدل على شمول الافراد ، حتى يكون التخصيص الافرادي موجبا لاستعمال أداة العموم في غير ما وضعت له ، بل التخصيص الافرادي كالأنواعي يرد على المصب ويضيق دائرته. هذا في القضية الحقيقية.

واما التخصيص الافرادي في القضية الخارجية : فالتوهم المذكور وان كان فيها أمس من جهة ان القضية الخارجية ابتداء متكفلة لحكم الافراد ، بلا حاجة إلى تأليف القياس ثبوتا وان احتاج إليه في بعض الأحيان اثباتا ، كما تقدم ، الا انه مع ذك التخصيص الافرادي في القضية الخارجية لا يوجب المجازية أيضا ، للعلم بان استعمال أداة العموم ومدخولها في القضية الحقيقية الخارجية انما يكون بنهج واحد ، وليس للأداة في القضية الخارجية وضع واستعمال مغاير لوضع الأداة واستعمالها في القضية الحقيقية. وانقسام القضية إليهما ليس باعتبار اختلاف الوضع والاستعمال ، بل الاختلاف انما يكون باعتبار اللحاظ ، حيث لحاظ الافراد الموجودة الفعلية في القضية الخارجية ، وعدم لحاظ الموجودة بالفعل في القضية الحقيقية. واختلاف اللحاظ انما يكون باختلاف الملاك في القضيتين ، حيث إن الملاك الذي أوجب ترتب المحمول على الموضوع في القضية الحقيقية انما يكون مطردا في جميع افراد الموضوع ، ليس هناك الا ملاك واحد قائم بالجميع ، سواء كانت موجودة بالفعل أو الذي توجد بعد ذلك. بخلاف الملاك في القضية الخارجية ، فان

ص: 520

هناك ملاكات متعددة حسب تعدد الافراد ، فإذا لم يختلف كيفية الوضع والاستعمال في القضيتين ، فكيف يوجب التخصيص المجازية في الخارجية ولا يوجبه في الحقيقية؟ فالتخصيص الافرادي في القضية الخارجية أيضا يرد على المصب والمدخول ويوجب تضييق دائرته.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، وانما هو يوجب تضييق دائرة المصب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل.

ومما ذكرنا ، ظهر المناقشة فيما افاده الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) في وجه حجية العام فيما بقى بعد التخصيص ، بعد تسليم المجازية : من أن دلالة العام على كل فرد غير منوطة بالدلالة على الافراد الاخر إلى آخر ما ذكره ( قده ) فإنه يرد على ظاهر ما افاده : ان العام لا دلالة له على الافراد في القضية الحقيقية ، وانما يكون الدلالة على الافراد في القضية الخارجية ، الا ان يكون مراده من الافراد الأنواع ، أو يكون كلامه في الخارجية. مع أنه لم يظهر وجه تسليمه المجازية ، فإنه لا يمكن توجيه المجازية بوجه من الوجوه. هذا كله ، مضافا إلى ما أورد عليه : من أنه بعد تسليم المجازية لا مجال لدعوى بقاء دلالة العام على الافراد الباقية من جهة ان دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الافراد الاخر. وذلك لان دلالة العام على الافراد الباقية انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت ضمنية ، لان العام حسب الفرض كان

ص: 521


1- مطارح الأنظار ، مبحث العام والخاص ، هداية 1 ص 190. قوله : « والأولى ان يجاب بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي انما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لان المانع في مثل المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حد ساير المجازات حتى يحتاج إلى معين آخر بعد الصرف مع تعددها ، فان الباقي متعين على حسب تعين الجميع عند عدم المخصص مطلقا. »

موضوعا لجميع الافراد على نحو الاجتماع ، كما هو لازم تسليم المجازية ، والتخصيص يوجب عدم بقاء دلالته على الجميع ، والدلالة على الباقي لم تكن مستقلة حتى تبقى بعد التخصيص ، هذا.

ولكن يمكن توجيه مقالة الشيخ ( قده ) بما لا يرد عليه ذلك ، بتقريب : ان توهم المجازية في العام المخصص لايكون الا بدعوى : ان المركب من الأداة والمدخول موضوع لجميع الافراد ، بحيث يكون للمركبات وضع وراء وضع المفردات. فإنه لا تستقيم دعوى المجازية الا بذلك. وحينئذ نقول : لو سلمنا هذه الدعوى الفاسدة ، فغاية ما يلزم من التخصيص هو خروج بعض افراد الموضوع له عن العموم ، ولكن خروج بعض الافراد لا يقتضى عدم دلالة العام على الافراد الباقية ، إذ دلالة العام على الافراد ليست على وجه الارتباطية ، بحيث يكون خروج البعض موجبا لانعدام الدلالة بالنسبة إلى الباقي ، بل العام يدل على كل فرد بدلالة مستقلة ، لما تقدم : من أن الأصل في العموم هو الانحلال ، فالعام لامحة يدل على الباقي ، سواء خرج بعض الافراد عنه أو لم يخرج ، والمجازية انما جاءت من قبل خروج بعض الافراد ، لا من قبل دخول الباقي.

ونظير العام في الدلالة على الباقي ، الإشارة بلفظ ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، مع عدم إرادة جميع آحاد تلك الجماعة بل بعضها ، فان عدم إرادة البعض لا يوجب عدم وقوع الإشارة على الافراد ، بل الإشارة وقعت على تلك الافراد لامحة. وليست دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة من قبيل دلالة الأسد على الرجل الشجاع ، بحيث تكن دلالة مجازية صرفة أجنبية عن المعنى الموضوع له ، بل دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة دلالة حقيقية ، فكذلك دلالة العام على الافراد الباقية تكون دلالة حقيقية ، وان خرج بعض الافراد عنه.

هذا ما تحصل لي من توجيه شيخنا الأستاذ مد ظله لمقالة الشيخ ( قده ) ولكن بعد في النفس من ذلك شيء ، فان تسليم المجازية لا يمكن الا بدعوى وضع العام لجميع الافراد ، فإرادة البعض منه ينافي الموضوع له لامحة. وحينئذ يصح ان يقال : ان العام لا دلالة له على الباقي بعد التخصيص ، لان دلالته كانت على الجميع من حيث

ص: 522

المجموع ، فتأمل.

وعلى كل حال : نحن في غنى عن هذه المقالات ، لما عرفت : من أن التخصيص لا يقتضى المجازية أصلا ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنشرع في مباحث العام والخاص.

المبحث الأول :

بعد ما عرفت من أن التخصيص لا يوجب المجازية ، فلا ينبغي الاشكال في حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، إذ مبنى الاشكال في ذلك هو المجازية. وقد تقدم فساد المبنى ، وذلك واضح.

المبحث الثاني :

إذا كان المخصص مجملا مفهوما ، فتارة : يكون الاجمال من جهة دورانه بين المتباينين ، وأخرى : يكون بين الأقل والأكثر ، وعلى كلا التقديرين ، فتارة : يكون المخصص متصلا ، وأخرى : يكون منفصلا.

وحكم هذه الأقسام : هو انه لو كان المخصص متصلا ، فالعام يسقط عن الحجية بالنسبة إلى محتملات المخصص مطلقا ، سواء دار امره بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، لسراية اجمال المخصص إلى العام ، وعدم انعقاد ظهور له ، لاحتفافه بالمخصص المجمل ، فلا يكون للعام دلالة تصديقية على معنى بحيث يصح ان يخبر بمفاده ، ويترجم بلفظ آخر أو لغة أخرى. وما لم يحصل للكلام هذه الدلالة لايكون له ظهور في معنى ، ومع عدم الظهور لايكون حجة. فسقوط العام عن الحجية في المخصص المتصل ليس من جهة العلم بالتخصيص حتى يقال : ان العلم بالتخصيص انما يوجب سقوط العام عن الحجية في المتباينين ، لا في الأقل والأكثر لعدم العلم بتخصيص الأكثر - كما سيأتي بيانه في المخصص المنفصل - بل من جهة اجمال العام وعدم انعقاد ظهور له ، وذلك واضح.

واما لو كان المخصص منفصلا : ففي صورة دورانه بين المتباينين يسقط العام عن الحجية أيضا في جميع الأطراف المحتملة ، فإنه وان انعقد للعام ظهور ، الا انه بعد العلم بالتخصيص يخرج العام عن كونه كبرى كلية ، ولا تجرى فيه أصالة

ص: 523

العموم ، لان أصالة العموم انما تجرى في صورة الشك ، ولا مجال لها مع العلم بالتخصيص. وبعبارة أخرى : يعلم أن الظهور المنعقد للعام ليس بمراد بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة. وحيث إن ذلك البعض تردد امره بين فردين ، أو افراد ، ولا معين في البين ، فلامحة يسقط العام عن الحجية في جميع الافراد المحتملة ، وذلك أيضا واضح.

واما لو دار امر المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر : فبالنسبة إلى الأكثر العام بعد باق على حجيته ، وأصالة العموم جارية فيه ، وانما سقطت حجية العام في خصوص الأقل المتيقن التخصيص ، لأنه بالنسبة إلى الأكثر يكون شكا في التخصيص ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم وعدم التخصيص بعد ما انعقد ظهور للعام. فلو قال : أكرم العلماء ، ثم ورد : لا تكرم فساق العلماء ، وتردد الفاسق بين ان يكون خصوص مرتكب الكبيرة ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة العام سقط عن الحجية ، للعلم بخروجه على كل حال. واما بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة فيشك في خروجه ، ومقتضى أصالة العموم عدم خروجه.

وتوهم : ان الخارج هو عنوان الفاسق لا خصوص مرتكب الكبيرة - والعام ليس كبرى كلية بالنسبة إلى عنوان الفاسق للعلم بخروج هذا العنوان عن العام ، فلا مجال للتمسك بأصالة العموم بالنسبة إلى من شك في دخوله تحت عنوان الفاسق - فاسد ، لان الخارج ليس مفهوم الفاسق بل واقع الفاسق ، وحيث لم يعلم أن مرتكب الصغيرة مندرج في الفاسق الواقعي يشك لامحة في تخصيص العام واقعا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم.

تنبيه : لو ورد عام وورد خاص ، ودار امر الخاص بين ان يكون مخصصا ، أو غير مخصص ، كما لو قال عقيب قوله أكرم العلماء : لا تكرم زيدا ، وكان هناك زيد عالم وزيد جاهل ، ولم يعلم أن مراده من قوله : لا تكرم زيدا أي منهما ، فالمرجع في مثل هذا أيضا أصالة العموم ، للشك في التخصيص ، وذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان المخصص مجملا مفهوما.

ص: 524

وأما إذا كان مجملا مصداقا ، كما لو تردد زيد بين ان يكون فاسقا أو غير فاسق ، لأجل الشبهة المصداقية ، ففي الرجوع إلى العام وعدم الرجوع ، خلاف. والأقوى : عدم الرجوع إليه.

اما في القضايا الحقيقية : فالامر فيها واضح ، من جهة ان عنوان العام قبل العثور على المخصص كان تمام الموضوع للحكم الواقعي بمقتضى أصالة العموم المحرزة لعدم دخل شيء في موضوع الحكم غير عنوان العام وانه يتساوى في ترتب الحكم كل انقسام ونقيضه من الانقسامات المتصورة في عنوان العام ، ويكون مفاد قوله : أكرم العلماء - بمقتضى أصالة العموم - هو وجوب اكرام كل عالم ، سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، وسواء كان نحويا أو غير نحوي. وهكذا الحال في جميع الانقسامات اللاحقة لعنوان العالم ، ولكن بعد العثور على المخصص يخرج عنوان العام عن كونه تمام الموضوع ويصير جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو عنوان الخاص ، وتسقط أصالة العموم بالنسبة إلى ما تكفله الخاص ، وينهدم التسوية في بعض الانقسامات التي كانت في العام ، ولا يكون مفاد العام وجوب اكرام العالم سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، بل يكون مفاد العام بضميمة المخصص هو وجوب اكرام العالم الغير الفاسق ، فيكون أحد جزئي الموضوع عنوان ( العالم ) وجزئه الآخر ( غير الفاسق ) فكما انه لو شك في عنوان العام من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام بالنسبة إلى المشتبه ، كذلك لو شك في عنوان الخاص من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام لاحراز حال المشتبه ، لأنه لا فرق حينئذ بين مشكوك العلم وبين مشكوك الفسق ، بعد ما كان لكل منهما دخل في موضوع الحكم. وكل دليل لا يمكن ان يتكفل وجود موضوعه ، بل الدليل انما يكون متكفلا لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه ، ولأجل ذلك كانت القضية الحملية متضمنة لقضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وحاصل الكلام : ان القضايا الحقيقية غير متعرضة للافراد ، وانما يكون الحكم فيها مترتبا على العنوان بما انه مرآة لما ينطبق عليه من الخارجيات ، وليس لها تعرض لحال المصاديق ، ومع هذا كيف يمكن ان نحرز بالعام حال المشتبه بالشبهة

ص: 525

المصداقية؟ وكيف تجرى فيه أصالة العموم؟ مع ما عرفت من أن أصالة العموم انما تكون لاحراز المراد واقعا ولا تحرز المصاديق أصلا ، وهذا في القضايا الحقيقية واضح.

واما القضايا الخارجية : فقد يتوهم صحة التمسك فيها بالعام في الشبهات المصداقية ، من جهة ان القضية الخارجية وان سيقت بصورة الكبرى الكلية ، الا انه قد تقدم ان الحكم فيها ابتداء يرد على الافراد بلا توسط عنوان ، والعنوان المأخوذ في ظاهر القضية ليس له دخل في مناط الحكم ، فالعام في القضية الخارجية بنفسه ابتداء متكفل لحكم الافراد ، وقد تعرض العام لحكم الفرد المشتبه قبل ورود التخصيص ، وبعد ورود الخاص يشك في خروج الفرد المشتبه عن حكم العام ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم. فلو قال : أكرم كل من في الدار ، ثم قال : لا تكرم من كان في الطرف الشرقي منها ، أو قال : لا تكرم أعدائي الذين هم في الدار ، وتردد حال زيد بين ان يكون من الطرف الشرقي أو غيره ، أو تردد بين ان يكون من الأعداء أولا ، فحيث ان قوله أولا ( أكرم كل من في الدار ) قد شمل زيدا وتعرض لوجوب اكرامه ، ولم يعلم خروجه بعد ذلك عن حكم العام ، كان اللازم وجوب اكرامه لأصالة العموم وعدم التخصيص ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لا فرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، في عدم التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، للعلم بان كيفية استعمال العام والخاص يكون فيهما على نهج واحد ولا يكون الاستعمال في القضية الخارجية على نحو يغاير نحو الاستعمال في القضية الحقيقية وان المناط في عدم صحة الرجوع إلى العام فيهما واحد لا يختلف. غايته ان أصالة العموم في القضية الحقيقية قبل العثور على المخصص انما كانت محرزة لكون عنوان العام تمام الموضوع للحكم الواقعي ، وفي القضية الخارجية كانت محرزة لكون المتكلم لم يحرز ان في الدار عدوا له بعد العلم بأنه لا يريد اكرام عدوه ، وبعد ورود الخاص يعلم أن المتكلم أحرز ان له عدوا في الدار. كما أن بعد ورود الخاص في القضية الحقيقية يعلم أن عنوان العام لم يكن تمام الموضوع للحكم الواقعي ، وبعد ما علم المخاطب ان المتكلم لا يريد اكرام العدو وانه

ص: 526

محرز لوجود عدو له في الدار ، يعلم : انه لا يريد اكرام كل من في الدار بل خصوص من لم يكن له عدوا وانه ليس مجرد الوجود في الدار موجبا لاكرامه بل يعتبر عدم عداوته. فالمشكوك عداوته لا يعلم اندراجه تحت قوله : أكرم كل من في الدار بضميمة قوله : لا تكرم عدوى.

والحاصل : ان العنوان في القضايا الخارجية وان لم يكن له دخل في مناط الحكم ، الا انه على أي حال لوحظ مرآة لما تحته من الافراد ، والافراد التي تكون تحته هي ما عدى عنوان الخاص ، وحينئذ فالمشكوك لا يحرز كونه من افراد العام الذي لايكون معنونا بعنوان الخاص ، فيكون حال القضية الخارجية كحال القضية الحقيقية.

ولا ينتقض ما ذكرناه في القضية الخارجية ، بمثل قوله : أكرم ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، وبعد ذلك قال : لا تكرم هؤلاء مشير إلى جماعة من تلك الجماعة التي أشار إليها أولا ، ثم شك في شمول ( هؤلاء ) الثاني لبعض ما شمله ( هؤلاء ) الأول ، فإنه لا اشكال في مثل هذا في الاخذ بما شمله ( هؤلاء ) الأول فيما عدى المتيقن خروجه وادراج المشكوك في الإشارة الأولى في وجوب اكرامه. وذلك : لان ما ذكر من المثال يكون من قبيل اجمال المخصص مفهوما ، لا مصداقا ، لرجوع الشك فيه إلى أصل وقوع الإشارة الثانية إلى المشكوك من حيث تردد مقدار الإشارة. والمثال المنطبق على الشبهة المصداقية ، هو ما إذا علم أن الإشارة الثانية وقعت على عشرة افراد من تلك الجماعة المشار إليها أولا ، ثم تردد حال زيد بين ان يكون من جملة العشرة ، أولا ، وفي مثل هذا قطعا لا يجب اكرام زيد ، ولا يجوز الرجوع في حكمه إلى الإشارة الأولى ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا ظهر : ان ما يستدل به القائل بصحة التعويل على العام في الشبهات المصداقية - من أن المتكلم في القائه العام كأنه قد جمع النتايج وذكر حكم الافراد بعبارة العام ، فكل فرد من افراد العام قد ذكر حكمه بذكر العام ، ومن جملة الافراد الفرد المشكوك ، وحيث لم يعلم دخول الفرد المشكوك في الخاص وجب ترتب ما ذكره أولا من حكم الفرد المشكوك - فإنما هو يناسب القضية الخارجية ، لا

ص: 527

القضية الحقيقية ، فان القضية الحقيقية ليس لها تعرض لحكم الافراد ، وانما سيقت لبيان الكبرى الكلية ، وانما يعلم حكم النتايج والافراد بعد ضم الصغرى إليها. والقضية الخارجية قد عرفت الحال فيها ، وان الاستدلال لا يتم فيها أيضا.

كما أنه ظهر مما ذكرنا أيضا : ضعف ما استدل به القائل بذلك : من أن عنوان العام مقتض لثبوت الحكم على افراده ، وعنوان الخاص مانع ، ويجب الاخذ بالمقتضى إلى أن يحرز المانع. لمنع كل من الصغرى والكبرى. اما الصغرى : فلانه لا طريق إلى احراز كون عنوان العام مقتضيا والخاص مانعا ، لامكان ان يكون عنوان الخاص جزء المقتضى. واما الكبرى : فلان قاعدة المقتضى والمانع لا أساس لها كما حقق في محله.

وكذلك ظهر ضعف الاستدلال على ذلك : بان العام حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك لكونه من افراد العام ، والخاص ليس بحجة فيه للشك في كونه فردا له ، فيجب الاخذ بالحجة ، لان اللاحجة لا تزاحم الحجة. وذلك : لان عنوان العام بعد ما صار جزء الموضوع لمكان الخاص لايكون حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، ويكون الفرد المشكوك بالنسبة إلى كل من العام والخاص على حد سواء في عدم الحجية ، ولا تجرى فيه أصالة العموم ، على ما تقدم.

وقياس الأصول اللفظية بالأصول العملية - حيث إنه عند الشك في كون الشيء حلالا أو حراما يتمسك بمثل أصالة الحل ، فكذلك عند الشك في اندراج الفرد المشكوك فيما هو المراد من العام يتمسك بمثل أصالة العموم - قياس مع الفارق ، لان الأصول العملية مجعولة في مرتبة عدم الوصول إلى الواقع واليأس عنه ، بخلاف الأصول اللفظية ، فإنها واقعة في طريق احراز الواقع والوصول إليه واستخراج المراد النفس الأمري منها ، والمفروض انه قد أحرز المراد الواقعي من العام وهو العالم الغير الفاسق مثلا ، واما كون زيد عالما غير فاسق فهو أجنبي عن المراد الواقعي ، حتى تجرى فيه أصالة العموم.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في عدم جواز التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، سواء في ذلك المخصص المتصل والمنفصل والقضية الحقيقية والخارجية.

ص: 528

ثم انه ربما يتوهم : ان الوجه في حكم المشهور بالضمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية ، هو التعويل على العام في الشبهة المصداقية. بل قد يتخيل ان ذلك يكون من الرجوع إلى العام مع الشك في مصداق العام الذي لم يقل به أحد ، بناء على أن يكون المستفاد من قوله ( على اليد ) خصوص اليد العادية ، ولا يعم اليد المأذون فيها من أول الامر ، فتكون اليد المأذون فيها خارجة بالتخصص ، لا بالتخصيص.

وبالجملة ، ان قلنا : انه لا يستفاد من عموم ( على اليد ) الا خصوص اليد العادية ، كانت اليد المشكوك كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى نفس عنوان العام ، كما إذا شك في عالمية زيد عند قوله : أكرم العلماء. وان قلنا : ان قوله ( على اليد ) يعم اليد العادية والمأذون فيها ويكون اليد المأذون فيها خارجة بالتخصيص ، كانت اليد المشكوك كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى عنوان المخصص ، كما إذا شك في فاسقية زيد في مثل قوله : أكرم العلماء الا فساقهم. وعلى كلا التقديرين لا يصح الحكم بالضمان عند الشك في حال اليد ، خصوصا على الأول. مع أن المشهور قالوا بالضمان ، وليس ذلك الا من جهة تعويلهم على العام في الشبهة المصداقية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ذهاب المشهور إلى ذلك ليس لأجل صحة التعويل على العام في الشبهة المصداقية ، بل لأجل ان هناك أصلا موضوعيا ينقح حال المشكوك ويدرج المشكوك تحت عنوان العام ، فيتمسك بالعام لاثبات حكمه ، وهو أصالة عدم اذن المالك ورضاه بالتصرف. فيكون المقام من صغريات الموضوعات المركبة المحرز بعض اجزائها بالأصل ، وبعضها الآخر بالوجدان. والأصل الموضوعي في مثل المقام يجرى بلا اشكال ، لكونه مسبوقا بالتحقق بمفاد ليس التامة. والأثر مترتب على مؤدى الأصل بما هو كذلك ، وليس من المقامات التي يكون الأثر فيها مترتبا على مفاد ليس الناقصة ، حتى يستشكل في جريان الأصل من جهة عدم كون مؤداه مسبوقا بالتحقيق كما في مثل أصالة عدم قرشية المرأة ، ولا بأس ببسط الكلام في هذا المقام ليتضح خلط بعض الاعلام.

ص: 529

فنقول : ان العنوان الذي تكفله دليل المقيد والمخصص اما : ان يكون من العناوين اللاحقة لذات موضوع العام ، بحيث يكون من أوصافه وانقساماته ، كالعادل والفاسق بالنسبة إلى العالم ، وكالقرشية والنبطية بالنسبة إلى المرأة. واما : ان يكون من مقارنات الموضوع ، بحيث لايكون من انقسامات ذاته ، بل من الانقسامات المقارنة ، كما إذا قيد وجوب اكرام العالم بوجود زيد ، أو مجيئ عمرو ، أو فوران ماء الفرات ، وما شابه ذلك. فان وجود زيد ، ومجيئ عمرو ، وفوران ماء الفرات ، ليس من أوصاف العالم والانقسامات اللاحقة له لذاته ، بل يكون من مقارناته الاتفاقية ، أو الدائمية ، ولا يمكن ان يكون نعتا ووصفا للعالم ، فان وجود زيد بنفسه من الجواهر لايكون نعتا للعالم ، ومجيء عمرو وفوران ماء الفرات يكون وصفا لعمرو ولماء الفرات ، لا للعالم ، وذلك واضح.

فان كان عنوان المقيد والمخصص من الأوصاف اللاحقة لذات الموضوع ، فلامحة يكون موضوع الحكم في عالم الثبوت مركبا من العرض ومحله ، إذ العام بعد ورود التخصيص يخرج عن كونه تمام الموضوع للحكم لا محالة ويصير جزء الموضوع ، وجزئه الآخر يكون نقيض الخارج بدليل المخصص. ففي مثل قوله : أكرم العلماء الا فساقهم - يكون الموضوع هو العالم الغير الفاسق ، ويكون العالم أحد جزئي الموضوع ، وجزئه الآخر غير الفاسق ، ولما كان غير الفاسق من أوصاف العالم ونعوته اللاحقة لذاته ، كان موضوع الحكم مركبا من العرض ومحله.

وان كان عنوان المقيد والمخصص من المقارنات ، يكون موضوع الحكم مركبا أيضا ، لكن لا من العرض ومحله ، بل اما ان يكون مركبا من جوهرين ، أو عرضين لمحلين ، أو من جوهر وعرض لمحل آخر ، أو من عرضين لمحل واحد ، وأمثلة الكل واضحة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه ان كان الموضوع مركبا من غير العرض ومحله بل من الأمور المتقارنة في الزمان ، كان الأصل الجاري في اجزاء المركب هو الوجود والعدم المحمولين بمفاد كان وليس التامتين ، لان الأمور المتقارنة في الزمان لا رابط بينها سوى الاجتماع في عمود الزمان ، فمجرد احراز اجتماعها في الزمان يكفي في

ص: 530

ترتب الأثر ، سواء كان احرازها بالوجدان ، أو بالأصل ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل.

نعم : لو كان موضوع الأثر هو العنوان البسيط المنتزع ، أو المتولد من اجتماع الاجزاء في الزمان - كعنوان التقديم ، والتأخر ، والتقارن ، والقبلية ، والبعدية ، وقضية الحال ، وغير ذلك من العناوين المتولدة من اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان - كان احراز بعض الاجزاء بالوجدان وبعضها بالأصل لا اثر له ، من جهة انه لا يثبت ذلك العنوان البسيط الذي هو موضوع الأثر ، الا بناء على القول بالأصل المثبت.

وذلك كما في قوله علیه السلام : لو أدرك المأموم الامام قبل رفع رأس الامام. فان استصحاب عدم رفع رأس الامام عن الركوع إلى حال ركوع المأموم لا يثبت عنوان القبلية. وكما في قوله : يعزل نصيب الجنين من التركة فان ولد حيا اعطى نصيبه. فان استصحاب حياته إلى زمان الولادة لا يثبت عنوان الحالية وانه ولد في حال كونه حيا.

وبالجملة : لا يجرى الأصل فيما إذا كان الموضوع للأثر هو العنوان البسيط المنتزع. ولكن كون الموضوع هو ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص أو استظهاره من الدليل ، والا فالعنوان الأولى الذي يحصل من الأمور المتغايرة ليس الا اجتماعها في الزمان. واما سائر العناوين المتولدة من الاجتماع في الزمان فجعلها موضوعا للأثر يحتاج إلى عناية زائدة ، وقد عرفت : انه إذا كان نفس اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان موضوعا للأثر ، كان الأصل في تلك الأجزاء بمفاد كان التامة وليس التامة جاريا بلا اشكال فيه ، إذا الأصل يثبت هذا الاجتماع.

ومما ذكرنا يظهر : وجه حكم المشهور بالضمان عند الشك في كون اليد يد عادية ، من جهة ان موضوع الضمان مركب من اليد والاستيلاء الذي هو فعل الغاصب ومن عدم اذن المالك ورضاه الذي هو عرض قائم بالمالك ، وأصالة عدم رضاء المالك تثبت كون اليد يد عادية ، إذ اليد العادية ليست الا عبارة عن ذلك ، وهذا المعنى يتحقق بضم الوجدان إلى الأصل.

فليس حكمهم بالضمان من جهة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ،

ص: 531

بل من جهة جريان الأصل الموضوعي المنقح حال المشتبه. وقس على ذلك سائر الموضوعات المركبة من غير العرض ومحله ، فإنه في الجميع يكفي احراز الاجزاء بالأصول الجارية بمفاد كان أو ليس التامتين ، الا إذا كان العنوان المتولد موضوعا للأثر ، فان الأصل يكون حينئذ مثبتا ، كما عرفت.

وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله ، فالأصل بمفاد كان وليس التامتين لا اثر له ، بل لا بد ان تكون الجهة النعتية والوصفية مسبوقة بالتحقق ، حتى يجرى الأصل بمفاد كان أو ليس الناقصتين ، لان العرض بالنسبة إلى محله انما يكون نعتا ووصفا له ، ويكون للجهة النعتية والتوصيفية دخل لامحة ، ولا يمكن اخذ العرض شيئا بحيال ذاته في مقابل المحل القائم به ، إذ وجود العرض بنفسه ولنفسه عين وجوده لمحله وبمحله ، فلا محيص من اخذ العرض بما هو قائم بمحله موضوعا للحكم ، وهذا لايكون الا بتوصيف المحل به. فكل أصل أحرز التوصيف والتنعيت كان جاريا ، وهذا لايكون الا إذا كانت جهة التوصيف مسبوقة بالتحقق بعد وجود الموصوف ، وهذا انما يكون بالنسبة إلى الأوصاف اللاحقة لموصوفها بعد وجود الموصوف ، كالفسق ، والعدالة ، والمشي ، والركوب ، وغير ذلك.

واما الأوصاف المساوق وجودها زمانا لوجود موصوفها ، كالقرشية والنبطية ، وغير ذلك ، فلا محل فيها لجريان الأصل بمفاد كان وليس الناقصتين ، لعدم وجود الحالة السابقة. والأصل بمفاد كان وليس التامتين وان كان جاريا الا انه لا يثبت جهة التوصيف الا على القول بالأصل المثبت. ففي مثل أكرم العلماء الا فساقهم ، يكون الموضوع مركبا من العالم الغير الفاسق ، وعند الشك في فسق زيد العالم تجرى أصالة عدم فسقه بمفاد ليس الناقصة إذا كان عدم فسق زيد مسبوقا بالتحقق ، أو أصالة فسقه بمفاد كان الناقصة إذا كان فسقه مسبوقا بالتحقق ، ويترتب على الأول وجوب اكرامه ، وعلى الثاني عدم وجوبه. وسيأتي في مبحث الاستصحاب ( انشاء اللّه ) انه لا فرق في مورد جريان الاستصحاب ، بين ان يكون المستصحب نفس موضوع الحكم ، أو نقيضه.

والاشكال : بأنه لا معنى لاستصحاب نقيض موضوع الحكم - إذ الأثر

ص: 532

الشرعي مترتب على وجود الموضوع ولا اثر لنقيضه - ضعيف غايته ، فإنه يكفي في جريان الاستصحاب اثبات عدم الأثر الشرعي ، والا لا نسد باب الاستصحابات العدمية بالنسبة إلى الاحكام ، إذ عدم الحكم ليس مجعولا شرعيا. وسيأتي تفصيل ذلك في محله انشاء اللّه. وعلى أي حال : ان كان الوجود أو العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، فلا اشكال في جريان الأصل فيه بما انه وجود وعدم نعتي ، وأما إذا لم يكن مسبوقا بالتحقق ، فلا محل للأصل فيه ، وذلك - كالمرأة القرشية - فان عروض وصف القرشية للمرأة مساوق زمانا لوجود المرأة ، فهي اما ان توجد قرشية واما ان توجد غير قرشية ، وليس العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، لان سبق تحقق العدم النعتي يتوقف على وجود الموضوع آنا ما فاقدا لذلك الوصف ، وأما إذا لم يكن كذلك كالمثال فلا محل لاستصحاب العدم النعتي.

نعم : استصحاب العدم الأزلي يجرى ، لان وصف القرشية كان مسبوقا بالعدم الأزلي لامحة ، لأنه من الحوادث ، الا ان الأثر لم يترتب على العدم الأزلي ، بل على العدم النعتي ، واثبات العدم النعتي باستصحاب العدم الأزلي يكون من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، إذ عدم وجود القرشية في الدنيا يلازم عقلا عدم قرشية هذه المرأة المشكوك حالها.

ودعوى : ان عدم القرشية لم يؤخذ جزء الموضوع الا بمعناه الأزلي لا بمعناه النعتي ، قد عرفت ضعفها ، فإنه بعد ما كانت القرشية من الأوصاف اللاحقة لذات المرأة ، لا يمكن اخذها الا على جهة النعتية ، هذا.

وللمحقق الخراساني (1) ( قده ) كلام في المقام يعطى صحة جريان الأصول العدمية في مثل هذه الأوصاف ، لكن لا مطلقا ، بل فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا ، أو كان من قبيل الاستثناء ، لا ما إذا كان متصلا بالكلام على وجه التوصيف ، فان في مثله لا يجرى الأصل. مثلا تارة : يقول : أكرم العالم الغير الفاسق ، أو

ص: 533


1- كفاية الأصول ، المجلد الأول ص 346 - 345 « ايقاظ ، لا يخفى ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل ، أو كالاستثناء من المتصل ...

ان المرأة الغير القرشية تحيض إلى خمسين. وأخرى : يقول : أكرم العالم الا فساقهم ، أو بدليل منفصل يقول : لا تكرم فساق العلماء ، أو يقول : المرأة تحيض إلى خمسين الا القرشية أو بدليل منفصل يقول : المرأة القرشية تحيض إلى ستين. ففي الأول : لا بد ان يكون الأصل بمفاد ليس الناقصة جاريا ، بحيث تكون النعتية مسبوقة بالتحقق ، ولا اثر للأصل بمفاد ليس التامة. وفي الثاني : يكفي جريان الأصل بمفاد ليس التامة ولا يحتاج إلى اثبات جهة النعتية.

ووجه هذا التفصيل - على ما يظهر في كلامه - ان التقييد في الأول يوجب تنويع العام وجعله معنونا بنقيض الخاص ، والأصل الجاري فيه لا بد ان يكون بمفاد ليس الناقصة على ما بيناه. وهذا بخلاف الثاني ، فإنه حيث لم يكن عنوان القيد وصفا ونعتا لعنوان العام في الكلام ، فلا يوجب التقييد تنويع العام ، بل العام بعد باق على اللاعنوانية ويتساوى فيه كل عنوان. نعم : لا بد ان لايكون عنوان الخاص مجامعا لعنوان العام ، لمكان التخصيص. وحينئذ يكفي نفى عنوان الخاص بأي وجه أمكن نفيه في ترتب الأثر ، لأن المفروض انا لا نحتاج إلى اثبات عنوان خاص ووصف مخصوص للعام ، حتى لا يكفي نفى عنوان الخاص في اثبات ذلك للعام ، بل العام بعد باق على لا عنوانيته ، غايته انه خرج عنه عنوان الخاص ، فيكفي في ثبوت الأثر نفى عنوان الخاص ولو بمفاد ليس التامة ، فصح حينئذ ان يقال : الأصل عدم تحقق الانتساب بين هذه المرأة وبين قريش ، فيحكم على المرأة انها ممن تحيض إلى خمسين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما افاده ( قده ).

اما أولا : فلان التقييد لا يعقل ان لا يوجب تنويع العام وجعله معنونا بعنوان نقيض الخاص ، إذ التقييد يوجب هدم الاطلاق ويخرج عنوان العام عن التسوية بين انقساماته اللاحقة له لامحة ، لان الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يجتمعا ، مع ما بينهما من تقابل العدم والملكة الذي هو في المحل القابل يكون مثل تقابل الايجاب والسلب ، من حيث عدم امكان الاجتماع والارتفاع ، وان كان بينهما فرق من جهة امكان ارتفاع الموضوع في تقابل العدم والملكة ، فلا يصدق على الجدار انه

ص: 534

أعمى أو بصير ، بل يصح سلبهما عنه ، لان الجدار ليس موضوعا للعمى والبصر من جهة انتفاء القابلية ، بخلاف تقابل السلب والايجاب ، فإنه لا يعقل ارتفاع موضوعه ، من جهة ان موضوعه الماهيات المتصفة اما بالوجود واما بالعدم ، كما سيأتي بيانه في محله انشاء اللّه. ولكن بالنسبة إلى المحل القابل يكون حكم تقابل العدم والملكة حكم تقابل السلب والايجاب ، فلا يعقل ان يكون الانسان أعمى وبصيرا ولا لا أعمى ولا لا بصيرا ، فالتقييد يوجب هدم أساس الاطلاق لامحة ، ويوجب تعنون العام بنقيض الخاص ثبوتا وفي نفس الامر.

ومجرد ان القيد لايكون وصفا ونعتا اصطلاحيا لا يوجب ان لايكون كذلك ثبوتا ، بل لا يعقل ان لايكون بعد ما لم يكن القيد من الانقسامات المقارنة زمانا لعنوان العام بل كان من الانقسامات اللاحقة له ومن أوصافه ونعوته ، ومع هذا كيف لا يوجب التقييد تنويع العام؟ وكيف صح له ( قده ) ان يقول : لما لم يكن العام معنونا بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص؟ مع أن قوله ( قده ) « لم يكن ذلك بعنوان الخاص » هو عين التوصيف والتنعيت ، مع ما في قوله ( قده ) « بل بكل عنوان » من المسامحة ، إذ العام لا يعقل ان يكون معنونا بكل عنوان ، لما بين العناوين من المناقضة ، فكيف يكون معنونا بكل عنوان؟ بل العام يكون بلا عنوان وذلك يساوى كل عنوان يطرء عليه الذي هو معنى الاطلاق ، ولكن بعد ورود التقييد يخرج عن التساوي ويصير معنونا بنقيض الخاص.

وثانيا : انه أي فائدة في تغيير مجرى الأصل وجعل مجرى الأصل الانتساب الذي هو من الأمور الانتزاعية؟ فإنه لو كان الأثر مترتبا على العدم الأزلي ، فليجعل مجرى الأصل عدم القرشية بالعدم الأزلي بمفاد ليس التامة. وان كان العدم الأزلي لا يكفي بل يحتاج إلى العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فلا اثر لجعل مجرى الأصل عدم الانتساب بمعناه الأزلي ، وبمعناه النعتي غير مسبوق بالتحقق. مع أن قوله ( قده ) « أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش » هو عين العدم النعتي ، فتغيير العبارة ما أفاد شيئا.

وبالجملة : في مثل الأوصاف اللاحقة للذات لا ينفع الا العدم النعتي ، ولا

ص: 535

يجرى الأصل الا بمفاد ليس الناقصة ، ولا اثر للعدم الأزلي الا على القول بالأصل المثبت.

فما افاده صاحب الكفاية ( قده ) من كفاية العدم الأزلي وجريان الأصل بمفاد ليس التامة مما لا يمكن المساعدة عليه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

هذا كله فيما إذا كان المخصص لفظيا ، وقد تبين عدم صحة التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، الا إذا كان هناك أصل موضوعي ينقح حال المشتبه.

وأما إذا كان المخصص لبيا من اجماع ، أو عقل ضروري ، أو نظري ، فقد تداول في لسان المتأخرين جواز التمسك بالعام عند الشبهة المصداقية فيه. والظاهر : ان أول من أفاد ذلك هو الشيخ ( قده ) على ما في التقرير ، وتبعه من تأخر عنه ، هذا. (1)

ولكن التحقيق : انه لا فرق في ذلك بين المخصص اللبي والمخصص اللفظي فإنه على كل حال يكون نقيض الخارج قيدا للموضوع ، ولا يصح التعويل على العام مع الشك في الموضوع ، فبعد ما ثبت كون الشيء مخصصا لا يفرق الحال فيه بان يكون دليل المخصص لفظيا ، أو لبيا. والظاهر : ان لايكون مراد الشيخ ( قده ) ومن تبعه هذا المعنى من المخصص ، أي ما كان قيدا للموضوع ، وان كان التعبير بالمخصص اللبي يعطى ذلك ، الا انه من المسامحة في التعبير. فالأولى ان يقال : انه لو ورد عام ، وعلم أن المولى لا يريد جميع ما ينطبق عليه عنوان العام كيفما اتفق ، فان كان الذي لم يتعلق ارادته به من العناوين التي لا تصلح الا ان تكون قيدا للموضوع - ولم يكن احراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه من وظيفة الآمر والمتكلم ، بل كان من وظيفة المأمور والمخاطب - ففي مثل هذا يكون حال المخصص اللبي كالمخصص اللفظي ، في عدم صحة التعويل على العام فيما شك كونه من مصاديق الخارج ، وذلك كما في

ص: 536


1- مطارح الأنظار ، الهداية الثالثة من مباحث العام والخاص ص 192 وتبعه في ذلك صاحب الكفاية قدس سره بالنسبة إلى خصوص المخصص اللبي المنفصل. واما فيما كان كالمتصل بحيث يصح ان يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فاختار فيه عدم حجية العام في المصداق المشتبه معللا بأنه لا ينعقد معه ظهور للعام الا في الخصوص. ( كفاية الأصول ، الجلد الأول ، ص 343 )

مثل قوله علیه السلام : انظروا إلى رجل قد روى حديثنا الخ ، حيث إنه عام يشمل العادل وغيره ، الا انه قام الاجماع على اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه في القضاء ، فتكون العدالة قيدا في الموضوع ، ولا يجوز الرجوع إلى العموم عند الشك في عدالة مجتهد ، كما إذا كان اعتبار العدالة بدليل لفظي.

وان كان الذي لم يتعلق ارادته به من العناوين التي لا تصلح ان تكون قيدا للموضوع - وكان احرازها من وظيفة الآمر والمتكلم ، بان كان من قبيل الملاكات - ففي مثل هذا يجوز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية. وذلك كما في مثل قوله علیه السلام : اللّهم العن بنى أمية قاطبة ، حيث يعلم أن الحكم لا يعم من كان مؤمنا من بنى أمية ، لان اللعن لا يصيب المؤمن ، فالمؤمن خرج عن العام لانتفاء ملاكه ، لمكان ان ملاك اللعن هو الشقاوة ، فكأن قوله علیه السلام : اللّهم العن بنى أمية قاطبة - قد تكفل ملاك الحكم بنفسه وهو الشقاوة ، ومعلوم ان السعيد يقابل الشقي ، فليس في السعيد ملاك الحكم ، ولكن احراز ان في بنى أمية سعيدا انما هو من وظيفة المتكلم ، حيث لا يصح له القاء مثل هذا العموم ، الا بعد احراز ذلك ، ولو فرض انه علمنا من الخارج ان ( خالد بن سعيد ) مثلا كان سعيدا مؤمنا ، كان ذلك موجبا لعدم اندراجه تحت العموم ، ولكن المتكلم لم يبينه لمصلحة هناك اقتضت ذلك ، فلا يجوز لنا لعنه لمكان علمنا بعدم ثبوت ملاك الحكم فيه. وأما إذا شككنا في ايمان أحد من بنى أمية فاللازم الاخذ بالعموم وجواز لعنه ، لأنه من نفس العموم يستكشف انه ليس بمؤمن وان المتكلم أحرز ذلك ، حيث إنه من وظيفته كان احراز ذلك ، فلو لم يحرز ان المشكوك شقي لما ألقى العموم كذلك ، ولا ينافي ذلك علمنا بايمان بعض الافراد لو فرض علمنا بذلك ، فان عدم جواز اللعن انما هو لمكان علمنا بعدم ارادته من العموم ، وأين هذا مما إذا شك في ايمان أحد؟ فان أصالة العموم تكون حينئذ جارية ، ويكون المعلوم الخروج من التخصيص الافرادي ، حيث إنه لم يؤخذ عنوانا قيدا للموضوع ، ولم يخرج عن العموم الا بعض الافراد التي يعلم عدم ارادته من العموم.

والحاصل : ان الضابط الكلي في صحة التعويل على العام عند الشبهة

ص: 537

المصداقية ، هو ان الخارج لا يمكن ولا يصح اخذه قيدا لموضوع الخارج ، كما في المثال حيث إنه لا يصح ان يقال : اللّهم العن بنى أمية قاطبة الا الخير منهم أو العنوا بنى أمية الا الخير منهم ، فان مثل حكم اللعن بنفسه لا يصلح ان يعم المؤمن ، حتى يكون خروج الخير من باب التخصيص والتنويع. بخلاف خروج الفاسق عمن يعتبر قضائه ، فإنه يصلح ان يكون قيدا ، بل لا يصلح الا لذلك. وفي هذا القسم من المخصص اللبي لا يفرق الحال فيه بين ان يكون من العقل الضروري ، أو النظري ، أو لاجماع ، فإنه في الجميع يصح التعويل على العام في الشبهات المصداقية. كما أنه في القسم الأول أيضا لا يفرق الحال فيه في أنحاء لمخصص اللبي في عدم الصحة.

هذا كله إذا علم أن الخارج من أي قبيل من المخصص ، هل هو مما اخذ قيدا للموضوع أو مما لم يؤخذ؟ وأما إذا شك في ذلك - وذلك في كل مخصص صلح ان يؤخذ قيدا ويوكل احرازه بيد المخاطب وصلح أيضا ان يكون من قبيل الملاكات ويكون احرازه من ناحية الآمر والمتكلم - فهل في هذا القسم يرجع إلى العموم في الشبهة المصداقية مطلقا؟ أولا يرجع مطلقا؟ أو يفصل بين أنحاء المخصص اللبي من كونه عقلا ضروريا ، أو غيره؟ مثال ذلك : ما إذا قال : أكرم جيراني ، وعلم بعدم إرادة اكرام العدو من الجيران ، فان العداوة يمكن ان تكون مثل الايمان والسعادة من قبيل الملاكات ويكون الآمر قد أحرز انه ليس في جيرانه عدو ، ويمكن ان تكون من العناوين الراجعة إلى قيود الموضوع ويكون الآمر قد أو كل احرازها بيد المخاطب كعدالة المجتهد.

والأقوى : في مثل هذا هو التفصيل بين ما إذا كان الدليل الدال على اعتبار الصداقة وعدم العداوة في ( اكرام الجيران ) هو العقل الضروري الفطري ، وبين ما إذا كان عقلا نظريا أو اجماعا. ففي الأول : لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لان العقل الضروري بمنزلة المخصص المتصل ، ولمكان احتمال كون العداوة من قيود الموضوع يكون العقل الضروري مانعا عن الرجوع إلى العام ، لأنه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية. والفرق بين هذا ، وبين القسم الأول مما علم كون الخارج من قيود الموضوع ، هو انه في الأول يكون الكلام مما يعلم باحتفافه بالقرينة

ص: 538

إذا كان الدليل من العقل الضروري ، وفي هذا القسم يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، والنتيجة واحدة.

وأما إذا كان الدليل من العقل النظري ، أو الاجماع ، فهو بمنزلة المخصص المنفصل لا يوجب اجمال العام ، ويرجع إليه. ومجرد احتمال كون العداوة من قيود الموضوع لا اثر له ، بعد ما كان الكلام ظاهرا في اكرام جميع افراد الجيران ، فتأمل فيما ذكرناه.

المبحث الثالث :

من مباحث العام والخاص ، انه لا اشكال في عدم جواز الاخذ بالأصول اللفظية - من أصالة العموم والاطلاق - قبل الفحص عن المقيد والمخصص ، كما لا يجوز الاخذ بالأصول العملية قبل الفحص عن أدلة الاحكام وان كان بين البابين فرق ، من جهة ان الفحص في الأصول العملية انما يكون فحصا عن أصل الحجة ، حيث إن حجية الأصول العملية مقصورة على ما بعد الفحص وليس لها مقتضى قبل الفحص ، فالفحص فيها يكون لاحراز المقتضى لجريانها ، لان الأصول العملية اما ان يكون مدركها العقل : من قبح العقاب بلا بيان ، واما ان يكون مدركها الشرع : من حديث الرفع ، ولا تنقض اليقين بالشك.

اما العقل : فواضح ان حكمه بقبح العقاب انما هو بعد الفحص وحركة العبد على طبق ما يقتضيه وظيفة العبودية من البحث عن مرادات المولى. وحكم العقل بوجوب الفحص يكون من صغريات حكمه بوجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، حتى لا يلزم افحام الأنبياء ، وذلك واضح.

واما النقل : فلو سلم اطلاق أدلة الأصول لما قبل الفحص ، الا انه قام الاجماع على اعتبار الفحص ، وانه لا مجرى للأصول الا بعد الفحص. مع أنه يمكن منع اطلاقها من جهة انه لا يمكن تشريع حكم يوجب افحام النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ما عرفت : من أن الفحص في المقام يكون من صغريات الفحص عن معجزة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فتأمل. وسيأتي لذلك مزيد بيان في محله انشاء اللّه. هذا في الأصول العملية.

ص: 539

واما في الأصول اللفظية : فالفحص فيها انما يكون فحصا عما يزاحم الحجية وعما يعارضها بعد الفراغ عن حجيتها وثبوت المقتضى لها ، لبناء العقلاء على الاخذ بها في محاوراتهم العرفية ، فالفحص فيها يكون فحصا عن المانع ، لا عن المقتضى. وعلى كل حال : تشترك الأصول اللفظية مع الأصول العملية في أصل وجوب الفحص.

ثم انه قد ذكر لوجوب الفحص في الأصول اللفظية والعملية وجوه كثيرة ، لا يسلم غالبها عن الاشكال ، والعمدة منها وجهان في كل من الأصول اللفظية والعملية.

اما الوجهان في الأصول العملية.

فالأول منهما : هو ما تقدمت الإشارة إليه من أن العقل يستقل بأنه لا بد للعبد من المشي لتحصيل مرادات المولى ، وانه لا بد للعبد من أن يقرع باب المولى ليصل إلى مراداته ، وهذا مما يقتضيه وظيفة العبودية. كما أن العقل يستقل أيضا بان وظيفة المولى ان يبين مراداته على النحو المتعارف ، بحيث يمكن للعبد الوصول إليها إذا جرى على ما تقتضيه وظيفته ، فلكل من المولى والعبد وظيفة يستقل العقل بها. فمن وظيفة المولى ان يبين مراداته على نحو يمكن للعبد الوصول إليها. ومن وظيفة العبد ان يبحث عن مرادات المولى حتى يصل إليها ، وذلك واضح.

والثاني منهما : هو العلم الاجمالي بثبوت احكام الزامية على خلاف الأصول النافية للتكليف ، ولهذا العلم الاجمالي مدركان :

الأول : هو ان العلم بان هناك شرعا وشريعة يقتضى العلم بان للشريعة احكاما الزامية في الجملة ، إذ لا معنى لشريعة ليس فيها حكم الزامي أصلا.

الثاني : انه بعد الاطلاع على ما بأيدينا من الكتب ، يعلم أن هناك أدلة تتضمن لاحكام الزامية على خلاف الأصول النافية للتكليف فيما بأيدينا من الكتب.

واما الوجهان في الأصول اللفظية.

فالأول منهما : هو العلم الاجمالي بوجود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من

ص: 540

الكتب للعمومات والاطلاقات ، وذلك معلوم لكل من راجع الكتب.

والثاني : هو ان أصالة العموم والاطلاق انما تجرى فيما إذا لم يكن دأب المتكلم والتعويل على المقيدات والمخصصات المنفصلة ، إذ لا مدرك للاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بناء العقلاء عليها في محاوراتهم ، وليس من بناء العقلاء عليها إذا كان العام المطلق في معرض التخصيص والتقييد ، بحيث كان المتكلم بالعام والمطلق يعتمد كثيرا على المنفصلات ولم يبين تمام مراده في كلام واحد ، فإنه لا تجرى ح مقدمات الحكمة في مصب العموم والاطلاق ، لان عمدة مقدمات الحكمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده. وهذه المقدمة لا تجرى بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، أي يعتمد على المنفصلات كثيرا.

ومن المعلوم لكل من راجع الاخبار ، ان الأئمة صلوات اللّه عليهم كثيرا ما يعتمدون في بيان المخصصات والمقيدات على المنفصلات ، فإنه كثيرا ما يكون العام واردا من امام علیه السلام والمخصص من امام آخر. والعام الذي يكون من شانه ذلك أي في معرض التخصيص لا تجرى فيه أصالة العموم ، وذلك أيضا واضح.

فتحصل : ان لوجوب الفحص في كل من الأصول العملية واللفظية مدركين يشتركان في أحدهما ، وهو العلم الاجمالي. ويفترقان في الآخر ، لان المدرك الآخر لوجوب الفحص في الأصول العملية هو استقلال العقل بلزوم حركة العبد على ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدم. وفي الأصول اللفظية هو كون العام في معرض التخصيص والتقييد.

ثم ، انه ربما يشكل في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي في كلا البابين ، وكون العام والمط في معرض التخصيص والتقييد في خصوص الأصول اللفظية. اما الاشكال على العلم الاجمالي ، فقد يقرر على وجه يختص بالأصول العملية ، وقد يقرر على وجه يشترك البابان فيه.

اما التقرير على الوجه الأول ، فحاصله : انه قد تقدم ان للعلم الاجمالي مدركين :

الأول : هو العلم بان في الشريعة أحكاما الزامية على خلاف الأصول

ص: 541

النافية.

الثاني : هو العلم بثبوت احكام الزامية فيما بأيدينا من الكتب. ودائرة العلم الاجمالي الأول أوسع من الثاني ، لان متعلقه أعم مما بأيدينا. والفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب يوجب انحلال العلم الثاني ، والعلم الاجمالي الأول الذي هو أوسع دائرة بعد باق على حاله لا ينحل بالفحص فيما بأيدينا من الكتب ، ولازم ذلك هو عدم جريان الأصول النافية مط حتى بعد الفحص. نظير ما إذا علم بان في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وعلم أيضا ان في البيض منها موطوء ، فتفحصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلق علمنا به ، فان العلم الاجمالي بان في البيض موطوء وان انحل ، الا ان العلم الاجمالي بان في القطيعة الأعم من السود والبيض موطوء بعد على حاله ، ولا تخرج السود عن كونها طرف العلم ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط في الجميع.

وهذا الاشكال ، كما ترى يختص بالأصول العملية ، ولا يجرى في الأصول اللفظية ، لان العلم الاجمالي في الأصول اللفظية لا مدرك له سوى ما بأيدينا من الكتب ، وليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع عن الآخر ، بل العلم الاجمالي من أول الامر تعلق بان فيما بأيدينا من الكتب مقيدات ومخصصات للعمومات والمطلقات ، وبعد الفحص عما بأيدينا ينحل العلم الاجمالي قهرا. فهذا التقريب من الاشكال يختص بالأصول العملية الذي يكون للعلم الاجمال فيها مدركان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال بأنه بعد الفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب والعثور على مقدار من الاحكام ينحل العلم الاجمالي الكبير أيضا ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كانحلال العلم الاجمالي الصغير ، بل هو انحلال حكمي ، لان ما عثرنا عليه من الأدلة المتكفلة للأحكام الالزامية قابل الانطباق على ما علم اجمالا بان في الشريعة أحكاما الزامية ، إذ لا علم بان في الشريعة أحكاما أزيد مما تكفلته الأدلة التي عثرنا عليها على تقدير إصابة تلك الأدلة للواقع ، فالاحكام التي تضمنتها الأدلة قابلة الانطباق على ما علم اجمالا من الاحكام الثابتة في الشريعة. نظير ما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الانائين ، ثم علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين ،

ص: 542

واحتمل ان تكون النجاسة في المعين هي تلك النجاسة المعلومة اجمالا في أحد الانائين ، فان العلم الاجمالي ح ينحل لاحتمال انطباق ما علم نجاسته تفصيلا على المعلوم بالاجمال ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كما إذا علم بان النجاسة المعلومة بالتفصيل هي عين تلك النجاسة المعلومة بالاجمال فإنه يكون الانحلال ح حقيقيا ، بل الانحلال يكون حكميا.

ومما ذكرنا ظهر : ان العلم الاجمالي في المثال المتقدم في القطيع من الغنم أيضا ينحل ، وتخرج السود عن كونها طرفا للعلم الاجمالي ، ولا يجب فيها الاحتياط.

واما تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، فحاصله : ان العلم الاجمالي بوجود احكام الزامية وبورود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من الكتب وان اقتضى عدم جريان الأصول اللفظية والعملية قبل الفحص ، الا انه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الاحكام والمقيدات والمخصصات يوجب انحلال العلم ، كما هو الشأن في كل علم اجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر ، فان بالعثور على المقدار المتيقن الذي هو الأقل ينحل العلم الاجمالي ، ويكون الأكثر شبهة بدوية يجرى فيه الأصل. كما لو علم أن في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وتردد بين ان يكون عشرة أو عشرين ، فإنه بالعثور على العشرة ينحل العلم الاجمالي لامحة. وفي المقام لا بد ان يكون مقدار متيقن للعلم الاجمالي بالأحكام الالزامية والمقيدات والمخصصات الواقعة في الكتب ، إذ لا يمكن ان لايكون له مقدار متيقن ، فإنه لو سئل عن مقدار معلومة الاجمالي فلا بد ان يصل إلى حد وعدد يكون الزايد عليه مشكوكا ويجيب بأنه لا علم لي بأزيد من ذلك ، ومقتضى ذلك هو انه لو عثر على ذلك المقدار المتيقن ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الفحص في سائر الشبهات ، بل ينبغي ان تجرى فيها الأصول اللفظية والعملية بلا فحص ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، ولا قال به أحد ، لايجابهم الفحص عند كل شبهة شبهة ، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الاجمالي ، فلا بد ان يكون المدرك لوجوب الفحص غير العلم الاجمالي ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال أيضا ، بان المعلوم بالاجمالي تارة : يكون مرسلا

ص: 543

غير معلم بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وأخرى : يكون معلما بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وانحلال العلم الاجمالي بالعثور على المقدار المتيقن انما يكون في القسم الأول. واما القسم الثاني فلا ينحل بذلك ، بل حاله حال دوران الامر بين المتباينين. وضابط القسمين : هو ان العلم الاجمالي كليا انما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلو المنحلة إلى قضيتين حمليتين.

وهاتان القضيتان تارة : تكونان من أول الامر إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بحيث يكون العلم الاجمالي قد نشأ من هاتين القضيتين ، ويكون العلم الاجمالي عبارة عن ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقنة ليس الا. كما إذا علم اجمالا بأنه مديون لزيد ، أو علم بان في هذه القطيعة موطوء ، وتردد الدين بين ان يكون خمسة دراهم أو عشرة ، أو تردد الموطوء بين ان يكون خمسة أو عشرة ، فان هذا العلم الاجمالي ليس الا عبارة عن قضية متيقنة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة ، وقضية مشكوكة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم زائدا على الخمسة المتيقنة ، أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة زائدا على الخمسة المتيقنة ، ففي مثل هذا ، العلم الاجمالي ينحل قهرا بالعثور على المقدار المتيقن ، إذ لا علم حقيقة بسوى ذلك المقدار المتيقن ، والزايد عليه مشكوك من أول الامر ولم يتعلق العلم به أصلا ، ولا يصح جعله طرفا للعلم ، إذ لم يتعلق العلم به بوجه من الوجوه ، فلا معنى لجعله من أطراف العلم ، فالعلم الاجمالي في مثل هذا من أول الامر منحل ، وذلك واضح.

وأخرى : لا تكون القضيتان على هذا الوجه ، أي بان يكون من أول الامر إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بل تعلق العلم بالأطراف على وجه تكون جميع الأطراف مما تعلق العلم بها بوجه ، بحيث لو كان الأكثر هو الواجب لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه ، وليس الأكثر مشكوكا من أول الامر بحيث لم يصبه العلم بوجه من الوجوه ، بل كان الأكثر على تقدير ثبوته في الواقع مما اصابه العلم. وذلك في كل ما يكون المعلوم بالاجمال معلما بعلامة كان قد تعلق العلم به بتلك العلامة ، فيكون كل ما اندرج تحت تلك العلامة وانطبقت عليه مما تعلق العلم به ،

ص: 544

سواء في ذلك الأقل والأكثر. وح لو كان الأكثر هو الثابت في الواقع ، فقد تعلق العلم به لمكان تعلقه بعلامته. وذلك : كما إذا علمت انى مديون لزيد بما في الدفتر ، فان جميع ما في الدفتر من دين زيد قد تعلق العلم به ، سواء كان دين زيد خمسة أو عشرة ، فإنه لو كان دين زيد عشرة فقد اصابه العلم لمكان وجوده في الدفتر وتعلق العلم بجميع ما في الدفتر. وأين هذا مما إذا كان دين زيد من أول الامر مرددا بين الخمسة والعشرة؟ فان العشرة في مثل ذلك مما لم يتعلق بها العلم بوجه من الوجوه ، وكانت مشكوكة من أول الامر ، فلا موجب لتنجيزها على تقدير ثبوتها في الواقع.

بخلاف ما إذا تعلق العلم بها بوجه. ولو لمكان تعلق العلم بما هو من قبيل العلامة لها ، وهي بعنوان ( كونها في الدفتر ) فإنها قد تنجزت على تقدير وجودها في الدفتر. وفي مثل هذا ليس له الاقتصار على المقدار المتين ، إذ لا مؤمن له على تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعد ما ناله العلم واصابه. فحال العلم الاجمالي في مثل هذا الأقل والأكثر حال العلم الاجمالي في المتباينين في وجوب الفحص والاحتياط.

وان شئت قلت : كان لنا هنا علمان : علم اجمالي باني مديون لزيد بجميع ما في الدفتر ، وعلم اجمالي آخر بان دين زيد عشرة أو خمسة ، والعلم الثاني غير مقتضى للاحتياط بالنسبة إلى العشرة ، والعلم الاجمالي الأول مقتض للاحتياط بالنسبة إليها ، لتعلق العلم بها على تقدير ثبوتها في الواقع ، واللا مقتضى لا يمكن ان يزاحم المقتضى. ونظير ذلك ما إذا علم بان في البيض من هذه القطيعة موطوء ، فإنه كل ابيض موطوء في هذه القطيعة فقد تعلق العلم به وأوجب تنجزه ، فلو عثر على مقدار متيقن من البيض موطوء ليس له اجراء أصالة الحل بالنسبة إلى الزايد ، لأنه لا مؤمن له على تقدير وجود موطوء آخر في البيض.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : ما نحن فيه يكون من العلم الاجمالي المعلم المقتضى للفحص التام الغير المنحل بالعثور على المقدار المتيقن ، لان العلم قد تعلق بان في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات واحكاما الزامية ، فيكون نظير تعلق العلم باني مديون لزيد بما في الدفتر ، فيكون كل مقيد ومخصص وحكم الزامي ثابت فيما بأيدينا من الكتب قد اصابه العلم وتعلق به ، وقد عرفت ان مثل هذا

ص: 545

العلم الاجمالي لا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن ، بل لا بد فيه من الفحص التام في جميع ما بأيدينا من الكتب. فتأمل فيما ذكرناه من قسمي العلم الاجمالي فإنه لا يخلو عن دقة.

هذا حاصل الاشكال والجواب في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي.

واما لو جعل المدرك لوجوب الفحص كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، فقد يستشكل أيضا بما حاصله : ان الفحص لا اثر له حينئذ ، إذ الفحص عن المقيدات والمخصصات فيما بأيدينا من الكتب لا يغير العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص وعن كون دأب المتكلم التعويل على المنفصلات ، إذ الفحص لا دخل له في ذلك ولا يوجب قوة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت وسقطت بدأب المتكلم وخروجه عن طريق المحاورات العرفية من بيان تمام مراده في كلام واحد ، إذ كل عام يحتمل ان يكون قد عول فيه على المخصص المنفصل ولم يكن ذلك المخصص في الكتب التي بأيدينا ولا دافع لهذا الاحتمال ، هذا.

ولكن يمكن الذب عن الاشكال أيضا ، بان كون شأن المتكلم ذلك يوجب عدم الاطمينان والوثوق بان واقع مراده هو ظاهر العام والمط ، فلو تعلق غرض باستخراج واقع مراد المتكلم لما أمكن بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، كما يتضح ذلك بالقياس على المحاورات العرفية فإنه لو فرض ان أحد التجار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلد وكان الكاتب ممن يعتمد على القرائن في بيان مراده ، فان هذا الكتاب لو وقع بيد ثالث لا يمكنه العمل على ما تضمنه ، لأنه لا يمكن الحكم بان واقع مراد الكاتب هو ما تضمنه ظاهر الكتاب ، مع أن هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب.

وأما إذا لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم ، بل كان الغرض هو الالزام والالتزام بكلام المتكلم وجعله حجة قاطعة للعذر في مقام المحاجة والمخاصمة ، فلا بد من الاخذ بما هو ظاهر كلامه ، وكون شأن المتكلم التعويل على

ص: 546

المنفصل لا يوجب أزيد من الفحص.

والسر في ذلك : هو ان طريق الاخذ والالتزام والمحاجة انما هو بيد العقل والعقلاء ، وبناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك ، كما أن العقل يحكم بذلك أيضا. وعليك بمقايسة الأحكام الشرعية على الاحكام العرفية الصادرة من الموالى العرفية الملقاة إلى عبيدهم ، فإنه لا يكاد يشك في الزام العبد بالأخذ بظاهر كلام المولى بعد الفحص عما يخالف الظاهر واليأس عن الظفر إذ كان شان المولى التعويل على المنفصل ، وليس للعبد ترك الاخذ بالظاهر والاعتذار باحتمال عدم إرادة المولى ظاهر كلامه ، كما أنه ليس للمولى الزام العبد وتأديبه عند اخذه بالظاهر إذا لم يكن الظاهر مراده وعول على المنفصل.

والحاصل : ان كون المتكلم من دأبه التعويل على المنفصلات انما يوجب عند العقلا عدم الاخذ بالظاهر قبل الفحص عن مظان وجود المنفصل ، واما بعد الفحص فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظاهر ويكون ظاهر كلام المتكلم حجة على العبد ، ولكل من المولى والعبد الزام الآخر بذلك الظاهر.

نعم لو قلنا : بان اعتبار الظهور من باب إفادته الظن والاطمينان الشخصي بالمراد ، لكان الاشكال المذكور في محله ، إذ الفحص لا يوجب حصول الظن بالمراد بالنسبة إلى المتكلم الذي شأنه التعويل على المنفصل ، الا ان اعتبار الظهور من ذلك الباب فاسد ، بل اعتبار الظهور من باب بناء العقلاء على الاخذ ولو لمكان كشفه نوعا عن المراد ، لا من باب التعبد المحض ، وقد عرفت ان بناء العقلاء ليس أزيد من الفحص بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، فتأمل جيدا.

هذا كله في أصل وجوب الفحص ، واما مقداره : فهو وان اختلف فيه ، بين من يكتفى بالظن ، وبين من يعتبر العلم واليقين بعدم وجود مقيد ومخصص فيما بأيدينا من الكتب ، وبين من يعتبر الاطمينان وسكون النفس بعدم وجود ذلك ، الا ان الأقوى هو الأخير ، وهو اعتبار الاطمينان ، لان الاكتفاء بالظن مما لا وجه له بعد عدم قيام الدليل على اعتباره ، والاقتصار على حصول العلم واليقين يوجب الحرج وسد باب الاستنباط ، فان الاخبار وان بوبها الأصحاب ( جزاهم اللّه عن

ص: 547

الاسلام وأهله خير الجزاء ) وأوردوا كل خبر في بابه ، الا انه مع ذلك قد قطعوا الاخبار وأوردوا صدر الخبر في باب وذيله في باب آخر ، كما صنع صاحب الوسائل ، وذلك أوجب الاختلال ، إذ ربما يكون ذيل الخبر قرينة على المراد من صدره ، فلو اعتبرنا العلم واليقين للزم الضيق والعسر الشديد في الاستنباط ، مع أن الاطمينان هو طريق عقلائي يعتمد عليه العقلاء كما يعتمدون على العلم الوجداني ، ويكتفون بالاطمينان في كل ما يعتبر فيه الاحراز. فالأقوى : كفاية الاطمينان.

المبحث الرابع : في الخطابات الشفاهية.

وقد وقع النزاع في أن الخطابات المصدرة بأداة الخطاب - كياء النداء ، وكاف الخطاب ، وأمثال ذلك مما يختص بالمشافهة - هل تختص بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب؟ فلا تعم الغائبين فضلا عن المعدومين ، أو لا تختص بذلك؟ بل تعم المعدومين فضلا عن الغائبين.

ومحل الكلام ، هو خصوص الألفاظ المصدرة بأداة الخطاب كما عرفت. ولا كلام فيما عدى ذلك : من أسماء الأجناس ، كقوله تعالى : لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا - وكقوله تعالى : المؤمنون اخوة. وغير ذلك مما اخذ اسم الجنس فيه موضوعا للحكم ، فإنه لا اشكال في عموم اللفظ للحاضر والغائب والمعدوم.

ثم إن جهة البحث عن عموم الخطابات الشفاهية وعدمه ، يمكن ان تكون عقلية ويكون مرجع هذا النزاع إلى امكان مخاطبة الغائب والمعدوم وعدم امكانه عقلا ، ويمكن ان يكون لفظيا لغويا ويكون مرجع هذا النزاع ح إلى أن أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه؟ أو انها موضوعة للأعم من ذلك ومن الغائب والمعدوم؟ ويمكن ان يكون النزاع في كلتا الجهتين عقليا ولغويا.

ثم إن ثمرة النزاع تظهر في حجية ظهور خطابات الشفاهية وصحة التمسك بها بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب. فان قلنا : باختصاصها بالمشافهين لا يصح التمسك بها في حق الغائبين والمعدومين ، لعدم كونهم مخاطبين بما

ص: 548

تضمنته تلك الخطابات. وتسرية ما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام إلى الغائبين والمعدومين انما يكون بقاعدة الاشتراك في التكليف ، الذي انعقد عليه الاجماع والضرورة. وقاعدة الاشتراك في التكليف مختصة بما إذا اتحد الصنف ، ولا تجرى في مورد اختلاف الصنف ، بان كان الحاضرون في مجلس التخاطب واجدين لخصوصية يحتمل دخلها في موضوع الحكم ولو كانت تلك الخصوصية نفس حضورهم في مجلس التخاطب ، أو وجودهم في بلد الخطاب ، أو وجودهم في عصر الحضور ونزول الخطاب ، فإنه لو احتمل دخل شيء من تلك الخصوصيات لما كان ح مجال للتمسك بقاعدة الاشتراك ، لما عرفت : من اختصاصها بصورة اتحاد الصنف. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بعموم الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ، فانا لا نحتاج إلى قاعدة الاشتراك ، بل نفس عموم الخطاب يقتضى تكليف الغائب والمعدوم بما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام ولو مع اختلاف الصنف ، وذلك واضح ، هذا.

وعن بعض الاعلام انكار هذه الثمرة ، ودعوى : ان ذلك مبنى على مقالة من يقول بحجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد افهامه بالكلام ، دون من لم يقصد افهامه ، كما هو مقالة (1) المحقق القمي ( قده ) ، إذ لو قلنا : بحجية الظواهر مط ولو في حق من لم يقصد افهامه فظواهر الخطابات الشفاهية تكون ح حجة ولو قلنا باختصاصها بالمشافهين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان الثمرة لا تبتنى على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) ، فان الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولا تعم غيرهم فلا معنى للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير ، سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل ، فلا ابتناء للثمرة على ذلك أصلا.

وقد ذكر المحقق الخراساني (2) ( قده ) للنزاع ثمرتين ، وجعل إحدى الثمرتين

ص: 549


1- مقالة المحقق القمي. قوانين الأصول ، قانون 7 من الباب الثالث ( مبحث العموم والخصوص ) ص 131 ص
2- كفاية الأصول الجلد الأول ص 359 فصل : ربما قيل إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان : الأولى : حجية ظهور خطابات الكتاب للمشافهين .. » وهذه هي الثمرة التي جعلها مبتنية على مقالة المحقق القمي بقوله « وفيه انه مبنى على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم .. »

مبتنية على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) ولم يجعل الأخرى مبتنية على ذلك. مع أنه لم يظهر لنا الفرق بين الثمرتين بل مرجعهما إلى امر واحد ، وانما التفاوت في التعبير فقط ، فراجع وتأمل لعلك تجد فرقا بين الثمرتين. وعلى كل حال قد ظهر : ان ثمرة النزاع في المقام جلية ولا تبتنى على مقالة المحقق القمي ( قده ).

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الكلام في اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين وعمومها لغيرهم تارة : يقع في القضايا الخارجية ، وأخرى : يقع في القضايا الحقيقية.

اما في القضايا الخارجية - فاختصاص الخطاب بالحاضر المشافه مما لا سبيل إلى انكاره ، لوضوح انه لا يمكن توجيه الكلام ومخاطبة الغائب الغير المتلفت إلى الخطاب ، فضلا عن المعدوم ، الا بتنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر ، كما قد ينزل غير ذوي العقول منزلة ذوي العقول فيخاطب ، كما في قول الشاعر :

الا يا ليل طلت على حتى *** كأنك قد خلقت بلا صباح

وبالجملة : مخاطبة الغائب والمعدوم بلا تنزيل مما لا يمكن.

واما في القضايا الحقيقية : فحيث انها متكفلة لفرض وجود الموضوع وكان الخطاب خطابا لما فرض وجوده من افراد الطبيعة في موطنه ، كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب ، فيستوى في ذلك الافراد الموجودة في زمن الخطاب الحاضرون في مجلس التخاطب أو المعدومون الغير الحاضرين ، لان في الجميع لوحظت الافراد على نحو فرض الوجود ووجه الخطاب على ذلك الفرض.

وبعبارة أخرى : التنزيل الذي كان مما لا بد منه في القضية الخارجية أعني تنزيل المعدوم منزلة الموجود في صحة الخطاب ، يكون في القضية الحقيقية مما تضمنته نفس القضية ، وكانت القضية بنفسها دالة على ذلك التنزيل ، لان شأن

ص: 550

القضية الحقيقية فرض وجود الموضوع ، فالخطاب في القضية الحقيقية يعم الغائب والمعدوم بلا عناية.

ودعوى : ان أداة الخطاب موضوعة لخصوص ما يكون موجودا بالفعل في مجلس صدور الخطاب ، مما لا شاهد عليها ، لأنه إذا أمكن في عالم الثبوت توجيه الخطاب إلى ما سيوجد بعد ذلك على نهج القضية الحقيقية ، فعالم الاثبات يكون على طبق عالم الثبوت ، ولا موجب لدعوى وضع الأداة لخصوص الافراد الفعلية الحاضرين في مجلس التخاطب. وكان منشأ توهم اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين هو تخيل كون القضايا الشرعية من القضايا الخارجية وان ما ورد في الكتاب والسنة من الخطابات انما تكون اخبارات عن أن الاحكام تنشأ بعد ذلك عند وجود الافراد ، فيكون لكل فرد خطاب يخصه عند وجوده. وقد تقدم منا فساد ذلك ، وان القضايا الشرعية كلها ( الا ما شذ ) تكون على نهج القضايا الحقيقية ، وح الخطابات تعم المعدومين أيضا.

المبحث الخامس :

لو تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده ، فهل ذلك يوجب تخصيص العام بخصوص ما أريد من الضمير؟ أو انه لا يوجب ذلك؟ مثاله قوله تعالى : (1) « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يكتمن ما في أرحامهن » إلى قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » فان ضمير « وبعولتهن » يرجع إلى خصوص الرجعيات ، بقرينة قوله تعالى : « أحق بردهن » والمطلقات في صدر الآية عام للرجعيات وغيرها ، لأنه من الجمع المحلى باللام. فيقع البحث حينئذ في أن رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيات موجب لتخصيص المطلقات وان المراد منه خصوص الرجعيات فتكون الأحكام المذكورة في الآية السابقة على قوله تعالى : « وبعولتهن » مختصة بالرجعيات ، أو انه لا يوجب ذلك ، بل المراد من المطلقات الأعم ، والاحكام السابقة تكون لمطلق المطلقات.

ص: 551


1- البقرة : 228

فقد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام ، فان لازم إرادة العموم من المطلقات هو الاستخدام في ناحية الضمير ، لرجوعه حينئذ إلى غير ما هو المراد من المرجع ، بل إلى بعض افراد المرجع ، كما أن لازم عدم الاستخدام هو تخصيص العام وان المراد منه خصوص الرجعيات. وكما أن أصالة العموم تقتضي الاستخدام كذلك أصالة عدم الاستخدام أيضا أصل عقلائي في باب المحاورات يقتضى تخصيص العام ، فيتعارض الأصلان من الطرفين ، وحينئذ لا طريق إلى اثبات تعلق الاحكام السابقة على قوله : « وبعولتهن » الخ بمطلق المطلقات ، إذ الطريق منحصر بأصالة العموم الساقطة بالمعارضة ، هذا.

ولكن الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى : عدم جريان أصالة عدم الاستخدام.

اما أولا : فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازية العام المخصص ، واما بناء على الحقيقة ، فلا يلزم استخدام أصلا ، حتى تجرى أصالة عدم الاستخدام. وذلك : لان رجوع الضمير إلى المطلقات الرجعية لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير ، وما لم يوجب المغايرة لا يتحقق في الكلام استخدام. وحصول المغايرة بين المرجع والضمير لا بد ان تكون بأحد الوجوه الموجبة للمغايرة ، كما إذا كان المراد من المرجع بعض معاني المشترك وكان المراد من الضمير بعضا آخر ، أو يكون المراد من المرجع المعنى الحقيقي للفظ والمراد من الضمير المعنى المجازى ، أو غير ذلك من أسباب المغايرة. وفي المقام بناء على كون العام المخصص حقيقة في الباقي لا يتحقق شيء من أسباب المغايرة ، فإنه لا مغايرة بين معنى المطلقات المذكورة في صدر الآية ، وبين المطلقات الرجعيات التي يرجع الضمير إليها بعد ما كان استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازية ، إذ المطلقات موضوعة للطبيعة وكان العموم والشمول في مصب العموم مستفادا من دليل الحكمة على ما تقدم تفصيله ، والمعنى الموضوع له للفظ المطلقات محفوظ في المطلقات الرجعيات ، وليس المطلقات الرجعيات معنى مجازيا لمعنى مطلق المطلقات ، ولا ان المطلقات من المشتركات اللفظية حتى يكون المطلقات الرجعيات أحد المعاني ، فأين المغايرة بين

ص: 552

المرجع والضمير حتى يتحقق الاستخدام؟ فتأمل.

واما ثانيا : فلان استفادة الرجعيات في قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » ليس من نفس الضمير ، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل وهو قوله تعالى : « أحق بردهن » حيث إنه معلوم من الخارج ان ما هو الأحق بالرد هو خصوص الرجعيات ، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيات ، بل رجع إلى نفس المطلقات وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، فأين الاستخدام المتوهم؟.

والحاصل : ان الاستخدام انما يتوهم ثبوته في المقام لو كان المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات. واما لو كان المراد من الضمير هو المطلقات ، وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل من باب تعدد الدال والمدلول فلا يلزم استخدام أصلا ، فتأمل.

واما ثالثا : فلان الأصول العقلائية انما تجرى عند الشك في المراد ، وفي المقام لا شك في المراد من الضمير وان المراد منه المطلقات الرجعيات ، وبعد العلم بما أريد من الضمير لا تجرى أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العام.

فان قلت :

ان عدم الاستخدام يقتضى أمرين : ( الأول ) ان المراد من الضمير هو المطلقات الرجعيات ( الثاني ) ان المراد من العام هو المعنى الخاص ليتطابق المرجع والضمير. وأصالة عدم الاستخدام وان كانت لا تجرى في الامر الأول لعدم الشك في المراد من الضمير ، الا انها تجرى لاثبات الامر الثاني ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، وحيث كان لازم عدم الاستخدام هو كون المراد من العام هو الخاص ، فأصالة عدم الاستخدام تجرى لاثبات هذا اللازم.

قلت :

إرادة الخاص من العام لازم عدم الاستخدام ، فلا بد أولا من اثبات عدم الاستخدام بوجه ولو بالأصل ، ليترتب عليه لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام ،

ص: 553

وبعد عدم جريان أصالة عدم الاستخدام لاثبات أصل الاستخدام الذي هو مؤدى الأصل ، للعلم بالمراد من الضمير ، كيف يمكن اثبات لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام؟ وأي ربط لهذا بكون مثبتات الأصول اللفظية حجة؟ فان معنى كون مثبتات الأصول حجة هو انه لو ثبت الملزوم ثبت اللازم ، والكلام في المقام في أصل ثبوت الملزوم ، وذلك واضح.

فتحصل : ان أصالة عدم الاستخدام لا تجرى حتى تعارض أصالة العموم ، بل الأصل في طرف العموم يجرى بلا معارض.

ودعوى : ان المقام يكون من باب احتفاف الكلام بما يصح للقرينية - لان رجوع الضمير إلى بعض افراد المطلقات يصلح ان يكون قرينة على أن المراد من العام هو الخاص ، فيكون الكلام مجملا لا يجرى فيه أصالة العموم - ضعيفة ، فان ضابط احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية هو ان يكون ذلك الصالح مجملا ، اما بحسب مفهومه الافرادي ، واما بحسب مفهومه التركيبي ، أي يوجب اجمال جملة الكلام وان كان مفهومه الافرادي مبينا.

وبعبارة أوضح : كان ( الصالح ) مما يصح ان يعتمد عليه المتكلم في مقام بيان مراده ولم يخرج بذلك عن طريق المحاورة ، والضمير المتعقب للعام الراجع إلى بعض افراده لايكون كذلك ، لأنه معلوم المراد ، ولا يوجب اجمال العام ، فتأمل ، فان ذلك لا يخلو عن اشكال.

المبحث السادس :

في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة.

كقوله تعالى : (1) « والذين يرمون المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا كل واحد منهم مأة جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا ». وقد اختلفوا في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، أو الجميع ،

ص: 554


1- النور : 4

أو التوقف ، إلى أقوال. والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول ، وبين ما إذا حذف فيها الموضوع. ففي الأول يرجع إلى خصوص الأخيرة. وفي الثاني يرجع إلى الجميع. مثال الأول : ما إذا قال أكرم العلماء وأضف الشعراء واهن الفساق الا النحوي ، أو قال أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات الا النحوي. ومثال الثاني : ما إذا قال أكرم العلماء والشعراء والسادات الا النحوي.

المبحث السابع :

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف.

ونعني بالمفهوم الموافق : هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق في الكيف من الايجاب والسلب ، كقوله تعالى : « ولا تقل لهما أف ». وكقولك : أكرم خدام العلماء. حيث إن الأول يدل على حرمة الضرب والايذاء الذي يكون أشد من قول « أف ». والثاني ، يدل على وجوب اكرام العلماء. ودلالتهما على ذلك انما تكون بمقدمة عقلية قطعية ، وهي أولوية حرمة الضرب من حرمة قول « أف » ، وأولوية اكرام العلماء من اكرام خدامهم. بل يمكن ان يكون ذكر « أف » في الآية المباركة من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجلي فتكون دلالة الآية على حرمة الايذاء الشديد من المداليل الالتزامية اللفظية ، لا من المداليل الالتزامية العقلية. نعم في مثل أكرم خدام العلماء تكون الدلالة عقلية ، لمكان الأولوية القطعية.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يختلف بحسب الموارد. فتارة : يكون استفادة المفهوم من باب المقدمة العقلية القطعية. وأخرى : يكون من باب دلالة نفس اللفظ ، وذلك في كل مورد يكون ذلك المنطوق للتنبيه به على العام.

ثم إن هنا قسما آخر لم يصطلحوا عليه بالمفهوم ، وهو ما إذا استفيد حكم غير المذكور من علة المذكور ، كقوله ( الخمر حرام لأنه مسكر ) حيث يستفاد منه حكم النبيذ المسكر ، وهذا هو المعبر عنه بمنصوص العلة. فيكون المفهوم الموافق مخصوصا بما إذا كان ثبوت الحكم لغير المذكور أولى من ثبوته للمذكور ، أو كان مساويا لا من

ص: 555

جهة العلة المنصوصة المعبر عنه بلحن الخطاب. ومنصوص العلة هو ما إذا كان مساويا ، والامر في ذلك سهل إذ يرجع ذلك إلى الاصطلاح. والمقصود في المقام : هو بيان صورة تعارض العام مع المفهوم الموافق والمساوي الذي هو مورد منصوص العلة ، وتعارض العام مع المفهوم المخالف.

فنقول : اما تعارض العام مع المفهوم الموافق ، فقد نقل الاتفاق على تقديم المفهوم على العام وتخصيصه به ، ولو كانت النسبة بين المفهوم والعام العموم من وجه ، من دون لحاظ النسبة بين المنطوق والعام ، هذا.

ولكن التحقيق ، هو ان يقال : انه في المفهوم الموافق لا يمكن ان يكون المفهوم معارضا للعام من دون معارضة منطوقه ، لأنا فرضنا ان المفهوم موافق للمنطوق وان المنطوق سيق لأجل الدلالة به على المفهوم ، ومع هذا كيف يعقل ان يكون المنطوق أجنبيا عن العام وغير معارض له؟ مع كون المفهوم معارضا له. فالتعارض في المفهوم الموافق انما يقع ابتداء بين المنطوق والعام ، ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام. ففي مثل قوله : أكرم خدام العلماء ، ولا تكرم الفساق ، يكون التعارض بين نفس وجوب اكرام خدام العلماء وبين حرمة اكرام الفاسق بالعموم من وجه ، ويتبعه التعارض بين المفهوم وهو وجوب اكرام نفس العلماء وبين العام وهو حرمة اكرام الفساق. وكذا في مثل قوله تعالى : « لا تقل لهما أف » مع قوله : اضرب كل أحد ، فان قوله : اضرب كل أحد يدل بالأولوية على جواز قول « أف » لكل أحد ، فيعارض هذا العام بما له من المفهوم مع قوله « لا تقل لهما أف » ويتبعه المعارضة لمفهوم قوله : « لا تقل لهما أف » وهو حرمة ضرب الأبوين ، بالعموم المطلق.

وبالجملة : كلما فرض التعارض بين المفهوم الموافق والعام ، فلامحة يكون التعارض بين المنطوق والعام ، ولا بد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام. إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان التعارض بين المنطوق والعام تارة : يكون بالعموم المطلق مع كون المنطوق أخص ، وأخرى : يكون بالعموم من وجه. وما كان

ص: 556

بالعموم المط فتارة : يكون المفهوم أيضا أخص مط من العام ، وأخرى : يكون أعم من وجه. ولا منافاة بين كون المنطوق أخص مط من العام وكون المفهوم أعم من وجه ، كما في مثل قوله : أكرم فساق خدام العلماء ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، فان النسبة بينهما يكون بالعموم المط ، مع أن بين مفهوم قوله : أكرم فساق خدام العلماء ( وهو اكرام فساق نفس العلماء الملازم لاكرام نفس العدول من العلماء بالألوية القطعية ) وبين العام ( وهو قوله : لا تكرم الفاسق ) يكون العموم من وجه ، إذ المفهوم حينئذ يكون اكرام مط العالم عادلا كان أو فاسقا.

فان كان بين المنطوق والعام العموم المط فلا اشكال في تقديم المنطوق على العام أو تخصيصه به على قواعد العموم والخصوص ، ويلزمه تقديم المفهوم الموافق على العام مطلقا سواء كان بين المفهوم والعام العموم المط أو العموم من وجه. أما إذا كان العموم المط ، فواضح. وأما إذا كان العموم من وجه ، فانا قد فرضنا ان المفهوم أولى في ثبوت الحكم له من المنطوق وأجلى منه ، وان المنطوق سيق لأجل إفادة حكم المفهوم ، فلا يمكن ان يكون المنطوق مقدما على العام المعارض له مع أنه الفرد الخفي والمفهوم لا يقدم عليه مع أنه الفرد الجلي.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة ولا يلاحظ النسبة بين المفهوم والعام ، بل تلاحظ النسبة بين المنطوق والعام ، فلو قدم المنطوق على العام لأخصيته فلامحة يقدم المفهوم عليه مط ، لوضوح انه لا يمكن اكرام خادم العالم الفاسق وعدم اكرام العالم الفاسق في المثال المتقدم ، وذلك واضح. وبذلك يظهر الخلل فيما أفيد في المقام ، فراجع. هذا كله في المفهوم الموافق.

واما المفهوم المخالف : فقد وقع الخلط فيه أيضا في جملة من الكلمات ، حتى أن الشيخ (1) ( قده ) توقف في تقديم المفهوم على العام أو العام عليه في آية النباء ،

ص: 557


1- فالمحكى عن الشيخ قدس سره في التقريرات : « واما مفهوم المخالفة فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العام وعدم التصرف في ظاهر الجملة الشرطية والاخذ بظهورها ، لا اشكال في تخصيص العام به كما عرفت وانما الاشكال في أن الجملة الشرطية أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء بينهما أو العام أظهر في إرادة الافراد منه ، فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين ، ربما يقال ان العام أظهر دلالة في شموله لمحل المعارضة كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى خبر العدل الظني ، فان قضية عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظني ، ومقتضى المفهوم ثبوته ، وعموم التعليل أظهر ولا سيما إذا كان العام متصلا بالجملة الشرطية. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطية كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم. وبالجملة : فالانصاف ان ذلك تبع الموارد ، ولم نقف على ضابطة نوعية يعتمد عليها في الأغلب كما اعترف بذلك سلطان المحققين. » ( مطارح الأنظار ، مباحث العام والخاص. ص 208 ). وذكر قدس سره في الفرائد : « الثاني ( مما أورد على دلالة الآية بما ليس قابلا للذب عنه ) ما أورده في محكى العدة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من انا لو سلمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : ان مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وان كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم والترجيح مع ظهور التعليل. » ثم ذكر بعد سطور في جواب لا يقال ، بقوله : « .. لأنا نقول ، ما ذكره أخيرا من أن المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل مسلم الا انا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر الواحد الغير العلمي وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم والحكم بخلو الجملة الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل ، واليه أشار في محكى العدة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل والتعليل دليل ، وليس في ذلك منافاة لما هو الحق وعليه الأكثر من جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك أولا بالمخصص المنفصل ، ولو سلم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلة والمعلول ، فان الظاهر عند العرف ان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص .. وذكر في مقام الجواب عن الايراد الأول من الايرادات القابلة للدفع ، بقوله : « ان المراد بالنبأ في المنطوق مالا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخص مطلقا من تلك الآيات ( أي الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ) فيتعين تخصيصها بناء على ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوى من ظهور العام في العموم ، واما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعللة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء فراجع. » ( فرائد الأصول ، مباحث حجية الظن ، ص 66 - 65

حيث أفاد ان مفهوم قوله تعالى : « ان جائكم فاسق بنبأ » الخ معارض بعموم التعليل ، وهو قوله تعالى : « لئلا تصيبوا قوما بجهالة » لان المفهوم يدل على حجية قول العادل الذي لا يفيد العلم ، وعموم التعليل يدل على عدم اعتبار قول من لم يفد العلم ، لأنه من إصابة القول بجهالة ، سواء كان ذلك قول العادل أو لم يكن. والنسبة بين المفهوم والتعليل العموم المطلق ، لان المفهوم لا يعم الخبر المفيد للعلم

ص: 558

لخروج ذلك عن الآية بالتخصيص ، فالمفهوم مختص بالخبر العدل الغير المفيد للعلم ، والتعليل يعم خبر العدل وغيره. ومقتضى القاعدة تخصيص عموم التعليل بالمفهوم ، الا ان قوة التعليل وابائه عن التخصيص يمنع عن ذلك. وهذا بخلاف الآيات الناهية عن العمل بالظن ، فان النسبة بينها وبين المفهوم وان كانت العموم المطلق أيضا ، الا انه لا مانع من تخصيص تلك الآيات بالمفهوم لعدم اباء تلك الآيات عن التخصيص. هذا حاصل ما افاده الشيخ ( قده ) في تعارض المفهوم المخالف مع العام في آية النبأ.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك ، لان التعليل مهم بلغ من القوة لايكون أقوى من المفهوم الخاص ، والآيات الناهية عن العمل بالظن أيضا آبية عن التخصيص ، وكيف يمكن تخصيص مثل قوله تعالى : « ان الظن لا يغنى من الحق شيئا »؟.

فالانصاف : انه في مثل الآية لا يلاحظ النسبة ، بل المفهوم يكون مقدما على الآيات الناهية عن العمل بالظن وعن عموم التعليل بالحكومة ، لان خبر العدل بعد ما صار حجة يخرج عن كونه ظنا وعن كونه إصابة القوم بالجهالة ، ويكون علما ، كما حققناه في محله. فينبغي اخراج مثل الآية الشريفة عما هو المبحوث عنه في المقام : من تعارض المفهوم المخالف والعام ، لكون المفهوم حاكما على العام. ولو قطع النظر عن الحكومة ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام. ولا يصغى إلى أن العام في مثل الآية يكون متصلا بالقضية الشرطية فلا تكون القضية ظاهرة في المفهوم ، لصلاحية كل من القضية الشرطية والعام للتصرف في الآخر ، بخلاف ما إذا لم يكن العام متصلا بالقضية الشرطية ، حيث إن العام يخصص بالمفهوم ولكن لا مط ، بل يختلف باختلاف الموارد ، فرب مورد يكون العام قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وربما ينعكس الامر ويكون ظهور القضية في المفهوم قرينة على التصرف في العام وتخصيصه به.

هذا حاصل ما افاده بعض الاعلام في باب تعارض المفهوم الخالف مع العام.

ولكن الانصاف : ان ذلك كله خلاف التحقيق ، بل التحقيق هو ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مط من العام يقدم على العام ، سواء كان بين

ص: 559

المنطوق والعام العموم المط ، أو العموم من وجه. ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل مهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام وربما يقدم المفهوم في مورد التعارض ، من غير فرق في ذلك أيضا بين ان يكون بين المنطوق والعام العموم المط أو العموم من وجه.

والحاصل : ان الفرق بين المفهوم الموافق والمخالف من وجهين :

الأول :

ان في المفهوم الموافق يلاحظ التعارض والعلاج أولا بين المنطوق والعام ، ويتبعه العلاج بين المفهوم والعام ، بخلاف المفهوم المخالف ، فان التعارض وعلاجه أولا وابتداء انما يكون بين المفهوم والعام ، إذ المنطوق ربما لايكون معارضا أصلا.

الثاني :

ان المنطوق في المفهوم الموافق لو قدم على العام لأخصيته ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام مط ولو كان نسبته مع العام العموم من وجه كما عرفت. بخلاف المفهوم المخالف ، فإنه لو كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام على المفهوم في مورد التعارض ويخصص المفهوم به ، إذ المفهوم العام قابل للتخصيص ولا تخرج القضية بذلك عن كونها ذات مفهوم ، وذلك كله واضح.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان المفهوم المخالف ، مهما كان أخص من العام يقدم على العام ويخصص به مط ، سواء كان العام متصلا بالقضية التي تكون ذات مفهوم أو منفصلا ، ولا يصلح العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وذلك لما تقدم منا في باب المفاهيم : من أن العبرة في كون القضية ذات مفهوم هو ان يكون القيد راجعا إلى الحكم ، لا إلى الموضوع.

وبعبارة أخرى : يكون التقييد في رتبة الاسناد ، لا في الرتبة السابقة على الاسناد ، فإنه لو كان التقييد قبل الاسناد كان القيد راجعا إلى الموضوع وتكون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع ، بخلاف ما إذا كان التقييد في رتبة الاسناد ،

ص: 560

فان القيد يكون ح راجعا إلى الحكم ويكون من تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم تفصيله في باب المفاهيم.

والقضية الشرطية مثلا بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعا إلى الحكم ، حيث إن القضية الشرطية وضعت لتقييد جملة بجملة - على ما عرفت سابقا - فتكون القضية الشرطية بنفسها ظاهرة في كونها ذات مفهوم. وأصالة العموم في طرف العام لا تصلح ان تكون قرينة على كون القيد راجعا إلى الموضوع ، لان العموم انما يستفاد من المقدمات الحكمة الجارية في مصب العموم ، وظهور القضية في المفهوم يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في طرف العام ، فيكون ظهور القضية في المفهوم حاكما على ظهور العام في العموم ، لان كون القضية ذات مفهوم وان كان أيضا بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، الا ان مقدمات الحكمة الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص. والعام لا يصلح لان يكون قرينة على كون القضية الشرطية سيقت لفرض وجود الموضوع ، لان كون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع يحتاج إلى دليل يدل عليه ، بعد ما لم يكن الشرط مما يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا. هذا إذا كان المفهوم أخص مط من العام.

وأما إذا كان أعم من وجه : فيعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم المفهوم في مورد الاجتماع ، وربما يقدم العام ، فان العام لا يزيد على الدليل اللفظي العام من حيث كونه قابلا للتخصيص ، ولا تخرج القضية عن كونها ذات مفهوم عند تقديم العام ، كما كانت تخرج عن ذلك فيما إذا كان المفهوم أخص ، بل القضية بعد تكون ذات مفهوم ، غايته انه مخصص ، وذلك واضح.

المبحث الثامن :

انه لا ينبغي الاشكال في جواز تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري ، ومجرد كون الكتاب قطعي الصدور لا يمنع عن ذلك ، بعد ما كان التعارض بين ظهور الكتاب الذي هو ظني وأدلة التعبد بالخبر الواحد ، وحكومة أدلة التعبد على أصالة الظهور. وما ورد من طرح الاخبار المخالفة للكتاب لا يشمل المخالفة بالعموم والخصوص ، فان ذلك ليس من المخالفة عرفا وذلك كله واضح.

ص: 561

المقصد الخامس : في المطلق والمقيد

اشارة

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

الاطلاق هو الارسال ، يقال : أطلق الدابة - أي أرسلها وأرخى عنانها - في مقابل تقييدها. والظ ان لايكون للأصوليين اصطلاح خاص في الاطلاق والتقييد غير ما لهما من المعنى اللغوي والعرفي. كما أن اختلاف المط من حيث كونه : شموليا تارة ، وبدليا أخرى ، انما هو من ناحية الحكم. وليس الاطلاق الشمولي مغايرا للاطلاق البدلي ، بل الاطلاق في الجميع بمعنى واحد وهو الارسال ، غايته ان الحكم الوارد على النكرة أو الطبيعة تارة : يقتضى البدلية كالنكرة الواقعة في سياق الاثبات والحكم الوارد على الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ، حيث إن نتيجة البدلية في المقام الامتثال والاكتفاء بفرد واحد. وأخرى : يقتضى الشمول كالنكرة أو الطبيعة الواقعة في حيز النفي ، أو الطبيعة الواقعة في حيز الاثبات بلحاظ مط الوجود ، فالبدلية والشمولية انما يستفادان من كيفية تعلق الحكم بالنكرة والطبيعة مع كون الاطلاق في الجميع بمعنى واحد.

وبذلك يظهر النظر في تعريف المط : بأنه ما دل على شايع في جنسه ، فان التعريف بذلك ينطبق على الاطلاق المستفاد من النكرة ، ولا ينطبق على الاطلاق الشمولي ، وان أمكن توجيه التعريف على وجه ينطبق على كل من قسمي الاطلاق ، الا انه يرد على التعريف على كل حال ان الظاهر منه كون الاطلاق والتقييد من صفات اللفظ ، حيث إن المراد من الموصول هو اللفظ مع أن الظاهر هو كون الاطلاق والتقييد من صفات المعنى ، كالكلية والجزئية ، واتصاف اللفظ بهما

ص: 562

انما يكون بالتبع والعرض والمجاز. والامر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

ثم إن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الافرادية كذلك يردان على الجمل التركيبية. ومعنى اطلاق الجملة هو ارسالها وعدم تقييدها بما يوجب ظهورها في خلاف ما تكون ظاهرة فيه لولا تقييدها بذلك ، فإنه قد تكون الجملة التركيبية لو خليت ونفسها ظاهرة في معنى ، وكان تقييدها موجبا لانقلاب ظهورها كما في الجمل الطلبية ، فان اطلاق الامر والطلب يقتضى النفسية العينية التعيينية ، والتقييد يوجب الغيرية أو التخييرية أو الكفائية ، على اختلاف كيفية التقييد ، وكالعقد فان اطلاقه يقتضى نقد البلد أو التسليم والتسلم ، وتقييده يقتضى خلاف ذلك.

والفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية والجمل التركيبية ، هوان اطلاق المفاهيم الأفرادية يقتضى التوسعة ، وتقييدها يقتضى التضييق. بخلاف اطلاق الجمل التركيبية ، فان اطلاقها يقتضى التضييق ، وتقييدها يقتضى التوسعة.

بل ربما يكون اطلاق الجملة موجبا لتضييق مفهوم مفرداتها ، بحيث لو لم تكن المفردات واقعة في ضمن الجملة لكان مفهومها موسعا ، الا ان وقوعها في ضمن ذلك يوجب تضييق مفهومها. وهذا كما في كون اطلاق العقد يقتضى نقد البلد ، فان الدرهم لولا وقوعه في ضمن العقد من جعله ثمنا أو مثمنا كان مفهومه عاما يعم كل درهم نقد البلد وغيره ، الا انه لما وقع في ضمن العقد اقتضى اطلاقه نقد البلد. وليس ذلك لأجل انصراف الدرهم إلى نقد البلد ، بل لأجل اطلاق العقد وعدم تقييده بالأعم من نقد البلد ، والا لكان الاقرار بالدرهم موجبا للانصراف إلى نقد البلد ، بحيث ليس له التفسير بغيره ، والظ انه لم يقل به أحد.

وعلى كل حال : لا اشكال في أن الجمل التركيبية تتصف بالاطلاق والتقييد ، كاتصاف المفاهيم الأفرادية بهما. ومحل الكلام في مبحث المط والمقيد انما هو في المفاهيم الأفرادية ، واما الجمل التركيبية فليس لها مبحث مخصوص ، وليس لاطلاقها ضابط كلي ، بل الجمل التركيبية تختلف حسب اختلاف المقامات. والبحث في باب المفاهيم كلها يرجع إلى البحث عن اطلاقها وتقييدها ، لما تقدم من

ص: 563

ان الضابط في كون القضية ذات مفهوم ، هو رجوع الشرط أو الوصف أو الغاية إلى الحكم ، فيكون من تقييد الجملة الطلبية.

الامر الثاني :

قد عرفت ان الاطلاق هو بمعنى الارسال والشمول والمراد من الشمول هو شمول الطبيعة لما يندرج تحتها وينطبق عليها انطباق الكلي على مصاديقه. فالمعاني الحرفية لا تتصف بالاطلاق والتقييد ، لان المعاني الحرفية وان قلنا : بان الموضوع له فيها عام ، الا ان عموم الموضوع له في الحروف يكون بمعنى آخر غير عموم الموضوع له في الأسماء ، فان معنى عموم الموضوع له في الأسماء هو كون المعنى قابل الصدق على كثيرين ، وهذا انما يكون إذا كان تحت ذلك المعنى : أنواع ، أو أصناف ، أو افراد ، يكون ذلك المعنى منطبقا عليها انطباق الطبيعي على مصاديقه ، وهذا يحتاج إلى أن يكون للمعنى تقرر في وعاء العقل والتصور ، والمعاني الحرفية - على ما حققناه في محله - لايكون لها تقرر الا في موطن الاستعمال ، وتكون ايجادية محضة ، فالكلية في الحروف تكون بمعنى آخر ، قد تقدم بيانه عند البحث عن المعاني الحرفية. وذلك المعنى غير قابل لورود الاطلاق والتقييد عليه ، وذلك واضح كوضوح ان الاعلام الشخصية لا تتصف بالاطلاق والتقييد بالمعنى المتقدم ، وانما يكون اطلاقها باعتبار الطوارئ والحالات ، إذ ليس تحت الاعلام افراد قابلة الانطباق عليها.

وحينئذ ينبغي خروج الاعلام عن محل الكلام ، كخروج الجمل التركيبية ، فان محل الكلام في المقام انما هو في الاطلاق القابل لان يكون جزء مدلول اللفظ - على ما ينسب إلى المشهور في مقابل مقالة سلطان المحققين - على ما سيأتي تحقيقه. وفي الاعلام لا يمكن ان يتوهم دخول الاطلاق باعتبار الطوارئ والحالات في مدلول اللفظ ، بحيث تكون التسوية بين القيام والعقود جزء مدلول لفظ زيد ، فان هذا ضروري الفساد ، لوضوح ان لفظ زيد موضوع للذات المشخصة مع قطع النظر عن الحالات والطواري ، واطلاقها لذلك انما يكون بمقدمات الحكمة. فالاطلاق المبحوث عنه بين المشهور وسلطان المحققين في كونه جزء مدلول اللفظ أو عدم كونه جزء مدلول اللفظ ، انما هو في العناوين الكلية القابلة الصدق على

ص: 564

كثيرين ، كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية.

الامر الثالث :

لا اشكال في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، لان تقابل السلب والايجاب انما يكون بين الوجود والعدم المحمولين على الماهيات المتصورة ، لان الماهية المتصورة في العالم اما ان يحمل عليه الوجود ، واما ان يحمل عليها العدم ، ولا يمكن اجتماعهما في الماهية ولا ارتفاعهما عنها. والاطلاق والتقييد ليسا كذلك ، لامكان ارتفاعهما عن المحل الغير القابل لهما ، كما في الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد ورود الامر ، كقصد التقرب ، والعلم بالامر ، والايصال في المقدمة ، فإنه في جميع هذا لا اطلاق ولا تقييد ، فإذا امتنع التقييد بأحد هذه الأمور ( كما حقق في محله ) امتنع الاطلاق بعين امتناع التقييد ، لان الاطلاق ليس الا عبارة عن تساوى وجود ذلك القيد وعدمه ، فإذا امتنع لحاظ ذلك القيد امتنع لحاظ التسوية أيضا وذلك واضح.

فالتقابل بين الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يكون تقابل السلب والايجاب ، فلم يحتمله أحد. فيدور الامر ح بين ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، أو تقابل التضاد. فبناء على ما ينسب إلى المشهور : من أن الاطلاق جزء مدلول اللفظ ولا نحتاج في استكشاف الاطلاق إلى مقدمات الحكمة ، يكون الاطلاق ح أمرا وجوديا ، ويكون التقابل بينهما تقابل التضاد. وبناء على مسلك السلطان : من أن الاطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة وليس جزء مدلول اللفظ ، يكون الاطلاق ح أمرا عدميا ، ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وعلى كلا المسلكين لا بد ان يردا على المحل القابل لهما ، ويمكن ح ارتفاعهما بانتفاء المحل القابل ، وان كان في المحل القابل لا يمكن ان يرتفعا ، فلا يمكن ان يكون الانسان لا أعمى ولا بصيرا ، وان كان الجدار مثلا لا أعمى ولا بصيرا ، لعدم قابلية الجدار لذلك.

والحاصل : ان التقابل بين القيام واللاقيام تقابل السلب والايجاب ، لان القيام هو بنفسه من الماهيات المتصورة مع قطع النظر عن المحل ، فهو اما موجود واما معدوم ، وقد عرفت : ان التقابل بين الوجود والعدم تقابل السلب والايجاب ، و

ص: 565

التقابل بين قيام زيد ولا قيامه تقابل العدم والملكة ، فان عدم قيام زيد يكون من العدم النعتي ، كما أن قيام زيد يكون من الوجود النعتي.

والتقابل بين الوجود والعدم النعتي دائما يكون تقابل العدم والملكة.

والتقابل بين القيام والعقود تقابل التضاد ، لان تقابل التضاد يكون بين الوجوديين.

والتقابل بين الاطلاق والتقييد يدور امره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة ، أو من تقابل التضاد. وسيأتي ما هو الحق انشاء اللّه.

الامر الرابع :

في تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب (1) إلى السلطان : من كون الاطلاق يتوقف على مقدمات الحكمة كما هو مقالة السلطان ، أو انه لا يتوقف كما هو مقالة المشهور.

فنقول : انه لا اشكال في أن الاختلاف لا يرجع إلى الاختلاف في معنى الاطلاق ، بحيث يكون الاطلاق عند المشهور غير الاطلاق عند السلطان ، بل ليس للاطلاق الا معنى واحد ، وهو الارسال أو تساوى كل خصوصية مع عدمها ، بحيث يكون معنى ( أعتق رقبة ) في قوة قولنا : ( أي رقبة ) وهذا مما لا نزاع فيه ولا اشكال. وانما النزاع في أن هذه التسوية هل هي جزء مدلول اللفظ؟ أو انها تستفاد من مقدمات الحكمة؟ والحق انها تستفاد من مقدمات الحكمة. ولتوضيح ذلك ينبغي تمهيد مقدمة.

وهي انهم قسموا الماهية إلى : الماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، والماهية بشرط شيء. واللابشرط وبشرط لا تستعمل بمعنيين.

الأول : هو ما يذكرونه في باب الفرق بين الجنس والفصل والمادة

ص: 566


1- هذا ما افاده سلطان المحققين قدس سره في حاشيته على المعالم في ذيل قول صاحب المعالم « فلانه جمع بين الدليلين .. » ، في مباحث المطلق والمقيد ص 155 ، « طبعت هذه الحاشية في المعالم المطبوع سنة 1378. المكتبة العلمية الاسلامية »

والصورة ، والفرق بين المشتق ومبدء الاشتقاق. والمراد من بشرط لا في هذا الباب هو لحاظ الشيء بشرط لا عما يتحد به ، أي لحاظ الجنس بشرط عدم اتحاده مع الصورة ، وكذا لحاظ الصورة بشرط عدم اتحادها مع الجنس ، وهما بهذا الاعتبار آبيان عن الحمل ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على ثالث. ويقابل هذا اللحاظ لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه ، وكذا الصورة. وهما بهذا الاعتبار غير آبيين عن الحمل ، ويصح حمل أحدهما على الآخر ، وحملهما على ثالث. وكذا الكلام في باب المشتق ومبدئه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث المشتق. والمراد من بشرط لا ولا بشرط في تقسيم الماهية غير هذا المعنى من لا بشرط وبشرط لا ، بل اللابشرطية والبشرط اللائية في تقسيم الماهية انما يكون باعتبار الطوارئ والخصوصيات اللاحقة للماهية.

وتفصيل ذلك : هو ان الماهية تارة : تلاحظ بشرط عدم انضمام شيء من الخصوصيات إليها ، بل تكون مجردة عن كل ما عداها من الطوارئ والاعراض ، وهي بهذا المعنى تكون من الكلية العقلية ولا موطن لها الا العقل ، ويمتنع صدقها على الخارجيات وحمل شيء من الخارجيات عليها ، بل محمولاتها تكون من المعقولات الثانوية كقولنا : الانسان نوع ، أو حيوان ناطق ، وما شابه ذلك من المحمولات العقلية ، لوضوح انه لا وجود للماهية المجردة عن كل خصوصية ، وهذه هي الماهية بشرط لا.

وأخرى : تلاحظ الماهية مقيدة بخصوصية خاصة : من العلم ، والايمان ، والعدالة ، وغير ذلك من الخصوصيات الخارجية اللاحقة للماهيات ، وهذه هي الماهية بشرط شيء ، وهذا مما لا اشكال فيه ولا كلام. وانما الاشكال والكلام في معنى الماهية لا بشرط ، والفرق بينها وبين اللابشرط المقسمي ، فإنه قد اضطربت كلمات الاعلام في ذلك. فمنهم من فسر اللابشرط القسمي بما يرجع إلى الكلي العقلي ، وجعل اللابشرط المقسمي الكلي الطبيعي. ومنهم من جعل الكلي الطبيعي اللابشرط القسمي. وينبغي أولا ان يقطع النظر عما قيل في المقام ، ويلاحظ ان المعنى المتصور لللابشرط في مقابل بشرط لا وبشرط شيء ما هو؟ حيث إن

ص: 567

البحث في المقام عقلي وأمره راجع إلى ما يتصوره العقل.

فنقول : قد عرفت الاعتبارين للماهية ، وان الماهية تارة : تكون مجردة عن كل خصوصية ، وهي الكلي العقلي. وأخرى : تكون منضمة إلى خصوصية خاصة ، هي الماهية المشروطة والمقيدة. والمعنى الثالث للماهية الذي يكون في مقابل هذا هو الماهية المرسلة المطلقة ، أي الماهية التي تكون محفوظة في جميع الخصوصيات والطواري المتقابلة والقدر المشترك الموجود في جميع ذلك ، وهو ذات الرقبة مثلا المحفوظة في ضمن الايمان ، والكفر ، والعلم ، والجهل ، والرومية ، والزنجية ، وغير ذلك من الخصوصيات والطواري ، فإنه لا اشكال في أن هناك ما يكون قدرا مشتركا بين جميع تلك الخصوصيات القابل لحمل كل خصوصية عليه كما يقال : الرقبة مؤمنة ، والرقبة كافرة ، وكذا رومية ، أو زنجية ، وغير ذلك. وهذا المعنى هو الذي يصح ان يجعل مقابلا للمعنيين الآخرين ، ويستقيم حينئذ تقابل الأقسام ويتميز بعضها عن بعض.

ومنه يتضح فساد اخذ الارسال قيدا في معنى اللابشرط القسمي ، فإنه لا معنى لاخذ الارسال قيدا ، إذ المراد من الارسال ان كان بمعنى التجرد يرجع حينئذ إلى بشرط لا ولا يكون قسما آخر ، وان كان المراد من الارسال هو عدم صلاحية الماهية للتقييد بشيء ، فهذا مما لا يرجع إلى محصل.

والحاصل : انه لا اشكال في أن التقسيم لا بد ان يكون على وجه لا تتداخل فيه الأقسام بعضها مع بعض ، فلا بد ان يكون لكل من الماهية بشرط شيء ، والماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، معنى يختص به ولا يرجع إلى الآخر. وقد عرفت معنى الماهية بشرط لا ، وهو بشرط التجرد عن جميع الخصوصيات الخارجية ، وان ذلك يكون كليا عقليا. وعرفت أيضا معنى الماهية بشرط شيء ، وهو بشرط الانضمام إلى خصوصية خاصة من الخصوصيات الخارجية أو الذهنية ، وان ذلك هو معنى التقييد والاشتراط. وبعد ذلك لا بد ان يكون للماهية لا بشرط معنى لا يرجع إلى الماهية بشرط ، لا ، ولا إلى الماهية بشرط شيء ، والا يلزم تثنية الأقسام لا تثليثها.

والمعنى القابل لان يكون للماهية لا بشرط - غير الماهية بشرط التجرد وغير

ص: 568

الماهية بشرط عدم التجرد - هو ما ذكرنا. وليس المراد من لا بشرط هو اللابشرطية عن البشرط اللائية والبشرط الشيئية ، بحيث يكون بشرط لا قسما من لا بشرط ، وبشرط شيء قسما آخر ، وكان لا بشرط يجتمع مع كل منهما ، فإنه يكون حينئذ لا بشرط مقسما لهما لا قسيما ، والمفروض ان الماهية لا بشرط القسمي قسيم للماهية بشرط لا وللماهية بشرط شيء لا انها مقسم لهما بحيث صح اجتماعه مع كل منهما ، فان هذا من شان اللابشرط المقسمي ، لا اللابشرط القسمي. فلا بد ان يكون لللابشرط القسمي معنى لا يجامع بشرط لا ولا بشرط شيء.

وحاصل ذلك المعنى : هو الماهية المرسلة السارية في جميع الخصوصيات والطوارئ المجامعة لها لا على نحو يكون الارسال قيدا لها ، حتى يقال : ان ذلك يرجع إلى بشرط لا أو بشرط شيء - كما قيل - فان ذلك ضروري البطلان ، فان المراد من الماهية المرسلة ، هو نفس الماهية وذات المرسل الساري في جميع الافراد والمحفوظ مع كل خصوصية والموجود مع كل طور.

وليس الفرق بين هذا المعنى من اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي اعتباريا - كما قيل - فإنه لا معنى لكون الفرق بينهما اعتباريا مع كون بشرط لا وبشرط شيء من اقسام اللابشرط المقسمي وهما يضادان اللابشرط القسمي ، بل الفرق بين اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي لابد ان يكون واقعيا ثبوتيا لا اعتباريا لحاظيا ، فان المراد من المقسم ، هو نفس الماهية وذاتها من حيث هي ، على وجه تكون الحيثية مرآة للذات ، فتأمل - فإنه قد يقال : ان الماهية من حيث هي ليست الا هي لا موجودة ولا معدومة ولا يصح حمل شيء عليها ، والمقسم لابد وأن يكون قابلا لحمل الأقسام عليه ، فلا يصح ان يقال : المقسم الماهية من حيث هي هي.

وعلى كل حال : اللابشرط المقسمي هو ما يكون مقسما لكل من : لا بشرط ، وبشرط لا ، وبشرط شيء. وهذا غير اللابشرط القسمي الذي يكون مضادا وقسيما لبشرط لا وبشرط شيء. وقد عرفت : ان ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء مما لا يمكن ، لما عرفت : من أن الشرط لا يرجع إلى الكلي العقلي ، و

ص: 569

الكلي العقلي قسم واحد.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض المحققين في المقام ، حيث أشكل على المشهور القائلين : بان الاطلاق والارسال جزء مدلول اللفظ ولا يحتاج إلى مقدمات الحكمة ، بأنه يلزم ان يكون الاطلاق ح كليا عقليا ويمتنع صدقه على الخارجيات ، فلا يصح ان يتعلق طلب بالمط حيث لا يمكن امتثاله. والذي أوجب الوقوع في هذا الوهم ، هو اخذ الارسال قيدا للماهية ، فارجع اللابشرط القسمي إلى الكلي العقلي. وحيث إن المشهور ذهبوا إلى أن الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي ، فأشكل عليهم ان المط يكون ح من الكليات العقلية وانه يرجع إلى الماهية بشرط لا.

وهذا الاشكال والكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان الاطلاق ليس له حقيقتان ، بل الاطلاق على ما عرفت : هو عبارة عن تساوى الخصوصيات. وقولنا مثلا ( أعتق رقبة ) بمنزلة قولنا ( أي رقبة ) غايته ان المشهور ذهبوا إلى أن هذه التسوية جزء مدلول اللفظ ، وسلطان المحققين ومن تبعه ذهبوا إلى أن هذه التسوية تستفاد من مقدمات الحكمة. فهل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يكون كليا عقليا؟ أو هل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة غير الاطلاق الذي يكون جزء مدلول اللفظ؟ مع أنه ليس للاطلاق الا حقيقة واحدة ومعنى فارد.

فدعوى : ان الاطلاق الذي يقول به المشهور هو الماهية المقيدة بالارسال ويرجع إلى الماهية بشرط لا ويكون من الكلي العقلي ، مما لا محصل لها. بل الاطلاق الذي يقول به المشهور ، هو الماهية المرسلة أي ذات المرسل الموجود في ضمن جميع الخصوصيات والمحفوظ عند جميع الطوارئ ، وهو معنى اللابشرط القسمي في مقابل بشرط لا ، وبشرط شيء. وتكون أسماء الأجناس عند المشهور موضوعة للماهية اللابشرط القسمي وعند السلطان موضوعة للماهية اللابشرط المقسمي المحفوظة مع بشرط لا وبشرط شيء ، ولا بشرط. وليست التسوية والارسال داخلة في معاني أسماء الأجناس ، وانما تستفاد التسوية من مقدمات الحكمة ، ويكون المراد من اللفظ

ص: 570

هو اللابشرط القسمي ، لكن ببركة مقدمات الحكمة. والا فنفس اللفظ لا يدل الا على الماهية المهملة التي تكون مقسما للكلي العقلي وغيره.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الاشكال على المشهور بان الاطلاق لو كان مستفادا من اللفظ يلزم ان تكون المطلقات من الكليات العقلية ، مما لا وجه له. كما أن ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء ، مما لا وجه له. كما أن جعل الفرق بين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي بالاعتبار ، مما لا وجه له ، فان كل ذلك مما لا يمكن التصديق به.

نعم : هنا امر آخر وقع محل الكلام بين الاعلام ، وهو ان الكلي الطبيعي الذي وقع محل الكلام في وجوده وانتزاعيته ، هل هو مفاد اللابشرط المقسمي أو اللابشرط القسمي؟.

ذهب المحقق السبزواري في منظومته إلى أن الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي. (1) وذهب آخرون إلى أنه هو اللابشرط القسمي. وعلى كلا التقديرين فهو كلام آخر لا دخل له بما نحن فيه من كون اللابشرط القسمي غير اللابشرط المقسمي حقيقة ، وغير بشرط لا وبشرط شيء. وان كان الحق في ذلك المقام هو كون الكلي الطبيعي عبارة عن اللابشرط القسمي ، ولا يمكن جعله من اللابشرط المقسمي ، وذلك لان الكلي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين جميع المتفقة الحقيقة من الافراد الخارجية الفعلية وما يفرض وجودها. والماهية بشرط لا - عبارة عن الماهية المجردة عن كل خصوصية حتى خصوصية وجودها الذهني ، وليست الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، بل ليست هي الا عبارة عن المفهوم والمدرك العقلاني ، وليست هي الفرد العقلاني المجرد عن

ص: 571


1- قال المحقق السبزواري في منظومته كلي الطبيعي هي المهية *** وجوده وجودها شخصية إذ ليس بالكلية مرهونا *** بكل الأطوار بدا مقرونا ( منظومة السبزواري ، قسم المنطق ص 22 - 21 )

المادة فان الفرد العقلاني هو من افراد الحقيقة ، كما يقال : ان لكل حقيقة فردين : فردا خارجيا ماديا ، وفردا مجردا عقلانيا ، وهو المسمى ( برب النوع والمثل الأفلاطونية ) واما الماهية بشرط لا فليست هي الفرد العقلاني ، بل هي كما عرفت من الكليات العقلية وليست الا عبارة عن المفهوم ، والمفهوم غير المصداق.

فلو كان الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي يلزم ان تكون الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، لما عرفت من أن الكلي الطبيعي عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الافراد. وليس الانسان بشرط لا مثلا من افراد حقيقة الانسان حتى يقال : ان المقسم هي الحقيقة ، وافرادها : الماهية بشرط لا ، وبشرط شيء ، ولا بشرط ، فلابد ان يكون الكلي الطبيعي هو اللابشرط القسمي الذي يكون تمام حقيقة الافراد الخارجية. وعلى كل حال : فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

وإذ قد عرفت ما ذكرناه فاعلم : ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللابشرط المقسمي كما هو مقالة السلطان ، وليست موضوعة بإزاء اللابشرط القسمي كما هو مقالة المشهور. وذلك : لوضوح ان استعمال الانسان في الماهية بشرط لا ، كقولنا ( الانسان نوع ) وفي الماهية بشرط شيء والماهية لا بشرط كقولنا ( الانسان ضاحك ) يكون بوزان واحد وعلى نهج فارد بلا تصرف وعناية. ولو كان الانسان موضوعا لللابشرط القسمي لكان استعماله في الماهية بشرط لا على نحو التجوز والعناية. ومما يقطع به انه ليس للانسان وضعان : وضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من المقولات الثانوية ويكون من الماهية بشرط لا ، ووضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من الخارجيات. ويقطع أيضا انه ليس استعمال الانسان في أحدهما على نحو الحقيقة وفي الآخر على المجاز ، فلابد ان يكون موضوعا للجامع بينهما ، وليس ذلك الا اللابشرط المقسمي ، وهو المهية المبهمة المهملة القابلة للانقسامات وحينئذ فنفس اللفظ لا دلالة له على شيء من الأقسام ، واستفادة كل واحد من الأقسام يحتاج إلى امر آخر وراء مدلول اللفظ. واستفادة ان المراد هو المهية بشرط لا أو أحد القسمين الآخرين انما يكون من عقد الحمل ، فان المحمول ان كان من المعقولات الثانوية فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو المهية بشرط لا ، وان كان من

ص: 572

الخارجيات - كالعتق والاكرام والاكل والضرب - فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو الماهية لا بشرط ، أو بشرط شيء.

والامر الذي يستفاد منه ان المراد من الموضوع هو اللابشرط القسمي الذي يكون هو معنى الاطلاق هو المعبر عنه بمقدمات الحكمة. فمقدمات الحكمة انما نحتاج إلهيا لاستفادة ان المراد من اللفظ الموضوع للمهية المبهمة هو المهية المرسلة التي يتساوى فيها كل خصوصية ونقيضها.

وفى أسماء الأجناس نحتاج إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين ، باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الافرادي. بخلاف الألفاظ الموضوعة للعموم ، فإنه نحتاج فيها إلى مقدمات الحكمة في ناحية المصب باعتبار التخصيص الأنواعي فقط ، واما باعتبار الافرادي فنفس العام يتكفل ذلك بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. كما أن في المطلقات نحتاج إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان من الخارج ولو بمعونة الأصل العقلائي ، كما سيأتي انشاء اللّه ، وفي العموم نفس أدلة العموم تقتضي كون المتكلم في مقام البيان. فالفرق بين العام الأصولي والمط يكون من جهتين. وعلى كل حال ، ان مقدمات الحكمة مركبة من عدة أمور :

الأول :

ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الاطلاق والتقييد وقابلا لهما ، وذلك بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على ورود الحكم. واما الانقسامات اللاحقة - كقصد القربة واعتبار العلم والجهل بالحكم - فهي ما لا يمكن فيها الاطلاق والتقييد ، فلا مجال فيها للتمسك بالاطلاق ، وفي الحقيقة هذا خارج عن مقدمات الحكمة ، بل هذا الامر يكون محققا لموضوع الاطلاق والتقييد.

الثاني :

كون المتكلم في مقام البيان ، لا في مقام الاجمال. وان لايكون الاطلاق تطفليا ، بحيث يكون الكلام مسوقا لبيان حكم آخر. كما في قوله تعالى : (1) « فكلوا

ص: 573


1- المائدة ، 4

مما أمسكن عليكم » فان الكلام مسوق لبيان حلية ما يصطاده الكلب المعلم ، وليس اطلاق « كلوا » واردا لطهارة موضع عضه أو نجاسته ، فهو في الحقيقة من هذه الجهة يكون مجملا ليس في مقام البيان. واعتبار هذا الامر في صحة التمسك بالمطلقات مما لا شبهة فيه. ولا شبهة أيضا في عدم استفادة الاطلاق من الأدلة الواردة في بيان أصل تشريع الاحكام ، كقوله تعالى : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمثال ذلك ، فان ورود ذلك في مقام التشريع يكون قرينة على أن المتكلم ليس في مقام البيان ، كما أن الاطلاق التطفلي المسوق لبيان شيء آخر يكون كذلك ، أي يكون قرينة على أنه ليس المتكلم في مقام البيان.

واما فيما عدا هذين الموردين وفرض الكلام خاليا عن قرينة كون المتكلم ليس في مقام البيان ، فالأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام البيان لو فرض الشك في ذلك. وعلى ذلك يبتنى جواز التعويل على المطلقات من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات ، فإنه لا طريق لنا إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان الا من جهة الأصل العقلائي ، لمكان ان الظاهر من حال كل متكلم هو كونه في مقام بيان مراده ، وكونه في مقام الاهمال والاجمال يحتاج إلى احراز ذلك ، والا فطبع الكلام والمتكلم يقتضى ان يكون في مقام البيان ، وذلك واضح.

الثالث :

عدم ذكر القيد : من المتصل والمنفصل ، لأنه مع ذكر القيد لا يمكن ان يكون للكلام اطلاق ، وذلك أيضا واضح.

فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة ، فلا محالة يستفاد من الكلام الاطلاق ، ولا يحتاج في استفادة الاطلاق إلى شيء آخر وراء هذه الأمور الثلاثة.

نعم : ذكر في الكفاية (1) أمرا رابعا ، وهو عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. والمراد من وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، هو ثبوت القيد المتيقن بحسب دلالة اللفظ وظهوره ، لا بحسب الحكم وواقع الإرادة ، فان ثبوت المتيقن بحسب

ص: 574


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 384 « ثالثتها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب. »

واقع الإرادة مما لا يتوهم دخله في صحة التعويل على المطلقات ، وانما الذي يمكن دخله في ذلك هو عدم وجود المتيقن في مقام التخاطب ومرحلة دلالة اللفظ وظهوره.

والانصاف : ان وجود المتيقن في هذه المرحلة أيضا مما لا دخل له بالمقام ، الا إذا رجع إلى انصراف اللفظ إلى القدر المتيقن ، أو انصراف اللفظ عما عداه ، على اختلاف في كيفية الانصراف. واما مع عدم رجوعه إلى الانصراف فهو مما لا عبرة به ، كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب أو لم يكن ، فإنه على أي حال يصح التعويل على المطلق من غير فرق بين ان نقول : ان المراد من كون المتكلم في مقام البيان ، كونه في مقام بيان كل ما له دخل في متعلق حكمه وموضوعه النفس الأري - كما هو الحق والمختار - أو كونه في مقام بيان ما له دخل في ضرب القاعدة والقانون ، كما هو مسلكه ( قده ) من أن المطلقات انما وردت لضرب القاعدة والقانون لا لبيان المراد النفس الأمري ، فإنه على كل تقدير يكون وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا اثر له ، لأنه لو كان المراد النفس الأمري أو القانوني هو القدر المتيقن في مقام التخاطب لا خل ببيانه وما بينه ، وليس وجود المتيقن بيانا ولا يصلح للبيانية ، فان من أوضح مصاديق القدر المتيقن في مقام التخاطب هو ورود العام والمط في مورد خاص كقوله علیه السلام : (1) خلق اللّه الماء طهورا - في مورد السؤال عن ماء بئر بضاعة ، فان المورد هو المتيقن المراد من اللفظ المط مع أنه لا يخصص المط بالمورد ، لا قال به أحد ولا هو ( قده ) قال به.

فمن ذلك يظهر : ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مما لا اثر له ، ولا يصلح لهدم الاطلاق ، بل حاله حال وجود المتيقن في الحكم والمراد النفس الأمري الذي اعترف ( قده ) بأنه مما لا اثر له.

نعم : لو كان تأسيس مقدمات الحكمة لأجل خروج الكلام عن اللغوية وعدم بقاء المخاطب في حيرة بحيث لا يفهم من الكلام شيئا ، لكان لثبوت القدر المتيقن دخل في ذلك ، لان وجود المتيقن في البين يوجب خروج الكلام عن اللغوية وان المخاطب يفهم عن الكلام ذلك ، الا ان تأسيس مقدمات الحكمة ليس لأجل

ص: 575


1- المستدرك ، الجلد 1 الباب 13 من أبواب الماء المطلق. الحديث 4 ص 28

ذلك ، بل لأجل استخراج ما هو الموضوع النفسي الأمري ، أو لأجل استخراج ما اراده المتكلم من اللفظ بالإرادة الاستعمالية من باب ضرب القاعدة والقانون ، على ما اختاره ( قده ). وثبوت القدر المتيقن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك ، لأنه لايكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، الا إذا رجع القدر المتيقن إلى حد الانصراف ، سواء كان من الانصراف إليه ، ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ويكون المتكلم كأنه بين القيد في اللفظ. أو كان من الانصراف عنه ، بحيث يكون اللفظ منصرفا عما عدى القدر المتيقن وان لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقن ح مما يصلح للبيانية وان لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأول. ولكن مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يصلح لان يكون بيانا ولا لان يكون مما يصلح للبيانية ، والا لكان المورد أولى بذلك ، لأنه أوضح مصاديق القدر المتيقن ، مع أنه قد عرفت عدم الالتزام به.

فتحصل : ان الاطلاق يتوقف على أمرين لا ثالث لهما. الأول : كون المتكلم في مقام البيان. الثاني : عدم ذكر القيد متصلا كان أو منفصلا ، فان من ذلك يستكشف انا عدم دخل الخصوصية في متعلق حكمه النفس الأمري ، قضية تطابق عالم الثبوت لعالم الاثبات.

الامر الخامس :

بعد ما عرفت ان أسماء الأجناس موضوعة لللابشرط المقسمي ، ظهر لك : ان التقييد لا يوجب المجازية ، كما عليه المحققون من المتأخرين ، فان اللفظ لم يستعمل ح الا في معناه ، والخصوصية انما تستفاد من دال آخر.

نعم : المجازية انما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي وان الاطلاق يستفاد من نفس اللفظ بحسب وضعه ، فالتقييد يوجب استعمال اللفظ في خلاف معناه ، لان التقييد يضاد الاطلاق من غير فرق بين التقييد المتصل أو المنفصل ، فان التقييد لا محالة يوجب انسلاخ اللفظ عن الخصوصية المأخوذة فيه التي هي الاطلاق وتساوى كل خصوصية ونقيضها ، ولا يمكن بقاء تلك الخصوصية مع التقييد متصلا كان أو منفصلا ، فالتقييد بناء على

ص: 576

مسلك المشهور لامحة يوجب المجازية. كما أنه بناء على ما هو الحق : من وضع الألفاظ للابشرط المقسمي لا يوجب المجازية مط ، متصلا أو منفصلا. فالقول بالتفصيل بين المتصل والمنفصل - بعدم استلزام التقييد للمجازية في الأول واستلزامه في الثاني - مما لا وجه له على كل حال ، وذلك واضح ، الا ان الشأن في صحة اخذ الاطلاق مدلولا لفظيا.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : ان الكلام يقع ح في حمل المط على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات :

الجهة الأولى :

انه إذا ورد مط ومقيد متنافيان ، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الامر في المط على المقيد ، لا بحمل الامر في المقيد على الاستحباب وكونه أفضل الافراد ، ولا بكونه من قبيل الواجب في واجب مط ، من غير فرق بين كون ظهور الامر في المط في الاطلاق أقوى من ظهور الامر في المقيد في التقييد ، أو أضعف ، فإنه على كل حال لابد من حمل المطلق على المقيد من غير ملاحظة أقوى الظهورين. وذلك لان الامر في المقيد يكون بمنزلة القرينة على ما هو المراد من الامر في المط ، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذي القرينة.

اما كونه بمنزلة القرينة ، فلانه وان لم يتحصل لنا بعد ضابط كلي في المايز بين القرينة وذيها ، الا ان ملحقات الكلام : من الصفة ، والحال ، والتميز ، بل المفاعيل ، تكون غالبا بل دائما قرينة على أركان الكلام : من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل.

نعم : في خصوص المفعول به مع الفعل قد يتردد الامر بينهما في أن أيا منهما قرينة والآخر ذو القرينة ، كما في قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، فإنه كما يمكن ان يكون عموم اليقين - في تعلقه بما له من اقتضاء البقاء وعدمه - قرينة على ما أريد من النقض الذي لابد من تعلقه بما له اقتضاء البقاء ، كذلك يمكن العكس. ومن هنا وقع الكلام في اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضى. وكذا في ( لا تضرب

ص: 577

أحدا ) فإنه يمكن ان يكون عموم الأحد للاحياء والأموات قرينة على أن المراد من الضرب الأعم من المولم وغيره ، ويمكن العكس.

وبالجملة : لا يمكن دعوى الكلية في باب الفعل والفاعل والمفعول به ، بل قد يكون الفعل قرينة على الفعول به ، وقد يكون المفعول به قرينة على الفعل ، الا انه فيما عدى ذلك من المتممات وملحقات الكلام كلها تكون قرينة على ما أريد من أركان الكلام.

وإذا عرفت ذلك فنقول : ان الأصل الجاري في القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذيها من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، كما هو الشأن في كل حاكم ومحكوم. ومن هنا كان ظهور ( يرمى ) في رمى النبل مقدما على ظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس ، وان كان ظهور الأول بالاطلاق والثاني بالوضع والظهور المستند إلى الوضع أقوى من الظهور المستند إلى الاطلاق.

والسر في ذلك : هو ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تكون حاكمة على أصالة الحقيقة في ( أسد ) ، لأن الشك في المراد من ( الأسد ) يكون مسببا عن الشك في المراد من ( يرمى ) ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يكون رافعا لظهور ( الأسد ) في الحيوان المفترس. فلا يبقى للأسد ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل بلازمه على أن المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، فان الدلالة على اللازم فرع الدلالة على الملزوم ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يرفع دلالة الملزوم.

وبذلك يندفع ما ربما يقال : ان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فكما ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تقتضي ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، كذلك أصالة الحقيقة في الأسد تقتضي ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، لان لازم أصالة الحقيقة هو ذلك.

توضيح الدفع : هو ان ( يرمى ) بمدلوله الأولى يقتضى ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، لان ( يرمى ) عبارة عن رامي النبل وذلك عبارة أخرى عن الرجل الشجاع. وهذا بخلاف أسد ، فإنه بمدلوله الأولى غير متعرض لحال ( يرمى ) وان المراد منه رمى التراب ، بل مدلول الأولى ليس الا الحيوان المفترس.

ص: 578

نعم : لازم ذلك هو ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، ودلالته على لازمه فرع دلالته على مدلوله وبقاء ظهوره فيه ، وظهور ( يرمى ) يكون مصادما لظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس وهادما له ، فلا يبقى له ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل على لازمه وذلك واضح.

وإذا عرفت ذلك ، ظهر لك : ان المقيد يكون بمنزلة القرينة بالنسبة إلى المطلق ، لان القيد لا يخلو : اما من أن يكون وصفا ، أو حالا ، أو غير ذلك من ملحقات الكلام ، وقد تقدم ان ملحقات الكلام كلها تكون قرينة ، وأصالة الظهور في المقيد تكون حاكمة على أصالة الظهور في المط حتى لو فرض ان ظهور المطلق في الاطلاق أقوى من ظهور المقيد في التقييد ، فلا يبقى للمط ظهور في الاطلاق حتى يحمل الامر في المقيد على الاستحباب ، أو واجب في واجب. هذا إذا كان القيد متصلا.

وأما إذا كان منفصلا ، كما لو قال : أعتق رقبة ، وقال أيضا : أعتق رقبة مؤمنة ، فتمييز ان المنفصل يكون قرينة أو معارضا ، هو ان يفرض متصلا وانه في كلام واحد ، فان ناقض صدر الكلام ذيله يكون معارضا ، وان لم يكن مناقضا يكون قرينة. ففي المثال لابد من فرض المؤمنة متصلة بقوله : ( أعتق رقبة ) الوارد أولا ، إذ الذي يوهم المعارضة هو قيد المؤمنة ، والا فالدليلان يشتركان في وجوب عتق الرقبة ، فالذي لابد من فرضه متصلا هو قيد المؤمنة ، ومعلوم : ان التقييد بالمؤمنة تكون قرينة على المراد من المطلق. فلا فرق بين المتصل والمنفصل سوى ان المتصل يوجب عدم انعقاد الظهور للمطلق ، وفي المنفصل ينعقد الظهور الا انه يهدم حجيته. ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح انشاء اللّه.

الجهة الثانية :

قد عرفت : ان مورد حمل المطلق على المقيد انما هو في صورة التنافي ، والتنافي لايكون الا بوحدة التكليف ، ووحدة التكليف تارة : يعلم بها من الخارج فهذا مما لا اشكال فيه. وأخرى : تستفاد وحدة التكليف من نفس الخطابين.

وتفصيل ذلك : هو انه اما ان يذكر السبب لكل من المطلق والمقيد ، واما

ص: 579

ان لا يذكر السبب في كل منهما ، واما ان يذكر السبب في أحدهما دون الآخر. وصورة ذكر السبب في كل منهما ، اما ان يتحد السبب ، واما ان يختلف ، فهذه صور أربع لا خامس لها.

الصورة الأولى :

ما إذا ذكر السبب في كل منهما مع اختلافه ، كما إذا ورد : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ، فهذا لا اشكال فيه في عدم حمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك واضح.

الصورة الثانية :

ما إذا اتحد السبب كما لو قال : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وفي هذه الصورة أيضا لا اشكال في حمل المط على المقيد ، لأنه من نفس وحدة السبب يستفاد وحدة التكليف ، فيتحقق التنافي بينهما.

الصورة الثالثة :

ما إذا ذكر السبب في أحدهما دون الآخر ، كما لو قال : أعتق رقبة - بلا ذكر السبب ، وقال أيضا : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، أو بالعكس ، بان ذكر السبب في المط دون المقيد ، وفي هذه الصورة يشكل حمل المط على المقيد ، لأنه لا يتحقق هنا اطلاقان ومقيدان : أحدهما في ناحية الواجب وهو عتق الرقبة مط وعتق الرقبة المؤمنة ، وثانيهما في ناحية الوجوب والتكليف وهو وجوب العتق غير مقيد بسبب ووجوب العتق مقيدا بسبب خاص من الظهار في المثال المذكور. وتقييد كل من الاطلاقين يتوقف على تقييد الاطلاق الاخر ، فيلزم الدور.

بيان ذلك : هو انه قد عرفت ان حمل المط على المقيد يتوقف على وحدة التكليف ، وفي المثال تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف على وحدة المتعلق ، إذ عند اختلاف متعلق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر ، كما لو ورد تكليف مطلق متعلق بشيء ، وورد تكليف مقيد متعلق بشيء آخر. ووحدة المتعلق في المقام يتوقف على حمل أحد التكليفين على الآخر ، إذ لو لم يحمل أحد التكليفين على الآخر ولم يقيد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار

ص: 580

لم يتحقق وحدة المتعلق ، لان أحد المتعلقين هو عتق الرقبة المطلقة ، ومتعلق الآخر هو عتق الرقبة المؤمنة ، فيتوقف حمل أحد المتعلقين على الآخر على حمل أحد التكليفين على الآخر ، ويتوقف حمل أحد التكليفين على الآخر على حمل أحد المتعلقين على الآخر ، فيلزم الدور من حمل المط على المقيد في هذه الصورة ، والظاهر أنه لا دافع له ، فتأمل.

الصورة الرابعة :

ما إذا لم يذكر السبب في أحدهما وكان كل منهما مط بالنسبة إلى ذكر السبب ، وفي هذه الصورة لابد من حمل المط على المقيد إذا كان المطلوب في كل منهما صرف الوجود لا مط الوجود ، ولا يتوقف الحمل في هذه الصورة على العلم بوحدة التكليف من الخارج ، بل نفس كون المطلوب فيهما صرف الوجود مع كون التكليف الزاميا يقتضى حمل المط على المقيد. وذلك لان قوله : أعتق رقبة مؤمنة - يقتضى ايجاد صرف وجود عتق الرقبة المؤمنة ، ومقتضى كون الحكم الزاميا هو انه لابد من ايجاد عتق الرقبة المؤمنة وعدم الرضا بعتق الرقبة الكافرة ، والمفروض ان المطلوب في المطلق أيضا صرف الوجود ، ومقتضى كون المطلوب صرف وجود العتق وايجاب عتق الرقبة المؤمنة هو وحدة التكليف وكون المطلوب هو المقيد ليس الا. ومن هنا يظهر : ان الركن في حمل المط على المقيد ، هو كون الحكم الزاميا ، ولا يجرى في التكاليف المستحبة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح انشاء اللّه تعالى.

الجهة الثالثة :

الكلام في حمل المط على المقيد ، هو فيما إذا لم يكن دليل المقيد واردا لبيان المانعية ، والجزئية ، والشرطية ، بان يكون أمرا أو نهيا غيريا ، فإنه لو كان كذلك فلا اشكال في حمل المط على المقيد ، وذلك واضح. فالكلام في المقام انما هو فيما إذا كان امر المقيد أو نهيه نفسيا.

ثم إن المطلوب في المط والمقيد اما ان يكون صرف الوجود ، واما ان يكون مط الوجود. فان كان المطلوب مطلق الوجود فلا موجب لحمل المطلق على المقيد ، الا إذا اقتضاه خصوص المقام ، من غير فرق بين ان يكون ذلك في التكاليف أو

ص: 581

في الوضعيات ، وبين ان يكون التكليف أمرا أو نهيا ، وبين ان يكون الزاميا أو استحبابيا ، فان لا منافاة بين المطلق والمقيد. نعم : ذكر المقيد عقيب المطلق لا بد ان يكون لخصوصية ولو كانت تلك الخصوصية شدة الاهتمام بالمقيد ، الا ان ذلك لا يوجب الحمل ، فلا منافاة بين قوله : في الغنم زكاة ، وبين قوله : في الغنم السائمة زكاة ، الا إذا علم من خصوصية المقام ان القيد سيق لبيان التقييد ، فيندرج في الأمر والنهي الغيري الذي تقدم ان التقييد فيه لازم الغيرية. هذا إذا كان المطلوب مطلق الوجود.

وأما إذا كان المطلوب صرف الوجود فتارة : يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا. وأخرى : يكون كل منهما أمرا أو كل منهما نهيا. فان كان الأول فلا يخلو اما ان يندرج في باب النهى عن العبادة ، واما ان يندرج في باب المطلق والمقيد ، واما ان يندرج في باب اجتماع الأمر والنهي ، واما ان يندرج في باب تعارض العموم من وجه ، ويلحق كل باب حكمه. ففي مثل قوله ( صل ولا تصل في الحرير ) يكون من النهى عن العبادة. وفي مثل قوله ( أعتق رقبة ولا تعتق الرقبة الكافرة ) يندرج في باب المط والمقيد ، ولابد من حمل المطلق على المقيد ولا يحمل النهى على الكراهة ، لما تقدم من حكومة أصالة الظهور في المقيد على المط ، فظهور النهى في الحرمة يكون مقدما على ظهور المط في الاطلاق. هذا إذا كانت النسبة بين الدليلين العموم المط ، كما هو محل البحث. وان كانت النسبة العموم من وجه فيندرج اما في باب اجتماع الأمر والنهي ، إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف وهو الفعل والترك المطالب به الصادر من المكلف اختيارا كقوله : صل ولا تغصب ، واما في باب التعارض بالعموم من وجه إذا كانت النسبة بين متعلق المتعلق من الموضوعات الخارجية كقوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، هذا إذا كان أحد الدليلين أمرا والآخر نهيا.

وان كان كل منهما أمرا أو نهيا مع كون المطلوب صرف الوجود فتارة : يكون الحكم الزاميا ، وأخرى : استحبابيا. فان كان الزاميا فتارة : يكون الاطلاق والتقييد في كل من الوجوب والواجب ، بان كان الوجوب في أحدهما مطلقا وفى

ص: 582

الآخر مقيدا والواجب أيضا كذلك كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وهذا قد تقدم حكمه : من أنه لا يحمل فيه المط على المقيد لا في طرف الوجوب ولا في طرف الواجب ، لاستلزامه الدور.

وأخرى : يكون الاطلاق والتقييد في ناحية الوجوب فقط ، أو في ناحية الواجب فقط. فان كان في ناحية الوجوب فقط فتارة : يكون تقييد الوجوب بمثل الشرط والغاية ، بحيث تكون القضية ذات مفهوم ، كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : ان جائك زيد فاعتق رقبة. وأخرى : يكون تقييد الوجوب بغير ذلك مما لا يقتضى المفهوم كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : أعتق رقبة عند الظهار. فان كان تقييد الوجوب بما يقتضى المفهوم فهذا خارج عن محل الكلام ، فان مقتضى المفهوم هو انتفاء الوجوب عند عدم الشرط فيقيد الوجوب المطلق لا محالة. وان كان تقييد الوجوب بما لا يقتضى المفهوم - كالمثال المتقدم - فحكمه حكم تقييد الواجب من لزوم حمل المط على المقيد ، فان مقتضى قوله : عند الظهار أعتق رقبة ، هو انه عند الظهار لا بد من عتق الرقبة وعدم الرضا بتركه عند الظهار ، ومقتضى اطلاق قوله : أعتق رقبة ، هو جواز ترك العتق عند الظهار والعتق في غير حال الظهار ، وحيث انه لا يجتمع لزوم العتق عند الظهار مع جواز تركه عنده مع كون المتعلق واحدا والمطلوب صرف وجود العتق ، فيتحقق المنافاة بين الوجوب المط والوجوب المقيد ولا بد من حمل المط على المقيد. هذا إذا كان التقييد في ناحية الوجوب.

وأما إذا كان التقييد في ناحية الواجب كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : أعتق رقبة مؤمنة ، فقد تقدم الكلام فيه وانه لا بد من حمل المط على المقيد. ونزيد في المقام وضوحا فنقول : ان المحتملات في المثال أربعة :

1 - احتمال ان يكون المطلوب واحدا وهو نتيجة حمل المط على المقيد.

2 - احتمال ان يكون الامر في المقيد استحبابيا فيكون المقيد أفضل الافراد.

3 - احتمال ان يكون الامر في المقيد لبيان كونه واجبا في واجب.

4 - احتمال ان يكون الواجب متعددا ويكون هناك تكليفان : تكليف

ص: 583

بالمط ، وتكليف بالمقيد.

والأظهر من هذه الاحتمالات بحسب الأصول اللفظية : هو الاحتمال الأول ، إذ الاحتمال الثاني قد تقدم ضعفه ، من حيث إن الأصول اللفظية الجارية في المقيد لمكان كونه قرينة تكون حاكمة على الأصول اللفظية الجارية في المط ، فيكون ظهور الامر في المقيد في الوجوب مقدما على ظهور المط في الاطلاق ، ولا تصل النوبة إلى حمل الامر في المقيد على الاستحباب ، لان حمله على الاستحباب انما هو من جهة ظهور المط في الاطلاق وأقوائية ظهوره في ذلك من ظهور الامر في المقيد في الوجوب ، وعلى فرض التساوي يتردد الامر بين الامرين : بين حمل المط على المقيد ، وبين حمل امر المقيد على الاستحباب ، هذا. ولكن قد عرفت : انه في باب القرينة وذيها لا يلاحظ أقوى الظهورين ، بل يكون ظهور القرينة وان كان أضعف مقدما على ظهور ذيها وان كان أقوى ، فالاحتمال الثاني ساقط.

وكذا الحال في الاحتمال الثالث ، بل هو أضعف من الثاني ، فإنه يلزم رفع اليد عن ظهور الامر المقيد في كون الواجب هو الجملة المركب من القيد والمقيد ، إذ لو حمل الامر فيه على كونه لبيان كون القيد من الواجب في الواجب يلزم ان يكون الواجب في قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، هو خصوص القيد ، وانه سيق لبيان وجوب ذلك فقط ، وهذا ينافي ظهوره في وجوب الجملة والمركب من القيد والمقيد ، فحمله على وجوب خصوص القيد يوجب هدم ظهوره بالمرة ، بل ذلك أردأ من حمل الامر فيه على الاستحباب ، لان حمل الامر على الاستحباب ليس بعزيز الوجود ، بخلاف حمله على ذلك ، فإنه يحتاج إلى دليل قوى مفقود في المقام.

فبقى الاحتمال الرابع ، وهو تعدد التكليف ، وقد تقدم ان تعدد التكليف وكون الواجب هو كل من المط والمقيد ينافي كون المطلوب هو صرف الوجود مع كون التكليف بالمقيد الزاميا ، فان معنى الالزام هو عدم الرضا بخلو صفحة الوجود عن المقيد وانه لابد من اشغال صفحة الوجود به ، وهذا بخلاف المط فإنه يقتضى جواز ترك القيد ، فيتحقق التنافي بينهما ، ويتعين ح حمل المط على المقيد جمعا بين الدليلين ، فتأمل جيدا. هذا كله فيما إذا كان التكليف بالمط والمقيد الزاميا.

ص: 584

وأما إذا كان التكليف استحبابيا ، ففي جميع أقسامه لا موجب لحمل المط على المقيد. أما إذا كان التكليف الاستحبابي في كل منهما مط وكان التقييد في ناحية المستحب كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : يستحب دعاء كميل ، فلانه لا يتحقق شرط الحمل ، إذ لا منافاة بينهما بعد ما كان المقيد جايز الترك ، فلا منافاة بين استحباب الدعاء والمط واستحباب الدعاء المقيد.

وأما إذا كان التقييد في ناحية كل من التكليف والمكلف به كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : ان جاء زيد يستحب دعاء كميل مثلا ، فلانه إذا كان التكليف الإلزامي على هذا الوجه لا يحمل فكيف بالتكليف الاستحبابي؟.

وأما إذا كان التقييد في ناحية التكليف فقط ، فان لم يكن التقييد مما يقتضى المفهوم كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا يستحب الدعاء عند رؤية الهلال ، فلانه وان قلنا في التكليف الإلزامي بالحمل ، الا انه في التكليف الاستحبابي لا موجب للحمل لمكان تفاوت مراتب الاستحباب. فلا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيد ، بل ذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى عدم الحمل حتى فيما إذا كان التقييد يقتضى المفهوم كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : ان جائك زيد يستحب الدعاء ، فان تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية. والمسألة بعد لا تخلو عن الاشكال ، بل ربما يستشكل في القسم السابق ، بل فيما إذا كان التقييد في ناحية المستحب فقط. فتأمل في المقام جيدا.

وقد تمت مباحث المط والمقيد في الليلة التاسعة والعشرين من شهر ربيع

الأول سنة 1348

وله الحمد أولا وآخرا

وانا العبد المذنب محمد علي الكاظمي الخراساني.

ص: 585

فهرس فوائد الأصول

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي الخراساني

نشأة علم الأصول وسيره وارتقائه... 3

تعريف علم الأصول وبيان موضوعه ومسائله وغايته

الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول... 19

المايز بين المسئلة الأصولية والقاعدة الفقهية... 19

تفسير العرض الذاتي والعرض الغريب... 20

بيان النسبة بين موضوع العلم وموضوع كل مسئلة من مسائله... 22

اشكال لزوم أخذ عقد الحمل في عقد الوضع وبيان حله... 23

المايز بين العلوم ، وبيان وجه العدول عن مسلك المشهور... 24

بيان ما قيل : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات... 25

البحث في موضوع علم الأصول

الاشكالات الواردة على أخذ الموضوع خصوص الأدلة الأربعة... 26

تحقيق انه لا داعي لجعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة... 28

المبحث الأول في بيان ماهية الوضع

تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني ، والإشكال عليه... 29

تقسيم الوضع بحسب الوضع والموضوع له إلى أربعة أقسام... 31

في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء... 33

ص: 586

شرح ما قيل : من أن الاسم ما دل على معنى في نفسه والحرف ما دل على معنى في غيره... 35

تقسيم معاني الألفاظ إلى الاخطارية والايجادية... 37

الاشكال على كون جميع معاني الحروف ايجادية ، وحله... 38

بيان معنى ( النسبة ) وأقسامها وترتيبها... 39

تحقيق معنى قول النجاة في تعريف الظرف المستقر واللغو... 40

تحقيق كون معاني الحروف كلها ايجادية... 42

بيان ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية هي النسبة بين المصداق والمفهوم... 43

قوام المعنى الحرفي بأمور أربعة... 44

بيان الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف والمعاني الايجادية في باب الانشائيات... 45

تضعيف مقالة من يقول : ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات... 47

فساد القول باتحاد المعنى الاسمي والمعنى الحرفي وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الآخر باشتراط الواضع 47

الإشكال على ما عرف به الحرف : من أنه ما دل على معنى في الغير... 50

بيان معنى ما روى عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى الخ... 51

تحقيق مبدء الاشتقاق وانه ليس بمصدر ولا اسم مصدر... 51

الفرق بين معاني الأسماء والافعال والسر في تثليث اقسام الكلمة... 53

بيان المراد من قوله علیه السلام ( والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ) وانه هو الحركة من القوة إلى الفعل 53

تحقيق الموضوع له في الحروف ، هل انه عام أو خاص؟... 54

تفسير الكلية والجزئية في الحروف ، وانها بمعنى آخر غير ما تتصف الأسماء بهما... 54

وقوع المفاهيم الأسمية في عقد الحمل ، وعدم صحة وقوع المفاهيم الحرفية فيه... 57

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي وكون الموضوع له فيه عاما... 58

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

تعريف الصحة والفساد... 60

ص: 587

ملاحظة الصحة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط السابقة للأمر وبالنسبة إلى الأجزاء والشرائط اللاحقة للأمر 60

رد توهم ان الصلاة وضعت للأفراد الطولية والعرضية بالاشتراك اللفظي وانها من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص 61

الاشكال في تصوير الجامع المسمى على كل من القول بالصحيح والأعم... 64

بيان ما قيل : من أن الجامع بين الأفراد الصحيحة هو ( المسمى ) والإشارة إليه اما من ناحية المعلول واما من ناحية العلة وبيان ما فيه من الاشكالات... 65

بسط الكلام في المايز بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية وان الملاكات هل هي من قبيل الدواعي أو من قبيل المسببات 67

تصوير الجامع بناء على الأعم والمناقشة في الوجوه التي ذكروها... 74

فساد توهم ان تكون الصلاة من الماهيات القابلة للتشكيك... 75

بيان ما قيل في الثمرة بين القول بالصحيح والأعم... 77

اشكال جريان الأصل في المعاملات على القول بالصحيح ، وحله... 79

المبحث الثالث في المشتق

اختصاص النزاع بالعناوين العرضية لا الذاتية التي يتقوم بها الذات... 83

في أن المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا... 84

نقل ما حكى عن ( القواعد ) من تفريع مسئلة الرضاع على المشتق... 85

بيان الفرق بين المحمول بالضميمة والخارج المحمول... 88

الاستشكال في إدراج مثل اسم الزمان في محل النزاع... 89

تحقيق ان المراد من الحال هو حال التلبس بالمبدء... 90

تحقيق المراد من الحال في قول النحاة حيث قالوا : ( ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال يعمل عمل الفعل المضارع ) 90

في ان البحث في باب المشتق انما يكون في مفهومه الافرادي ، فلا يرتبط بالمقام اختلاف الشيخ والفارابي 91

ص: 588

بيان المراد من ( الاستعمال ) و ( التطبيق ) والفرق بينهما وعدم اتصاف التطبيق والانطباق بالحقيقة والمجاز 93

في بيان مبدء الاشتقاق ، وعدم الترتب بين صيغها... 96

تحقيق وجود الترتب بين المعاني التي تكفلتها الصيغ... 99

شرح ما قيل : من ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف 101

رد ما اشتهر : من ان المضارع يكون بمعنى الحال والاستقبال... 102

في بساطة المشتق وتركيبه... 103

تحقيق ما حكى عن الشيخ (رحمه اللّه) من قياس المشتق بالجوامد من حيث عدم أخذ الذات فيه... 104

تحقيق ما حكى عن الميرزا الشيرازي : من أنه لو كانت الذوات الشخصية مأخوذة في مفهوم المشتق يلزم أن يكون من متكثر المعنى... 107

استدلال السيد الشريف (رحمه اللّه) على بساطة المشتق... 109

ايراد ( صاحب الكفاية ) على ( الفصول ) و ( السيد الشريف )... 111

اشكال ( السيد الشريف ) على أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق بلزوم الانقلاب ، وايراد ( صاحب الفصول ) عليه 113

في شرح ما يقال : من أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو البشرط اللائية واللا بشرطية... 116

بيان الأقوال في وضع المشتق ، للمتلبس بخصوصه أو للأعم... 119

تحقيق ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ومجاز في غيره... 120

اشكال عدم تصور الجامع بين التلبس والانقضاء حتى على القول بالتركيب... 121

بيان ما استدلال به القائل بالأعم... 124

ضعف التمسك بآيتي السرقة والزنا للقول بالأعم... 125

المقصد الأول في الأوامر

ذكر معاني مادة الأمر واشكال تصور الجامع بين المعاني... 128

ذكر معاني صيغة الأمر ، وتحقيق انها من قبيل الدواعي لا يجاد النسبة الإيقاعية... 129

في تغاير الطلب والإرادة... 130

ص: 589

عدم امكان دفع شبهة الجبر الا بالقول بتغاير الطلب والإرادة... 132

في طريق استفادة الوجوب من الصيغة ، واختيار انها بحكم العقل... 134

في التعبدي والتوصلي

بيان معنى التعبدية والتوصلية وان كلا منهما على معنيين... 137

تحقيق أصالة التعبدية بمعنى اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار والإباحة... 138

مقتضى الأصل العملي في المسئلة... 142

تحقيق أصالة التعبدية بمعنى اعتبار قصد الأمر والجهة... 145

انقسامات متعلق الحكم وموضوعه... 145

ابطال أخذ العلم بالحكم في الموضوع بلزوم تقدم الشيء على نفسه... 148

بيان مذهب الأستاذ ، وهو كفاية كون الفعل ( لله ) ولو مع عدم قصد الامتثال... 151

الاشكال على الأستاذ بأن الداعي علة للإرادة فلا يعقل ان يكون معلولا للإرادة... 152

في امتناع أخذ العبادية في متعلق الأمر ، ووجوه التفصي عن الاشكال... 152

تحقيق عدم جريان الأصلين في المسئلة... 155

عدم صحة الاستدلال بالآيات والأخبار على أصالة التعبدية... 157

دفع ما يتوهم من كلام الشيخ (رحمه اللّه) من التمسك بقاعدة الاجزاء العقلية لأصالة التوصلية 158

في بيان نتيجة الاطلاق والتقييد... 159

بيان الفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام واستكشاف الاطلاق في ساير المقامات 160

تقريب اعتبار قصد الأمثال من ناحية الغرض... 160

تحقيق انحصار كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ، وبيان وجه الاصطلاح بذلك... 161

دفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على تعدد الأمر ، وتحقيق ان ملاك الأمرين واحد 162

بيان ما أفاده بعض الأعلام : من أن التعبدية من الأحكام العقلية... 162

في بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المسئلة... 163

فساد توهم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية... 163

ص: 590

بيان الفرق بين تعلق الأمر بالأسباب وبين تعلقه بالمسببات ، والإيراد عليه... 166

في الواجب المطلق والمشروط

بيان الفرق بين القضية الخارجية والحقيقية... 170

تحقيق ان الاشكال على الشكل الأول بلزوم الدور انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية 172

الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية... 173

الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا وإثباتا... 178

في تحقيق مرجع الشرط وانه راجع إلى مفاد الجملة... 179

ظهور بطلان ما في التقريرات من ارجاع الشرط إلى المادة ، واعتذار السيد الشيرازي عنه 180

بيان الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية... 183

تقرير قول ( صاحب الفصول ) في الواجب المعلق... 185

وضوح امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية... 186

امتناع الواجب المعلق ، على فرض كون الأحكام من قبيل القضايا الخارجية أيضا... 188

بيان الأمر الذي ألجأ ( صاحب الفصول ) إلى الالتزام بالواجب المعلق ، وهو فتوى الفقهاء بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل حصول الشرط... 194

بيان وجه وجوب تلك المقدمات قبل وجوب ذيها... 194

دفع الاشكال باعتبار الملاك ، وبيان عدم تماميته... 195

الكلام في المقدمات المفوتة

تقسيم القدرة إلى العقلية والشرعية ، وبيان أحكامهما... 197

لزوم تحصيل المقدمات العقلية وحرمة تفويتها... 197

تفصيل القول في القدرة الشرعية... 198

الكلام في وجوب التعلم ، وما يظهر من الشيخ (رحمه اللّه) من ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ،

ص: 591

والاشكال عليه... 204

التفصيل بين ما تعم به البلوى ومالا تعم... 206

في كيفية فعلية وجوب الصوم... 208

ضعف ابتناء المسألة على الشرط المتأخر والواجب المعلق... 209

في كيفية فعلية وجوب الصلاة... 212

حكم صورة الشك في أن المشروط هو الوجوب؟ أو الواجب؟... 213

بيان ما قيل في المقام : من تقديم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، والإيراد عليه... 213

بيان ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) من الوجهين لرجوع القيد إلى المادة... 215

في الواجب النفسي والغيري وتعريفهما

فيما يقتضيه الأصل اللفظي عند الشك في المسئلة... 220

تحقيق ان الشك في الوجوب الغيري له اقسام ثلاثة ولكل حكم يخصه... 222

في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه... 224

في الطهارات الثلث والاشكال على ترتب الثواب عليها وقصد التعبد بها... 226

الإشارة إلى ضابط تبدل الأحكام بعضها مع بعض... 229

بعض الفروع المتعلقة بباب الطهارات... 231

في الواجب التعييني والتخييري

في الواجب التعييني والتخييري الوجوه الأربعة التي ذكروها لتصوير الواجب التخييري... 232

تصوير التخيير بين الأقل والأكثر... 235

في الواجب العيني والكفائي

تحقيق ان البحث فيه هو البحث في الواجب التخييري... 235

في الواجب الموقت

مقتضى القاعدة في الفائت الموقت... 236

ص: 592

في ما يقتضيه دليل القضاء... 237

هل يمكن احراز ( الفوت ) الذي أخذ موضوعا في دليل القضاء باستصحاب عدم الفعل في الوقت؟ 239

إشارة إجمالية إلى مسئلة المرة والتكرار والفور والتراخي

مباحث الإجزاء وذلك في مقامات

المقام الأول : في اقتضاء الإتيان بمتعلق كل أمر للإجزاء عن نفس ذلك الأمر عقلا... 241

مسئلة تبديل الامتثال وتحقيق القول فيه... 242

المقام الثاني : في اقتضاء المأتي به بالأمر الثانوي للإجزاء بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت 243

تحقيق اجزاء الأمر الثانوي بالنسبة إلى الإعادة في الوقت عند زوال العذر... 245

المقام الثالث : في اقتضاء المأتي به بالأمر الظاهري الشرعي للإجزاء عن الأمر الواقعي عند انكشاف الخلاف ، والبحث فيه يقع من جهات... 246

الجهة الأولى : في اقتضاء مؤدى الطرق والأمارات في باب الأحكام الكلية الشرعية للإجزاء عند انكشاف الخلاف قطعا 246

الجهة الثانية : في اقتضاء مؤدى الأمارات في باب الموضوعات للإجزاء عند انكشاف الخلاف قطعا 248

الجهة الثالثة : في اقتضاء مودي الأصول العملية الشرعية للإجزاء ، واختيار بعض الأعلام الإجزاء في المقام بنحو الحكومة 248

أربع اشكالات للأستاذ على الحكومة في هذا المقام... 249

الجهة الرابعة : في اقتضاء المأتي به بالأمر الظاهري الشرعي للإجزاء عند انكشاف الخلاف ظنا ، كموارد تبدل الاجتهاد والتقليد... 251

تحقيق عدم الفرق بين انكشاف الخلاف قطعا وبين انكشافه ظنا ، وان مقتضى القاعدة في جميع ذلك عدم الإجزاء 252

ص: 593

بيان ما قيل : من أن القاعدة تقتضي الإجزاء لوجوه ثلاثة وهي : 1 - لزوم العسر والحرج 2 - عدم ترجيح الاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول 3 - ان المسئلة الواحدة لا تتحمل اجتهادين... 256

نقل الاجماع على الإجزاء ، والاشكال عليه... 259

تحقيق عدم اقتضاء الأمر الظاهري العقلي للإجزاء... 259

في مقدمة الواجب

تحقيق كون البحث فيها من المسائل الأصولية... 261

بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام... 262

في تقسيمات المقدمة... 263

الاستشكال في مقدمية الأجزاء ، ودفعه من الشيخ قدس سره بان الكل عبارة عن الأجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا 264

تحقيق ان قياس المقام بالهيولي والصورة والجنس والفصل في غير محله... 265

حاصل ما افاده الأستاذ في تصوير الغيرية بين الأجزاء والكل... 267

عدم كفاية الغيرية اللحاظية لدخول الأجزاء في محل النزاع... 268

بيان ما قد يقال : بخروج العلة التامة عن محل النزاع... 269

التفصيل بين العناوين التوليدية والمسببات التوليدية : بخروج الأول عن محل النزاع ودخول الثاني فيه 269

تقسيم المقدمة إلى العقلية والعادية والشرعية... 271

تقسيمها إلى المقارنة والمتقدمة والمتأخرة المعبر عنها بالشرط المتأخر... 271

تحرير محل النزاع في الشرط المتأخر

في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية... 276

رد ما صنعه في الكفاية والفوائد : من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي وإلى عالم اللحاظ 278

فساد ما يتوهم : من أن امتناع الشرط المتأخر إنما يكون في التكوينيات دون الاعتباريات

ص: 594

والشرعيات... 280

أحسن ما قيل في المقام من الوجوه ، والايراد عليه من جهة الاثبات... 281

تحقيق ارجاع الشرط في باب المركبات الارتباطية ( كالصوم ) إلى عنوان التعقب... 281

عدم صحة الارجاع إلى عنوان التعقب في باب الإجازة في البيع الفضولي... 282

تحقيق وجوب المقدمة ، ومقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل... 284

في بيان معروض الوجوب في باب المقدمة

الاشكال على ( صاحب المعالم ) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة... 286

النظر فيما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة... 287

فساد ما افاده ( صاحب الفصول ) من اعتبار نفس التوصل... 290

فساد ما سلكه الشيخ (رحمه اللّه) وغيره ، حيث جعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق... 294

بيان الفرق بين الاطلاق والتقييد في المقام وبين الاطلاق والتقييد في مسئلتي اعتبار قصد القربة والعلم بالأحكام 295

الإشارة إلى تابعية خطاب المقدمة لخطاب ذي المقدمة في الاهمال ، بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها 295

حل الاشكال بالخطاب الترتبي... 296

بيان الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة

الثمرة الأولى : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم... 296

الاشكال على الثمرة أولا : بأن ترك أحد الضدين ليست مقدمة لفعل الضد الآخر ، وثانيا : بأنه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة... 296

إنكار ( صاحب الفصول ) هذه الثمرة على طريقته : من القول بالمقدمة الموصلة ، واشكال الشيخ (رحمه اللّه) عليه 297

ايراد ( صاحب الكفاية ) على اشكال الشيخ (رحمه اللّه)... 298

في بيان ساير ما ذكر من الثمرات لوجوب المقدمة وردها ، وهي :... 298

ص: 595

1 - برء النذر بإتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب

2 - حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة

3 - صلاحية التعبد بها بناء على وجوبها

4 - عدم جواز أخذ الأجرة عليها على القول بالحرمة

5 - ما نسب إلى ( الوحيد البهبهاني ) من لزوم اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت المقدمة محرمة 298

تحقيق انه لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسئلة الأصولية ، ولا من حيث المسئلة الفقهية 300

القول في اقتضاء الأمر بالشيء النهى عن ضده

تحقيق ان المسئلة من المسائل الأصولية ، وانها من الملازمات ، وبيان المراد من الاقتضاء... 301

المقام الأول : في اقتضاء الأمر النهى عن ضده بمعنى النقيض ، وبيان كيفية الاقتضاء... 302

المقام الثاني : في اقتضاء الأمر للنهي عن ضده الوجودي سواء كان الضد الخاص أو القدر المشترك بين الأضداد الوجودية 303

استدلال القائل بالاقتضاء ، باستلزام وجود الضد المأمور به لعدم الضد الآخر ، والاشكال عليه 303

تحقيق الفرق بين الضدين لا ثالث لهما والأضداد الوجودية ، واختيار الاقتضاء في الضدين بالملازمة العرفية 304

استدلال القائل بالاقتضاء ، بالمقدمية... 306

الإشارة إلى مسئلة مقدمية ترك أحد الضدين للآخر وبيان الأقوال في هذه المسئلة... 306

بيان المراد من المانع ، واثبات تأخر رتبته عن المقتضى والشرط ، وما يتفرع عليه : من عدم امكان مانعية وجود أحد الضدين للآخر... 307

بيان ما يرد على المقدمية : من لزوم الدور ، وما أجيب عن هذا الدور بوجوه... 309

في انكار المقدمية من الطرفين ، واندفاع شبهة الكعبي... 311

في بيان ثمرات النزاع ، والعمدة منها فساد الضد إذا كان عبادة ، وما عن البهائي (رحمه اللّه) من انكار

ص: 596

هذه الثمرة... 312

ما حكى عن ( المحقق الكركي ) من المنع من اطلاق مقالة ( البهائي ) وتخصيص ذلك بمزاحمة الواجب المضيق لواجب آخراهم... 312

الاشكال على ما افاده المحقق الثاني (رحمه اللّه)... 314

تحقيق كفاية الملاك في صحة المزاحم... 315

تفصيل الكلام في التزاحم والتعارض والتقديم والترجيح فيهما

المقام الأول : في الفرق بين التزاحم والتعارض وذلك في جهات... 317

الجهة الأولى : هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت... 317

الجهة الثانية : هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الآخر ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه ، وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه... 318

الجهة الثالثة : هي ان المرجحات في باب بالتعارض ترجع اما إلى الدلالة واما إلى السند ، وفي باب التزاحم فالمرجحات هي أمور أخر... 318

الجهة الرابعة : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك بل كان من شرائط حسن الخطاب كالقدرة 319

رد ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى 320

المقام الثاني : في منشأ التزاحم وهي أمور خمسة

1 - تضاد المتعلقين في مقام الامتثال في زمان واحد

2 - عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما

3 - تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم

4 - اتحاد المتعلقين وجودا كما في موارد اجتماع الأمر والنهي

5 - صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الآخر مع اختلافهما في الحكم إذا توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير بغير رضاه... 320

المقام الثالث : في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور... 321

ص: 597

الأمر الأول : ترجيح مالا بدل له على ماله البدل عرضا

الأمر الثاني : ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها... 322

الاشكال على التمسك بالاطلاق لا ثبات ان القدرة المأخوذة عقلية لا شرعية... 323

دفع الاشكال عن التمسك بالاطلاق... 325

المرجح الثالث : ترجيح مالا بدل له شرعا على ماله البدل شرعا... 327

فيما يتعلق بالمرجحات الثلاثة ، والمرجع عند فقدها... 328

في بيان تقديم المتقدم زمانا في المشروطين بالقدرة الشرعية الا في النذر ، وبيان خصوصيته 330

رد ما حكى في تصحيح عمل ( صاحب الجواهر ) حيث نذر زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج 331

في ترجيح الأهم والمتقدم في المشروطين بالقدرة العقلية... 333

تحقيق انه لا معنى للتخيير في الطوليين المتساويين ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم ، وما يتفرع على القولين من الفروع 334

حكم ما إذا اتحد زمان امتثال المشروطين بالقدرة العقلية ، والإشارة إلى مسئلة الأهمية المستفادة من الأدلة 335

الترجيح بالأهمية انما هو بعد فقد المرجحات الثلاثة السابقة... 335

مسألة الترتب وتنقيح محل النزاع فيها

المسألة الأولى : في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيهما لأجل تضاد المتعلقين و كان أحدهما أهما من الآخر. وتنقيح البحث يستدعى رسم مقدمات... 336

المقدمة الأولى : في ان الموجب لا يجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين؟ أو اطلاق الخطابين؟ فعلى الثاني تبتنى صحة الترتب وعلى الأول بطلانه... 336

بيان ما يترتب على القولين : من كون التخيير عقليا أو شرعيا في المتزاحمين المتساويين... 337

بيان ما يترتب على القولين من وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا... 338

استغراب ما صدر عن الشيخ (رحمه اللّه) حيث إنه أنكر الترتب في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ، ولكن التزم بالترتب من الجانبين في مبحث التعادل والتراجيح عند

ص: 598

التساوي وفقد المرجح... 338

المقدمة الثانية : في ان المشروط لا يصير مطلقا بتحقق شرطه... 339

المقدمة الثالثة : في تقسيم الشروط إلى ما لو حظ فيه الانقضاء و إلى ما لو حظ فيه المقارنة 341

في استحالة تخلف التكليف بالمضيق عن شرطه وامتثاله... 342

ما يرد على ( صاحب الكفاية ) حيث اعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات 344

تحقيق ان ما يتوقف عليه الانبعاث بالصوم مثلا ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر 344

اثبات ان الانبعاث دائما يكون من البعث المقارن لا البعث السابق... 345

تحقيق انه على هذا التقدير لا يختص لزوم سبق التكليف بالمضيقات ، بل يلزم القول بذلك حتى في الموسعات 345

دفع بعض الاشكالات التي اشكلوها على الخطاب الترتبي ، منها : توقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث ثبت بطلان كل منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي... 346

المقدمة الرابعة : في أنحاء الإطلاق والتقييد ، وهي ثلاثة :

1 - ان يكون انحفاظ الخطاب بالإطلاق والتقييد اللحاظي.

2 - ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق والتقييد.

3 - ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب... 348

بيان الفرق بين الوجه الثالث والوجهين الأولين... 350

بيان ما يترتب على الفرق المذكور : من طولية الخطابين وخروجهما من العرضية... 351

بيان ما يترتب على المقدمات... 352

المقدمة الخامسة : في انقسام موضوعات التكاليف وشرائطها إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، وإلى ما يمكن ان تناله ذلك... 352

ص: 599

في ان الخطاب تارة يكون بنفس وجوده رافعا لموضوع خطاب آخر ، وتارة يكون بامتثاله رافعا ومسألة الأهم والمهم من هذا القبيل... 354

حكم مالا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، وهو انه يقتضى ايجاب الجمع إذا كانا مطلقين و مقدورين ، وعدم امكان الجمع إذا كان أحدهما أو كل منهما مشروطا بعدم الآخر... 355

حكم ما إذا كان قابلا للرفع والوضع ولكن الخطاب المجامع لم يكن متعرضا لموضوع الآخر ، فالكلام فيه هو الكلام في السابق... 356

تحقيق انه لا أثر لقدرة المكلف على رفع الموضوع إذا استلزم إيجاب الجمع محذورا ، وان قبح التكليف بما لا يطاق إنما هو بالنظر إلى المتعلق لا بالموضوع... 356

حكم ما إذا كان أحد الخطابين متعرضا لموضوع خطاب آخر ورافعا له بنفس الخطاب... 357

حكم ما إذا كان أحد الخطابين بامتثاله وإتيانه رافعا لموضوع الآخر... 357

التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيص للفقيه عن الالتزام بالترتب فيها... 357

في معنى الجمع وما يوجب الجمع... 359

في استحالة اقتضاء الخطاب الترتبي لايجاب الجمع في كل من طرف الطلب والمطلوب... 360

في ان الأمر الترتبي لا يعقل اقتضائه لا يجاب الجمع وذلك لوجوه ثلاثة... 361

ايراد بعض الاشكالات التي تختلج في الذهن بلسان ( ان قلت ) والجواب عن كل واحد منها 362

التنبيه على أمور ترتبط بالمقام

الأمر الأول : في امتناع الأمر الترتبي في المتزاحمين الذين كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية الأمر الثاني : في امتناع الأمر الترتبي فيما إذا لم يكن التكليف المترتب عليه واصلا إلى المكلف ، وما يتفرع عليه : من عدم صحة تصحيح عبادة تارك الجهر أو الإخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي... 368

تقرير الأمر الثاني ببيان آخر... 370

تحقيق عدم جريان الخطاب الترتبي في الجهر والاخفات والقصر والاتمام ببيان آخر ، وهو ان

ص: 600

التضاد في المسئلتين دائمي فتخرجان بذلك عن باب التزاحم وتدخلان في باب التعارض... 371

تحقيق عدم جريان الخطاب الترتبي في الجهر والاخفات ببيان ثالث ، وهو لزوم تحصيل الحاصل في الضدين الذين لا ثالث لهما 372

الأمر الثالث : تقرير جريان الخطاب الترتبي في الموسع والمضيق ، كالصلاة والإزالة... 373

الأمر الرابع : في الاشكال على الترتب فيما إذا كان امتثال المترتب تدريجي الوجود - كالصلاة - وكان لعصيان المترتب عليه استمرار وبقاء - كأداء الدين - بأنه يتوقف الأمر المترتب بالشرط المتأخر... 374

الجواب عن الاشكال بأن هذا ليس اشكالا مخصوصا بالأمر الترتبي بل يطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود... 376

جواب حلى عن الاشكال المطرد في جميع المركبات... 376

في بيان ان الأمر الترتبي قد يحدث في اثناء العمل ، وربما ينعكس الأمر بحيث يكون الأمر المترتب مترتبا عليه 377

فيما حكى عن ( صاحب الفصول ) في مسئلة الاغتراف من الآنية المغصوبة : من القول بصحة الوضوء بالأمر الترتبي ، والجواب عنه... 378

المسئلة الثانية : فيما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينهما من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين... 380

تحقيق ان الخطاب الترتبي في هذه المسئلة مما لا يمكن ولا يعقل... 380

في امتناع الترتب بين المتقدم وحفظ القدرة للمتأخر ، للزوم طلب الحاصل أو طلب الممتنع ، وبطلان قياس هذه المسئلة بمسألة الصلاة والإزالة... 381

المسئلة الثالثة : من مسائل الترتب ، هي ما إذ كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها ، والكلام يقع في مقامين 383

المقام الأول : في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، والكلام يقع فيها من جهات... 384

الجهة الأولى : في ان المقدمة المحرمة ذاتا لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب الا إذا كان وجوب ذي المقدمة أهم ، ولا يتحقق التخيير في صورة التساوي

ص: 601

الجهة الثانية : في توضيح جريان الترتب في المقدمة المحرمة... 384

الجهة ثالثة : في دفع الاشكالين على جريان الترتب في المقدمة المحرمة وهما : اجتماع الوجوب والحرمة ، وتوقف الجريان على القول بالشرط المتأخر... 386

المقام الثاني : فيما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها... 389

اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد في كل من طرف الأهم والمهم ، والجواب عنه 389

المسئلة الرابعة : فيما إذا كان التزاحم لأجل الملازمة بين المتعلقين ، والأقوى عدم جريان الترتب في ذلك لأنه يلزم منه طلب الحاصل... 392

المسئلة الخامسة : فيما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الأمر الترتبي فيه أيضا لأنه يلزم منه : اما طلب الممتنع واما طلب الحاصل... 392

المقصد الثاني في النواهي وفيه مباحث

المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى... 394

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي ، والبحث عنه يقع في مقامين... 396

تحرير المقامين المبحوث عنهما في مسئلة الاجتماع وهما : لزوم الاجتماع وعدمه ، وتأثير وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدمه... 397

المقدمات المشتركة بين المقامين

منها : ان الظاهر كون المسئلة من المبادي الأصولية... 398

ومنها : ان متعلقات التكاليف انما هي المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لحقايقها الخارجية 400

ومنها : ان العناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين الجزئي لا يعقل ان يتصادقا على متحد الجهة 402

في بيان النسب الأربع وان الحصر فيها عقلي... 403

في ان نسبة العموم من وجه لا يعقل ان تتحقق بين العنوانين الجوهريين... 404

ص: 602

ومنها : ان التركيب في العناوين الاشتقاقية اتحادي بخلاف التركيب بين المبادي فإنه يكون انضماميا 406

ومنها : ان التركيب الاتحادي يقتضى ان تكون جهة الصدق والانطباق فيه تعليلية ولا يعقل ان تكون تقييدية 408

ومنها : ان مورد البحث انما هو فيما إذا كان بين العنوانين العموم من وجه ، وذلك أيضا ليس على اطلاقه 410

ومنها : ان الحركة المقرونة للصلاة والغصب ليست معنونة بعنوانين وموجهة بهما... 412

ومنها : ان العناوين المجتمعة في فعل المكلف وما هو الصادر عنه - سواء كانت من العناوين المستقلة للحمل ، أو كانت من متعلقات الفعل ومتمماته ، أو اجتماع العناوين التوليدية مع أسبابها - بأقسامها الثلاثة تندرج في مسئلة اجتماع الأمر والنهي 415

ومنها : انهم قد بنوا المسئلة على كون متعلقات الأحكام هل هي الطبايع أو الأفراد؟ وقد أنكر بعض الأعلام هذا الابتناء ، والحق انه يختلف الحال في ذلك على بعض ونحوه تحرير النزاع ولا يختلف الحال على بعض الوجوه الأخر... 416

الأقوال في المسئلة ، وبيان ما استدل للجواز

منها : ما افاده المحقق القمي (رحمه اللّه) : من أن متعلقات الأوامر والنواهي هي الطبايع والفرد انما يكون مقدمة لوجودها 419

رد ما افاده المحقق القمي (رحمه اللّه) بوجوه ثلاثة... 420

ومنها : ان متعلقات الأحكام هي الصور الذهنية والصور الذهنية متباينة لا اتحاد بينها... 421

ومنها : ان الاجتماع انما يكون مأموريا لا آمريا ، وهذا الوجه هو المحكي المعتمد عليه في عصر ( شريف العلماء ) 421

ومنها : ان متعلقات الأحكام انما تكون هي الماهيات الواقعة في رتبة الحمل ، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل 422

بيان أدلة المانعين. وعمدتها ما ذكره المحقق الخراساني (رحمه اللّه) الذي يتركب من مقدمات... 424

منع بعض المقدمات التي ذكرها المحقق الخراساني (رحمه اللّه)... 424

ص: 603

بيان الوجه المختار ، وهو عدم امكان اتحاد المقولتين وكون الترتيب فيهما انضماميا... 424

حاصل البرهان على الوجه المختار ، الذي يتركب من أمور بديهية... 427

الاشكال على ما افاده بعض الأعلام : من أن الفرق بين البابين انما هو باشتمال كل من الحكمين على المقتضى في باب اجتماع الأمر والنهي وعدم اشتمال أحدهما على ذلك في باب التعارض... 428

تنبيهات المسئلة

التنبيه الأول : في بيان ان الصحة عند الجهل مبنية على التزاحم والجواز. والاشكال على ما افاده الشيخ (رحمه اللّه) في المقام 429

في امتناع الحكم الاقتضائي الذي لا يصير فعليا أبدا... 432

التنبيه الثاني : في رد ما استدل للجواز بوقوعه في الشرعيات في مثل العبادات المكروهة... 434

البحث عن كيفية تعلق الكراهة بالعبادة ، وبيان المراد منها... 434

تحقيق بقاء اطلاق الأمر في العبادات المكروهة ، وان الكراهة لا تنافي اطلاق الرخصة في الأمر 435

الكلام فيما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الأمر ، كصوم يوم عاشوراء والصلاة عند طلوع الشمس 438

هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم أو لا يكفي؟

في ان مقتضي ما تقدم عن المحقق الكركي ، هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وبيان الفرق بين المقام وبين ما افاده المحقق (رحمه اللّه) وان هذا الفرق لايكون فارقا في المناط... 441

بيان فساد مبنى المحقق الكركي (رحمه اللّه)... 442

بيان عدم المنافاة بين القول بالجواز وعدم صحة الصلاة في المكان الغصبي في صورة العلم والعمد ، لبغضها الفاعلي 443

تحقيق أنه إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا تندرج المسئلة في باب التعارض وان

ص: 604

كان التركيب انضماميا... 443

في حكم صلاة المجوس في المكان المغصوب... 444

في حكم الخروج من المكان المغصوب وبيان الأقوال فيه... 446

في عدم اندراج المقام في قاعدة الامتناع بالاختيار... 449

في بيان حكم الصلاة حال الخروج عند ضيق الوقت... 452

في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

بيان الفرق بين هذه المسئلة ومسألة اجتماع الأمر والنهي... 454

اثبات كون المسئلة من مسائل علم الأصول ، وانها ليست من مباحث الألفاظ بل من مباحث الملازمات العقلية للأحكام 454

في تحرير محل النزاع ، وبيان المراد من العبادة ، والمعاملة ، والفساد... 455

في بيان المراد من الصحة والفساد في محل البحث... 457

اشكال اتصاف المعاملات بالصحة والفساد ، وحله... 458

في كون الصحة والفساد انتزاعيين مطلقا... 460

في ان البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهي عنه لولا النهى 461

تحقيق انه لا أصل في المسئلة بالنسبة إلى المسئلة الأصولية... 462

المقام الأول : في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد... 463

وجوه تصوير النهى عن العبادة... 463

الإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة ، والجواب عنه... 463

تحقيق ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا... 464

التنبيه على أمرين

الأول : في فساد العبادة مع الاضطرار أو النسيان ، والنظر في المحكى عن المشهور حيث حكى عنهم : لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلواته وكذا في صورة النسيان... 467

ص: 605

الثاني : في ان الحرمة التشريعية توجب فساد العبادة دون المعاملة... 469

المقام الثاني : في النهى عن المعاملة... 471

لا اشكال في كون النهى الارشادي موجبا لفساد المعاملة... 471

فيما يقتضيه النهى المولوي عن السبب والمسبب والأثر في المعاملات... 471

الاستدلال بالرواية على فساد المعاملة المنهية... 473

فساد ما حكى عن ( أبي حنيفة ) من دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة... 474

المقصد الثالث في المفاهيم

مقدمة : في المفاهيم وتفسيرها ، وبيان ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا... 476

الفصل الأول في مفهوم الشرط

الجهات التي تقع البحث فيها ( في القضية الشرطية )... 478

فيما يتوقف عليه ثبوت مفهوم الشرط... 479

في ان دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وضعية ، ودلالتها على كون العلقة بينهما علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء سياقية... 480

تقريب الاستدلال بمقدمات الحكمة ، لا ثبات كون الشرط علة منحصرة... 481

الاشكال على استفادة انحصار العلة من مقدمات الحكمة... 481

تقريب مقدمات الحكمة لاستفادة الانحصار بوجه آخر ، وهو اجراء المقدمات في ناحية الجزاء 482

تنبيهات المسئلة

الأول : في ان المراد من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ( المعبر عنه بالمفهوم ) هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه لا شخصه 484

الثاني : في ان المفهوم يتبع المنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه ، وانما التفاوت بينهما بالسلب والايجاب 485

ص: 606

اشكال منطقي على استفادة نجاسة الماء القليل من مفهوم قوله (عليه السلام) ( إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) والجواب عنه 485

الثالث : في تعارض المفهومين ، وتحقيق انه لا بد من الجري على ما يقتضيه العلم الاجمالي 486

الرابع : في تداخل الأسباب والمسببات... 489

بيان المراد ، من تداخل الأسباب والمسببات... 489

مقتضى الأصل الاعملى عند الشك في تداخل الأسباب أو المسببات بحسب الحكم التكليفي والوضعي 490

في ان الجزاء القابل للتعدد والقابل للتقيد بالسبب داخل في محل النزاع ، والجزاء الغير القابل للتعدد والتقيد خارج عن حريم النزاع... 491

تحقيق عدم ابتناء مسئلة التداخل على كون الأسباب الشرعية معرفات ، أو مؤثرات... 492

في بيان عدم التنافي بين القول بعدم التداخل وبين ما حكى عن المشهور : من القول بكفاية صوم يوم واحد في مثال ( صم يوما وصم يوما )... 492

في ان الأصل اللفظي يقتضى عدم تداخل الأسباب والمسببات... 493

في ان الجملة الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين... 494

اشكال : ان الجزاء لم يترتب بوجوده على الشرط حتى يمكن التعدد ، بل رتب من حيث حكمه - فان وجوده هو مقام امتثاله - والجواب عنه... 495

البرهان المحكى عن العلامة (رحمه اللّه) لعدم تداخل الأسباب الذي أتمه بمقدمات ثلث... 495

إشارة اجمالية إلى ما هو ضابط ومميز بين العلل للجعل وبين موضوعات المجعول... 496

تحقيق أصالة عدم التداخل في ناحية المسببات... 497

التنبيه على أمرين

الأول : في بيان موارد قيام الدليل على التداخل ، كموجبات الوضوء وبعض موجبات الكفارة ، وتوجيه التداخل في هذه الموارد... 498

الثاني : في بيان ارتباط مسئلة التداخل بمسألة القول بتعدد حقايق الأغسال - كما هو المشهور - والقول باتحادها ، كما هو المحكى عن الأردبيلي (رحمه اللّه)... 499

ص: 607

الفصل الثاني في مفهوم الوصف

تحرير عنوان البحث ، وتخصيص محل النزاع بالوصف المتعمد على الموصوف... 501

تحقيق عدم دلالة الوصف على المفهوم مطلقا... 502

مقايسة المقام بمسألة حمل المطلق على المقيد ، ورد هذه المقايسة... 502

في ان محل البحث هو فيما كان بين الموصوف والصفة عموم مطلق ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموصوف لا الافتراق من جانب الوصف ، كالإبل السائمة... 503

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

هل الغاية داخلة في المغيى أم لا؟... 504

تحقيق انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج بل لا بد من قرينة خارجية خاصة ، والمرجع عند الشك هو الأصول العملية... 504

الظاهر ان الغاية قيد للحكم فيقتضى المفهوم... 505

الفصل الرابع في مفهوم الحصر

في ان مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد ، ورد ما نقل عن ( نجم الأئمة ) 505

في ان النزاع في الحقيقة راجع إلى أن كلمة ( الا ) وصفية أو استثنائية؟ فعلى الأول : لا مفهوم لها ، وعلى الثاني : فثبوت المفهوم لها مسلم... 506

الاشكال في إفادة كلمة ( لا إله إلا اللّه ) التوحيد ، ودفعه... 508

في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، واحتياج ساير الأدوات بالقرائن الخاصة... 509

المقصد الرابع في العام والخاص

في بيان المراد من العموم... 511

ص: 608

في بيان الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، واندفاع الدور الوارد على الشكل الأول 511

في بيان اقسام العموم ، وان الأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية... 514

في ان العام المخصص ليس مجازا ، وبيان ما أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية... 516

حاصل ما افاده الأستاذ في وجه عدم المجازية... 517

رد توهم المجازية في التخصيص الأفرادي... 519

المناقشة في ما افاده الشيخ (رحمه اللّه) في وجه حجية العام فيما بقي بعد التسليم المجازية... 521

توجيه مقالة الشيخ بتقريب آخر... 522

في أقسام المخصص المجمل وحكم أصالة العموم فيها

حكم ما لو كان المخصص متصلا... 523

حكم ما لو كان المخصص منفصلا ودار أمره بين المتباينين... 523

حكم ما لو كان المخصص منفصلا ودار امره بين الأقل والأكثر... 524

في عدم صحة التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية للمخصص

دفع ما يتوهم : من صحة التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان العام... 525

بصورة القضايا الخارجية... 526

في أن قياس الأصول اللفظية بالأصول العملية قياس مع الفارق... 528

بيان وجه حكم المشهور بالضمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية... 529

تحقيق جريان الأصل في الموضوعات المركبة ومنها يد المشكوكة... 530

بيان عدم جريان الأصل فيما كان التركيب من العرض ومحله ، لكون العدم فيه نعتيا... 532

في ضعف التفصيل الذي افاده المحقق الخراساني (رحمه اللّه) بين ما إذا كان دليل التقييد منفصلا أو كان من قبيل الاستثناء ، وبين ما إذا كان متصلا بالكلام على وجه التوصيف... 533

ص: 609

بيان ما تداول بين المتأخرين من جواز التمسك بالعام عند الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا 536

في ما يصح التمسك فيه بالعموم من المخصص اللبي... 536

في عدم صحة التمسك بالعمومات أو الأصول قبل الفحص

الوجهان العمدتان لوجوب الفحص ، في الأصول العلمية... 540

الوجهان العمدتان لوجوب الفحص في الأصول اللفظية... 540

الاشكال على العلم الاجمالي المقتضى للفحص ، على وجه يختص بالأصول العملية ، ودفعه بالانحلال الحكمي 541

تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، وهو انحلال العلم بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الأحكام والمقيدات والمخصصات ، فلا موجب للفحص التام... 543

دفع الاشكال : بان المعلوم بالاجمال هنا معلم بعلامة ( ما بأيدينا من الكتب ) فلا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن من الأحكام... 543

الاشكال على ما لو جعل المدرك لوجوب الفحص ، كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، والذب عنه 546

البحث عن مقدار الفحص ، وتحقيق انه يكفي في ذلك حصول الاطمينان وسكون النفس 547

في أن الخطابات هل تعم الغائبين والمعدومين أم لا؟

تحرير محل الكلام ، وتعيين جهة البحث هل انه عقلي أم لغوي؟... 548

في بيان ثمرة النزاع

تحقيق عدم ابتناء الثمرة على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) حيث ذهب إلى حجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد إفهامه 549

تفصيل الكلام بين القضية الحقيقية والخارجية بشمول الأولى للغائبين والمعدومين دون

ص: 610

الثانية... 550

في أن عود الضمير إلى بعض افراد العام يوجب التخصيص أم لا؟

بيان ما قد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام... 552

تقرير عدم جريان أصالة عدم الاستخدام بوجوه ثلاثة... 552

في أن الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل يرجع إلى خصوص الجملة الأخيرة أو الجميع أو يقتضى التوقف؟

التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول وبين ما إذا حذف فيها الموضوع 554

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

بيان معنى المفهوم الموافق... 555

في أن المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة... 556

الإشارة إلى الخلط الواقع في جملة من الكلمات في المفهوم المخالف... 557

تحقيق ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مطلق من العام يقدم على العام ، ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه... 559

الوجهان الفارقان بين المفهوم المخالف والموافق... 560

بيان عدم صلاحية العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم وان كان متصلا 560

في تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري... 561

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

بيان معنى الاطلاق والتقييد ، والنظر في تعريف المطلق : بأنه ما دل على شايع في جنسه في أن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الأفرادية كذلك يردان على الجمل

ص: 611

التركيبية ، وبيان الفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية واطلاق الجمل التركيبية... 563

في خروج الأعلام والمعاني الحرفية والجمل التركيبية عن محل الكلام ، واختصاص البحث بالعناوين الكلية القابلة الصدق على كثيرين كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية... 564

في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، فيدور أمره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة أو من تقابل التضاد... 566

تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب إلى سلطان العلماء... 566

في انقسامات الماهية... 566

في بيان اللا بشرط القسمي ، والفرق بينه وبين المقسمي... 568

اشكال بعض المحققين على المشهور القائلين : بأن الاطلاق والإرسال جزء مدلول اللفظ ، بأنه يلزم ان يكون الإطلاق حينئذ كليا عقليا ، والجواب عنه... 570

في ان الكلى الطبيعي هو اللا بشرط القسمي... 571

في ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللا بشرط المقسمي ، كما هو مقالة السلطان (رحمه اللّه) 572

في بيان احتياج الإطلاق إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الأفرادي 573

في بيان مقدمات الحكمة التي تتركب من عدة أمور

1 - ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الإطلاق والتقييد وقابلا لهما.

2 - كون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإجمال وان لايكون الإطلاق تطفليا.

3 - عدم ذكر القيد من المتصل والمنفصل... 573

في أن عدم القدر المتيقن ليس من مقدمات الحكمة... 574

في أن التقييد لا يوجب المجازية على مسلك ( السلطان ) والمحققين من المتأخرين ، وانما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي... 576

ص: 612

في حمل المطلق على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات

الجهة الأولى : في أن المقيد بمنزلة القرينة فيقدم على المطلق الذي يكون بمنزلة ذي القرينة ، من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، ومن غير فرق بين المتصل والمنفصل... 577

الجهة الثانية : في بيان صور ذكر السبب وعدمه في كل من المطلق والمقيد ، وأحكام كل من الصور الأربعة 579

الجهة الثالثة : في بيان أنحاء ورود المطلق والمقيد ، وتمييز ما يحمل منها مما لا يحمل... 581

تحقيق انه لا موجب لحمل المطلق على المقيد مطلقا إذا كان التكليف استحبابيا... 585

وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة اللّه على اعدائهم اجمعين

10 شوال المكرم سنة 1404 ه-

ص: 613

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

المحقق: الشيخ رحمة اللّه رحمتي الأراكي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 0

ISBN: 978-964-470-899-2

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1406 ه.ق

الصفحات: 470

فوائد الأصول

من إفادات قدوة الفقهاء و المجتهدين آية اللّه في الارضين

الميرزا محمد حسين الغروي النائيني

(1355 ه ق)

تأليف الأصولي المدقق والفقيه المحقق العلامة الرباني

الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني

(1365 ه ق)

مع تعليقات خاتم الفقهاء والأصوليين آية اللّه في العالمين

الشيخ آغا ضياء الدين العراقي

(1361 ه ق)

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسمه تعالى شأنه

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. والصلاة والسلام على رسوله الأمين مزكي الأمة ومعلّمها الكتاب والحكمة، وعلى آله أولي الأمر وأهل الذكر الذين حصنوا امة الاسلام ضد تيارات الكفر والنفاق بما بثوا من علوم ربانية وبما ربوا من شخصيات إسلامية تسير على خط الاسلام الأصيل.

و جاء علم أصول الفقه في طليعة العلوم الإسلامية التي تدور عليها رحى الاستنباط والاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية والقدرة على الاستنباط من أولى مؤهلات القيادة الإسلامية. ومن هنا كان علم الأصول علماً حياً مثمراً على مدى التأريخ.

و قد نذرت مؤسسة النشر الإسلامي نفسها لإحياء التراث الإسلامي الأصيل وعرضه إلى طلاب الحقيقة وروّاد الفضيلة، بشكل فنّي أنيق، يُسهل الانتفاع به، ويوفر على الأساتذة والطلاب وقتاً هم والأمة بأمس الحاجة إليه لاسيما بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة واشتداد الحاجة الى فضلاء الحوزات العلمية والمجتهدين منهم في شتى المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية...

و من جملة هذا التراث الإسلامي الثر الذي قامت هذه المؤسسة بنشره هو الموسوعة الاصولية الفريدة لأبحاث قدوة الفقهاء والمجتهدين، العالم الرباني آية اللّه العظمى الميرزا محمد حسين الغروي النائيني - طاب ثراه - بقلم تلميذه الألمعي الاصولي المدقق والفقيه المحقق الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني قدس سره المسماة ب- : فوائد الأصول. وقد تم نشر الجزءين الأول والثاني، والآن نقدم الجزء الثالث من هذه الموسوعة مزداناً بتعليقات رشيقة وعميقة المعاصره الفذ صاحب الفكر الثاقب والاصولي البارع العلم الباقي آية اللّه العظمى الشيخ آقا ضياء الدين العراقي - طاب ثراه -.

ولا يخفى على أولي الألباب ما في هذا الجمع بين أنظار هذين العلمين من

ص: 3

امتياز يساعد المحقق على سرعة التحقيق والاستنتاج.

و حيث كانت هذه التعليقة كتاباً مستقلاً، استلزم إلحاقها بأصل الكتاب حذف الجمل التي اقتطعها المعلّق - قدس سره - من فوائد الأصول لبيان محط بحثه منها .

وقد قام الفاضل الألمعي حجة الإسلام الشيخ رحمة اللّه رحمتي الأراكي بمهمة التصحيح والمقابلة والتنظيم والفهرسة للأبحاث فلله تعالى دره وعلى اللّه تعالى أجره، ونسأل المولى الجليل أن يتقبل منا ومنه بمنه وجوده وكرمه.

و من الجدير بالذكر تقديم جزيل الشكر لما بذله عدة من الحجج الأفاضل من السعي الوافر للحصول على بعض النسخ المخطوطة للتعليقة، لا سيما الفقيه المحقق والأصولي المدقق آية اللّه الحاج الشيخ هاشم الآملي - مدظله والعلامة الجليل حجة الإسلام الشيخ محمد المؤمن والعلامة الجليل حجة الإسلام الشيخ محمد مهدي الآصفي أدام اللّه عزهما

وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب على النسخة المشهورة المطبوعة والمصححة في زمن حياة المؤلّف (الكاظمي قدس سره ) .

و اعتمدنا في تصحيح التعليقة على النسخة المخطوطة بخط تلميذ صاحب التعليقة، الأصولي المدقق آية اللّه الشيخ محمد تقي البروجردي - قدس سره التي أهداها إلينا سماحة الحجّة الآصفي، وقابلناها مع النسخة المخطوطة التي تفضل بها آية اللّه الأملي .

والذي سبب تأخير إصدار هذا الجزء هو فقدان التعليقة المهمة على الكتاب لسبب غير معلوم - واللّه أعلم بالسرائر - ولهذا نعتذر إلى قرائنا الكرام من هذا التأخير لا لتقصير منا. ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه، إن اللّه بالغ أمره وهو مؤيد من ينصره. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ايران

شهر الصيام 1406 ه.ق

ص: 4

الصورة

ص: 5

الصورة

ص: 6

الصورة

ص: 7

ص: 8

فوائد الأصول

الجزء الثالث

ص: 1

ص: 2

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الموسوم ب ( فوائد الأصول ) وهو يشتمل على مهمات مباحث القطع والظن وبعض الأصول العملية ، وهي نتيجة ما تلقيته من بحث شيخنا الأستاذ ، الإمام الفقيه ، علم العلم وبدر سمائه ومشكاة نوره ، مفصل الصواب وفصل الخطاب ، من قد استبطن أسرار العلوم واستجلى غوامضها ومحص حقائقها وأحصى مسائلها وأحاط بفروعها وأصولها ومعقولها وومنقولها ، صدر العلماء وعين الفقهاء ، قبلة المشتغلين وخاتمة المجتهدين ، آية اللّه في العالمين ، من قد ألقت إليه الرياسة الدينية أزمتها في أواسط القرن الرابع عشر ، حضرة « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » متع اللّه الاسلام بشريف وجوده.

وقد جعل ( مد ظله ) عنوان بحثه كتاب « فرائد الأصول » تأليف أستاذ الأساتيذ الشيخ الأنصاري ( قده ) لمكان أنه أحسن كتاب صنف في المباحث العقلية من حيث الترتيب وتبويب المباحث وتمييز الطرق والأمارات عن الأصول العملية ، فان المتقدمين لم يميزوا المباحث بعضها عن بعض وأدرجوا كثيرا من الأدلة الاجتهادية في الأدلة الفقاهية.

قال قدس سره : « اعلم أنّ المكلف إذا التفت الخ » والمراد من المكلف هو خصوص المجتهد ، إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصيلي الحاصل للمجتهد

ص: 3

بحسب اطلاعه على مدارك الأحكام. ولا عبرة بظن المقلد وشكه. وكون بعض مباحث القطع تعم المقلد لا يوجب أن يكون المراد من المكلف الأعم من المقلد والمجتهد ، إذ البحث عن تلك المباحث وقع استطرادا وليست من مسائل علم الأصول ، ومسائله تختص بالمجتهد ولا حظ للمقلد فيها. ولا سبيل إلى دعوى شمول أدلة اعتبار الطرق والأصول للمقلد ، غايته أن المقلد عاجز عن تشخيص مواردها وومجاريها ويكون المجتهد نائبا عنه في ذلك ، فإنه كيف يمكن القول بشمول خطاب مثل « لا تنقض اليقين بالشك » في الشبهات الحكمية للمقلد ، مع أنه لا يكاد يحصل له الشك واليقين ، بل لو فرض حصول الشك واليقين له فلا عبرة بهما ما لم يكن مجتهدا في مسألة حجية الاستصحاب.

ثم إنه لا وجه للاشكال على تثليث الأقسام : بأن الظن إن قام دليل على اعتباره فهو ملحق بالعلم وإلا فملحق بالشك فلا يصح تثليث الأقسام ، فان عقد البحث في الظن إنما هو لأجل تميز الظن المعتبر الملحق بالعلم عن الظن الغير المعتبر الملحق بالشك ، فلابد أولا من تثليث الأقسام ثم البحث عن حكم الظن من حيث الاعتبار وعدمه. نعم : لازم اعتباره هو أن يكون كالعلم ، كما أن لازم عدم اعتباره هو أن يكون كالشك. ثم إنه قد اختلفت كلمات الشيخ ( قده ) في تشخيص مجاري الأصول ، ولا تخلو بعضها أو جميعها عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس.

والأحسن ، أن يقال : إن الشك ، إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني : فاما أن لا يعلم بالتكليف أصلا ولو بجنسه وإما أن يعلم ، وعلى الثاني : فإما أن يمكن فيه الاحتياط وإما أن لا يمكن ، فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى البراءة ، والثالث مجرى الاحتياط ، والرابع مجرى التخيير (1) وإنما

ص: 4


1- أقول : ولا يخفى ان جعل التخيير قبالة البراءة انما يتم في الأصول العقلية التي موضوعها اللابيان أو البيان ، لأن سقوط العلم في المحذورين لا يسقط عن البيانية إلا بالترخيص الناشئ عن الطرفين بمناط عدم المرجح ولا يعقل أن يكون بمناط اللابيان. وأما في الأصول الشرعية فلا بأس بجريانها في طرفي العلم مع فرض عدم استلزامه مخالفة عملية ، لأن موضوعها عدم العلم وهو في كل واحد من الطرفين حاصل ، وحينئذ لا يبقى تخيير في قبال البراءة الشرعية ، فتدبر.

قيّدنا مجرى الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة ولم نكتف بمجرد وجودها ، فان مجرد وجودها بلا لحاظها لا يكفي في كونها مجرى الاستصحاب ، إذ هناك من ينكر اعتبار الاستصحاب كلية ، أو في خصوص الأحكام الكلية ، أو في خصوص الشك في المقتضى - على اختلاف الأقوال فيه - فالمنكر يدعى أن وجود الحالة السابقة كعدمها لا تكون مجرى الاستصحاب. وهذا بخلاف ما إذا لوحظت فيه الحالة السابقة ، فان لحاظها انما يكون لأجل جريان الاستصحاب ويكون الشك الملحوظ فيه الحالة السابقة مجرى للاستصحاب على جميع الأقوال فيه.

ولا يخفى أنّ الحصر في مجاري الأصول إنما يكون عقليا لدورانه بين النفي والإثبات. وأما حصر الأصول في الأربع فليس بعقلي ، لامكان أن يكون هناك أصل آخر وراء هذه الأصول الأربعة. ولكن هذا بالنسبة إلى خصوص الاستصحاب حيث إن اعتباره شرعي.

وأما بالنسبة إلى الأصول العقلية : من البراءة والتخيير والاحتياط ، فالحصر فيها عقلي ، لأنه في صورة الشك : إما أن يراعى جهة التكليف وإما أن لا يراعى ، وفي صورة المراعاة : إما أن يراعى من كل وجه وإما أن يراعى في الجملة ، فالأول عبارة عن البراءة ، والثاني الاحتياط ، والثالث التخيير. ولا يعقل أن يكون هناك أصل عقلي آخر وراء هذه الأصول الثلاثة.

ثم إن الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية لا تختص بهذه الأصول الأربعة ، بل هناك أصول أخرى تجرى في الشبهات الحكمية - كأصالة الطهارة والحل - وإنما وقع البحث عن خصوص هذه الأصول الأربعة ، لمكان أن كل شك في كل باب من أبواب الفقه لابد وأن ينتهى إلى أحدها ، بخلاف الأصول الاخر فإنها تختص ببعض الأبواب ، مع أن بعضها لا كلام في اعتبارها ، كأصالة الطهارة.

وعلى كل حال : بعدما عرفت من أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإما أن يحصل له القطع ، أو الظن ، أو الشك ، فالبحث يقع في مقامات ثلاث.

ص: 5

المقام الأول: في القطع

وفيه مباحث :

المبحث الأول: في وجوب متابعة القطع

والمراد من وجوب متابعة القطع (1) وجوب متابعة المقطوع من الواقع المرئي بالقطع ولزوم العمل بما أدى إليه قطعه والجري على وفق علمه. وهذا الوجوب ليس وجوبا شرعيا ، لأن طريقية القطع ذاتية له لا تنالها يد التشريع ، إذ لا معنى لتشريع ما هو حاصل بذاته ومنجعل بنفسه ، فان الجعل التشريعي إنما يتعلق بما يكون تكوينه عين تشريعه لا ما يكون متكونا بنفسه ، وطريقية القطع تكون كذلك. وهذا من غير فرق ، بين أن نقول بصحة جعل الحجية والطريقية - كما هو المختار - وبين أن نقول بعدم الصحة وأن المجعول هو منشأ الانتزاع - كما هو مختار الشيخ ( قده ) فان الطريقية التي نقول بصحة جعلها إنما هي في غير الطريقية التكوينية - كطريقية القطع - فإنها من لوازم ذات القطع كزوجية الأربعة ، بل بوجه

ص: 6


1- أقول : لا شبهة في أن الأعمال المترتبة على القطع ليس من لوازم المرئي بوجوده الواقعي ، بل إنما هي من لوازم وجوده الزعمي الملحوظ في ظرف لحاظه طريقا إلى الواقع بلا التفات إلى زعميته. وحينئذ لا بأس بإضافة مثلها إلى نفس القطع، بل لا يضاف بالنظر الآخر الثانوي إلا إليه ، كما لا يخفى.

يصحّ أن يقال : إنها عين القطع ، وما يكون شأنه ذلك كيف يصح أن تناله يد الجعل التشريعي!.

وبعبارة أخرى : طريقية كل شيء لابد وأن تنتهي إلى العلم وطريقية العلم لابد وأن تكون ذاتية له ، لأن كل ما بالغير لابد وأن ينتهى إلى ما بالذات وإلا لزم التسلسل.

ومما ذكرنا يعلم : أن نفي الطريقية والحجية عن القطع أيضا لا يعقل ، إذ لا يمكن شرعا سلب ما هو من لوازم الذات ، مضافا إلى لزوم التناقض. وذلك كله واضح لا يحتاج إلى أزيد من تصور حقيقة القطع.

ولا يصح إطلاق الحجة عليه ، فان الحجة باصطلاح المنطقي عبارة عن « الوسط الذي يكون بينه وبين الأكبر الذي يراد إثباته للأصغر علقة وربط ثبوتي » إما علقة التلازم وإما علقة العلية والمعلولية ، سواء كان الوسط علة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمي ، أو كان معلولا له الذي هو البرهان الإني ، وأمثلة الكل واضحة. ومن المعلوم : أن القطع لا يكون حجة بهذا المعنى ، إذ لا يصح أن يقع وسطا في القياس ، فلا يقال « هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية خمر أو يجب الاجتناب عنه » لأن الكبرى كاذبة ، إذ معلوم الخمرية يمكن أن يكون خمرا ويمكن أن لا يكون ، ووجوب الاجتناب لم يترتب شرعا على معلوم الخمرية بل على الخمر الواقعي ، لأن الكلام في القطع الطريقي ، فلا يكون هناك علقه ثبوتية بين العلم وبين الأكبر ، لا علقة التلازم ولا علقة العلية والمعلولية ، وما لم يكن علقة لا يصح جعله وسطا فلا يكون حجة باصطلاح المنطقي ، كما لا يكون حجة باصطلاح الأصولي أيضا ، فان الحجة باصطلاح الأصولي عبارة عن الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطا لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه ، فان متعلقاتها إن كانت من الموضوعات الخارجية فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح ، إذ لا علقة بين الظن بخمرية شيء وبين نفس الخمر - لا علقة التلازم ولا علقة العلية والمعلولية - وإن

ص: 7

كانت من الأحكام الشرعية ، فلأن الأحكام الشرعية (1) مترتبة على موضوعاتها الواقعية لا على ما أدى إليه الطريق ، إلا بناء على التصويب الذي لا نقول به.

ومن هنا يظهر : انه لا يصح تأليف القياس الحقيقي من الأدلة الشرعية ، بل صورة قياس أشبه بالمغالطة ، فقولك « هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه فهذا يجب الاجتناب عنه » قياس صوري لا واقع له ، إذ الذي يجب الاجتناب عنه هو الخمر الواقعي لا مظنون الخمرية وإنما كان الظن طريقا شرعيا إلى الخمر ، فالظن يكون من قبيل المعرف والواسطة في الاثبات فقط من دون أن يكون واسطة في الثبوت ، ومعه لا يصح تأليف القياس الحقيقي منه إلا بنحو من التأويل بعناية جعل الشارع الظن طريقا إلى الخمر ومثبتا له في الظاهر. وهذا بخلاف القطع فإنه لا يصح جعله وسطا بوجه من الوجوه ولا يمكن تأليف القياس منه ولو قياس صوري ، إذ تلك العناية التي كانت في الظن لم تكن في العلم ، لعدم جعل الشارع العلم طريقا إلى إثبات متعلقه ، لما تقدم من أن طريقية القطع غير قابلة لأن تنالها يد

ص: 8


1- أقول : بعد ما كان روح الحكم وحقيقته الذي هو موضوع حكم العقل بالإطاعة والعصيان ومدار استحقاق الثواب والعقاب هي الإرادة المبرزة بالخطاب ، لا نفسه بعنوان الأولى ، بل هو حكم حقيقي بعنوانه الثانوي من المبرزية التي هو عنوان توليدي له ، فلا شبهة في أن هذه الحقيقة له مادة عبارة عن الإرادة الحقيقية وصورة هي عبارة عن بروزه بالخطاب ووصوله إلى المكلف ، وهذا الوصول تارة : يكون بالخطاب الواقعي ، وأخرى : لا يكون الا بالخطاب المتوجه إليه في ظرف الجهل بالخطاب الواقعي ، وحينئذ ففي ظرف بروزه بالخطاب الثانوي صح أن يقال : إن الخطاب الثاني المتعلق بالظن أو الشك مبرز لنفس الإرادة الواقعية التي هي مضمون الخطاب الأولى ، ومثل هذه الإرادة المبرزة بمادته واقعي وبصورته من تبعات الظن بالواقع والشك. وبهذه الملاحظة صح كون الظن وسطا لحكم متعلقه ، لأن روح الحكم ومادته هي الإرادة التي من لوازم متعلقه وإن كان بروزه بالخطاب المتعلق بالظن ، فمن حيث قيام بروزه به صح نسبة الوسطية إلى الظن ، ومن حيث إن المبرز هو عين إرادة الواقعية القائمة بنفس المتعلق صح أن يضاف الحكم بروحه إلى المتعلق بلا مغالطة في القياس، نعم : لو كان الخطاب الثانوي مبرزا لإرادة أخرى في قبال الواقع لا يصح ذلك إلا بنحو المغالطة ، ولكن هذا المعنى أجنبي عن الأحكام الطرقية بأي لسان كان ، سواء كان بلسان تتميم الكشف أو جعل المؤدى بمنزلة الواقع ، فتدبر.

الجعل التشريعي ، وما لم يكن هناك جعل شرعي لا يكون حجة باصطلاح الأصولي.

ومن هنا ظهر : أن مسألة حجية القطع لا تكون من مسائل علم الأصول ، فان الضابط في كون المسألة أصولية هو أن تقع نتيجتها كبرى لقياس الاستنباط - على ما بيناه في محله - ومسألة حجية القطع ليست كذلك ، فظهر : أنه لا يصح إطلاق الحجة على القطع باصطلاح أهل الميزان ولا باصطلاح الأصولي. ولكن هذا في القطع الطريقي الذي لم يؤخذ شرعا في موضوع حكم.

وأما القطع الموضوعي : فيطلق عليه الحجة ويتألف منه القياس حقيقة ، ويكون أشبه بالحجة باصطلاح المنطقي ، فان موضوع الحكم يكون بمنزلة العلة لثبوت ذلك الحكم ، حيث إن نسبة الموضوعات إلى الأحكام نسبة العلل إلى معلولاتها وان لم تكن من العلل الحقيقية الا أنه لمكان عدم تخلف الحكم عن موضوعه صار بمنزلة العلة ، فالقطع الموضوعي يقع وسطا للقياس ، ويقال مثلا « هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية يجب الاجتناب عنه » إذا فرض أن وجوب الاجتناب رتب على معلوم الخمرية لا على الخمر الواقعي. وهذا من غير فرق بين أن يكون القطع تمام الموضوع أو جزئه - على ما سيأتي من الفرق بينهما - فإنه على كل تقدير يقع وسطا ، غايته انه لو كان تمام الموضوع يكون تمام الوسط للقياس ، ولو كان جزء الموضوع يكون جزء الوسط وجزئه الآخر هو الواقع المنكشف به ، وذلك كله واضح.

المبحث الثاني: في أقسام القطع

اعلم : أن القطع إما أن يتعلق بموضوع خارجي ، وإما أن يتعلق بحكم شرعي. فان تعلق بموضوع خارجي : إما أن يكون ذلك الموضوع ذا حكم شرعي مع قطع النظر عن تعلق القطع به ، وإما أن يكون لتعلق القطع به دخل في ثبوت

ص: 9

الحكم الشرعي ؛ ولا إشكال في أن القطع بالنسبة إلى الموضوع الخارجي يكون طريقا محضا لا يعقل أن يكون له دخل في عنوان ذلك الموضوع ، بل عنوان الموضوع أمر واقعي يدور مدار واقعه ، وكذا يكون طريقا محضا بالنسبة إلى الحكم الشرعي المترتب على ذلك الموضوع ، كما لو فرض أن وجوب الاجتناب رتب شرعا على نفس الخمر الواقعي ، فان العلم بالنسبة إليه يكون طريقا محضا ، ويكون العلم بالموضوع علما بالحكم بعد العلم بالكبرى الكلية المجعولة شرعا من وجوب الاجتناب عن الخمر.

وأما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلق به العلم ذا حكم شرعي بل كان للعلم دخل في الحكم ، فهذا يتصور على وجوه : فإنه يمكن أن يكون العلم تمام الموضوع بحيث يدور الحكم مدار العلم وجودا وعدما صادف الواقع أو خالف ، كما لو فرض أن وجوب الاجتناب رتب شرعا على العلم بخمرية الشيء سواء صادف العلم الواقع أو خالف.

ويمكن أن يكون العلم جزء الموضوع بحيث يكون للواقع المنكشف بالعلم دخل في ثبوت الحكم أيضا ويكون الموضوع مركبا من العلم والواقع وينتفى الحكم قهرا بانتفاء أحدهما ، وعلى كلا التقديرين : يمكن أن يؤخذ العلم موضوعا على وجه الصفتية ، ويمكن أن يؤخذ على وجه الطريقية.

بيان ذلك : هو أن العلم لما كان ظاهرا بنفسه مظهرا لغيره وكان من الصفات الحقيقية ذي الإضافة وتكون جهة الحقيقية قائمة بنفس العالم من حيث قيام الصورة بنفسه التي هي المعلوم بالذات - على ما سيأتي الإشارة إلى بيانه - وجهة الإضافة قائمة بذى الصورة التي تكون معلومة بالعرض وبالغير من حيث كونه كاشفا ومظهرا لها ، فيمكن أن يؤخذ العلم من الجهة الأولى موضوعا لحكم وهو المراد من أخذه على نحو الصفتية ، ويمكن أخذه موضوعا من الجهة الثانية وهو المراد من أخذه على نحو الطريقية والكاشفية ، فتكون أقسام القطع المأخوذ في الموضوع أربعة : اخذه تمام الموضوع ، أو جزئه ، وعلى كلا التقديرين : أخذه على وجه الصفتية ، أو الطريقية.

ص: 10

نعم : في إمكان أخذه تمام الموضوع (1) على وجه الطريقية إشكال ، بل الظاهر أنه لا يمكن ، من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعى عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعى لحاظ ذي الطريق وذي الصورة ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم ، كما هو الشأن في كل طريق ، حيث إن لحاظه طريقا يكون في الحقيقة لحاظا لذي الطريق ، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع. فالانصاف أن أخذه تمام الموضوع لا يمكن إلا بأخذه على وجه الصفتية. وربما يأتي مزيد توضيح لهذه الأقسام الأربعة في المبحث الآتي. هذا كله إذا تعلق العلم بموضوع خارجي.

وأما إذا تعلق بحكم شرعي : فيمكن أيضا أخذه موضوعا لحكم آخر غير ما تعلق العلم به ، كما لو رتب وجوب التصدق على العالم بوجوب الصلاة ، ويأتي فيه الأقسام الأربعة : من كونه تمام الموضوع ، أو جزئه ، على وجه الطريقية ، أو الصفتية.

وأما أخذه موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم الذي تعلق العلم به فهو مما لا يمكن إلا بنتيجة التقييد. وتوضيح ذلك : هو أن العلم بالحكم لما كان من الانقسامات الحقة للحكم ، فلا يمكن فيه الاطلاق والتقييد اللحاظي لاستلزامه الدور ، كما أوضحناه ( في مبحث التعبدي والتوصلي ) وقلنا : إن أخذ العلم قيدا جزء أو شرطا أو مانعا مما لا يمكن في مرتبة الجعل والتشريع - كما هو الشأن في

ص: 11


1- أقول : توضيح المقام أن القطع بل جميع الصفات الوجدانية من الظن وغيره - بل الإرادة والتمني والترجي وأمثال ذلك من الصفات القائمة بالنفس - ذات إضافة إلى الصور الحاكية عن الخارج بنحو لا يلتفت إلى ذهنيتها في ظرف وجودها مع فرض عدم تعديها من الصورة إلى الخارج وأن الخارج ظرف اتصافها بها وأن ظرف عروضها الذهن ، وحينئذ في ظرف وجودها وإن لا يتصور ولا يلتفت إلى تفكيكها عن الخارج ، ولكن مع ذلك يلتفت إلى تعلقه إليه وأن الخارج متعلقه وغيره لا نفسه وانه منكشف لا عينه ، كما أن في مقام تصور مفاهيمها لا بأس بتصور تفكيكها عن متعلقاتها أيضا مع فرض تصور جهة عروضها على الصور الحاكية عن الخارج ، وهذه الجهة يرجع إلى تصور جهة كاشفيتها ومبرزيتها عن الخارج قبال حيث قيامها بنفس القاطع بما هو صفة من الصفات ، وحينئذ لا بأس للجاعل أن يلاحظ هذه الجهة ويجعله تمام الموضوع ، كما أنه يجعله جزئه ، كيف! ولو فرض عدم التفات الجاعل إلى هذه الجهة من القطع بل تصوره من حيث المبرزية كان موجبا للغفلة عن نفسه ، قلا يعقل أن يجعله أيضا جزء الموضوع ، فتدبر.

الإنقسامات اللاحقة للمتعلق باعتبار تعلق الحكم به كقصد التعبد والتقرب في العبادات - وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا ، لان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، ولكن الإهمال الثبوتي أيضا لا يعقل ، بل لا بد إما من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد ، فان الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم ، إما أن يكون محفوظا في كلتي حالتي الجهل والعلم فلابد من نتيجة الاطلاق (1) وإما أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط فلابد من نتيجة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأولى متكفلا لبيان ذلك فلابد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق أو التقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمم الجعل ، فاستكشاف كل من نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر.

وقد ادعي تواتر الأدلة على اشتراك الإحكام في حق العالم والجاهل ؛ ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلة سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها « صاحب الحدائق » في مقدمات كتابه ، إلا أن الظاهر قيام الاجماع بل الضرورة على ذلك ، ومن هنا كان الجاهل المقصر معاقبا إجماعا. ومن تلك الأدلة والإجماع والضرورة يستفاد نتيجة الإطلاق وأن الحكم مطلق في حق العالم والجاهل. ولكن تلك

ص: 12


1- أقول : لا شبهة في استحالة تقييد الحكم أو موضوعه بالعلم بنفس الحكم ، لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه ، كما أنه لا يعقل سعة الحكم أو موضوعه بنحو يشمل هذه المرتبة المعبر عنه باطلاقه ، ولكن لا بأس في جعل الحكم لنفس الذات في المرتبة السابقة عن العلم به ، بنحو يشمل إطلاقه في رتبة نفسه للحالتين مع فرض ملاحظة الحالتين من لوازمه في الرتبة المتأخرة ، وفي هذا المقدار لا يحتاج إلى متمم جعل ، بل يتحقق بنفس الجعل الأولى ، كما أنه لا قصور أيضا في جعل الحكم للذات في الرتبة السابقة التوئم مع خصوص العلم بحكمه لا مقيدا به ولا مطلقا ، كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عارضه الملحوظ في الرتبة المتأخرة ، من دون اقتضاء التوئمية اتحاد الرتبة ، كما في ملازمة كل علة مع معلوله. هذا كله أيضا في فرض ملاحظة العلم بهذا الجعل في الرتبة المتأخرة. ولئن لوحظ فيه العلم بانشائه الملازم مع العلم بحقيقة حكمه فلا بأس بتقييد موضوع الحكم المنشأ بهذا الانشاء بالعلم بانشائه المحفوظ في الرتبة السابقة الملازمة مع العلم بنفسه في الرتبة اللاحقة أيضا ، بلا احتياج في ذلك المقدار أيضا إلى متمم الجعل. نعم : لو كانت المصلحة قائمة بالذات المقيدة بالعلم بنفسه لا محيص من الاحتياج إلى متمم الجعل - كما هو الشأن في دعوة الأمر في العبادات - ولكن أنى لنا باثباته! خصوصا في ظرف الإطلاق بمقتضى أدلة الاشتراك ، كما لا يخفى.

الأدلة قابلة للتخصيص وقد خصصت في غير مورد (1) كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حق العالم ، فقد اخذ العلم شرطا في ثبوت الحكم واقعا.

وكما يصح أخذ العلم بالحكم شرطا في ثبوت الحكم كذلك يصح أخذ العلم بالحكم من وجه خاص وسبب خاص مانعا عن ثبوت الحكم واقعا ، بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب. كما في باب القياس ، حيث إنه قام الدليل على أنه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس ، كما في رواية « أبان » في مسألة دية أصابع المرأة (2) حيث نهى (عليه السلام) عن العمل بالقياس ، مع أن « أبان » كان عالما بأن في قطع أربعة من أصابع المرأة يثبت أربعين من الإبل من طريق القياس ، ومن هنا تعجب من حكم الإمام علیه السلام بأنه يثبت ثلاثين من الإبل ، ومع ذلك نهى الإمام (عليه السلام) عن العمل بعلمه ، فقد أخذ العلم بالحكم من طريق القياس مانعا. وليس هذا في الحقيقة نهيا عن العمل بالعلم حتى يقال : إن ذلك لا يعقل من جهة أن طريقية العلم وكاشفيته ذاتية لا يمكن نفيها في عالم التشريع ولا يعقل التصرف في ناحية العلم بوجه من الوجوه ، بل مرجع ذلك إلى التصرف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع ، فالتصرف يرجع إلى ناحية المتعلق لا إلى ناحية العلم ، وبعد الالتفات إلى هذا التصرف لا يمكن أن يحصل للمكلف علم بالحكم من طريق القياس ، إذ الحكم الواقعي قيد بغير ما أدى إليه القياس ، فكيف يمكن أن يحصل له العلم بالواقع من ذلك الطريق. نعم : لو لم يلتفت إلى هذا التصرف يحصل له العلم ، كما حصل ل « أبان » العلم بالحكم قبل نهى الإمام (عليه السلام).

ص: 13


1- أقول : لا شبهة في أن التقيد في أصل الغرض ولو بمتمم الجعل يقتضي عدم العقاب في الجاهل المقصر في الفرعين ، لعدم تصور التقصير في حق الجاهل حينئذ ، مع أنه خلاف ظاهر الأصحاب ، كما حكاه في « مصباح الفقيه » وحينئذ فلا محيص من جعل المقام من باب جعل البدل المفوت لبقية المصلحة ، كما لا يخفى.
2- الوسائل : الباب 44 من أبواب ديات الأعضاء الحديث 1.

وبذلك يمكن أن توجه مقالة الأخباريين « من أنه لا عبرة بالعلم الحاصل من الكتاب والسنة » بأن يقال : إن الأحكام الواقعية قيدت بنتيجة التقييد بما أدى إليها الكتاب والسنة ولا عبرة بغير ذلك. فلا يرد عليهم : ان ذلك غير معقول ، بل شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) نفي البعد عن كون الأحكام مقيدة بما إذا لم يكون المؤدى إليها مثل الجفر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق الغير المتعارفة.

وبما ذكرنا يرتفع ما ربما يستشكل (1) في عبارة الشيخ ( قده ) من جعله مقالة الأخباريين من أمثله العلم المأخوذ موضوعا ، مع أنه لا يمكن أخذ العلم موضوعا بالنسبة إلى نفس متعلقه ، فإنه بالبيان الذي ذكرنا ظهر أنه لا مانع من أخذ العلم موضوعا بالنسبة إلى نفس متعلقه إذا كان حكما شرعيا بنتيجة التقييد.

فتحصل من جميع ما ذكرناه : أن العلم إذا تعلق بموضوع خارجي فالعلم بالنسبة إلى ذلك الموضوع يكون طريقا محضا ، وبالنسبة إلى أحكام ذلك الموضوع يمكن أن يكون طريقا ، ويمكن أن يكون موضوعا ، وإذا تعلق بحكم شرعي فيمكن أن يكون بالنسبة إلى حكم آخر موضوعا ، كما أنه يمكن أن يكون موضوعا بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم لكن بنتيجة التقييد ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه حتى لا تبادر بالإشكال ، هذا كله إذا تعلق العلم بالحكم الشرعي.

وأما الأحكام العقلية : فالعلم فيها دائما يكون موضوعا ، من غير فرق بين الإرشاديات العقلية أو مستقلاتها ، فان حكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا يكون إلا بعد العلم والالتفات إلى الموضوع العقلي ، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الناس إلا بعد الالتفات إلى كونه مال الناس ، على اختلاف الأحكام

ص: 14


1- أقول : يا لله! لو كان الأخباري نظره في ما اختاره إلى متمم الجعل يلزمه أن لا يحصل له علم من غير الكتاب والسنة ، مع أن كلماتهم مشحونة بأنه لو حصل العلم من غيره يطرح ولا يصلح للمعارضة مع العلم الحاصل من الكتاب والسنة ، كما أن « شيخنا العلامة » في ردهم ينادى بأعلى صوته الاستيحاش عن هذه المعارضة وعن أنه بعد حصول العلم كيف يعقل ردعه! فلو كان نظر « الشيخ » في المقام إلى التقييد بمتمم الجعل فلا يبقى وقع لما أورد عليهم ، فتأمل في أطراف كلماتك كي لا تغلط ما أورد عليك!!

العقلية ، من حيث إن للعقل حكم واحد أو حكمين ، على ما سيأتي توضيحه في محله ( إنشاء اللّه تعالى ).

المبحث الثالث
اشارة

في قيام الطرق والأمارات والأصول بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع بأقسامه.

وتفصيل ذلك يستدعى تقديم أمور :

الأمر الأول : المراد من الأصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مع القطع ليس مطلق الأصول ، بل خصوص الأصول التنزيلية - أي المتكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع - بحيث يكون المجعول فيها البناء العملي (1)

ص: 15


1- أقول : هل يرجع البناء العملي على أحد الطرفين على أنه الواقع إلى غير البناء على أن مؤدى أحد الطرفين في مقام العمل هو الواقع؟ ومرجع هذا البناء هل إلى غير تنزيل المؤدى منزلة الواقع في مقام العمل؟ وحينئذ أين يبقى مجال الانكار لتنزيل المودى منزلة الواقع على من يقول به في الطرق أيضا برميه على الاستحالة ، إذ مثله أيضا لا يريد من التنزيل المزبور أزيد من ذلك. ثم إن نتيجة هذا البناء العملى فى ظرف الشك بالواقع هل من الشارع الجاعل أو الممضى لبنائهم إلى غير إبراز إرادته للعمل المزبور بهذا العنوان؟ ولا نعنى من الحكم الظاهرى غير هذا، فكيف ينكر الحكم الظاهري في قبال الواقع حتى في الاصول ! نعم: الغرض من الحكم الظاهرى المجعول ان كان ارادة مستقلة اخرى فنحن أيضاً ننكره، بل الذي يلتزم بالحكم الظاهرى مطلقاً يقول بأن شأن الخطابات الظاهرية كونها مبرزة للارادة الواقعية التي هي مضمون الخطابات الواقعية في مرتبة الشك فيها، فهى من حيث المبرزية الذى به قوام حكميه في طول الواقع و من حيث مادة الحكم ولبه من الارادة عين الخطاب الواقعي، و بهذا المعنى قلنا بصحة وقوع الظن وسطاً لحكم متعلقه بالقياس المنطق بلا مغالطة فى صورة القياس كما تقدم ؛ كما ان بنفس هذا الخطاب والأمر الظاهرى يتنجز الواقع لا بشيء آخر، كما سنبين لك بأحسن بيان (ان شاء اللّه تعالى). و بالجملة نقول : ان الشارع جاعل لاحراز الواقع، لكن بهذا المعنى الجارى في الاصول المثبتة حتى غير التنزيلية - كايجاب الاحتياط لا بمعنى تتميم الكشف المختص بالأمارة. وأظن أن الصادر من مؤسس الأساس هو - ذلك وبتوارد الأفكار وقع الخلط في جعل الكاشف والإحراز إلى تتميم كشف الناقص الذي هو مفاد دليل الأمارة بنحو من العناية محضا ، بلا جريان مثله في مفاد أدلة الأصول.

على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر كالاستصحاب ، وأصالة الصحة ، وقاعدة التجاوز ، وأمثال ذلك من الأصول المحرزة - كما يأتي تفصيله إنشاء اللّه تعالى في محله - فمثل أصالة الطهارة والبرائة والاشتغال ليس داخلا في محل الكلام في المقام ، ولذا قيد الشيخ ( قده ) ببعض الأصول (1).

الأمر الثاني : قد عرفت أن القطع من الصفات الحقيقية ذات إضافة ، ولأجل ذلك يجتمع في القطع جهات ثلاث :

الجهة الأولى : جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة ، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات ، ولمكان انطباقها على ذي الصورة ، يكون ذيها معلوما بتوسط تلك الصورة ، فالمعلوم أولا وبالذات هي الصورة ، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم ، وهذا من غير فرق بين أن نقول : إن العلم من مقولة الكيف ، أو من مقولة الفعل ، أو من مقولة الانفعال ، أو من مقولة الإضافة - على اختلاف الوجوه والأقوال - فإنه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم ، فهذه أول جهات العلم.

الجهة الثانية : جهة إضافة الصورة لذي الصورة ، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإرائته للواقع المنكشف ، وهذه الجهة مترتبة على الجهة الأولى ، لما عرفت من أن إحراز الواقع وكشفه إنما يكون بتوسط الصورة.

ص: 16


1- ذكرنا في مبحث الاستصحاب أنه يمكن فرض قيام الأصول الغير المحرزة مقام القطع على بعض الوجوه ، فراجع - منه

الجهة الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، حيث إن العلم بوجود الأسد مثلا في الطريق يقتضي الفرار عنه ، وبوجود الماء يوجب التوجه إليه إذا كان العالم عطشانا ، ولعله لذلك سمى العلم اعتقادا ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه.

فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم ، حيث إن حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيته وجداني والبناء العملي عليه قهري.

ثم إن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم ، وفي باب الأصول المحرزة هي الجهة الثالثة ، وتوضيح ذلك هو أن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية ، بناء على ما هو الحق عندنا : من تعلق الجعل بنفس الطريقية ، لا بمنشأ انتزاعها ، كما هو مختار الشيخ ( قده ) - وسيأتي إنشاء اللّه تفصيله في مبحث الظن - وأن تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الطريقية في غاية الإشكال بل كاد أن يكون من المحالات. وليس المجعول في باب الأمارات هو المؤدى بحيث يتعلق حكم بالمؤدى غير ما للمؤدى من الحكم الواقعي ، فان ذلك غير معقول كما سيأتي ، بل المجعول هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع ، أي تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حد أنفسها ، غايته أن كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم.

ومن هنا اعتبرنا في كون الشيء أمارة من أن يكون له في حد ذاته جهة كشف ، والشارع في مقام الشارعية تمم كشفه وجعله محرزا للواقع ووسطا لاثباته ، فكأن الشارع في عالم التشريع جعل الظن علما من حيث الكاشفية والمحرزية بلا تصرف في الواقع ولا في المؤدى ، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه من الحكم الواقعي صادفت الأمارة للواقع أو خالفت ، لأنه يكون من مصادفة الطريق أو مخالفة الطريق لذي الطريق من دون توسعة في

ص: 17

الواقع وتنزيل شيء آخر منزلة الواقع ، فان كل ذلك لم يكن ، بل المجعول هو نفس الطريقية والكاشفية والمحرزية (1) التي كان القطع واجدا لها بذاته والظن يكون واجدا لها بالتعبد والجعل الشرعي ، فهذا هو المجعول في باب الطرق والأمارات.

ص: 18


1- أقول لا يخفى أن نتيجة الجعل والتشريع تارة إحداث حقيقة الشيء الذي هو منشأ انتزاع مفهومه وكان بنحو يطبق العقل هذا العنوان على المجعول بنحو الحقيقة والوجدان - نظير جعل المسجدية والملكية وأمثالها ، بناء على أن حقايقها أمور جعلية - وتارة ليس إحداث هذه الحقيقة بالوجدان ، فلا محيص إلا ان يكون تطبيق عنوان المجعول عليه بالعناية والادعاء ، لا يتصور ثالث لهذين المعنيين ، لدورانه بين النفي والإثبات. وليس الغرض من تطبيق العنوان وجدانا على الشيء كون العنوان ذاتيا له ، بل الغرض كون هذه الحقيقة عارضا للشئ بالجعل أو غيره من سائر الأمور الاختيارية ، كجعل الجسم أبيضا أو أسودا ، ففي الأمور الاعتبارية كالمسجدية والوقفية - جعلها التشريعي عين تكوينه بانشاء قولي أو بفعل خارجي ، قبال ذاتي الشيء الغير القابل للجعل ولو تكوينا ، ولذا « ما جعل اللّه المشمشة مشمشة » بل أوجد الذات الواجد لهذه الحيثية بذاته. إذا عرفت هذه المقدمة نقول : إن الغرض من تشريع الإحراز و إلقاء احتمال الخلاف المساوق لتمامية الكشف : إن كان بنحو يحكم العقل بتطبيق هذه العناوين على المجعول بنحو الحقيقة والوجدان، ففساده أوضح من أن يخفى على أحد، وإن كان الغرض أن نتيجة التشريع تطبيق العقل هذه العناوين على المجعول بالعناية و الإدعاء - كجعل الحيوة و الممات الزيد فهو في غاية المتانة ولا يتصور فى البين ثالث لما عرفت من دورانه بين النفى و الإثبات. وإذا كان كذلك فلا شبهة فى أن ادعاء شيء لشيء يحتاج إلى النظر إلى جهة اخرى مصحح لهذا الإدعاء، فربما يكون الغرض من ادعاء العالمية احترام الناس له، ففى هذه الصورة لا يترتب عليه عمل لعلمه هذا؛ فلا محيص في ترتب هذا الأثر من كون النظر في هذا الإدعاء إلى لزوم عمله عليه على وفق علمه الوجداني، فبالأخرة ينتهى إلى الأمر بالمعاملة، فتشترك الأمارة مع الاصول فى ذلك وفى قيامها مقام القطع في الجهة الثالثة. نعم : الفارق بينهما هو أن الأمر بالمعاملة فى الاصول مجعول بدواً ، و فى الأمارة مستكشف من جعل الإحراز بدواً بانشائه أو إمضائه. وحينئذ فالغرض من قيام الظن مقام العلم إن كان هذا المقدار فلا بأس به، لكن معلوم أنّ هذا المقدار لا يكون ملزما للعمل لولا استكشاف الأمر بالمعاملة منه - كما أشرنا إليه - فالذي يوجب قيام الظن مقام العلم الطريقى فى هذه الجهة هو الأمر بالمعاملة لا تتميم الكشف محضاً، كما هو الشأن لو قلنا بتنزيل المؤدى منزلة الواقع، إذا لمقصود أيضاً الأمر بالمعاملة مع ما أدى إليه الظن معاملة الواقع ، ومرجع هذا الأمر والعناية المزبورة أيضاً إلى إبراز الإرادة الواقعية بهذا الإنشاء، كما هو الشأن في لسان تتميم الكشف؛ بل و مثل ايجاب الإحتياط الذى لا عناية فيه أصلاً، فمبرزية هذه الخطابات عن الواقع إنما هو بهذا المعنى، لا بمعنى تتميم الكشف أو التعبد بالمؤدى الذي هو مفاد الخطاب.

وأمّا المجعول في باب الأصول التنزيلية فهي الجهة الثالثة من العلم ، وهو الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقية ، إذ ليس للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظن - فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية والكاشفية ، بل المجعول فيها هو الجري العملي والبناء على ثبوت الواقع عملا الذي كان ذلك في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا.

ومما ذكرنا ظهر : أن حكومة الطرق والأمارات والأصول على الأحكام الواقعية ليست الحكومة الواقعية ، مثل قوله « الطواف بالبيت صلاة » (1) وقوله « لا شك لكثير الشك » (2) بل الحكومة الظاهرية.

والفرق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية ، هو أن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضيق في الموضوع الواقعي ، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأولى كما في قوله « الطواف بالبيت صلاة » وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية مع ما لها من العرض العريض : من حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، وحكومة الجميع على الأحكام الواقعية ، فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي ، إلا بناء على بعض وجوه جعل المؤدى الذي يرجع إلى التصويب. وأما بناء على المختار : من عدم جعل المؤدى وأن المجعول فيها هو الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية ، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي ، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز

ص: 19


1- المستدرك : الباب 38 من أبواب الطواف الحديث 2.
2- لم نجد حديثا بهذه العبارة - على ما تفحصنا - في روايات الباب ، وإليك نص ما أورده في الوسائل « إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك » و « لا سهو على من أقر على نفسه بسهو » راجع الوسائل الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. ( المصحح )

الواقع في رتبة الجهل به ، فيكون المجعول في باب الطريق والأمارات والأصول في طول الواقع لا في عرضه. وليس للشارع حكمان : حكم واقعي وحكم ظاهري ، بأن يكون تكليفان مجعولان شرعيان : أحدهما تكليف واقعي ، والآخر تكليف ظاهري ، فان التكليف الظاهري بهذا المعنى مما لا نعقله.

والمراد من كون مؤديات الطرق والأصول أحكاما ظاهرية هو كونها مثبتة للواقع عند الجهل والحكم بأن مؤدياتها هو الواقع لمكان كونها محرزة له ، وليس هناك حكم آخر وراء الواقع يسمى بالحكم الظاهري ، كما ربما يتخيل.

فظهر : أن ما بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية بون بعيد ، وأن حكومة الأمارات إنما تكون حكومة ظاهرية واقعة في طول الواقع وفي طريق إحرازه ، ويكون المجعول فيها نفس المحرزية ، والتنجيز والعذر من اللوازم العقلية المترتبة على ما هو المجعول ، لوضوح أن التنجز لا يكون إلا بالوصول إلى الواقع وإحرازه ، إما بنفسه ( كما في العلم والطرق والأمارات والأصول المتكفلة للتنزيل ) وإما بطريقه ( كما في موارد جريان أصالة الاحتياط ) على ما سيأتي توضيحه في محله. وعلى كل حال : نفس التنجيز والعذر غير قابل للجعل ، كما ربما يوهمه بعض الكلمات ، وإنما الذي يكون قابلا للجعل هو المحرزية والوسطية في الإثبات ليكون الواقع واصلا إلى المكلف ، ويلزمه عقلا تنجيز الواقع.

الأمر الثالث : قد ظهر مما ذكرنا : أنه ليس لنا واقع حقيقي وواقع جعلي ، وعلم بالواقع الحقيقي وعلم بالواقع الجعلي ، بأن يكون للواقع فردان : فرد حقيقي وفرد جعلي ، وللعلم فردان : علم بالواقع الحقيقي وعلم بالواقع الجعلي ، فان ذلك كله مبنى على جعل المؤدى ، فيصح أن يقال - بنحو من المسامحة - إن للخمر مثلا فردان : خمر واقعي وخمر جعلي تعبدي ، وكذا للعلم فردان : علم بالخمر وعلم بالخمر التعبدي. وأما بناء على عدم جعل المؤدى فليس للخمر إلا فرد واحد ، وهو الخمر الواقعي ، والإحراز إنما يتعلق به. نعم : هناك علم

ص: 20

بحجية الطرق والأصول ، وهذا غير العلم بالواقع الجعلي.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق والأمارات والأصول التنزيلية مقام القطع ثلاثة :

الأول : قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا اخذ موضوعا على نحو الصفتية.

الثاني : عدم قيامها مقام ما اخذ في الموضوع مطلقا ولو على نحو الطريقية والكاشفية.

الثالث : قيامها مقام القطع الطريقي مطلقا ولو كان مأخوذا في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي ، وهذا هو الأقوى ، فان ما ذكر مانعا عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعا على وجه الطريقية - من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد - ضعيف غايته ، فان الاستلزام المذكور مبنى على جعل المؤدى الذي قد تبين فساده. وأما على المختار : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات ، فيكون الواقع لدى من قامت عندي الطرق محرزا كما كان في صورة العلم ، والمفروض أن الأثر مترتب على الواقع المحرز ، فان ذلك هو لازم أخذ العلم من حيث الكاشفية موضوعا ، وبنفس دليل حجية الأمارات والأصول يكون الواقع محرزا فتقوم مقامه بلا التماس دليل آخر (1) وتركيب

ص: 21


1- أقول : بعد ما لا يكون في مفاد الأصول جهة إحراز وتتميم كشف ، بل غايته هو الرضا بجري العمل بعنوان أنه واقع من دون اقتضاء هذا المعنى لإثبات العلم بالواقع الحقيقي لا وجدانا ولا تعبدا ، وإنما غاية اقتضائه العلم بالواقع التعبدي لا الحقيقي ، ومعلوم : أن مثل هذا العلم غير العلم بالواقع الحقيقي ؛ وحينئذ قيام أحدهما مقام الآخر يحتاج إلى جعل آخر ولا يفي به مفاد أدلة الأصول كما هو الشأن لو كان مفاد أدلة الأمارات هو التعبد بكون المؤدى هو الواقع بلا تتميم كشف فيه ، وحينئذ فما أفيد بأن الواقع بنفس دليل حجية الأمارات والأصول محرز صحيح ، ولكن في الأمارات يكون الواقع الحقيقي محرزا بالعناية ، وفي الأصول كان الواقع التعبدي محرزا بالوجدان ، ولا نفهم أزيد من ذلك. وما أفيد للحكومة في المقام إنما يتم في الأول لا الأخير ، ولعمري! أن بيان مرامه في هذه المقامات نحو رمز لا نفهم إلا بشرحه ، وعليه بشرح مرامه ، وإلا فلا يكون لهذه البيانات معنى محصل.

الموضوع من الواقع والإحراز ليس على حد الموضوع المركب من الأجزاء العرضية كالصلاة ، فان الأجزاء العرضية تحتاج إلى أن تكون كل منها محرزة بالوجدان ، أو بالتعبد ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالتعبد ، ولا يكون إحراز أحد الأجزاء إحرازا للآخر أو التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، بل يحتاج كل منها إلى تعبد مستقل أو إحراز مستقل ، وهذا بخلاف التركيب من الشيء وإحرازه ، فإنه بنفس إحراز ذلك الشيء يتحقق كلا جزئي الموضوع ولا يحتاج إلى احرازين أو تعبدين ، بل لا معنى لذلك ، فلو فرض أن الشارع جعل الظن محرزا للواقع فبنفس جعله يتحقق كلا جزئي الموضوع ، ولا يحتاج إلى جعلين حتى يقال : إنه ليس في البين جعلان والجعل الواحد لا يمكن أن يتكفل كلا الجزئين لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث إن تنزيل الظن منزلة العلم باعتبار المودى يرجع في الحقيقة إلى تنزيل المظنون منزلة المعلوم ، فيكون النظر إلى الظن والعلم نظرا مرآتيا ، وتنزيل الظن منزلة العلم باعتبار نفسه وبما أنه جزء الموضوع يرجع في الحقيقة إلى لحاظ الظن والعلم شيئا بحيال ذاته ، ويكون النظر إليهما نظرا استقلاليا ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في جعل واحد ، لا لمكان أنه ليس هناك مفهوم عام يجمعهما ، كما يقال : إن الجمع بين الشيئين في استعمال واحد لا يمكن لعدم الجامع بينهما ، بل لمكان عدم إمكان الجمع بين اللحاظين لتنافيهما ذاتا. وهذا الاشكال قد كان دائرا على ألسنة أهل العلم من زمن الشيخ ( قده ) إلى زماننا هذا ، على ما حكاه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) وقد تبين أنه لا موضوع لهذا الإشكال ولا محمول ، فان مبنى الإشكال هو تخيل أن المجعول في باب الطرق والأمارات والأصول هو المؤدى وتنزيله منزلة الواقع والخلط بين الحكومة الواقعية والحكومة

ص: 22

الظاهرية ، فيقال : إن في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعا يحتاج إلى تنزيلين : تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وتنزيل الظن منزلة القطع ، وأنت بعد ما عرفت حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ظهر لك : انه ليس في البين تنزيل أصلا ، بل الشارع إنما أعطى صفة المحرزية للظن ، فيرتفع الإشكال من أصله.

فان قلت : هب ان المجعول في باب الأمارات والأصول ذلك ، إلا أن الذي اخذ جزء الموضوع في ظاهر الدليل هو العلم والإحراز الوجداني ، وبأي دليل تقولون : إن الإحراز التعبدي يقوم مقام الإحراز الوجداني؟.

قلت : يمكن التفصي عن هذه بوجوه :

الأول : دعوى أن المراد من العلم الذي اخذ في ظاهر الدليل موضوعا هو العنوان الكلي - أي عنوان المحرز - بلا أخذ الإحراز الوجداني قيدا له (1) غايته أنه لولا جعل الشارع الطرق والأصول محرزة كان مصداق عنوان المحرز منحصرا بالمحرز الوجداني ، وبعد ذلك الجعل الشرعي يتحقق مصداق آخر

ص: 23


1- أقول : بعد ما كان المراد من الإحراز الوجداني بل كل أمر وجداني ما كان العقل بوجدانه يطبق عنوانه على الموجود ، سواء كان الشيء الموجود ذاتيا له أو عرضيا - كالبياض المجعول للجسم بسبب في قبال ما فيه البياض باقتضاء ذاته كالثلج مثلا فإنه لا يكون مجعولا للثلج بل بعين جعل الثلج يتحقق البياض - فما لا يكون بهذه المثابة قد تقدم أنه لا يطبق العقل عنوانه عليه إلا بنحو من الإدعاء والعناية ، وحينئذ ففي قبال الإحراز الوجداني لا يتصور إلا الإحراز بالعناية والادعاء ، ولا يتصور في البين ثالث ، لما عرفت من دوران الأمر فيه بين النفي والإثبات. وحينئذ نقول : إن مرجع الإحراز بالعناية إلى تنزيل عدم الإحراز منزلة الإحراز، كجميع العناوين الادعائية ، وقوام هذا الإدعاء إنما هو بكون الشيء خارجا عن حقيقة المنزل عليه بتمامه ، ومعه كيف بتصور اشتراكهما في الجامع الحقيقي بواسطة الإدعاء والتنزيل كي يصير البحث في المقام لفظيا؟. نعم لو اريد من الإحراز التشريعي الإحراز الحقيقى بنحو يطبق العقل العنوان عليه بعد الجعل بنحو الحقيقة - بحيث كان هذا الإحراز مثل البياض المجعول للجسم أمراً وجدانياً - ففي هذه الصورة صح دعوى الجامع بين الإحراز الذاتي و العرضى بعد اشتراكهما في صدق الإحراز الوجداني؛ و لكن أنّى لك بذلك ! ثم أنى لك ! اذ لا أظن توهمه من ذى مسكة.

للمحرز ، كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية ، كما يقال في الشمس : إنها كوكب نهاري ناسخ ضوئه وجود الليل ولكن في الخارج منحصر في الفرد ، فلو فرض أنه وجد فرد آخر مثل هذا الموجود كان أيضا من مصاديق ذلك العنوان ، فكذا يقال في العلم وأنه عبارة عن عنوان « المحرز » ويكون الموضوع في الحقيقة هو هذا العنوان ، وبالتعبد الشرعي يتحقق مصداق آخر لعنوان « المحرز » هذا.

ولكن للمنع عن هذا الدعوى مجال ، من جهة أن هذا في الحقيقة يرجع إلى البحث اللغوي وأن العلم موضوع لكلي المحرز أو لخصوص المحرز الوجداني ، ولا سبيل إلى إثبات أنه موضوع للعنوان الكلى.

الثاني : دعوى استخراج المناط نظير العلة المستنبطة ، بأن يقال : إنه وإن كان المأخوذ في لسان الدليل هو خصوص العلم والإحراز الوجداني ، إلا أنه نقطع بأنه ليس للوجدان دخل ، بل المناط هو جهة الإحراز الموجودة في الظن أيضا بعد اعتباره شرعا ، هذا وللمنع عن هذه الدعوى أيضا مجال ، فإنها موقوفة على استخراج المناط القطعي ولا سبيل إلى إثبات ذلك.

الثالث : ( وهو الذي يحسم مادة الإشكال ) دعوى أن ذلك من مقتضيات حكومة أدلة الطرق والأمارات والأصول على الواقعيات (1) بالبيان

ص: 24


1- أقول : إن من أسس أساس الحكومة والورود كلماته مشحونة بأن مرجع الورود إلى اقتضاء الجعل لتضييق دائرة دليل الإحراز وتوسعته حقيقة ، ومرجع الحكومة إلى تضييق دائرته عناية وادعاء وأن لبه يرجع إلى التخصيص ، كما أن الأول يرجع إلى التخصص على وجه ، وإن كان بينهما فرق. وحينئذ إذا فرضت في الطرق أنها لا تكون إلا توسعة في طريق الواقع بلا حكم ظاهري ولا تصرف في الواقع ولو بالعناية ، فمن أين لمثل هذا الجعل حكومة على الواقع ولو ظاهرا؟ وتسمية التوسعة في الطريق محضا بالحكومة الظاهرية بالنسبة إلى الأحكام اصطلاح جديد ما سمعناه من آبائنا الأولين!. نعم : الحكومة الظاهرية صحيحة بالنسبة إلى مفاد الاصول الذى ليس فيها توسعة إحراز بجعله، و إنما المجعول فيها الأمر بالمعاملة مع أحد الإحتمالين معاملة الواقع، فانّ مرجع ذلك إلى توسعة الواقع بالعناية و ايصاله إلى مرحلة الظاهر و فى ظرف الشك والإحتمال ؛ ثم فى مثله ليس إلا العلم الوجداني بالواقع بالعناية؛ بخلاف الطرق، فان نتيجة جعلها هي العلم بالعناية بالواقع الحقيقى ؛ ومن ذلك يقوم مقام العلم الموضوعي، بخلاف الأول ، فإنه لا يكون نتيجة جعله العلم بالواقع الحقيقي لا حقيقة ووجدانا ولا عناية وادعاء ، فيحتاج في قيامه مقام العلم الموضوعي إلى جعل آخر من تنزيل العلم بالواقع بالعناية منزلة العلم بالواقع الحقيقي. ولو فرض مثل هذا الجعل - ولو بالملازمة العرفية كما قيل - كانت هذه الحكومة حكومة واقعية ، ولا معنى لإطلاق الحكومة الظاهرية هنا ، وباللّه! عليك أن تتأمل في ما قيل ، ترى بأنه لا مفهوم محصل تحت هذه البيانات.

المتقدم من معنى الحكومة وأنها ظاهرية لا واقعية وأن حكومتها لأجل كونها واقعة في طريق إحراز الواقعيات فتكون حاكمة على كلا جزئي الموضوع : من الواقع ومن الإحراز ، بل حكومتها على الواقع لمكان كونها محرزة له ، فتكون حكومتها على أحد جزئي الموضوع انما هي بعناية حكومتها على الجزء الآخر وهو الإحراز فأي أثر رتب في الشريعة على العلم بما أنه محرز يترتب على الطرق والأمارات والأصول المحرزة ولو كان ذلك الأثر من جهة دخله في الموضوع وكونه جزئه ، فإنه يكفي هذا المقدار من الأثر في صحة التعبد ولا يتوقف على أن يكون تمام الموضوع.

والحاصل : أن نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الإحراز وأنه أعم من الإحراز الوجداني ، وإلا لم يكن للحكومة معنى ، وبملاحظة هذه الحكومة صح أن يقال : إن الموضوع هو الأعم من الإحراز الوجداني وهو العنوان الكلي ، لكن لا لمكان أن معنى العلم ذلك - كما هو مفاد الوجه الأول - بل لمكان الحكومة وأن نتيجتها تكون ذلك.

فظهر : أن في قيام الطرق والأمارات والأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية لا يحتاج إلى التماس دليل آخر غير أدلة حجيتها ، وأن قيامه مقامه من لوازم حجيتها وحكومتها على الأحكام الواقعية بالحكومة الظاهرية.

هذا إذا اخذ العلم في الموضوع على وجه الطريقية ، وأما إذا لم يؤخذ في موضوع أصلا وكان طريقا عقليا محضا فقيامها مقامه أولى ، لأن الواقع يكون

ص: 25

حينئذٍ مرسلا غير مقيد بقيد ، والمفروض أنها مثبتة للواقع فلا مانع من قيامه مقامه.

وأما قيامها مقام القطع المأخوذ على جهة الصفتية فلا يمكن ، لأنه يكون حينئذ كسائر الصفات النفسانية ومفاد حجية الطرق والأمارات أجنبي عن إفادة ذلك ، فان مفادها الوسطية في الإثبات وإحراز الواقع ، وأين هذا من تنزيل الظن منزلة القطع من حيث الصفتية! فقيام الظن مقام القطع من هذه الجهة يحتاج إلى دليل آخر وراء أدلة الحجية.

وظاهر عبارة الشيخ ( قده ) أنه هو لو قام دليل آخر على قيام الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون مفاد ذلك الدليل مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات من حيث قيامها مقام العلم الطريقي ، أي يكون مدلول ذلك الدليل من سنخ مدلول الأمارات من حيث كونه حكما ظاهريا.

ولا يخفى ما فيه ، فإنه لو فرض أنه قام دليل على تنزيل الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون ذلك من التنزيل الواقعي والتعميم في ناحية الموضوع واقعا من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » وليس ذلك من الحكم الظاهري ، لما تقدم من أن الحكم الظاهري ما كان في طول الواقع وواقعا في طريق إحرازه ، وأين هذا من تنزيل صفة مقام صفة أخرى ، فإن الظن حينئذ لم يعتبر من حيث إحرازه للمتعلق ، بل من حيث إنه صفة ، فيكون في عرض العلم موضوعا واقعيا لحكم واقعي ، وذلك واضح.

والذي يسهل الخطب أنه لم نعثر في الفقه على مورد اخذ العلم فيه موضوعا على وجه الصفتية ، والأمثلة التي ذكرها الشيخ ( قده ) في الكتاب ليس شيء منها من هذا القبيل ، فان العلم في باب الشهادة اخذ من حيث الطريقية ، ولذا جاز الشهادة في موارد اليد ، كما دلت عليه رواية ( حفص ) (1) وفي باب

ص: 26


1- الوسائل : الباب 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث 2.

الركعتين الأولتين لم يؤخذ فيهما على نحو الصفتية ، بل على نحو الطريقية ، كما يدل على ذلك بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب قوله علیه السلام : « حتى تثبتهما أو تحرزهما » (1) وأمثال ذلك من التعبيرات الظاهرة في أن العلم اعتبر من حيث الطريقية. وبالجملة : ظاهر العلم مهما اخذ في لسان الدليل هو العلم الطريقي ، وإرجاعه إلى العلم الصفتي يحتاج إلى قرينة لم نعثر عليها في شيء من المقامات.

ثم إن للمحقق الخراساني ( قده ) كلام في حاشيته على « الفرائد » في وجه قيام الطرق والأصول مقام القطع بجميع أقسامه ، حتى بما اخذ على وجه الصفتية ( وقد عدل عنه في الكفاية ) وحاصل ما أفاده في « الحاشية » هو أن أدلة الطرق والأمارات إنما توجب تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ولمكان العلم بحجية الأمارات يتحقق العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع ، وهناك ملازمة عرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع منزلة العلم بالواقع ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بلا استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، فإن أدلة الأمارات لم تتكفل إلا لتنزيل المؤدى فقط ، وكان تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالملازمة العرفية بين التنزيلين ، فكأنه تحقق كل جزء من جزئي الموضوع بدليل يخصه ، كما أنه لو قام دليل بالخصوص في ما اخذ العلم جزء الموضوع على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فإنه بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية لابد من تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع ، لأن المفروض أنه لا أثر للواقع حتى ينضم إليه العلم ، هذا إذا قام دليل بالخصوص على تنزيل المؤدى فيما اخذ العلم جزء الموضوع.

وأما الأدلة العامة لحجية الطرق والأمارات فدلالة الاقتضاء لا تقتضي ذلك ، لأنه لو لم ينزل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع لا يلزم لغوية

ص: 27


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الخلل الحديث 15.

جعل الحجية إذ يبقى لها مورد ، وهو ما إذا كان الأثر مترتبا على نفس المودى بلا دخل للعلم فيه ، ولكن مع ذلك الملازمة العرفية تقتضي تنزيل أحد العلمين منزلة الآخر.

هذا حاصل ما أفاده في « الحاشية » ورده في « الكفاية » بما حاصله :

ان ذلك يستلزم الدور المحال (1) فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل لا يمكن إلا بعد تحقق العلم في عرض ذلك التنزيل ، فإنه ليس للواقع أثر يصح بلحاظه التنزيل ، بل الأثر مترتب على الواقع والعلم به ، والمفروض أن العلم بالمؤدى يتحقق بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيكون التنزيل موقوفا على العلم والعلم موقوفا على التنزيل ، وهذا دور محال ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : أنه لا ينحصر الإشكال على ما أفاده في « الحاشية » بالدور ، بل مضافا إلى الدور يرد عليه :

أولا : ان ذلك مبنى على أن يكون المجعول في باب الطرق والأمارات هو المؤدى ، وقد تقدم فساده وأن جعل المؤدى يوجب التصويب (2) ويقتضي أن تكون الحكومة واقعية لا ظاهرية ، وهذا ينافي ما عليه المخطئة ، وسيأتي أيضا تفصيل ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في باب جعل الطرق والأمارات.

وثانيا : ان المفروض أن الموضوع مركب من العلم ومتعلقه ، و

ص: 28


1- أقول : عمدة الإشكال فيما أفيد في دعوى الملازمة العرفية ، وإلا فمع الالتزام به فإنما يرد إشكال الدور على فرض الاحتياج في صحة التنزيل إلى فعلية الأثر للجزء الآخر ، وإلا فلو قلنا بأن أثر الجزئية هي القضية التعليقية من أنه لو انضم إليه الجزء الآخر ليجب فعلا وأنه يكفي لصحة التنزيل هذا المقدار الناشئ من جعله جزء ، فلا دور ، لعدم توقفه على فعلية الجزء الآخر.
2- أقول : لو كان نتيجة جعل المودى منزلة الواقع حكما مستقلا عن إرادة مستقلة لا يلزم تصويب ، بل غاية الأمر جعل حكم ظاهري في طول الواقع ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) فضلا عن أن يكون نتيجته جعل حكم طريقي - الذي عبارة عن حكم وخطاب ظاهري - مبرز للإرادة الواقعية ، بل الحكم الواقعي أيضا ، لأنه تتم مع إرادته ، كما هو الشأن في جميع الخطابات الايجابية الظاهرية وغيرها ، كما سيجيء شرحها في بحث الظن ( إن شاء اللّه ) فتدبر.

التركيب من العلم ومتعلقه ليس على حد سائر الموضوعات المركبة من الأمور المتباينة كالصلاة ، فان المركب من الأمور المتباينة يقتضي أن يكون لكل من الأجزاء إحراز يخصه ، وقد يكون إحراز بعض الأجزاء متقدما زمانا أو رتبة على إحراز الجزء الآخر ، ولا يتوقف إحراز أحدها على إحراز البقية. نعم : الأثر يتوقف على إحراز الجميع ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد ، وهذا بخلاف الموضوع المركب من العلم ومتعلقه (1) فإنه لا يمكن أن يتعلق بكل من العلم والمتعلق إحراز يخصه ، إذ ليس للإحراز إحراز ولا يتعلق العلم بالعلم ، بل بنفس إحراز المتعلق يتحقق كلا جزئي المركب في زمان واحد وفي مرتبة واحدة ، ولا يعقل أن يتقدم إحراز المتعلق على إحراز الجزء الآخر ، وإحراز المتعلق ، إما أن يكون بالعلم الوجداني كما إذا علم وجدانا بالملكية فيجوز له الشهادة لصاحبها - بناء على أخذ العلم جزء لموضوع الشهادة - وإما أن يكون بالتعبد الشرعي بجعل ما يكون محرزا للمتعلق ، فيتحقق أيضا كلا الجزئين بنفس الجعل الشرعي كما كان يتحقق بالعلم الوجداني. وهذا إنما يستقيم بناء على بيناه : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الوسطية في الإثبات والمحرزية للمتعلق ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بنفس هذا الجعل ، بلا حاجة إلى جعلين ولحاظين.

وأما لو بنينا على تعلق الجعل بالمؤدى : فهذا الجعل بنفسه لا يوجب تحقق كلا الجزئين ، إذ الإحراز لم يتحقق بهذا الجعل ، وبعد ذلك يستحيل أن يتحقق جزئه الآخر ، لما عرفت : من أن الموضوع المركب من الإحراز ومتعلقه

ص: 29


1- أقول : هذا البيان صحيح على مبناك : من كون دليل الأمارة ناظرا إلى تتميم الكشف وجاعلا لإحراز الواقع تشريعا وادعاء ، وأما بناء على مسلك أستاذنا : من تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فلا يكون في البين جعل إحراز تشريعا ، وإنما الحاصل من التنزيل المزبور الإحراز الوجداني بالواقع التعبدي ، وهو جزء الموضوع ، فيحتاج جزئه الآخر إلى جعل آخر ، وهذا الجعل لا يفي به لولا دعوى الملازمة العرفية الممنوعة ، مع الإغماض عن الدور المزبور الذي اعترفت به ، كما أنك أيضا اعترفت بأن الإشكال يرد على تنزيل المؤدى ، فمرجع هذا الإشكال إلى الإشكال السابق عليه ، فلا حاجة إلى تكثيره.

يتحقق كلا جزئيه في مرتبة واحدة ولا يتقدم إحراز أحدهما على الآخر ، ولا يمكن أن يصير الإحراز بشيء آخر غير الملكية مثلا في المثال المتقدم جزء موضوع الشهادة بعد ما اخذ جزء الموضوع هو إحراز نفس الملكية ، والإحراز الحاصل من تنزيل المؤدى هو إحراز الحجية والعلم بها ، وأين ذلك من العلم بالملكية؟ وكيف ينضم العلم بالحجية إلى الملكية التي هو مؤدى الإمارة ويلتئم جزئي الموضوع من الإحراز والملكية مع أن الموضوع هو إحراز الملكية (1) فتأمل. (2).

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الطرق والأصول مقام العلم الطريقي لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين ، بل نفس أدلة حجيتها تفي بذلك بعد ما كانت حجيتها عبارة عن وسطيتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزة له - كما هو الشأن في الطرق العقلائية - بل الظاهر أنه ليس للشارع طريق مخترع ، بل الطرق الشرعية كلها إمضاء لما في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤدياتها ، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهرية ، ويستقيم حينئذ جميع ما فرع على ذلك مما يقتضيه أصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدى ، فإنه يكون من الحكومة الواقعية ولابد حينئذ من القول بالإجزاء ، ويكون ذلك من التصويب المعتزلي. على ما سيأتي تفصيله.

ثم إن شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) قد تعرض في المقام لوجه حكومة الأمارات على الأصول ، وحكومة الأمارات والأصول بعضها على بعض ، وأن

ص: 30


1- وجهه : هو أن المدعى تنزيل الشارع العلم بالحجية والمؤدى منزلة العلم بالملكية ، ولا إشكال في أنه يمكن للشارع هذا التنزيل ، والمفروض دعوى الملازمة العرفية على هذا التنزيل ، فينبغي الاشكال في الملازمة العرفية وأنه ليس هناك ملازمة ، ولكن بعد تصديق الملازمة وأن المجعول هو المؤدى لا يرد عليه الاشكال الأخير ، فالذي يرد عليه منع كون المجعول هو المؤدى ، ثم منع الملازمة العرفية ، ثم استلزام ذلك الدور ( منه ).
2- أقول : رحمة اللّه عليك! حيث نبهت وجئت بما فيه في شرح التأمل ، ولكن يا ليت قنعت في الإشكال بالأولين دون الأخير!.

الحكومة في الجميع تكون حكومة ظاهرية ومن شؤون حكومتها على الواقعيات ، ونحن قد استقصينا الكلام في ذلك في خاتمة الاستصحاب فراجع (1) هذا تمام الكلام في أقسام القطع وأحكامها.

وأما الظن : فمجمل الكلام فيه ، هو أن الظن ليس كالعلم حجيته منجعلة ومن مقتضيات ذاته ، بل لابد وأن تكون حجيته بجعل شرعي.

وما يقال : من أن الظن في حال الانسداد على الحكومة يكون حاله كالعلم لم تكن حجيته بجعل شرعي بل عقلية محضة وليس موردا لحكم شرعي - ولو بقاعدة الملازمة - فضعيف غايته ، فإن الظن لا يكون حجة عقلية في شيء من الحالات ، ولا تكون منجعلة كالعلم ، واعتبار الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ليس معناه حجية الظن عقلا بحيث يقع في طريق إحراز الواقعيات إثبات التكاليف به ، بل معناه كفاية الامتثال الظني في الخروج عن عهد التكاليف المعلومة إجمالا ، فالحكم العقلي واقع في طريق الامتثال والإطاعة ، لا في طريق الإثبات والإحراز حتى يكون الظن حجة عقلية ، وسيأتي توضيح ذلك مفصلا ( إن شاء اللّه تعالى ) في محله (2) وبالجملة : حجية الظن لا تكون منجعلة في شيء من الحالات ، بل إما أن يكون حجة شرعية ، وإما أن لا يكون ، ولا ثالث لهما.

ثم ما يكون حجة شرعية لإثبات متعلقه وواقعا في طريق إحرازه تارة : يؤخذ موضوعا لحكم آخر غير حكم متعلقه لا يضاده ولا يماثله ، كما إذا قال « إذا ظننت بعدد ركعات الصلاة يجب عليك التصدق » حيث إن الظن الذي هو حجة في عدد ركعات الصلاة ومحرز لها شرعا اخذ موضوعا لوجوب

ص: 31


1- أقول : ولقد راجعنا إلى الاستصحاب ، فما كان هناك شيء زائد عما هنا.
2- أقول : هذا المشرب يرجع إلى التبعيض في الاحتياط ، وسيجيء ( إن شاء اللّه ) أن ذلك لا يناسب مع كثير من الشبهات المتعلقة بدليل الانسداد أيضاً.

التصدق. وأخرى : يؤخذ موضوعا لما يضاد حكم متعلقه. وثالثة : لما يماثله. ورابعة : يؤخذ موضوعا لنفس حكم المتعلق ، هذا فيما إذا كان حجة شرعية لإثبات متعلقه ، وكذا الحال فيما إذا لم يكن حجة شرعية ، فإنه يجرى فيه هذه الأقسام الأربعة.

وعلى جميع التقادير : تارة يؤخذ على وجه الصفتية ، وأخرى على وجه الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، ولكن هذه غالبا مجرد تصورات لا واقع لها ، بل بعضها محال لا يعقل. والذي هو واقع في الشريعة ليس إلا اعتبار الظن على وجه الطريقية والكاشفية والمحرزية لمتعلقه الذي هو مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات ، من دون أن يؤخذ الظن موضوعا لحكم آخر. هذا هو الواقع.

وأما الذي يمكن أن يقع عليه : فهو أنه لا إشكال في إمكان أخذه موضعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله ، سواء كان الظن حجة وطريقا شرعا إلى متعلقه أو لم يكن ، وسواء أخذ على وجه الصفتية أو الطريقية ، وسواء كان تمام الموضوع أو جزئه - على إشكال فيما اخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية - وقد تقدم في العلم (1).

وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه فلا يمكن مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون حجة لاثبات متعلقه أو لم يكن ، ومن غير فرق بين أخذه على وجه الصفتية أو الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، لأنه يلزم اجتماع الضدين ولو في الجملة (2) وفي بعض الموارد على كل حال ، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي كما توهم ، فان مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما هي فيما

ص: 32


1- أقول : قد تقدم دفعه أيضا.
2- أقول : هذا صحيح لو كان أخذ عنوان المظنونية بنحو الجهة التقييدية ، وإلا فلو كان بنحو التعليل ، فلا بأس بأخذه في الموضوع بنفس ذاته مع عدم حجيته شرعا. نعم : مع حجيته يستحيل أخذه كذلك بنحو الجزئية أو التمامية صفة أو طريقا.

إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف ، وهو الفعل الصادر على المكلف - كالصلاة والغصب - بالشرائط المتقدمة في محله ، وأين هذا مما نحن فيه مما يؤخذ الظن موضوعا لمضاد حكم متعلقه؟ فإنه يلزم اجتماع الأمر والنهي في محل واحد ، مثلا لو فرض أن حكم الخمر واقعا هو الحرمة وحكم مظنون الخمرية هو الوجوب ، ففي صورة مصادفة الظن للواقع يلزم اجتماع الوجوب والحرمة ، بل في صورة أخذ الظن جزء الموضوع دائما يلزم اجتماع الضدين في الواقع وعالم الجعل.

هذا إذا تعلق الظن بموضوع خارجي ، وكذا لو تعلق بحكم شرعي ، كما لو فرض أن حكم صلاة الجمعة هو الوجوب والظن بهذا الوجوب اخذ موضوعا للحرمة ، فإنه يلزم أيضا اجتماع الضدين في صلاة الجمعة على كل حال ، وذلك واضح.

وأما لو اخذ موضوعا لمماثل حكم متعلقه ، فإن لم يكن الظن حجة شرعية لإثبات متعلقه فلا مانع من أخذه كذلك ، غايته أنه في صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد الحكمان ، كما هو الشأن في اجتماع كل عنوانين على موضوع واحد ، ولا يلزم اجتماع المثلين ، فإن اجتماع المثلين المستحيل إنما هو فيما إذا تعلق حكم على موضوع بعنوان ثم يتعلق حكم آخر مماثل لذلك الحكم على ذلك الموضوع بذلك العنوان. وأما إذا تعلق حكم على موضوع مع قطع النظر عن الطوارئ ثم تعلق حكم مماثل على ذلك الموضوع باعتبار الطوارئ ، فهذا ليس من اجتماع المثلين ولو كانت النسبة بين ذلك الموضوع وبين الطوارئ العموم المطلق ، فإنه في صورة الاجتماع يتأكد الحكمان (1) ويتولد منهما حكم واحد آكد ، في موارد تعلق

ص: 33


1- أقول : لا مجال في أمثال المقام بالالتزام بالتأكد ، حيث إن التأكد يقتضي وحدة الوجود وهو ينافي طولية الحكمين ، بحيث يكون مجال تخلل الفاء ، إذ مع هذا التخلل لا يتصور الاتحاد كي يتصور التأكد ، فالأولى في هذه الصورة التفرقة بين كون الظن المزبور من الجهات التقييدية أو التعليلية - بجوازه في الثاني دون الأول - كما سيجيء توضيح هذا المحال في بحث التجري ( إن شاء اللّه تعالى ). والعجب أنه جعل باب النذر أيضاً من باب التأكد مع أنّ النذر من الجهات التعليلية! و إلا فلا مدفع للإشكال بعد بطلان التأكد في الطوليين إلا بنحو أسسناه في باب التجري: من طولية العنوانين مع وحدة المعنون، كما سيجيء شرحه (إن شاء اللّه تعالی).

النذر بالواجب - حيث يتأكد الوجوب - وتعلق الظن بشيء من الطوارئ ، فيمكن أن يكون حكم الخمر واقعا هو الحرمة ومظنون الخمرية أيضا حكمه الحرمة وفي صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد حرمته ، هذا إذا لم يكن الظن طريقا محرزا لحكم متعلقه ولم يكن حجة شرعية لذلك.

وأما الظن المحرز لمتعلقه وما يكون حجة شرعية عليه : فلا يمكن أن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل ، فإن الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء ، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في ذلك الشيء غير ما هو عليه من الملاك ، فلو كان حكم الخمر في الواقع هو الحرمة فلا يمكن أن يكون إحراز تلك الحرمة موجبا لطرو حكم آخر على الخمر المحرز ، لأن الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ، فإن الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر ، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز ، ولذلك لا يعقل أخذ العلم موضوعا لحكم مماثل للمتعلق أو لحكم المتعلق ، من جهة أن العلم بالشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء الموجبة لملاك آخر غير ما هو عليه.

والفرق بين العلم والظن ، هو أنه في العلم مطلقا لا يمكن ، لكون إحرازه ذاتيا له ، بخلاف الظن ، فإنه فيما اخذ حجة شرعية لا يمكن ، وفيما لا يؤخذ يمكن بالبيان المتقدم.

فتحصل : أن أخذ الظن موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله بجميع أقسامه يمكن ، وهي ستة : فان أخذ الظن موضوعا لحكم آخر ، إما

ص: 34

أن يكون على وجه الصفتية وإما أن يكون على وجه الطريقية. والصفتية إما أن تكون تمام الموضوع وإما أن تكون جزئه. وأما أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية فقد عرفت الإشكال فيه.

والموضوع في كل من هذه الأقسام الثلاثة ، إما أن يكون هو الظن المجعول حجة شرعية لمتعلقه ، وإما الظن الغير المجعول ، فتكون الأقسام ستة. هذا في الظن المأخوذ موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله.

وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه : فقد عرفت أنه لا يعقل بجميع أقسامه. وأخذه للمماثل فقد عرفت أيضا إمكانه على بعض الوجوه.

وأما أخذه موضوعا لنفس متعلقه إذا كان حكما ، كما لو قال : « إذا ظننت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بذلك الوجوب الذي ظننت به » فإن كان ذلك بنتيجة التقييد لا محذور فيه ، إذ لا يزيد الظن عن العلم ، وفي العلم قلنا إنه يمكن أن يؤخذ كذلك بنتيجة التقييد كما تقدم ، وإن كان بالتقييد اللحاظي فهو مما لا يمكن لاستلزامه الدور كالعلم ، من غير فرق بين الظن المعتبر وغير المعتبر ، بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد ، فإن أخذ الظن حجة محرزا لمتعلقه معناه أنه لا دخل له في المتعلق إذ لو كان له دخل في المتعلق لما اخذ طريقا محرزا للمتعلق ، فأخذه محرزا مع أخذه موضوعا يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد ، وذلك واضح.

فذلكة :

قد اختلف بيان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في أقسام الظن المأخوذ موضوعا ، وما بينه أخيرا هو أن الظن الغير المعتبر لا يصح أخذه موضوعا على وجه الطريقية ، لا لمماثل حكم متعلقه ولا لمخالفه ، فإن أخذه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، إذ لا معنى لاعتبار الظن إلا لحاظه طريقا ، فحينئذ تكون الأقسام ثمانية أو سبعة ، فإن الظن ، إما أن يؤخذ موضوعا لمماثل حكم

ص: 35

المتعلق ، وإما أن يؤخذ موضوعا لمخالفه ، والأول لا يمكن إلا إذا كان الظن غير معتبر ، إذ الظن المعتبر لا يصلح لأن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل - على ما تقدم بيانه - فالمأخوذ لحكم المماثل لابد وأن يكون الظن الغير المعتبر ويلزمه أن يكون ملحوظا على وجه الصفتية ، لما تقدم : من أن لحاظه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، والمفروض أنه غير معتبر ، وحينئذ فالذي يمكن من هذا قسمان :

الأول : أخذه تمام الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما ومظنون الخمرية أيضا حراما ، صادف الظن للواقع أو خالفه.

الثاني : أخذه جزء الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما والخمر المظنون أيضا حراما. ولا إشكال في كل من القسمين ، أما في الأول : فلأن النسبة تكون حينئذ العموم من وجه ، وفي مورد الاجتماع يكون الحكم آكد ، كما في مثل قوله : أكرم العلماء وأكرم الهاشميين. وأما في الثاني : فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل ، من جهة أن الحكم الأولى المجعول لذات الخمر محفوظ في حال العلم والظن والشك ، فجعل حكم آخر على الخمر المظنون لغو لا أثر له.

ولكن يدفعه : أنه يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر وتكون مثلا واجدة لعشر درجات من المفسدة ، بخلاف ما إذا لم يتعلق الظن به ، فإنه يكون واجدا لخمس درجات ، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع إقدامه على ما يكون خمس درجات وهذا المقدار من الأثر يكفي بعد إمكان أن يكون الظن من العناوين الثانوية الموجبة للمصلحة والمفسدة ، فالإنصاف أنه لا إشكال في شيء من هذين القسمين. هذا إذا اخذ موضوعا لحكم المماثل.

وأما إذا اخذ موضوعا لحكم المخالف : فإن لم يكن الظن حجة فهو كأخذه لحكم المماثل لابد وأن يكون على وجه الصفتية تمام الموضوع أو جزئه ، وإن كان الظن حجة فيمكن أخذه على وجه الصفتية ويمكن أخذه على وجه

ص: 36

الطريقية ، وفي كل منهما إما أن يكون تمام الموضوع وإما أن يكون جزئه ( على إشكال في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية قد تقدم في العلم ) فتكون أقسام الظن الغير المعتبر أربعة وأقسام الظن المعتبر أيضا أربعة بناء على إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية ، وإلا فالأقسام سبعة. هذا بناء على عدم صحة أخذ الظن الغير المعتبر موضوعا على وجه الطريقية لحكم المماثل أو المخالف ، وإلا فتكون الأقسام عشرة ، مضافا إلى ما اعتبر طريقا محضا لمتعلقه وكاشفا عنه ومحرزا له من دون أخذه موضوعا لحكم أصلا. والظاهر : أن تكون الأقسام العشرة كلها تصورات لا واقع لها في الشريعة ، والموجود فيها هو اعتبار الظن طريقا محضا ، ويقوم مقامه ساير الطرق العقلية والشرعية والأصول المحرزة.

ولا يخفى عليك : أن عبارة الشيخ ( قده ) في بيان أقسام الظن لا تخلو عن اضطراب وإغلاق ، فعليك بالتأمل فيها. هذا تمام الكلام في القطع بأقسامه ، والظن بأقسامه.

المبحث الرابع: في استحقاق المتجرى للعقاب
اشارة

إعلم : أن القائل باستحقاق المتجرى للعقاب لابد له من أن يستند إلى إحدى الجهات الأربع : بعضها أصولية وبعضها كلامية وبعضها فقهية.

الجهة الأولى : دعوى أن الخطابات الأولية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، ويندرج المتجرى في عموم الخطابات الشرعية حقيقة ، ببيان أن التكليف لابد وأن يتعلق بما يكون مقدورا للمكلف ، والتكليف الذي له

ص: 37

تعلق بموضوع خارجي كقوله « لا تشرب الخمر ، وصل في الوقت » وإن كان وجوده الواقعي مشروطا بوجود ذلك الموضوع (1) من غير دخل للعلم والجهل في ذلك ، إلا أن مجرد الوجود الواقعي لا يكفي في انبعاث المكلف وحركة إرادته نحوه ، فإن الحركة والانبعاث إنما يكون بالوجود العلمي ، ولا أثر للوجود الواقعي في ذلك ، فالعلم وإن كان بالنسبة إلى الموضوع طريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى الاختيار والإرادة والانبعاث يكون موضوعا ، ومتعلق التكليف إنما يكون هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع والتكليف ، وهذا المعنى موجود في كلتي صورتي مصادفة العلم للواقع ومخالفته ، فإنه في صورة المخالفة قد تحقق اختيار شرب ما أحرز أنه خمر ، والفرق بين الصورتين ليس إلا مصادفة العلم للواقع في إحديهما ومخالفته له في الأخرى ، والمصادفة والمخالفة ليست اختيارية ، فلا تصلح لأن يتعلق بها التكليف ، فالذي يصلح لأن يتعلق به التكليف ليس إلا اختيار شر ما أحرز أنه خمر ، فيكون مفاد قوله : لا تشرب الخمر مثلا - بعد ضم المقدمة العقلية إليه : من أن متعلق التكليف لابد وأن يكون أمرا مقدورا وليس هو إلا الاختيار والانبعاث نحو ما علم أنه موضوع

ص: 38


1- أقول : بعد الاعتراف بأن الخمر بوجوده الواقعي كان شرطا للتكليف ، فضم المقدمة الأخرى لا ينتج إلا فعلية التكليف في ظرف العلم المصادف لا المطلق ، فاستنتاج هذه النتيجة ينافي دخل الخمرية الواقعية في شرط التكليف ، فهذه الكلمات مختلة النظام في أصل التقريب ، كما أن في جعل الاختيار والانبعاث تحت التكليف مسامحة أخرى ، إذ هذه باصطلاحه من الطوارئ اللاحقة للتكليف فيلحق بالانقسامات اللاحقة ، مضافا إلى أن التكليف بشيء إذا كان من شأنه الدعوة فلا جرم يكون المدعو إليه عنوانا في طول عنوان المعروض وإن كان العنوانين متحدين ذاتا ومنشأ ، فما هو المعروض لا يعقل أخذ الإرادة فيه ولو قيدا ، لأن الإرادة الناشئة عن غير دعوة التكليف أجنبية عن التكليف والإرادة الناشئة عن التكليف معلول التكليف ، فكيف يكون قيد موضوعه؟ فما توهم في دفع المقدمة الأولى مندفع بهذا الكلام ، إذ الفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول التكليف لا معروضه ، فلا محيص من تجريد المعروض عن الإرادة رأسا ، كما لا يخفى على الناظر الدقيق ، وحينئذ هذا البرهان شاهد خروج الإرادة عن حيز التكليف لا جهة الغفلة ، كيف وكثيرا ما نلتفت إلى إرادتنا حين الامتثال ، كما في العبادات خصوصا عند الإخطاري في النية.

التكليف - وهو لا تختر شرب ما أحرزت أنه خمر ، وهذا المعنى كما ترى موجود في المتجرى.

ولعله إلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ ( قده ) من الوجه العقلي في استحقاق المتجرى للعقاب ، من قوله « وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين الخ » فإنه يمكن أن يكون ( قده ) في مقام بيان اندراج المتجرى تحت الخطابات الأولية ، كما أنه يمكن أن يكون في مقام بيان كون المتجرى عاصيا حكما وإن لم يكن عاصيا حقيقة - على ما سيأتي في الجهة الثالثة -.

وعلى كل حال : ترجع هذه الدعوى إلى أن متعلق التكليف هو القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، بعد ما كانت المصادفة والمخالفة غير اختيارية ، والقدر الجامع ليس إلا تحريك العضلات نحو ما أحرز أنه خمر واختيار شرب ذلك ، فيكون المتجرى عاصيا حقيقة ومخالفا للخطاب النفس الأمري.

وحاصل هذه الدعوى تتركب من مقدمتين :

الأولى : دعوى أن متعلق التكليف هو الانبعاث وحركة الإرادة والاختيار نحو ما أحرز أنه من مصاديق الموضوع الذي تعلق به التكليف الواقعي.

الثانية : دعوى أن الاحراز والعلم يكون موضوعا على وجه الصفتية بمعنى الاختيار والإرادة ، وإن كان طريقا بالنسبة إلى الموضوع. ولا يخفى عليك ما في كلتي المقدمتين من المنع.

أما في الأولى : فلأن المتعلق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار لا نفس الإرادة والاختيار ، فان الإرادة والاختيار تكون مغفولة عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها ، فلا يصلح لأن يتعلق التكليف بها ، فإذا كان متعلق التكليف هو الشرب المتعلق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجري لم يتعلق شربه بالخمر.

وأما في الثانية : فلأن الإرادة وإن كانت تنبعث عن العلم ، لكن لا

ص: 39

بما أنّه علم وصورة حاصلة في النفس (1) بل بما أنه محرز للمعلوم ، فالعلم يكون بالنسبة إلى كل من الإرادة والخمر طريقا ، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدمات وجود الداعي ، حيث إنه تتعلق الإرادة بفعل شيء بداعي أنه الشيء الكذائي ، وهذا الداعي ينشأ عن العلم بأنه الشيء الكذائي.

والحاصل : أن دعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية لا يمكن إلا بأن يكون التكليف متعلقا بالعنوان الجامع والقدر المشترك بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، والقدر الجامع المتصور ليس إلا إرادة شرب الخمر المحرز خمريته ، فإن هذا هو الجامع بين الصورتين.

وأما لو فرض أن التكليف لم يتعلق بالإرادة وتعلق بشرب الخمر ، فلا ينتج ما أراده المدعى ، لان المتجرى لم يشرب الخمر ولو فرض أن العلم في باب الإرادة اخذ موضوعا على نحو الصفتية ، إذ غايته أنه يعتبر العلم بإرادة شرب الخمر ، إلا أن الإرادة لو خطت مرآة للمراد وهو شرب الخمر ولم يتعلق التكليف بنفسها ، وفي صورة المخالفة لم يتحقق المراد فلم يأت بما هو متعلق التكليف. وكذا لو فرض أن الإرادة لوحظت معنى اسميا وكانت هي متعلق التكليف ، ولكن العلم اخذ موضوعا في باب الإرادة على نحو الطريقية والكاشفية عن المراد ، فان متعلق التكليف يكون حينئذ هو حرمة إرادة شرب الخمر الذي علم بخمريته على وجه يكون العلم طريقا إلى الخمر الواقعي ، والمتجري وإن أراد شرب الخمر الذي أحرز خمريته ، إلا أن إحرازه لم يقع طريقا إلى الخمر الواقعي ، لأنه لم يؤد إلى الخمر الواقعي ، فدعوى المدعى لا تتم إلا بأخذ

ص: 40


1- أقول : مجرد طريقية العلم لا يقتضي المصادفة للواقع ، كما أن أخذ الجامع بين المصادف والمخالف لا يقتضي أخذ العلم على وجه الصفتية ، فما في هذه الكلمات أيضا من نحو هذه التعبيرات لا يخلو عن اغتشاش ، بل الأولى أن يقال : مع فرض دخل الخمر بعنوانه الواقعي في التكليف لا يعقل تعلقه بمعلوم الخمرية مطلقا ، فضلا عن شمول إطلاقه للعلم المخالف ، كما أشرنا سابقاً.

متعلق التكليف هو الإرادة وأخذ العلم على وجه الصفتية ، وكل منهما في محل المنع ، لما عرفت من أن متعلق التكليف هو الفعل الصادر عن المكلف عن إرادة على وجه تكون الإرادة فانية في المراد ، ودخل العلم في الإرادة إنما يكون على وجه الطريقية والكاشفية عن المراد ، لا على وجه الصفتية.

مضافا إلى ما عرفت : من أن العلم في باب الإرادة يكون من مقدمات الداعي ، ولا يكون موضوعا للإرادة ، فدعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية واضحة الفساد ، مع أن هذه الدعوى لا تصلح في مثل ما إذا علم بوجوب الصلاة ولم يصل وتخلف علمه عن الواقع ، فان البيان المتقدم لا يجرى في هذا القسم من التجري ، كما هو واضح.

الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلق العلم بشيء تكون من الصفات والعناوين الطارية على ذلك الشيء المغيرة لجهة حسنه وقبحه ، فيكون القطع بخمرية ماء موجبا لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه.

والإنصاف : انه ليس كذلك ، فان إحراز الشيء لا يكون مغيرا لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة. وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغير لجهة حسنه وقبحه ، لوضوح أن العلم بخمرية ماء وتعلق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عما هو عليه وصيرورته قبيحا ، فدعوى أن الفعل المتجرى به يكون قبيحا ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة ، واضحة الفساد (1).

ص: 41


1- أقول : يمكن دعوى ان نظر القائل بحرمة التجري ليس إلى دعوى كون العلم بشيء من الجهات المقبحة ، بل عمدة نظره إلى أن إقدامه على العمل من قبل علمه نحو جرئة على المولى وهو قبيح ، ولذا لو علم ولم يقدم لا قبح في البين ، فعدم حرمة التجري مبنى على عدم اقتضاء هذا العنوان المتأخر عن العلم أيضا للقبح ، لا عدم اقتضاء مجرد مخالفة العلم شيئا ، كما لا يخفى. وحينئذ قوله « فدعوى الخ » كما أفاد - لا يخلو عن اغتشاش ، بل بهذا البيان يرتفع شبهة اجتماع الضدين ، بتقريب : أن قبح التجري ومبغوضيته لدى المولى ينافي بقاء الواقع على ما هو عليه من المحبوبية ، للجزم بان علم المكلف بخلاف مرامه لا يغير مرامه ، أقدم المكلف على وفق علمه أم ما أقدم. و ملخص جوابه : أنّ المحبوب فى الواقع هو الذات في الرتبة السابقة عن حكمه لأنه موضوعه؛ والذات المبغوض في التجرى هو الذات الملحوظ فى الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه، فالذاتان حيث كانتا في الرتبتين لا يتعدى حكم كل إلى الآخر بعد التحقيق بأنّ موضوع الحكم ومعروضه فى كل مقام هو العنوان لا المعنون، بلا إضرار لوحدة المعنون أصلاً، لعدم سراية الحكم إليه، كما لا يخفى.

نعم : لا بأس بدعوى القبح الفاعلي (1) بأن يكون صدور هذا الفعل عن مثل هذا الفاعل قبيحا وإن لم يكن الفعل قبيحا. ولا ملازمة بين القبح الفاعلي والقبح الفعلي ، إذ ربما يكون الفعل قبيحا ولكن صدوره عن الفاعل حسن - كما في صورة الانقياد - وربما ينعكس الأمر - كما في صورة التجري - وحينئذ يقع الكلام في أن هذا القبح الفاعلي هل يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب بحيث يتعلق خطاب بالفعل الصادر عن الفاعل قبيحا؟ أو أنه لا يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب؟ والكلام في ذلك تارة : يقع من حيث عموم الخطابات الأولية لما يصدر عن المكلف قبيحا ، بحيث تكون تلك الخطابات مطلقة تعم صورة القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وأخرى : يقع من حيث استتباع القبح الفاعلي لخطاب يخصه ، غير الخطابات المترتبة على الموضوعات الواقعية.

ص: 42


1- أقول : ما المراد من صدور الفعل من الفاعل؟ فإن أريد به الفعل المضاف إلى الفاعل بإضافة صدورية فقهرا قبح الفعل المضاف عين قبح الفعل بقبح ضمني لا مستقل ، وهو خلاف المقصود أيضا. وإن أريد نفس إضافة الفعل إلى الفاعل فهو أشنع، لأن قبح الإضافة المزبورة يسرى إلى ما قام به ولو غيريا من باب المقدمة. وان أريد به كشف صدور الفعل عن سوء ذات الفاعل بلا قبح في صدور الفعل أبدا فلازمه عدم استحقاقه للثواب في الانقياد أيضا ، ولا أظن التزامه من أحد ، كيف! ولازمه عدم رجحان الاحتياط باحتمال كونه انقيادا ، إذ هو خلاف صريح كلماتهم بعدم الإشكال في رجحان الاحتياط. هذا مضافا إلى أنه بناء على الكاشفية لا معنى لاستناد القبح إلى صدور الفعل ولا إلى ذات الفاعل لسوء سريرته ، فان هذه أمر غير اختياري لا معنى لإضافة الحسن والقبح إليه ، إذ لا يتصف بهما إلا ما هو اختياري للمكلف - كما لا يخفى - وحينئذ لا حسن ولا قبح في البين ، وهو كما ترى!.

أمّا الكلام من الحيثية الأولى : فالحق فيه أن الخطابات الأولية لا تعم القبح الفاعلي ، فان الحسن والقبح الفاعلي إنما يكون مترتبا على الخطابات الأولية (1) ومن الانقسامات اللاحقة له ، إذ بعد تعلق الخطابات بموضوعاتها تتحقق رتبة الحسن الفاعلي وقبحه ، فان ذلك يقع في رتبة امتثال تلك الخطابات وعصيانها ، فلا يمكن أن تكون الخطابات مطلقة تعم الحسن الفاعلي وقبحه بالاطلاق والتقييد اللحاظي.

نعم : يمكن ذلك بنتيجة الإطلاق والتقييد (2) إلا أن دعوى إطلاق تلك الخطابات ولو بنتيجة الإطلاق للفعل الصادر عن الفاعل قبيحا تكون بلا برهان ، بعد ما كانت الخطابات مترتبة على موضوعاتها الواقعية ، والموضوع في مثل قوله ( لا تشرب الخمر ) هو الخمر الواقعي.

نعم : قد يتفق تقييد الخطاب بصورة صدور الفعل عن الفاعل حسنا وعدم صدوره قبيحا ، كما في مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قلنا ببطلان الصلاة فيها عند الالتفات إلى موضوع الغصب وحكمه ، مع أنا نقول : بجواز اجتماع الأمر والنهي (3) وليس ذلك إلا من جهة أن صدور الصلاة المشتملة على المصلحة من مثل هذا الشخص يكون قبيحا ، فلا تصلح لأن يتقرب بها ، فقد قيدت الصلاة بصورة عدم صدورها عن الفاعل قبيحا بنتيجة التقييد ، كما

ص: 43


1- أقول : ما يترتب على الخطاب هو حكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب ، لا جهة سوء سريرة الفاعل ، إذ وجودها في ذات الفاعل غير محتاج إلى الخطاب أصلا ، وإن تحقق تكشف عنه في بعض الأحيان. وحينئذ احتمال الكشف في الكلام السابق ملغى. بقى في البين الاحتمالان الأولان ، ولقد تقدم ما فيهما
2- أقول : ولقد تقدم الكلام فيه مستقصى ، فراجع. نعم : في صيرورته تحت الخطاب - كما أفيد - يحتاج إلى متمم الجعل.
3- أقول : قد حققنا في محله أنه بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين لا معنى لسراية القبح فعليا وفاعليا إلى العنوان الراجح ، فلا معنى لتقييد موضوع الأمر بعدم اقترانه بالحرام ، كما هو الشأن في المتزاحمين ، وإن كان بينهما فرق من جهة أخرى ، فتدبر.

قيّدت بقصد القربة ، بل يكون ذلك التقييد من شؤون التقييد بقصد القربة ، لكن هذا في خصوص العبادات التي يعتبر فيها التقرب ، وأما في غير ذلك فتقييد الخطاب وإطلاقه بالنسبة إلى الحسن الفاعلي وقبحه يكون بلا موجب ، فدعوى أن الخطابات الأولية تعم قبح الفاعلي ضعيفة جدا.

وأمّا الكلام من الحيثية الثانية : وهي اختصاص القبح الفاعلي بخطاب يخصه غير الخطابات الأولية ، فمجمل الكلام فيها : هو أن توجيه الخطاب إلى ما يختص بالقبح الفاعلي مما لا يمكن ، فان موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختص بذلك إنما هو عنوان المتجرى (1) أو العالم المخالف علمه للواقع وأمثال ذلك من العناوين المختصة بالقبح الفاعلي ، والخطاب على هذا الوجه لا يعقل ، لأن الالتفات إلى العنوان الذي تعلق به الخطاب مما لا بد منه ، والمتجرى لا يمكن أن يلتفت إلى أنه متجري ، لأنه بمجرد الالتفات يخرج عن كونه متجريا ، فتوجيه الخطاب على وجه يختص بالقبح الفاعلي فقط لا يمكن ، مع أنه لا موجب إلى هذا الاختصاص (2) فان القبح الفاعلي مشترك بين

ص: 44


1- أقول : ما أفيد إنما يتم لو قلنا بأن مناط الخطاب وموضوعه عنوان التجري ، ولنا ان نقول : إن تمام المناط على الطغيان على المولى والتسليم له الجامعين بين العصيان والتجري والإطاعة والانقياد. وحينئذ الغفلة عن فرد الجامع مع الالتفات بنفسه - ولو بخيال فرد آخر - لا يضر باستحقاق العقوبة وقبحه الفاعلي ، ولو صادف الفرد الآخر ، كما لا يخفى.
2- أقول : اعترافه بعدم اختصاص القبح بخصوص صورة المخالفة في غاية الجودة ، ولكن ذلك لا يقتضي تعلقه بعنوان معلوم الخمرية أعم من المخالف والمصادف ، بل انما يتعلق بالطغيان الصادر عن العلم بالخمرية ، كما أشرنا إليه سابقا. ثم إنه على فرض تعلقه بهذا العنوان لا معنى للتأكد في المجمع، إذا لحكم المترتب على العلم بحرمة الخمر يستحيل اتحاده مع الحرمة الواقعية، فأين يتصور التأكد في المقام؟ نعم : الأولى أن يعتذر عن مثل هذا الحكم في حق العالم به بمغفولية وجود موضوعه فى العلم المخالف، وذلك أيضاً على فرض تعلق الحكم بكل واحد من العلم المخالف والموافق، وإلا فعلى فرض تعلقه بالجامع - كما فرضنا - فلا مانع فيه، كما أشرنا إليه في الحاشيه السابقة؛ فتدبر، ولعمرى ! أن الناظر البصير يرى هذه القطعة مختلة النظام ؛ وأظن أنه من المقرر.

المصادفة للواقع والمخالفة ، بل القبح الفاعلي في صورة المصادفة أتم وأكمل ، فلو كان القبح الفاعلي مناطا للخطاب فلابد وأن يكون الخطاب على وجه يعم صورة المصادفة والمخالفة ، بأن يقال : لا تشرب معلوم الخمرية ، فان هذا العنوان يعم كلتا الصورتين.

ولكن الخطاب على هذا الوجه أيضا لا يمكن ، لا لمكان أن العلم لا يكون ملتفتا إليه غالبا والفاعل لا يشرب الخمر بعنوان أنه معلوم الخمرية ، بل بعنوان أنه خمر ، فان الالتفات إلى العلم من أتم الالتفاتات ، بل هو عين الالتفات ولا يحتاج إلى التفات آخر ، ولو لم يمكن أخذ العلم موضوعا في المقام فكيف يعقل أخذه موضوعا لحكم آخر؟ وهل يمكن الفرق بين مواضع أخذ العلم موضوعا؟ مع أن صاحب الدعوى سلم إمكان أخذ العلم موضوعا لحكم آخر ، فهذا لا يصلح أن يكون مانعا لتوجيه الخطاب كذلك ، كما لا يصلح عدم ثبوت المصلحة والمفسدة في المتعلق في صورة المخالفة لأن يكون مانعا عن الخطاب ، لأن صحة الحكم لا تدور مدار وجودهما في المتعلق بعد ما كان القبح الفاعلي مناط للخطاب ، بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائما وإن لم يلزم ذلك في الواقع ، لأن النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من وجه ، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان - كما في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي - إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين ، لأن العالم لا يحتمل المخالفة ودائما يرى مصادفة علمه للواقع ، فدائما يجتمع في نظره حكمان ، ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد بحيال ذاته ، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد ، وفي مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي يصلح كل من الحكمين للباعثية بحيال ذاته ولو في مورد افتراق كل منهما عن الآخر ، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد ، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين. بخلاف المقام ، فإنه لو فرض أن للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية أيضا حكماً ، فبمجرد

ص: 45

العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أنه رتب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتب على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثا ويلزم لغويته ، وليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية ، فان العلم بالخمرية دائما ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتب على الخمر الواقعي ، وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل المخالفة ، فتوجيه خطاب آخر على معلوم الخمرية لا يمكن.

فظهر : أن القبح الفاعلي بوجه من الوجوه لا يستتبع الخطاب.

الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرى للعقاب لا من باب المخالفة لخطاب شرعي كما في الجهتين الأوليين ، بل من باب استقلال العقل باستحقاق المتجرى للعقاب ، وأنه يكون في حكم العاصي ، بدعوى أن المناط في استحقاق العاصي للعقاب موجود في المتجرى أيضا ، وأنه بمناط واحد يحكم العقل باستحقاق العاصي والمتجري للعقاب ، ببيان أن العلم والالتفات في باب الأحكام العقلية له جهة موضوعية (1) بل هو تمام الموضوع في المستقلات العقلية ، من غير فرق بين الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح باعتبار كونها مناطات الأحكام الشرعية و

ص: 46


1- أقول : وأحسن من هذا البيان بيان آخر أشرنا إليه سابقا ، وهو أن الإقدام على ما قطع خلاف أمر مولاه نحو طغيان وظلم في حقه ، وهذه الجهة مشتركة بين العلم المصادف والمخالف ، وعمدة نظر القائل بالاستحقاق هو ذلك بلا خصوصية للعصيان فيه ولا من جهة أخذ العلم في موضوع القبح بنحو الصفتية ، بل العلم المأخوذ على وجه المنورية للغير تمام الموضوع في إحداث عنوان الطغيان على إقدامه بعد فساد توهم عدم إمكان أخذ العلم على وجه الطريقية - بالمعنى الذي أشرنا - تمام الموضوع ، كما أسلفنا ، فراجع. كما أنه لا معنى فى هذا المقام بأنّ العلم المخالف جهل، إذ مثل هذا الجهل أيضاً كالعلم في إحداث عنوان الهتك والطغيان على المقدم، كما أنّ هذا الجهل يحدث اشمئزاز العقل عن عمله فعلاً بعين اشمئزازه عند مصادفة علمه للواقع ؛ وحينيد ليس لعنوان العلم دخل فى الاستقباح الفعلى فى نظر العالم كي يقال: إن العلم المخالف جهل لا علم . نعم بينهما فرق فى إصابته المصلحة و عدمه، و هو أجنبي عن مقامنا ؛ كما أن محركية العلم للإرادة الواقعية التابعة للمصلحة الواقعية من المولى أيضاً أجنبية عن مقامنا ، بل المناسب لباب وجدان العقل للاستقباح الفعلى إرادة العالم بالمصلحة في شيء، فان مثل هذا الجهل أيضاً محدث لإرادته مثل إرادته للعمل حين مصادفة علمه للواقع، فتدبر كي لا يختلط الأمر عليك .

التي تكون مورد قاعدة الملازمة ، وبين الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام مما يرجع إلى باب الطاعة والمعصية وما يستتبعهما من الثواب والعقاب الغير المستتبعة لحكم شرعي ، لاستلزامه التسلسل المحال ، ومن غير فرق بين ما يكون للعقل حكم واحد في صورة العلم والظن والشك كحكمه بقبح التشريع ، وبين ما يكون له حكمان : حكم على الواقع المعلوم ، وحكم طريقي آخر على المشكوك على طبق الحكم الواقعي ، كحكمه بقبح الظلم وقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه الوقوع في الظلم ، على ما يأتي تفصيل ذلك في محله ( إن شاء اللّه تعالى ). وعلى جميع التقادير : العقل لا يستقل بشيء إلا بعد العلم والالتفات إليه ، فالعلم يكون في الأحكام العقلية دائما له دخل على وجه الموضوعية ، ومن ذلك حكمه بقبح المعصية ، فإنه لا يحكم بذلك إلا بعد العلم بالمعصية والالتفات إلى أن للمولى إرادة ، ومن المعلوم : أنه لا يمكن اعتبار خصوص العلم المصادف للواقع ، فان المصادفة وعدمها ليست من الأمور الاختيارية ، فلا يمكن أن يكون ذلك مناطا لحكم العقل بقبح المخالفة واستحقاق العقاب ، بل العبرة في نظر العقل هو مطلق العلم صادف الواقع أو خالف. وإن شئت قلت : إن المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي وحيثية صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضا للمولى ، من دون دخل للواقع في ذلك فان الإرادة الواقعية مما لا أثر لها عند العقل إلا بعد الوجود العلمي ، وهذا المعنى كما ترى مشترك بين العاصي والمتجري

ص: 47

والحاصل : أن المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة والمعصية ، وهذا بعد ما كان العلم في باب الطاعة والمعصية موضوعا عند العقل واضح.

فالدعوى في المقام تتركب من أمرين : الأول : كون العلم تمام الموضوع في المستقلات العقلية خصوصا في باب الطاعة والمعصية ، حيث إن الإرادة الواقعية لا أثر لها عند العقل ، ولا يمكن أن تكون محركة لعضلات العبد إلا بالوجود العلمي والوصول. الثاني : كون المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو القبح الفاعلي ، ولا أثر للقبح الفعلي المجرد عن ذلك ، ولعل الأمران اللذان يبتني عليهما الدعوى متلازمان ، كما لا يخفى على المتأمل ، هذا.

ويمكن المنع عن كل من الأمرين الذين بنى الدعوى عليهما ، أما الأول : فلأن العلم وإن كان له دخل في المستقلات العقلية ، إلا أنه لا العلم الأعم من المصادف وغير المصادف ، فان غير المصادف لا يكون علما بل هو جهل ، فليس إخراج غير المصادف من باب التخصيص في موضوع حكم العقل ، بل من أول الأمر غير المصادف خارج ، لأنه ليس في الحقيقة علما بل جهلا مركبا ، فان العلم هو الكاشف عن الواقع ، وغير المصادف لا يكون كاشفا عن الواقع فليس علما ، وإطلاق العلم عليه لمكان أنه في نظر العالم يكون كاشفا عنه ، واعتبار العلم في المستقلات العقلية ليس من جهة دلالة دليل عليه حتى يتمسك باطلاقه ، بل لمكان أن الإرادة الواقعية غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل ، بل المحرك هو انكشاف الإرادة ووصولها إلى الفاعل ، وفي المقام الإرادة الواقعية لم تصل إلى الفاعل ، بل هو من تخيل الإرادة ، فلا عبرة بمثل هذا العلم في نظر العقل.

والحاصل : أن العقل يستقل بلزوم انبعاث العبد عن بعث المولى (1) و

ص: 48


1- أقول : علم اللّه! العقل مستقل بلزوم انبعاث العبد في نظره بمحض علمه ببعث مولاه ولو من جهة غفلته عن مخالفة قطعه للواقع، بلا اختصاص لهذا المقدار بصورة مصادفة قطعه للواقع. وعمدة الخلط تخيل أن الأحكام العقلية الوجدانية نحو مصلحتها واقعية قابل لتخلف الطريق عنها ، وهو أول شيء ينكر!

أنّ وظيفة العبد ذلك ، والانبعاث عن البعث يتوقف على وصول البعث وإحرازه ، إذ لا أثر للبعث الواقعي ولا يمكن الانبعاث عنه ما لم يكن له وجود علمي ، وأين هذا مما لم يكن في الواقع بعث وكان من تخيل البعث؟ فدعوى أن العلم في باب المعصية الأعم من المصادف وغير المصادف ضعيفة.

وأما الأمر الثاني الذي بنى عليه الدعوى : فلأن المناط في استحقاق العقاب عند العقل وإن كان هو القبح الفاعلي ، إلا أن القبح الفاعلي المتولد من القبح الفعلي الذي يكون إحرازه موجبا للقبح الفاعلي ، لا القبح الفاعلي المتولد من سوء السريرة وخبث الباطن (1) وكم بين هذا وذلك من الفرق؟ فإن المناط في أحدهما غير المناط في الآخر ، حيث إن مناط أحدهما القبح الفعلي المحرز وعدم الانبعاث عن البعث الواقعي المعلوم ، ومناط الآخر سوء السريرة التي أوجبت عدم الانبعاث عن تخيل البعث ، ودعوى عدم الفرق بينهما في نظر العقل مما لا شاهد عليها.

فتحصل : أن القبح الفاعلي الناشئ عن سوء السريرة وخبث الباطن لا يستتبع استحقاق العقاب ، إلا إذا تعلق به الخطاب بأحد الوجهين

ص: 49


1- أقول : المراد من القبح الفاعلي ان كان مجرد سوء سريرة الفاعل فمسلم بأنه لا يكون مناطا لاستحقاق العقوبة أصلا ، ولكنه خلاف مراده ، لعدم كونه متولدا عن سوء السريرة بل هو نفسه. وإن كان المراد قبح إضافة الفعل إلى هذا الفاعل أو قبح الفعل المضاف إليه بهذا الوصف ، فلا مجال لإحداث سوء السريرة محضا مثل هذا القبح أبدا ، إذ بعد ما لا يكون سوء السريرة تحت الاختيار لا يوجب قبحا في أمر اختياري آخر. وعلى فرض تسليمه نقول : إن مثل هذا القبح لا يكون مناطا للاستحقاق ، فلا قصور حينئذ في دعوى استقلال العقل بالملازمة على القول بها في كلية المستقلات العقلية. ولكن لا أظن لأحد التزامه بذلك ، وذلك يكشف عن أن مثل القبح الفاعلي ناش عن استقلال العقل بالاستحقاق على الصادر منه الفعل ، لا أنه مناط ترتب الاستحقاق ، بل الأمر بالعكس. وحينئذ فلمثل هذا المستشكل أن ينكر حينئذ أصل القبح الفاعلي عند مخالفة قطعه ، لا أن يثبت القبح ويلتزم بما التزم ، فتدبر.

المتقدمين ، وقد عرفت أن ذلك أيضا لا يمكن بالبيان المتقدم ، فالقول باستحقاق المتجرى للعقاب من الجهة الثالثة أيضا لا يتم.

الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجري من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار عليه ، فيكون البحث من هذه الجهة فقهيا ، كما أن البحث من الجهة الثالثة يكون كلاميا ، ومن الجهة الثانية يكون أصوليا من حيثية وكلاميا من أخرى ، ومن الجهة الأولى يكون أصوليا. ولا يخفى عليك أن البحث عن الجهة الرابعة إنما يستقيم بعد تصوير ما يمكن أن يتعلق به خطاب شرعي ، بحيث يكون فعلا اختياريا ملتفتا إليه حتى يكون حراما شرعا ، ولا يمكن أن يكون عنوان التجري معروض الحرمة (1) لما تقدم من أن الالتفات إلى هذا العنوان لا يمكن ، كما لا يمكن أن يكون فعل المتجرى به معروض الحرمة ، لما تقدم أيضا من أن العلم لا يحدث عنوانا يكون ملاكا للحرمة ، فيقع الكلام حينئذ فيما هو معروض الحرمة وما انعقد عليه الإجماع وما دل عليه الأخبار ، وأنه أي عنوان يكون ذلك ، ولابد أيضا أن يكون ذلك العنوان الذي يعرض عليه الحرمة يعم كلا قسمي التجري ، وهما ما إذا قصد الحرام وأتى ببعض مقدماته ثم عدل عن قصده بنفسه أو بصارف - بناء على أن يكون ذلك من التجري أيضا - وما إذا قصد الحرام وجرى على طبق مقصده ثم تبين له الخلاف أو لم يتبين له ولكن كان في الواقع مخالفا له ، فمعروض الحرمة لابد وأن يكون جامعا بين هذين القسمين ، ولا يمكن أن يكون الجامع هو قصد المعصية لدلالة جملة من

ص: 50


1- أقول : ذلك صحيح على ما أفيد ، ولكن لمدعى الحرمة أن يدعى الحرمة للعنوان الجامع بينه وبين المعصية من مثل « الطغيان على مولاه » غاية الأمر خرج عنه فرد المعصية بالتخصيص وبقى الحكم لنفس العنوان المنحصر انطباقه على التجري ، وهذا المقدار أيضا لا يحتاج إلى الالتفات بعنوان التجري. نعم : لو كان خروج الفرد من باب التقييد بغيره يحتاج أيضا إلى الالتفات إليه ، ولكن مجرد الخروج المزبور لا يقتضي تقيدا بالفرد الآخر ، غاية الأمر تقتضي ضيق دائرة الجامع بنحو ينحصر انطباقه على الفرد الآخر ، كما لا يخفى.

الأخبار على عدم المؤاخذة على القصد.

نعم : يمكن أن يكون الجامع هو القصد مع الجري على طبقه ، وبعبارة أخرى : القصد الذي يكون له مظهر ، فإن هذا المعنى موجود في قسمي التجري ، وبذلك يجمع بين الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة على قصد السوء والأخبار الدالة على المؤاخذة بحمل الطائفة الأولى على القصد المجرد ، والثانية على القصد الذي يكون له مظهر ، ولكن الكلام حينئذ في الشاهد على هذا الجمع ، فإنه بدون ذلك يكون من الجمع التبرعي الذي لا عبرة به ، وليس في الأخبار ما يمكن أن يكون شاهدا على ذلك.

ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الإجماع في المقام ، لا من جهة كون المسألة عقلية ولا عبرة بالإجماع في المسائل العقلية فان المسألة - على ما حررناها - تكون فقهية ومن المسائل الشرعية ، بل لعدم الإجماع في المسألة ، فإنه لم ينعقد الإجماع على حرمة القصد الذي يكون له مظهر ولا ادعاه أحد.

نعم : ادعى الإجماع في موردين : أحدهما : فيمن ظن ضيق الوقت وأخر الصلاة ثم تبين الخلاف وسعة الوقت ، حيث ادعى الإجماع على عصيانه بتأخير الصلاة واستحقاقه العقاب ، وذلك لا يكون إلا بناء على حرمة التجري. ثانيهما : فيمن سلك طريقا مظنون الضرر ، حيث ادعى الإجماع أيضا على عصيانه ووجوب الإتمام عليه لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدم الضرر ، وهذا أيضا لا يتم إلا بناء على حرمة التجري ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إن كلا من الموردين اللذين ادعى عليهما الإجماع خارج عما نحن فيه ، وليس من موارد التجري.

أما في الأول : فلان خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب المبادرة بالصلاة شرعا (1) ويكون وجوب المبادرة حينئذ نفسيا لا طريقيا إرشاديا.

ص: 51


1- أقول : الأولى أن يقال : إن موضوع التجري إنما يتحقق بارتكاب ما قام عنده الطريق على الحرمة الواقعية قطعا أو قطعيا مع فرض مخالفة الطريق للواقع؛ وهذا المعنى أجنبي عن معقد الإجماع ، إذ ظاهر معقد الإجماع في المسئلتين هو قيام مطلق الظن على الضيق والضرر ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بموضوعية الظن المزبور ، كيف ولولاه لا ملزم في البين مع عدم الحجية الظن المزبور أصلا! وعلى التقديرين لا يتصور عنوان التجري في المقام حينئذ ، فتدبر.

وأمّا في الثاني : فلأن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح التشريع ، وليس حكم العقل بقبح الإقدام على مظنون الضرر أو مشكوكه طريقيا نظير حكمه بقبح ما لا يؤمن معه من الوقوع في التصرف في مال الغير ، فان محل الكلام إنما هو الضرر الدنيوي ، إذ الضرر الأخروي ليس هو إلا العقاب وحكم العقل في لزوم دفعه يكون إرشاديا محضا لا يستتبع حكما مولويا ، كحكمه بقبح المعصية. وأما الضرر الدنيوي فالعقل وإن استقل بلزوم دفع بعض مراتبه ، إلا أن حكم العقل في باب الضرر يكون في صورة العلم والظن بل الاحتمال العقلائي بمناط واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر ، وعلى هذا يخرج من موضوع التجري وليس فيه انكشاف الخلاف.

فتحصل : أنه لم يتم إجماع على حرمة التجري بالقسم المبحوث عنه في المقام ولا دل عليه دليل.

نعم : يمكن القول بحرمة القسم الآخر من التجري (1) وهو ما إذا قصد المعصية وتلبس بمقدماتها ومنعه عن وقوع المعصية مانع. وعلى ذلك تحمل

ص: 52


1- أقول : لو التزمت بحرمة التجري فيما ذكرت فأنشدك باللّه! أن عدم منع المانع عن العمل مانع عن حرمته؟ بل لنا أن نقول : إن مناطه بالأولوية يجرى في المقام. والتحقيق أن يقال : إن بنينا بعدم استقلال العقل بأزيد من سوء سريرة الفاعل الكاشف عن تجريه ، فقيام دليل تعبدي على الحرمة في التجري - ولو لمورد من موارده - دونه خرط القتاد! بل لابد من حمل أخبار حرمة قصد المعصية على إثبات حرمة هذا العنوان المخصوص الغير المرتبط بباب التجري الكاشف عن سوء سريرته وإن كان ملازما له. و إن قلنا باستقلال العقل لقبحه، فلا محيص من حمل أخبار القوبة علی الإرشاد، لاستحالة إعمال جهة المولوية مع الإستقلال العقلي المزبور. فعلی أي حال لا يبقی مجال إثبات حرمة التجري شرعاً مولوياً، كما لا يخفی.

الأخبار الواردة على المؤاخذة على القصد كما هو مورد بعضها ، وعليه يكون حرمة التجري المبحوث عنه في المقام خاليا عن الدليل ، فالأقوى عدم حرمته.

بقى في المقام أمران ينبغي التنبيه عليهما :

الأول : لا فرق في قبح التجري أو استحقاق المتجرى للعقاب بين مخالفة العلم أو مخالفة الطرق والأصول المثبتة للتكليف ، فإنه في الجميع يتحقق عنوان التجري ، ولا خصوصية للعلم بعد ما كانت الطرق والأصول منجزة للواقع ، والعبرة إنما تكون بمخالفة المنجز علما كان أو غيره ، بل في غير العلم يمكن أن يقع التجري على وجهين ، فإنه لو قامت الأمارة على خمرية مايع فتارة : يشربه المكلف على أنه خمر ، وأخرى : يشربه برجاء أنه لم يكن خمرا ، لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، فعلى الأول : يكون متجريا بالنسبة إلى الواقع إذا كانت الأمارة مخالفة له. وعلى الثاني : يكون متجريا بالنسبة إلى الطريق (1) والتعبد بإلقاء احتمال الخلاف والبناء على أنه خمر ، فتأمل.

وهذا في العلم لا يأتي ، لعدم جريان احتمال الخلاف في نظر العالم ، فالتجري في حقه لا يكون إلا بالنسبة إلى الواقع. هذا إذا لم نقل بالسببية في باب الطرق والأصول ، وإلا كان المخالف لها عاصيا حقيقة ، وليس من التجري ، هذا في الأصول والأمارات المثبتة للتكليف.

وأما النافية : فلا إشكال في رجحان الاحتياط معها ، ولكن لو فعل متعلقها برجاء مخالفتها للواقع فلا يبعد أن يكون من التجري ، كما لو قامت

ص: 53


1- أقول : الأمر بإلغاء الاحتمال إذا كان طريقيا ففي صورة المخالفة لا يكون إلا ترخيصا ، فبنائه في المقام على العمل برجاء المخالفة مرجعه إلى البناء على كونه ترخيصا ، فأين يتصور حينئذ تجرى بالنسبة إلى الطريق ، ولعل أمره بالتأمل يشير إليه.

البينة على عدم خمرية مايع وشرب المكلف ذلك المايع برجاء أنه خمر وأن البينة مخالفة للواقع ، فحيث لم يكن شربه ذلك مستندا إلى الترخيص الشرعي كان ذلك من التجري ، بل لا يبعد أن يكون ذلك من المعصية الحقيقية إذا كانت البينة في الواقع مخالفة وكان ما شربه خمرا ، ويكون المقام نظير الاقتحام في الشبهات قبل الفحص ، فتأمل.

الثاني : ذكر « صاحب الفصول » ان قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار ، وربما يطرء عليه ما يخرجه عن القبح ، كما إذا علم بحرمة ما يكون في الواقع واجبا وكان مصلحة الوجوب غالبة على مفسدة التجري أو مساوية ، وعلى هذا يختلف التجري حسنا وقبحا شدة وضعفا باختلاف الفعل المتجرى به. ثم ذكر أن التجري لو صادف المعصية الحقيقية يتداخل عقابه مع عقاب المعصية ولا يتعدد عقابه ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنه لا يستقيم شيء مما ذكره ، أما في دعواه الأولى : من كون قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار. ففيها أنه لا يعقل الاختلاف في قبح التجري (1) فان القبح ذاتي له ، كقبح المعصية وحسن الطاعة وقبح الظلم وما شابه ذلك من العناوين التي تتغير عما هي عليها ، وليس كقبح الكذب وحسن الصدق مما يمكن أن يطرء عليه جهة توجب حسن الأول وقبح الثاني ، وكيف يعقل أن يطرء على التجري جهة توجب حسنه؟ فكما لا يمكن أن تتصف الطاعة بالقبح والمعصية بالحسن كذلك لا يمكن أن يتصف التجري بالحسن.

ص: 54


1- أقول : ما أفاده « الفصول » وما أجابه المجيب إنما يجرى بناء على وحدة الموضوع بين الواقع والتجري ، ولقد أشرنا سابقا أنه بمعزل عن التحقيق ، كما بينا من أن موضوع الواقع والتجري عنوانان طوليان بنحو يسرى الحكم من أحدهما إلى الآخر ، فأين تزاحم في البين حينئذ؟ فتدبر.

وأمّا في دعواه الثانية : من أن العلم بحرمة ما يكون واجبا مغير لجهة قبح التجري. ففيها أنه لو سلمنا اختلاف قبح التجري بالوجوه والاعتبار ، ولكن الجهات المغيرة للحسن والقبح لابد وأن تكون ملتفتا إليها ، لما تقدم من أن العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ، ولا يمكن أن يكون الشيء قبيحا عقلا بلا أن يكون الموجب للقبح ملتفتا إليه (1) فالكذب الذي يتوقف عليه إنجاء البنى قبيح إذا لم يلتفت إلى التوقف ، والصدق الموجب لهلاك البنى حسن إذا لم يلتفت إلى ذلك ، وباب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة التي لا دخل للعلم بها ، فمجرد كون الفعل المتجرى به ذا مصلحة واقعا لا يوجب تغيير قبح التجري بعد ما لم تكن المصلحة معلومة ولم يكن المكلف ملتفتا إلى وجوبه ، ففي مثل هذا قبح التجري يكون على حاله ، كما هو واضح.

وأما ما في دعواه الثالثة : من أن التجري لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها أن التجري لا يعقل أن يجتمع مع المعصية حتى يتداخل العقاب ، بل التجري في طرف النقيض للمعصية ، إذ قوام التجري هو عدم المصادفة ومخالفة الواقع (2) كما أن قوام المعصية هو المصادفة للواقع ، فكيف يجتمع التجري

ص: 55


1- أقول : ما أفيد صحيح بالنسبة إلى العامل. وأما بالنسبة إلى سائر الأنظار الملتفتين إلى الجهتين ، فلا قصور في اختلاف الجهات المحسنة والمقبحة من هذه الجهة. نعم : الأولى الاقتصار إلى الجهة الأولى ، فتدبر.
2- أقول : الذي به قوام التجري صدق إبراز الجرئة على المولى مع عدم صدق العصيان عليه ، وهذا المعنى ربما يتحقق ولو بايجاد مقدمة من المقدمات حتى عزمه على العصيان ، ومن المعلوم : أن هذه المقدمات غير نفس العصيان سواء صادف معه أم لا ، وليس من مقوماته عدم مصادفة هذه المقدمات مع العصيان. وحينئذ لا قصور في اجتماع التجري مع العصيان في جميع موارد العصيان. نعم : قد يتحقق بلا عصيان ، فتكون دائرة التجري أوسع من العصيان لا مبائنا معه موردا. نعم : يباينه في الوجود ، فإن العصيان بنفسه غير التجري ، فهو لا يجتمع معه حتى موردا ، كما لا يخفى. و حينئذ الذي يرد عليه : هو أن موضوع القبح لو كان هذا العنوان المقابل للعصيان لا موجب لتداخل عقابها . نعم : لو كان صادقاً حتى على نفس العصيان فعقابهما يتأكد لا أنه يتداخل، و لكنه أيضاً كما ترى !. نعم: بناء على التحقيق - كما أشرنا إليه من أنّ موضوع القبح مطلق الطغيان الجامع بينهما، لا بأس بالإلتزام بأن لطغيان شخص واحد لا يكون إلا عقاباً واحداً ؛ فان أراد من التداخل هذا فلا بأس به؛ فتدبر.

مع المعصية؟.

نعم : يمكن أن يوجه كلامه بحيث يرجع إلى أمر معقول وإن كان خلاف ظاهر كلامه ، بأن يقال : إن مراده من المعصية المجتمعة مع التجري غير المعصية التي علم بها وتجري فيها ، بل معصية أخرى ، كما لو علم بخمرية مايع فتجري وشربه ، ثم تبين أنه مغصوب (1) فان في مثل هذا يمكن أن يقال : إن المكلف تجرى بالنسبة إلى شرب الخمر وعصى بالنسبة إلى شرب المغصوب ، بناء على أن العلم بجنس التكليف والإلزام يكفي في تنجز التكليف وإن لم يعلم فصله - كما سيأتي في العلم الإجمالي - فيقال في المثال : إنه قد تعلق علمه بحرمة شرب المايع على أنه خمر ، فبالنسبة إلى كونه خمرا أخطأ علمه ، وبالنسبة إلى الحرمة لم يخطأ وصادف الواقع ، لأنه كان مغصوبا ، فيكون قد فعل محرما ويعاقب عليه وإن لم يعاقب على خصوص الغصبية لعدم تعلق العلم بها ، بل يعاقب على القدر المشترك بين الخمرية والغصبية ، فلو فرض أن عقاب الغصب أشد يعاقب عقاب الخمر - أي عقاب مقدار شرب الخمر - ولو انعكس الأمر وكان عقاب الخمر أشد يعاقب عقاب الغصب ، لأن المفروض أنه لم يشرب الخمر فلا يعاقب عليه. وفي الصورة الأولى إنما كان يعاقب عقاب شرب الخمر مع أنه لم يشرب الخمر ، من جهة أن عقاب ما يقتضيه شرب الخمر هو المتيقن الأقل والمنفى عنه هو العقاب الزائد الذي يقتضيه الغصب ، فتأمل جيّداً.

ص: 56


1- أقول : الظاهر من المثال كون القضية مشكوكة بدوية ، وإلا فلو كان طرفا للعلم الإجمالي فتكون الخمرية أيضا مشكوكة مثل الغصبية ، وهو خلاف ظاهر فرضه ، وحينئذ نقول : إن حرمة الغصب بعد ما كان شخص حرمة اخرى غير حرمة الخمر، فالعلم بشخص حرمة الخمر لا يكاد يسرى إلى حرمة الغصب ؛ وهما وإن كانا تحت جامع الحرمة، لكن الذى هو معلوم الحصة من الجامع المختص بشخص حرمة الخمر ولا يسرى العلم إلى حصة اخرى الموجودة فى الغصب؛ و ما قرع سمعك : من كفاية العلم بجنس التكليف، إنما هو فى الجنس القابل للإنطباق على كل واحد من الشخصين، كما في فرض العلم الإجمالي بأحد الحرمتين، لا مثل المقام الذى أحدهما معلوم والآخر مشكوك ؛ ولو فرض المثال بصورة العلم الإجمالي بالخمرية والغصبية و أتى به برجاء الخمرية فبان غصبياً كان أولى؛ فتدبر.
المبحث الخامس
اشارة

ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة وادعى أن الأخباريين إنما ينكرون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وذهب آخرون منهم إلى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية وأنها لا تفيد إلا الظن.

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، ينبغي بيان نبذة من المباحث الراجعة إلى المستقلات العقلية. والقوم وإن أطالوا البحث عن ذلك وصنفوا فيها رسائل ، إلا أنه لما كان خارجا عن المقصود فالأنسب أن نقتصر بالإشارة إلى الجهات التي وقع البحث عنها ، وتفصيلها يطلب من المطولات.

الجهة الأولى :

قد نسب إلى جملة من الأشاعرة إنكار الحسن والقبح العقليين وأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها ، بل بالغ بعضهم وأنكر ثبوت جهة الحسن والقبح للأشياء وأن الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه ، وليست الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد. بل الشارع يكون مقترحا في أحكامه من دون أن يكون هناك مرجح ، وأنه لا مانع من الترجيع بلا مرجح.

ولما كان هذا القول في غاية السخافة والسقوط أعرض عنه المحققون من الأشاعرة والتزموا بثبوت المصالح والمفاسد ، ولكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة النوعية القائمة بالطبيعة في صحة تعلق الأمر ببعض أفراد تلك الطبيعة ، وإن لم تكن لتلك الأفراد خصوصية توجب تعلق الأمر بها بل كانت الأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى الطبيعة التي تقوم بها المصلحة ويصح ترجيح بعض الأفراد على بعض بلا مرجح بعد ما كان هناك مرجح في أصل

ص: 57

الطبيعة.

ولهم على ذلك براهين ، ويمثلون لذلك برغيفي الجايع وطريقي الهارب مع تساوى الرغيفين والطريقين من جميع الجهات ، فإنه لا إشكال في اختيار أحد الرغيفين والطريقين مع أنه ليس في اختيار ذلك مرجح أصلا ، لأن المفروض تساوى الفردين في الغرض من جميع الجهات (1). وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) يميل إلى هذا بعض الميل. وهذا القول ليس بتلك المثابة من الفساد (2) ويمكن الالتزام به ولا ينافيه تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكفاية المصلحة النوعية في ذلك ، والذي لا يمكن الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد في متعلقات الأوامر وأنها كلها تكون محض الاقتراح ، لعدم معقولية الترجيح بلا مرجح ، مضافا إلى إمكان دعوى تواتر الأخبار على خلافه ، كقوله صلی اللّه علیه و آله « ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد

ص: 58


1- أقول : يمكن توجيه كلامهم على نحو يخرج عن هذا المقدار من السخافة ، بأن يقال أو لا : بأن المراد من المرجح الممكن في ظرف وجوده ليس إلا تمامية علل وجوده المتمم لها إرادة الباري ( عز اسمه ) وهذه العلل ربما تكون خفية لا يحيط بها إلا ذاته المقدسة ، ولا يلزم أن يكون من سنخ المصالح والمفاسد الموجبة لرجحان العمل لدى العباد ، وعليه : فلا غرو في دعوى عدم إدراك العقل تلك العلل الخفية مع عدم وجدان العقل أيضا للمصالح الراجحة في أنظارهم ، وحينئذ لهم أن يدعى أن للباري أن يحكم على ما يرى مقتضيا لوجوده ، كما أنه قد يريد تكوينا ما فيه المفسدة بأنظار الغير المنكرين لها لجهة خفية بنظر ، فصح مع إنكارهم للجهة المحسنة بأنظارهم وأنه تحت اختيار الباري ، بلا التزام بلزوم الترجيح بلا مرجح واقعا في فعله ، وإن اتفق تخيل العباد ذلك ، لعدم دركهم مرجحا لوجوده. وثانياً: من الممكن حمل كلامهم على منع تحسين الفاعل لا منع رجحان الفعل من جهة التزامهم مجبورية العباد؛ و حينئذٍ مرجع سخافة مذهبهم إلى هذه النقطة لاغيره، كما أن إنكارهم المصالح والمفاسد في الأفعال كلية أيضاً سخيف، لوجدان العقل في بعض الأفعال المصالح والمفاسد ؛ ولكن هذا المقدار قابل للشبهة ولم تبلغ إلى درجة لا يلتزم به ذو مسكة غاية الأمر الشبهة بأنظار صحيحة مندفعة بالوجدان السليم والذوق المستقيم، نظير مشيهم في مجبورية العباد، كما لا يخفى.
2- أقول : مع فرض بطلان الترجيح بلا مرجح لا يرى العقل فرقا بين النوع والشخص ، فهما في السخافة سيّان.

أمرتكم به » الخبر (1).

ويتلو هذا في الضعف دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح في نفسها من دون أن يكون هناك مصلحة في المتعلق ، بل المصلحة في نفس الأمر والنهى. ومن ادعى هذه المقالة وإن لم يدعيها كلية وفي جميع الأوامر والنواهي ، بل ادعاها موجبة جزئية ، ومثل لها بالأوامر الامتحانية ، حيث إنه ليس في متعلقاتها مصلحة ، فلابد وأن تكون هناك مصلحة في نفس الأمر والجعل. ألا أن الأنصاف فساد هذا الدعوى ولو بنحو الإيجاب الجزئي ، فان المصلحة في الأمر مما لا معنى لها (2) وإلا يلزم أن تتحقق المصلحة بمجرد الأمر بلا انتظار شيء آخر ، والأوامر الامتحانية ليست كذلك ، فان المصلحة فيها إنما تكون قائمة في إظهار العبد الإطاعة وكونه بصدد امتثال الأوامر الصادرة من المولى ، وإظهار الإطاعة لا يتحقق إلا بالجري على وفق ما تعلق الأمر به ، وأين هذا من كون المصلحة في نفس الأمر؟.

فتحصّل : أنه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وأن في الأفعال في حد ذاتها مصالح ومفاسد كامنة مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه وأنها تكون عللا للأحكام ومناطاتها ، كما أنه لا سبيل إلى إنكار إدراك العقل تلك المناطات موجبة جزئية وأن العقل ربما يستقل بقبح شيء وحسن آخر. ولا يمكن عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح - كما عليه بعض الأشاعرة - فان عزل العقل عن ذلك يوجب هدم أساس إثبات الصانع ، ويلزم إفحام الأنبياء ، لأنه على هذا لا يستقل بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب ولا قبح المعصية وحسن الطاعة.

وبالجملة : عزل العقل عن الإدراك مما يوجب هدم أساس الشريعة ، فلا إشكال

ص: 59


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة الحديث 2
2- أقول : الأولى أن يقال : إن المصلحة الناشئة من قبل الأمر معلول الأمر فكيف يكون مقتضيا له!.

في أنّ العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها ولو موجبة جزئية وفي بعض الموارد ، ولا ندعي الكلية ولا يمكن دعواها ، بل نتكلم في قبال السلب الكلي الذي عليه بعض الأشاعرة.

الجهة الثانية :

في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بمعنى أنه في المورد الذي استقل العقل بحسن شيء أو قبحه فعلى طبقه يحكم الشرع بوجوبه أو حرمته ، وهو المراد من قولهم « كلما حكم به العقل حكم به الشرع » وقد أنكر هذه الملازمة بعض الأخباريين ، وتبعهم بعض الأصوليين ك « صاحب الفصول » حيث أنكر الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرع والتزم بالملازمة الظاهرية ، بدعوى أن العقل وإن كان مدركا للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة ، إلا أنه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إلى تلك الموانع والمزاحمات ، إذ ليس من شأن العقل الإحاطة بالواقعيات على ما هي عليها ، بل غاية ما يدركه العقل هو أن الظلم مثلا له جهة مفسدة فيقبح والإحسان له جهة مصلحة فيحسن ، ولكن من المحتمل أن لا تكون تلك المفسدة والمصلحة مناطا للحكم الشرعي لمقارنتها بالموانع والمزاحم في نظر الشارع ، فربما تكون مصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي ، كما يظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (1) وقوله صلی اللّه علیه و آله « إن اللّه سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا » الخبر (2) فان الظاهر منه هو أنه ( تعالى ) سكت

ص: 60


1- بحار الأنوار : كتاب الطهارة باب سنن الوضوء وآدابه الحديث 17 ج 80 ص 340.
2- نهج البلاغة : قصار الحكم 105.

مع ثبوت المصلحة والمقتضى في تلك الأشياء ، والمراد من السكوت هو عدم جعل الحكم ، فمن المحتمل أن يكون المورد الذي أدرك العقل جهة حسنه أو قبحه كان من الموارد التي سكت اللّه عنها ، وربما يكون حكم بلا مصلحة في المتعلق ، كما في الأوامر الامتحانية والأوامر الصادرة تقية. وغير ذلك مما حكاه في « التقريرات » عن « الفصول » من الوجوه الستة التي أقامها على منع الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرعي والتزم بالملازمة الظاهرية ، ببيان أن مجرد احتمال وجود المانع والمزاحم لما أدركه العقل لا يكون عذرا في نظر العقل ، بل لابد من البناء على الملازمة إلى أن يتبين المانع والمزاحم ، فلو خالف وصادف عدم المزاحم كان عاصيا ، وهو المراد من الملازمة الظاهرية.

هذا حاصل ما أفاده « صاحب الفصول » في وجه منع الملازمة. ولا يخفى عليك ضعفه ، فان الكلام إنما هو في المستقلات العقلية ، والعقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد إدراكه لجميع ماله دخل في الحسن والقبح. ودعوى أن العقل ليس له هذا الإدراك ترجع إلى منع المستقلات العقلية ولا سبيل إلى منعها ، فإنه لا شبهة في استقلال العقل بقبح الكذب الضار الموجب لهلاك النبي مع عدم رجوع نفع إلى الكاذب ، ومع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيا بحرمته شرعا (1) لأن المفروض تبعية الأحكام الشرعية

ص: 61


1- أقول لا شبهة في أن العقل بعد استقلاله يدرك المفسدة الغير المزاحمة يقبح العمل ويلوم على فاعله ، ولكن مع ذلك لا يلزم أن يكون ذلك تمام المناط في حكم الشارع ، إذ ربما يرى الشارع مصلحة في صبره على ارتكاب العبد للقبيح لمصلحة أعظم في تسهيل الأمر عليه ، ومثل هذه المصلحة في صبر المولى على ارتكاب القبيح لا يوجب منع استقلال العقل عن حكمه بقبح العمل ، وإلا فلا قبح في البين ، كي يصير موضوعا لصبر المولى عليه ، ومجرد تبعية الحكم من المولى لمفسدة المتعلق لا ينافي ذلك ، إذ معنى التبعية عدم حكمه بدونها لا حكمه بمجرد وجودها ، كيف وهذا المعنى أول شيء ينكر!. و من هنا نقول : إن مبادى الحكم لدى العقل ربما يكون دائرته أوسع من مبادى الحكم العقلى لدى الشارع، ومع هذا الإحتمال كيف يستقل العقل بالملازمة واقعاً؟ نعم : لابأس به ظاهراً - كما افيد. من جهة عدم إحراز وجهه، كما هو الشأن في جميع صور مزاحمات التكليف؛ فتدبر. و من هذا البيان أيضاً ظهر أنّ العقل إنما يكون رسولاً باطنياً في صورة إحراز أن الشارع اتكل في بيان مرامه بحكم عقله، وإلا فمع احتمال عدم اتكاله عليه و أنّ صبره وسكوته عن إظهار مرامه لمصلحة أعظم من قبح العمل، فكيف يكون العقل رسولاً باطنياً؟ كما لا يخفى .

للمصالح والمفاسد ، وقد استقل العقل بثبوت المفسدة في مثل هذا الكذب ، ومعه كيف يحتمل تخلف حكم الشارع؟ وما ذكره من الموارد التي ثبت فيها المصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي لا يرد نقضا على ما ذكرناه ، فانا لا ننكر أنه يمكن أن تكون للمصالح والمفاسد النفس الأمرية موانع ومزاحمات ، فان ذلك مما لا سبيل إلى إنكاره ، وإنما ندعي أنه يمكن موجبة جزئية إدراك العقل لجميع الجهات من المقتضيات والموانع والمزاحمات. ودعوى أنه مع ذلك يحتمل أن يكون من الموارد التي سكت اللّه عنها مما لا يلتفت إليها ، وكيف يكون مما سكت اللّه عنها مع أن العقل رسول باطني وقد استقل به!.

وأما ما ذكره من الموارد التي كان هناك حكم ولم تكن مصلحة فهو مما لا يصغى إليه ، فإنه لا يعقل حكم بلا مصلحة ، غايته أن المصلحة قد تكون خفية لم يطلع عليها العقل.

وأضعف من ذلك كله دعوى الملازمة الظاهرية ، فان احتمال المانع والمزاحم إن تطرق عند العقل فلا يكون مستقلا ولا حكم له بالقبح والحسن مطلقا لا واقعا ولا ظاهرا ، وإن لم يتطرق فيستقل ويحكم بالملازمة الواقعية ولا معنى للملازمة الظاهرية ، إلا أن تبتنى على قاعدة المقتضى والمانع الفاسدة من أصلها ، كما سيأتي في محله ( إن شاء اللّه تعالى ).

فتحصل : أنه لا سبيل إلى منع الملازمة بعد الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وبعد الاعتراف بادراك العقل لتلك المصالح والمفاسد.

* * *

ص: 62

الجهة الثالثة :

ما نسب إلى بعض الأخباريين أيضا : من أن القاعدة وان اقتضت الملازمة بين حكم العقل والشرع ، إلا أنه قامت الأدلة السمعية على منع العمل بهذه الملازمة وأنه لابد من توسيط تبليغ الحجة ، ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجة ، ولذلك حكى عن بعض الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية. وهذا المعنى لو تم وصحت النسبة فلابد وأن يكون ذلك بنتيجة التقييد (1) - على ما تقدم بيانه في حجية القطع - ولا يرد عليه إشكال عدم المعقولية إلا أن الشأن في دلالة الأخبار المذكورة على ذلك ، فان الأخبار على كثرتها بين طوائف ثلاث : طائفة منها ظاهرة في المنع عن الأخذ بالقياس والاستحسانات الظنية والاعتبارات الوهمية (2) كما عليه العامة ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه. وطائفة منها ظاهرة في اعتبار الولاية في صحة العبادات (3) وهذا أيضا لا ربط له بما نحن فيه. وطائفة منها ظاهرة في مدخلية تبليغ الحجة (4) وهي التي يمكن أن يستدل بها في المقام (5) وأوقعت الأخباريين في الوهم.

والانصاف : أنه لا دلالة لها على مدعاهم ، فان الحكم الشرعي المستكشف من المستقلات العقلية يكون مما وصل إلى المكلف بتبليغ الحجة

ص: 63


1- أقول : قد تقدم أن نتيجة التقييد على فرض تماميته ينتج عدم حصول القطع بحكم شرعي ، لا أنه مع القطع به العقل يحكم بعدم العمل به ، أو الأخبار يوجب ردع المكلف عن العمل بهذا العلم - كما هو ظاهر مقالتهم - وهو المعنون أيضا في كلامه هذا ، فتدبر.
2- (2 و 3) راجع الوسائل الباب 6 من أبواب صفات القاضي
3- راجع الوسائل الباب 7 من أبواب صفات القاضي
4- أقول : يمكن أن يوجه كلام الأخباري بمنع موجبية القطع الناشئ عن الخوض في العقليات لعذر العباد - كالقطع أو الغفلة الناشئة عن تقصيره في المقدمات - وذلك لا ينافي مع حكمه بلزوم اتباعه حين وجوده ، وبمثل ذلك أيضا أمكن توجيه كلام « الشيخ » في قطع القطاع ، فتدبر.

الباطنية ، وهو العقل الذي به يثاب وبه يعاقب ، كما في الخبر (1).

وبالجملة : لا دلالة في الأخبار على مدخلية السماع عن الصادقين علیهم السلام وإن شئت الإحاطة بهذه الجهات فراجع تقريرات الشيخ قدس سره

المبحث السادس

حكى عن « الشيخ الكبير » عدم اعتبار قطع القطاع. وهو بظاهره فاسد ، فإنه إن أراد من قطع القطاع القطع الطريقي الذي لم يؤخذ في موضوع الدليل فهو مما لا يفرق فيه بين القطاع وغيره (2) لعدم اختلاف الأشخاص والأسباب والموارد في نظر العقل في طريقية القطع وكونه منجزا للواقع عند المصادفة وعذرا عند المخالفة. وإن أراد القطع الموضوعي فهو وإن كان له وجه ، لأن العناوين التي تؤخذ في ظاهر الدليل تنصرف إلى ما هو المتعارف من غير فرق في ذلك بين الشك والظن والقطع ، فالشك المأخوذ في باب الركعات ينصرف إلى ما هو المتعارف ، ولا عبرة بشك كثير الشك ولو فرض أنه لم يرد قوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » غايته أنه لو لم يرد ذلك كان شك كثير الشك مبطلا للصلاة ولو تعلق في الأخيرتين ، لأنه لا يندرج في أدلة البناء على الأكثر ، فلا يكون له طريق إلى إتمام الصلاة ، فتبطل ، ولكن بعد ورود قوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » يلزمه البناء على الأقل أو الأكثر ، أي

ص: 64


1- أصول الكافي : كتاب العقل والجهل الحديث 12
2- أقول : قد أشرنا بان ذلك كله لو كان نظره إلى عدم لزوم العمل به حين وجوده ، وإلا فلو كان نظره في عدم اعتباره إلى عدم معذوريته فلا يمنعه العقل بما توهم.

هو في الخيار بين ذلك. وكذا الحال في الظن الذي أخذ موضوعا في عدد الركعات ، فإنه أيضا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم كثير الظن ، فيكون حكم ظن كثير الظن حكم الشك. وكذا الحال في القطع المأخوذ موضوعا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم قطع القطاع ، إلا أن الشأن في إمكان التفات القاطع حال قطعه إلى أنه قطاع (1) فإنه يمكن أن يقال بعدم التفاته إلى ذلك.

نعم : تظهر الثمرة بالنسبة إلى غير القاطع ، كما لو فرض أن الحاكم علم أن الشاهد قطاع ، فيمكن أن يقال بعدم قبول شهادته ، ولكن المحكى عن « الشيخ الكبير » هو عدم اعتبار قطع القطاع في القطع الطريقي المحض ، وقد عرفت أن ذلك مما لا سبيل إليه.

المبحث السابع
اشارة

لا فرق في نظر العقل في الآثار المترتبة على العلم بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، فان العلم الإجمالي من حيث كونه علما هو العلم التفصيلي ، وإن كان من حيث شوبه بالإجمال وخلطه بالجهل يفارق العلم التفصيلي على ما سيأتي تفصيله.

ولا يخفى أن المباحث الراجعة إلى العلم الإجمالي كثيرة طويلة الذيل ، يذكر جملة منها في هذا المقام ، وجملة منها في مباحث البراءة والاشتغال ، ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث ( في الجزء الرابع من الكتاب ) عند البحث عن أصالة الاشتغال ، إلا أنه تبعا للقوم لا بأس

ص: 65


1- أقول : لا قصور في التفاته بكونه قطاعا. نعم : لا يلتفت إلى مخالفة قطعه هذا للواقع ولو من باب الاتفاق.

بالإشارة إليها هنا أيضا.

فنقول : إن المباحث التي تذكر في المقام ، منها ما ترجع إلى مرحلة ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي ، ومنها ما ترجع إلى مرحلة سقوط التكليف به ، فالكلام يقع في مقامين :

ولنقدم الكلام في المقام الثاني مع أنه كان حقه التأخير تبعا للشيخ قدس سره .

فنقول : المراد من سقوط التكليف بالعلم الإجمالي هو سقوطه بالامتثال الإجمالي على وجه الاحتياط ، ولا إشكال في سقوطه بذلك في الجملة.

وتفصيل ذلك : هو أن التكليف المعلوم بالإجمال ، إما أن يكون توصليا وإما أن يكون تعبديا. فان كان توصليا فلا ينبغي الإشكال في حسن الاحتياط وسقوط التكليف بذلك ، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم ، كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، قبل الفحص أو بعد الفحص ، كان الترديد بين الوجوب والاستحباب أو مع احتمال الإباحة أيضا ، فإنه على جميع التقادير يحسن الاحتياط ويسقط التكليف به ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، لحصول الغرض ، وذلك واضح.

وإن كان تعبديا ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقا ولو مع التمكن من الامتثال ، أو عدم حسنه مطلقا ، أو التفصيل بين ما إذا لم يستلزم منه تكرار جملة العمل وبين ما إذا استلزم ذلك وجوه ، وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : ينسب إلى جمهور المتكلمين وبعض الفقهاء اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة ، وقد حكى الإجماع على ذلك أيضا.

والأقوى : عدم اعتبار ذلك ، لأن حقيقة الطاعة عند العقل عبارة عن الانبعاث وكون الإرادة الفاعلية منبعثة عن الإرادة الآمرية ، وهذا المعنى لا

ص: 66

يتوقف على معرفة الوجه وقصده ، بل المعتبر هو أن يكون الداعي إلى الفعل إرادة الآمر.

وأما معرفة كون البعث إلزاميا أو غير إلزامي فلا دخل لها في ذلك أصلا عند العقل والعقلاء الحاكم في هذا الباب ، فلو كان قصد الوجه معتبرا فلابد وأن يكون اعتباره بأمر شرعي ، وليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يستشم منه اعتبار ذلك ، مع أنه مما تعم به البلوى وتكثر الحاجة إليه ، وليس المقام من المقامات التي تتوفر الدواعي إلى إخفائها في الأمور التي ترجع إلى باب الولاية والإمامة ، فالمقام يكون من أظهر المقامات التي كان عدم الدليل فيها دليل العدم ، بل مما يقطع بعدم اعتبار ذلك شرعا ، وإلا لاستفاضت به الروايات.

والإجماع المحكى في المقام مما لا اعتبار به ، لأنه من الممكن أن يكون مدعى الإجماع قد سلك مسلك المتكلمين وادعى الإجماع على مذاق المتكلمين في المسألة الكلامية لا في المسألة الفقهية ، مع أنه لو سلم يكون من الإجماع المنقول الذي لا عبرة به.

فالإنصاف : أن مدعى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات لا يكون مجازفا في دعواه. ثم لو سلم عدم القطع ، فلا أقل من الشك والأصل في ذلك يقتضي البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في اعتبار قصد الوجه يرجع إلى الشك في اعتبار قيد في المأمور به شرعا زائد عما يعتبره العقل في الطاعة ، لما تقدم من أن العقل لا يعتبر في الإطاعة أزيد من كون الشخص منبعثا عن البعث ومتحركا عن الإرادة ، فقصد الوجه لو كان معتبرا فلابد وأن يكون ذلك من جهة الشرع ، والمرجع حينئذ عند الشك في الاعتبار هو البراءة ، كما أن المرجع عند الشك في أصل التعبدية والتوصلية ذلك ، بناء على ما هو المختار : من أن التعبدية تتوقف على الأمر بها ولو بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله في مبحث التعبدي والتوصلي.

نعم : بناء على أن اعتبار قصد الامتثال من باب دخله في الغرض و

ص: 67

أنّ اللازم هو تحصيل الغرض يكون المرجع عند الشك هو الاشتغال (1) من غير فرق بين الشك في أصل اعتبار قصد الامتثال أو الشك فيما يستتبعه من قصد الوجه ومعرفته ، فإنه على هذا المعنى لا يرجع الشك إلى ما يكون مجعولا شرعيا حتى تجرى فيه البراءة الشرعية ، وصاحب هذا المسلك لابد له من دعوى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه ، وإلا فلو وصلت النوبة إلى الشك يكون الأصل فيه هو الاشتغال. ولكن المبنى عندنا فاسد ، فالأصل يقتضي البرائة.

الأمر الثاني : لا إشكال في أن الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل ، لا بمعنى أنه ليس للشارع التصرف في كيفية الإطاعة. فان ذلك بمعزل عن الصواب ، لوضوح أن حكم العقل في باب الطاعة إنما هو لأجل رعاية امتثال الأوامر الشرعية والخروج عن عهدتها ، فللشارع أن يتصرف في كيفية إطاعة أوامره زائدا عما يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء ، حيث قامت الأدلة الشرعية على اعتبار خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء مع أن العقل لا يستقل بذلك ، وللشارع أيضا أن يكتفى في امتثال أوامره بما لا يكتفى به العقل لو خلى ونفسه ، كما في الأصول الشرعية الجارية في وادى الفراغ ، ولكن كل ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، فلو لم يقم دليل شرعي على التصرف في بيان كيفية الإطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل ، فان استقل بشيء فهو ، وإلا فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة ، لأن الشك في اعتبار شيء في كيفية

ص: 68


1- أقول : لازم هذا المسلك لزوم الاحتياط في كلية الأقل والأكثر. والأولى في وجه الاحتياط المختص بمثل هذه القيود كونها خارجة عن دائرة المأمور به ، لمحذور الدور ، فلا يرجع الشك فيها إلا إلى الشك في سقوط الأمر عما تعلق به جزما ، وبه تمتاز عن بقية الأجزاء ، فان الشك فيها يرجع إلى الشك في أصل توجه الأمر إليها ، فالشك فيها يرجع إلى الشك في أصل الاشتغال ، بخلاف الشك في القيود المزبورة ، فإنه يرجع إلى الشك في الفراغ عما اشتغل الذمة به ، كما لا يخفى. فتدبر فيه وفي دفع هذه الشبهة أيضا ، كما سيتضح في محله ( إن شاء اللّه تعالى ).

الإطاعة عقلا يرجع بالأخرة إلى الشك في التعيين والتخيير لا الأقل والأكثر ، والأصل يقتضي التعيين ، كما سيأتي توضحيه في محله.

ولا يقاس الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية بالشك في اعتبار مثل قصد التعبد والوجه ، لما عرفت من أن اعتبار مثل قصد التعبد والوجه إنما يكون بتقييد العبادة شرعا بذلك ولو بنتيجة التقييد (1) فالشك فيه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطي ، وهذا بخلاف الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية ، فإنه يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير (2) كما لو فرض الشك في كون الإمتثال التفصيلي في عرض الإمتثال الاحتمالي أو طوله ، كما سيأتي بيانه.

الأمر الثالث : مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة (3)

ص: 69


1- سيأتي في مبحث الاشتغال أن اعتبار الامتثال التفصيلي لابد وأن يرجع إلى تقييد العبادة به شرعا ولو بنتيجة التقييد ، ولكن مع ذلك الأصل الجاري فيه عند الشك هو الاشتغال ، لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ( منه ).
2- أقول : ويمكن إرجاع قيود الامتثال أيضا إلى الأقل والأكثر بارجاع الشك فيها أيضا إلى الشك في دخل مرتبة زائدة من بقية المراتب من حيث دخل خصوصية زائدة في بعضها دون بعض ، مع فرض حفظ الفاقد في ضمن الواجد. نعم : لو كان نسبتها من قبيل الكلي المتواطي - بنحو لا يكون الفاقد محفوظا في ضمن الواجد - كان المرجع التعيين والتخيير ، فتدبر في ملاك الفرق بين المسألتين ، وتدبر أيضا في أن ما نحن فيه من أيهما؟.
3- أقول : بعد ما كان في المقام مرحلتان : أحدهما مقام إثبات التكليف بعلم ولو إجمالا أو غيره ، والآخر مرحلة إسقاطه وامتثال ما ثبت بأي طريق وأن قطعية مرحلة الإسقاط غير مرتبط بمرحلة إثباته ، لأنه ربما يكون المثبت للتكليف علما ولكن المسقط له ظنا ، وربما يكون الأمر بالعكس. فلنا حينئذ مجال السؤال بأنه ما المراد من مراتب الإمتثال ؟ فإن اريد به مراتبه الناشئة عن مراتب طريقه، فلا يزال يكون مرتبة الإمتثال قطعياً، وإنما ظنه بظنية طريقه ؛ وحينئذٍ المراتب المسطورة محسوبة للطريق لا الإمتثال؛ مع أنه على هذا لا يتصور الإمتثال الإجمالي في أطراف العلم الإجمالي ولا الظنى، أيضاً. و إن اريد به مراتب الإمتثال فى التكليف الثابت بأي طريق، فهو ربما يختلف، ولكن ليس ظنيته من جهة كيفية طريقه، بل لابد و أن يكون ظنياً بظن ثابت فى هذه المرحلة كما هو الشأن في مرجعية الظن بناء على التبعيض في الإحتياط ؛ وفى مثله لا يتصور حجية الظن على الكشف. و بالجملة نقول: إن أراد المقرر من المراتب المزبورة المعنى الأول، فلا يتصور فيه الإمتثال الظني أو الإحتمالي في أطراف العلم الإجمالى، فانّ هذا الظن غير ناش من ظنية طريقه أو احتماله، بل لابد وأن يتصور في الحجة الظنية أو الإحتمالية و إن أراد المقرر من المراتب المعنى الثانى، فلا يتصور الإمتثال الظنى بناء على الكشف، إذ ليس للشارع تصرف في مرحلة الإسقاط. كيف! و في هذا المقام مع التمكن من الإحتياط التام يستقل العقل بالإمتثال القطعي، ومع عدم التمكن من الإحتياط التام يتبعض ويأخذ بالإحتمال مع عدم رجحان ذلك الطرف، وإلا فيستقل بطرف الظن و لا ينتهي النوبة بتصرف الشارع في هذه المرحلة إلا بعد إسقاط العلم عن الحجية، فترجع حينئذ إلى الفرض الأول.

المرتبة الأولى : الامتثال التفصيلي ، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرق والأمارات والأصول المحرزة التي تقوم مقام العلم ، فان الامتثال بالظنون الخاصة وبالأصول المحرزة يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني ، بل الامتثال بالظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الكشف أيضا يكون حكمه حكم الامتثال بالعلم وفي عرضه ، فان حال الظن المطلق بناء على الكشف حال الظن الخاص ، لأن معنى الكشف هو أن الشارع جعل الظن حجة مثبتا للأحكام الواقعية وطريقا محرزا لها ، فيكون الامتثال به في عرض الامتثال العلمي.

وما ربما يتوهم : من أنه كيف يكون الظن بناء على الكشف في عرض العلم مع أن اعتباره موقوف على انسداد باب العلم ، فهو واضح الفساد ، فان المراد من انسداد باب العلم انسداده في معظم الأحكام لا في جميعها (1)

ص: 70


1- أقول : لا شبهة في أن باب العلم بالحكم الكلي الشرعي في كل مسألة إذا كان مفتوحا لا تصل النوبة إلى الظن في تلك المسألة ، وأن الانسداد في معظم الأحكام إنما ينتج حجية الظن في موارد الانسداد من معظم الأحكام ، لا غيره. فالأولى أن يقال بطولية مرجعية الظن المزبور عن العلم فى مقام الإثبات مطلقاً، وأن تعجب «الشيخ» عن «المحقق القمى» فى محله لوكان غرضه من الظن المطلق ما كان حجيته بدليل الإنسداد، وإلا فلو كان مرامه حجية الظن المطلق ببناء العقلاء - كما يشهد به استشهاده عليه بأنه أساس عيش بنی آدم فهو بمصطلح «الشيخ» داخل في الظن الخاص لا المطلق؛ وحينئذ يرد على شيخنا العلامة» بأنّ نتيجته تمام على مصطلحه من الظن المطلق لا مصطلح « المحقق القمي » الذي هو داخل في الظن الخاص على اصطلاح « الشيخ » إذ في مثله لا غرو بدعوى عرضيتها مع الامتثال بالعلم ، كما لا يخفى.

ففي المورد الذي يمكن تحصيل العلم مع انسداد بابه في معظم الأحكام يكون المستنتج حجيته من مقدمات الانسداد بناء على الكشف في عرض العلم.

وظاهر كلام الشيخ قدس سره عدم الفرق في الظن بين القول بالكشف وبين القول بالحكومة في تأخر رتبة الامتثال به عن الامتثال العلمي ، قال ( قده ) في مقام الرد على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) « والعجب ممن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق ثم يذهب إلى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط » انتهى.

والإنصاف : أن تعجب « الشيخ » ليس في محله ، فان « المحقق القمي ره » من القائلين بالكشف ، فيكون حال الظن حال العلم.

فتحصل : انه لا فرق بين العلم الوجداني والظن الخاص والظن المطلق على الكشف في حصول الامتثال بكل واحد منها. نعم : بين الامتثال بالعلم الوجداني والامتثال بالطرق والظنون الخاصة فرق لا دخل له فيما نحن فيه ، وهو أنه بعد الامتثال بالعلم الوجداني لا يبقى موقع للاحتياط ، لعدم تطرق احتمال مخالفة الامتثال للواقع ، بخلاف الامتثال بالظنون الخاصة ، فإنه يبقى موقع للاحتياط ، لتطرق احتمال مخالفة الظن للواقع.

ولكن ينبغي بل يمكن أن يقال : إنه يتعين أولا العمل بمقتضى الطريق (1) ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط. وعلى ذلك يبتني الخلاف الواقع بين العلمين « الشيخ الأنصاري » و « السيد الشيرازي » ( قدس سرهما ) في

ص: 71


1- أقول : في تعينه لولا لزوم قصد الوجه أو التميز منع واضح. نعم : لا بأس بمراعاة احتماله استحبابا لا لزوما.

مسألة تقديم القصر على التمام أو تقديم التمام على القصر في المسافر إلى أربع فراسخ مع إرادة الرجوع ليومه ، فان « الشيخ قده » لما اختار في المسألة تقديم أدلة وجوب التمام جعل الاحتياط بالقصر بعد فعل التمام ، و « السيد » اختار تقديم أدلة وجوب القصر جعل الاحتياط بالتمام بعد فعل القصر.

المرتبة الثانية : ( من مراتب الامتثال ) الامتثال العلمي الإجمالي ، كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

المرتبة الثالثة : الامتثال الظني ، سواء في ذلك الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ، أو الظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الحكومة ، فان معنى الحكومة هو حكم العقل بتعين الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فيكون الظن بناء على الحكومة واقعا في طريق الامتثال ، على ما سيأتي توضيحه.

المرتبة الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كما في الشبهات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذر الامتثال الإجمالي أو الظني.

ولا إشكال في أنه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني (1) ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي ، إنما الإشكال في المرتبتين الأولتين.

فقيل : إنهما في عرض واحد ، وقيل بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان على الامتثال الإجمالي ، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق

ص: 72


1- أقول : يمكن أن يقال : إن الداعي على العمل ليس إلا ما هو معلوم له ولو إجمالا ، وأن الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزما على مورده ، لا أن ما يدعوه إليه احتماله بنفسه ، فتدبر.

الإجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط. وهذا هو الأقوى ، ولكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملة العمل ، فان حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عند بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقق ، فان الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلا احتمال تعلق الأمر به ، فإنه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. نعم : بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه ، والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلا هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلق الأمر به حتى يتحقق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده من العمل ، ومجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي أن يكون الانبعاث عن البعث المولوي ، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة إلى كل واحد من العملين. نعم : الانبعاث عن احتمال البعث وإن كإن أيضا نحوا من الطاعة عند العقل إلا أن رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي.

فالإنصاف : أن مدعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعية والحكمية مع التمكن من إزالة الشبهة لا يكون مجازفا في دعواه (1) مع أنه لو سلم الشك في ذلك فقد عرفت أن الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة ، لأن مرجع الشك في ذلك إلى الشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعين الامتثال التفصيلي.

هذا إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين المتباينين بحيث استلزم من الاحتياط تكرار جملة العمل. وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر - كالشك في

ص: 73


1- أقول : على ما ذكرنا آنفا لا يخلو عن مجازفة ، كما أنه على الشك أمكن دعوى : أن لجهة الإجمال جهة نقص عن التفصيل بملاحظة سعة علمه الحاوي لشراشر وجوده دونه مع انحفاظ جهة نقصه في مرتبة كماله ، وفي مثله المرجع هو البراءة - كالأقل والأكثر - لا التعيين والتخيير ، لعدم كونها من قبيل الكلي المتواطئ ، فتدبر بعين الدقة ولا تسرع في المطلب عميانا.

وجوب السورة مثلا في الصلاة - فالأقوى أنه لا يجب على المكلف إزالة الشبهة وإن تمكن منها بالعلم والاجتهاد أو التقليد ، لأنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك ، إلا إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء ، وقد تقدم ضعفه. وهذا من غير فرق بين ما إذا تردد أمر الجزء المشكوك بين الوجوب والاستحباب كالسورة ، أو مع احتمال الإباحة أيضا كجلسة الاستراحة ، بل لو تردد أمره بين المتباينين - كالجهر والإخفات في ظهر الجمعة - فإنه للمكلف الاحتياط بتكرار القراءة بلا تكرار الصلاة.

هذا كله إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي. وإن كانت الشبهة بدوية : ففي الشبهات الموضوعية يحسن الاحتياط مطلقا قبل الفحص وبعده ، لعدم وجوب الفحص فيها. وإن كانت الشبهة حكمية : فلا يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص ، لأن التكاليف في الشبهات الحكمية تتنجز بما يعتبر فيها بمجرد الالتفات إليها ، إلا إذا تفحص المكلف ولم يعثر عليها فإنه يكون حينئذ معذورا. وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في حسن الطاعة يكون حاله حال ساير القيود والأجزاء يتنجز التكليف به على تقدير ثبوت التكليف واقعا مع التمكن من إزالة الشبهة بالفحص. هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو سقوط التكليف بالعلم الإجمالي.

المقام الثاني :
اشارة

في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.

وينبغي أن نقتصر في المقام على فهرست ما يتعلق بذلك من المباحث والإشارة الإجمالية إلى ما هو المختار فيها : ونحيل تفصيلها إلى الجزء الرابع من

ص: 74

كتابنا ، فإنه قد استقصينا الكلام فيها بما لا مزيد عليه ، إلا بعض الأمور التي تختص ذكرها هنا.

فنقول : إن الأمور التي وقع البحث عنها في باب العلم الإجمالي كثيرة.

الأمر الأول :

قد توهم أن العلم الذي يكون موضوعا عند العقل في باب الطاعة والمعصية يختص بالعلم التفصيلي ولا يعم العلم الإجمالي ، بتقريب : أن العقل إنما يستقل بقبح الإقدام على عمل يعلم أنه معصية لأمر المولى ونهيه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق الأمر أو النهى بما يأتي به من العمل ، وفي العلم الإجمالي لا يكاد يتحقق هذا المعنى ، لانه عند الاقتحام بكل واحد من أطراف المعلوم بالإجمال لا يعلم بأن اقتحامه يكون معصية لأمر المولى أو نهيه ، لعدم العلم بتعلق الأمر أو النهى به بخصوصه ، غايته أنه بعد الاقتحام بجميع الأطراف يعلم بتحقق المخالفة ، والعقل لا يستقل بقبح الاقتحام على ما يعلم بعد ذلك بحصول المخالفة ، هذا.

ولكن فساد هذا التوهم بمكان من الوضوح ، بداهة أن العقل يستقل بقبح مخالفة التكليف المحرز الواصل إلى المكلف بأحد طرق الوصول. ومن جملتها العلم الإجمالي ، فان التكليف في موارد العلم الإجمالي واصل إلى المكلف ومحرز لديه ، والإجمال إنما يكون في المتعلق ، وإلا فنفس التكليف والإلزام معلوم تفصيلا (1) وهو على ما عليه من إجمال المتعلق يصلح لأن يكون بعثا مولوياً و

ص: 75


1- أقول : بعد ما كان المتعلق مورد الإجمال والترديد ، فقهرا التكليف المتعلق بكل منهما أيضا طرف الترديد ، وما هو معلوم الجامع المهملة بين الشخصين المردد انطباقه على أيهما بلا إطلاق في هذا الجامع ، فلا يقاس المقام بالتكليف بالجامع في باب التخيير ، لأن في شخص الجامع إطلاق قابل للانطباق على أيهما ، بخلاف الجامع في المقام فإنه مهملة غير صالح للانطباق إلا على واحد منهما ، غاية الأمر بنحو الترديد. ومن هذه الجهة نقول : لا يصح دعوى العلم بشيء تفصيلا في موارد العلم الإجمالي ، لا في الحكم ولا في المتعلق. ثم إن الناظر البصيرر بما يرى تها فتأبين قوله في المقام : ويمكن الإنبعاث عن البعث في العلم الإجمالي» و بين تقريبه السابق بأنّ «الإنبعاث من قبل احتمال البعث لا نفسه» وجعل ذلك منشأ تأخيره رتبة عن الإمتثال التفصيلي؛ فراجع وتدبر.

يمكن الانبعاث عنه ، بحيث لو فرض أنه لو كان الخطاب الواقع كذلك - أي على ما هو عليه من الإجمال (1) من دون أن يتعلق بخصوصية أحد الأطراف - لكان لك تكليفا مولويا ، يصلح لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد نحو امتثاله وينتج نتيجة التخيير الشرعي أو العقلي - على اختلاف المقامات - فالجهل بالخصوصية لا يضر بالمعلوم بالإجمال ولا يمنع عن حكم العقل بقبح الاقتحام على مخالفته ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

الأمر الثاني :

ذهب بعض الأعاظم إلى انحفاظ رتبة الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي (2) لأن موضوع الحكم الظاهري هو الجهل بالواقع ، والأصول

ص: 76


1- أقول : مثل هذا التعبير في باب التخيير غلط ، كما لا يخفى على من تأمل فيما ذكرنا آنفا.
2- 2 - أقول : رتبة الحكم الظاهري إنما يكون محفوظا في فرض تعلق الشك بنفس الواقع ، بلا شائبة تنجز فيه ، وإلا فمع احتمال التكليف المنجز الملازم لاحتمال المعصية العقل يأبى عن الترخيص في المعصية ولو مع احتمالها ، وحينئذ فلا محيص لمثل هذا المقرر أن يعزل العلم الإجمالي عن المنجزية رأسا ، أو يدعى تعليقية حكم العقل بمنجزية العلم بعدم ترخيص على خلافه ، وعلى الفرضين لا يمنعه الجزم بمخالفة الأصلين للواقع بعد اختلاف الرتبة في البين ، كما هو الشأن في الشبهات البدوية ، وعليه فلا يبقى مجال لما أفيد في جوابه من التفكيك في شمول أدلة الأصول للطرفين أو طرف واحد ألا مع إثباته التفكيك بين الموافقة والمخالفة في التعليقية والتنجيزية ، ولا مجال لإثباته من الخارج ، بل مجرد احتمال التنجيزية يكفي مطلقا ، يكفي لمنع شمول دليل الترخيص ولو لأحدهما ، ولا مجال أيضا لاثباته حينئذ بتوهم شمول دليل الترخيص لفرض الشك دون العلم وذلك لما فيه : حيث نقول : بأنّ شمول دليل الترخيص لفرض الشك حينئذ دورى، لأن الشمول منوط بثبوت التعليقية، فكيف يثبت التعليقية بشمول دليل الترخيص ؟ فان قلت: إنّ ما نعية المعصية لدليل الترخيص إذا كان عقلياً يصير من المخصصات اللتية، ولا بأس بالتمسك بالعام في المخصص اللبى فبدليل الترخيص يستكشف عدم المعصية عند الشك بها . قلت: نتيجة التمسك بالعام في المخصص اللتي ليس نفى المعصية المشكوكة وجداناً، بل غايته نفيها تعبداً؛ فاحتمال المعصية وجدانا موجود ، ومع هذا الاحتمال يأبى العقل عن الترخيص فيها ، فكان العقل يرى عدم المعصية شرطا للحكم الظاهري أيضا - نظير شرطية القدرة - وحينئذ ليس المقام من موارد التمسك بالعام في الشبهات المصداقية اللبية كما توهم ، فتدبر.

العملية إنما تجرى في كل واحد من الأطراف بخصوصه وكل واحد منها مجهول الحكم ، وليس في البين أصلى عملي يجرى في مقابل نفس المعلوم بالإجمال حتى يقع التضاد والمنافاة بين مؤدى الأصل والمعلوم بالإجمال ، فلا يلزم من جريان الأصول في الأطراف محذور المناقضة والتضاد.

قلت : جريان الأصول العملية في كل واحد من الأطراف يستلزم الجمع في الترخيص بين جميع الأطراف (1) والترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال ، فلا يمكن أن تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة في جميع الأطراف. نعم : يمكن الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله.

ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الإجمالي إما أن يكون علة تامة بالنسبة إلى كلا المرحلتين وإما أن لا يكون ، فهي مما لا شاهد عليها ولا سبيل لها ، بداهة أن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي (2) وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم

ص: 77


1- أقول : لنا مجال النقض بمشكوكية كل واحد من الطرفين ومعلومية أحدهما ، مع أن بين الشك واليقين كمال المناقضة ، وحينئذ فلو ادعى الطرف بأن مركز الترخيص هو المشكوك بلا سرايته إلى العنوان المعلوم ، من أين يسرى الترخيص إلى الجهة المعلومة؟ فتدبر.
2- أقول : بعد اكتفاء العقل في مقام الفراغ عما اشتغلت الذمة بالأعم من الواقعي والظاهري ، فلا قصور حينئذ في تصرف الشارع في مقام الفراغ بجعل البدل ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي بضرب قاعدة الفراغ ، وأين هذا مع فرض صرف الترخيص في بعض الأطراف بلا تصرف في مقام الفراغ وجعله بدلا عن الواقع ، كيف! ومثل هذا الترخيص أيضا غير جار في العلم التفصيلي أيضا ، وحينئذ ليس مجال الاستشهاد بمثل جعل البدل في المقامين على جواز الترخيص في أحد الطرفين بلا تعيين مفرغ وجعل بدل. وتتمة الكلام موكول إلى محله في بحث الاشتغال.

التفصيلي ، كما هو مفاد الأصول الجارية في وادى الفراغ ، فما ظنك بالعلم الإجمالي؟ وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، فراجع.

الأمر الثالث :

الأصول المتكفلة للتنزيل كالاستصحاب لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم ، فلا يجري استصحاب النجاسة في كل واحد من الإنائين اللذين علم إجمالا بطهارة أحدهما مع سبق النجاسة في كل منهما ، كما لا يجرى استصحاب الطهارة فيهما مع العلم بنجاسة أحدهما وسبق الطهارة في كل منهما ، مع أنه لا يلزم من جريان الاستصحابين في الفرض الأول مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، لان التعبد ببقاء الواقع في كل من الإنائين ينافي العلم بعدم بقائه في واحد منهما. وهذا بخلاف الأصول الغير المتكفلة للتنزيل - كأصالة البراءة والحل والاحتياط - فان جريانها في أطراف العلم الإجمالي يدور مدار لزوم المخالفة العملية وعدمه ، فإن لم يلزم من جريانها مخالفة عملية تجرى ويلزم العمل على مقتضاها ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك بأمثلته في خاتمة الاستصحاب.

الأمر الرابع :

المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس قصور أدلة اعتبارها وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كما توهم ، لوضوح أن ذلك على تقدير تسليمه يختص ببعض أخبار الاستصحاب مما اشتمل على لزوم نقض اليقين باليقين ، فان اشتماله على ذلك هو الذي أوجب توهم عدم شمول الدليل للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. وأما بقية أخبار الاستصحاب وأدلة سائر الأصول فليس فيها ما يقتضي توهم اختصاصها بغير الشبهة المقرونة بالعلم

ص: 78

الإجمالي ، بل المانع من جريانها هو قصور المجعول فيها وعدم انحفاظ رتبتها ، من جهة لزوم المناقضة بين مؤدى الأصول والتكليف المعلوم بالإجمال ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فالبحث عن عموم أدلة الأصول وعدم عمومه مما لا أثر له ، فإنه مع فرض عمومها لابد من تخصيصها عقلا بغير الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، على تفصيل بين الأصول المتكفلة للتنزيل وغيرها ، كما تقدم الإشارة إليه.

كما أنه لا أثر للبحث عن أن عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لعدم المقتضى أو لثبوت المانع ، مع أنه لم يظهر المراد من المقتضى والمانع المبحوث عنه في المقام.

فان كان المراد من المقتضى ، هو أن كل واحد من الأطراف من حيث كونه مجهول الحكم فيه اقتضاء جريان الأصل والعلم الإجمالي بتعلق التكليف بأحدهما مانع عن جريانه ، فهذا معنى صحيح غير قابل للنزاع والبحث فيه.

وإن كان المراد من المقتضى ، هو أن أدلة الأصول تعم أطراف العلم الإجمالي ولزوم المخالفة العملية من جريانها مانع في مقابل من يقول : إن أدلة الأصول لا تعم أطراف العلم الإجمالي - كما يظهر من الشيخ - فقد عرفت أن البحث عن عموم الدليل وعدمه مما لا أثر له بعد عدم قابلية المجعول في باب الأصول لان يعم أطراف العلم الإجمالي.

فالإنصاف : أن البحث عن ثبوت المقتضى ولا ثبوته مما لا يرجع إلى محصل ، ويأتي تفصيله في خاتمة الاستصحاب وفي الاشتغال.

الأمر الخامس :
اشارة

يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أمور :

الأمر الأول : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال صالحا للإنبعاث

ص: 79

عنه وقابلا لأن يكون محركا لإرادة المكلف نحو امتثاله مع ما هو عليه من الإجمال ، بحيث يمكنه المخالفة القطعية للتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا تعلق بما لا يمكن أن يكون محركا لإرادة العبد ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد ين وجوب الحركة أو السكون غير صالح للانبعاث عنه بعد ما كان العبد لا يخلو عن أحدهما تكوينا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ( في مبحث البراءة ) ان شيئا من الأصول العقلية والشرعية لا تجري في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

وليعلم أنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أمور :

الأول : وحدة القضية وعدم تكررها ، فان في صورة تكرار القضية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ، كما لو دار أمر المرأة بين كونها محلوفة الوطي في كل ليلة من ليالي الأسبوع ، أو محلوفة الترك كذلك ، فإنه مع وطيها في بعض ليالي الأسبوع وترك وطيها في الليالي الاخر يعلم بمخالفة التكليف.

الثاني : أن لا يكون المكلف به في كل من طرف الفعل والترك تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا ، فإنه لو كان كذلك لكان المكلف متمكنا من المخالفة القطعية بترك قصد التعبد في أحدهما أو في خصوص المعين ، ومهما تمكن المكلف من المخالفة القطعية فالعلم الإجمالي يقتضي التنجيز ولو بهذا المقدار ولو لم تجب الموافقة القطعية لعدم التمكن منها. ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فإذا لم تجب الموافقة القطعية لم تحرم المخالفة القطعية ، قد عرفت ما فيها.

الثالث : عدم القول بوجوب الموافقة الالتزامية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنه لو بنينا على وجوب الموافقة الالتزامية لكان المكلف متمكنا أيضا من المخالفة القطعية بترك الالتزام بالتكليف المعلوم بالإجمال أو الالتزام بضده. ولكن في أصل الموافقة الالتزامية موضوعا وحكما إشكال ، فان المراد من الموافقة الالتزامية إن كان هو التصديق بما جاء به النبي ( صلى اللّه

ص: 80

عليه وآله ) فهذا مما لا إشكال في وجوبه ، لأن عدم الالتزام بذلك يرجع إلى إنكار النبي صلی اللّه علیه و آله . وإن كان المراد منها معنى آخر ، فلو سلم أن وراء التصديق بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله معنى آخر فلا دليل على وجوبه ، ولو سلم قيام الدليل عليه فهو يختص بما إذا علم بالتكليف تفصيلا ليمكن الالتزام به ، ولو سلم أن الدليل يعم العلم الإجمالي فالالتزام بالواقع على ما هو عليه في موارد العلم الإجمالي بمكان من الإمكان ، وهذا لا ينافي كون أمر التكليف من حيث العمل يدور بين المحذورين.

الأمر الثاني : يعتبر في تأثير الإجمالي أن لا يسبق التكليف ببعض الإطراف على العلم الإجمالي (1) وإلا كان الأصل النافي للتكليف جاريا في الطرف الآخر بلا معارض ، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الإنائين مع أن أحدهما المعين كان نجسا قبل وقوع القطرة من الدم في أحدهما ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما له من الفروع في مبحث الاشتغال.

الأمر الثالث : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال مما له تعلق بشخص العالم ، أي كان شخص العالم هو المخاطب بالتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال مرددا بين شخصين - كالجنابة المرددة بين الشخصين في الثوب المشترك - فان أصالة عدم الجنابة تجرى في حق كل من الشخصين بلا معارض.

نعم : قد يتولد من العلم بجنابة أحد الشخصين ما يقتضي تعارض الأصلين ، وذلك يتصور في موارد :

منها : ما إذا اجتمعا في صلاة الجمعة بحيث كانا من المتممين للعدد

ص: 81


1- أقول : سبق التكليف غير مؤثر شيئا ، بل لابد من التقارن ، كما سيجيء توضيحه في محله.

المعتبر فيها سواء كانا مأمومين أو كان أحدهما مأموما والآخر إماما ، فلا تصح صلاة كل منهما. بل لا تصح صلاة كل من اجتمع معهما لأنه يعتبر في صلاة الجمعة أن يكون كل من المأمومين محرزا - ولو بالأصل - صحة صلاة الإمام وبقية المأمومين ، ومع العلم بجنابة المجتمعين لصلاة الجمعة لا يمكن إحراز صحة صلاة الجميع ، فلا يمكن أن يجرى كل شخص أصالة عدم الجنابة في حق نفسه. وإن شئت قلت : إن صلاة المجتمعين في صلاة الجمعة بمنزلة صلاة واحدة مرتبطة بعضها مع بعض ، فأصالة عدم الجنابة في كل من الشخصين تعارض أصالة عدمها في الشخص الآخر.

ومنها : ما إذا اقتدى أحدهما بالآخر في غير صلاة الجمعة ، أو اقتدى ثالث بكل منهما في صلاتين أو صلاة واحدة ، فإنه في الفرض الأول يعلم بفساد إحدى الصلاتين إما صلاة نفسه أو صلاة إمامه ، وفي الفرض الثاني يعلم بفساد صلاة أحد الإمامين ، إلا إذا قلنا : إنه يكفي في صحة صلاة الجماعة إحراز كل من الإمام والمأموم صحة صلاة نفسه ولو بالأصل ، ولا يعتبر في الصحة إحراز المأموم صحة صلاة الإمام ، فإنه على هذا تصح صلاة الجميع وتجرى أصالة عدم الجنابة في حق كل منهما بلا معارض ، وتفصيل ذلك موكول إلى محله.

ومنها : ما إذا استأجر كل منهما لما يكون مشروطا بالطهارة كالصلاة والصوم ، فان المستأجر يعلم بفساد صلاة أحد الأجيرين. فلا تفرغ ذمة المنوب عنه ، إلا إذا قلنا أيضا بأنه يكفي في صحة الإجارة وتفريغ ذمة المنوب عنه كون الأجير محرزا لصحة عمله ولو بالأصل.

ومنها : ما إذا استأجر كل منهما لما يحرم على الجنب فعله - ككنس المسجد والدخول فيه لحمل المتاع ونحو ذلك - فإنه قد يقال : بفساد الإجارة للعلم بحرمة دخول أحد الأجيرين.

ولكن الأقوى في هذا الفرض صحة الإجارة لأنه لا يعتبر في صحتها

ص: 82

سوى كون العمل مملوكا للأجير وممكن الحصول للمستأجر وكل من الشرطين حاصل في الفرض ، لأن كلا من الأجيرين مالك لعمل نفسه فإنه يباح لكل منهما الدخول في المسجد وكنسه ولو بمقتضى الأصل ، فيجوز لهما ذلك ، وإذا جاز لهما ذلك جاز استيجارهما عليه.

ومنها : غير ذلك من الموارد التي تظهر للمتأمل.

الأمر الرابع : أن لا يكون للعلم بالخصوصية دخل في الحكم ، بحيث كان إجمال المتعلق مما يقتضي تبدل الحكم واقعا. وبعبارة أخرى : يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن لا يكون الموضوع من الموضوعات التي يعتبر العلم بالخصوصية في ترتب الحكم عليه ، سواء كان الحكم من الأحكام التكليفية ، أو من الإحكام الوضعية ، وعلى ذلك يبتني حصول الشركة في الأموال عند الخلط ، فإنه تبطل ملكية الخصوصية وتحصل الإشاعة في المالين المختلطين واقعا ، من غير فرق بين خلط الحنطة بالحنطة أو خلط الدراهم بالدراهم ، وإن خالف بعض في حصول الشركة وثبوت الإشاعة بخلط الدارهم.

ولكن الأقوى : حصول الشركة فيها أيضا ، والسر في حصول الشركة بخلط الأموال هو أن الملكية لما كانت من الأمور الاعتبارية العرفية (1) كان إجمال الخصوصية موجبا لبطلانها وعدم اعتبارها لمالكها ، فتخرج الخصوصية الإفرازية عن ملك صاحبها وتحصل الشركة بنسبة المالين المختلطين : من النصف والثلث والربع.

ص: 83


1- أقول : هذا البرهان جار في خلط كل متماثل من الثياب وغيرها ، وهو كما ترى! فالأولى عدم التعدي في الشركة والخلط عن الأمور التي يحسب بالخلط شيئا واحدا دقة - كالمايعات - أو عرفا - كالحبوبات - وأما مثل الدراهم بعد الخلط أيضا متعدد ، فلا مجال لاعتبار الشركة فيها ، بل يجرى فيها حكم عدم الميز ، نظير صورة عدم الخلط ، كما لا يخفى.

وما ورد في الدرهم الودعي : من إعطاء أحد الدرهمين عند تلف الثالث لصاحب الدرهمين وتنصيف الدرهم الآخر بين مالك الدرهم والدرهمين بالسوية - كما في رواية السكوني - لابد من حمله على صورة عدم خلط الدراهم ، وإلا كان الحكم فيه التثليث.

وبالجملة : الخلط في باب الأموال يوجب الشركة وبطلان خصوصية الإفراز كما عليه الأصحاب واستفاضت به الروايات. نعم : الحكم بالشركة يختص بصورة الخلط. وأما في صورة اشتباه المالين وعدم تميز أحدهما عن الآخر بلا خلط ، فالحكم فيها هو التصالح أو القرعة ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله.

الأمر الخامس : أن لا يكون في البين ما يوجب بطلان اقتضاء العلم الإجمالي وسقوطه عن الأثر : من التحالف وحكم الحاكم والإقرار المستتبع لتنصيف المال ، أو فسخ العقد المتنازع فيه.

والفرق بين هذا الأمر والأمر السابق هو أنه في الأمر السابق كان إجمال المتعلق بنفسه يوجب بطلان اقتضاء العلم الإجمالي ، وفي هذا الأمر إجمال المتعلق بنفسه لا يوجب ذلك ، بل لابد من تعقبه بحكم الحاكم أو التحالف أو الإقرار ، فان هذه الأمور توجب تبدل موضوع الحكم ، إما تبدلا واقعيا ، وإما تبدلا ظاهريا.

وتفصيل ذلك : هو أنه في مورد التحالف يتبدل الموضوع واقعا ، لأنه يقتضي فسخ العقد المتنازع فيه ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى ملك مالكه قبل العقد ، فيبطل اقتضاء العلم الإجمالي بانتقال أحد الثمنين أو المثمنين المتنازع فيه ، بل يبطل اقتضاء العلم التفصيلي بانتقال ما لا نزاع فيه ملك مالكه ، فإنه يكون حكم الفسخ بالتحالف حكم الفسخ بالخيار أو الإقالة موجبا لانتقال كل ملك إلى مالكه الأصلي.

ص: 84

وأمّا حكم الحاكم : فبالنسبة إلى غير المحكوم له يوجب التبدل الواقعي أيضا ، فلو ادعى أحد الشخصين ملكية جميع الدار ، وادعى الآخر ملكية الجميع أيضا ، وكانت الدار في يد كل منهما ، أو أقام كل منهما البينة ، أو حلف كل منهما على نفي ما يدعيه الآخر ، فالذي عليه الأصحاب ونطقت به الروايات هو الحكم بالتنصيف ، وبعد حكم الحاكم بالتنصيف ينتقل نصف الدار عن مالكها ، يعنى يجب ترتيب آثار الانتقال الواقعي ما لم يبطل الحكم باقرار المحكوم له أو بالانكشاف القطعي ، فان الإقرار أو الانكشاف القطعي يكون بمنزلة فسخ العقد ، فلا أثر للعلم الإجمالي بكون الدار كلها لأحد المتداعيين وأخذ أحدهما النصف بلا حق ، فللثالث أن يشترى كل من النصفين من كل من المتداعيين.

نعم : بالنسبة إلى المحكوم له يكون حكم الحاكم بمنزلة الحكم الظاهري ، له التصرف في النصف المحكوم له ما لم يعلم بالخلاف وأن دعواه كانت بلا حق.

وأما الإقرار : فهو بالنسبة إلى المقر له يكون طريقا محضا ليس له التصرف في المقر به مع علمه بمخالفة الإقرار للواقع ، وأما في حق غير المقر له فيجرى الإقرار مجرى السبب الواقعي ، ويجب ترتيب آثار انتقال المقر به إلى المقر له ، فلو أقر شخص بأن ما في يدي لزيد ، ثم أقر بأنه لعمرو ، يعطى ما في يده لزيد ويغرم قيمته لعمرو ، ويجوز للثالث أن يجمع عنده عين ما في يد المقر مع ما يغرمه لعمرو بأحد موجبات الاجتماع ، إلا إذا علم ببطلان خصوص أحد الإقرارين تفصيلا.

ولا يخفى أن في كثير من فروض هذه المسائل إشكال وخلاف (1) وحيث كانت المسائل فقهية لا ينبغي إطالة الكلام فيها. وتفصيلها موكول إلى

ص: 85


1- أقول : جزاك اللّه خيرا لقد جئت بالحق.

محلّها.

والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى بيان أن ما ذكره الشيخ قدس سره من الموارد التي توهم فيها انحزام القاعدة التي يقتضيها العلم الإجمالي - من عدم جواز المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال - ليس شيء منها تقتضي ذلك.

إذ منها : ما لا يصح الالتزام به ، كمسألة جواز إحداث القول الثالث عند اختلاف الأمة على قولين يعلم أن الإمام مع أحدهما ، وكجواز ارتكاب كلا المشتبهين دفعة أو تدريجا.

ومنها : ما نلتزم به ولا يكون مخالفا لما يقتضيه العلم الإجمالي ، كمسألة اقتداء أحد واجدي المنى بالآخر ، وكمسألة التنصيف في باب التداعي والتحالف ، فان العلم الإجمالي يسقط عن التأثير في هذه الموارد بالبيان المتقدم.

وينبغي ختم الكلام في مباحث العلم الإجمالي بالتنبيه على أمر :

وهو أنه لو تردد المعلوم بالإجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر وبين ما يكون بوجوده العلمي ، كما لو تردد حال الثوب بين الغصب والنجاسة ، فالعلم الإجمالي ما دام موجودا يقتضي أثره ويترتب عليه جميعه الآثار المترتبة على الغصب والنجاسة ، فلا يجوز استعمال الثوب والتصرف فيه تصرفا مشروطا بالطهارة والإباحة.

وأما الآثار الزائدة المترتبة على الشيء بوجوده الواقعي فلا تترتب ، فلو غفل المكلف عن علمه وصلى في الثوب لم يجب عليه الإعادة والقضاء لاحتمال أن يكون غصبا ، والصلاة في الثوب المغصوب مع النسيان صحيحة واقعا.

والنجاسة لم يتعلق العلم بها في وقت حتى يقال : إن العلم بالنجاسة آناً ما

ص: 86

يكفي في فساد الصلاة ولو مع الذهول والنسيان (1) وسيأتي لذلك مزيد وتوضيح في مبحث الاشتغال.

هذا قليل من كثير مما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث وما يعتبر فيه من الشرائط ، واستقصاء الكلام في الجميع موكول إلى « الجزء الرابع » من الكتاب ، وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في المقام الأول المتكفل للبحث عن مسائل القطع.

والحمد اللّه أوّلاً وآخراً

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين

واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 87


1- أقول : لو قيل في مانعية النجاسة بكفاية تنجزه ولو بعلم إجمالي في وقت كان هذه الجهة موجودا في النجاسة ، ومعلوم : أنه يمنع عن الحكم بصحة الصلاة ولو كان حين العمل غافلا عن المعصية ، كما لا يخفى ، وعمدة النكتة هو أن دليل معذورية النجاسة إنما يختص بصورة بقاء المعذورية بجهله بها من الأول ، ولا يشمل غيره ، كما لا يخفى.

المقام الثاني: في الظن

اشارة

وتفصيل البحث عن ذلك يستدعى رسم مباحث :

المبحث الأول: في إمكان التعبد بالطرق والأصول

والمراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي ، يعنى أن من التعبد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع : من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واستلزامه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين ، وغير ذلك من التوالي الفاسد المتوهمة في المقام؟ أو أنه لا يلزم شيء من ذلك؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين (1) فان الإمكان التكويني لا يتوهم البحث عنه في المقام ، وذلك واضح.

ص: 88


1- أقول : إذا كان المحذور في المقام لزوم اجتماع الضدين أو صدور القبيح ممن يستحيل صدوره منه من التعبد بالظن ، فهل هو غير الاستحالة التكوينية في هذا التعبد والتشريع ، ولازمه في قباله هل هو غير الإمكان التكويني؟ وكون موضوع هذا الإمكان والاستحالة أمرا تشريعيا لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين ، كما لا يخفى ، فبعد الإمكان التكويني لا يفهم له معنى محصّل.

ثم إن المحاذير المتوهمة من التعبد الأمارات - منها : ما يرجع إلى المحذور الملاكي. ومنها : ما يرجع إلى المحذور الخطابي (1).

أمّا الأوّل : فتقريبه - أنه يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند مخالفة الظن للواقع ، وإدائه إلى وجوب ما يكون حراما أو حرمة ما يكون واجبا (2) وإلى ذلك ينظر الاستدلال المحكى عن « ابن قبة » من أنه يوجب تحليل الحرام وتحريم الحلال.

ولا يخفى : أن محذور تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة يتوقف على أمور :

الأول : الالتزام بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات وأن تلك المصالح تجرى في عالم التشريع مجرى العلل التكوينية من استتباعها للأحكام وكونها لازمة الاستيفاء في عالم التشريع (3) لا أنها من المرجحات والمحسنات لتشريع الأحكام من دون أن تكون لازمة الاستيفاء ، فإنها لو كانت كذلك لا يلزم من تفويتها محذور.

الثاني : الالتزام بأن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية المحضة و

ص: 89


1- أقول : في المحذور الخطابي جهتان : إحديهما شبهة التضاد بين الحكمين عند المخالفة ، والأخرى شبهة نقض الغرض ، بتقريب : أن مع فرض تعلق الإرادة بشيء يستحيل جعل شيء يوجب تفويت مرامه ، كما لا يخفى. ثم إن هذه الشبهة مختص بصورة المخالفة ، ولا يجرى عند موافقة الأمارة للواقع ، بخلاف شبهة التضاد ، فإنه يجرى حتى في صورة الموافقة ، لأن المثلان كالضدان ، بناء على التحقيق : من عدم مجيء شبهة التأكد في المقام ، كما توهم.
2- أقول : أو إداء الجعل إلى تفويت مرامه باختياره الراجع إلى نقض غرضه ، ويمكن إرجاع كلام « ابن قبة » إليه أيضا.
3- أقول : يعنى اقتضائه له على وجه قابل لمنع المانع في عالم الوجود مع كونها علة تامة للخطاب وتشريع الأحكام من دون منافاة بينهما ، إذ هذا المعنى يناسب كلام الإمامية لا العلية المطلقة.

لم نقل بالمصلحة السلوكية ، وإلا لم يلزم تفويت الملاك من التعبد بالظن ، وسيأتي المراد من المصلحة السلوكية.

الثالث : اختصاص المحذور بصورة انفتاح باب العلم وإمكان الوصول إلى الواقعيات. وأما في صورة الانسداد فلا يلزم محذور التفويت ، بل لابد من التعبد به ، فان المكلف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلا بالاحتياط التام ، وليس مبنى الشريعة على الاحتياط في جميع الأحكام ، فالمقدار الذي تصيب الأمارة للواقع يكون خيرا جاء من قبل التعبد بالأمارة ، ولو كان مورد الإصابة أقل قليل ، فان ذلك القليل أيضا كان يفوت لولا التعبد ، فلا يلزم من التعبد إلا الخير.

فظهر : أن محذور التفويت إنما يلزم في صورة الانفتاح بناء على الطريقية المحضة على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد مع كونها لازمة الاستيفاء.

والتحقيق : أن مع هذه القيود لا يلزم محذور من التعبد بالأمارات الغير العلمية ، فان المراد من انفتاح باب العلم هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسؤال عن شخص الإمام علیه السلام لا فعلية الوصول ، فان انفتاح باب العلم بهذا المعنى مما لا يمكن دعواه ، بل المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول وهو غير فعلية الوصول ، فقد يكون الشخص متمكنا من الوصول إلى الواقع ، ولكن لم يصل إليه لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم (1) مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركب.

ودعوى انسداد باب العلم بالنسبة إلى هذا الشخص - لأنّ المراد من

ص: 90


1- أقول : ما المراد من اعتماده على الطرق المفيدة؟ فان كان المراد أنه قبل حصول العلم منها مع احتمال الخطأ فيها كان مرخصا في الخوض فيها ، فهو أول شيء ينكر ، وإن كان الفرض انه لا يلتفت إلى مخالفتها أو كان قهري الحصول ، فلا مجال لقياس التعبد بالظن به مع التفاته بخطائه إذ مرجعه إلى تفويت الشارع عليه باختياره ، ولقد فصلنا الكلام فيه في الحاشية الآتية ، فراجع.

العلم هو العلم المصادف لا الأعم منه ومن الجهل المركب - ضعيفة ، لما عرفت من أن المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول ، فلا ملازمة بين الانفتاح وبين عدم الوقوع في خلاف الواقع ، وعلى هذا يمكن أن تكون الأمارات الظنية في نظر الشارع كالأسباب المفيدة للعلم التي يعتمد عليها الانسان من حيث الإصابة والخطأ ، أي كانت إصابة هذه الأمارات وخطائها بقدر إصابة العلم وخطائه. فإذا كان الحال هذه ، فلا يلزم محذور من التعبد بالأمارات الغير العلمية ، لعدم تفويت الشارع من التعبد مصلحة على العباد.

فما يظهر من الشيخ قدس سره من الاعتراف بالقبح في صورة الانفتاح ليس في محله ، لما عرفت : من إمكان أن تكون الأمارات الغير العلمية من حيث الإصابة والخطأ كالعلم ، بل الطرق المبحوث عنها في المقام كلها طرق عقلائية عرفية عليها يدور رحى معاشهم ومقاصدهم ومعاشراتهم ، وليس فيما بأيدينا من الطرق ما يكون اختراعية شرعية ليس منها عند العقلاء عين ولا أثر ، بل جميعها من الطرق العقلائية ، وتلك الطرق من حيث الإتقان والاستحكام عند العقلاء كالعلم. أي حالها عندهم حال العلم من حيث الإصابة والخطأ ، والشارع قرر العقلاء على الأخذ بها ولم يردع عنها ، لعدم ما يقتضي الردع عنها كما ردع عن القياس مع أنه من الطرق العقلائية ويعتمدون عليه في مقاصدهم الدنيوية ، إلا أن الشارع ردع عنه في الأمور الدينية ، لأن القياس مبنى على استخراج المناط ، وذلك لا يخلو عن إعمال نظر واجتهاد ، وهو في الموضوعات الخارجية قليل الخطأ ، لأن غالب الأمور الخارجية المتشابه تحت جامع واحد وكانت مناطاتها بأيدي العقلاء ، فإعمال النظر وتخريج المناط لا يضر بمقاصدهم ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان مناطاتها ليست مما تنالها الأفهام ، لأن مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجميع المتفرقات ، فكان القياس كثير الخطأ في الشرعيات ولذلك نهى الشارع من إعماله ، وأين ذلك من سائر الطرق العقلائية الغير المبنية على النظر والاجتهاد؟ فان الخطأ فيها

ص: 91

ليس بأكثر من خطأ العلم عند العقلاء ولذا يعتمدون عليها في مقام اعتمادهم على العلم ، والشارع قررهم على ذلك واكتفى بها في إثبات أحكامه.

ولا يمكن أن يتفاوت الحال في الأمارة من حيث قلة الخطأ والإصابة بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية ، فان خبر الثقة لو كان قليل الخطأ في إخباره عن الموضوعات الخارجية فهو قليل الخطأ أيضا في إخباره عن الأحكام الشرعية.

ومن ذلك يظهر : أن لا وجه لتكثير الأقسام من كون الأمارة غالب المصادفة ودائم المصادفة أو أغلب مصادفة من الأسباب المفيدة للعلم ، فإنه لا فائدة في تكثير الأقسام ، مع أنه كلها من التخرص بالغيب.

فالمدار على كون الأمارة من حيث الإتقان والاستحكام كالعلم ، كما هو الشأن في ما بيد العقلاء من الطرق والأمارات ، ولا سبيل إلى دعوى كون الأمارة أكثر خطأ من العلم.

فان قلت : هب انه لا سبيل إلى دعوى العلم بكون الأمارة أكثر خطأ من العلم إلا أنه ليست الأمارة (1) أقرب إلى الخطأ من العلم لكونها في مظنة الوقوع في خلاف الواقع ، وهذا المقدار يكفي في صحة ردع الشارع عن العمل بها ، بل يقبح إمضائها ، فان في الإمضاء مظنة التفويت.

قلت : أولا : نمنع الأقربية.

وثانيا : مجرد الأقربية لا تقتضي الردع ، بل لزوم الردع يتوقف على أن تكون الأمارات أكثر خطأ من العلم في الواقع حتى يلزم من الإمضاء تفويت المصالح ، فالأقربية بنفسها ما لم تقتض كثرة الخطأ لا توجب الردع.

وثالثا : سلمنا أن مجرد الأقربية تقتضي الردع ، إلا أنه إذا لم تكن

ص: 92


1- كذا في نسخة الأصل. والصحيح : « إلا أنها أقرب إلى الخطاء من العلم » ( المصحح ).

هناك ما يلزم رعايته ، وهو مصلحة التسهيل (1).

فإنه لا إشكال في أن إمضاء ما بأيديهم من الطرق وعدم ردعهم عن العمل بها يقتضي التوسعة عليهم والتسهيل لهم في عملهم ، وهذه مصلحة نوعية يصح للشارع مراعاتها ، وإن كان رعاية ذلك يوجب تفويت بعض المصالح الشخصية ، وكم من مصلحة نوعية قدمت على المصلحة الشخصية! وليس ذلك بعزيز الوجود في الشرعيات بل في العرفيات.

فان قلت : إن كانت مصلحة التسهيل على وجه يلزم من ردع الشارع عن تلك الطرق وقوع العباد في العسر والحرج الرافعين للتكاليف ، فهذا

ص: 93


1- أقول : الذي يقتضيه التحقيق في المقام : هو أن المصلحة القائمة بالعمل إن كانت بمثابة لا يصلح أن يزاحمه مزاحم ، فلا شبهة في أن لازمه الاستيفاء مطلقا عقلا ، فتفويت مثل هذه المصلحة قبيح ولو لمصلحة أخرى ، ولا يقاس حينئذ بصورة فوتها من جهة العلوم الخطائية الحاصلة قهرا ، إذ التفويت الاختياري غير الفوت القهري. وأما إن لم يكن بهذه المثابة فلا مانع في تفويته ولو لمصلحة أخرى ، ولا ينافي ذلك أيضا كون هذه المصلحة غير مزاحم بشيء في مقام تشريع الأحكام الذي هو مضمون خطاباته الواقعية ، إذ عدم المانع في جعل الخطاب لا ينافي وجود المانع في إيصاله إليه أو تشريع خطاب في ظرف عدم وصوله ، غاية الأمر يستكشف من ذلك عدم إرادته للذات بنحو يقتضي حفظ وجودها حتى في ظرف الجهل به بعد الجزم بعدم اقتضاء الخطاب حفظ الوجود حتى في ظرف عدم وصوله إليه ، بل غاية اقتضائه حفظه من قبل المقدمات المحفوظة في الرتبة السابقة عن الجهل به بلا اقتضائه حفظه من قبل المقدمات المحفوظة في الرتبة اللاحقة عن الجهل به ، فمن قبل هذه المقدمات له التفويت ولو لإبقائه على جهله أو ترخيصه في ظرف الجهل. ولا ينا فى ذلك حكم عقله بلزوم الفحص مع تمكنه منه، لأنّ العقل همه تحصيل ما أراده الشارع في مرتبة الذات؛ مع أنّ اقتضاء مصلحة الوجود على الإطلاق يقتضى الكشف عن الإرادة كذلك ، إلا أن يقوم قرينة على الخلاف : من سكوت المولى من إنشائه في ظرف جهله أو ترخيصه في تركه مع فرض حكم عقله بلزوم الفحص أو مهما يستكشف عدم إطلاق في إرادته، كما هو الشأن في خطابه، وحينئذ لا يقتضى الخطابات الواقعية إلا حفظ المرام في الرتبة السابقة عن خطابه. و أما حفظه في الرتبة اللاحقة عن شكه بخطابه : فلا يكون المولى بصدد حفظه ولو لمصلحة مزاحمة لاقتضاء المصلحة القائمة بالعمل بقول مطلق؛ وعليه فلا قصور في الجمع بين الخطابات الواقعية و الأحكام الظاهرية، من دون لزوم نقض غرض و لا جمع بين الضدين ولا تفويت المصلحة بلا مزاحم بل لوفرضنا قصور اقتضاء المصلحة عن حفظ ما قامت به فى ظرف الشك بخطابه، فلا يحتاج جواز تفويت العمل في ظرف الجهل بخطابه إلى مصلحة اخرى جابرة أو مزاحمة، كما لا يخفى فتدبر في المقام، فانّه من مزال الأقدام.

يرجع إلى انسداد باب العلم وعدم إمكان الوصول إلى الواقعيات ، لأن المراد من انفتاح باب العلم هو انفتاحه بلا عسر ولا حرج رافع للتكليف ، والكلام إنما هو في صورة انفتاح باب العلم. وإن كانت مصلحة التسهيل على وجه لم يلزم من عدم رعايتها العسر والحرج ، فمثل هذه المصلحة لا يجب رعايتها على وجه تفوت بعض المصالح الشخصية بل لا يجوز ، فالإشكال لا يرتفع بالالتزام بالمصلحة التسهيلة.

قلت : ليس المراد من مصلحة التسهيل ما يلزم من عدم رعايتها العسر والحرج حتى يرجع ذلك إلى انسداد باب العلم ، بل المراد مجرد التسهيل الذي يناسب الملة السمحة والشريعة السهلة.

ودعوى : أنه لا يجوز تفويت المصالح الشخصية لأجل هذا المقدار من التسهيل ، مما لا شاهد عليها ، ولا سبيل إلى منع إمكان رعاية الشارع التسهيل النوعي وإن استلزم من ذلك فوات بعض المصالح الشخصية ، فتأمل. (1).

فتحصل : أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات في حال الانفتاح محذور تفويت الملاك فضلا عن حال الانسداد ، فلا ملزم للالتزام بالمصلحة التداركية ، كما التزم به بعض الأعلام.

وإن أبيت عن ذلك كله ، وقلت : إن في التعبد بالأمارة يلزم تفويت المصلحة - إما لكونها أكثر خطأ من العلم ، وإما لكونها أقرب إلى الخطاء ، وإما لكون المصلحة التسهيلية لا يصح رعايتها - فلنا أن نلتزم حينئذ بالسببية على وجه تتدارك المصلحة الفائتة على أصول المخطئة من دون أن يلزم التصويب

ص: 94


1- 1 - وجهه : هو أن مصلحة التسهيل النوعي وإن كانت من المصالح التي يصح للشارع رعايتها - وإن استلزم منها فوت بعض المصالح من بعض آحاد الأشخاص إلا أنه لابد من تدارك ما يفوت من بعض آحاد الأشخاص ، ولو بالوجه الآتي من المصلحة السلوكية ، وعلى ذلك بناء شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة ( منه )

الباطل. وتفصيل ذلك هو أن سببية الأمارة لحدوث المصلحة تتصور على وجوه ثلاث :

الأول : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى تستتبع الحكم على طبقها ، بحيث لا يكون وراء المؤدى حكم في حق من قامت عنده الأمارة ، فتكون الأحكام الواقعية مختصة في حق العالم بها ولا يكون في حق الجاهل بها سوى مؤديات الطرق والأمارات ، فتكون الأحكام الواقعية تابعة لآراء المجتهدين ، وهذا هو « التصويب الأشعري » الذي قامت الضرورة على خلافه. وقد ادعى تواتر الأخبار على أن الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ.

الثاني : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى أيضا أقوى من مصلحة الواقع ، بحيث يكون الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو المؤدى ، وإن كان في الواقع أحكام ويشترك فيها العالم والجاهل على طبق المصالح والمفساد النفس الأمرية ، إلا أن قيام الأمارة على الخلاف تكون من قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانوية اللاحقة للموضوعات الأولية المغيرة لجهة حسنها وقبحها ، نظير الضرر والحرج ، ولابد وأن تكون المصلحة الطارئة بسبب قيام الأمارة أقوى من مصلحة الواقع ، إذ لو كانت مساوية لها كان الحكم هو التخيير بين المؤدى وبين الواقع ، مع أن المفروض أن الحكم الفعلي ليس إلا المؤدى ، وهذا الوجه هو « التصويب المعتزلي » ويتلو الوجه السابق في الفساد والبطلان ، فان الإجماع انعقد على أن الأمارة لا تغير الواقع ولا تمس كرامته بوجه من الوجوه ، وسيأتي ما في دعوى : أن الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو مؤدى الأمارة.

الثالث : أن تكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدى على ماهما عليه من المصلحة والمفسدة ، من دون أن يحدث في المؤدى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيام الأمارة ، بل

ص: 95

المصلحة إنما تكون في تطرق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها والبناء على أنه هو الواقع بترتيب الآثار المترتبة على الواقع على المؤدى ، وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات على المكلف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان الوجه الثاني كان مبنيا على سببية الأمارة لحدوث مصلحة في المؤدى غالبة على ما فات من المكلف من مصلحة الواقع على تقدير تخلفها وإدائها إلى غير ما هو الواجب واقعا ، أو غالبة على ما في المؤدى من المفسدة على تقدير إدائها إلى وجوب ما هو حرام واقعا ، وأين هذا من الوجه الثالث؟ فان المؤدى على الوجه الثالث باق على ما كان عليه ، ولا يحدث فيه مصلحة بسبب قيام الأمارة عليه ، وإنما المصلحة كانت في سلوك الأمارة وأخذها طريقا إلى الواقع من دون أن تمس الأمارة كرامة المصلحة والحكم الواقعي بوجه من الوجوه ، والسببية بهذا المعنى عين الطريقية التي توافق أصول المخطئة ، بل ينبغي عد هذا الوجه من وجوه الرد على التصويب ، بخلاف الوجه الثاني ، فإنه من أحد وجوه التصويب.

وبالجملة : المصلحة في الوجه الثالث إنما تكون في السلوك وتطبيق العمل على مؤدى الأمارة لا في نفس المؤدى ، ولا بد وأن تكون مصلحة السلوك بمقدار ما فات من المكلف بسبب قيام الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا يختلف باختلاف مقدار السلوك ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها وعمل المكلف على طبقها ثم تبين مخالفة الأمارة للواقع وأن الواجب هو صلاة الظهر ، فان كان انكشاف الخلاف قبل مضى وقت فضيلة الظهر فلا شيء للمكلف ، لأن قيام الأمارة على الخلاف لم توجب ايقاعه على خلاف ما يقتضيه الواقع من المصلحة ، لتمكن المكلف من استيفاء مصلحة الواقع بتمامها وكمالها حتى الفضيلة الوقتية ، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء وقت

ص: 96

الفضيلة فبمقدار ما فات من المكلف من فضل أول الوقت يجب أن يتدارك ، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء تمام الوقت فاللازم هو تدارك ما فات منه من المصلحة الوقتية ، وإن لم ينكشف الخلاف إلى الأبد ، فالواجب هو تدارك ما فات منه من مصلحة أصل الصلاة. والسر في ذلك : هو أن التدارك إنما يكون بمقدار ما اقتضته الأمارة من ايقاع المكلف على خلاف الواقع وبالقدر الذي سلكه ، ولا موجب لأن يستحق المكلف زائدا عما سلكه.

فما أفاده الشيخ قدس سره من التبعيض في الإجزاء قدر ما فات من المكلف من المصلحة الواقعية بسبب سلوك الأمارة ، هو الحق الذي يقتضيه أصول المخطئة.

وما قيل : من أن الحكم الظاهري إن كان يقتضي الإجزاء فينبغي أن يقتضيه مطلقا وإن انكشف الخلاف في الوقت فضلا عن خارجه ولابد أن تتدارك المصلحة الواقعية بتمامها وكمالها ، وإن لم يقتض الإجزاء فينبغي أن لا يتدارك شيء من المصلحة الواقعية من غير فرق بين فضيلة الوقت وغيرها.

فضعفه ظاهر مما قدمناه ، لأن المفروض أن الأمارة لم تحدث في المؤدى شيئا من المصلحة ، والمصلحة إنما كانت في السلوك ، وإلا فهي متمحضة في الطريقية ، فالتدارك لابد وأن يكون بمقدار ما تقتضيه من السلوك ، وذلك إنما يكون قبل انكشاف الخلاف.

نعم : لو قلنا بالوجه الثاني من أن الأمارة تحدث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع ، كان اللازم هو الإجزاء مطلقا (1) فيكون انكشاف الخلاف من قبيل تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر ، وظني أن ذلك بمكان من

ص: 97


1- أقول : لو فرض مصلحة المؤدى أيضا بنحو لا يكون إلا جابرة لما فات من الواقع لا مانعا من تأثير مصلحة الواقع بقول مطلق يجرى في مثله لوازم مصلحة السلوكية ، وان كان بينهما فرق بأن شرط مصلحة السلوكية العمل على طبق الأمارة ، بخلاف مصلحة المؤدى حيث لا يعتبر فيه السلوك والعمل ولكن لا تكون إلا جابرة لما فات لا مطلقا ، ولازمه أيضا التفصيل في الإجزاء به عن الواقع بمقدار فوته ليس إلا ، فتدبر.

الوضوح.

تنبيه :

نقل شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) أن العبارة التي صدرت من قلم الشيخ قدس سره في الوجه الثالث كانت هكذا : « الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، إلا أن بالعمل على طبق الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا ، يشتمل على مصلحة الخ » ولم يكن في أصل العبارة لفظ « الأمر » وإنما أضافها بعض أصحابه ، وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب.

والإنصاف : أن زيادة لفظ « الأمر » مما لا حاجة إليه لو لم يكن مخلا بالمقصود (1) ولعل نظر من أضافها إلى أن المجعول في باب الأمارات نفس الحجية والطريقية ، وهي من الأحكام الوضعية التي لا تتعلق بعمل المكلف ابتداء ، فليس في البين عمل يمكن اشتماله على المصلحة ، بل لابد وأن تكون المصلحة في نفس الأمر والجعل.

ص: 98


1- أقول : غرض من أضاف « الأمر » في المقام إنما هو إمكان الجعل ولو لمصلحة في التسهيل على العباد ، بلا لزوم الالتزام بمصلحة في عملهم على طبق الأمارة لمصلحة في المؤدى ، أو لمصلحة في سلوكها ، ومن البديهي : أن مصلحة التسهيل إنما كانت قائمة بفعل الشارع - وليس ذلك إلا جعل الطريق من دون أن يكون مفاد جعله حكما تكليفيا أم وضعيا منتزعا من التكليف أو أصيلا - فالغرض في أمره نفس جعله بانشاء أمر أو إنشاء حكم وضعي ، وعليه : ففي زيادة « الأمر » توسعة في نحو الجعل لا مخل به ، كما لا يخفى على الدقيق. و يا ليت ! لم يوجه كلام من زاد الأمر» بما أفاد، كي يرد عليه إشكاله؛ فتدبر. و ما افيد أيضاً من عدم معقولية المصلحة فى نفس الأمر إنّما يصح في الأوامر الغير الطريقية، وإلا ففى الأوامر الطريقية إنما المصلحة فى نفسها في فرض مخالفتها ؛ وفى هذا الفرض لا يكون مفادها إلا ترخيصاً على خلاف الواقع. وقيام المصلحة فى نفس الترخيص على خلاف المرام بملاحظة الصبر على المكروه إمكانه كالتار على المنار وكالشمس في رابعة النهار.

بخلاف الأحكام التكليفية ، فإنه لما كان الأمر يتعلق بعمل المكلف ابتداء ، فيمكن أن تكون المصلحة في العمل.

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنه مضافا إلى ما تقدم في مباحث القطع : من أنه لا معنى لاشتمال نفس الأمر على المصلحة.

يرد عليه : أنه إن قلنا : بأن الأحكام الوضعية منتزعة عن الأحكام التكليفية ، كما عليه الشيخ قدس سره فالحكم التكليفي الذي ينتزع عنه الحجية والطريقية لابد وأن يتعلق بعمل المكلف ، وذلك العمل هو الذي يشتمل على المصلحة السلوكية بالبيان المتقدم.

وإن قلنا : إن الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل - كما هو الحق عندنا على ما سيأتي بيانه - فالمصلحة إنما تكون في المجعول لا في نفس الجعل ، بداهة أن النجاسة أو الطهارة المجعولة هي التي على المفسدة والمصلحة ، لا أن المصلحة في نفس جعل النجاسة والطهارة ، وكذا الحال في سائر الأحكام الوضعية.

فالإنصاف : أن إضافة لفظ « الأمر » في العبارة كان بلا موجب ، بل لعله يخل بما هو المقصود : من كون المصلحة في السلوك وتطبيق العمل على المؤدى.

هذا تمام الكلام فيما يلزم من التعبد بالأمارات والأصول من المحذور الملاكي ، وقد عرفت : أنه لا محذور فيه أصلا.

وأما المحذور الخطابي فحاصله : أنه يلزم اجتماع حكمين متضادين أو متناقضين من التعبد بذلك عند مخالفة الأمارة أو الأصل للواقع وإدائها إلى حرمة ما يكون واجبا أو عدم وجوب ما يكون واجبا.

وقد يقال : بلزوم اجتماع المثلين عند مصادفة الأمارة أو الأصل للواقع وإدائها إلى وجوب ما يكون واجبا ، فلا يختص الإشكال بصورة المخالفة ، ولكن قد تقدم في بعض مباحث القطع : من أن لزوم اجتماع المثلين ليس محذورا ، فان الاجتماع يوجب التأكد ، ويكون الوجوب المجامع لمثله آكد

ص: 99

وأقوى مناطاً ، (1) فلو كان الوجوب الواقعي ذا مراتب عشر وأدت الأمارة إلى وجوبه وقلنا : بأن الأمارة سبب لحدوث حكم على طبق مؤداها - كما هو مبنى الإشكال - وفرضنا أن الوجوب الجائي من قبل الأمارة أيضا ذا مراتب عشر ، فيتأكد الوجوب ويثبت في المؤدى وجوب ذو مراتب عشرين ، ولا محذور في ذلك ، فاشكال اجتماع المثلين ليس بشئ.

وإنما الإشكال لزوم اجتماع الضدين والنقيضين من الإرادة والكراهة والوجوب والحرمة ، وهذا الإشكال يرد حتى على مبنى « الأشاعرة » من عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. وقد تفصى عن الأشكال بوجوه :

الوجه الأول : ما هو ظاهر كلام الشيخ قدس سره في أول مبحث التعادل والتراجيح - على بعض النسخ - وحاصله : أن الموضوع في الحكم الظاهري مغاير لموضوع الحكم الواقعي ، فان موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، والحكم الواقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك ، واختلاف الموضوع يوجب رفع التضاد والتناقض من البين.

وفيه : أن الحكم الواقعي وإن لم يؤخذ في موضوعه الشك ، إلا أنه محفوظ في حالة الشك ولو بنتيجة الإطلاق ، كانحفاظه في حالة العلم ، فان الحكم الواقعي إذا كان مقيدا بغير صورة الشك فيه - ولو بنتيجة التقييد - رجع ذلك إلى التصويب الباطل ، ولم يكن وجه لتسمية مؤديات الأمارات والأصول بالأحكام الظاهرية ، بل كانت من الأحكام الواقعية ، إذ المفروض

ص: 100


1- أقول : قد تقدم منا أيضا بأن تأكد الحكم باجتماع الملاكين إنما يصح في العناوين العرضية ، وإلا فلو كان أحد العنوانين في طول حكم العام بعنوان آخر يستحيل التأكد ، كيف! ومرجع التأكد إلى وحدة الوجود ، ومرجع الطولية المزبورة إلى تخلل « الفاء » بينهما الموجب لترتب أحدهما على الآخر ، ولازم تخلل « الفاء » بينهما انفكاك الوجودين كل منهما عن الآخر وكون أحدهما موضوع غيره ، وفي مثله كيف يتصور التأكد؟.

أنّه لا حكم في الواقع إلا المؤديات.

والحاصل : أن الإشكال إنما هو بعد فرض انحفاظ الحكم الواقعي في حالة الشك ، فيلزم اجتماع الضدين في تلك الحالة ، هذا مع أن في باب الأمارات لم يؤخذ الشك في موضوعها وإنما الشك اخذ في موضوع الأصول ، فهذا الوجه ضعيف غايته.

ويتلوه في الضعف الوجه الثاني ( من وجوه الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ) وهو اختلاف المحمول ، فان الحكم في أحدهما واقعي وفي الآخر ظاهري ، ولا منافاة بينهما.

وأنت خبير! بأن الكلام إنما هو في تصوير الحكم الظاهري ، وأنه كيف يجتمع مع الحكم الواقعي على وجه لا يلزم منه اجتماع الضدين ، فكيف يجمع بينهما بما هو محل الكلام؟.

الوجه الثالث : ما أفاده بعض الأساطين من حمل الأحكام الواقعية على الشأنية أو الإنشائية - على اختلاف في تعبيراته - والأحكام الظاهرية على الفعلية.

والجمع بهذا الوجه بكلا تعبيريه مما لا يستقيم.

أما الشأنية : فان كان المراد منها أنه في مورد قيام الأمارة على الخلاف ليس في الواقع إلا شأنية الحكم ومجرد ثبوت المقتضى فتكون الأحكام الواقعية اقتضائية محضة ، فهو بمكان من الضعف ، فإنه إن رجع إلى أن في مورد الأمارة ليس في الواقع أحكام حقيقية بل مجرد الملاكات وقيام الأمارة على خلافها مانع عن تأثيرها وتشريع الأحكام على طبقها ، فهذا يرجع إلى التصويب الباطل ، لأنه يلزم خلو الواقع عن الحكم.

وإن رجع إلى أن في مورد قيام الأمارة على الخلاف يكون في الواقع

ص: 101

أحكام اقتضائية ، فنحن لا نتعقل للأحكام الاقتضائية معنى(1) ، لأن الإهمال الثبوتي لا يعقل في الأحكام بالنسبة إلى الانقسامات السابقة ولا بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة ، بل الحكم بالنسبة إلى جميع الانقسامات إما مطلق ، أو مقيد بالإطلاق والتقييد اللحاظي أو بنتيجة الإطلاق والتقييد ، ومن جملة الانقسامات اللاحقة قيام الأمارة على الخلاف.

والحكم الواقعي المترتب على موضوعه الواقعي ، إما أن يكون مطلقا بالنسبة إلى قيام الأمارة على الخلاف ، وإما أن يكون مقيدا بعدم قيام الأمارة على ذلك. فعلى الأول : يلزم التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الجائي من قبل الأمارة. وعلى الثاني : يلزم التصويب.

ولا يعقل إنشاء الحكم على طبق المقتضى والملاك مهملا غير ملحوظ فيه قيام الأمارة على الخلاف وعدم قيام الأمارة ، حتى يكون الحكم الاقتضائي حكما بحيال ذاته ، مع أنه لا أثر لإنشاء الحكم على هذا الوجه ، فان

ص: 102


1- أقول : لو ترى زماننا هذا : من بنائهم على التفكيك بين جعل القانون وبين إجرائه وجعلهم مقام التقنين غير مقام الإجراء وأنه ربما يؤدى المصلحة على جعل القانون بنحو الكلية على موضوع مع عدم قيام المصلحة في إجرائه - ولو لعدم استعداد الرعية على امتثال هذا القانون - لا يبقى لك مجال إنكار التفكيك بين جعل القانون وبين إجرائه ، وترى في هذه الصورة أن القانون على كليته باقية ولا يكون المصلحة في إجرائه ، وحينئذ لا يكون المراد من القانون المجعول الا مجرد إنشائه على طبق المصلحة القائمة بموضوعه مع خلوه من الإرادة الفعلية ولو للتسهيل على الرعية ، وإلا فيستحيل تفكيك القوة الإجرائية عن قوة جعل القانون على موضوعه في ظرف وجود موضوعه. و توهم: رجوع شرائط الإجراء إلى شرائط موضوع ،القانون غلط فاحش، لأن من شرائط سهولة الإمتثال علمهم، ومثل هذا الشرط من لوازم موافقة القانون، لا من مصححات نفسه. و بالجملة: من تأمل فى هذا التفكيك المتعارف فى زماننا ليس له إنكار الحكم الإنشائي وإرجاعه الحكم طراً إلى جعل حكم حقيقى لموضوع مخصوص المستتبع لعدم التفكيك بين القوة المقننة و الإجرائية عند وجود موضوع القانون؛ وحينئذ فله أيضاً أن يدعى كفاية هذا المقدار لاشتراك الحكم بين العالم و الجاهل بالأخبار، إذ مثل هذا القانون له نحو اعتبار عقلائي قابل لأن يصير حكماً فعلياً بتحقق مقدمات إجرائه، كما لا يخفى. و من هذا البيان أيضاً ظهر أن الغرض من الأحكام القانونية ليس إنشاء حكم حقيق مهملة من الحيثيات السابقة واللاحقة، كي يرد عليه ما افيد.

قيام الأمارة إما أن يوجب ملاكا مزاحما لملاك الواقع وأقوى منه ، وإما أن لا يوجب ، فعلى الأول : يقتضي إنشاء الحكم المقيد. وعلى الثاني : يقتضي إنشاء الحكم المطلق ، فأي أثر لإنشاء الحكم الاقتضائي لو سلم إمكانه؟ (1) وإن كان المراد من الشأنية الحكم الإنشائي ، ليرجع التعبيران إلى أمر واحد ، ففيه : أنه ليس في الواقع أحكام إنشائية ، بل الذي يكون هو إنشاء الأحكام ، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقة - كما حققناه في الواجب المشروط بما لا مزيد عليه - وفعلية الحكم عبارة عن تحقق موضوعه بجميع ما اعتبر فيه من القيود والشرائط وعدم الموانع ، ولا نعقل لفعلية الحكم معنى غير ذلك ، والكلام في المقام إنما هو بعد فعلية الحكم بتحقق موضوعه.

ودعوى : أن الحكم الواقعي في مورد الأمارة لا يكون فعليا ، واضحة الفساد.

فإنه لا يمكن أن لا يكون الحكم فعليا إلا إذا اخذ في موضوعه عدم قيام الأمارة على الخلاف بحيث يكون قيدا في ذلك ، ومعه لا يكون في الواقع حكم عند قيام الأمارة على الخلاف ، لعدم تحقق قيده ، فيعود محذور التصويب.

والحاصل : أن في الواقع ونفس الأمر ، إما أن يكون الحكم الواقعي مقيدا بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، وإما أن لا يكون مقيدا ، فان كان مقيدا يلزم التصويب ، وإن لم يكن مقيدا يلزم أن يكون فعليا عند قيام الأمارة على الخلاف إذا تحقق موضوعه بما له من القيود - كما هو محل الكلام - فانّ الكلام

ص: 103


1- أقول : يكفي لمن التزم بالتضاد بين الحكم الواقعي الفعلي والحكم الظاهري جمعه بهذه الحيلة بينهما مع فراره عن التصويب الباطل : من عدم حكم مجعول في حق الجاهل أصلا ، بدعواه كفاية جعل القانون على وفق المصلحة الواقعية وإن لم يقتض المصلحة في إجرائه في حق الجاهل ، ولقد عرفت : إمكان التفكيك بين المرتبتين لدى العقلاء ، خصوصا في أمثال زماننا.

في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما هو بعد تحقق موضوع الحكم الواقعي (1) بجميع ما اعتبر فيه من القيود.

ولا يعقل أن يقيد فعلية الحكم بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، فان أخذ ذلك قيدا إنما يمكن في مرحلة إنشاء الحكم وتشريعه ، بمعنى أنه ينشأ الحكم على ما لا تقوم الأمارة على الخلاف (2) فيكون الموضوع الذي قامت الأمارة على خلافه مما لم ينشأ في حقه حكم ، وهذا عين التصويب.

فظهر : أنه لا معنى لحمل الحكم الواقعي على الإنشائي ، لأنه ليس لنا في الواقع حكم إنشائي في مقابل الحكم الفعلي ، بل الذي يكون هو إنشاء الحكم على موضوعه ، فعند تحقق ذلك الموضوع يكون الحكم فعليا لا محالة ، ومع عدم تحققه لا يكون في الواقع حكم أصلا (3) فلو فرض أن وجوب الحج قيد في الواقع بمن لم تقم عنده الأمارة على الخلاف ، فالذي قامت عنده الأمارة على الخلاف لم يكلف بالحج ولم ينشأ في حقه التكليف بالحج ، ويكون حاله حال غير البالغ أو غير المستطيع.

وبالجملة : في مورد قيام الأمارة على الخلاف ، إما أن يكون الموضوع للحكم الواقعي متحققا ، وإما أن لا يكون ، وعلى الأول : يلزم الفعلية ويعود إشكال التضاد. وعلى الثاني : لا حكم في الواقع حتى نحتاج إلى الجواب ، مع أن الذي تقتضيه أصول المخطئة : هو أن الأحكام الواقعية بما هي عليها من المصالح مشتركة بين العالم والجاهل ، والجهل إنما يكون عذرا فقط في ما إذا لم

ص: 104


1- يمكن أن يقال : إن فرض تحقق الموضوع إنما نحتاج إليه في الشبهات الموضوعية ، وأما الشبهات الحكمية فالتضاد بين الحكمين حاصل ولو لم يتحقق الموضوع خارجا ( منه ).
2- أقول : بل ينشئ القانون حتى على من قامت الأمارة على خلافه ، ولكن لا يكون حينئذ موقع إجرائه ، وإن هذا المقدار لا يوجب سلب الحكمية عنه مطلقا.
3- أقول : كيف لا يكون حكم أصلا مع أن العقلاء يرتبون بمرتبة جعل القانون أثر وجود الحكم ببعض مراتبه وإن لم يكن تاما إلا بضم مصلحة إجرائه به ، كما لا يخفى.

يكن عن تقصير ، (1) فالتصرف في الأحكام الواقعية بأي تصرف ينافي ما عليه أصول المخطئة ، فهذه الوجوه مما لا تحسم مادة الإشكال.

والتحقيق في الجواب هو أن يقال : إن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية على أنحاء ثلاثة :

أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة في الخلاف.

ثانيها : موارد مخالفة الأصول المحرزة للواقع.

ثالثها : موارد تخلف الأصول الغير المحرزة عن الواقع.

والتفصي عن الإشكال يختلف حسب اختلاف المجعول في هذه الموارد الثلاثة ، ويختص كل منها بجواب يخصه ، فينبغي إفراد كل منها بالبحث.

فنقول : أما في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكما تكليفيا حتى يتوهم التضاد بينه وبين الحكم الواقعي ، بناء على ما هو الحق عندنا : من أن الحجية والطريقية من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ومما تنالها يد الوضع والرفع ابتداء ، ما عدا الجزئية والشرطية والمانعية والسببية - على ما أوضحناه بما لا مزيد عليه في بعض مباحث الاستصحاب - خلافا للشيخ قدس سره حيث ذهب إلى أن الأحكام الوضعية كلها منتزعة عن الأحكام التكليفية التي تكون في موردها.

والإنصاف : أنه لو أمكن في بعض الأحكام الوضعية تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الحكم الوضعي منه ، ففي بعضها الآخر لا يمكن تصويره ، فان الزوجية مثلا من الأحكام الوضعية ويستتبعها جملة من الأحكام التكليفية ، كوجوب

ص: 105


1- أقول : هذا مسلم ، إنما الكلام فيما هو مشترك هل هو مرتبة إجرائه أو مرتبة قانونيته ، لا مجال للأول ، فلا محيص من الالتزام بالآخر ، كما لا يخفى. وبالجملة نقول : إنه لا مناص لرفع هذه الغائلة الا برفع التضاد بين الأحكام الفعلية الواقعية والطارية ، وإلا فعلى فرض التضاد لا محيص إلا من هذا الجمع بين مرتبة القانون ومرحلة إجرائه من دون لزوم محذور آخر ، ولا تصويب وأمثاله ، فتدبر.

الإنفاق على الزوجة ، وحرمة تزويج الغير لها ، ووجوب القسم بينها وبين غيرها ، وحرمة ترك وطئها أكثر من أربعة أشهر ، ووجوب المضاجعة ، وحرمة العزل على القول به ، وغير ذلك من الأحكام المترتبة على الزوجية. وقد يتخلف بعض هذه الأحكام مع انحفاظ الزوجية - كوجوب الإنفاق عند النشوز - فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه؟ وأي جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأ لانتزاع الزوجية؟ وهكذا غير الزوجية من الأحكام الوضعية المستتبعة لجملة من الأحكام التكليفية مع تخلف بعضها في بعض الموارد ، كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد والملكية والرقية والولاية والحرية وغير ذلك من الأمور الاعتبارية العرفية ، فلا محيص عن القول بتأصل مثل هذه الأحكام الوضعية في الجعل كالأحكام التكليفية.

ومنها : الطريقية والوسطية في الإثبات ، فإنها بنفسها مما تنالها يد الجعل ولو إمضاء ، لما تقدمت الإشارة إليه : من أنه ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع (1) وليس

ص: 106


1- 1 - أقول : بعد تسليم أن للشارع ليس جعل طريق في مورد من الموارد إلا بنحو الإمضاء للطرق العقلائية حتى في مثل البينة العادلة وأصالة صحة عمل الغير وسوق المسلم وأمثالها ، مع أنه ليس كذلك جزما - خصوصا في مثل السوق وأمثاله - نقول : إنه بعد البناء على تنزيل العقلاء احتمال الخلاف منزلة العدم ، فلا محيص من الالتزام بمثل هذا التنزيل من الشارع بإمضائه لهم في مقام الجعل ، وحينئذ لنا أن نقول : أن تنزيل العقلاء هذا الاحتمال منزلة العدم لابد وأن يكون بلحاظ بنائهم على العمل به لا بشيء آخر ، كيف! وتنزيل وجود شيء منزلة عدمه قابل لأن يكون بلحاظ جهات أخرى غير عملهم ، نظير تشبيه شيء بشيء ، إذ هو قابل لأن يكون وجه الشبه أمور شتى التي منها البناء في مقام العمل ، فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن يكون نظرهم في هذا التنزيل إلى البناء المزبور لا بشيء آخر ، بل لنا أن نقول : إن تنزيلهم المزبور الذى هو مدار حجية الطرق لديهم لابد وأن يكون بلحاظ بنائهم على العمل بها لا نفس العمل كيف وهذه الطرق حجة لديهم ولو لم يعملوا بها ؛ فلو كان قوام حجيتها لديهم التنزيل المزبور بلحاظ نفس العمل، يلزم اختصاص حجيتها بصورة عملهم، وليس كذلك جزماً؛ فيكشف أن التنزيل بلحاظ أمر مقتضى لعملهم بها لا نفس عملهم؛ وليس ذلك إلا بنائهم والتزامهم عند أنفسهم بالعمل بها، ومثل هذا البناء والالتزام من سنخ إرادة كلية على شيء في أنفسهم بنحو قابل للتخلف عنه في مقام العمل - كنذورهم - وبعد ما أمضى الشارع هذا التنزيل فلابد وأن يكون نظره أيضا في هذا التنزيل إلى إرادته لعملهم دون غيره ، وعليه فهذا التنزيل من الشارع مستتبع لهذه الإرادة التشريعية ، ولا نعنى من انتهاء أمره في أمثال هذا الجعل إلى الحكم التكليفي إلا هذا فان قلت: إن مثل هذه الإرادة والبناء مأخوذ في مرحلة الإمتثال وإرشاد إلى حكم العقل بموافقة الحجة، ولا يمكن أن يكون منشأ اعتبار الحجة. قلت بعد ما لا يكون منشأ لاعتبار الحجة غير التنزيل المزبور واحتياج التنزيل إلى كون النظر إلى مثل هذا البناء والإرادة، فلا محيص من كون البناء المزبور مصحح أصل الحجة لا من تبعاتها فارغاً عن ثبوتها؛ وبعد ما كان كذلك ، فلا محيص من كون رتبة هذه الإرادة و البناء الكلى سابقاً عن التنزيل المزبور، لأنه مصححه؛ وبعد ذلك نسئل : بأنّ هذه الإرادة والبناء إرادة حقيقية ثابتة فى فرض الموافقة ومخالفة الطريق للواقع؟ أو هو من الإرادات الطريقية المنحلة إلى الإرادة عند الموافقة والترخيص عند المخالفة ؟ لا محيص للأول، وإلا لازمه الإلتزام بسببية الأمارة، فلابد و أن يكون من الثاني. وعلى أى حال يكون المنجز هذه الإرادة الطريقية، لا صرف التنزيل المزبور؛ كما أنه بناءً عليه يبقى شبهة التضاد بحاله ؛ كما لا يخفى.

اعتمادهم عليها من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع ، لأنه ربما يكون طرف الاحتمال تلف النفوس والأموال وهتك الأعراض ، فلو كان اعتمادهم على الطرق لمحض رجاء إدراك الواقع لكان الاحتياط بعدم الاعتماد عليها في مثل هذه الموارد مما يكون خطر المخالفة عظيما ، فاقدامهم على العمل بالطرق والأمارات والاعتماد عليها مع هذا الاحتمال ليس إلا لمكان تنزيل احتمال المخالفة منزلة العدم وكأنه لم يكن مع وجوده تكوينا.

فلا يقال : لعل اعتمادهم عليها لمكان حصول العلم لهم منها ، فان ذلك مما يكذبه الوجدان ، لوضوح وجود احتمال مخالفة الطريق للواقع في أنفسهم ومع ذلك يعتمدون عليها في إثبات مقاصدهم ، لمكان أن الطرق عندهم من حيث الإتقان والاستحكام كالأسباب المفيدة للعلم ، وليس عند العقلاء جعل وتعبد وتشريع ، حتى يقال : إن المجعول عندهم ما يكون منشأ لانتزاع هذا الاعتبار والحجية ، بل نفس الحجية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن يكون هناك ما يكون منشأ للانتزاع

ص: 107

من حكم تكليفي.

فالأقوى : أن الحجية والوسطية في الإثبات بنفسها مما تنالها يد الجعل بتتميم كشفها ، فإنه لابد في الأمارة من أن يكون لها جهة كشف عن الواقع كشفا ناقصا ، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بالقاء احتمال الخلاف في عالم التشريع ، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين ، فكأن الشارع أوجد في عالم التشريع فردا من العلم ، وجعل الطريق محرزا للواقع كالعلم بتتميم نقض كشفه وإحرازه ، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، كما تقدم تفصيله.

وإذ قد عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأن المجعول فيها نفس الوسطية في الإثبات ، ظهر لك : أنه ليس في باب الطرق والأمارات حكم حتى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضاد أو التصويب ، بل ليس حال الأمارة المخالفة إلا كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط مطلقا أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنه عند الإصابة يكون المؤدى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيز الواقع وصحة المؤاخذة عليه ، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا بناء على ما هو المختار من تأصل الحجية والطريقية في الجعل.

وأما بناء على مسلك الشيخ قدس سره من أن المجعول هو منشأ الانتزاع ، فيتوجه حينئذ إشكال التضاد ولابد من دفعه ، وينبغي أولا تصوير ما يصح أن يكون منشأ لانتزاع الحجية.

والإنصاف : أن تصويره في غاية الإشكال ، لأن منشأ انتزاع الحجية لا بد وأن يكون أمرا لا دخل له بإطاعة المكلف وعصيانه ، إذ الحجية محفوظة في كلا الحالين ولا دخل لعمل المكلف في ذلك ، فان المكلف عمل أو لم يعمل يكون الخبر الواحد حجة ، فلابد وأن يكون منشأ انتزاع الحجية حكما تكليفياً

ص: 108

مستمراً لا يسقط بعصيانه في زمان لتكون الحجية مستمرة باستمراره.

وأحسن ما يمكن أن يقال - في منشأ انتزاع الحجية - هو ما ذكره الشيخ قدس سره في دليل الانسداد عند نقل كلام « المحقق صاحب الحاشية » في الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما في بيان أن مقدمات دليل الانسداد لا تثبت إلا اعتبار الظن بالطريق لا في نفس الحكم الفرعي.

قال قدس سره : في رد هذا الوجه « فيه : أن تفريغ الذمة عما اشتغلت به ، إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية ، وإما بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة » انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وله قدس سره في هذا المقام عبارة أخرى تقرب من هذه ، وغرضه من ذلك : هو أن المجعول في باب الطرق والأمارات إنما هو الحكم بأن المؤدى هو الواقع النفس الأمري وأنه هو ، فليس المجعول فيها أمرا مغايرا للواقع ، بل المجعول فيها هو الحكم بأن المؤدى هو الواقع ، فان أصابت الأمارة الواقع فهو ، وإن أخطأت يتبين أنه ليس المؤدى هو الواقع ، وعلى كلا التقديرين : لا يكون في البين إلا الحكم الواقعي.

وبالجملة : حيث كان المؤدى هو الوجوب أو الحرمة الواقعية فيكون المجعول هو وجوب المؤدى أو حرمته على أنه هو الواقع ، فليس ما وراء الواقع حكما آخر حتى يقع التضاد بينهما ، ولا إشكال في أنه للشارع جعل الهوهوية والحكم بأن المؤدى هو الواقع في صورة الجهل به والشك فيه.

وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يقرب هذا الوجه ويرتضيه على تقدير عدم القول بتأصل الحجية في الجعل ، ولكن في هذه الدورة ضعفه بما حاصله : أن الحكم بأن المؤدى هو الواقع لا يمكن أن يكون إخبارا ، بل لابد وأن يكون إنشاء ، وإنشاء الحكم بالهوهوية وكون المؤدى هو الواقع لا يصح إلا باعطاء صفة الوجوب أو الحرمة للمؤدى ، فيعود إشكال التضاد عند

ص: 109

مخالفة الأمارة للواقع.

وبالجملة : لا نرى في دفع محذور التضاد عند مخالفة الطرق والأمارات للواقع أقرب من القول بتأصلها في الجعل (1) هذا كله في باب الطرق والأمارات.

وأما الأصول المحرزة : فالأمر فيها أشكل ، وأشكل منها الأصول الغير المحرزة - كأصالة الحل والبراءة - فان الأصول بأسرها فاقدة للطريقية ، لأخذ الشك في موضوعها ، والشك ليس فيه جهة إرائة وكشف عن الواقع ، حتى يقال : إن المجعول فيها تتميم الكشف ، فلابد وأن يكون في مورد الأصول حكم مجعول شرعي ، ويلزمه التضاد بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له.

هذا ، ولكن الخطب في الأصول التنزيلية هين ، لأن المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم (2) ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على

ص: 110


1- أقول : علم اللّه! لو خليت الاعتساف ومشيت على وفق الإنصاف وتأملت فيما ذكرناه - في الحاشية السابقة بطولها - ترى عدم البد من الالتزام بلزوم التضاد ظاهرا بين الحكم الواقعي والظاهري ، وعدم تمامية ما أفيد في التخلص عنه. ثم لئن اغمض عما ذكرنا وقلنا برفع التضاد بالتقريب المزبور، لكن يبقى في البين شبهة نقض الغرض بالتقريب الذي بيناه في شرح كلام «ابن قبة» ولا مجال حينئذ لقياس الطرق المجعولة باليقين الحاصل على خلاف الواقع، إذ فى أمثال اليقين انتقاض قهرى؛ بخلاف الطرق، فانّ في جعلها على خلاف مرامه نقض لغرضه بالإختيار، وهو محال. و في هذه الشبهة لا فرق بين أن يكون المجعول حكماً تكليفياً أم وضعياً. نعم : مثل هذا المقر لما لم يتعرض من الأول مثل هذه الشبهة و قصر النظر بشبهة التضاد بين الأحكام، كان له الإقتصار في دفع شبهته بما أفاد؛ وإلا فلو فتح البصر و نظر إلى هذه الشبهة أيضاً لا محيص له إلا من الإلتزام برفع اليد عن فعلية الواقع بمرتبة لا يلزم على خلافه نقض غرض؛ ولا نعنى من مراتب الحكم أيضاً إلا هذا، كما لا يخفى؛ فتدبر.
2- 2 - أقول : لا نفهم من هذا التعبير معنى محصلا ، إذ البناء العملي فعل المكلف ، ولا معنى لجعله ، وأنما المجعول هو الأمر به الذي مرجعه إلى الأمر بالمعاملة مع المشكوك معاملة الواقع ، كما هو مفاد هيئة « لا تنقض » الراجع إلى الأمر بالإبقاء في مقام العمل ، وحينئذ مرجع الكلام إلى مفاد هذا الأمر عند المخالفة مع الإرادة الواقعية ، والتعبير بالهوهوية وإن كان تعبيرا عرفانيا لطيفا ، لكن لا يفهم له معنى في المقام إلا الأمر بالبناء على وجود الواقع المشكوك ، وهذا الأمر بعدما كان موجودا عند المخالفة يقع الكلام في الجمع بينهما. نعم: لئن فرضنا المجعول نفس البناء علی وجود الواقع عملاً كان لما افيد وجه، إذ حيندذ أمكن دعوی أنّ شأن التكليف هذا البناء الموجب لوجود الواقع عند المخالفة بلا جعل عند المخالفة. لكن هذا المعنی يستحيل أن يجيء تحت الجعل، كما عرفت. و توهم أن شأن العقلاء البناء المزبور والشارع أمضاهم علی بنائهم، قد عرفت تفضيله وأنه لا ينتج شيئاً في المقام؛ فراجع.

وجه الطريقية ، لكونها متكفلة للجهة الثالثة التي يكون القطع واجدا لها ، وهو الجري على وفق القطع وترتيب آثار المقطوع عملا ، كما أن الأمارة تكون واجدة للجهة الثانية ، وهي جهة الإحراز والكاشفية - على ما تقدم بيانه ، فالمجعول في الأصول التنزيلية ليس أمرا مغايرا للواقع ، بل الجعل الشرعي إنما تعلق بالجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع ، كما يرشد إليه قوله علیه السلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز « بلى قد ركعت » (1) فان كان المؤدى هو الواقع فهو ، وإلا كان الجري العملي واقعا في غير محله من دون أن يكون قد تعلق بالمؤدى حكم على خلاف ما هو عليه.

وبالجملة : الهوهوية التي بنى عليها الشيخ قدس سره في باب الأمارات ونحن أبطلناها ، هي التي تكون مجعولة في باب الأصول التنزيلية.

نعم : يتوجه على الشيخ قدس سره إشكال الفرق بين الأمارات والأصول ، فإنه على هذا يكون المجعول في كل منهما هو الهوهوية ، فكيف صارت مثبتات الأمارة حجة دون مثبتات الأصول مع اتحاد المجعول فيها؟ ولكن نحن في فسحة عن هذا الإشكال ، لما عرفت : من أن المجعول في باب الأمارات غير المجعول في باب الأصول ، ومن اجل اختلاف المجعول صارت مثبتات الأمارات حجة دون مثبتات الأصول ، كما سيأتي في محله.

وبالجملة : ليس في الأصول التنزيلية حكم مخالف لحكم الواقع ، بل

ص: 111


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع الحديث 3.

إذا كان المجعول فيها هو البناء العملي على أن المؤدى هو الواقع ، فلا يكون ما وراء الواقع حكم آخر حتى يناقضه ويضاده.

وتوهم : أن الذي ذكرناه في تضعيف ما أفاد الشيخ قدس سره من جعل الهوهوية في باب الأمارات يجرى بعينه في باب الأصول المحرزة ، فاسد ، فان الهوهوية المجعولة في باب الأصول المحرزة هي الهوهوية العملية ، أي البناء العملي على كون المؤدى هو الواقع ، وهي لا تستلزم جعل حكم في المؤدى على خلاف ما هو عليه من الحكم ، بخلاف الهوهوية في الأمارة فإنها إما أن تكون إخبارا ، وإما أن تكون إنشاء حكم في مؤدى الأمارة ، فان المجعول في باب الأمارات ليس هو البناء العملي ، فلو كان في المؤدى حكم فلابد وأن يكون مضادا لما عليه من الحكم الواقعي ، فتأمل.

وأما الأصول الغير المحرزة - كأصالة الاحتياط والحل والبراءة - فقد عرفت : أن الأمر فيها أشكل ، فان المجعول فيها ليس الهوهوية والجري العملي على بقاء الواقع ، بل مجرد البناء على أحد طرفي الشك من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه (1) بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط والحلية المجعولة في أصالة الحل تناقض الحلية والحرمة الواقعية على تقدير تخلف الأصل عن الواقع ، بداهة أن المنع عن الاقتحام في الشيء ( كما هو مفاد أصالة الاحتياط ) أو الرخصة فيه ( كما هو مفاد أصالة الحل ) ينافي الجواز في الأول ، والمنع في الثاني.

وقد تصدّي بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين الحكمين باختلاف الرتبة ، فان رتبة الحكم الظاهري رتبة للشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفس وجوده ، فيكون الحكم الظاهري في

ص: 112


1- أقول : لم ما تقول هنا أيضا : إن المجعول هو البناء العملي على أحد طرفي الشك بأنه واقع؟ الملازم لعدم جعل حكم عند المخالفة أيضا.

طول الحكم الواقعي ، ولا تضاد بين المختلفين في الرتبة ، لأن وحدة الرتبة من جملة الوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضاد.

هذا ، وأنت خبير بفساد هذا التوهم ، فان الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي ، إلا أن الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري ، لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق (1) فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك.

ولا يقاس المقام بالخطاب الترتبي المبحوث عنه في باب الضد ، فان العمدة في رفع غائلة التضاد بين الحكمين في الخطاب الترتبي إنما هو اشتراط خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وعدم إطلاق خطاب الأهم لحالتي اطاعته وعصيانه - على ما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مبحث الضد - وأين هذا من اجتماع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي مع إطلاق الحكم الواقعي لحالة العلم والظن والشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق؟ فتأخر رتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لا يرفع غائلة التضاد بينهما إلا بضم مقدمة أخرى إلى ذلك ، وهي أن الأحكام الواقعية بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية وقاصرة عن أن تكون محركة لإرادة العبد نحو امتثالها في صورة الشك في وجودها (2)

ص: 113


1- أقول : إذا كان الحكم الظاهري في طول الواقع معنى طوليته كون الحكم الواقع المشكوك مأخوذا في موضوعه ، وحينئذ كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي - ولو بنتيجة الإطلاق - في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته؟ فهل يتوهم أحد أن الموضوع في مرتبة محموله؟ نعم : هما متحدان زمانا لا رتبة ، فكل واحد محفوظ في رتبة نفسه بلا تعدية إلى مرتبة غيره ، فعلى فرض الاكتفاء باختلاف المرتبة بين الحكمين محضا ، لا مجال لمثل هذا الجواب عنه.
2- 2 - أقول : الالتزام بعدم دعوة الحكم الواقعي في ظرف الشك به لازمه إنكار فعلية الحكم المشكوك ، إذ لا نعنى من فعليته إلا دعوته ومحركيته عند وجود موضوعه ، فمع عدم متمم الجعل لابد وأن يلتزم بعدم فعلية الحكم المشكوك ، فلا يبقى للحكم الواقعي إلا إنشاء قانونيا بلا إرادة فعلية ، إذ فعلية الإرادة على ممشاك لا ينفك عن المحركية عند وجود الموضوع ، فعدم محركيته حينئذ مساوق عدم فعليته ، ولا نعنى من جعل القانون إلا هذا ، وحينئذ فتصور المعذورية مع وجود الحكم الفعلي في غير محله ، إلا بتصور التفكيك بين فعلية الحكم وعدم الدعوة ، ويلزمك حينئذ عدم إناطة فعلية الإحكام بوجود موضوعها خارجا ، بل الحاكم بمجرد علمه بالمصلحة على الشيء القائم بالموضوعات المقدرة يحكم حكما فعليا عن إرادة فعلية تابعة للحاظ موضوعه الكلي ، بلا انتظار لوجوده - كما هو التحقيق في كلية الأحكام - وأن المحركية من تبعات الإرادة وهو المعلق على وجود الموضوع خارجا ، وعلى هذا المبنى ينثلم الإشكال في الواجب المعلق ، وينخرم أساس جعل الأحكام الطلبية من القضايا الحقيقية التي شأنها كون الحكم تابع الموضوع فرضيا وفعليا ، إذ بناء على ما ذكر تصير الأحكام الطلبية فعلية قبل وجود موضوعاتها وفي زمان فرضه ، كما لا يخفى ، فتدبر.

فانّ الحكم لا يمكن أن يتكفل لأزمنة وجوده - التي منها زمان الشك فيه - ويتعرض لوجود نفسه في حال الشك وإن كان محفوظا في ذلك الحال على تقدير وجوده الواقعي ، إلا أن انحفاظه في ذلك الحال غير كونه بنفسه مبينا لوجوده فيه ، بل لابد في ذلك من مبين آخر وجعل ثانوي يتكفل لبيان وجود الحكم في أزمنة وجوده ، - ومنها زمان الشك فيه - ويكون هذا الجعل الثانوي من متممات الجعل الأولى ويتحد الجعلان في صورة وجود الحكم الواقعي في زمان الشك.

ولا يخفى : أن متمم الجعل على أقسام : فان ما دل على وجوب قصد التعبد في العبادات يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب الغسل على المستحاضة قبل الفجر في اليوم الذي يجب صومه من متممات الجعل ، وغير ذلك من الموارد التي لابد فيها من متمم الجعل ، وهي كثيرة في أبواب متفرقة وليست بملاك واحد ، بل لكل ملاك يخصه ، وإن كان يجمعها قصور الجعل الأولى عن أن يستوفى جميع ما يعتبر استيفائه في عالم التشريع ، ولاستقصاء الكلام في ذلك محل آخر. والغرض في المقام : بيان أن من أحد أقسام متمم الجعل هو الذي يتكفل لبيان وجود الحكم في زمان الشك فيه إذا كان الحكم الواقعي على وجه يقتضي المتمم ، وإلا فقد يكون الحكم لا يقتضي جعل المتمم في زمان الشك.

وتوضيح ذلك : هو أن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين :

ص: 114

أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه - كحالة العلم والظن - وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم يضاد الحكم الواقعي ، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.

ثانيهما : اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل ومنجزا للواقع وموصلا إليه ، كما أنه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن الواقع - حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام الشرعية - فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمم - كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه - فإنه لما كان حفظ نفس المؤمن أولى بالرعاية وأهم في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشك حفظا للحمى وتحرزا عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن ، وهذا الحكم الطريقي إنما يكون في طول الحكم للواقع نشأ عن أهمية المصلحة الواقعية ، ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطابا نفسيا وإن كان المقصود منه عدم الوقوع في مخالفة الواقع (1) إلا أن هذا لا يقتضي أن يكون خطابه مقدميا ، لأن الخطاب المقدمي هو ما لا مصلحة فيه أصلا ، والاحتياط ليس كذلك ، لأن أهمية مصلحة الواقع دعت

ص: 115


1- أقول : والأولى أن يقال : إن الخطاب بالاحتياط خطاب طريقي كسائر الخطابات الطريقية ناشئ عن الإرادة الواقعية ومظهرة لها في ظرف الشك بها ، ومشتملة على الترخيص على مخالفة الواقع عند مخالفتها - كما هو الشأن في سائر أوامر الطرق - وفي خصوص الاحتياط كان ترخيصه على وفق الواقع عند عدم وجوبه المحتمل ، وليس وجوبه مقدميا ، لأنه مع الموافقة عين الواقع في لب الإرادة ومع المخالفة يباينه ، ولا نفسيا لفرض عدم إرادة تحته في فرض المخالفة. و من هذا البيان ظهر أنّ الأمر بالإحتياط وهكذا غيره بيان للواقع ومنجز له في فرض الموافقة، وعند المخالفة موجب لعذره وترخيصه المشتمل عليه أمره وليس موجباً للعقوبة على نفسه. و توهم : أن العقوبة على الواقع حينئذٍ عقاب بلابيان فلابد من أن يكون العقوبة على نفسه، فاسد بما يأتي بيانه في الحاشية الآتية.

إلى وجوبه فالاحتياط إنما يكون واجبا نفسيا للغير لا واجبا بالغير ، ولذا كان العقاب على مخالفة التكليف بالاحتياط عند تركه وإدائه إلى مخالفة الحكم الواقعي ، لا على مخالفة الواقع ، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في خاتمة الاشتغال.

فان قلت : إن ذلك يقتضي صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أو خالفه ، لأن المفروض كونه واجبا نفسيا وإن كان الغرض من وجوبه هو الوصلة إلى الأحكام الواقعية وعدم الوقوع في مفسدة مخالفتها ، إلا أن تخلف الغرض لا يوجب سقوط الخطاب ، فلو خالف المكلف الاحتياط وأقدم على قتل المشتبه وصادف كونه مهدور الدم كان اللازم استحقاقه للعقوبة ، لأنه قد خالف تكليفا نفسيا.

قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لا يضر تخلفه ولا يدور الحكم مداره هو الأول ، لأنها تكون حكمة لتشريع الأحكام ، فيمكن أن يكون تحقق الحكمة في مورد علة لتشريع حكم كلي ، وأما علة الحكم ، فالحكم يدور مدارها ولا يمكن أن يتخلف عنها - كما أوضحناه في محله - ولا إشكال أن الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علة للحكم بالاحتياط (1)

ص: 116


1- أقول : بعدما كان الحكم الواقعي علة لتشريع الاحتياط ، فمع انتفائه ينتفى تشريع الاحتياط ، وعليه : ففي كل مورد يرد عليه الأمر بالاحتياط يتردد المكلف بين تشريع الاحتياط وعدمه ، ولازمه ترديده بكون الأمر به حقيقيا أم صوريا ، ومع هذا الترديد كيف يدعوه هذا الأمر على الاحتياط؟ وعليه : فلا يكون هذا الأمر موجبا للعقوبة على مخالفة نفسه أو مخالفة الواقع ، وهذه الشبهة جارية في جميع الأوامر الطريقية. ولنا لحل هذا الإشكال مسلكان أحدهما أن يقال: إنّ المصلحة إذا كانت مهمة بنحولا يجوز منه المولى حتى في ظرف الجهل بها، فقهراً الإرادة المتعلقة به وأمره يكون تبعاً لهذا الإهتمام؛ ومثل هذه الإرادة والأمر نفس احتماله منجز عقلاً وخارج من موضوع قبح العقاب بلا بيان، وأن الأمر الطريق كاشف عنه هذا الإهتمام ولذا يكون منجزاً للواقع . عند المطابقة؛ كما أن مخالفته كاشفة عن عدم الاهتمام به، خصوصاً مع ترخيصه على خلافه، فيكون موجباً لعذره حتى مع فرض انفتاح بابه. وثانيهما: أن شأن الأوامر الطريقية بعد ما كان إبرازاً للإرادة الواقعية فى ظرف الجهل بها، فمع احتمال الواقع كان الواقع ملازما مع البيان للواقع، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لحكم العقل بقبح العقاب ، إذ موضوعه صورة الجزم بعدم البيان ، وحينئذ فشأن الأوامر الطريقية رفع موضوع حكم العقل ، فيكون واردا عليه. فان قلت: إنه في ظرف وجود الواقع نقطع بوجوده، ولو كان هذا المقدار من البيان الإحتمالي كافياً، يلزم عدم جريان القاعدة فى كل تكليف مشكوك ولو لم يكن فى البين جعل طريق؛ وهو كما ترى. قلت: لا يخفى أنّ العلم بوجود الواقع في ظرف وجود المشكوك لا يكون منوطاً بوجود الواقع خارجاً كي يصير مشكوكاً، بل العلم الفعلى الوجداني ينوط بوجود الواقع لحاظاً، فلا يتصور في مثله الجهل بوجود العلم، كی يكون المورد من باب احتمال البيان؛ بل العلم الوجدانى منوط بوجود المشكوك لحاظاً حاصل فعلاً؛ ومثل هذا العلم لا يكون لدى العقل بياناً أصلاً، ففي مورده نقطع بعدم البيان؛ بخلاف الأوامر الطريقية، حيث إن بيانيته منوط بوجود الواقع خارجاً، فكان البيان فيه مشكوكاً ؛ بخلاف فرض العلم، كما لا يخفى .

لأنّ أهمية ذلك أوجب الاحتياط ، فلا يمكن أن يبقى وجوب الاحتياط في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه ، ولكن لما كان المكلف لم يعلم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه أو لا يجب؟ كان اللازم عليه هو الاحتياط تحرزا عن أن يكون المشكوك مما يجب حفظ نفسه فيقع في مخالفة الحكم الواقعي. ومن ذلك يظهر : أنه لا مضادة بين ايجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فان المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإن لم يكن المشتبه مما يجب حفظ نفسه فلا يجب الاحتياط ، لانتفاء علته ، وإنما المكلف يتخيل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه ، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدمي ، وإن كان من جهة أخرى يغايره. والحاصل : أنه لما كان ايجاب الاحتياط متمما للجعل الأولى من وجوب حفظ نفس المؤمن ، فوجوبه يدور مدار الوجوب الواقعي ، ولا يعقل بقاء المتمم ( بالكسر ) مع عدم وجود المتمم ( بالفتح ) فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل أن يقع بينهما التضاد ، لاتحادهما في مورد

ص: 117

المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضاد؟.

هذا كله إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمم : من ايجاب الاحتياط. وإن لم تكن المصلحة الواقعية تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمية بحيث يلزم للشارع رعايتها كيفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمن ، كان بلسان الرفع ، كقوله صلی اللّه علیه و آله - « رفع ما لا يعلمون » ، أو بلسان الوضع كقوله صلی اللّه علیه و آله « كل شيء لك حلال » فان المراد من الرفع في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض ، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وايجاب الاحتياط ، فالرخصة المستفادة من قوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع ما لا يعلمون » نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فكما أن الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافى الحكم الواقعي ولا تضاده ، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله علیه السلام « رفع ما لا يعلمون » والسر في ذلك : هو أن هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه (1) لأن الموضوع فيها هو الشك

ص: 118


1- أقول : يا للعجب! قد تقدم منه أن مجرد طولية الحكم الظاهري للواقع غير مجد في رفع التضاد ، لأن الحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق يشمل مرتبة الحكم الظاهري ، فكيف في المقام التزم بكفاية الطولية في رفع التضاد. وكيف كان : الذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال : إن طولية الحكمين على نحوين : أحدهما: طولية الحكمين فى ذات واحدة محفوظة في مرتبة نفسه، كما هو الشأن في عنوان الخمر ومشكوك الخمرية. وثانيهما: طولية الحكمين الثابتين للذاتين فى رتبتين - كما هو الشأن فى فرض الجهل بالحكم من الجهات التعليلية لطرة الحكم الظاهرى على الذات فانّه حينئذ يرى الذات في رتبتين؛ بخلاف ما كان الجهل من الجهات التقييدية لأنّ الذات في هذه الصورة لا يرى إلا في رتبة واحدة موضوعاً الحكمين طوليين؛ وحينئذ الذي يثمر لرفع التضاد هو الطولية بالمعنى الثاني دون الأول ؛ والسرفيه : أنّ الذات في هذه الصورة لما كان واحداً لا يتحمل لحكمين ولو طوليين متماثلين أو متضادين. وأما في فرض أخذ الذات في رتبتين فلا يرى حينئذ إلا ذاتين، وحيث إن معروض الحكم في كلبة المقامات هو نفس العنوان لا المعنون ، فوحدة المعنون لا يضر بتعدد الحكم لكل منهما بعنوان غير الآخر. ولقد أبسطنا الكلام في مسألة التجري ، وبهذا البيان أيضا رفعنا هناك التضاد بين قبح التجري وحسن الواقع ، كما عرفت ، فتدبر في المقام فإنه من مزال الأقدام.

في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضاد الحكم الواقعي.

وبالجملة : الرخصة والحلية المستفادة من « حديث الرفع » و « أصالة الحل » تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من ايجاب الاحتياط ، وقد عرفت : أن ايجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرعا عليه ، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضا ، وإلا يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه ، فتأمل.

هذا تمام الكلام في إمكان التعبد بالأمارات الغير العلمية ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه : أنه لا محذور فيه ، لا ملاكا ولا خطابا.

المبحث الثاني: في تأسيس الأصل عند الشك في التعبد بالأمارة

اشارة

ولا ينبغي التأمل والإشكال في أن الأصل يقتضي حرمة التعبد بكل أمارة لم يعلم التعبد بها من قبل الشارع.

ويدل على ذلك من الكتاب ، قوله تعالى : « قل آلله أذن لكم أم على اللّه تفترون » (1) بناء على شمول الافتراء لمطلق إسناد الشيء إليه تعالى ولو مع عدم العلم بأنه منه تعالى ، لا خصوص ما علم أنه ليس منه تعالى - كما قيل - ولو سلم عدم شمول الافتراء لما لا يعلم موضوعا فلا أقل من شموله حكما ، لأنه جعل في مقابل الإذن ، فتدل الآية الشريفة على أن كل ما لم يؤذن

ص: 119


1- سورة يونس الآية 59.

فيه فهو افتراء ، إما موضوعا ، وإما حكما.

ومن السنة : قوله علیه السلام « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (1) بناء على كون التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم ، لا لأجل التصدي للقضاء مع عدم كونه أهلا له.

ومن الإجماع : ما ادعاه الوحيد البهبهاني قدس سره من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات عند العوام فضلا عن الخواص.

ومن العقل : إطباق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على تشريعه وإسناده إلى المولى ما لا يعلم أنه منه ، فان ذلك تصرف في سلطنة المولى وخروج عما يقتضيه وظائف العبودية.

وبالجملة : لا إشكال ولا كلام في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة. نعم : وقع الكلام في مسألة قبح التشريع من جهات :

الجهة الأولى : هل حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح المعصية مما لا تناله يد الجعل الشرعي ولا يستتبع خطابا مولويا بحرمته؟ أو أن حكمه بقبح التشريع يستتبع الحكم الشرعي بحرمته ولو بقاعدة الملازمة؟ ذهب إلى الأول المحقق الخراساني قدس سره وحمل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب على الإرشاد ، نظير قوله تعالى : « أطيعوا اللّه ورسوله ».

وظاهر كلام الشيخ قدس سره هو الثاني ، حيث استدل على حرمة التشريع بالأدلة الأربعة ، وهو الأقوى ، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات الشرعية إنما هي فيما إذا كانت واقعة في سلسلة معلولات الأحكام كقبح المعصية وحسن الطاعة ، لا في ما إذا كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقلي الناشئ عن إدراك المصالح

ص: 120


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث 6.

والمفاسد ، فان الأحكام العقلية الراجعة إلى هذا الباب كلها تكون مورد القاعدة الملازمة ، ويستتبعها الخطابات الشرعية ، ومسألة قبح التشريع من هذا الباب ، لأن حكم العقل بقبحه ليس واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، بل هو حكم ابتدائي من العقل لما فيه من المفسدة من تصرف العبد فيما ليس له ، وإن شئت قلت : إن التشريع من أفراد الكذب الذي يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته (1).

الجهة الثانية : هل قبح التشريع يسرى إلى الفعل المتشرع به بحيث يصير الفعل قبيحا عقلا وحراما شرعا ، أو إنه لا يسرى إلى الفعل بل يكون التشريع من الآثام القلبية مع بقاء الفعل المتشرع به على ما هو عليه؟ ذهب إلى الوجه الثاني المحقق الخراساني قدس سره وظاهر كلام الشيخ قدس سره هو الأول ، حيث قال قدس سره : والحاصل : أن المحرم هو العمل بغير علم متعبدا به ومتدينا به .. الخ ، ومال إليه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) بتقريب : انه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيرة لجهة حسن العمل وقبحه ، فيكون الالتزام والتعبد والتدين بعمل لا يعلم التعبد به من الشارع موجبا لانقلاب العمل عما هو عليه (2) وتطرأ عليه

ص: 121


1- أقول : عمدة الكلام في المقام ، هو أن العقل في باب التشريع كما يستقل بالقبح ، يستقل بالعقوبة أيضا أم لا ، وبعبارة أخرى : هل حكمه بقبحه من تبعات موجبة لاستحقاق العقوبة بنفس عنوانه؟ أم استحقاق العقوبة فيه من تبعات حكمه لا نفسه وأن ما هو من تبعات نفسه مجرد قبحه؟ وهذه الجهة أيضا مايزة بين المعصية وسائر المقبحات الأخرى ، لا مجرد طولية عنوان للحكم وعدمه ، وعليه نقول : لا غرو في دعوى أن التشريع المتجرى نحو طغيان على المولى وجسارة موجبة بنفسه للعقوبة بلا احتياج إلى حكم مولوي ، كيف! ولا أظن من ينكر الملازمة كلية إنكار عدم استحقاق المشرع للعقاب نظير الافتراء على المولى ، فتأمل.
2- أقول لا نرى فرقا من هذه الجهة بين التشريع في فعل نفسه أو التشريع في عمل غيره - كتشريع وجوب الصلاة على الحائض - فهل يتوهم أحد أن الثاني موجب لحرمة فعل الغير؟! فليكن الأول أيضا كذلك ، فتدبر.

بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلا وحرمته شرعا ، وظاهر قوله : « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (1) حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه ، فيدل على حرمة نفس العمل.

الجهة الثالثة : هل صحة التعبد بالأمارة والالتزام بمؤداها على أنه حكم اللّه تعالى يلازم حجيتها بحيث يستكشف من عدم جواز التعبد عدم الحجية؟ أو أن الحجية من اللوازم الأعم؟ فقد تكون الأمارة حجة مع عدم جواز التعبد بها وإسنادها إلى الشارع.

ظاهر كلام المحقق الخراساني قدس سره هو الثاني ، بل صريح كلامه ذلك ، حيث قال : وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام وصحة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد لا يوجب صحتهما .. الخ.

ولا يخفى ما فيه ، فان معنى جعل الأمارة حجة هو كونها وسطا لإثبات متعلقها وإحراز مؤداها (2) فيكون حالها حال العلم ، وهل يمكن أن يقال : إنه لا يصح التعبد بمتعلق العلم ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية؟ والأمارة بعد جعلها حجة تكون كالعلم. وما

ص: 122


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث 6.
2- أقول : قد تقدم سابقا أن مجرد جعل الوسطية تنزيلا لا يفي بالمنجزية ، بل المنجز هو الأمر الطريقي المستكشف من هذا الجعل الذي هو المصحح للتنزيل ، ومن المعلوم : أن منجزيته غير ملازم لوجوب التعبد بمؤداه ، كيف! وهذا الأمر المنجز موجود في ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية ، مع أنه لا يجوز التعبد المزبور فيها ، وهكذا لو فرض ورود الأمر بالعمل بالظن الفلاني بلا لسان تنزيل في البين ، إذ مثل هذا الأمر أيضا منشأ حجيته ، مع أنه لا يجوز التعبد في مثله ، كما أن الظن على الحكومة في باب الانسداد عند من لا يرى العلم الإجمالي مؤثرا - إما لذاته أو لشبهة انحلاله - لابد من الالتزام بمثبتية الظن وأن مسقطيته إنما هو على مسلك التبعيض في الاحتياط ، وهو غير حجية الظن ومنجزيته في حال الانسداد كما لا يخفى.

أفاده : من أن الظن بناء على الحكومة يكون حجة عقلية مع عدم صحة إسناد متعلقه إلى الشارع وعدم جواز التعبد به ، فقد عرفت - في أول مبحث الظن - ما فيه ، وحاصله : أنه ليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة مثبتا لمتعلقه ، بل شأن العقل هو الإدراك وليس من وظيفته التشريع ، وحكمه باعتبار الظن في حال الانسداد ليس معناه كون الظن حجة مثبتا لمتعلقه ، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنية للأحكام المعلومية بالإجمال عند تعذر الإطاعة العلمية ، وهذا المعنى أجنبي عن معنى الحجية ، فان الحجة تقع في طريق إثبات التكاليف والظن بناء على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف ، وسيأتي توضيح ذلك - إنشاء اللّه تعالى - في دليل الانسداد.

وبالجملة صحة التعبد بالأمارة وجواز إسناد مؤداها إلى الشارع من اللوازم التي لا تنفك عن حجيتها ، ولا يعقل التفكيك بينهما ، فمن حرمة التعبد بالأمارة التي لم يعلم التعبد بها من الشارع - كما هو مقتضى الأدلة المتقدمة - يستكشف عدم حجيتها ، بل الشك في الحجية يلازم القطع بعدم الحجية ، لا بمعنى أخذ العلم بالحجية موضوعا لها بحيث لا تكون حجة واقعا مع عدم العلم بها ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة أن الحجية كسائر الأحكام الوضعية والتكليفية لا يدور وجودها الواقعي مدار العلم بها ، بل بمعنى عدم ترتب آثار الحجية عليها من كونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، فان التنجز يتوقف على العلم بالحكم أو ما يقوم مقامه ، والمكلف لا يكون معذورا إلا إذا استند في العمل إلى الحجة ويتوقف على العلم بها موضوعا وحكما ، ويأتي مزيد توضيح لذلك في المباحث الآتية.

الجهة الرابعة : هل الحكم العقلي بقبح التعبد بما يشك في التعبد به وإسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه من الأحكام العقلية الطريقية نظير حكمه بقبح الإقدام على ما لا يأمن منه الوقوع في الظلم من

ص: 123

التصرف في أموال الناس وأعراضهم؟ أو أن حكم العقل بذلك ليس طريقيا؟ الظاهر أن يكون هو الثاني ، بل لا ينبغي التأمل فيه ، فان تمام المناط في نظر العقل هو الإسناد إلى الشارع ما لا يعلم أنه منه ، من غير دخل للواقع في ذلك ، فلو فرض أن المتعبد به كان في الواقع مما شرعه الشارع ولكن المكلف لم يعلم بتشريعه وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح ، لتحقق تمام المناط والموضوع الذي يستقل العقل بقبحه ، ولو انعكس الأمر وأسند المكلف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع مما لم يشرعه الشارع لم يكن المكلف مشرعا ، لا أنه يكون مشرعا ولمكان جهله يكون معذورا عند العقل.

وبالجملة : ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلف أو لا يصيبه ، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه ، سواء علم المكلف بالعدم أو ظن أو شك ، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع أو لم يكن ، فليس حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح الظلم ، فان العقل إنما يستقل بقبح الظلم ، وهو عبارة عن التصرف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ، غايته أنه من الشك في كون المال مال الناس يحكم العقل حكما طريقيا بقبح التصرف فيه ، مخافة أن يكون المال مال الناس فيقع المكلف في مفسدة التصرف في مال الناس ظلما وعدوانا ، فللعقل في باب الظلم حكمان : حكم موضوعي بقبح التصرف فيما هو مال الناس واقعا عند الالتفات إليه ، وحكم آخر طريقي بقبح التصرف فيما يشك كونه مال الناس (1) فلو خالف المكلف وأقدم على التصرف في المشكوك ولم يكن

ص: 124


1- 1 - أقول : المراد من الأحكام الطريقية هو الإنشاءات الحاكية عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها وكاشفة عن الترخيص في صورة المخالفة ، ومثل هذا المعنى غير متصور في مثل حكم العقل بقبح الشيء في ظرف الجهل بقبحه واقعا ، إذ الوجدان بعد ما حكم بالقبح في ظرف الشك يستحيل كشفه عن الترخيص في صورة المخالفة ، إذ لازمه مع احتمال المخالفة أن لا يستقل بقبح شيء ، ومع استقلاله به حينئذ لا محيص من الإلتزام بالموضوعية وبعده لا يفهم فرق بين الظلم والتشريع، إذ في كل منهما يحكم العقل وجدانا بقبحه طابق الواقع أم خالف ، وحينئذ لا نفهم لهذا الحكم الطريقي مفهوما محصلا في باب الظلم دون غيره. نعم : يمكن أن يقال بمنع استقلال العقل بقبح ما هو مشكوك الظلم ، بل الذي يستقل هو قبح الظلم الواقعي عند إحراز ظلمه ، نظرا إلى دخل العلم في كلية المستقلات العقلية في حكمه بحسن أو قبح ، كما لا يخفى.

في الواقع مال الناس فليس عليه إلا تبعة التجري ، وأين هذا من باب التشريع؟ فإنه ليس للعقل فيه إلا حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك. والحاصل : أن الأحكام العقلية قسمين : أحدهما : ما يكون للعقل حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك ، ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح التشريع. ثانيهما : ما يكون للعقل حكمان : حكم على الموضوع الواقعي الذي استقل بقبحه ، وحكم آخر طريقي على ما يشك أنه من مصاديق الموضوع الواقعي ، ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح الظلم. وقد يقع الشك في بعض الأحكام العقلية أنه من أي القسمين؟ كحكمه بقبح الإقدام على الضرر ، فإنه يحتمل أن يكون الموضوع لحكم العقل بقبح الإقدام عليه هو الضرر الواقعي ، وله حكم آخر طريقي بقبح الإقدام على ما لا يأمن منه الوقوع في الضرر ، ويحتمل أن يكون الموضوع لحكم العقل مطلقا « ما لا يأمن منه الوقوع في الضرر » سواء في ذلك صورة العلم بالضرر أو الظن أو الشك ، كان في الواقع ضرر أو لم يكن. هذا ، ولكن ظاهر المحكى من تسالم الأصحاب على أن سلوك الطريق الذي يظن أو يقطع فيه الضرر والخطر يكون معصية ويجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف الخلاف وتبين عدم الضرر ، هو أن يكون قبح الضرر عندهم كقبح التشريع ليس للعقل فيه إلا حكم واحد ، إذ لو كان للعقل فيه حكمان - كباب الظلم - كان اللازم عدم وجوب إتمام الصلاة عند انكشاف الخلاف

ص: 125

وتبيّن عدم الضرر ، لأنه لم يتحقق ما هو الموضوع لحكم العقل بالقبح ليستتبع الحكم الشرعي بالحرمة حتى يكون السفر معصية يجب فيه إتمام الصلاة ، بل غايته أن يكون سلوك الطريق من التجري ، فتسالم الأصحاب على هذه الفتوى لا ينطبق إلا بالحاق باب الضرر بباب التشريع ، من حيث كون الموضوع لحكم العقل بالقبح مطلق ما لا يأمن ، فتأمل جيدا.

تتمة :

قد عرفت : أن الأصل عند الشك في حجية كل أمارة يقتضي حرمة التعبد بها والالتزام بمؤداها بمقتضى الأدلة المتقدمة.

وقد يقرر الأصل بوجه آخر ، وهو استصحاب عدم الحجية ، لأن حجية الأمارة من الحوادث وكل حادث مسبوق بالعدم.

وقد منع الشيخ قدس سره عن جريان استصحاب عدم الحجية ، وأفاد في وجهه بما حاصله : أنه لا يترتب على مقتضى الاستصحاب أثر عملي ، فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية ، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجرى استصحاب العدم ، فان الاستصحاب إنما يجرى فيما إذا كان لا أثر مترتبا على الواقع المشكوك فيه ، لا على نفس الشك. هذا حاصل ما افاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية.

ورده المحقق الخراساني قدس سره بما حاصله : أن الحاجة إلى الأثر في جريان الأصل إنما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ما وراء المؤدى ، بل يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدى - من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية وعدمه في الاستصحابات العدمية - بداهة أن وجوب الشيء أو عدم وجوبه بنفسه من الآثار التي يصح جريان

ص: 126

الأصل بلحاظها ، فلا حاجة إلى أثر آخر وراء ذلك ، والحجية وعدمها من جملة الأحكام ، فيجرى استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجية ، فان استصحاب عدم الحجية كاستصحاب عدم الوجوب ، فكما أنه لا يتوقف استصحاب عدم الوجوب على أثر آخر وراء نفس عدم الوجوب ، كذلك استصحاب عدم الحجية.

ثم أفاد قدس سره أنه لو سلم كون الحجية من الموضوعات الخارجية التي يتوقف جريان الأصل فيها على أن يكون في البين أثر عملي ، إلا أن ذلك لا يمنع عن استصحاب عدم الحجية ، فان حرمة التعبد كما يكون أثرا للشك في الحجية كذلك يكون أثرا لعدم الحجية واقعا ، فيكون الشك في الحجية موردا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك ، ويقدم الاستصحاب على القاعدة لحكومته عليها ، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها. ثم بين ضابطا كليا بما حاصله : أن الأثر إذا كان مترتبا على الواقع فقط فلا مجال للاستصحاب ، وإن كان مترتبا على الشك فقط فلا مجال إلا للقاعدة المضروبة للشك ، وإن كان مترتبا على كل من الواقع والشك فلكل من الاستصحاب والقاعدة مجال ، إلا أن الاستصحاب يقدم لحكومته عليها.

هذا حاصل ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره ردا على ما افاده الشيخ قدس سره .

وأنت خبير بما فيه! أما ما أفاده قدس سره أولا : من أن الحجية بنفسها من الأحكام فلا يتوقف جريان استصحاب عدمها على أن يكون وراء المؤدى أثر عملي ، ففيه : أن ما اشتهر من أنه « في الأصول الحكمية لا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي » إنما هو لأجل أن المؤدى بنفسه من الآثار العملية (1) وإلا فلا يمكن أن تجرى الأصول من دون أن يترتب

ص: 127


1- 1 - أقول : الذي يحتاج في الاستصحاب كون المستصحب مما يترتب عليه العمل ، بمعنى كونه مقتضيا له ولو في ظرف العلم به ، بلا واسطة أو بواسطة أثر شرعي ، نظير الوجوب الذي هو مقتضى للعمل ولو في ظرف العلم به ، كما أن نفيه موجب لنفي العمل المستند إلى عدم المقتضى ، وهذا المعنى موجود في الحجية المجعولة ، بملاحظة كونها موضوعا لحكم العقل بموافقتها عند العلم به ، وعدم وجوبه عند عدمها لعدم المقتضى ، وليس أثرها ممحضا بخصوص حرمة التعبد بمؤداه كي يختص ذلك بحال شكه وكان من تبعات نفس الشك به ، كيف! وقد قلنا بأن حرمة التعبد ليس من لوازم عدم الحجية ، وإن كان جوازه من لوازم حجيته ، وحينئذ لا يبقى مجال لمثل هذا التعب في رد هذا القائل خصوصا في إلزامه بأن عدم الحجية يقتضي الرخصة ، مع أنه ليس كذلك ، لأن الأحكام بأسرها مضادة ، وليس نقيض كل عين الآخر ، ولا يقتضي أيضا إثباته بدليل التعبد الذي هو مفاد الأصل ، لعدم حجية مثبتات الأصول ، فلا يكون نتيجة استصحاب عدم الوجوب إلا رخصة العقل لترك العمل بنفس شكه من جهة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ كيف يكون استصحاب العدم حاكما على قبح العقاب بلا بيان ، بل لازم كلامه كون المورد مجرى القاعدة ، لا مجرى الاستصحاب ، إلا بناء على حجية مثبته من إثبات الرخصة الشرعية ، وهو كما ترى! وحينئذ ما تقول في استصحاب عدم الوجوب نقول به في استصحاب عدم الحجية. و لعمري ! ان عمدة ما أوقعه في هذا المحذور تخيل أن أثر عدم الحجية منحصر لجهة التعبد بمؤداه الذي مترتب في فرضه على نفس الشك ، وهو أول شيء ينكر! بل عمدة أثر عدم الحجية عدم حكم العقل بلزوم موافقته، لعدم المقتضى - نظير حكمه بعدم لزوم العمل والإمتثال في صورة عدم وجوبه وأن مصحح جريان الإستصحاب في المقامين متساويان فتدبر ولا تبادر بالإشكال على الأساطين.

عليها أثر عملي ، من غير فرق في ذلك بين الأصول الموضوعية والحكمية ، فان الأصول إنما تكون وظائف عملية ، لما عرفت آنفا : من أن المجعول فيها هو الجري العملي ، وبذلك تمتاز الأصول من الأمارات ، فان الأمارة تقتضي الثبوت الواقعي ولا يتوقف التعبد بها على أن يكون المؤدى مما يقتضي الجري العملي ، بل يكفي في التعبد بها أن يترتب عليها أثر عملي ولو بألف واسطة لكي لا يلزم اللغوية ، فلا مانع من قيام الأمارة على عدم الحجية بعد ما كان مفادها عدم الثبوت الواقعي.

وبالجملة : لا يعقل أن يجرى الأصل من دون أن يقتضي الجري والبناء العملي ، ولما كانت الأصول الحكمية بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدى كان الأصل جاريا بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدى ، وإلا فلو فرض أصل حكمي لا يقتضي الجري العملي فلا يكاد يجرى ، لعدم

ص: 128

صحة التعبد به ؛ والحجية وإن كانت من الأحكام الوضعية وكانت بنفسها مما تنالها يد الجعل ، إلا أنها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلا ، والآثار المترتبة عليها - منها : ما يترتب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. ومنها : ما يترتب على نفس الشك في حجيتها ، كحرمة التعبد بها وعدم جواز إسناد مؤداها إلى الشارع ، فعدم الحجية الواقعية بنفسه لا يقتضي الجري العملي حتى يجرى استصحاب العدم ، إذ ليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها ، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا ، لما عرفت : من أن الشك تمام الموضوع لحرمة التشريع وعدم جواز التعبد ، فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل ، بل أسوء حالا منه ، فان تحصيل الحاصل إنما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما وجدانيان أو كلاهما تعبديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرر بالوجدان بالتعبد ، فهو أسوء حالا من تحصيل الحاصل.

وبالجملة : فرق بين استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحجية ، فان عدم الوجوب كالوجوب بنفسه مما يتعلق بعمل المكلف ويقتضي الجري العملي نحوه ، لأن عدم الوجوب يقتضي الرخصة الشرعية في الفعل ، وهي ليست حاصلة بنفس الشك وجدانا ، ولذلك كان استصحاب عدم الوجوب حاكما على البراءة العقلية والشرعية ، لأن البراءة لا تقتضي أزيد من عدم العقاب وعدم تنجز الواقع. وأما الرخصة الواقعية فلا يكاد تثبتها البراءة ، بخلاف استصحاب عدم الوجوب ، وأين هذا من استصحاب عدم الحجية الذي لا يترتب عليه أثر إلا ما كان حاصلا بنفس الشك ، فتأمّل. (1)أقول : لو كان أثر الحجية منحصراً بجواز التعبد لا شبهة فى أنّ هذا الجواز منوط بالعلم بها، فقبل العلم يحرم التعبد به بمقتضى كلامه؛ وحينئذ يتوقف الأثر على الإستصحاب كي يوجب له العلم بالحجية، والإستصحاب أيضاً ينوط بهذا الأثر ، فيدور؛ وحينئذ لا يرفع هذه الغائلة إلا بدعوى كفاية اقتضاء الأثر في المستصحب بلا احتياج إلى فعليته؛ ولازمه حينئذٍ كفاية نفى المقتضى فى طرف استصحاب عدمه بلا احتياج إلى أثر آخر، كما هو فى استصحاب الوجوب ونفيه - على ما أسلفناه ومن هذا البيان ظهر أيضاً وجه جريان الأمارة على عدم الحجية، شكر اللّه سعيه في هذا التعب العظيم ! .(2)

ص: 129


1- 1 - وجهه : هو أنه قد يختلج في البال : أن المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية يقتضي المنع عن جريان استصحاب بقاء الحجية عند الشك في نسخها ، لأن استحالة التعبد بأحد النقيضين يلازم استحالة التعبد بالنقيض الآخر ، وإن كان يمكن منع الملازمة ، فان المسلم من الملازمة هو أن القدرة على أحد النقيضين يلازم القدرة على النقيض الآخر ، وأما التعبد بأحد النقيضين فلا يلازم التعبد بالآخر ، إذ قد لا يكون محل للتعبد بأحدهما - للزوم اللغوية أو غير ذلك - دون التعبد بالآخر
2- . وقد يختلج في البال أيضاً أنّ ذلك يقتضى عدم جواز قيام الأمارة المعتبرة على عدم حجية أمارة، فانّ المجعول في باب الأمارات وإن لم يكن هو البناء العملى بل نفس الوسطية في الإثبات، إلا أنه لابد وأن يترتب على مؤدى الأمارة أثر عملى ولو بألف واسطة ليصح التعبد بها؛ والمفروض أنه لا يترتب على عدم الحجية الواقعية أثر عملى، بل الأثر مترتب على نفس عدم العلم بالحجية، وهو حاصل قبل قيام الأمارة المعتبرة على ذلك . ولا يدفع هذا الإشكال مجرد كون الأمارة مثبتة لمؤداها الواقعى لأنّ المفروض أن المؤدى ليس موضوعاً للأثر؛ فحال الأمارة القائمة على عدم حجية أمارة كحال الأمارة القائمة على موضوع لم يترتب عليه أثر عملى أصلاً ولو بألف واسطة. ولا يقال: إنّه بعد قيام الأمارة على عدم الحجية يحصل العلم بعدم الحجية والعلم بعدم الحجية كالشك فيها يكون موضوعاً لأثر حرمة التعبد، فانّ العلم بعدم الحجية إنما يحصل بعد قيام الأمارة والتعبد بها، والمفروض أنه في المرتبة السابقة على قيام الأمارة تحقق موضوع الأثر، فلا يكون مجالاً للتعبد بها، فتأمل جيداً (منه).

وأمّا ما أفاده قدس سره ثانيا : من أن حرمة التعبد بالأمارة كما يكون أثرا للشك في حجيتها كذلك يكون أثرا لعدم حجيتها واقعا ، ففي ظرف الشك يجرى كل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة له ، ويقدم الاستصحاب لحكومته عليها.

ففيه : أنه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر في عرض الواقع (1). مع أنه على هذا الفرض لا يجرى الاستصحاب أيضا ، لأن الأثر

ص: 130


1- أقول إذا فرض كون الواقع مقتضيا لشئ والشك به مانعا عن ترتبه ، نظير وجوب الامتثال بالنسبة إلى الوجوب وأمثاله ، فهل لك محيص من الالتزام بنفي الأثر المترتب على الأعم من عدم المقتضى ووجود المانع؟ وفي المقام « استاذنا » لا يريد إلا هذا ، فلا ترمه بعدم المعقولية. ثم بعد تسليم مدعاه ليس لك أن تنكر الإستصحاب، لأنّ ترتب الأثر علی الشك في عرض ترتب الإستصحاب عليه؛ و بعد ذلك نقول: إنّ الأمر يدور في تطبيق الإستصحاب أو تطبيق كبری هذا الأثر بين التخصيص والتخصص ، لأن بجريان الاستصحاب يرتفع موضوع هذه الكبرى ، فإنه مبنى على عدم جريان الاستصحاب بمخصص خارجي ، وإلا لا يصلح هذه الكبرى لتخصيصه ، لأنه معلق على عدم جريانه. ولئن شئت قلت: إنّ لسان الإستصحاب ينفى موضوع هذه الكبرى فكان ناظراً إليه ؛ بخلاف لسان الكبرى، فانه ليس لسانه نفى موضوع الإستصحاب، بل جريانه موجب للغوية الإستصحاب، فالإستصحاب من الأول مانع عن جريانها؛ فتدبر. ولئن شئت قلت: إنّ نتيجة الإستصحاب ترتب الأثر على عدم المقتضى ونتيجة القاعدة ترتب العدم على المانع، وباعترافه ترتب العدم على عدم المقتضى مقدم على الترتب على المانع.

يترتب بمجرد الشك ، لتحقق موضوعه ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لانه لا تصل النوبة إلى إثبات بقاء الواقع ليجري فيه الاستصحاب ، فإنه في المرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه الأثر ، فأي فائدة في جريان الاستصحاب؟.

وما قرع سمعك ، من أن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة المضروبة لحال الشك ، فإنما هو فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة - كقاعدة الطهارة والحل واستصحابهما - فان القاعدة لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية (1) بل مفادها ليس إلا ترتيب آثار الطهارة والحلية : من جواز الاستعمال وحلية الأكل ونحو ذلك ، بخلاف الاستصحاب ، فان مفاده بقاء الطهارة والحلية الواقعية ، وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلية الأكل من آثار اخر ، وعلى ذلك يبتني جواز الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شك في حليته إذا كان يجرى في الحيوان استصحاب الحلية - كما إذا كان غنما فشك في مسخه إلى الأرنب - وعدم جواز الصلاة في

ص: 131


1- أقول : باللّه! لو لم تثبت قاعدة الطهارة الطهارة الواقعية التعبدية يلزم عند العلم بنجاسة الماء المتوضى منه ، إما الحكم بصحة الوضوء واقعا أو عدم صحة الوضوء بمثل هذا الماء ، وهو كما ترى!. وجه الملازمة: أنّ موضوع صحة الوضوء واقعاً، إما الطهارة الواقعية أو الأعم منها ومن الطهارة الظاهرية؛ فعلى الأول : فلا يجوز الوضوء به ، لعدم إحراز الطهارة الواقعية. وعلى الثانى يلزم عدم اقتضاء كشف نجاسته لبطلان وضوئه حين جريان القاعدة فيها ؛ وحينئذ لا محيص إلا أن تلتزم بأن مفاد قاعدة الطهارة أيضاً إثبات الطهارة الواقعية؛ وحينئذ من أين وجه تقدم الإستصحاب على القاعدة؟ فتدبر.

أجزائه إذا لم يجرى فيه استصحاب الحلية وإن كان تجرى فيه أصالة الحل ، فإنها لا تثبت الحلية الواقعية وكون الحيوان من الأنواع المحللة ، مع أن جواز الصلاة قد رتب على الحلية الواقعية.

وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع استصحاب بقاء التكليف ، فإنه في المورد الذي تجرى فيه قاعدة الاشتغال لا يجرى فيه الاستصحاب ، وفي المورد الذي يجرى فيه الاستصحاب لا تجري فيه القاعدة ، فان القاعدة إنما تجرى في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض أطرافه عن الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب يجرى عند الشك في فعل المأمور به.

فما ربما يتوهم من عبارة الشيخ قدس سره في المقام : من عدم جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في فعل المأمور به ، فاسد ، فتصريحه في مبحث الاشتغال بجريان استصحاب بقاء التكليف عند الشك في إتيان المأمور به وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأين هذا مما نحن فيه مما كان الأثر المترتب على الاستصحاب عن الأثر المترتب على الشك!؟ فالإنصاف : أنه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها ، فتأمل فيما ذكرناه جيدا.

المبحث الثالث

اشارة

بعد ما عرفت : من أن مقتضى القاعدة عدم حجية ما شك في حجيته من الطرق والأمارات إلا أن يقوم دليل بالخصوص على حجية أمارة خاصة أو على حجية كل أمارة تفيد الظن ، فلابد من صرف عنان الكلام إلى ما دل الدليل على اعتباره ، أو قيل باعتباره من الأمارات.

ولا يخفى : أن البحث عن ذلك من أهم المباحث التي ينبغي تنقيحها ، خصوصا بالنسبة إلى من لم يلتزم بحجية الظن المطلق ، فإنه لابد له من إقامة الدليل على حجية ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب من حيث

ص: 132

الظهور والصدور (1) ولا يغنى البحث في حجية الظهور عن البحث في جهة الصدور (2) بل لابد من إثبات حجية كل منهما ، ولذلك عقد الأصحاب بحثا في حجية الظواهر وبحثا آخر في حجية الأخبار (3) وعلى كل حال : ينبغي عقد الكلام في مقامين :

المقام الأول : في بيان الأمارات قام الدليل على اعتبارها بالخصوص أو ما قيل بقيامه عليه.

المقام الثاني : في بيان الأدلة التي توهم دلالتها على اعتبار كل أمارة مفيدة للظن.

أما المقام الأوّل ففيه فصول :

الفصل الأول: في حجية الظواهر
اشارة

في حجية الظواهر (4)

اعلم : أن البحث في باب الظهورات تارة : يكون صغرويا ، كالبحث

ص: 133


1- أقول : بل وجهة الصدور أيضا.
2- أقول : وبالعكس أيضا.
3- أقول : ويقتضي بحثا آخر في نفي جهة التقية أو التورية في كلامه أيضا الذي يسمى بجهة الصدور ، كما أشرنا.
4- 4 - أقول : ينبغي أولا أن يتكلم بأن ما هو المرجع عند العقلاء وكان بنائهم على العمل به هو أصالة الحقيقة أو العموم والإطلاق أو أصالة عدم القرينة على خلاف وضع اللفظ ، أو أن مبنى بنائهم على ما انعقد عليه ظهور اللفظ ووجهة الكلام ، وتظهر الثمرة في صورة اتصال الكلام بما يصلح للقرينية المانعة عن انعقاد الظهور ، فإنه حينئذ لا مجرى للأصل الآخر ، بخلاف الأصول السابقة ، كما أنه في صورة انعقاد الظهور بالقرائن العامة أو الخاصة - كالوقوع عقيب الحظر مثلا - لا يبقى مجال لأصالة الحقيقة وكان لأصالة الظهور مجال. نعم : الذي يسهل الخطب إمكان دعوى اليقين بأن بنائهم في باب الألفاظ على الأخذ بما عليه وجهة الكلام من الظهور ، لا بصرف احتمال الحقيقة بلا ظهور. و من هذه الجهة أوردنا علی القوم بأنّ البحث في أنّ التبادر لابد وأن يكون مستنداً إلی حاق اللفظ، مستدرك. نعم: بناء علی كون مدار العقلاء علی أصالة الحقيقة، كان له مجال. ولكن أني لهم باثباته؛ فتدبر جيداً.

عن الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، من وقوع الأمر عقيب الحظر ، والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك مما يوجب انعقاد الظهور لمفردات الكلام أو للجملة التركيبية - أي ما يوجب تعيين الظهور وتشخيصه - فالبحث عن جميع ذلك يكون بحثا عن المبادئ ، كالبحث عن الرواة وسلسلة السند.

وأخرى : يكون كبرويا كالبحث عن حجية الظهور بعد فرض انعقاده للكلام ، فان البحث عن حجية الظهور يكون من المباحث الأصولية ، لا من المبادئ - كما توهم - بتخيل أن البحث عن دليلية الدليل لا يرجع إلى البحث عن العوارض ، بل من المباحث الراجعة إلى أصل تحقق الموضوع.

ولا يخفى ما فيه ، لما تقدم ( في صدر الجزء الأول من الكتاب ) من أن الموضوع في علم الأصول ليس هو خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها لتختص مسائل علم الأصول بما يكون البحث فيه عن عوارض الأدلة الأربعة ، بل البحث عن كل ما يقع في طريق الاستنباط يكون بحثا أصوليا ، لأن مسائل علم الأصول هي الكبريات التي تقع في طريق الاستنباط ، ومن أوضحها مسألة حجية الظواهر وحجية الخبر الواحد.

ثم إن المباحث التي ترجع إلى الصغرى - منها : ما تقدم البحث عنه في باب الأوامر والنواهي والعام والخاص ، كالبحث عن وقوع الأمر عقيب الحظر والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي تقتضي

ص: 134

ظهور الكلام على خلاف ما كان ظاهرا فيه لولا احتفافه بتلك القرائن.

ومنها : ما يأتي البحث عنه بعد ذلك ، كالبحث عن حجية قول اللغوي.

والمقصود بالكلام فعلا هو البحث عن الكبرى ( وهي حجية الظواهر ) ونعني بحجية الظواهر الحكم بأن ما تكفله الكلام من المعنى الظاهر فيه هو المراد النفس الأمري والبناء على أن الكلام بظاهره قد سيق لإفادة المراد ، ولا إشكال في أن بناء العقلاء على ذلك في الجملة ، بل عليه يدور رحى معاشهم ونظامهم ، فإنه لولا اعتبار الظهور والبناء على أن الظاهر هو المراد لاختل النظام ولما قام للعقلاء سوق.

ومن المعلوم : أنه ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بذلك ، بل لمكان أنهم لا يعتنون باحتمال عدم إرادة المتكلم ما يكون الكلام ظاهرا فيه ، لأن احتمال إرادة خلاف الظاهر إنما ينشأ من احتمال غفلة المتكلم من نصب قرينة الخلاف ، أو احتمال عدم إرادة استيفاء مراده من الكلام ، ونحو ذلك مما يوجب انقداح احتمال عدم إرادة المتكلم ظاهر الكلام ، وكل هذه الاحتمالات منفية بالأصول العقلائية التي جرت عليها طريقتهم ، والشارع قررهم عليها ولم يردع عنها ، بل اتخذها طريقة له أيضا لأنه أحدهم ، فإنه ليس للشارع طريق خاص في بيان مراداته ، بل يتكلم على طبق تكلم العقلاء ، بل لا يتطرق بعض الاحتمالات التي توجب الشك في إرادة ظاهر الكلام في كلامه كاحتمال الغفلة عن نصب القرينة - فلم يبق إلا احتمال عدم إرادة استيفاء تمام مراده من الكلام وهو منفى بالأصل.

وبالجملة : لا إشكال في اعتبار الظواهر ، من غير فرق بين ظواهر كلام الشارع وغيره ، ومن غير فرق بين ظواهر الكتاب العزيز وغيره ، وإن نسب إلى الأخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز ، واستدلوا على ذلك بوجهين :

ص: 135

الأول : العلم الإجمالي بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية ، والعلم الإجمالي كما يمنع عن جريان الأصول العملية يمنع عن جريان الأصول اللفظية : من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات.

الثاني : الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب.

ولا يخفى ما في كلا الوجهين.

أما الأول : فلان العلم الإجمالي ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها (1) وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث العام والخاص.

وأما الثاني : فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة بل متواترة ، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين : طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأي والاستحسانات الظنية ، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب في بيتهم ( صلوات اللّه عليهم ).

ولا يخفى : أن مفاد كل من الطائفتين أجنبي عما يدعيه الأخباريون.

أمّا الطائفة الأولى : فلأن العمل بالظاهر لا يندرج في التفسير ، لأنه

ص: 136


1- أقول : هذا المقدار لا يفي بجواب الشبهة ، لما سيأتي في محله ( أن شاء اللّه تعالى ) من أن العلم التفصيلي اللاحق لا يوجب حل العلم الإجمالي السابق ، فلا محيص حينئذ أن يجاب بأن هذا العلم مقرون بعلم آخر ، وهو العلم بمقدار من القرائن لو تفحصنا عنها لظفرنا بها ، فإن مثل هذا العلم يوجب الفحص عن كل ظاهر ، فإذا ظفرنا على قرينة على الخلاف نقطع بخروج ذلك الظهور عن دائرة العلم الصغير الموجب لانحلال العلم الكبير من الأول ، كما لا يخفى.

عبارة عن « كشف القناع » فلا يعم الظاهري الذي لا قناع عليه ، خصوصا بعد تقييد التفسير في جملة من الروايات بالرأي الذي يحتاج إلى إعمال الاستحسانات الظنية ، ولا إشكال أن سوق الروايات يقتضي وحدة المراد منها وأنها وردت لبيان إفادة معنى واحد ، من غير فرق بين ما أطلق في التفسير ، وبين ما قيد بالرأي.

وأمّا الطائفة الثانية : فلأن المدعى هو العمل بظاهر الكتاب بعد مراجعة ما ورد عن أهل البيت من التفسير وبعد الفحص عن المقيدات والمخصصات ، فإنه لا يدعى أحد جواز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عنهم علیهم السلام .

هذا مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار - لا يبعد أن تكون متواترة معنى - من جواز العمل بالكتاب والتمسك به والرجوع إليه وعرض الأخبار المتعارضة عليه والأخذ بما وافقه الكتاب وطرح المخالف وغير ذلك مما يظهر منه المفروغية عن صحة التمسك بظاهر الكتاب ، فراجع أخبار الباب وتأمل فيها.

والشيخ قدس سره وإن أطال الكلام في مقالة الأخباريين وكلام ( السيد الصدر ) إلا أن الإنصاف : أن المراجعة في أخبار الباب تغنى عن إطالة الكلام في فساد مقالة الأخباريين ، فالتفصيل بين ظاهر الكتاب وغيره مما لا سبيل إليه.

نعم : في باب الظواهر تفصيل آخر محكى عن المحقق القمي قدس سره لعله أقرب من تفصيل الأخباريين ، وهو التفصيل بين من قصد إفهامه من الكلام وبين ما لم يقصد ، وحجية الظواهر تختص بالأول دون الثاني.

وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أنه تارة : يكون الغرض من الكلام إفهام كل من ينظر إليه أو يطرق سمعه من دون أن يقصد من الكلام

ص: 137

إفهام شخص خاص - كما هو الشأن في كتب التأليف والتصنيف والأسناد والسجلات الراجعة إلى الوصايا والأقارير والأوقاف وغير ذلك مما يكون يكون المقصود نفس مفاد الكلام من دون أن يخاطب به شخص خاص - ولا إشكال في اعتبار الظواهر في مثل ذلك وعليه جرت طريقة العرف والعقلاء. وأخرى : يكون الغرض من الكلام إفهام شخص خاص - كما لو كان الكلام في مقام الجواب عن سؤال سائل خاص - فللسائل الأخذ بظاهر الجواب دون غيره. أما السائل : فلأن الاحتمال الذي يحتمله في مقام التخاطب ليس إلا احتمال غفلة المتكلم عن نصب قرينة المراد ، وهذا الاحتمال منفى بالأصل ، وليس في البين احتمال آخر يحتمله المخاطب. وأما غير المخاطب : فلا ينحصر الاحتمال فيه باحتمال الغفلة ، بل في البين احتمال آخر ، وهو احتمال أن تكون بين السائل والمجيب قرينة حالية أو مقالية سابقة الذكر أو لاحقة الذكر معهودة بين المتكلم والمخاطب ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق بأن ظاهر الكلام هو المراد ، بل قد لا يحصل الظن بالمراد ، خصوصا بالنسبة إلى المتكلم الذي دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة عن الكلام ، وغالب الروايات التي بأيدينا تكون من هذا القبيل ، لأنها وردت أجوبة عن أسئلة لأشخاص خاصة ، فلا يجوز الاعتماد على ظواهرها ، خصوصا مع أن من عادة الشارع الاعتماد على القرائن المنفصلة - كما يظهر للمتتبع في الأخبار - فعلى هذا ينبغي أن تكون حجية الأخبار المودعة في الكتب من صغرويات حجية الظن المطلق بمعونة مقدمات الانسداد. هذا حاصل ما أفاده « المحقق القمي » فيما اختاره من التفصيل في حجية الظواهر بين المخاطب وغيره.

وأنت خبير بما فيه ، فان جميع المحتملات التي تقتضي عدم إرادة المتكلم ظاهر كلامه منفية بالأصول العقلائية (1) ولا اختصاص لاحتمال غفلة

ص: 138


1- 1 - أقول : ذلك صحيح لو كان نظر « المحقق » إلى احتمال وجود القرائن الخفية بينه ومخاطبه ، وأمّا لو كان نظره إلى عدم حجية الظهور إلا في صورة إحراز كون المتكلم في مقام تفهيم مرامه لكل أحد لا لشخص خاص - وإلا فلا مجال لغيره بحصول الظن بمرامه ولو نوعا الذي هو المدار في الدلالة التصديقية الذي هو موضوع الحجية لدى العقلاء - فلا يفي بدفعه أصالة عدم القرينة الخفية لإثبات الحجية ، كما لا يخفى. وحينئذ لا محيص من أن يقال : إنه يكفي لحجيته محض إحراز كونه في مقام التفهيم ولو لشخص خاص بلا احتياج إلى إحراز كونه في مقام تفهيم الكل ، لبناء العقلاء على إلزام الطرف بسماع الغير كلامه.

المتكلم عن نصب قرينة المراد ، بل احتمال نصب القرينة السابقة أو اللاحقة أو احتمال قرينة الحال - وغير ذلك مما يفرض من الاحتمالات - كلها مرجوحة في نظر العرف منفية بأصالة العدم التي عليها بناء العقلاء ، من غير فرق بين المخاطب وغيره.

نعم : احتمال القرينة المنفصلة بالنسبة إلى المتكلم الذي من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة يكون راجحا ، إلا أن ذلك يكون إنما يقتضي وجوب الفحص عنها ، لا سقوط ظاهر كلامه عن الاعتبار ، مع أن نسبة الأخبار إلينا نسبة كتب التأليف والتصنيف ، فان نقلة الروايات في مبدء السلسلة غالبا كانوا هم المخاطبين بالكلام - وقد اعترف بأن ظاهر الكلام حجة في حقهم - وبعد ذلك أودعت تلك الروايات في الأصول ثم في الجوامع والكتب ، ولابد وأن يكون الراوي عن الإمام علیه السلام يودع أو ينقل ما سمعه من الكلام بما احتف به من قرائن الحال والمقال ، لأن الغرض من نقله هو إفهام الغير ، فتكون الكتب المودعة فيها الروايات ككتب التأليف والتصنيف التي اعترف بحجية ظواهرها أيضا لكل من نظر فيها.

فالإنصاف : أنه لا فرق في حجية الظواهر بين ظواهر الأخبار وغيرها ، وبين من قصد إفهامه وغيره ، هذا كله فيما يتعلق بحجية الظواهر من المباحث.

وأما المباحث المتعلقة بتشخيص الظاهر وتعيين أن اللفظ الكذائي ظاهر في أي معنى :

فخلاصة الكلام فيها : هو أن كل كلام يتضمن النسبة

ص: 139

التامة الخبرية والإنشائية له دلالة تصورية ودلالة تصديقية ، ونعني بالدلالة التصورية دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية والعرفية ، وبالدلالة التصديقية دلالة جملة الكلام على ما يتضمنه من المعنى ، فقد تكون دلالة الجملة على طبق دلالة المفردات - كما إذا لم يحتف بالكلام قرينة المجاز والتقييد والتخصيص ونحو ذلك مما يوجب صرف مفاد جملة الكلام عما يقتضيه مفاد المفردات - وقد يكون مفاد دلالة الجملة مغايرا لمفاد دلالة المفردات - كما إذا احتف بالجملة ما يوجب صرفها عما يقتضيه مفاد المفردات - ولذا كانت الدلالة التصديقية تتوقف على فراغ المتكلم من كلامه ، فان لكل متكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن ، فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد لكلامه الدلالة التصديقية ، فإنه لا يصح الأخبار بما قال ونقل كلامه بالمعنى أو ترجمته بلغة أخرى إلا بعد الفراغ من الكلام ، حتى يصح ضم أجزاء الكلام بعضها مع بعض وإلحاق ذيله بصدره ليخبر عن مفاد الجملة ، فلا يصح الإخبار بأن المتكلم قال ، « رأيت حيوانا مفترسا » عقيب قوله : « رأيت أسدا » إلا إذا سكت المتكلم ولم يلحق « أن يرمى » بقوله « رأيت أسدا » وتستتبع هذه الدلالة التصديقية الدلالة على أن الظاهر هو المراد الذي كان مبحوثا عنه سابقا ، فان التصديق بأن الظاهر هو المراد إنما يكون بعد فرض انعقاد الظهور للكلام ليصح الإخبار بما قال ، فيقال : قال كذا وما قاله هو المراد.

وهذا بخلاف الدلالة التصورية ، فإنه في حين تشاغل المتكلم بالكلام تكون لمفردات كلامه هذه الدلالة ، فان السامع للكلام العارف بالأوضاع ينتقل ذهنه إلى مفاد المفردات ، وإن كان المتكلم بعد متشاغلا بالكلام ، وذلك واضح.

ثم إن المتكفل لإثبات مفاد الدلالة التصديقية التركيبية إن كان مفادها على خلاف ما يقتضيه مفاد المفردات إنما هو القرائن التي تحتف

ص: 140

بالكلام (1) فإنها هي المرجع في تشخيص الظهورات للجمل التركيبية ، وهي قد تكون من القرائن العامة المضبوطة ، كوقوع الأمر عقيب الحظر أو توهم الحظر وكالاستثناء عقيب الجمل المتعددة وكتعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي ادعى أنها توجب انعقاد الظهور للكلام على خلاف ما يقتضيه لولا احتفافه بتلك القرينة ، وقد تقدم البحث عنها في الجزء الأول والثاني من الكتاب ، وقد تكون من القرائن الخاصة في الموارد الجزئية ، وهي ليست تحت ضابط كلي ، بل تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات والمتكلمين.

والمتكفل لإثبات مفاد الدلالة التصورية لمفردات الكلام هو الأوضاع اللغوية إذا لم تكن المعاني مرتكزة في أذهان أهل العرف ، وإلا فالعبرة عليه وإن خالف الأوضاع اللغوية.

واستكشاف الأوضاع اللغوية إنما يكون من قول اللغوي ، فان أفاد قوله العلم بالوضع فهو ، وإلا ففي حجية الظن الحاصل من قوله إشكال : وإن

ص: 141


1- أقول : لا يخفى أن كل لفظ عند تجرده عن القرينة المتصلة به له دلالة على المعنى ، بنحو يكفي فيه العلم بوضعه ، وهو الذي عبارة عن انسباق المعنى إلى الذهن من دون احتياج إلى إحراز كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة ، وهو المعبر عنه بالدلالة التصورية ، من دون فرق فيه بين دلالة مفردات الكلام أو جمله ، ولا بين مادة الكلام أو هيئته ، كما أنه مع اتصال الكلام بالقرينة أيضا ، ربما يتحقق هذه الدلالة التصورية كما لو صدر ذلك من النائم أو الغافل ، وأيضا لكل من مادة القضية وهيئته أو المفرد وجملته دلالة أخرى تصديقية ، وهي التي تحتاج إلى إحراز كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة ، ولا يتصور مثله من النائم والغافل ، وربما يكون مركز البحث في حجية الظواهر هذه الدلالة دون الأولى. و ربما يستنتج من مثل هذه الجهة فى مسألة جواز التمسك بالعام فى الشبهات المصداقيه جوازاً أو منعاً كما هو محرر في محله؛ وحينئذٍ ما أدرى هذا المحقق البارع من أين جاء بهذا الاصطلاح في الدلالة التصورية و التصديقية ؟! ولم التزم بأنّ المفردات الكلام ولو فى طى الكلام - ظهور على خلاف جملة الكلام، إذ لو اريد من الجملة مجموع كلامه هيئة ومادة فالمادة لا تخرج عن هذه ذلك ، فكيف لها ظهور وليس للجملة ظهور، وإن اريد من الجملة مفاد الهيئة بخصوصه فالتفكيك بين الظهورين فى غاية المتانة ؛ ولكن ذلك في فرض عدم اتصال المادة بالقرينة على خلافها، وهو خلاف فرضه، كما لا يخفى.

كان قد حكى الإجماع على اعتبار الظن الحاصل من قول اللغوي بالخصوص ، لا من باب الظن المطلق.

وقد يستدل على ذلك بما دل على اعتبار قول أهل الخبرة ، ولا ينبغي الإشكال في الكبرى ، فان الرجوع إلى أهل الخبرة والاعتماد على قولهم مما قد استقرت عليه طريقة العقلاء واستمرت عليه السيرة ولم يردع عنها الشارع ، ولا يعتبر في الرجوع إلى قولهم شرائط الشهادة : من التعدد والعدالة ، بل ولا الإسلام ، فان اعتبار قولهم ليس من باب الشهادة حتى يحتاج إلى ذلك ، لأن الشهادة هي الأخبار عن حس ، وقول أهل الخبرة يتضمن إعمال الرأي والحدس (1) فهو باب آخر غير باب الشهادة ، ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو ما إذا حصل من قولهم الوثوق لا مطلقا ، إذ ليس بناء العقلاء على التعبد بقول أهل الخبرة مع الشك وعدم الوثوق ، بل التعبد إنما هو من وظائف المتشرعة ، وليس بناء العقلاء في شيء من المقامات على التعبد ، فلابد من حصول الوثوق من قول أهل الخبرة وإن لم يجتمع فيه شرائط الشهادة ، إلا إذا كان في مورد الدعوى والخصومة ، فإنه لا بد من التعدد والعدالة ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنما أقضى بينكم بالبينات والأيمان » (2) وغاية ما يقتضيه الدليل على اعتبار قول أهل الخبرة هو أن يكون حدسهم كحسهم في الاعتبار ، وهذا لا ينافي اعتبار اجتماع شرائط الشهادة : من التعدد والعدالة في خصوص

ص: 142


1- أقول : إذا كان حدسه قريبا بالحس ، فلا غرو في إدخاله بباب الشهادة ولا يكون هذا الفرق بفارق. نعم : لو كان حدسه حجة ولو لم يكن قريبا بالحس ، فامتيازه عن باب الشهادة صحيح ، ولكن فيما أفيد بعد ذلك من إمكان الاكتفاء في فصل الخصومة بصورة التعدد والعدالة نظر ، إذ لنا منع اعتبار قولهم المستند بالحدس محضا. وحجية قول الفقيه للعامي بدليل مخصوص ، لا من جهة كونهم أهل الخبرة ، وحينئذ فالمتيقن من حجيته اشتماله على شرائط الشهادة لا مطلقا.
2- الوسائل الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث 1.

باب الخصومة (1) كما عليه الفتوى في باب خيار العيب والتقويم وغير ذلك.

وأما الصغرى : ( وهي كون اللغوي من أهل الخبرة بمعاني الألفاظ وتعيين حقايقها ومجازاتها ) فللمنع عنه مجال ، لأن أهل اللغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات ، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي بل هو من الأمور الحسية. نعم : في استخراج المعنى الموضوع له من بين المعاني المستعمل فيها اللفظ قد يحتاج إلى إعمال نحو من الرأي والاجتهاد ، وبهذا الاعتبار يمكن اندراج قول اللغوي في ضابط أهل الخبرة ، إلا أن الغالب في اللغة هو بيان موارد الاستعمالات ، مع أنه لو فرض أنه عين المعنى الموضوع له ففي حصول الوثوق من قول لغوي واحد محل منع.

فالإنصاف : أن كون اللغوي من أهل الخبرة واعتبار قوله لذلك دون إثباته خرط القتاد!.

وقد يستدل أيضا على اعتبار قول اللغوي بالانسداد الصغير ، كما قربه الشيخ قدس سره بعد ما منع عنه أوّلاً.

ولا يخفى : أن انسداد باب العلم في بعض الموضوعات التي يتوقف عليه العلم بالحكم إن أوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام بحيث استلزم منه الخروج عن الدين أو العسر والحرج عند إعمال الأصول النافية أو العمل بالاحتياط ، فهو يرجع إلى الانسداد الكبير ، كما لو فرض انسداد باب العلم بوثاقة الرواة وانحصر الطريق بالظنون الحاصلة من توثيقات أهل الرجال ، فان انسداد باب العلم في ذلك يوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام ، لأن غالب الأحكام إنما تثبت بأخبار الآحاد ، فانسداد باب العلم بوثاقة الرواة

ص: 143


1- أقول : في الاكتفاء بأخبار الحدس المحض في باب الخصومة نظر ، من دون فرق بين خيار العيب وغيره ، إلا إذا كان حدسه قريبا بالحس ، كما أشرنا في الحاشية السابقة.

يستلزم انسداد باب العلم في معظم الأحكام ويرجع إلى الانسداد الكبير ، وسيأتي البحث عنه.

وإن كان انسداد باب العلم في بعض ما يتوقف عليه العلم بالحكم لا يوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام وإن استلزم انسداد باب العلم في جملة من الأحكام بحيث لا يلزم من الرجوع إلى الأصول والعمل بالاحتياط فيه محذور الخروج عن الدين أو العسر والحرج ، فهذا الانسداد مما لا أثر له ولا يوجب اعتبار الظن المطلق في تلك الأحكام ، بل لابد من الأخذ بالقواعد.

وحينئذ ينبغي البحث عن أن انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات هل يوجب انسداد باب العلم بمعظم الفقه أولا؟ الإنصاف : انه لا يوجب ذلك ، لأن الحاجة إلى قول اللغوي أقل قليل ، فان الغالب انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ ، فعدم العمل بالظن فيما لا يعلم والأخذ بالاحتياط لا يوجب المحذور المذكور.

والألفاظ التي ذكرها الشيخ قدس سره من انسداد باب العلم فيها - مع أنها ليست بتلك المثابة من الكثرة - أغلبها يكون لمعانيها قدر متيقن معلوم ، والزائد المشكوك ليس بشيء يقتضي انسداد باب العلم بمعظم الفقه ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في مبحث الانسداد.

وينبغي ختم الكلام في باب الظواهر بالتنبيه على أمور :

الأوّل : لو حصل الوثوق من قول اللغوي بمعنى اللفظ ، فهل يصير ذلك منشأ لظهور اللفظ في المعنى كما لو حصل العلم به؟ أو أنه لا يصير منشأ لذلك ، بل أقصاه أن يكون ذلك من الظن الخارجي الذي يوجب الظن بالحكم؟.

الأقوى أنه يصير منشأ للظهور (1) وليس من الأمور الخارجية التي لا

ص: 144


1- أقول : دعوى موجبية الوثوق بالوضع للجزم بالظهور غلط ، لأنه يرجع إلى دعوى كون الظن بالعلة موجباً للقطع بالمعلول. نعم : له دعوى حجية هذا الوثوق الموجب للوثوق بالدلالة وحجيته ، ولكن مرجعه إلى دعوى حجية الوثوق بالدلالة لدى العقلاء ودعواه على عهدة مدعيه! وحدسي أن القائل المزبور أراد من الظهور ما يفيد الظن بالمراد ، لا انسباق المعنى إلى الذهن ، كما في المعاني المتبادرة من ألفاظها وهو كما ترى!.

توجب انعقاد الظهور ، فإنه لو كان هذا الوثوق حاصلا قبل إلقاء الكلام إلى المخاطب لما كاد يشك في كونه موجبا لظهور الكلام ، كما لو فرض أنه حصل الوثوق من قول اللغوي قبل نزول آية التيمم بأن معنى « الصعيد » هو خصوص التراب ، ثم نزل قوله تعالى : « فتيمموا صعيدا طيّباً » فإنه لا إشكال في أن الوثوق السابق يوجب ظهور لفظ « الصعيد » في خصوص التراب ، فكذا الحال فيما لو حصل هذا الوثوق بعد نزول الآية ، فإنه لا يعقل الفرق في ذلك بين حصول الوثوق قبل النزول أو بعده ، كما لا يخفى.

الثاني : قد تقدم أنه لا يجوز الأخذ بظاهر كلام من كان من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة قبل الفحص عنها ، وأما بعد الفحص فيجب الأخذ بالظهور ولو لم يحصل الوثوق بإرادة الظاهر ، كما لا يبعد عدم حصوله في الغالب بالنسبة إلى الروايات ، لقوة احتمال أن تكون في البين قرينة منفصلة تدل على إرادة خلاف الظاهر وقد اختفت علينا لدواعي الاختفاء ، إلا أن ذلك لا يوجب التوقف في متابعة الظاهر بعد الفحص ، ولا ينافي هذا ما تقدم : من أن بناء العقلاء ليس على التعبد بالظواهر ولو لم يحصل لهم الوثوق ، لأنه فرق بين ما إذا تعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم من ظاهر كلامه فهذا لا يكون إلا بعد الوثوق بأن الظاهر هو المراد - وعليه بناء العقلاء -(1) وبين ما

ص: 145


1- أقول : لو كان مدار العقلاء على الوثوق الشخصي في معاشهم الذي تعلق غرضهم بالوصول إلى الواقع لا نسد أمر المعاش لديهم ، إذ لازمه عدم ايصال أموالهم بالبحر والبر للتجارة. ودعوى وثوقهم الشخصي في هذه الموارد خلاف الإنصاف ، فلا محيص من دعوى كون مدارهم على الوثوق النوعي ، وفي مثله لا يبقى مجال الفرق بين معاشهم ومعادهم ، فما هو حجة في معاشهم هو المرجع عندهم في احتجاجهم لمواليهم ، كما لا يخفى.

إذا كان الغرض الإلزام والالتزام بالظواهر في مقام الحجة والاحتجاج ، فإنه في مثل ذلك لابد من الأخذ بظاهر الكلام ولو لم يحصل الوثوق بكونه هو المراد ، إذ ليس للمولى مؤاخذة العبد على العمل بالظاهر عند عدم إرادته ، كما أنه ليس للعبد ترك العمل بالظاهر بمجرد احتمال القرينة المنفصلة ، وهذا ليس تفصيلا في بناء العقلاء ، حتى يقال : إنه لا معنى للتفصيل في بناء العقلاء ، بل هذا التفصيل اقتضاه دليل الحجية وطريقية الاحتجاج بين الموالى والعبيد وما يلحق بذلك مما كان في البين إلزام والتزام ، كالكلام الصادر بين الوكيل والموكل ونحو ذلك.

ويأتي لذلك مزيد توضيح في « الجزء الرابع ».

الثالث : قد عرفت أن العبرة في الظهور هو ظهور الجملة التركيبية ، ولا عبرة بظهور المفردات ، إذ الكاشف عن المراد هو جملة الكلام بما له من النسب وبما له من الملحقات والقرائن المحتفة بالكلام ، فلو فرض أن ظهور الجملة كان على خلاف ما يقتضيه وضع المفردات ، كان اللازم هو الأخذ بظهور الجملة ، بل لا يجوز الأخذ بما يقتضيه وضع المفردات إذا احتف بالكلام ما يوجب إجمال الجملة وعدم ظهورها في المراد ، وذلك كله واضح لا يحتاج إلى بيان.

الفصل الثاني: في حجية الإجماع المنقول

وكان ينبغي تأخير البحث عنه عن حجية الخبر الواحد ، فإنه لا دليل على حجية الإجماع المنقول إلا توهم اندراجه في الخبر الواحد فيعمه أدلته ، ولكن الشيخ قدس سره قدم البحث عنه ، ونحن أيضا نقتفي أثره. وتنقيح البحث في ذلك يستدعى تقديم أمور :

ص: 146

الأمر الأول ، يعتبر في الخبر أن يكون المخبر به من الأمور المحسوسة بأحد الحواس الظاهرة (1) سواء في ذلك باب الخبر الواحد وباب الشهادة ، فإنه يعتبر في

ص: 147


1- أقول : قبل الخوض في المرام ينبغي بيان الخبر المستند إلى الحس أو ما هو القريب منه من الحدس وما هو حدسي محض ، فنقول : إنه لا إشكال في المخبر به إن كان علم المخبر بمثله مستندا إلى أحد حواسه الخمسة بلا واسطة ، فهو حسي محض ، كما أنه لو استند إلى مجرد علمه الناشئ من قرائن شخصية والمبادئ الحدسية المحضة - كالجفر والرمل والنوم وغير ذلك من حسن الظن بالمخبر من جهات عادية شخصية لا العادية النوعية - فهو أيضا من الحدسيات المحضة ، وأما إن كان مستندا إلى اللوازم المحسوسة العادية أو القرائن النوعية الملازمة مع المخبر به عادة ، فهو أيضا وإن كان المخبر به محرزا عند الخبر بحدسه ، ولكن حدسه هذا لما كان مستندا إلى اللوازم الحسية العادية كان من الحدسيات القريبة إلى الحس ، نظير الإخبار بالشجاعة وملكة العدالة وأمثالهما من لوازمها المحسوسة العادية وربما يكون ذلك أيضا ملحقا بالحس. وحينئذ فلو أخبر أحد إلى أحد بموت زيد مثلا ، فالمخبر الثاني تارة : يخبر عن إخبار مخبره ، فهو حسي محض لسماعه منه. وأخرى : يخبر عن نفس موت زيد الذي هو المخبر به لخبره ، ففي هذه الصورة تارة : يكون هذا الخبر عن علمه به بالموت من قرائن شخصية حصلت له من مبادئ حدسية - من مثل حسن ظنه بالمخبر له من القرائن الشخصية غير اللوازم الحسية العادية - فهذا الخبر حدسي. وأخرى : يخبر عن الموت بملاحظة حصول علمه به من ملازمته مع المخبر بنحو يقطع من المبادئ الحسية واللوازم العادية بمطابقة قوله للواقع، فمثل هذا الخبر أيضا من الحدسيات القريبة إلى الحس. وثالثة : يخبر بالموت لا من علمه الوجداني بوجود المخبر به خارجا ، بل من جهة علمه التعبدي من تصديقه لمخبره تعبدا بعدالته ، فهذا العلم التعبدي أيضا ناشئ عن مباد حسية - من إحراز صغراه حسا وكبراه أيضا بوجود دليله المحرز عنده سندا ودلالة بالحس لكونه نصا وكونه بوجدانه عادلا أو بالشياع الملازم عادة لصدقه ومطابقته للواقع- فهذا أيضا من الحدس القريب إلى الحس. نعم: لو فرض كون دليل التعبد أيضاً حدسياً - ولو من جهة انتهائه سنداً ودلالة إلى أدلة ظنية أو بناء عقل أو مجرد إمضائهم بقاعدة حدسية من حكمة أو جهة اخرى من القرائن الشخصية الموجبة للعلم بمطابقة بنائهم للواقع فهو أيضاً ينتهى بالأخرة إلى الحدس وإن كان بعض مباديه حسياً. و حيث ظهر ذلك، فنقول : إنّه لا إشكال في عدم وفاء دليل حجية خبر الواحد بأزيد من الحسيات أو القريبة إلى الحس؛ كما أنه مع الشك فى كونه حدسياً أم حسياً أيضاً يلحق بالحس. وحينئذ فنقول : الظاهر أنّ من كان فى زمان الغيبة الصغرى - كالسيد وأمثاله أمكن في حقهم أن دعوهم اتفاق تمام الامة بلفظ «الإجماع » الظاهر فيه بنحو يقتضى دخول الإمام فيهم مستنداً إلى أمر حسى، فلا بأس بأخذ خبره المحض احتمال حسيته ؛ كما أنّ من يرى خبر السيد ويخبر لنا خبر السيد عن نفسه أيضاً بوجدانه لكونه خبر حسى يحكى عن خبر حسى؛ كما أنه لو أخبر بمضمون خبر السيد من اتفاق الامة في عصر السيد مستنداً إلى خبر السيد المحرز عنده بالوجدان بضميمة ملازمة قول السيد مع ا اتفاق من فيهم الإمام بمقدمات حسية - نظرا إلى نص كلام السيد وإحراز عدالته بوجدانه أو بالشياع الملازم له عادة بضميمة إحراز عدم خطائه أيضا بمبادئ حسية من الملازمات العادية بين التفاته وعدم خطائه بوجه - تقبل ذلك أيضا ، لأنه من الحدس القريب بالحس؛ كما أنه لو لم يحرز الواقع بوجدانه بل أحرزه بدليل التعبد الشامل له بمقدمات وجدانية حسية من حيث دلالة دليل التعبد من نصيته وسنده من جزمه بمطابقته للواقع بمبادئ حسية - كما أشرنا - فهو أيضا إخبار عن حدس تعبدي مستند إلى الحس. وعليه : فلنا أن ندعى : أنّ كل من يدعى الإجماع أو الإتفاق الظاهر فى اتفاق من يصلح أن يكون الإمام فيهم ويحتمل في حقهم حسية هذا المخبربه لهم أوحد سيته القريبة إلى الحس، فلا بأس بالأخذ بمثل هذا الخبر، كما هو الشأن في بنائهم على الأخذ بخبر من يخبر بمضمون خبر غيره بمحض سماعه عن غيره، كإخباره بموت زيد أخبره غيره بموته من دون تشكيك فيه بحدسية خبره غالباً ؛ فهكذا ما نحن فيه؛ فتدبر.

كلّ منهما أن يكون الإخبار عن حس ، غايته أنه لو كان المخبر به من الأحكام الشرعية وما يلحق بها من الموضوعات التي ينبغي أن تتلقى من الشارع كان داخلا في باب الخبر الواحد ويندرج في أدلة حجيته ، ولو كان المخبر به موضوعا من الموضوعات الخارجية كان داخلا في باب الشهادة ويندرج في أدلة حجيتها ، كقوله علیه السلام في ذيل رواية ابن صدقة : « والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم بها البينة » (1).

وقد قيل : بعموم حجية الخبر الواحد للموضوعات أيضا. وفيه نظر ، وبيانه موكول إلى محله.

وعلى كل حال : لا إشكال في أنه يعتبر في كل من الشهادة وخبر الواحد أن يكون الإخبار عن حس (2) وبذلك يفترقان عن قول أهل الخبرة ، لأن إخبارهم ليس عن حس بل عن حدس ورأى واجتهاد ، ولذا قلنا : لا يعتبر في حجية قول أهل الخبرة ما يعتبر في حجية الخبر الواحد والشهادة من الشرائط ، كما تقدم.

* * *

ص: 148


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 4.
2- أقول : أو حدس قريب بالحس ، كما أشرنا إليه سابقاً.

الأمر الثاني : نقل الإجماع تارة : يرجع إلى نقل السبب من أقوال العلماء وفتاويهم الكاشفة عن رأى المعصوم علیه السلام وأخرى : يرجع إلى نقل نفس المسبب وهو رأيه علیه السلام ، فان رجع إلى نقل السبب كان ذلك إخبارا عن الحس (1) ويندرج في عموم أدلة حجية الخبر الواحد ، وإن رجع إلى نقل المسبب كان ذلك إخبارا عن الحدس ، فلا عبرة به (2) ولا دليل على حجيته ، إلا على بعض الوجوه في تقدير مدرك حجية الإجماع ، كما سيأتي.

الأمر الثالث : اختلفت مشارب الأعلام في مدرك حجية الإجماع المحصل الذي هو أحد الأدلة الأربعة ، فقيل : إن الوجه في حجيته دخول شخص المعصوم علیه السلام في المجمعين ، ويحكى ذلك عن السيد المرتضى قدس سره .

وقيل : إن قاعدة اللطف تقتضي أن يكون المجمع عليه هو حكم اللّه الواقعي الذي امر المعصوم علیه السلام بتبليغه إلى الأنام ، ويحكى ذلك عن شيخ الطائفة قدس سره .

وقيل : إن المدرك في حجيته هو الحدس برأيه علیه السلام ورضاه بما أجمع عليه ، للملازمة العادية بين اتفاق المرؤوسين المنقادين على شيء وبين رضا الرئيس بذلك الشيء (3) ويحكى ذلك عن بعض المتقدمين.

وقيل : إن حجيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب

ص: 149


1- أقول : وربما يكون إخباره بالسبب أيضا عن حدس ، فيلحق ذلك أيضا بالإخبار عن المسبب.
2- أقول : إذا لم يكن حدسه قريبا إلى حسه ، كما أشرنا ، وإلا فيلحق باخباره بالسبب
3- أقول : إذا كانت الملازمة عادية - نظير ملازمة لوازم الشجاعة وملكة العدالة - فهو حدسي قريب بالحس ، كما أسّسنا في الحاشية الطويلة ، فراجع.

القطع بالحكم ، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.

وقيل : إن الوجه في حجيته إنما هو لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.

ولعل هذا الأخير أقرب المسالك ، لأن مسلك الدخول مما لا سبيل إليه عادة في زمان الغيبة (1) بل ينحصر ذلك في زمان الحضور الذي كان الإمام علیه السلام يجالس الناس ويجتمع معهم في المجالس ، فيمكن أن يكون الإمام علیه السلام أحد المجمعين ، وأما في زمان الغيبة فلا يكاد يحصل ذلك عادة.

نعم : قد يتفق في زمان الغيبة للأوحدي التشرف بخدمته وأخذ الحكم منه علیه السلام فيدعى الإجماع عليه ، وأين هذا من دعوى كون مبنى الإجماع على دخول شخصه علیه السلام في المجمعين؟!.

وأمّا مسلك اللطف : فهو بمكان من الضعف ، لأنه مبنى على أنه يجب على الإمام علیه السلام إلقاء الخلاف بين الأمة إذا لم يكن الحكم المجمع عليه من أحكام اللّه تعالى ، وذلك من أصله فاسد ، فان الواجب على الإمام علیه السلام إنما هو بيان الأحكام بالطرق المتعارفة ، وقد أدى علیه السلام ما هو وظيفته ، وعروض الاختفاء لها بعد ذلك لبعض موجبات الاختفاء لا دخل له بالإمام علیه السلام حتى يجب عليه إلقاء الخلاف.

وأما مسلك الملازمة العادية : فاتفاق المرؤوسين على أمر إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهم الملازمة العادية بين إجماع المرؤسية ورضا

ص: 150


1- أقول : يعنى الكبرى : ، والسيد المرتضى في الغيبة الصغرى ، وفي مثلها لا مانع من وصولهم إلى الإمام علیه السلام عادة.

الرئيس مجال ، وأما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطئ منهم على ذلك ، فهو مما لا يلازم عادة رضا الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة.

وأمّا مسلك تراكم الظنون : فهو مما لا يندرج تحت ضابط كلي ، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص ، فقد يحصل من تراكم الظنون القطع لشخص وقد لا يحصل ، فلا يصح أن يجعل ذلك مدركا لحجية الإجماع.

فالإنصاف : أن الذي يمكن أن يدعى ، هو أن يكون اتفاق العلماء كاشفا عن وجود دليل معتبر عند المجمعين ، ولكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، فإنه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الاتفاق أحد هذه الأمور ، فلا يكشف اتفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك. نعم : لو كان الاتفاق مستمرا من زمان الصحابة المعاصرين للأئمة علیهم السلام ك « زرارة » و « محمد بن مسلم » إلى زمان أرباب الفتوى إلى زمن المتأخرين ، فهو يكشف كشفا قطعيا عن رضاء المعصوم بذلك ولا يلتفت إلى القاعدة أو الأصل الموافق ، إلا أن تحصيل مثل هذا الاتفاق مما لا سبيل إليه ، بل القدر الممكن هو تحصيل الاتفاق من زمان أرباب الفتوى ، وهذا الاتفاق لا يكشف عن نفس رضاه علیه السلام بل أقصاه أنه يكشف عن وجود دليل معتبر عند الكل إذا لم يكن في المورد أصل أو قاعدة ، فإنه لا يمكن الاتفاق في الفتوى اقتراحا بلا مدرك.

ومما ذكرنا ظهر : ما في عد الإجماع دليلا برأسه في مقابل الأدلة الثلاثة الأخر ، فإنه على جميع المسالك لا يكون الإجماع مقابلا للسنة.

نعم : بناء على ما قربناه من المسلك يكون التقابل بين الإجماع والسنة تقابل الإجمال والتفصيل ، فان الإجماع يكشف عن وجود دليل على الإجمال ، فتأمّل.

ص: 151

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الحاكي للاجماع إنما يحكى السبب الكاشف عن المسبب والمنكشف ، إلا على مسلك الدخول ، قد عرفت فساد أصل المسلك. وأما على المسالك الاخر : فالحكاية إنما هي للسبب ، وقد تقدم أن الحكاية إن رجعت إلى السبب تكون عن حس (1) لا عن حدس ، فلا بد من الأخذ بما يحكيه من السبب ، ويندرج ذلك في حجية الخبر الواحد ، فان كانت الحكاية لتمام السبب في نظر المنقول إليه فهو ، وإلا احتيج إلى ضم ما يكون تمام السبب ، وهذا يختلف باختلاف الحاكي والمحكى له ، فان كان الحاكي للإجماع من المتقدمين على « العلامة » و « المحقق » و « الشهيد » رحمهم اللّه فلا عبرة بحكايته ، لأن الغالب فيهم حكاية الإجماع على كل ما ينطبق على أصل أو قاعدة في نظرهم ، ولا عبرة بنظر الغير في تطبيق المورد على الأصل أو القاعدة وإن كان نفس الأصل والقاعدة مورد الإجماع.

وأما إذا كان الحاكي من قبيل « الشهيد » و « المحقق » و « العلامة » فالإنصاف اعتبار حكايتهم ، لأنهم يحكون نفس الفتاوى وبلسان الإجماع الكاشفة عن وجود دليل معتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة أو دليل في البين.

هذا خلاصة الكلام في الإجماع المنقول ، ولا يستحق إطالة الكلام فيه أزيد مما ذكرنا ، فتدبر جيدا حتى يتضح لك الحال.

الفصل الثالث: ممّا قيل بحجيته بالخصوص الشهرة في الفتوى

ولا بأس بالإشارة إلى أقسام الشهرة وأحكامها في المقام ، وإن كان يأتي الكلام فيها في مبحث التعادل والتراجيح.

ص: 152


1- أقول : في إطلاقه نظر.

فنقول : الشهرة على أقسام ثلاثة : الشهرة الروايتية ، والشهرة العملية ، والشهرة الفتوائية.

أمّا الشهرة الروايتية : فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الأصول والكتب قبل الجوامع الأربع ، وهذه الشهرة هي التي تكون من المرجحات في باب التعارض والمقصودة من قوله علیه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (1).

وأمّا الشهرة العملية : فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى ، وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور ، لمعرفتهم بصحة الرواية وضعفها. ولا عبرة بالشهرة العملية إذا كانت من المتأخرين ، خصوصا إذا خالفت شهرة القدماء ، والنسبة بين الشهرة الروايتية والشهرة العملية العموم من وجه ، إذ ربما تكون الرواية مشهورة بين الرواة ولكن لم يستندوا إليها في مقام العمل ، وربما ينعكس الأمر ، وقد يتوافقان.

وأمّا الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة لا استناد إلى رواية ، سواء لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت رواية على خلاف الفتوى ، أو على وفقها ولكن لم يكن عن استناد إليها ، وهذه الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف الرواية ، إذ الجبر إنما يكون بالاستناد إلى الرواية ولا أثر لمجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية بلا استناد إليها ، ولكن

ص: 153


1- مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 2.

تكون كاسرة لصحة الرواية إذا كانت الشهرة من القدماء ، لأن الكسر إنما يتحقق بالإعراض وعدم العمل بالرواية.

وهذه الشهرة الفتوائية هي المبحوث في حجيتها وعدم حجيتها في المقام ، وقد استدل للحجية بوجوه :

الوجه الأوّل : قوله علیه السلام في مقبولة ابن حنظلة : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ». الخبر (1).

وجه الاستدلال : هو أن المراد من « المجمع عليه » ليس اتفاق الكل بقرينة قوله علیه السلام : « ويترك الشاذ » فلابد وأن يكون المراد منه المشهور بين الأصحاب ، فيرجع مفاد التعليل إلى أن المشهور مما لا ريب فيه. وعموم التعليل يشمل الشهرة الفتوائية وإن كان المورد الشهرة الروايتية ، وكذا قوله علیه السلام في مرفوعة زرارة : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (2) بدعوى عموم الموصول لكل ما اشتهر بين الأصحاب.

ولا يخفى عليك ضعف الاستدلال.

أن التعليل : فلأنه ليس من العلة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها ، فان المراد من قوله « فان المجمع عليه لا ريب فيه » إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم الشهرة الفتوائية ، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله علیه السلام « مما لا ريب فيه » عليه بقول مطلق ، بل لابد من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج

ص: 154


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
2- مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 2.

التعليل عن كونه كبرى كلية ، لأنه يعتبر في الكبرى الكلية صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها ، كما في قوله « الخمر حرام لأنه مسكر » فإنه يصح أن يقال « لا تشرب المسكر » بلا ضم الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك ، لأنه لا يصح أن يقال « يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله » وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظن المطلق ، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها ، فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبرى الكلية التي لا يصح التعدي عن مورده. (1).

وأما الموصول : فلا يعم الشهرة الفتوائية ، بل هو خاص بالشهرة الروايتية ، وليس ذلك من جهة تخصيص العام بالمورد حتى يقال : إن المورد لا يخصص العام ، بل من جهة عدم العموم.

الوجه الثاني : قوله تعالى في ذيل آية النبأ : « أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » (2) بتقريب : أن المراد من « الجهالة » السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، والاعتماد على الشهرة ليست من السفاهة :

وفيه : أن أقصى ما يقتضيه التعليل هو عدم جواز الأخذ بكل ما يقتضي الجهالة والسفاهة خبرا كان أو غيره ، هذا لا يقتضي وجوب الأخذ بكل ما ليس فيه جهالة ، إذ ليس له مفهوم حتى يتمسك به ، ألا ترى : أن قوله « لا تأكل الرمان لأنه حامض » لا يدل على جواز أكل كل ما ليس بحامض ، وذلك واضح.

ص: 155


1- كذا في نسخة الأصل ، والظاهر : زيادة كلمة « لا » ( المصحح ).
2- سورة الحجرات الآية 6.

الوجه الثالث : دعوى أن الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى من الظن الحاصل من الخبر الواحد.

وفيه : أن حجية الخبر ليس لأجل إفادته الظن ، بل لأجل قيام الدليل عليه وإن كانت الحكمة في حجيته كونه مفيدا للظن نوعا.

نعم : لو قلنا باعتبار الظن المطلق كان من أحد أفراده الشهرة الفتوائية إذا حصل منها الظن ، وإلا فلم يقم دليل بالخصوص على حجية الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية.

الفصل الرابع: في حجية الخبر الواحد
اشارة

إعلم : أن إثبات الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على : أصل الصدور ، وجهة الصدور ، وعلى الظهور ، وإرادة الظهور.

والمتكفل لإثبات الظهور وإرادة الظهور هو الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، والأصول العقلائية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الفصل الأول.

والمتكفل لإثبات جهة الصدور - من كون الخبر صادرا لبيان حكم اللّه الواقعي لا لأجل التقية ونحوها - هو الأصول العقلائية أيضا ، فان الأصل العقلائي يقتضي أن يكون جهة صدور الكلام من المتكلم لبيان المراد النفس الأمري وأن مؤداه هو المقصود ، إلا أن يثبت خلافه ، وعلى ذلك استقرت طريقة العقلاء واستمرت سيرتهم في محاوراتهم ، ويأتي توضيح ذلك - إن شاء اللّه تعالى - في محله.

والمتكفل لأصل الصدور هو الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، وهو

ص: 156

المقصود بالبحث في هذا الفصل ، وهو من أهم المسائل الأصولية ، لما تقدم : أن الموضوع في علم الأصول ليس خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ليقع الإشكال في بعض المسائل المهمة - كمسألة حجية الخبر الواحد وكمسألة التعادل والتراجيح - من حيث عدم رجوع البحث عنها إلى البحث عن عوارض الأدلة فيحتاج إلى إتعاب النفس لإدراج البحث عنها في البحث عن عوارض الأدلة ، كما أتعب الشيخ قدس سره نفسه الزكية في ذلك ، بتقريب : أن البحث عن حجية الخبر الواحد يرجع إلى البحث عن أن السنة - التي هي أحد الأدلة الأربعة - هل تثبت بخبر الواحد؟ أو لا تثبت به؟ فيكون بحثا عن عوارض الموضوع.

وقد أورد عليه : بأن البحث عن ثبوت الموضوع ولا ثبوته بمفاد « كان التامة » لا يرجع إلى البحث عن عوارض السنة ، فان البحث عن عوارض الشيء إنما يكون بعد الفراغ عن وجوده ، وإن كان المراد من الثبوت ، الثبوت التعبدي بمفاد « كان الناقصة » لا الثبوت الواقعي - ليؤول البحث إلى البحث عن التعبد بالسنة المحكية بخبر الواحد - فهذا يرجع في الحقيقة إلى البحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنة.

هذا ، ولكن يمكن توجيه ما أفاده الشيخ قدس سره بما لا يرد عليه ذلك ، ببيان : أن المراد من ثبوت السنة ولا ثبوتها ليس هو الثبوت الواقعي ولا ثبوته ليرجع البحث إلى البحث عن وجود الموضوع ولا وجوده ، بل المراد منه هو أن البحث عن حجية الخبر يرجع إلى البحث عن أن مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا؟ وإن شئت قلت : إن البحث إنما هو عن انطباق السنة على مؤدى الخبر وعدم الانطباق (1) وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ولا

ص: 157


1- 1 - أقول : انطباق المهية على فرد ليس إلا ملازما لوجوده في ضمنه ، ومثل هذا البحث وإن كان من عوارض المهية تصورا ، ولكن هو عين البحث عن وجودها ضمن هذا الفرد وهويته ، ولو كان هذا المقدار يكفي في البحث عن العوارض ، يلزم دخول البحث في وجود المهية وانطباقه على الخارج في المباحث كلها ، وهو كما ترى!. وأمّا المثال الذي مثل به من البحث عن وجود شيء في المكان ، ففيه : أن القياس مع الفارق ، إذ الكينونة في الزمان أو المكان جهة طارية على الوجود فارغا عن وجوده ، وهذا بخلاف البحث عن وجود الطبيعة في ضمن فرد ، إذ هو ليس بحثا عن عوارض الوجود فارغا عن أصل وجوده ، بل مرجع البحث فيه إلى البحث عن أصل وجودها في ضمن الفرد وعدمه ، كما لا يخفى ؛ فتدبر.

وجودها ، بل يكون البحث عن عوارض ، السنة ، بداهة أن انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون من العوارض اللاحقة له ، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان ولا وجوده.

هذا ، ولكن لو أمكننا إدراج مسألة حجية الخبر الواحد في مسائل الأصول بما ذكرناه من التوجيه ، فلا يمكننا إدراج كثير من مهمات المباحث في علم الأصول لو جعلنا الموضوع خصوص الأدلة الأربعة ، مع أنه لا ملزم إلى ذلك بعد إمكان أخذ الموضوع بمعنى يعم جميع هذه المسائل ، وهو « كل ما يقع في طريق الاستنباط » ومن أوضح مصاديقه مسألة حجية الخبر الواحد ، فإنها تقع كبرى لقياس الاستنباط والجزء الأخير من علته ، بل عليها يدور رحى الاجتهاد ، فان الأخبار المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعية قليلة جدا لا تفي بمعظم الفقه ، بل استفادة غالب الأحكام إنما تكون من الخبر الواحد ، فلابد للأصولي من إثبات حجيته ، أو الاعتماد على الظن المطلق بمقدمات الانسداد.

ثمّ لا يخفى عليك : أنه قد انعقد الإجماع على حجية الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولكن لا يصح الاعتماد والإتكال على هذا الإجماع ، لاختلاف مشرب المجمعين في مدرك الحجية ، فان منهم من يعتمد على هذه الأخبار لتخيل أنها قطعية الصدور ، ومنهم من يعتمد عليها من أجل اعتماده على الظن المطلق بمقدمات الانسداد ، ومنهم من يعتمد عليها لأجل قيام الدليل بالخصوص عنده على حجيتها ، والإجماع الذي يكون هذا شأنه لا يصح الإتكال عليه

ص: 158

وأخذه دليلا في المسألة ، ولا يكفي مجرد ثبوت الإجماع على النتيجة مع اختلاف نظر المجمعين (1) فان هذا الإجماع لا يكشف عن رأى المعصوم علیه السلام ولا عن وجود دليل معتبر ، بل الكاشف عن ذلك هو الإجماع على الحكم الشرعي مرسلا ، فلا عبرة بالإجماع التقييدي الذي هو عبارة عن اختلاف مدرك المجمعين.

فلابد للقائل بحجية أخبار الآحاد من إقامة الدليل على مدعاه إذا لم يكن ممن يرى حجية مطلق الظن بمقدمات الانسداد ولم تكن الأخبار في نظره مقطوعة الصدور - كما هو الواقع - بداهة أنه لا يمكن القطع بصدور جميع الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب مع ما بينها من الاختلاف الفاحش ، فدعوى القطع بالصدور غريبة جدا! خصوصا من بعد زمان الغيبة الكبرى! وما كنا نترقب من المتأخرين هذه الدعوى ، وقد نسب إلى شرذمة من الأخباريين ، بل هذه الدعوى ممن كان عهده قريبا بزمان الحضور كانت أولى وأحرى ك « السيد المرتضى » لأنه كان يتمكن من العلم بما صدر من الأخبار وما دس فيها.

وأما اعتبارها من باب الظن المطلق فهو مبنى على صحة مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيها ، فعلى هذا ينبغي إقامة الدليل بالخصوص على حجية ما بأيدينا من الأخبار ، ولنقدم الكلام أولا في أدلة النافين للحجية ، ثمّ

ص: 159


1- أقول : لا يخفى أن مجرد اختلاف استناد كل طائفة من المجمعين لجهة غير الجهة الأخرى إنما يضر بانعقاد الإجماع في فرض انصرافه عن فتواه لو التفت إلى بطلان مستنده ، وإلا فلو فرض عدم رجوعه عن فتواه مع علمه بفساد ما تشبث به ، تكشف ذلك عن أن ما استندوا به من قبيل النكات بعد الوقوع وتطبيق ما هو المسلم عندهم على وجه وقاعدة ، ومثل ذلك لا يضر بالإجماع بتا ، وحينئذ لنا أن ندعي أنه لو فرض عدم قطعية سند الأخبار ولا تمامية دليل الانسداد ولا تمامية الأدلة المخصوصة : من آية النبأ وغيرها من الآيات والروايات ، فهل يرفعون الأصحاب يدهم عن مثل هذه الأخبار في مقام استنباط الأحكام؟ كلا وحاشا! وذلك يكشف عن أن العمل بأخبار الآحاد في الجملة مسلم عندهم. نعم: إنما الكلام في تعينها بخصوص طائفة دون طائفة، فبالأخرة ربما ينتهی إلی العلم الإجمالي بوجود الحجة بين الطوائف، فيؤخذ بلوازمه؛ فتدبروا فهم.

نعقّبه بذكر أدلة المثبتين لها.

فنقول : قد استدل النافون بالأدلة الأربعة.

فمن الكتاب : الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، كقوله تعالى : « قل إن الظن لا يغني من الحق شيئا » (1).

ومن السنة : الأخبار الناهية عن العمل بالخبر إذا لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه تعالى والأخبار الآمرة بطرح ما خالف كتاب اللّه تعالى ، وهي كثيرة تبلغ التواتر ، ولا شبهة أن غالب الأخبار التي بأيدينا ، إما أن تكون مخالفة لكتاب اللّه تعالى ولو بالعموم ، وإما أن لا يكون عليها شاهد من الكتاب ، فلا يجوز العمل بها ، خصوصا بعد ما ورد في جواب سؤال « داود بن فرقد » كما في البحار عن بصائر الدرجات قال : « كتبت إليه علیه السلام عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه ، كيف العمل به على اختلافه؟ فكتب علیه السلام بخطه : ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعملوا فردوه إلينا » (2).

ومن الإجماع : ما ادعاه السيد رحمه اللّه في مواقع من كلامه ، حتى جعل العمل بالخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس في قيام الضرورة على بطلانه.

ومن العقل : ما ذكره « ابن قبة » من أن العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، والعقل يستقل بقبحه على الشارع.

وأنت خبير بأنه لا دلالة لشئ من هذه الأدلة على المنع عن العمل بخبر الواحد.

أمّا الآيات : فلأن مساقها حرمة العمل بالظن في باب العقائد وأصول الدين وعلى فرض تسليم عمومها لمطلق الأحكام الشرعية ، فغايته أن تكون

ص: 160


1- سورة يونس الآية 36.
2- بصائر الدرجات : الجزء العاشر الباب 19 الحديث 26 ص 524.

دلالتها على المنع عن الظن الحاصل من الخبر الواحد بالعموم ، فلابد من تخصيصه بما سيأتي من الأدلة الدالة على جواز العمل بخبر الواحد ، بل نسبة تلك الأدلة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة ، فان تلك الأدلة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزا للواقع ، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تعمه الأدلة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص ، لكي يقال : إن مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص ، هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الموثوق به.

وأمّا السيرة العقلائية : فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهية نسبة الورود بل التخصص ، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن ، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصيص عن العمل بالظن ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بخبر الثقة (1)

ص: 161


1- أقول : لا يخفى أن السيرة العقلائية بالنسبة إلى أمور معادهم الذي من هذه الجهة يدخل في السيرة المتشرعة فلا شبهة أن أصل استقراره منوط بعدم رادعية الآيات الناهية عنها ، فمهما استقرت يستكشف بأنه لا يكون في البين رادع ولا مانع بأي وجه. و أما سيرتهم في امور معاشهم فحجيته مبنى على إمضاء الشارع إياهم فى الشرعيات أيضاً، كما هو الشأن في سيرتهم في أمر معادهم بمذهبهم الخارجة عن مذهبنا، فان حجيته أيضاً مبنى على إمضاء لهم؛ ففي هذه الصورة لا تصلح هذه السيرة مخصصة ولا وروداً ولا حكومة على الآيات الناهية، لأنّ هذه الجهات بعد الفراغ عن حجيتها ؛ وهذه الجهة مبنية على عدم رادعية الآيات الناهية، فعدم رادعيتها يقع فى الرتبة السابقة عن حجيتها، لأنه بمنزلة شرطها ؛ ففي الرتبة السابقة المزبورة أصالة العموم في النواهى محكمة، فيخرج مثله عن الحجية؛ وحينئذ كيف يشكل الدور في الرادعية ؟ مع كون عدمها شرطاً فى حجيتها وحجيتها موجب لورودها ؛ فمرتبة ورودها أو حكومتها على الآيات قهراً متأخرة عن الحجية المتأخرة عن عدم الرادعية، ولازمه تأخر نقيضه من الرادعية في الرتبة السابقة؛ وحينئذ يستقر الدور المزبور من طرف التخصيص أو الورود، لا العكس، كما لا يخفى. و من جهة ذلك نقول - وسيأتى فى محله - إنّ ما يصلح للحجية والتشبث به في حجية أمارة إنما هو السيرة العقلائية المستقرة في امورهم الشرعية على وفق مذهبنا ، إذ هو الذى لا يكاد ردع الآيات لها، لأنّ نفس وجودها ملازم لعدم مانعية الآيات، بلا احتياج حجيتها على عدم رادعية الآيات؛ بخلاف السيرة العقلائية الجارية في امورهم الغير الراجعة إلى شرعيات مذهبنا ، فان حجيتها مبنية على إمضاء الشارع الملازم مع عدم ردعه. ولئن شئت قلت: إنّ ما افيد من الدور في الرادعية إنما يتم فى فرض اقتضاء الحجية في نفس السيرة وأن الردع مانع عنه، فانّه لابد وأن يكون المانعية تعليقية، فلا محيص من تأثير المقتضى التنجيزى أثره، فيرفع موضوع المانعية والرادعية؛ وأما لوقلنا بأن قوام حجيتها بامضاء الشارع بحيث لولاه لا اقتضاء فى نفس بنائهم للحجية. وأن الإمضاء المزبور متمم لاقتضائه، فلا يكون اقتضائها للحجية إلا تعليقياً، ومع هذا الوصف لا محيص من تشكيل الدور في طرف المخصصية، لا الرادعية؛ فتدبر فى أمثال المقام، كي لا يختلط عليك الأمر.

فانّه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية يلزم الدور المحال ، لأن الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها ، وعدم كونها مخصصة لها يتوقف على أن تكون رادعة عنها.

وإن منعت عن ذلك كله ، فلا أقل من أن يكون حال السيرة حال سائر الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد : من كونها حاكمة على الآيات الناهية ، والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعا عن الحاكم ، كما لا يخفى ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا السنة : فلأن الأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف أو الذي لا شاهد عليه من الكتاب والعمل بخبر الموافق والذي عليه شاهد من الكتاب وإن كانت متواترة معنى أو إجمالا - للعلم بصدور بعضها عن المعصوم علیه السلام وهي آبية عن التخصيص - كما لا يخفى على المتأمل فيها - إلا أنه يعلم أيضا بصدور جملة من الأخبار المخالفة للكتاب ولو بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، لا يسعنا طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب ، لأنه يلزم من الاقتصار على ما يستفاد من ظاهر الكتاب تعطيل كثير من الأحكام ، خصوصا في باب العبادات ، بل معظم الأحكام إنما يستفاد من الأخبار ، ولو بنينا على الأخذ بظاهر هذه الأخبار الناهية عن العمل بما يخالف الكتاب أو الذي لا يوجد له شاهد منه والاقتصار في العمل بما يوافق ظاهر الكتاب يلزم طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المخالفة لظاهر الكتاب بالعموم

ص: 162

والخصوص والإطلاق والتقييد ، وهذا مما لا سبيل إلى الالتزام به ، فلا بد وأن يكون المراد من « المخالفة » غير المخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد : من المخالفة بالتباين الكلي أو بالعموم من وجه ، بل المخالفة بالعموم والخصوص لا تعد من المخالفة لما بينهما من الجمع العرفي ، والتخالف بينهما إنما يكون بدويا يزول بالتأمل في مدلولهما ، فالأخبار الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب لا تعم المخالفة بالعموم والخصوص.

ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الرد على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسونها في كتب الأصحاب هدما للشريعة المطهرة ، حتى نقل عن بعضهم انه قال - بعد ما استبصر ورجع إلى الحق - « إني قد وضعت إثنا عشر ألف حديثا » فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه ، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين ، لأنه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، حتى أن من يريد الوضع والدس في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، لأنه يعلم أنه من الموضوع.

ولا يبعد أيضا حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر ونحو ذلك.

ويمكن أيضا حمل بعضها على صورة التعارض بين الروايات ، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له.

وكيف كان : لابد من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل ، لما عرفت من أنه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام.

ومما ذكرنا يظهر ما في الاستدلال برواية « داود بن فرقد » فإنه مضافا إلى أنها من أخبار الآحاد ولا يصلح التمسك بها لما نحن فيه - لأنه يلزم من حجيتها عدم حجيتها - لا تشمل العمل بخبر الثقة ، لأنه ليس من أفراد قوله

ص: 163

علیه السلام : « وما لم تعلموا فردوه إلينا » (1) بل أدلة حجيته تقتضي أن يكون من أفراد قوله علیه السلام : « ما علمتم أنه قولنا فالزموه » (2) بالبيان المتقدم في الجواب عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن.

وأمّا الإجماع : فموهون بمصير الأكثر إلى خلافه ، مع أنه معارض بمثله.

وأمّا الدليل العقلي : فقد عرفت ما فيه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، من أنه لا يلزم من التعبد بكلى الأمارات تحليل الحرام وتحريم الحلال.

هذا كله في أدلة النافين.

وأمّا المثبتون لحجية الخبر الواحد : فقد استدلوا أيضا بالأدلة الأربعة.

أمّا الكتاب : فبآيات ، منها : آية النبأ ، قال تعالى : « إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » (3) وتقريب الاستدلال بها يمكن بأحد وجهين :

الأول : بمفهوم الشرط ، ببيان أنه تعالى علق وجوب التبين عن الخبر بمجئ الفاسق به ، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلا ينتفى وجوب التبين عن خبره ، وإذا لم يجب التبين عن خبر العادل ، فاما أن يرد ، وإما أن يقبل ، ولا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم أن يكون العادل أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الثاني وهو المطلوب ، لأنه لا نعنى بحجية الخبر الواحد إلا قبوله.

ولعل أخذه هذه المقدمة الأخيرة وهي أنه « لو لم يجب قبول قوله يلزم أن يكون أسوأ حالا من الفاسق » مبنى على كون التبين واجبا نفسيا ، ولو كان

ص: 164


1- الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36.
2- الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36.
3- سورة الحجرات : الآية 6.

وجوبه شرطاً للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدمة (1) فإنه على هذا يكون مفاد المنطوق وجوب التبين عند العمل بخبر الفاسق ومفاد المفهوم عدم وجوب التبين عند العمل بخبر العادل ، فيتم الاستدلال بلا ضم تلك المقدمة.

ولا إشكال في أن وجوب التبين يكون شرطيا لا نفسيا كما يظهر ذلك من التعليل في ذيل الآية ، فان إصابة القوم بالجهالة إنما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقا ، فلا يحتمل الوجوب النفسي في التبين ، وذلك واضح.

الثاني : بمفهوم الوصف ، وتقريبه : ان الآية الشريفة نزلت في شأن « الوليد » لما أخبر بارتداد « بني المصطلق » وقد اجتمع في خبر « الوليد » وصفان : أحدهما كونه من الخبر الواحد ، ثانيهما كون المخبر به فاسقا ، ولا إشكال أن العلة لوجوب التبين لو كان هو الخبر الواحد لكان ذلك أولى بالذكر من كون المخبر به فاسقا ، فان اتصاف الخبر خبرا واحدا يكون مقدما بالرتبة على اتصافه بالفاسق ، لأن خبر الواحد يكون مقسما لخبر الفاسق والعادل ، فيكون الخبر الواحد بمنزلة الموضوع للفاسق.

وبعبارة أخرى : يجتمع في خبر الفاسق وصفان : وصف ذاتي وهو كونه خبرا واحدا ، ووصف عرضي وهو كونه فاسقا ، ومن المعلوم : أنه لو اجتمع في

ص: 165


1- أقول : لو كان التبين شرطا للعمل الواجب ، فمجرد شرطية وجوب التبين لا يجدى لنفي المقدمة الأخرى ، إلا في فرض كون نظر الآية إلى نفي الشرطية فارغا عن وجوب العمل ، وإلا فلو كانت الآية في مقام نفي وجوب التبين لا نفي شرطيته ، فغاية شرطية وجوبه كونه وجوبا غيريا للعمل به ، ونفى هذا الوجوب الغيري للتبين لا يقتضي نفي شرطيته ، بل يناسب مع نفي وجوب ذيها أيضا ، فإرجاع مثل ذلك إلى الاحتمال الأول وصرفه عن الثاني إلى مقدمة الأسوئية. نعم لوكان التبين شرطاً لوجوب العمل فلا محيص من إرجاعه إلى نفى الشرطية، إذ لا معنى لوجوب شرطية وجوب شيء؛ فلا محيص من جعل وجوبه كناية عن شرطيته، ولكنه خلاف ظاهر القضية المتكفلة لإثبات التكليف لا الوضع محضاً، كما لا يخفى.

الشي وصفان : أحدهما ذاتي والآخر عرضي (1) وكان منشأ الحكم هو الوصف الذاتي لكان هو المتعين بالذكر - كما عليه طريقة أهل المحاورة - فلو قال « أكرم عالما » وكان علة الإكرام هو إنسانية العالم لا عالمية الانسان ، كان الكلام خارجا عن الطريقة المألوفة عند أهل المحاورة لسبق الانسانية التي هي من الأوصاف الذاتية على العالمية ، فلو كان المتكلم يتكلم على طبق الطريقة المألوفة وقال « أكرم عالما » يستفاد من كلامه لا محالة أن المنشأ للإكرام هو وصف العالمية لا وصف الإنسانية ، وحيث كان المذكور في الآية الشريفة هو الوصف العرضي وهو عنوان « الفاسق » فيستفاد منها أن منشأ وجوب التبين هو كون المخبر فاسقا لا كون خبره من الخبر الواحد ، فإذا لم يكن المخبر فاسقا وكان عادلا ، فإما أن يجب قبول خبره بلا تبين ، وإما أن يرد ، ولا سبيل إلى الثاني ، لأنه يلزم أن يكون أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الأول وهو المطلوب.

وبما ذكرنا في تقريب مفهوم الشرط من كون وجوب التبين شرطا للعمل لا مطلقا يظهر عدم الحاجة إلى هذه المقدمة في مفهوم الوصف أيضا ، لاتحاد مفاد المفهوم والمنطوق فيهما.

هذا ، ولكن يمكن الخدشة في الاستدلال على كل من تقريبي مفهوم الوصف ومفهوم الشرط.

أمّا مفهوم الوصف : فلما بيناه ( في باب المفاهيم ) من أن القضية

ص: 166


1- أقول : لا إشكال في أن لازم عدم حجية قول الفاسق عدم وجود الاقتضاء في ذات الخبر المعروض لهذه الإضافة ، ولازمه وجود مقتضى التبين في هذه الذات أيضا ، إذ يكفي في مقتضى التبين عدم اقتضاء خبره للحجية ، وحينئذ لازم تقدم رتبة الذات على العرض نسبة وجوب التبين إلى الذات التي هي المعروض هذا العرض ، لا إلى نفس العرض ، وحينئذ الانتقال من نسبة التبين إلى الذات المعروض إلى عرضه ليس من باب عدم الاقتضاء في الذات المزبور كي بهذا التقريب يثبت حصر مقتضى التبين بالفاسق ، بل عمدة النكتة في الانتقال من الذات إلى العرض دعوى تخصيص مقتضى التبين وحصره بالإضافة إلى عرض آخر من إضافة الخبر إلى العادل ، حيث إنه لو لم يكن حجة لكان فيه أيضا مقتضى التبين ، كما لا يخفى ، ومرجع ذلك إلى تقريب آخر لمفهوم الوصف غير ما ذكر ، كما لا يخفى.

الوصفية ليست ذات مفهوم ، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على الموصوف ، فان ذلك أقرب إلى مفهوم اللقب ، ومجرد ذكر الوصف في القضية لا يقتضي انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف ، بل أقصاه أن يكون الحكم المذكور في القضية لا يشمل الموصوف الفاقد للوصف يعنى عدم التعرض لحكمه ، وهذا غير المفهوم ، فان كون القضية ذات مفهوم لابد وأن يرجع مفادها بالنتيجة إلى التعرض لانتفاء الحكم عما عدا المنطوق ، غاية ما تدل عليه القضية الوصفية هو عدم التعرض لحكم ما عدا المنطوق ، فمن الممكن أن لا يكون المتكلم بصدد بيان تمام أفراد الموضوع ، واقتصر في البيان على بيان بعض الأفراد مع اشتراك الأفراد الاخر في الحكم ، إلا أنه لمصلحة أخر بيانها ، فلا دلالة لقوله « أكرم عالما » على كون المناط في وجوب الإكرام هو وصف العالمية لا وصف الإنسانية ، لأنه من الممكن أن يكون مطلق الانسان يجب إكرامه ، ولكن لأهمية إكرام العالم اقتصر في الكلام على بيانه ، فالآية الشريفة لا تدل على أن تمام المناط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسق حتى ينتفى الحكم عن خبر العادل.

وأمّا مفهوم الشرط : فلأن الشرط المذكور في الآية مما يتوقف عليه وجود الجزاء عقلا ، ولا تكون القضية الشرطية ذات مفهوم إذا كان الشرط مما يتوقف عليه المشروط عقلا ، فان ذكر الشرط يكون حينئذ لمجرد فرض وجود الموضوع ، كقوله « إن رزقت ولدا فاختنه » و « إن ركب الأمير فخذ ركابه » ونحو ذلك من القضايا التي يتوقف تحقق الجزاء عقلا على وجود الشرط ، فان مثل هذه القضايا الشرطية لا يكاد يتوهم دلالتها على المفهوم ، وإلا كانت كل قضية حملية ذات مفهوم ، لأنها تنحل إلى قضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وحاصل الكلام : أنه يعتبر في كون القضية الشرطية ذات مفهوم أن يكون الشرط المذكور فيها من الشرائط التي لا يتوقف تحقق المشروط على وجود الشرط عقلا ، بل يمكن فرض وجود المشروط بلا فرض وجود الشرط ، كقوله

ص: 167

« إن جاءك زيد فأكرمه » فان الإكرام لا يتوقف على مجيء زيد لإمكان تحقق الإكرام مع عدم مجيئه ، ففي مثل ذلك يمكن أن تكون القضية ذات مفهوم ، بأن يكون الشرط قيدا للحكم لا للموضوع فينتفى الحكم عند انتفاء شرطه ، ويمكن أيضا أن يكون الشرط قيدا للموضوع ، فيكون مفاد قوله « إن جاءك زيد فأكرمه » أكرم زيد الجائي ، فلا تدل القضية على انتفاء الحكم عن الفاقد للشرط ، إلا أن إرجاع الشرط إلى الموضوع خلاف ظاهر القضية ، بل الظاهر منها - بحسب المحاورات العرفية - هو أن يكون الشرط قيدا للحكم ، فينتفى عند انتفائه.

وأمّا إذا كان الشرط مما يتوقف عليه وجود المشروط عقلا ، بحيث لا يمكن فرض وجود المشروط بلا فرض وجود الشرط ، فلا يكاد يمكن أن تكون القضية ذات مفهوم ، فان « انتفاء الختان » أو « أخذ الركاب » في المثالين عند « انتفاء الولد » و « ركوب الأمير » قهري لانتفاء الموضوع ، وهذا ليس من المفهوم ، فان المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، لا انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ، وإلا يلزم - كما عرفت - أن تكون كل قضية حملية ذات مفهوم ، لانتفاء المحمول فيها بانتفاء الموضوع ، والشرط المذكور في الآية الشريفة من جملة الشرائط التي يتوقف عليها وجود الجزاء عقلا ، فان التبين عن الخبر فرع وجود الخبر ومما يتوقف عليه عقلا ، والشرط المذكور في الآية هو « مجيء الفاسق بالنبأ » فانتفاء التبين عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ قهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، ولم يؤخذ الموضوع فيها مطلق النبأ والشرط مجيء الفاسق به ، حتى يقال : بانتفاء التبين عن النبأ عند انتفاء كون الجائي به فاسقا ، ليثبت عدم التبين عن نبأ العادل ، بل الشرط في الآية « نبأ الفاسق » وعدم التبين بانتفاء نبأ الفاسق لعدم ما يتبين عنه ، نظير انتفاء الختان عند انتفاء الولد.

نعم : لو كان نزول الآية هكذا « النبأ إن كان الجائي به فاسقاً

ص: 168

فتبيّنوا » كانت الآية ذات مفهوم ويكون مفادها « النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا عنه » فتدل على اعتبار نبأ العادل ، ولكن هذا تصرف في الآية بلا شاهد عليه وخلاف ما يقتضيه ظاهرها ، وإلا فكل قضية يمكن أن يتصرف فيها على وجه ترجع إلى كونها ذات مفهوم.

هذا ، ولكن الإنصاف : أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول ، فان موردها - كما تقدم - كان إخبار « الوليد » بارتداد « بني المصطلق » فقد اجتمع في إخباره عنوانان : كونه من الخبر الواحد وكون المخبر فاسقا ، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها ، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا ، فيكون الشرط لوجوب التبين هو « كان المخبر فاسقا » لا « كون الخبر واحدا » لأنه لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه (1) لأنه باطلاقه شامل لخبر الفاسق ، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق.

ولا يتوهم : أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط أو إلى دلالة الإيماء ، فان ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.

وبالجملة : لا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية ، ولابد من أن يكون مورد النزول من صغرياتها (2) وإلا يلزم خروج المورد عن العام وهو قبيح ، بل العام بالنسبة إلى المورد كالنص وكأنه مذكور في العام

ص: 169


1- أقول : ذلك صحيح لولا احتمال كون النكتة التنبيه على فسق « الوليد » لا من جهة خصوصية له في المقام ، فتأمل.
2- أقول : لا إشكال في أن مورد النزول من صغريات الكبرى ، وإنما الكلام في أن الآية في مقام بيان حكم خبر الفاسق ، أو في بيان تمييز ما يجب التبين فيه عما لا يجب ، والذي هو مورد الكلام هو الثاني دون الأول ، إذ عليه لا يفيد هذا البيان شيئا ، كما لا يخفى.

بالنصوصية ؛ فلا بد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية ، ولما اجتمع في مورد النزول عنوانان وعلق الحكم على أحدهما دون الآخر كان الجزاء مترتبا على خصوص ما علق عليه في القضية ، وهو « كون المخبر فاسقا » مع فرض وجود العنوان الآخر وعدم دخله في الجزاء ، وإلا لعلق الجزاء عليه ، فيكون مفاد منطوق الآية بعد ضم المورد إليها « أن الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا » ومفاد المفهوم « أن الخبر الواحد إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا » فالقضية تكون من القضايا الشرطية التي علق الحكم فيها على ما لا يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا.

تكملة :

قد أورد على التمسك بالآية الشريفة لحجية الخبر الواحد بأمور :

منها : ما يختص بالآية.

ومنها : ما يشترك بينها وبين سائر الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر الواحد.

ولكن الشيخ قدس سره تعرض لها في طي الاستدلال بآية النبأ ، ونحن نقتفي إثره ، وينبغي أن نقتصر على بيان بعض الإشكالات المهمة.

فمن الإشكالات التي تختص بآية النبأ : هو كون المفهوم فيها على تقدير ثبوته معارضا بعموم التعليل في ذيل الآية ، وهو قوله تعالى : « أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » فان المراد من الجهالة عدم العلم بمطابقة المخبر به للواقع ، وهو مشترك بين خبر العادل والفاسق ، فعموم التعليل يقتضي وجوب التبين عن خبر العادل أيضا ، فيقع التعارض بينه وبين المفهوم ، والترجيح في جانب عموم التعليل ، لأنه أقوى ظهورا من ظهور القضية الشرطية في المفهوم ، خصوصا مثل هذا التعليل الذي يأبى عن التخصيص ، كما لا يخفى.

وما يقال : « من أن النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص

ص: 170

المطلق ، فان المفهوم يختص بخبر العدل الغير المفيد العلم ، لأن الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم ، إذ الموضوع في القضية هو الخبر القابل لأن يتبين عنه وهو ما لا يكون مفيدا للعلم ، فالمفهوم خاص بخبر العدل الذي لا يفيد العلم والتعليل عام لكل ما لا يفيد العلم ، فلابد من تخصيص عموم التعليل بالمفهوم وإلا يبقى المفهوم بلا مورد ، كما هو الشأن في جميع موارد العموم والخصوص » فضعيف غايته ، فان لحاظ النسبة بين المفهوم والتعليل فرع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، والمدعى أن عموم التعليل يمنع عن انعقاد الظهور للقضية في المفهوم ، فلا يكون لها مفهوم حتى يخصص عموم التعليل به ، خصوصا في مثل المقام مما كان التعليل متصلا بالقضية الشرطية ، فان احتفاف القضية بالتعليل يوجب عدم ظهور القضية في كونها ذات مفهوم ، وعلى فرض تسليم ظهورها في المفهوم مع اتصال التعليل بها لا بد من رفع اليد عن ظهورها ، لأن عموم التعليل يأبى عن التخصيص ، فأن إصابة القوم بالجهالة لا تحسن في حال من الحالات.

وهذا لا ينافي التسالم على جواز تخصيص العام بمفهوم المخالف - كما أوضحناه في مبحث العام والخاص - فان ذلك يختص بما إذا كان العام منفصلا عن القضية التي تكون ذات مفهوم ولم يكن العام علة لما تضمنته القضية من الحكم ، لا في مثل المقام مما كان العام متصلا بالقضية وكان علة للحكم ، فان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص ، فلا يبقى مجال لثبوت المفهوم للقضية الشرطية. هذا ، ولكن الإنصاف : أنه لا وقع لأصل الإشكال ، لما فيه :

أولا : أنه مبنى على أن يكون معنى الجهالة عدم العلم ليشترك خبر العادل مع الفاسق في ذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه (1) ولا شبهة في أنه يجوز الركون إلى خبر العدل والاعتماد عليه - كما عليه طريقة

ص: 171


1- 1 - أقول : أمكن أن يقال : إن السفاهة يوجب الملامة لا الندامة ، بل ما يوجب الندامة جارى في كل أمارة مخالفة للواقع، فضلا عن مجرد عدم العلم به إذا كان المقصود به حفظ الواقع ، خصوصا في الأمور المهمة ، كما هو مورد الآية الشريفة ، وحينئذ فلا غرو في دعوى كون الجهالة مطلق عدم العلم. و من هذا البيان ظهر أيضاً : أنّ العلة جارية حتى فى صورة العمل بما هو حجة لديهم من خبر الثقة والعدل، لأنّ العمل بمثله فى مثل حفظ النفوس والأعراض يوجب الندامة وإن لم يوجب الملامة؛ فاذا شمل العلة بهذه القرينة ما هو حجة لديهم أيضاً، كان لازمه بمقتضى عموم العلة ردعهم عن مثل هذا العمل مطلقاً، ومع هذا التعميم لا يبقى مجال حكومة المفهوم على عموم العلة، بل عموم العلة موجب لمنع المفهوم، كما لا يخفى؛ فتدبر.

العقلاء - بخلاف خبر الفاسق ، فان الاعتماد عليه يعد من السفاهة والجهالة ، فخبر العادل لا يشارك خبر الفاسق في العلة ، بل هو خارج عنها موضوعا.

فان قلت : لو لم يصح الاعتماد على خبر الفاسق ، فكيف اعتمدت الصحابة على خبر « الوليد الفاسق » وأرادوا تجهيز الجيش على قتال « بني المصطلق » عند إخبار « الوليد » بارتدادهم وامتناعهم عن أداء الصدقة؟.

قلت : ربما يركن الشخص إلى ما لا ينبغي الركون إليه غفلة أو لاعتقاده عدالة المخبر (1) فنزلت الآية الشريفة للتنبيه على غفلتهم أو لسلب اعتقادهم عن عدالة « الوليد ». وبالجملة : لا إشكال : في أن الاعتماد على خبر الفاسق يكون من الجهالة ، دون الاعتماد على خبر العادل.

وثانيا : أنه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم ، بل المفهوم يكون حاكما على العموم ، لأنه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزا له وكاشفا عنه فلا يشمله عموم التعليل ، لا لأجل تخصيصه بالمفهوم لكي يقال : إنه يأبى عن التخصيص ، بل لحكومة المفهوم عليه ، فليس خبر العدل من أفراد العموم ، لأن أقصى ما يقتضيه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضي أن يكون خبر العدل علما في عالم التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل ، لأن المحكوم لا يعارض

ص: 172


1- أقول : بل ربما يكون شدة الاهتمام بشيء لحفظ النفس والعرض يوجب الإقدام بمجرد الاحتمال الضعيف الغير البالغ إلى مرتبة الحجية لدى العقلاء بلا غفلة ، كما هو ظاهر.

الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أو كانت النسبة بينهما العموم من وجه. والسر في ذلك : هو أن الحاكم إنما يتعرض لعقد وضع المحكوم ، إما بتوسعة الموضوع بإدخال ما ليس داخلا فيه ، وإما بتضييقه باخراج ما ليس خارجا عنه ، كما ذكرنا تفصيله في « الجزء الرابع » والمفهوم في الآية يوجب تضييق موضوع العام وإخراج خبر العادل عنه موضوعا بجعله محرزا للواقع.

فان قلت : إن ذلك كله فرع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، والمدعى هو أن عموم التعليل واتصاله بها يمنع عن ظهور القضية في المفهوم.

قلت : المانع من ثبوت المفهوم ليس إلا توهم منافاته لعموم التعليل وعمومه يقتضي عدم كون القضية ذات مفهوم ، وإلا فظهورها الأولى في المفهوم مما لا سبيل إلى إنكاره. وبالبيان المتقدم ظهر : أنه لا منافاة بين المفهوم وعموم التعليل. لأن ثبوت المفهوم للقضية لا يقتضي تخصيص عمومه ، بل العموم على حاله ، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا من حكمه. ولا يكاد يمكن أن يتكفل العام بيان موضوعه من وضع أو رفع ، بل إنما يتكفل حكم الموضوع على فرض وجوده ، والمفهوم يمنع عن وجوده ويخرج خبر العادل عما وراء العلم الذي هو الموضوع في العام ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، وذلك واضح.

فظهر : أن التفصي عن الإشكال لا يحتاج إلى القول بأن المراد من الجهالة ما يقابل الظن الاطميناني.

فالآية تدل على حجية كل ظن اطميناني ، كما أفاده الشيخ قدس سره فان ذلك تبعيد للمسافة ، مع إمكان التفصي عن لإشكال بوجه أقرب ، وهو ما تقدم ، فتأمل جيدا.

ومن الإشكالات التي تختص بآية النبأ أيضاً : هو أنه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، مع أن العام يكون نصا في المورد ولا يمكن تخصيصه بما

ص: 173

عدا المورد ، لأنه كان مورد نزول الآية الشريفة هو الأخبار بالارتداد ، وهو لا يثبت إلا بالبينة - كما هو الشأن في جميع الموضوعات الخارجية - فإنه لا تثبت بخبر الواحد إلا ما قام الدليل بالخصوص عليه ، وإلا فحجية الخبر الواحد تختص بالأحكام ، فلابد من تقييد عموم المفهوم بما ينطبق على المورد ، وحيث إن المورد مما لا يقبل فيه خبر الواحد فلا يدل المفهوم على حجية خبر العدل.

وفيه : أن المورد إنما كان إخبار « الوليد الفاسق » بارتداد « بني المصطلق » والآية الشريفة إنما نزلت في شأنه لبيان كبرى كلية ، والمورد داخل في عموم الكبرى وهي قوله تعالى : « إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا » فان خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقا ، لا في الموضوعات ولا في الأحكام. وأما المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود والتحقق ، لأنه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية التي لم ترد في مورد خاص قابل للتخصيص بأي مخصص. فلا مانع من تخصيص عموم المفهوم بما عدا الخبر الواحد القائم على الموضوعات الخارجية ، ولا فرق بين المفهوم والعام الابتدائي ، سوى أن المفهوم كان مما تقتضيه خصوصية في المنطوق استتبعت ثبوت المفهوم ، وإلا فهو كالعام الابتدائي الذي لم يرد في مورد خاص ، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد حتى إذا كان المنطوق في مورد خاص فالمفهوم أيضا لابد وأن يكون في ذلك المورد ، بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق عين الموضوع في المفهوم ، فتأمل.

ومما ذكرنا ظهر فيما أجاب به الشيخ قدس سره عن الإشكال بقوله : « وفيه أن غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم بالنسبة إلى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل فكل واحد من خبر العدلين في البينة لا يجب التبين فيه ، وأما لزوم إخراج المورد فممنوع ، لأن المورد دخل في منطوق الآية لا مفهومها ، وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبين إذا كان المخبر به فاسقاً ولعدمه

ص: 174

إذا كان المخبر به عادلا لا يلزم منه إلا تقييد الحكم في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء » انتهى. (1)لم أجد موردا خاصا لهذه التعليقة. والظاهر أنها والتعليقة الآتية تردان على مورد واحد ( المصحح ).(2).

إذ فيه : أنه بعد تسليم كون مورد المفهوم هو الخبر بالارتداد (3) فلا محالة يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، ولابد حينئذ من تقييد عموم المفهوم بما ينطبق على المورد ، فإذا كان المورد مما يعتبر فيه التعدد فالمفهوم يختص بالبينة ولا يصح التمسك به لحجية الخبر الواحد ، لما عرفت : من أنه لابد وأن يكون كبرى لصغرى المورد ، فتدبر.

وقد أشكل على التمسك بآية النبأ بأمور اخر يختص بمفهوم الآية لا يهمنا التعرض لها ، لأنها واهية جدا.

فالأولى التعرض لما لا يختص بالآية من الإشكالات ، بل يعم جميع الأدلة الدالة على حجية خبر العدل.

منها : وقوع التعارض بينها وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم الحجية.

وفيه : ما عرفت سابقا من أنه لا مجال لتوهم المعارضة ، لان أدلة الحجية التي منها مفهوم الآية تقتضي خروج العمل بخبر العدل عن كونه عملا بالظن أو بما وراء العلم بالحكومة ، بالبيان المتقدم. هذا مع أن النسبة بين المفهوم مثلا والآيات الناهية عن العمل بالظن هي العموم والخصوص ، لأنه يختص

ص: 175


1- أقول: إذا كان الموضوع في المنطوق البناء الكلى الشامل لخبر الإرتداد جزماً، لابد من أخذ مثل ذلك في المفهوم أيضاً؛ وحينئذ لا يعقل أن يكون الموضوع في طرف المفهوم كلياً غير ناظر إليه بخصوصه، كي يكون كساير العمومات الإبتدائية قابلاً للتخصيص كما لا يخفى؛ فتدبر
2-
3- أقول : لا قصور في أخذ العموم في طرف المفهوم والحكم بعدم وجوب التبين في خبر العادل مطلقا ، غاية الأمر بشرط ضم خبر آخر إليه في باب الارتداد الداخل في العموم جزما ، ومجرد أخذ شرط في بعض أفراد العام لا يوجب تخصيصه أو تقييده بغير هذا الفرد ولا اختصاصه بخصوصية لا يشمل العام خبر الارتداد ، كما هو ظاهر.

بخبر العدل الذي لا يفيد العلم ولا يعم ما يفيد العلم ، فان المفهوم يتبع المنطوق في العموم والخصوص ، ولا إشكال في أن المنطوق يختص بخبر الفاسق الذي لا يفيد العلم ، كما يظهر من التعليل ، فالمفهوم أيضا يختص بذلك وتكون النسبة بينه وبين عموم الآيات العموم والخصوص ، والصناعة تقتضي تخصيص عمومها بما عدا خبر العدل.

وما ربّما يقال : من أن الآيات الناهية أيضا مختصة بصورة التمكن من العلم وبما عدا البينة وبعد تخصيصها بذلك تنقلب النسبة بينها وبين المفهوم إلى العموم من وجه بعد ما كانت النسبة العموم والخصوص المطلق ، لأن المفهوم وإن كان يختص بما لا يفيد العلم ولكن يعم صورة التمكن من تحصيل العلم وعدمه ، والآيات الناهية وإن كانت أعم من خبر العدل وغيره ، إلا أنها تختص بصورة التمكن من العلم ، فيقع التعارض بينهما في خبر العدل مع التمكن من العلم ، وبعد التعارض يرجع إلى أصالة عدم الحجية.

فضعيف غايته ، فان انقلاب النسبة مبنى على ملاحظة العام أولا مع بعض المخصصات وتخصيصه به ثم ملاحظة النسبة بينه وبين المخصصات الاخر ، فربما تنقلب النسبة بينه وبينها إلى نسبة أخرى (1) ولكن هذا مما لا وجه له ، فان نسبة العام إلى جميع المخصصات على حد سواء ولابد من تخصيصه بالجميع في عرض واحد ، إلا إذا كان التخصيص بالجميع يوجب الاستيعاب أو التخصيص المستهجن ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه ( في مبحث التعادل والتراجيح ) ففي المقام خبر العدل ومورد عدم التمكن من العلم والبينة والفتوى كلها في عرض واحد خارجة عن عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن بالتخصيص ، وذلك أيضاً واضح.

ص: 176


1- أقول : قد حققنا في محله أن انقلاب النسبة مطلقا من أوهن التوهمات ، وتعرضنا لكلامه في مبحث « التعادل والترجيح » فراجع وتبصر فيه.

وممّا أورد على التمسك بالآية : هو أنه لو دلت على حجية الخبر الواحد لكان من جملة أفراده الإجماع الذي أخبر به السيد (رحمه اللّه) على عدم حجية خبر الواحد ، فإنه من أفراد الخبر العادل وقد أخبر برأي المعصوم علیه السلام وهذا الإشكال أيضا لا يختص بمفهوم آية النبأ ، بل يعم جميع الأدلة.

وأنت خبير بما فيه ، فإنه يرد عليه - مضافا إلى أنه من الإجماع المنقول الذي لا اعتبار به ومضافا إلى معارضته بالإجماع الذي أخبر به الشيخ (رحمه اللّه) على حجية خبر العدل - انه يلزم من دخول خبر السيد (رحمه اللّه) خروجه ، ولا يمكن أن تشتمل أدلة اعتبار أخبار الآحاد ما يلزم من اعتباره عدم اعتباره (1) مع أنه يمكن أن يقال : بقيام الإجماع على عدم اعتبار ما أخبر به السيد (رحمه اللّه) حتى من نفس السيد (رحمه اللّه) لأن حكاية ( السيد ) الإجماع على عدم حجية خبر العدل يشمل خبر نفسه ، فيكون قد حكى الإجماع على عدم اعتبار قوله ، فتأمل.

ومن الإشكالات التي لا تختص بمفهوم آية النبأ : إشكال شمول أدلة الحجية للأخبار الحاكية لقول الإمام علیه السلام بواسطة أو بوسائط ، كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » عن « الصدوق » عن « الصفار » عن العسكري علیه السلام ويمكن تقريب هذا الإشكال بوجوه :

الوجه الأول : دعوى انصراف الأدلة عن الأخبار بالواسطة.

وهذا الوجه ضعيف غايته ، فإنه لا موجب للانصراف ، مع أن كل واسطة من الوسائط إنما تخبر عن الخبر السابق عليها ، فكل لاحق يخبر عن سابقه بلا واسطة.

ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني وهو دعوى أنه لا يترتب

ص: 177


1- أقول : هذان الإشكالان مبنيان على شمول خبر « السيد » جميع الأفراد حتى نفسه ، وإلا فبناء على انصرافه على نفسه ، فلا يرد عليه إشكال.

على خبر الوسائط أثر شرعي يصح التعبد به ، فان المخبر به بخبر « الشيخ » هو قول « المفيد » والمخبر به بخبر « المفيد » هو قول « الصدوق ره » ولا أثر لقول « الشيخ ره » و « المفيد » و « الصدوق » بحيث يصح باعتباره التعبد بأخبارهم.

وأنت خبير : بأنه يكفي في صحة التعبد كون المتعبد به مما له دخل في موضوع الحكم ، وكل واحد من سلسلة الوسائط له دخل في ثبوت قول العسكري علیه السلام لأنه واقع في طريق إثبات قوله علیه السلام وهذا المقدار من الأثر يكفي في صحة التعبد به ، فهذا الوجه ضعيف غايته. نعم : يمكن تقريب هذا الإشكال بوجه آخر ليس بهذه المثابة من الضعف ، سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ).

الوجه الثالث : دعوى أنه يلزم إثبات الموضوع بالحكم بالنسبة إلى الوسائط (1) فان إخبار « المفيد » للشيخ قدس سره وإخبار « الصدوق » للمفيد وإخبار « الصفار » للصدوق ليس محرزا بالوجدان ، بل المحرز بالوجدان هو إخبار « الشيخ » عن « المفيد » بسماع منه أو أخذه من كتابه ، وأما الوسائط فليس شيء من أخبارها محرزا بالوجدان ، بل إنما يراد إثباتها بالتعبد والحكم بتصديق العادل ، فيلزم أن يكون الحكم بتصديق العادل مثبتا لأصل أخبار الوسائط ، مع أن خبر الوسائط يكون موضوعا لهذا الحكم ، فلابد وأن يكون الخبر في المرتبة السابقة محرزا إما بالوجدان وإما بالتعبد ليحكم عليه بوجوب تصديقه ،

ص: 178


1- أقول : لا يخفي عليك أن أساس هذه الإشكالات جعل الإنشاء بالنسبة إلى منشأه من الأحكام من قبيل العلة لمعلولاته ، فإنه حينئذ له مجال أن يدعي أن العلة الواحدة لا يعقل أن يؤثر في المعاليل المتعددة الطولية ، بنحو يكون أحدها موضوع الآخر ، بل المعاليل المتعددة إذا انتهت إلى علة واحدة لا يكون إلا عرضية بلا طولية فيها. ولكن قد حققنا كرارا أن هذا المعنى في الأحكام التكليفية غلط ، بل الإنشاءات في الأحكام التكليفية مبرزات عن الإرادة ، وحينئذ لا غرو في دعوى ابراز إنشاء واحد لإرادات طولية بنحو يكون كل منها موضوعا للآخر ، وبعد ذلك ينحسم مادة الإشكال في الأخبار مع الواسطة رأسا ، كما لا يخفى على من كان له دراية.

لأنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة المعروض إلى العرض ، فلا يعقل أن يكون الحكم موجدا لموضوعه لاستلزامه الدور المحال.

ولكن لا يخفى عليك فساد هذا الوجه أيضا ، فإن الذي لا يعقل هو إثبات الحكم موضوع شخصه ، لا إثبات موضوع لحكم آخر ، فان هذا بمكان من الإمكان ، والمقام يكون من هذا القبيل ، فان خبر « المفيد » إنما يثبت بوجوب تصديق الشيخ (رحمه اللّه) في إخباره عنه الذي فرضنا أنه محرز بالوجدان ، وإذا ثبت خبر « المفيد » بوجوب تصديق « الشيخ » يعرض عليه وجوب التصديق ، ومن وجوب تصديق « المفيد » يثبت خبر الصدوق (رحمه اللّه) فيعرض عليه وجوب التصديق ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى أول سلسلة الوسائط ، فكل حكم لموضوع مثبت لموضوع آخر يترتب عليه حكم آخر ، فتكون موضوعات متعددة لأحكام متعددة ، غايته أن الأحكام تكون من سنخ واحد ، وتعدد الإحكام إنما ينشأ من انحلال قضية « صدق العادل » كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقة حيث إنها تنحل إلى أحكام متعددة حسب ما لموضوعها من الأفراد.

والحاصل : أن خبر المنقول عنه يثبت بالتعبد بتصديق الناقل ، فلا يلزم إثبات الحكم لموضوع شخصه.

الوجه الرابع : هو أنه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس تصديقه ، من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه.

وتوضيح ذلك : هو أن التعبد بالأصول والأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية إنما هو باعتبار ما يترتب عليها من الآثار الشرعية ، ولابد أن تكون تلك الآثار مترتبة على الموضوعات بأدلتها ليصح التعبد بالأمارة بلحاظ تلك الآثار ، مثلا التعبد بخبر العدل القائم على عدالة « زيد » ووجوب تصديقه إنما يكون باعتبار ما يترتب على عدالته من الآثار : من جواز الصلاة

ص: 179

خلفه والطلاق عنده ، ونحو ذلك من الآثار الشرعية المترتبة على عدالة « زيد » فلابد وأن يكون ترتب الأثر على الموضوع مفروغا عنه ليصح التعبد بالإمارة القائمة على ذلك الموضوع والحكم بوجوب تصديقها.

فإذا كان الخبر بلا واسطة كإخبار « زرارة » عن الصادق علیه السلام بوجوب شيء أو حرمته ، فلا إشكال في صحة التعبد بقول « زرارة » والحكم بوجوب تصديقه ، لأنه يترتب على ذلك قول الصادق علیه السلام من وجوب الشيء أو حرمته.

وأما إذا كان الخبر مع الواسطة كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » عن « الصدوق » عن « الصفار » عن العسكري علیه السلام فالتعبد بخبر « الشيخ » ووجوب تصديقه في إخباره عن « المفيد » مما لا يترتب عليه أثر شرعي سوى نفس هذا الحكم وهو وجوب التصديق ، ووجوب التصديق وإن كان من الأحكام والآثار الشرعية ، إلا أنه لابد وأن يكون بلحاظ ما يترتب على المخبر به بخبر العادل من الآثار ، ولا يعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسه.

وبعبارة أخرى : إن إخبار « الشيخ » عن « المفيد » وإن كان يترتب عليه أثر شرعي وهو وجوب تصديقه ، إلا أن هذا الأثر لم يكن ثابتا لخبر « الشيخ » مع قطع النظر عن دليل اعتبار قوله والحكم بوجوب تصديقه ، بل جاء من نفس وجوب التصديق ، فيلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس وجوب التصديق وهو لا يعقل.

وقد ظهر : أن هذا الإشكال لا يختص بالوسائط ، بل يأتي في آخر السلسلة وهو إخبار « الشيخ » المحرز بالوجدان ، بخلاف الإشكال الثالث ، فإنه يختص بالوسائط ولا يشمل آخر السلسلة.

ولا يخفى : أن هذا الإشكال إنما يتوجه بناء على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجية. أما بناء على ما هو المختار : من أن المجعول في

ص: 180

باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات (1) فلا إشكال حتى نحتاج إلى التفصي عنه ، فإنه لا يلزم شيء مما ذكر ، لأن المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدى إليه أي شيء كان المؤدى ، فقول « الشيخ » طريق إلى قول « المفيد » وقول « المفيد » طريق إلى قول « الصدوق » وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول « زرارة » الحاكي لقول الإمام علیه السلام ولا يحتاج في جعل الطريقية إلى أن يكون في نفس مؤدى الطريق أثر شرعي ، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر ولو بألف واسطة - كما في المقام - فان جعل الطريقية لأقوال السلسلة لمكان أنها تنتهي إلى قول الإمام علیه السلام فتكون جميع الأقوال واقعة في طريق إثبات الحكم الشرعي ، فتأمل.

ويمكن تقريب « الوجه الرابع » بوجه آخر لعله يأتي حتى بناء على المختار : من كون المجعول نفس الطريقية ، وإن شئت فاجعله « خامس الوجوه » وهو أنه لو عم دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة يلزم أن يكون الدليل حاكما على نفسه ويتحد الحاكم والمحكوم.

وتقريب ذلك : هو أن أدلة اعتبار الأصول والأمارات إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على موضوعاتها الواقعية : من الواجبات والمحرمات وغير ذلك من الأحكام التكليفية والوضعية ، ومعنى حكومتها هو أنها مثبتة لتلك الأحكام ، فلو فرضنا أن مؤدى الأمارة كان إخبار العدل كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » فالذي يترتب على إخبار « الشيخ » هو وجوب تصديقه ، ومفاد الدليل الدال على اعتبار قول « الشيخ » أيضا هو وجوب التصديق ، والمفروض أن دليل الاعتبار يكون حاكما على

ص: 181


1- أقول : المجعول في الأمارة على فرض كونه الوسطية ، اما المراد من الوسطية؟ فان كان المراد وسطيته لإثبات حكم متعلقه ، فلا محيص من الالتزام بحكم للمتعلق كي يكون الوسط المزبور يثبت حكمه. وإن كان المراد الوسطية لإثبات حكم ولو غير حكم متعلقه ، فمن الأول نلتزم بكفاية جعل أول السلسلة لإثبات مضمون آخر السلسلة ، بلا احتياج إلى شمول الدليل للوسائط ، ولا أظن التزامك به.

الأحكام الواقعية ، والحكم الواقعي المترتب على خبر « الشيخ » هو وجوب تصديقه الجائي من قبل دليل الاعتبار ، ومفاد دليل الاعتبار أيضا هو وجوب التصديق ، فيلزم أن يكون وجوب التصديق حاكما على نفسه.

ونظير هذا الإشكال يأتي في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فان في كل من الشك السببي والمسببي يقين سابق وشك لاحق ، فيعمه دليل اعتبار الاستصحاب ، وليس في البين إلا قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فلو كان الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي كان دليل الاعتبار حاكما على نفسه. نعم : لو كان لكل من الأصل الجاري في الشك السببي والمسببي دليل يخصه أمكن أن يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، هذا.

والتحقيق في حلّ الإشكال الرابع - مع ما يتلوه من الوجه الخامس - هو أن يقال : إن دليل الاعتبار وإن كان بحسب الصورة قضية واحدة ، إلا أنه ينحل إلى قضايا متعددة ويكون الملحوظ فيه طبيعة الأثر (1) فإذا فرضنا أن سلسلة سند الروايات تنتهي بالأخرة إلى الرواية الحاكية لقول الإمام علیه السلام فدليل التعبد ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد السلسلة ، ويكون لكل منها أثر يخصه غير الأثر المترتب على الآخر ، ولا يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم ، بل تكون كل قضية حاكمة على غيرها ، فان المخبر به يخبر « الصفار » الحاكي لقول العسكري علیه السلام في مبدأ السلسلة لما كان حكما شرعيا من وجوب الشيء أو حرمته وجب تصديق « الصفار » في إخباره عن العسكري علیه السلام بمقتضى أدلة خبر العادل ، فيكون وجوب

ص: 182


1- أقول : مجرد انحلال القضية إلى قضايا متعددة لولا ما ذكرنا ، لا يجدى لرفع الإشكال ، لأن البرهان المزبور يوجب أن يكون القضايا المتعددة عرضية لا طولية ، ومع ذلك كيف يصلح الانحلال المزبور لرفع الإشكال؟ فتدبر.

تصديق « الصفار » من الآثار الشرعية المترتبة على خبر « الصفار » ف « الصدوق » الحاكي لقول « الصفار » قد حكى موضوعا ذا أثر شرعي ، فيعم قول « الصدوق » دليل الاعتبار ويجب تصديقه في إخبار « الصفار » له ، فيكون وجوب التصديق أثرا شرعيا رتب على قول « الصدوق ». ثم إن « المفيد » الحاكي لقول « الصدوق » قد حكى موضوعا ذا أثر شرعي فيجب تصديقه أيضا ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول « الشيخ » المحرز بالوجدان ، فكل لاحق يخبر عن موضوع سابق ذي أثر ، غايته أن الآثار تكون من سنخ واحد ، ولا محذور في ذلك إذا انتهت الآثار إلى أثر مغاير ، وهو وجوب الشيء أو حرمته الذي حكاه عن الإمام علیه السلام مبدأ السلسلة وهو « الصفار » فلا يلزم أن يكون الأثر المترتب على التعبد بالخبر بلحاظ نفسه ولا حكومة الدليل على نفسه (1) لما عرفت من تغاير الآثار وتغاير الحاكم والمحكوم.

أما الأول : فلأن أثر التعبد بكل خبر باعتبار ما يترتب عليه من وجوب التصديق في المرتبة السابقة على التعبد به.

وأما الثاني : فلأن دليل الاعتبار اللاحق يكون حاكم على الحكم المترتب على الموضوع السابق عليه ، والمنشأ في ذلك هو انحلال قضية وجوب تصديق العادل وانتهاء أخبار السلسلة إلى قول الإمام علیه السلام فبهذه المقدمتين يرتفع الإشكال الرابع والخامس.

ص: 183


1- لا يخفى : أن طريق حل « الإشكال الثالث » وهو إثبات الموضوع بالحكم مع طريق حل « الإشكال الرابع » وإن كان أمرا واحدا ، وهو انحلال القضية إلى قضايا متعددة ، إلا أن حل « الإشكال الثالث » إنما يكون بلحاظ آخر السلسلة وهو خبر « الشيخ » المحرز بالوجدان ، فإن وجوب تصديق « الشيخ » هو الذي يثبت موضوعا آخر وهو خبر « المفيد » عن « الصدوق » وحل « الإشكال الرابع » إنما هو بلحاظ مبدأ السلسلة وهو الراوي عن الإمام علیه السلام فان وجوب تصديق « الصفار » هو الذي يترتب عليه الأثر غير وجوب التصديق ، وهو ثبوت قول العسكري علیه السلام ثم يكون وجوب تصديق « الصفار » أثرا لإخبار « الصدوق » عنه ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى آخر السلسلة ( منه ).

ومن ذلك يظهر : عدم الإشكال في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي فان انحلال قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى ما لليقين والشك من الأفراد يقتضي حكومة أحد الفردين على الآخر ، لا حكومته على نفسه ، كحكومة أحد فردي دليل الاعتبار فيما نحن فيه على الآخر ، غايته أن الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار ، فان وجوب تصديق « الشيخ » في إخباره عن « المفيد » يقتضي وجوب تصديق « المفيد » في إخباره عن الصدوق (رحمه اللّه) فوجوب التصديق « الشيخ » يدخل فردا تحت عموم وجوب التصديق بحيث لولاه لما كان داخلا فيه.

ولعل خفاء الفرق بين الحكومة في الأصل السببي والمسببي وفيما نحن فيه وأن هناك بإخراج فرد عن العموم وفي المقام بإدخال فرد فيه ، أوجب أن يضرب على عبارة الشيخ قدس سره في بعض نسخ « الرسائل » مما كانت تتضمن تنظير المقام بالأصل السببي والمسببي.

ولا يخفى أن عبارة « الشيخ » في بيان الإشكالات والأجوبة مضطربة ، فان جملة من العبارة تتكفل الإشكال الثالث ، وجملة منها تتكفل الإشكال الرابع ، ولذا قد ضرب على كثير من نسخ الكتاب في هذا المقام ، وعليك بالتأمل التام فيما ذكرناه.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بآية النبأ من تقريب الاستدلال بها والإشكالات المتوجهة عليه.

وقد بقى بعض الإشكالات ولكن لا يهم التعرض لها ، لوضوح فسادها ، فراجع فرائد الشيخ قدس سره .

ومن جملة الآيات التي استدل بها على حجية أخبار الآحاد قوله تعالى : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا

ص: 184

إليهم لعلّهم يحذرون » (1) وتقريب الاستدلال بها على وجه يندفع ما أورد على الاستدلال بها يتركب من أمور :

الأمر الأوّل : كلمة « لعل » مهما تستعمل تدل على أن ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها (2) سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات وسواء كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي يمكن تعلق الإرادة بها أو من الموضوعات الخارجية التي لا يصح أن يتعلق بها الإرادة ، فإنه على جميع التقادير كلمة « لعل » تقتضي أن يكون ما يتلوها علة غائية لما قبلها ، فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لان يتعلق بها الإرادة الفاعلية والآمرية كان لا محالة بحكم ما قبلها ، فان كان ما قبلها واجبا يكون ما يتلوها أيضا واجبا ، وإن كان مستحبا فكذلك ، فان جعل الفعل الاختياري غاية للواجب أو للمستحب يلازم وجوب ذلك الفعل أو استحبابه ، وإلا لم يكن من العلل الغائية.

وبالجملة : لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب علته الغائية إذا صح أن يتعلق الطلب بها من حيث كونها فعلا اختياريا قابل لتعلق الإرادة به ، وفي الآية الشريفة جعل التحذر علة غائية للإنذار ، ولما كان الإنذار واجبا كان التحذر أيضا واجبا.

وسيأتي أن المراد من « التحذر » هو التحذر من حيث العمل بقول المنذر لا مجرد الخوف ، فهو من الأفعال الاختيارية التي يصح أن يتعلق

ص: 185


1- التوبة الآية 122.
2- أقول : الذي يمكن أن يدعى أن مورد استعمال هذه الكلمة أوسع من مورد الغاية ، كيف وفي قوله « علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه » ليس كونه غاية لعدم الإهانة؟ بل هذه الكلمة في أمثال المقام مستعملة في مجرد إبداء الاحتمال بلا مطلوبية في مدخوله ، كما في قولنا « لا تدخله في بيتك لعله عدوك » ومن هنا أيضا ظهر ما في توهم إشراب جهة مطلوبية في مضمون تاليه كما لا يخفى ، فتدبر.

التكليف بها ، وإذا تأمل الشخص في موارد استعمال كلمة « لعل » يرى أن في جميع الموارد ما بعدها يكون في حكم ما قبلها من حيث الوجوب والاستحباب إن كان ما بعدها من الأفعال الإختيارية.

الأمر الثاني : المراد من الجمع (1) في قوله تعالى « ليتفقهوا » وفي قوله « لينذروا » وفي قوله « ليحذروا » هو الجمع الاستغراقي الأفرادي ، لا المجموعي الارتباطي ، لوضوح أن المكلف بالتفقه هو كل فرد فرد من أفرد الطائفة النافرين أو المتخلفين - على الوجهين في تفسير الآية - وليس المراد تفقه مجموع الطائفة من حيث المجموع ، كما أنه ليس المراد إنذار المجموع من حيث المجموع ، بل المراد أن يتفقه كل واحد من النافرين أو المتخلفين وينذر كل واحد منهم. وبالجملة : كما أن المراد من الجمع في قوله تعالى « يحذرون » هو الجمع الاستغراقي الأفرادي ، كذلك المراد من الجمع في قوله تعالى « ليتفقهوا » و « لينذروا » هو الجمع الإفرادي.

الأمر الثالث : ليس المراد من الحذر مجرد الخوف والتحذر القلبي ، بل المراد منه هو التحذر الخارجي ، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون. وليس المراد أيضا الحذر عند حصول العلم من قول المنذر ، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله تعالى « لينذروا » هو وجوب الحذر مطلقا ، حصل العلم من قول المنذر أو لم

ص: 186


1- أقول : أظن أن غرضه من هذه المقدمة دفع توهم حمل الإنذار منهم على ما يفيد العلم للمتخلفين بخيال أن ما يفيد العلم هو إنذار مجموعهم ، لا كل واحد. وفيه: أن وجوب الإنذار على كل واحد بنحو الاستغراق أيضاً لا ينافي مع حمل الآية على صورة إفادة إنذارهم للعلم نظراً إلى إهمال الآية من هذه الجهة كما سيأتى؛ وحينئذ العمدة دفع الإهمال من هذه الجهة، وإلاّ فمجرد وجوب الإنذار على كل واحد واحد غير مفيد.

يحصل ؛ غايته أنه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلا ، لقيام الدليل على عدم وجوب العمل بقول الفاسق ، كما هو مفاد منطوق آية النبأ.

وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن يشكك أحد في دلالة الآية الشريفة على حجية خبر العدل ، فان مفادها بعد ضم الأمور السابقة ، هو وجوب قبول قول المنذر والحذر منه عملا عند إخباره بما تفقه من الحكم الشرعي إذا كان المنذر عدلا ، ولا نعنى بحجية خبر الواحد إلا ذلك ، فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد سائر الأدلة الدالة على حجية قول العدل في الأحكام.

وبما ذكرنا من تقريب الاستدلال يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات على التمسك بالآية الشريفة.

منها : ان غاية ما تدل عليه الآية هو مطلوبية الحذر عقيب الإنذار ، إلا أنها ليس لها إطلاق يعم صورة عدم حصول العلم من قول المنذر.

وأنت خبير : بأنه بعد ما عرفت من أن المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الإشكال ، فإنه أي إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (1).

ومنها : ان وجوب الحذر إنما يكون عقيب إنذار المنذر بما تفقه ، والتفقه عبارة عن العلم بأحكام الدين من الواجبات والمحرمات الواقعية ، فلابد وأن يكون المنذر ( بالفتح ) عالما بأن إنذار المنذر ( بالكسر ) كان بالمحرمات والواجبات الواقعية ، فيختص اعتبار قول المنذر بما إذا حصل للمنذر ( بالفتح ) العلم بالحكم الشرعي من قوله ، ولا يخفى أن هذا الإشكال وإن كان بالنتيجة يتحد مع الإشكال السابق ، إلا أن طريق الإشكال يختلف ، كما هو واضح.

ص: 187


1- أقول : بعد عدم الملازمة بين العموم المزبور مع إطلاق الإنذار لا معنى لهذا الاستنتاج في المقام ، بل العمدة إثبات الإطلاق المزبور ، وهو أول الكلام ، لإمكان دعوى إهمال القضية من حيث الحال ، مع فرض عموم الإنذار استغراقا أفرادياً.

وهذا الإشكال يتلو السابق في الفساد ، فان نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام ، لأن قول المنذر إذا جعل طريقا إليها ومحرزا لها فيجب اتباع قوله والبناء على أنه هو الواقع ، كما هو الشأن في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق والأمارات ، فان نتيجة دليل الاعتبار كون مؤدى الطريق هو الواقع ، لا يجعل المؤدى حتى يرجع إلى التصويب (1) بل جعل الطريقية يقتضي ذلك ، ومن هنا كانت أدلتها حاكمة على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية ، فالآية بنفسها تدل على أن ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعية.

ومنها : ان الحذر إنما يجب عقيب الإنذار (2) والإنذار ليس مطلق الإخبار عن الحكم ، بل هو الإخبار المشتمل على التخويف ، والتخويف ليس من شأن الراوي ، بل هو من شأن المفتي والواعظ ، فالآية تدل على حجية قول المفتي لا قول الراوي.

وفيه : أن الإنذار وإن كان هو الإخبار المشتمل على التخويف ، إلا أنه أعم من الصراحة والضمنية (3) فإنه يصدق الإنذار على الإخبار المتضمن للتخويف ضمنا وإن لم يصرح به المنذر ، وإلا لم يصدق الإنذار على فتوى المفتي ، فإنه ليس في الفتوى التصريح بالتخويف ، مع أن المستشكل سلم صدق الإنذار على الفتوى ، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على

ص: 188


1- 1 - لا يخفى ما في العبارة من الاضطراب ، ولعل الصحيح « لا جعل المودى واقعا » ( المصحح )
2- أقول : صورة الشبهة غير مستقيم ، لان إنذار كل واحد ولو فاسقا إنذار بالحكم الواقعي كإخباره ، والتحذر من هذا الإنذار لا يقتضي العلم بالحكم ، بل يكفي فيه حجية قوله ، كما هو الشأن في كل خبر بشيء ، وحيث إنه ينوط باطلاق الآية من حيث الحال ، فيكون ذلك من تبعات الإشكال السابق ، وليس إشكالا آخر متحدا معه نتيجة ، فتدبر.
3- أقول : عمدة نظر المستشكل إلى احتياج الإنذار والتخويف من شخص إلى الالتفات بلازم تخويفه وبعنوانه ، ومثل هذا المعنى لا يصدق على العامي البحت الحاكي لمسموعاته من الإمام علیه السلام فتعميم التخويف إلى الصراحة والضمنية أجنبي عن جهة الإشكال ، كما لا يخفى.

التخويف ضمنا ، فان الإخبار بالوجوب يتضمن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.

فالإنصاف : أن الآية لو لم تكن أظهر من آية النبأ في الدلالة على حجية خبر العدل فلا تقصر عنها ، فتأمل جيدا (1).

وقد استدل على حجية الخبر الواحد بآيات اخر ، كآية السؤال وآية التصديق ، ولكن في دلالتها تأمل ، فراجع فرائد الشيخ قدس سره .

وأمّا السنّة فهي على طوائف :

منها : الأخبار العلاجية (2) المتكفلة لبيان حكم الروايات المتعارضة من الترجيح بالأشهرية والأورعية والأوثقية وغير ذلك من المرجحات ، ومع فقدها فالتخيير ، فإنها ظاهرة الدلالة في حجية الخبر الواحد عند عدم ابتلائه بالمعارض ووجوب الأخذ به مع عدم العلم بصدوره أو بمضمونه ، لأن الترجيح بالأوثقية والأعدلية لا يكاد يمكن إلا مع عدم العلم بالصدور والمضمون.

نعم : ليس فيها إطلاق يعم جميع أخبار الآحاد ، لأن إطلاقها مسوق لبيان حكم التعارض ، والقدر المتيقن دلالتها على حجية الخبر الموثوق به صدورا أو مضمونا (3) كما يدل على الأول الترجيح باشتهار الرواية بين الرواة أو

__________________

1 -

2 -

3 -

ص: 189


1- أقول : وللتأمل فيه مجال.
2- راجع الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي
3- أقول : في كون مطلق الوثوق قدرا متيقنا من هذه الأخبار نظر ، بل الذي هو القدر المتيقن صورة عدالة الراوي بجميع طبقاته المسمى عند أرباب الحديث ب « الصحيح الأعلائي » كما لا يخفى ، كما إنه يمكن دعوى أن « الثقة » المسؤول عنه في الروايات عن الإمام أو الواقع في كلام الإمام علیه السلام هو العدالة لا مطلق من يتحرز عن الكذب ولو كان فاسقا ، وحينئذ استفادة حجية الخبر الموثوق من مجموع هذه الروايات مشكل لولا دعوى السيرة والإجماع العملي في مقام استنباط الأحكام على مثله ، خصوصا مع عدم الكفاية عندهم مجرد خبر العادل خصوصا بجميع طبقاته في استنباط ما هو المعلوم بالإجمال عندهم من الأحكام. ولكن مع ذلك أمكن أن يقال في الانتقال من تعبير العدالة إلى الوثاقة : ربما يستظهر أن المناط في الحجية هو هذه الجهة ، وإن كان الموثوق عند الإمام علیه السلام فوق العدالة ، مؤيدا ذلك بالإرجاع إلى كتب « بني فضال » لمحض وثاقتهم كما لا يخفى.

وثاقة الراوي وعدالته - فان هذه المرجحات كلها ترجع إلى اعتبار الخبر الموثوق صدوره - وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

ومنها : الأخبار الواردة في إرجاع الأئمة - صلوات اللّه عليهم - بعض الصحابة إلى بعض في أخذ الفتوى والرواية ، كإرجاعه علیه السلام إلى « زرارة » بقوله علیه السلام « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » (1) وأشار إلى « زرارة » وقوله علیه السلام « وأما ما رواه زرارة عن أبي فلا يجوز رده » (2) وقوله علیه السلام « العمري ثقة فما أدى إليك عني فعني يؤدي » (3) وغير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها اعتبار الخبر الموثوق به ، وهي كثيرة مستفيضة.

ومنها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والعلماء ، كقوله علیه السلام في خبر الاحتجاج : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » الخبر (4).

ومنها : الأخبار الواردة في الرجوع إلى كتب « بني فضال » (5). ولا إشكال في أنه يستفاد من المجموع اعتبار الخبر الموثوق به ، بل يستفاد من بعضها أن الاعتماد على خبر الثقة كان مفروغا عنه عند الصحابة مرتكزا في أذهانهم ، ولذلك ورد في كثير من الأخبار السؤال عن وثاقة الراوي ، بحيث يظهر منها أن الكبرى مسلمة والسؤال كان عن الصغرى.

ص: 190


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 19.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 17.
3- الوسائل : الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 4.
4- الوسائل : الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 9.
5- الوسائل : الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 13.

ولا يتوهّم : ان هذه الأخبار من أخبار الآحاد ولا يصح الاستدلال بها لمثل المسألة ، فإنها لو لم تكن أغلب الطوائف متواترة معنى فلا إشكال في أن مجموعها متواترة إجمالا ، للعلم بصدور بعضها عنهم ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ).

والإنصاف : أن التتبع في هذه الأخبار يوجب القطع باعتبار الخبر الموثوق به.

وأمّا الإجماع :

فقد ذكر في تقريره وجوه : من الإجماع القولي ، والعملي ، وسيرة المسلمين ، وطريقة العقلاء. وينبغي أولا بيان الفرق بين هذه الوجوه ، ثم نعقبه بصحة الاستدلال بها ، فنقول :

أمّا الإجماع القولي : فهو عبارة عن اتفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعى أو أصولي. وطريق إحراز ذلك إنما يكون من تتبع أقوالهم في كتبهم ورسائلهم.

وأمّا الإجماع العملي : فهو عبارة عن عمل المجتهدين في المسألة الأصولية ، بحيث يستندون إليها في مقام الاستنباط ويعتمدون عليها عند الفتوى ، كإجماعهم على التمسك بالاستصحاب في أبواب الفقه ، سواء أجمعوا على الفتوى بحجيته أيضا ، أو كان مجرد الإجماع على الاستناد إليه في مقام الاستنباط ، غايته أنه في صورة الإجماع على الفتوى يجتمع الإجماع القولي والعملي. فالإجماع العملي لا يكون إلا في المسائل الأصولية التي تقع في طريق الاستنباط ، ولا معنى للإجماع العملي في المسائل الفرعية ، لاشتراك المجتهد في العمل بها مع غيره ، وليس العمل في المسألة الفرعية من مختصات المجتهد بما أنه مجتهد ، والإجماع الذي يكون من الأدلة إنما هو إجماع المجتهدين بما أنهم مجتهدون ، فالإجماع العملي لا يكاد يتحقق في المسائل الفرعية ، بل يختص بالمسائل الأصولية.

ص: 191

وأمّا السيرة : فهي عبارة عن عمل المسلمين بما أنهم مسلمون وملتزمون بأحكام الشريعة ، ولا إشكال في كشفها عن رضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى ذلك الزمان ، إذ من المستبعد جدا بل من المحال عادة استقرار سيرة المسلمين واستمرار عملهم على الشيء من عند أنفسهم من دون أن يكون ذلك بأمر الشارع ودستوره ، ولو سلم أنه يمكن تحقق السيرة بلا أمر منه ، فلا أقل من أنها تكشف عن رضاه ، وإلا كان عليه الردع إظهارا للحق وإزاحة للباطل.

نعم : يعتبر في حجية السيرة أن تكون من الملتزمين بالشريعة والمتدينين بها ، فلا عبرة بسيرة العوام الذين لا يبالون بمخالفة آداب الشريعة ويصغون إلى كل ناعق ، لوضوح أن سيرتهم لا تكشف عن رضا المعصوم ، لعدم ارتداعهم بردعه.

وأمّا طريقة العقلاء : (1) فهي عبارة عن استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء على شيء سواء انتحلوا إلى ملة ودين أو لم ينتحلوا ، ومنهم المسلمون ، وسواء كان ما استمرت عليه طريقتهم من المسائل الأصولية أو من المسائل الفقهية ، وقد يعبر عن الطريقة العقلائية ببناء العرف ، والمراد منه العرف العام ، كما يقال : إن بناء العرف في المعاملة الكذائية على كذا ، وليس بناء العرف شيئا يقابل الطريقة العقلائية ، ولا إشكال أيضا في اعتبار الطريقة العقلائية وصحة التمسك بها ، فان مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو : إما أن يكون لقهر قاهر وجبر سلطان جائر قهر جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم واستمرت إلى أن صارت من مرتكزاتهم ، وإما أن يكون مبدئها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت ، وإما أن

ص: 192


1- أقول : قد نقحنا المقام في طي كلامه في تقريب الآيات الناهية للمنع عن العمل بالظن في أول المسألة ، فراجع.

تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها اللّه تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظا للنظام.

ولا يخفى بعد الوجه الأول بل استحالته عادة ، وكذا الوجه الثاني ، فالمتعين هو الوجه الثالث ، ولكن على جميع الوجوه الثلاث يصح الاعتماد عليها والإتكال بها ، فإنها إذا كانت مستمرة إلى زمان الشارع وكانت بمنظر منه ومسمع وكان متمكنا من ردعهم ، ومع هذا لم يردع عنها فلا محالة يكشف كشفا قطعيا عن رضاء صاحب الشرع بالطريقة ، وإلا لردع عنها كما ردع عن كثير من بناءات الجاهلية ، ولو كان قد ردع عنها لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله.

ومن ذلك يظهر : أنه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها ، بل يكفي عدم الردع عنها ، فان عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضاء بها وإن لم يصرح بالإمضاء.

نعم : لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات (1) لأنها من الأمور الاعتبارية التي تتوقف صحتها على اعتبارها ، ولو كان المعتبر غير الشارع فلابد من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الإطلاق. وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان ب ( البيمة ) فإنها إذا لم تندرج في عموم « أحل اللّه » و « أوفوا بالعقود » ونحو ذلك ، فلا يجوز ترتيب آثار الصحة عليها.

وإذا قد عرفت الفرق بين هذه الوجوه الأربعة في تقرير الإجماع.

فاعلم : أنه يصح التمسك بالإجماع القولي المحكى عن الشيخ

ص: 193


1- أقول : لا فرق في المقامين بعد تسليم أن عدم ردعه عنهم يكشف عن رضائه بعملهم كما أن هذا الكشف أيضا في صورة وجود المعاملة في زمانه وكونها بمرئى منه علیه السلام ومسمعه ، وعدم مانع خارجي عن ردعه ، فان ذلك يلازم الإمضاء الكاشف عن أن اعتبار الشارع أيضا على وفق اعتبارهم ، كما لا يخفى.

قدس سره على اعتبار حجية خبر الثقة إذا فرض أنه يكشف كشفا قطعيا عن رأى المعصوم علیه السلام وعن وجود دليل معتبر عند الكل ، وإلا فلا عبرة به.

وأمّا الإجماع العملي : فهو وإن كان متحققا في المقام ، لما عرفت في صدر المبحث من حصول الاتفاق على التمسك بما في الكتب المعتبرة من الأخبار ، إلا أنه لا يصح التمسك للمقام بمثل هذا الإجماع العملي والاعتماد عليه ، لما تقدم من اختلاف مشرب المجمعين في ذلك ، فان بعضهم يعمل بها لكونها مقطوعة الصدور في نظره ، وبعضهم يعمل بها لكونها تفيد الظن مع بنائه على حجية مطلق الظن بدليل الانسداد ، وبعضهم يعمل بها لكونها مما قام الدليل على اعتبارها ، فالإجماع العملي في المقام يكون من الإجماع التقييدي الذي لا عبرة به في شيء من المقامات.

وأمّا سيرة المسلمين : فلا إشكال في حجيتها والاعتماد عليها ، لكن إذا كان الذي قامت السيرة عليه من الأمورات التوقيفية التي من شأنها أن تتلقى من الشارع ، فإنها تكشف لا محالة عن الجعل الشرعي فيما قامت السيرة عليه. وأما في الأمورات الغير التوقيفية التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشرع ، فمن المحتمل قريبا رجوع سيرة المسلمين إلى طريقة العقلاء. ولكن ذلك لا يضر جواز الاستدلال بها ، فإنه كما أن استمرار طريقة العقلاء يكشف عن رضاء صاحب الشرع بها ، كذلك سيرة المسلمين تكشف عن ذلك ، غايته أنه في مورد اجتماع السيرة والطريقة تكونان من قبيل تعدد الدليل على أمر واحد وذلك يضر بصحة الاستدلال بعمل واحد منهما ، ولا إشكال في قيام سيرة المسلمين على العمل بخبر الثقة واستمرارها إلى زمان الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) فتكون السيرة من جملة الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة.

وأمّا طريقة العقلاء : فهي عمدة أدلة الباب ، بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة والإتكال عليه في محاوراتهم ، بل على

ص: 194

ذلك يدور رحى نظامهم.

ويمكن أن يكون ما ورد من الأخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء وليست في مقام تأسيس جواز العمل به ، لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاص ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري بين الموالى والعبيد العرفية من دون أن يكون له طريق مخترع ، وحال الخبر الموثوق به عند الموالى والعبيد حال العلم في جواز الركون إليه والإلزام والالتزام به في مقام المخاصمة والمحاجة.

ومنه يظهر : أن الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تشمل خبر الثقة ، حتى يتوهم أنها تكفى للردع عن الطريقة العقلائية ، لأن العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم ، بل هو من أفراد العمل بالعلم (1) لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع ، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرت عليه عادتهم ، فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا ، فلا تصلح لأن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة ، بل الردع عنه يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص ، بل لابد من تشديد النكير على العمل به ، كما شدد النكير على العمل بالقياس ، لاشتراك العمل بالقياس مع العمل بخبر الثقة في كونه مما استقرت عليه طريقة العقلاء وطبعت عليهم جبلتهم.

والإنصاف : أن التأمل في طريقة العقلاء يوجب القطع بخروج الاعتماد على خبر الثقة عن الاعتماد بالظن ، فما سلكه الشيخ قدس سره في وجه عدم كون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة تبعيد للمسافة بلا ملزم ، مع أن ما أفاده لا يخلو عن المناقشة ؛ فراجع.

* * *

ص: 195


1- أقول : قد تقدم منا بعض الكلام فيه ؛ فراجع.
وأمّا العقل :
اشارة

فقد ذكر في تقريره وجوه :

الوجه الأوّل :

ما أفاده الشيخ قدس سره واعتمد عليه سابقا ( عند البحث عن حجية كلام اللغوي ) وهو ترتيب مقدمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب لاستنتاج حجية الظن بالصدور.

وينبغي أولا بيان المراد من « الانسداد الصغير » ثم نعقبه بما أفيد في المقام.

فنقول : قد تقدم أن استفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على أمور : الأول : العلم بصدور الخبر. الثاني : العلم بجهة صدوره من كونها لبيان حكم اللّه الواقعي لا للتقية ونحوها. الثالث : كون الخبر ظاهرا في المعنى المنطبق عليه. الرابع : حجية الظهور ووجوب العمل على طبقه.

فهذه الأمور لابد من إثباتها في مقام استنباط الحكم الشرعي من الرواية وإقامة الدليل على كل واحد منها ، وإذا اختل أحدها يختل الاستنباط ، فان قام الدليل بالخصوص على كل واحد منها فهو ، وإن لم يقم الدليل على شيء منها وانسد طريق إثباتها ، فلابد حينئذ من جريان مقدمات الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، للعلم بثبوت الأحكام في الشريعة ولا يجوز إهمالها وترك التعرض لها - إلى آخر المقدمات الآتية في باب الانسداد - وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الكبير.

وإن قام الدليل على إثبات بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية دون بعض ، كما لو فرض أنه قام الدليل على الصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور وتوقف على الرجوع إلى كلام

ص: 196

اللغوي في تعيين أن اللفظ الكذائي كلفظ « الصعيد » مثلا موضوع للمعنى الكذائي ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله ، فاعتبار الظن الحاصل من كلام اللغوي وعدمه مبنى على صحة جريان مقدمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ لاستنتاج حجية الظن الحاصل من كلام اللغوي في معنى اللفظ - وإن لم يحصل الظن بالحكم الشرعي من قوله - وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.

وحاصل الفرق بين الانسداد الكبير والانسداد الصغير : هو أن مقدمات الانسداد الكبير إنما تجرى في نفس الأحكام ليستنتج منها حجية مطلق الظن فيها ، وأما مقدمات الانسداد الصغير (1) فهي إنما تجرى في بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع المتقدمة ليستنتج منها حجية مطلق الظن في خصوص الجهة التي انسد باب العلم فيها.

وفي صحة جريان مقدمات الانسداد الصغير مطلقا في أي جهة من هذه الجهات الأربع ، أو عدم صحته مطلقا ، أو التفصيل بين الجهات ، فأي جهة توقف العلم بأصل ثبوت الحكم على العلم بها لا يصح جريان مقدمات الانسداد الصغير فيها بل لابد إما من إقامة الدليل بالخصوص على إثباتها وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير لاثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، وأي جهة توقف تشخيص الحكم وتعيينه على العلم بها من دون أن يكون لها دخل في أصل العلم بالحكم فان لم يقم دليل بالخصوص عليها تجرى

ص: 197


1- أقول : ميزان الكبر والصغر في باب الانسداد كبر دائرة العلم الإجمالي وصغره بنحو لا يلزم محذور في ترك العمل في هذه الدائرة لولا العلم المخصوص بها من ناحية العلم الكبير ، وإلا فمجرد العلم بالحكم بنحو الكلية الذي هو موضوع الانسداد الكبير لا يتوقف على العلم بصدور روايته ، كيف والعامي البالغ العالم بحكمه وبمحذور الخروج عن الدين غير ملتفت بروايته وصدوره! نعم : ليس العلم بالحكم بنحو الكلي بنحو لولا العلم بصدور الروايات لا يلزم من ترك العمل فيها محذور خروجه عن الدين ، وبذلك تمتاز عن العلم في دائرة ظواهر جملة من الألفاظ المخصوصة ، وحينئذ فعمدة الميزان ذلك ؛ فتدبر.

فيها مقدمات الانسداد الصغير.

وتوضيح ذلك : هو أن بعض هذه الجهات مما يتوقف عليها العلم بأصل الحكم - كجهة الصدور - فإنه لولا إثبات صدور الرواية لا يكاد يحصل العلم بالحكم لا بجنسه ولا بفصله موضوعا ومتعلقا ، ففي مثل ذلك لابد إما من قيام الدليل على الصدور ، وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة إلى أصل الأحكام. وبعضها الآخر مما لا يتوقف عليها العلم بأصل الحكم بل كان لها دخل في تشخيص الحكم وتعيينه من حيث الموضوع أو المتعلق كالظهور - فان العلم بأصل الحكم لا يتوقف على العلم بالظهور عند العلم بالصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، بل تشخيص الحكم يتوقف على ذلك إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلق ، مثلا في قوله تعالى : « فتيمموا صعيدا طيبا » متعلق الجهل هو خصوص « الصعيد » من أجل تردده بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخالص ، والجهل بمعنى « الصعيد » لا يضر العلم بأصل الحكم ، لأن المكلف يعلم بأنه مكلف بما تضمنته الآية الشريفة من الحكم ، ففي هذه الجهة إن لم يقم دليل بالخصوص على حجية قول اللغوي في تعيين معنى « الصعيد » تجرى فيها مقدمات الانسداد الصغير ، ولا تصل النوبة إلى مقدمات الانسداد الكبير ، لأنها إنما تجرى بالنسبة إلى نفس الحكم ، والمفروض حصول العلم بالحكم في مورد الكلام.

فلابد من جريان مقدمات الانسداد الصغير لإثبات حجية مطلق الظن الجهة التي انسد باب العلم فيها.

وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يميل إلى هذا التفصيل ، بل كان يقويه ، وعليه بنى حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في تعيين مداليل الألفاظ بعد ما كان يمنع عنه ، كما تقدم بيانه.

وعلى كل حال : المقصود من الوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) هو إجراء مقدمات الانسداد بالنسبة إلى خصوص

ص: 198

جهة الصدور لإثبات حجية مطلق الظن به (1) وبيانه : هو أنه لا إشكال في أنا نعلم إجمالا بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا سبيل إلى منع العلم الإجمالي بذلك ، فان من تتبع حال الرواة وكيفية اهتمامهم في ضبط الأخبار وأخذها من الكتب المعتبرة يعلم علما وجدانيا بصدور كثير منها عن الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) ولا إشكال أيضا بأنا مكلفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام الشرعية ، فلا يجوز إهمالها. ولا يجب الاحتياط فيها لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز أيضا الرجوع إلى الأصول العملية لمنافاتها للعلم الإجمالي - على ما سيأتي بيانه في مقدمات الانسداد - لابد حينئذ من الأخذ بمظنون الصدور فقط ، أو مع مشكوك الصدور ، أو مع الموهوم أيضا ، حسب اختلاف مراتب العلم الإجمالي - على ما سيأتي تفصيله - هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه.

ولكن يرد عليه :

أوّلاً : انّ العلم الإجمالي بالأحكام لا ينحصر أطرافه في ما بأيدينا من الأخبار ، بل الأمارات الظنية - كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية - أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، بل دائرة العلم الإجمالي أوسع من ذلك أيضا ، فان العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الشريعة يقتضي أن تكون جميع الوقايع المشتبهة ( من المظنونة والمشكوكة والموهومة ) من أطرافه ، فيكون للعلم الإجمالي مراتب ثلاث : الأولى : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بأيدينا من الأخبار. الثانية : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بين الأخبار والأمارات الظنية. الثالثة : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في مجموع الوقايع المشتبهة ، وهذه المرتبة

ص: 199


1- أقول : كلامه السابق يقتضي أن يكون الانسداد الجاري في المقام هو الانسداد الكبير ، ومن فحاوي كلماته الآتية بل صريح بعضها يقتضي كونه من الانسداد الصغير ، فتدبر فيها صدرا وذيلا ، لعلك تعرف المرام وتدفع بها التهافت في المقام.

أوسع من الثانية ، والثانية أوسع من الأولى.

ومقتضى العلم الإجمالي في المرتبة الثالثة وإن كان هو الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ( مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ) إلا أنه ينحل بالعلم الإجمالي في المرتبة الثانية ، لأن المعلوم بالإجمال بين الوقايع المشتبهة لا يزيد قدرا عن المعلوم بالإجمال بين جميع الأمارات الظنية. والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو عزلنا طائفة من الأمارات الظنية بقدر المعلوم بالإجمال بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها عليها ثم ضممنا الوقايع المشتبهة إلى الباقي من الأمارات الظنية لم يكن لنا علم إجمالي بتكليف بين الوقايع المشتبهة مع الباقي من الأمارات.

مثلاً لو فرضنا : أن المتيقن من المعلوم بالإجمال بين الأمارات الظنية مآت من الأحكام ، وعزلنا بذلك المقدار منها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعزول ، فلا يبقى العلم الإجمالي فيما بقى من الأمارات الظنية ، ولو ضممنا إلى الباقي الوقايع المشكوكة لا يحصل لنا العلم الإجمالي بثبوت حكم فيما بين بقية الأمارات الظنية والوقايع المشكوكة ، لأن نفس بقية الأمارات ليس فيها علم إجمالي ، فضم الوقايع المشكوكة لا يؤثر في حصول العلم ، لأن الشك لا ينقلب عن كونه شكا ، فلا يعقل أن يكون ضم الشك إلى الظن موجبا لحدوث العلم الإجمالي ، وهذا أقوى شاهد على أن العلم الإجمالي الوسيع الذي يكون منشأ العلم بثبوت التكاليف في الشريعة ينحل ببركة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف فيما بين الأمارات الظنية المتوسط بين ذلك وبين العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار المودعة في الكتب.

فان قلت : العلم الإجمالي المتوسط أيضا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير الذي يكون أطرافه خصوص الأخبار ، لأنه لا يعلم بثبوت التكاليف أزيد مما في بين الأخبار ، فلا أثر للعلم الإجمالي المتوسط.

قلت : هذه الدعوى مما يكذبها الوجدان ، بداهة أن الأمارات الظنية

ص: 200

ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلقة للعلم الإجمالي فلا أقل من كونها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن متعلق الإجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقية الأمارات الظنية ، وهذا لا ينافي أن تختص الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها. وليس العلم الإجمالي في المجموع مستندا إلى العلم الإجمالي في الأخبار لينحل العلم الإجمالي فيه بالعلم الإجمالي فيها.

والشاهد على ذلك (1) هو أنه لو عزلنا طائفة من الأخبار بقدر المتيقن من الأحكام المعلوم بالإجمال فيما بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها على المعزول منها ، فلا يبقى العلم الإجمالي في بقية الأخبار ، ولو ضممنا إلى البقية سائر الأمارات الظنية كان العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين بقية الأخبار والأمارات الظنية بحاله ، وإنكار ذلك يكون مكابرة واضحة.

فان قلت : إن ذلك يقتضي أن يكون متعلق العلم الإجمالي نفس الأمارات الظنية فقط ، لا أنها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن المفروض أن في بقية الأخبار المنضمة إليها ليس علم بالتكليف ، لانحلاله بسبب عزل طائفة منها ، فضمها إلى الأمارات يكون من قبيل ضم الحجر في جانب الإنسان لا يؤثر في حصول العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي الحاصل لابد وأن يكون في خصوص الأمارات الظنية.

قلت : أولا : دعوى العلم الإجمالي في خصوص الأمارات الظنية ليست ببعيد ، لأن من تراكم الظنون يحصل العلم الإجمالي بخلاف تراكم الشكوك.

ص: 201


1- أقول : في فرض العلم الإجمالي بين الأمارات الظنية وبقية الأخبار بعد عزل جملة منها إنما يوجب الاحتياط في الجميع لو كان المعلوم بالإجمال في المظنونات وبقية الأخبار غير المعلوم بالإجمال في مجموع الأخبار ، وإلا فمع احتمال اتحادهما لا يقتضي مثل هذا الفرض الاحتياط في جميع الأخبار والأمارات الظنية ، بل العقل يحكم بالتخيير بين الأخذ بالأخبار تماما أو الأخذ بالمظنونات وبقية الأخبار ، لأنه بكل واحد من الآخذين لا يبقى محذور ، بل يقطع بالفراغ عما علم ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بين المجموع عليه ، كما لا يخفى ، فتدبر كي لا يحتاج إلى التمثيل بشرقية ولا غربية.

وثانياً : انه قد يكون الشيء بنفسه ليس موردا للعلم الإجمالي ، إلا أن ضمه إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال يوجب حصول العلم الإجمالي ، مثلا لو كان إنائات ثلاث في الجانب الشرقي من الدار ، وإنائات ثلاث أخرى في الجانب الغربي ، وعلم إجمالا بأنه أصاب أحد الإنائات في الشرقية قطرة من الدم ، وعلم إجمالا أيضا أنه زمان وقوع تلك القطرة وقعت قطرة أخرى من الدم ، إما في أحد الإنائات الشرقية غير ما وقعت فيه تلك القطرة ، وإما في أحد الإنائات الغربية ، ففي الفرض الإنائات الغربية ليست مما تعلق العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، لاحتمال أن تكون كلتا القطرتين وقعتا في الإنائات الشرقية ، ولكن ضم الإنائات الغربية إلى الإنائات الشرقية يوجب زيادة في أطراف المعلوم الإجمالي ، ولو بعد عزل ما يوجب انحلال العلم الإجمالي في الإنائات الشرقية ، فتكون الإنائات الست كلها من أطراف العلم الإجمالي ، فإنه لو عزلنا أحد الإنائات الشرقية ، فالعلم الإجمالي الذي كان بنجاسة أحدهما بسبب وقوع أحد القطرتين في خصوص أحدهما ينحل لا محالة ، لأنه لا يعلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين الباقيين ، كما لا يعلم بنجاسة أحد الإنائات الغربية ، ولكن من ضم الإنائات الغربية إلى الإنائين الباقيين في طرف الشرق يحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وحال الأمارات الظنية مع بقية الأخبار بعد عزل طائفة منها حال الإنائات بعينه ، وعليه تكون الأمارات الظنية أطراف العلم الإجمالي وحالها حال الأخبار.

إلا أن يدعى أنه من أول الامر ليست الأمارات من أطراف العلم الإجمالي ، وليس لنا علم بثبوت التكليف في الأخبار وعلم بثبوت التكاليف في الأعم من الأخبار والأمارات الظنية ، فإنه ، على هذا تكون الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجمالي. ولكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها.

فان قلت : سلمنا كون الأمارات من أطراف العلم الإجمالي الحاصل بين بقية الأخبار - بعد عزل طائفة منها - وبينها ، ولكن لما كانت بقية الأخبار من

ص: 202

أطراف علم إجمالي آخر - وهو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار - فقد تنجز التكليف بها بذلك العلم الإجمالي ، فلا يبقى أثر للعلم الإجمالي الحاصل بينها وبين الأمارات الظنية ، لأن بعض أطرافه قد تنجز التكليف به بمنجز آخر ، وقد ذكرنا في محله : أنه لو تنجز التكليف بأحد أطراف العلم الإجمالي بمنجز آخر غير العلم الإجمالي فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ، لأن الشبهة فيه تكون بدوية ، كما لو علم بنجاسة أحد الإنائين ثم علم بوقوع قطرة من الدم إما في أحد الإنائين وإما في الإناء الثالث ، فالإناء الثالث لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، وحال الأمارات الظنية حال الإناء الثالث.

قلت : ذلك إنما يكون إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد العلمين متأخرا زمانا عن المعلوم بالإجمال في العلم الآخر - كما في المثال - حيث فرض أن وقوع القطرة الثانية من الدم المرددة بين كونها في أحد الإنائين أو في الإناء الثالث كان بعد نجاسة أحد الإنائين ، من غير فرق بين تقارن نفس العلمين أو في سبق أحدهما الآخر يكون معلومة متأخرا (1) ولو كان السابق ، فان العبرة إنما هو في تقدم المعلوم وتأخره ، لا في تقدم العلم وتأخره.

وأما لو كان المعلومين بالإجمال حدثا في زمان واحد ، فلا وجه لانحلال أحد العلمين بالآخر. بل تكون جميع أطراف العلمين في عرض واحد ويجب الاجتناب عن الجميع. وقد ذكرنا تفصيل ذلك في « الجزء الرابع » وما نحن فيه من القسم الثاني ، لأن ثبوت الأحكام في الأخبار ليس أسبق في الزمان عن ثبوت الأحكام في الأمارات ، فالأخبار والأمارات تكون في عرض واحد طرفا للعلم الإجمالي ، وذلك واضح.

وثانياً : سلمنا أن الأمارات الظنية ليست من أطراف العلم الإجمالي ،

ص: 203


1- كذا في نسخة الأصل ، والصحيح : « بعد كون معلومه متأخرا » ( المصحح ).

ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنما هو لأجل ما تضمنتها من الأحكام الواقعية لا بما هي هي ، فالمتعين هو الأخذ بكل ما يظن أن مضمونه حكم اللّه الواقعي لا خصوص ما يظن بصدوره من الأخبار ، لأن الأخذ بمظنون الصدور إنما هو لاستلزامه الظن بالمضمون غالبا ، ومقتضى ذلك هو اعتبار الظن بالحكم سواء حصل من الظن بالصدور أو من الشهرة والإجماع المنقول (1).

وثالثا : أقصى ما يقتضيه هذا الدليل هو الأخذ بمظنون الصدور من الأخبار باب التبعيض في الاحتياط ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الأخذ بجميع ما في الكتب من الأخبار ، ولمكان لزوم العسر والحرج وجب التبعيض في الاحتياط والأخذ بخصوص مظنون الصدور ، والرواية التي كان العمل بها من باب الاحتياط لا تكون حجية شرعية بحيث تنهض لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات (2) والمدعى هو كون مظنون الصدور حجة شرعية.

وهذا الإشكال يتوجه في الانسداد الكبير أيضا ، كما سيأتي. ولكن سنحرر ( إن شاء اللّه تعالى ) أن نتيجة مقدمات الانسداد لو كانت هي التبعيض في الاحتياط كان الإشكال واردا ، وأما لو كانت النتيجة هي جعل الشارع مظنون الصدور في المقام ومطلق الظن في الانسداد الكبير طريقا للوصول إلى أحكامه - كما هو المعنى الكشف - فلا محالة يترتب على مظنون الصدور أو مطلق الظن جميع ما يترتب على الحجة من نهوضها للتخصيص والتقييد وغير ذلك ، فانتظر

ص: 204


1- أقول : بعد اختصاص العلم في خصوص الأخبار فقط الذي يحكم به العقل هو الأخذ بمضمون الأخبار ، لا بمضمون بقية الأمارات الظنية ، فتدبر.
2- أقول : لازم العلم في الأخبار المثبتة خروج العمومات النافية عن الحجية ، ولازمه إجراء حكم التخصيص والتقييد عليها. نعم : في الأخبار النافية مع العمومات المثبتة مقتضى المختار هو العكس؛ ولكن حيث مختاره من عدم جريان الأصول المثبتة أيضا في أطراف العلم الإجمالي بنفي التكليف يجرى الكلام السابق فيها أيضاً.

تفصيل ذلك.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن مقدمات الانسداد الصغير لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، بل أقصى ما تقتضيه هو اعتبار الظن بالمضمون ، هذا.

ولكن يمكن تقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه آخر تنتج اعتبار الظن بالصدور ، مع سلامته عما أورد على الوجه الأول.

بيانه : هو أنه نعلم بصدور غالب الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا إشكال في أنه يجب الأخذ بما صدر عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) من الأخبار ، لا من حيث أنها تتضمن الأحكام الواقعية ليرجع إلى الوجه الأول ، بل من حيث إن نفس الأخبار الصادرة عنهم أحكام ظاهرية من جهة وقوعها في طريق إحراز الواقعيات بعد فرض جريان الأصول اللفظية والجهتية فيها ، وحيث لم يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم ، فلابد من التنزل إلى الظن والأخذ بمظنون الصدور. ولا يرد على هذا التقريب شيء مما ذكر في التقريب السابق ، فان الإشكالات المتقدمة كانت مبتنية على أن وجوب العمل بالأخبار من باب أنها تتضمن الأحكام الواقعية ، فكان يرد عليه : أن متعلق العلم بالأحكام الواقعية لا يختص بالأخبار ، بل الأمارات الظنية أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، فلابد من العمل بكل ما يظن أنه حكم اللّه الواقعي لا خصوص مظنون الصدور من الأخبار ، إلى آخر الإشكالات المتقدمة.

وأمّا هذا التقريب : فهو مبنى على وجوب العمل بنفس الأخبار الصادرة من حيث إنها أخبار لكونها أحكاما ظاهرية ، فلا تكون سائر الأمارات من أطراف هذا العلم الإجمالي ، لأن الأمارات الظنية التي لم يقم دليل على اعتبارها ليست أحكاما ظاهرية ، فدائرة العلم الإجمالي يتخصص بالأخبار ، ونتيجته هي الأخذ بمظنون الصدور عند تعذر تحصيل العلم التفصيلي بما صدر وعدم وجوب الاحتياط في الجميع ، بل مقتضى العلم بصدور غالب ما في الكتب من الأخبار هو انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف بين الأخبار

ص: 205

والأمارات ، لأن ما صدر عنهم علیهم السلام يكون بقدر المعلوم بالإجمال من التكاليف بين الاخبار والأمارات ، فترتفع الإشكالات المتقدمة على التقريب السابق بحذافيرها.

نعم : الإشكال الأخير مشترك الورود ، وهو أن ذلك لا يقتضي حجية مظنون الصدور بحيث يكون مخصصا ومقيدا للعموم والإطلاق ، إلا إذا قلنا بالكشف.

وتقريب مقدمات الانسداد الصغير على هذا الوجه يقرب مما سيأتي من المحقق « صاحب الحاشية » وأخيه « صاحب الفصول » من تقريب مقدمات الانسداد الكبير على وجه ينتج خصوص الظن بالطريق لا الظن بالحكم ، وإن كان بين ما ذكرناه في المقام وما ذكراه في ذلك المقام فرق ، وهو أن الغرض من ترتيب مقدمات الانسداد في المقام إنما هو تعيين موضوع الطريق ومصداقه بعد العلم بأن ما صدر عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) يكون طريقا ، وأما مقصودهما من ترتيب مقدمات الانسداد في ذلك المقام هو اعتبار الظن في طريقية الطريق وتعيين ما جعله الشارع طريقا ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : أن ما ذكرناه من التقريب وإن كان يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدمة ، إلا أنه يرد عليه : أن وجوب العمل بالأحكام الظاهرية إنما هو لأجل كونها موصلة إلى الأحكام الواقعية ومحرزة لها ، لا أنها أحكام في مقابل الأحكام الواقعية ، فالعبرة إنما تكون بامتثال الأحكام الواقعية ، ووجوب العمل بالأخبار إنما هو لأجل كونها من الطرق الموصلة إليها ، فلو فرض الوصول إليها من طريق آخر غير الأخبار كان مجزيا ، ونتيجة ذلك بعد تعذر العلم بها وعدم وجوب الاحتياط هي التنزل إلى الظن بها ، لا الظن بالصدور - كما أفيد في المقام - ولا الظن بالطريق ، كما أفاده « المحقق » واخوه في ذلك المقام.

وبالجملة : عمدة مقدمات دليل الانسداد الصغير والكبير هو عدم جواز

ص: 206

إهمال الاحكام الواقعية وترك التعرض لها ، إذ لولا ذلك لم يبق مجال لبقية المقدمات لكل من يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الصدور ، أو يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الطريق ، أو يقول : إن يجب الأخذ بمظنون الحكم ، أن يحوم حول امتثال الأحكام الواقعية وعدم جواز إهمالها ، إذ ليس للعمل بمظنون الصدور أو مظنون الطريق خصوصية سوى كونه طريقا إلى الواقع ومحرزا له. وعليه كان الواجب ترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى نفس الأحكام لاستنتاج حجية الظن بها ، ولا أثر لترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى ما صدر عنهم من الأخبار أو ما نصب من الطرق.

فان قلت : نعم ، الواجب أولا وبالذات وإن كان هو امتثال الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، إلا أنه حيث علم بصدور غالب ما بأيدينا من الأخبار بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية ، فالعلم الإجمالي بها ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب العمل على طبق الأحكام الظاهرية التي هي فيما بين الأخبار المودعة في الكتب والشك البدوي بالنسبة إلى ما عداها من الوقايع المشتبهة ، وحيث لم يتمكن من احراز تلك الأحكام الظاهرية تفصيلا ولم يمكن أو لم يجب الاحتياط في العمل بجميع الأخبار المودعة في الكتب وجب التنزل إلى الظن بالحكم الظاهري ، وهو المراد من الظن بالصدور ، فلا يبقى موقع للانسداد الكبير ، لأن مبناه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقايع المشتبهة ، وقد انحل ببركة العلم بثبوت التكاليف الظاهرية في الأخبار المودعة.

قلت : مجرد العلم بصدور جملة من الأخبار التي بأيدينا لا يقتضي أن يترتب على الأخبار الصادرة آثار الأحكام الظاهرية ، فان الحكم الظاهري يتوقف على العلم به موضوعا وحكما ، لا أقول : إن وجوده الواقعي يتوقف على العلم بالموضوع والحكم فان ذلك ضروري البطلان ، بداهة أن الحكم الظاهري من الطريقية والحجية كالحكم الواقعي من الوجوب والحرمة لا

ص: 207

يتوقف وجوده الواقعي وجعله النفس الأمري على العلم به ، ولكن الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري : من كونه منجزا للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، لا تكاد تترتب مع الجهل به موضوعا أو حكما ، فان الحكم الظاهري ليس أمرا مقابلا للحكم الواقعي - كما تقدم بيانه في باب جعل الطرق والأمارات - بل الوجه في كون الشيء حكما ظاهريا إنما هو لمكان أنه موصل إلى الواقع ، وهذا كما ترى ما لم يكن الطريق محرزا لدى المكلف لا يكون موصلا إليه ، لوضوح أن وجود الرواية في الكتب من دون العلم بها تفصيلا لا تكون منجزة للواقع ، لأن الواقع بعد باق على ما كان عليه من الجهل به.

وكذا مع العلم بالرواية تفصيلا والجهل بظهورها أو جهة صدورها أو إرادة ظهورها ، فان الجهل بأي من هذه الجهات يضر بحجية الرواية - أي بالآثار المرغوبة منها - لأن الجهل بأي منها يقتضي الجهل بالواقع فلا يكون محرزا لدى المكلف ، وما لم يكن محرزا لا يكون منجزا ، فلا بد من العلم بالرواية صدورا وظهورا لتجري الأصول العقلائية واللفظية في جهة الصدور وإرادة الظهور ، لتكون الرواية حكما ظاهريا منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. وهذا المعنى لا يكاد يتحقق في العلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار المودعة في الكتب ، لعدم العلم بظهور ما هو الصادر منها لتجري فيه الأصول العقلائية (1) فلا يمكن أن يترتب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار ، فيبقى العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنية على حاله ، ولابد من ترتيب مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة

ص: 208


1- أقول : ولا أقل من منع ظهور جميعها بنحو يفي بمقدار المعلوم بالإجمال في جميع الدوائر ، وحينئذ لا يبقى مجال لانحلال العلم الكبير بالعلم الإجمالي بالصدور ، إلا بدعوى العلم المزبور في دائرة الظواهر وكونه بمقدار المعلوم بالإجمال ، وليس ذلك كل البعيد أيضا ، فتدبر.

إلى نفس الأحكام الواقعية لاستنتاج حجية الظن بالحكم ، ولا أثر للظن بالصدور.

وثانياً : فعلى فرض تسليم كون الإجمال غير مانع عن ترتب آثار الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي في انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف فيما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، فان تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان ، ولم يجب الاحتياط في جميع ما بأيدينا من الأخبار وثبت الترخيص في غير مظنون الصدور - كما هو المفروض - فلا يمكن مع هذا أن ينحل العلم الإجمالي بالتكاليف ، لأن انحلال العلم الإجمالي إنما يكون بانحلال القضية المانعة الخلو - التي كل علم إجمالي يتضمنها - إلى قضيتين حمليتين ، إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، وقضية العلم الإجمالي بالتكاليف لا تنحل إلى ذلك ، لأن وجوب الأخذ بمظنون الصدور من الأحكام الظاهرية لا يوجب انحلال العلم بالنسبة إلى بقية الأخبار وساير الأمارات بحيث يكون الشك فيها بدويا ، بل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بينها على حاله ، لأن الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور ليست بقدر الأحكام الواقعية في مجموع الإخبار والأمارات (1) بل أقصى ما يدعى هو أن مجموع ما صدر عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية ، فالترخيص في ما عدا مظنون الصدور يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الأحكام الظاهرية التي يلزم الأخذ بها.

فان قلت : الموجب للإنحلال هو العلم بصدور الأخبار بمقدار المعلوم

ص: 209


1- أقول : ذلك صحيح في الظن الفعلي بالصدور ، وإلا لو أريد به الوثوق النوعي فعهدة ذلك على مدعيه ، كيف وبناء الفقه فعلا على ما هو موثوق الصدور من الأخبار ، ولو لم تكن وافية بمقدار المعلوم بالإجمال ، قلنا : « إنا لله وإنا إليه راجعون ».

بالإجمال من التكاليف ، ومجرد الترخيص في ترك العمل بما عدا مظنون الصدور من الأخبار لا يقتضي عدم الانحلال ، لأن عدم ايجاب الشارع الجمع بين جميع الأخبار في العمل لا يضر بالانحلال.

قلت : قد عرفت أن الترخيص في ترك العمل ببعض الأخبار يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، للعلم بأن بعض الأحكام الظاهرية تكون في الأخبار التي رخص في ترك العمل بها ، لأن مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية ، فلا يبقى مجال للإنحلال.

مثلا لو علم إجمالا بأن في القطيع من الغنم موطوء وأقله عشرون ويحتمل أن يكون أزيد ، وقام الدليل على أن في البيض من القطيع عشرين موطوء ، وكان عدد البيض يزيد عن مقدار عدد المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، ففي هذا لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي المتعلق بمجموع القطيع بقيام الدليل على وجود عشرين موطوء في البيض ، لان المعلوم بالإجمال في المجموع محتمل الانطباق على ما في البيض.

ولكن لو لم يجب الاجتناب عن بعض أفراد البيض للعسر والحرج والاضطرار وكان الذي يجب الاجتناب عنه أقل عددا من المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، فالعلم الإجمالي المتعلق بالمجموع لا ينحل ، لأن الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال وإن كان يوجب التوسط في التنجيز - على ما سيأتي بيانه في محله - بحيث لو كان الموطوء في الأفراد التي لا يجب الاجتناب عنها للاضطرار كان التكليف بالاجتناب عن الموطوء غير منجز ، إلا أن هذا إذا لم يلزم عن عدم الاجتناب عن بعض أفراد البيض محذور المخالفة القطعية للتكليف بالاجتناب عن الموطوء من الغنم في القطيع ، وإلا عاد العلم الإجمالي في المجموع على حاله ولابد من علاجه ، لأن عدد المعلوم بالإجمال فيه يزيد عن عدد ما يجتنب عنه من أفراد البيض ، فلا يبقى أثر لقيام الدليل على وجود الموطوء في البيض بقدر المتيقن من المعلوم بالإجمال في المجموع من البيض ومن

ص: 210

غيره ؛ وحال المقام بعينه حال المثال ، فتدبر.

فان قلت : الأخذ بمظنون الصدور فيما بأيدينا من الأخبار إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال مجال ، وأما إن كان من باب أن الشارع جعل الظن بالصدور حجة وطريقا إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي المتعلق بالمجموع من الأخبار والأمارات الظنية ، لأن الأحكام الظاهرية التي فرضناها أنها بقدر الأحكام الواقعية تكون محرزة ببركة حجية الظن ، فان نتيجة جعل الشارع الظن بالصدور طريقا إلى ما صدر من الأخبار هي : أن ما عدا المظنون ليس مما صدر (1) واختصاص ما صدر بمظنون الصدور ، والمفروض أن ما صدر بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام التكليفية ، فيلزمه انطباقه على مظنون الصدور وينحل العلم الإجمالي بالتكاليف.

قلت : هذا إذا تمت المقدمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة ، فتكون النتيجة حجية الظن وأن الشارع جعل الظن طريقا إلى ما صدر. ولكن المدعى انه لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، من جهة أن عمدة المقدمات التي يتوقف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة من الأحكام الظاهرية ، وبعد بطلان هذه المقدمة بجواز إهمال بعض الوقايع - وهو ما عدا المظنون - لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة ، وانتظر لذلك مزيد توضيح في باب الانسداد الكبير.

فتحصل : أن مقدمات الانسداد الصغير بكلا وجهيه لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، فالوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) فاسد.

ص: 211


1- أقول مع الإغماض عن سائر جهاته نقول : مجرد حجية الظن بالصدور لا يقتضي حصر الصادر بما ظن به كي يلزم ما ذكر ؛ فتدبر.
الوجه الثاني :

هو ما ذكره المحقق صاحب الحاشية (رحمه اللّه) وحاصله : أن وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالإجماع والضرورة ، فان أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم منهما بالحكم أو الظن المعتبر فهو ، وإلا فلابد من الرجوع إليهما على وجه يحصل الظن منهما بالحكم ، فلا محيص عن الأخذ بمظنون الصدور.

وقد جعل هذا الوجه من أقوى الوجوه الثمانية التي أقامها على اعتبار الظن بالطريق.

وأنت خبير بما فيه ، فإنه إن أراد من السنة نفس قول المعصوم (عليه السلام) وفعله وتقريره - كما هو المصطلح عليه وقام الإجماع والضرورة على الرجوع إليها - كان اللازم عند تعذر تحصيل العلم بما هو واقع السنة من قول الإمام علیه السلام وفعله وتقريره هو العمل بما ظن أنه مدلول السنة - أي ما ظن أنه مقول قول المعصوم علیه السلام - من غير فرق بين ما إذا حصل الظن بذلك من الأخبار أو من الشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية ، لاستواء الكل في حصول الظن منها بمدلول السنة ، إلا إذا شك أو ظن بأن مدلول الشهرة لم يكن مقول قول المعصوم علیه السلام ولم يصدر ما قامت عليه الشهرة عن الإمام علیه السلام بل كان مما سكت اللّه عنه وأمر الحجج بعدم تبليغه إلى الأنام ، ولكن دون حصول الشك أو الظن بذلك خرط القتاد! بل من المحالات العادية ، لأن المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكى الإجماع بها من المسائل التي تعم بها البلوى ، بحيث نعلم بصدور حكمها عنهم ( صلوات اللّه عليهم ). وإن أراد من السنة الأخبار الحاكية لها لا نفس قول المعصوم علیه السلام وفعله وتقريره ( كما حكى أنه صرح في ذيل كلامه بأن المراد منها ذلك ) على خلاف ما هو المصطلح من السنة ففيه : مضافا إلى أنه لم تعم الإجماع والضرورة على العمل بالأخبار

ص: 212

الحاكية عن السنة - لأنها هي محل الكلام بين الأعلام - إن ذلك يرجع إلى التقريب الثاني من الوجه الأول ( إن كان الوجه في وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية لكونها من الأحكام الظاهرية ) وإلى التقريب الأول منه ( إن كان الوجه في الرجوع إليها كونها تتضمن الأحكام الواقعية ) وقد تقدم ما في كلا التقريبين من النقض والإبرام.

الوجه الثالث :
اشارة

ما ذكره « صاحب الوافية » مستدلا به على خصوص الأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع عمل جمع بها.

وحاصل ما أفاده من الوجه : هو أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، خصوصا بالضروريات - كالصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وغير ذلك من العبادات والمعاملات - ولا إشكال أن غالب أجزاء هذه الأمور وشرائطها إما تثبت بخبر الواحد بحيث لو ترك العمل به لخرجت عن حقايقها ولم تستحق إطلاق أساميها عليها ، فلابد من العمل بخبر الواحد.

وفيه :

أولا : أن اللازم حينئذ العمل بخصوص الأخبار المثبتة للأجزاء والشرايط دون الأخبار النافية.

وثانياً : أنه لا خصوصية للأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع اشتراط العمل بها ، بل العلم الإجمالي بثبوت الأجزاء والشرائط حاصل في مطلق الأخبار ، بل في مطلق الأمارات ، فالمتعين هو الاحتياط بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.

وثالثاً : أنه لا موجب لقصر العلم الإجمالي بخصوص الأجزاء والشرائط ، بل يعلم بثبوت الأحكام والتكاليف النفسية والغيرية في الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وفي مطلق الأخبار والأمارات ، فيرجع هذا الوجه

ص: 213

إلى الانسداد الكبير مع حذف بعض مقدماته التي لابد منها ، كما سيأتي بيانه.

فالانصاف : أن ما استدلوا به على حجية الخبر الواحد من الحكم العقلي بتقريباته مما لا يستقيم. ولكن المسألة في غنى عن ذلك ، لأنه يكفي لإثبات حجية الخبر الموثوق به ما تقدم من الأدلة وعمدتها الطريقية العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان ما اعتبر فيه من الظنون الخاصة.

المقام الثاني :
اشارة

في الوجوه التي استدلوا بها على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي أو في الجملة ( على ما سيأتي بيانه ) وهي أربعة :

الوجه الأوّل :

ان الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر عند ترك العمل به ، ودفع الضرر المظنون لازم عقلا ، فيجب العمل بالظن.

ولا يخفى أن الفرق بين هذا الوجه والوجه الرابع - المعروف بدليل الانسداد - هو أن الوجه الرابع يتوقف على انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام ، وهذا الوجه مع ما يتلوه من الوجه الثاني لا يتوقف على ذلك ، بل مع فرض انفتاح باب العلم في المعظم إذا حصل الظن بالحكم في المورد الذي اتفق انسداد باب العلم فيه يكون الظن حجة على هذا الوجه والوجه الثاني.

ثم إن هذا الوجه يتركب من صغرى وكبرى.

أما الكبرى - وهي لزوم دفع الضرر المظنون عقلا - فهي في الجملة مما لا ينبغي التأمل والإشكال فيها ، لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ،

ص: 214

بل المشكوك ، بل الموهوم أيضا إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأخروي ، ولذلك لا تكفى الإطاعة الظنية عند التمكن من الإطاعة العلمية ، مع أن الضرر في الإطاعة الظنية يكون موهوما.

وأما الصغرى : فهي ممنوعة أشد المنع.

وتنقيح البحث في كل من الصغرى والكبرى يحتاج إلى تمهيد أمور :

الأمر الأوّل : انه لا إشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما أنه لا إشكال في استقلال العقل بلزوم دفع ضرر العقاب الموهوم فضلا عن المشكوك فضلا عن المظنون. ومورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما إذا أعمل العبد ما تقتضيه وظيفته وجرى على ما يلزمه الجري عليه من الفحص والسؤال عن مرادات المولى ، فإذا فعل ذلك ولم يعثر على مراد المولى قبح عقابه ، سواء كان للمولى مراد واقعا أو لم يكن ، فان المراد من « البيان » في قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواصل إلى العبد لا البيان الواقعي ، لأن الإرادة النفس الأمرية لا تكون محركة للعضلات ولا تصلح للداعوية ، فلا أثر للبيان الواقعي ما لم يصل إلى العبد ، وليس قبح العقاب بلا بيان مورد الدليل اللفظي حتى يستظهر منه الأعم من البيان الواقعي والبيان الواصل ، بل هو حكم عقلي ملاكه قصور الإرادة الواقعية عن تحريك إرادة العبد نحو المراد ، فالعقل يستقل بقبح عقاب العبد وعتابه إذا أعمل وظيفته بالفحص والسؤال فلم يعثر على مراد المولى ، فان عدم عثور العبد مع الفحص : إما لكون المولى أخل بوظيفته بعدم بيان مراده بالطرق التي يمكن الوصول إليه منها ، وإما لأجل تقصير الوسائط في ايصال مراد المولى إلى العبد ، وعلى كلا التقديرين : لا دخل للعبد في عدم حصول مراد المولى على تقدير وجوده النفس الأمري ، وذلك واضح.

وأمّا مورد حكم العقل بلزوم دفع ضرر العقاب المحتمل ، فهو إمّا في

ص: 215

الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وإما في الشبهات البدوية إذا أخل العبد بما تقتضيه وظيفته بترك الفحص والسؤال عن مرادات المولى واعتمد على الشك ، فان مثل هذا العبد يستحق العقاب والعتاب إذا صادف فوت مراد المولى.

ويشهد لذلك الطريقة المألوفة بين الموالى والعبيد العرفية ، فإنه لكل من المولى والعبد وظيفة تخصه ، أما وظيفة المولى : فهي أن يكون بيان مراده على وجه يمكن وصول العبد إليها إذا لم يتوسط في البين ما يمنع عن ذلك من تقصير الوسائط في التبليغ ونحو ذلك. وأما وظيفة العبد : فهي الفحص والسؤال عن مرادات المولى في مظان وجودها ، فعند إخلال العبد بوظيفته يستحق العقاب ويكون مورد حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

وبما ذكرنا من الضابط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل يظهر : أنه لا يكاد يتحقق الشك في مورد أنه من موارد قبح العقاب بلا بيان أو من موارد دفع الضرر المحتمل؟ إلا إذا قلنا : إن المراد من البيان في « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواقعي ، فإنه يمكن حينئذ فرض الشك في ذلك ، ولابد من التحرز عن المشكوك ، لأن احتمال الضرر فيه وجداني والشك في جريان البراءة فيه ، فتأمل جيدا.

الأمر الثاني : قد تقدم في بعض المباحث السابقة أن ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية ، فقد يكون الملاك بمثابة من الأهمية في نظر الشارع ، بحيث يقتضي تحريم جملة من المحللات ظاهرا ، لإحراز الملاك والتحفظ عليه ، وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، وطريق استكشاف أن ملاك الحكم من أي قبيل إنما يكون بجعل المتمم ، فإنه لابد للشارع من جعل المتمم إذا كان الملاك مما يجب رعايته ، إذ لا طريق للعباد إلى إحراز كون الملاك بتلك المثابة من الأهمية حتى يجب عليهم التحرز عن فوته في موارد الشك ، فلو كان الملاك ثبوتا مما يلزم رعايته فعلى الشارع بيان ذلك بجعل

ص: 216

المتمم من ايجاب الاحتياط في موارد الشك ، كما أوجبه في باب الدماء والأعراض والأموال ، فمن عدم ايجاب الاحتياط في مورد يستكشف كون الملاك ليس بتلك المثابة من الأهمية. ولو شك في جعل المتمم ووجوب الاحتياط في مورد فالأصل يقتضي البراءة ، لأنه يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » فان أمر المتمم وضعا ورفعا بيد الشارع ، فيشمله حديث الرفع.

الأمر الثالث : الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه ، إما يكون أخرويا ، وإما يكون دنيويا.

فان كان أخرويا فلا إشكال في أن حكم العقل بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل منه يكون للإرشاد لا يستتبع حكما مولويا شرعيا على طبقه ، لان حكم العقل في باب العقاب الأخروي واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، وكل حكم عقلي وقع في هذه السلسلة لا يستتبع الحكم المولوي الشرعي وليس مورد القاعدة الملازمة وإلا يلزم التسلسل ، فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل يكون إرشاديا وطريقيا لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على المرشد إليه من العقاب الواقعي لو فرض مصادفة الظن أو الاحتمال للواقع ، وإلا كان من التجري في حكم العقل ، وذلك واضح.

وإن كان الضرر دنيويا : فالذي يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره في مبحث البراءة ، هو أن الظن في المضار الدنيوية يكون طريقا مجعولا شرعيا كسائر الطرق الشرعية ، فلا يترتب العقاب على مخالفته إلا إذا صادف الظن الواقع وكان ما أقدم عليه ضررا واقعا ، فيستحق المكلف العقاب على مخالة الواقع لا مخالفة الطريق ، وقد تقدم منا الإشكال في ذلك ، وأن الظاهر من تسالم الأصحاب - على ما هو المحكى عنهم - من أن سلوك الطريق الذي لا يؤمن من الوقوع في الضرر معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو تبيّن عدم

ص: 217

الضرر (1) هو أن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد بمناط واحد يعم صورة القطع والظن بل الاحتمال العقلائي ، نظير حكمه بقبح التشريع ، لا أنه للعقل حكمان : حكم على الضرر الواقعي ، وحكم آخر طريقي على ما لا يؤمن منه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح الظلم.

وعلى كل حال : سواء قلنا : بأن حكم العقل في موارد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي ، فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل ، فان كان الحكم العقلي طريقيا فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضا يكون طريقيا ، نظير ايجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج ، وإن كان موضوعيا فالحكم الشرعي أيضا يكون كذلك ، ولا يمكن أن يختلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية ، بل يتبعه في ذلك لا محالة.

وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكما على أدلة الأصول الشرعية : من البراءة والاستصحاب (2) كما يكون واردا على البراءة العقلية ، فإنه يخرج المورد عن كونه « ما لا يعلمون » وعن « نقض اليقين بالشك » وعن كون « العقاب عليه بلا بيان » بل يكون « ما يعلمون » ومن « نقض اليقين باليقين » ومن « كون العقاب عليه عقابا مع البيان الواصل » ويأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).

* * *

ص: 218


1- أقول : لولا حمل كلامهم على كونه في فرض المخالفة بحكم المعصية بمناط التجري وأنه موجب لإتمام الصلاة أيضا ، ولقد أشرنا إلى هذه الجهة سابقا أيضا ، فراجع. هذا ، مع إمكان أن يقال : إن لازم طريقية الاحتمال لزوم ترتيب آثار المطابقة عليه ، ومن آثاره إتمام الصلاة حين وجود الاحتمال ، وليس فتواهم بوجوب التمام أزيد من وجوبه حين قيام الطريق بلا نظر منهم إلى فرض انكشاف خلافه ، فتدبر.
2- أقول : لا نفهم وجه الحكومة ، خصوصا الاستصحاب ، لولا دعوى عكسه فيه ، فتدبر.

الأمر الرابع : المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، قد تكون شخصية راجعة إلى آحاد المكلفين كالواجبات العبادية وغالب المحرمات ، كالصوم والصلاة والحج والزنا وشرب الخمر وغير ذلك مما تعود المصلحة والمفسدة إلى شخص الفاعل.

وقد تكون نوعية كالواجبات النظامية ، من الطبابة والصياغة والخياطة ونحو ذلك مما يتوقف عليها حفظ الجامعة والنظام.

وفي كلا القسمين تكون المصلحة والمفسدة في متعلق الأمر ، لا في نفس الأمر ، فإنه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل كان اللازم حصولها بمجرد الأمر ولم يبق موقع للامتثال ، فالمصلحة لابد وأن تكون في المتعلق ، بل في الأوامر الامتحانية أيضا لا تكون المصلحة في نفس الأمر ، وإنما المصلحة في إظهار العبد الطاعة والعبودية.

وبالجملة : دعوى كون المصلحة في نفس الأمر والجعل ولو موجبة جزئية مما لا سبيل إليها.

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن المراد من « الضرر » في قول المستدل « إن الظن بالحكم يستلزم الظن بالضرر » إن كان هو العقاب فالملازمة ممنوعة ، فان العقاب يدور مدار التنجيز وهو يدور مدار وصول التكليف وإحرازه بالعلم أو ما يقوم مقامه من الطرق الشرعية ، لما عرفت ( في الأمر الأول ) من أن التكليف بوجوده الواقعي قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد ويقبح العقاب عليه. والظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره وجعله كاشفا ومحرزا لا يقتضي وصول الحكم ، وما لم يصل لا عقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، فالظن بالحكم لا يلازم احتمال العقاب فضلا عن الظن به ، لأن العقاب فرع التنجيز وهو فرع الوصول ، فما يقال : من « أن الظن بالحكم وإن لم يلازم الظن بالعقاب إلاّ أنّه يحتمل

ص: 219

العقاب ، ودفع العقاب المحتمل كالمظنون مما يلزم به العقل » ضعيف غايته ، فإنه كيف يحتمل العقاب مع عدم اعتبار الظن وعدم كونه منجزا للتكليف ، بل ينبغي القطع بعدم العقاب لاستقلال العقل بقبحه.

وإن أريد من « الضرر » غير العقاب من المصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات التكاليف - بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الراجعة إلى العباد لاستغنائه ( تعالى ) عن ذلك - فالظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة ، لأن المصالح والمفاسد من الأمورات الواقعية التكوينية ولا تأثير للعلم والجهل بها ، ولا يمكن أن يدور وجودها الواقعي مدار العلم بالتكليف ، فالظن به يلازم لا محالة الظن بها ، إلا أن الشأن في كون فوت المصالح أو الوقوع في المفاسد من المضار الدنيوية ليندرج الظن بها في صغرى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون.

والإنصاف : أنه ليس كذلك ، فان التكليف المظنون ، إما أن يكون من العبادات التي تتوقف على قصد الامتثال ، وإما أن يكون من التوصليات.

فان كان من العبادات : فالمصلحة فيها تدور مدار قصد الامتثال ، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه (1) ليتمكن المكلف من قصد الامتثال ، فالظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره لا يصحح قصد الامتثال ، بل لا يتمكن المكلف من ذلك إلا على نحو التشريع المحرم ، فحال المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظن بالحكم وبين الظن بها ، فالظن بالأحكام العبادية لا يندرج في صغرى حكم العقل بلزوم

ص: 220


1- أقول : ذلك يصح على فرض احتياج العبادة إلى القربة الجزمية ، ومعه ينسد باب الاحتياط في العبادات ، خصوصا في الشبهات البدوية ، ولا أظن التزامه ممن كان خالي الذهن من الشبهات ، كيف وهو ديدن الصلحاء والعباد في الاحتياط في قضاء صلاتهم وغيرها. ولئن سلمنا ما افيد، لنا أيضاً أن نقول: إنه في فرض تكنه من تحصيل العلم لو ترك ذات العبادة فقد احتمل فوت المصلحة الملزمة؛ ومع تسليم كون فوات المصلحة من الضرر يحتمل إقدامه علی الضرر.

دفع الضرر المظنون على فرض تسليم كون فوات المصلحة من الضرر.

وإن لم يكن الحكم المظنون من العبادات ، فان كان من الأحكام النظامية : فالظن بها لا يلزم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، فان الأحكام النظامية تبتنى على المصالح والمفاسد النوعية ، والضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه هو الضرر الشخصي لا الضرر النوعي ، فلو سلم أن فوت المصلحة والوقوع في المفسدة يندرج في الضرر فإنما هو في المصلحة والمفسدة الشخصية ، فالظن بالأحكام النظامية لا يلازم الظن بالضرر الشخصي الذي يستقل العقل بقبح الإقدام عليه.

وإن كان من الأحكام الشخصية : فالظن بها يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، ولا يصغى إلى ما قيل : من « أنه يمكن أن تكون المصلحة والمفسدة في نفس الأمر لا في المأمور به ، فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية » لما عرفت : من أن دعوى كون المصلحة في الأمر مما لا سبيل إليها ، بل المصالح والمفاسد إنما تكون في نفس المتعلقات.

فان قلنا : إن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر ، فلا محالة يلزم التحرز عنه بفعل ما ظن وجوبه وترك ما ظن حرمته.

ولكن للمنع عن كون فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر مجال واسع ، فان أقصى ما يقتضيه فوات المصلحة هو عدم النفع ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على ما يقطع منه فوات النفع فضلا عن الظن ما لم يلزم منه محذور آخر من معصية المولى ومخالفة أمره. وأما الوقوع في المفسدة : فكذلك أيضا ، لأنه ليس كل مفسدة ضررا حتى يجب عقلا التحرز عن الوقوع فيها ، إلا أن يدعى أن دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلا وإن لم تكن المفسدة من أفراد الضرر.

ولكن لو صحت هذه الدعوى فهي جهة أخرى لا دخل لها بما رامه المستدل لحجية مطلق الظن بقاعدة قبح الإقدام على الضرر المظنون ، مع أنّه

ص: 221

سيأتي ( في مبحث البراءة ) ما يظهر منه فساده هذه الدعوى.

فالتحقيق : ان الظن بالحكم لا يلازم الظن بالضرر.

والشيخ قدس سره بعد أن سلم الملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر واعترف أن المفسدة من أفراد الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه سلك مسلكا آخر في منع الصغرى.

وحاصل ما أفاده في وجه المنع هو : أن المفسدة المظنونة مما يقطع أو يظن بتداركها ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المظنونة مع القطع أو الظن بتداركها ، بيان ذلك هو : أن أدلة الأصول الشرعية - من الاستصحاب والبرائة - في المورد الذي لم يثبت التكليف به ، إما أن تكون مقطوعة الصدور عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) كما هو ليس ببعيد وإما أن تكون مظنونة الصدور عنهم ، وعلى كلا التقديرين : إما أن يقطع أو يظن بتدارك المفسدة المظنونة عند الظن بالتكليف مع عدم قيام الدليل على اعتبار الظن ، فإنه إما يقطع بالبرائة الشرعية عن التكليف المظنون إن كانت أدلتها قطعية وإما أن يظن بها إن كانت أدلتها ظنية ، ويلزمه القطع أو الظن بتدارك المفسدة المظنونة حتى لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، فإنه مع عدم إحراز التكليف لابد للشارع : إما من ايجاب الاحتياط ليتحرز المكلف عن الوقوع في المفسدة وإما من تداركها ، وحيث لا يجب الاحتياط عند الظن بالتكليف - إما علما وإما ظنا - فلا يظن بالمفسدة الغير المتداركة ، بل يعلم أو يظن بالتدارك ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المتداركة.

هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه المنع عن الصغرى إن كان المراد من « الضرر » فيها المفسدة لا العقاب.

وأنت خبير بما فيه ، أما أولا : فلأن تدارك الضرر والمفسدة إنما يجب إذا كان الشارع أوقع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، وذلك ينحصر بالتعبد بالأمارات في مورد انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من الوصول إلى

ص: 222

الواقع وإدراك المصالح والمفاسد الواقعية ، فان التعبد بالأمارة مع مخالفتها للواقع يكون قبيحا إلا بأن يتدارك بالمصلحة السلوكية ما فات من المكلف بسبب العمل بالأمارة من مصلحة الواقع - كما تقدم بيانه - وأما الأصول العملية : فالتعبد بها إنما يكون في مورد انسداد باب العلم وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع ، لأن الأصول العملية لا اعتبار بها في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص واليأس عن الوصول إلى الواقع بالعلم أو العلمي ، فلا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع ، لأنه لولا التعبد بالأصول كان المكلف يقع في ذلك إلا إذا وجب عليه الاحتياط عقلا أو شرعا. وقد لا تكون مصلحة الواقع بمثابة يلزم رعايتها بجعل المتمم وايجاب الاحتياط (1) فتأمل.

وأما ثانيا : فلأن العموم في كل مورد إنما يشمل الأفراد التي لا يتوقف شمول العام لها إلى مؤنة زائدة من إثبات أمر آخر (2) إلا إذا بقى العام بلا مورد لولا تلك المؤنة الزائدة - كما أوضحناه في محله - وشمول عموم أدلة الأصول لمورد الظن بالحكم يتوقف على إثبات تدارك الضرر والمفسدة ، وإذا توقف على ذلك فمن أول الأمر العموم لا يشمل مورد الظن بالحكم ، ولا يلزم من عدم شموله بقاء العموم بلا مورد ، لأن المشكوكات والموهومات تبقي تحت العموم.

وأما ثالثا : فلأنه بعد تسليم كون الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر على تقدير ترك العمل بالظن لا يبقى موقع للبرائة والاستصحاب ، لاستقلال العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر المستتبع للحكم الشرعي

ص: 223


1- أقول : إذا فرضنا أن كل مفسدة ضرر ويجب على الشارع عدم إلقاء المكلف في الضرر ، فأي اهتمام أعظم من ذلك ، بل لابد له من متمم الجعل بمقتضى كلامه. نعم : ذلك صحيح في فرض عدم الملازمة بين المصلحة والضرر ، فإنه حينئذ في متمم الجعل يدور مدار الاهتمام وعدمه.
2- أقول : أصالة العموم متبع في كل مورد يشمله العام ، ولو كان شموله ملازما لخصوصية زائدة ، فبأصالة العموم يحرز الخصوصية المزبورة أيضا ولو كان من اللوازم العادية. ودعوى عدم الشمول عهدته على مدعيه ، فتأمل.

بحرمته ، سواء كان الحكم العقلي موضوعيا أو طريقيا ، فإنه على كل تقدير هذا الحكم العقلي يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية وعلى الاستصحاب (1) كما تقدم بيانه في الأمور المتقدمة.

والعجب من الشيخ قدس سره حيث أفاد ( في مبحث البراءة ) أن الظن بالضرر غير العقاب قد جعل طريقا شرعيا إلى الضرر الواقعي ولا تجرى فيه البراءة كسائر موارد الطرق الشرعية ، وفي المقام التزم بجريان البراءة مع اعترافه بأن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر (2). ولا يمكن الجمع بين كلاميه.

والحق هو ما أفاده ( في مبحث البراءة ) من أنه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظن بالضرر الدنيوي وتجري في موارد الظن بالضرر الأخروي ( لو سلم أن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر الدنيوي والأخروي معا ) فان جريان البراءة في أحد اللازمين لا يلازم جريان البراءة في اللازم الآخر إذا كان لكل من اللازمين مناط يخصه غير مناط الآخر ، فلو كان الظن بالحكم يلازم الظن بالعقاب والظن بالمفسدة معا ، فمن حيث العقاب تجرى البراءة العقلية ، لأن الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ليس بيانا ولا يكون منجزا للتكليف ، فيندرج في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. ومن حيث الظن بالضرر غير العقاب لا تجري البراءة العقلية لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ويستتبعه الحكم الشرعي بوجوبه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان.

ص: 224


1- أقول : بعد فرض كون موضوع حكم العقل الضرر الغير المتدارك ، فالأصول الشرعية الكاشفة عن التدارك رافع لهذا الموضوع بالورود بلا عكس ، كما هو ظاهر.
2- أقول : جملة من كلمات « شيخنا الأعظم » في البراءة صريحة في عدم مانعية الظن بالضرر لجريان أصالة الحلية ، لكشفه عن تداركه بالمصلحة ، فراجع الشبهة الموضوعية من الشبهة التحريمية وغيرها ، وما رأيت في كلماته ما أفيد حتى أتأمل في أطرافه.

والتحقيق : أن الظن بالحكم لا يلازم الظن بالعقاب ولا الظن بالضرر ، بل إنما يلازم الظن بالمفسدة وهي لا تلازم الضرر ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدلوا بها لحجية مطلق الظن - ما ذكره السيد المجاهد (رحمه اللّه) : من أنا نعلم بوجود واجبات ومحرمات في الشبهات ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو الاحتياط بالأخذ بالمظنونات والمشكوكات والموهومات ، ولكن يلزم من الاحتياط في الجميع العسر والحرج المنفى في الشريعة ، فلابد من الأخذ بالمظنونات فقط وترك المشكوكات والموهومات ، فإنه لا يلزم العسر والحرج من الأخذ بها.

وفيه : أن ذلك لا يتم إلا بعد ضم ساير مقدمات دليل الانسداد ، فان ما ذكر من الوجه إنما هو بعض المقدمات ، ولابد من ضم البقية إليه : من انسداد باب العلم والعلمي وعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وغير ذلك مما سيأتي بيانه.

ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثالث ( من وجوه حجية الظن المطلق ) وهو أنه لولا العمل بالمظنونات يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا.

إذ فيه : أن ذلك إنما يلزم إذا وجب الأخذ بالمظنونات أو المشكوكات ، ولمانع أن يمنع عن وجوب الأخذ بها إلا بعد ضم سائر مقدمات الانسداد. فهذه الوجوه ضعيفة ولا تستحق إطالة الكلام فيها.

فالأولى عطف عنان الكلام إلى البحث عن الوجه الرابع المعروف بدليل الإنسداد وهو من المباحث التي ينبغي أن يشكر عليها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) فإنه قد حرر البحث عن دليل الانسداد على وجه لم يسبقه إليه

ص: 225

أحد (1) وأفاد فيه من الدقايق العلمية ما كانت الأفهام قاصرة عن إدراكه كما سيتضح لك ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) فشكر اللّه مساعيه وجزاه عن العلم وأهله خيرا.

وعلى كل حال : دليل الانسداد يتألف من مقدمات أربع.

وقيل : إنها خمس ، بجعل العلم بالتكاليف من جملة المقدمات. والشيخ قدس سره أسقط هذه المقدمات نظرا إلى أن المراد من العلم بثبوت التكاليف ، إن كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدها من المقدمات ، فان العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع. وإن كان المراد من العلم بثبوت التكاليف العلم الإجمالي بثبوتها في الوقايع المشتبهة التي لا يجوز إهمالها ، فهو أيضا ليس من مقدمات دليل الانسداد ، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ( على ما سيأتي بيانه ) فالأولى الاقتصار على ما ذكره الشيخ قدس سره من المقدمات الأربع.

الأولى : انسداد باب العلم والعلمي في معظم الفقه. وهي عمدة المقدمات ، حتى حكى عن بعض المتقدمين الاكتفاء بها في استنتاج حجية مطلق الظن ، والمقدمات الآخر أضافها المتأخرون.

الثانية : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها بالرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشك في التكليف.

* * *

ص: 226


1- أقول : بعد التأمل فيما أفيد لم أجد فيه إلا دعوى إجماع في باب الانسداد الذي خرب أساس القوم ، وصار منشأ لتوهم تأسيس جديد في هذا الباب. ولكن لو تأملت في كلماتهم ترى بأن لمثل هذا الإجماع ليس عين ولا أثر ، وسيمر عليك أيضا سر كلماتنا في محل استنتاجه من مقدماته ( إن شاء اللّه تعالى ) ولقد فصلنا الكلام أيضا في شرح مرامه في الحاشية الآتية.

الثالثة : بطلان الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل بالأحكام : من الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ، أو الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة : من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط أو التقليد والرجوع إلى فتوى الغير.

الرابعة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح والأخذ بالموهومات والمشكوكات وترك المظنونات.

وهذه المقدمات الأربع إذا تمت وسلمت عن الإشكال تكون نتيجتها حجية الظن المطلق أو في الجملة ( على ما سيأتي توضيحه ) فلا بد من التعرض لكن مقدمة بالخصوص وإثباتها بما يمكن الاستدلال به لها (1).

ص: 227


1- أقول : : ملخص ما أفاد في إتمام المقدمات بعد ما نظرنا إليه بطوله وتفصيله : أنه بعد إتمام المقدمة الأولى - على الفرض - وكذلك المقدمة الثانية : من بطلان الخروج من الدين بترك التعرض للأحكام ، عمدة ما أفاد من النكتة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد باعترافه ( ومنه استنتج الكشف وحجية الظن شرعا وبه رفض مسلك الحكومة في باب الانسداد وكذلك مسلك التبعيض في الاحتياط ) هو ما أفاده في وجه بطلان الاحتياط - الذي هو المقدمة الثالثة - بعد بطلان سائر الطرق المقررة للجاهل : من الأصول المثبتة والتقليد وغيرها بجهات أخرى : من دعوى الإجماع على عدم البناء في الشريعة على الاكتفاء في امتثال الأحكام بصرف احتماله ، بل لابد وأن يأتي بعنوان وجوبه فعلا أو تركا ، وبهذا الإجماع التجأ إلى كشف طريق شرعي ، وعين هذا الطريق بالظن بمقتضى المقدمة الرابعة. ولعمرى ان مثل هذا الإجماع لم يسبقه إليه أحد، وصدق فى أن الأفهام قاصرة عن دركه، والذي نطقت به كلماتهم هو الإجماع على عدم لزوم الإحتياط وبطلانه. وأما وجه البطلان هو قيام الإجماع المزبور أو وجه البطلان عدم منجزية العلم وعدم اقتضائه الإحتياط ولو تبعيضاً فضلاً عن الإحتياط التام؟ فيه إشكال؛ كيف ويحتمل أن يكون مرجع الإجماع المزبور إلى إطباقهم على عدم وجود مثبتية العلم الإجمالى أو عدم منجزيته، ومن مثله يستكشف وجود مرجع آخر للمكلف ومثبت للتكاليف غير علمه الإجمالى بمقدار الكفاية الموجب لانحلال علمه كما هو المستفاد من بطلان الخروج من الدين ولو فرض عدم علم إجمالى أو عدم منجزيته رأساً، إذ من مثل هذا الإجماع التقديرى يستكشف وجود مرجع آخر غير العلم ولازمه قهراً انحلال العلم الإجمالى وسقوط اقتضائه الإحتياط تماماً أو تبعيضاً. وحينئذٍ نقول : إن هذا المقدار من إبطال الاحتياط إنما يقتضي كشف الجعل الشرعي لو لم يكن للعقل حكم بمرجعية شيء في البين الموجب لتعرض الأحكام به ( المتعين بمقتضى المقدمة الرابعة في الظن ) وإلا فلا يكاد ينتهى النوبة إلى كشف الجعل الشرعي ، لاحتمال إيكال الشرع في مقام حكمه بتعرض الأحكام إلى مثل هذا الحكم العقلي ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لكشف جعل من الشارع أصلا. وباللّه عليك! أن تتأمل في وجه الإجماع المدعى لإبطال الاحتياط بأنه هو الذي أفاده أو الذي نحن ذكرنا ، ولا أقل من احتمال أن يكون وجه قيام الإجماع على بطلان الاحتياط رأسا حتى تبعيضا ما ذكرنا ، لا ما أفاده. نعم : الذي مسلم عندنا وعنده قيام الإجماع على بطلان الاحتياط في الشريعة ولو تبعيضا. ولكن تمام الكلام في أن وجه هذا الإجماع رفض العلم الإجمالي عن المنجزية رأسا - ولو بالانحلال الذي نحن قربناه - أو وجهه لزوم تعرض المشتبهات بعنوان وجوبه فعلا أو تركا ، ومن اختلاف الوجهين يختلف النتيجة من حيث الكشف والحكومة بالتقريب المتقدم. فنحن ندعي : أنه من المحتمل أن يكون وجه الإجماع المسلم هو الذي ذكرنا ، إذ هو المتيقن ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى محل لإثبات المقرر ما ادعى من الإجماع في كلامه ولو اجتمع معه الثقلان! ومع عدم إثباته تبطل الفوائد الكثيرة والنكات الجميلة التي لم يسبق إليها أحد ، كي يستحق شكرا ، بل لك أن تسمع ما ذكرنا وتكون من الشاكرين.

أمّا المقدمة الأولى : فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مسلمة لا يمكن الخدشة فيها ، بداهة أن ما يوجب العلم الوجداني التفصيلي بالحكم من الخبر النص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية ظهورا وصدورا مع ساير ما يتوقف عليه الاستنباط لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ، وذلك مما يصدقه كل مجتهد يخوض في الاستنباط.

وأما بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فللمنع عنه مجال واسع ، فان ما تقدم من الأدلة الدالة على حجية الخبر الموثوق به ظهورا وصدورا - سواء حصل الوثوق به من وثاقة الراوي أو من ساير الأمارات الاخر - مما لا سبيل إلى الخدشة فيه ، بل ينبغي عدها من الأدلة القطعية ، ومعها لا يبقى مجال لدعوى انسداد باب العلمي في معظم الفقه ، لأن الخبر الموثوق به ( بحمد اللّه ) واف بمعظم الأحكام ، بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهات التي لم يكن على طبقها خبر موثوق به محذور الخروج من الدين أو مخالفة العلم

ص: 228

الإجمالي وغير ذلك من المحاذير الآتية.

ومن هنا يظهر : أن البحث عن دليل الانسداد - على طوله وكثرة مباحثه - قليل الفائدة لا يترتب عليه أثر مهم ، لفساد أساسه وهو انسداد باب العلمي.

نعم : لو قلنا بمقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) من أن « اعتبار الظهورات مقصور بمن قصد إفهامه من الكلام » وأغمضنا عما تقدم من الإشكال في ذلك ، أو قلنا : إن أقصى ما تقتضيه الأدلة المتقدمة إنما هو حجية الخبر الصحيح الأعلائي عند المتأخرين - وهو ما كان جميع سلسلة سنده من الإمامية مع تعديل كل من الرواة بعدلين في جميع الطبقات - كان لدليل الانسداد مجال ، بل مما لا بد منه ، بداهة أن الخبر الصحيح الأعلائي بهذه الأوصاف - كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية - أقل لا يفي بمعظم الفقه.

ولكن الأدلة المتقدمة تدل على اعتبار ما هو أوسع من ذلك ، وهو مطلق الخبر الموثوق به - كما تقدم تفصيله - ومعه لا تصل النوبة إلى دليل الانسداد لاستنتاج حجية مطلق الظن.

ومن الغريب : ما حكى عن المحقق القمي قدس سره في هذا المقام من أن « حجية ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد سندا وظهورا إنما هو لأجل إفادتها الظن ، لا لخصوصية فيها » وعلى ذلك بنى حجية مطلق الظن مع اعترافه بأنه لو كان حجية ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها تقتضي ذلك كان الواجب الاقتصار عليها وعدم التعدي عنها إلى مطلق الظن لأنها تفي بمعظم الفقه ولكن من المحتمل أن تكون حجيتها لأجل إفادتها الظن فيجوز التعدي عنها إلى كل ما يفيد الظن.

وقد أطال النقض والإبرام في ذلك ، وزاد في قوله « إن قلت قلت » على ما يبلغ العشرين. وقد تبعه في ذلك بعض من تأخر عنه حتى حكى : أنه صنف بعض المتأخرين رسالة عدم الخصوصية في ظواهر الكتاب والأخبار ، بل كان

ص: 229

حجيتها لأجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي.

وأنت خبير بما فيه ، فان مجرد احتمال أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لأجل إفادتها الظن لا يقتضي التعدي عنها إلى مطلق الظن ، فان اعتبار مطلق الظن يتوقف على جريان مقدمات الانسداد ، وإذا احتمل أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها حينئذ لا تجري مقدمات الانسداد مع الاعتراف بكونها وافية بمعظم الفقه ، فإنها تكون متيقنة الاعتبار ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد ، مع أنه لو بنينا على أن أدلة حجية الظواهر والأخبار إنما تدل على حجيتها من أجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي لا لخصوصية فيها - ولو لأجل تنقيح المناط القطعي - فأقصاه أن يكون الظن المطلق مما قام الدليل بالخصوص على اعتباره ، فيكون حال الظن المطلق حال الظن الخاص الذي قام الدليل الخاص على اعتباره ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد.

فظهر : أنه إنما تمس الحاجة إلى دليل الانسداد إذا منعنا عن حجية ظواهر الكتاب والأخبار بالخصوص ، وقد عرفت : أنه لا سبيل إلى المنع عن ذلك ، فدليل الانسداد فاسد من أصله. هذا كله في المقدمة الأولى.

وأمّا المقدمة الثانية : ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها والاعتماد على البراءة الأصلية ) فالظاهر : أن تكون ضرورية. وقد استدل عليها بوجوه ثلاثة :

الأول ، الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة عند انسداد باب العلم والعلمي والرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في جميع الموارد المشتبهة (1) والإجماع المدعى في المقام وإن لم يكن من الإجماع المحصل الفعلي ،

ص: 230


1- أقول : يمكن منع جعل هذا الإجماع مدركا مستقلا في قبال محذور الخروج من الدين ، لاحتمال كون نظر المجمعين إلى هذا المحذور ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال الحدس من هذا الاتفاق برأي المعصوم ، كما هو الشأن في كثير من الإجماعات المحتمل كون مدركهم وجها من الوجوه الجارية في المسألة ، كما لا يخفى.

فانّ المسألة لم تكن معنونة عند العلماء أجمع ولم يقع البحث عنها في قديم الزمان عند أرباب الفتوى ، إلا أنه يكفي الإجماع التقديري ، فإنه رب مسألة لم يقع البحث عنها في كلمات الأصحاب ، إلا أنه مما يعلم إجماعهم واتفاقهم عليها ، فإنه لا يكاد يمكن إسناد جواز الاعتماد على أصالة العدم وطرح جميع الأحكام في الوقايع المشتبهة إلى أحد من أصاغر الطلبة فضلا عن أرباب الفتوى.

الثاني : انه يلزم من الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في الوقايع المشتبهة الخروج عن الدين ، لقلة الأحكام المعلومة بالتفصيل ، فالاقتصار عليها وترك التعرض للوقايع المشتبهة وإهمالها يوجب المخالفة الكثيرة القطعية ، بحيث يعد المقتصر على امتثال المعلومات خارجا عن الدين وكأنه غير ملتزم بشريعة سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله وهذا بنفسه محذور يعلم أنه مرغوب عنه شرعا ، وإن لم نقل بأن العلم الإجمالي منجز للتكليف - كما هو مبنى الوجه الثالث - فان المخالفة القطعية الكثيرة والخروج عن الدين بنفسه مما يقطع بكونه مرغوبا عنه عند الشارع ومخالف لضرورة الدين والشريعة ، ويكفيك شاهدا على ذلك ملاحظة كلمات الأعلام كالسيد والشيخ ( قدس سرهما ) وغيرهما ، فراجع « الفرائد ».

الثالث : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الوجوبية والتحريمية في الوقايع المشتبهة (1) والعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يقتضي وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، فلا تجرى الأصول النافية للتكليف في أطرافه ،

ص: 231


1- أقول : بعد ثبوت محذور الخروج عن الدين وان لم يكن علم إجمالي في البين أو قلنا بعدم منجزيته رأسا ، فلا محيص من كشف مرجع في إثبات التكاليف الواقعية بالمقدار الوافي ، ومع ذلك غير خفى بأنه لا يبقى مجال لمناط منجزية العلم الإجمالي ، لانحلاله ، وحينئذ لا يمكن الجمع بين هذا الوجه وسابقه ، لكمال التضاد بينهما ، كما لا يخفى.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان مبنى الوجه الثاني هو لزوم المخالفة الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ، وذلك بنفسه محذور مستقل حتى على مسلك من يقول : إن العلم الإجمالي لا يقتضي التنجيز ولا يستدعي الموافقة القطعية بل يجوز المخالفة القطعية ، كما ذهب إليه بعض الأعلام. وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فإنه مبنى على منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصول النافية في أطرافه ولو كان المعلوم بالإجمال تكليفا واحدا تردد بين أمور محصورة بحيث لم يلزم من مخالفته إلا مخالفة تكليف واحد لا مخالفة تكاليف كثيرة ، كما هو مبنى الوجه الثاني.

والإنصاف : أن الوجوه الثلاثة - التي استدلوا بها على المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد - في غاية الصحة والمثابة غير قابلة للخدشة فيها.

وينبغي أن يعلم اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدمة الثانية هو الذي يوجب اختلاف النتيجة من حيث الكشف والحكومة ، فإنه لو كان المستند في بطلان إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى الأصول العدمية هو الوجه الأول والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة (1) فإن مرجع الإجماع أو

ص: 232


1- أقول : بعد الجزم بعدم الاكتفاء في امتثال الأحكام بأقل قليل إجماعا أو لمحذور عدم صدق التدين بهذا الدين ، فلو فرض عدم جعل من قبل الشارع ، فلا شبهة في أن العقل ملزم باتخاذ طريق في امتثال الأحكام بمقدار الخروج عن المحذور. وتوهّم : انه لولا تصرف من الشارع كان العقل مجوزا لتعطيل الدين والخروج عنه بالسكون وعدم التعرض للوقايع المشكوكة - خارج عن الوجدان السليم والذوق المستقيم ، وحينئذ فمع هذا الحكم العقلي لا يبقى طريق لاستكشاف جعل شرعي في البين. ومجرد عدم حكم العقل بشيء في واقعة مشكوكة أو أزيد لا يكون شاهد منع حكم العقل حتى في صورة لزوم محذور الخروج عن الدين ، وحينئذ عمدة وجه الاستكشاف للجعل الشرعي منع احتمال ايكال الشارع في رفع هذا المحذور إلى مثل هذا الحكم العقلي ، وإلا فمنع أصل حكمه حتى مع عدم تصرف شرعي يكذبه الوجدان السليم ، وحينئذ اثبات منع الإتكال دونه خرط القتاد ، وهو عمدة مدرك القائل بالحكومة في قبال الكشف. هذا كله ، مع أنه على فرض لزوم جعل من الشارع وعدم اتكاله إلى حكم العقل من المحتمل كون المجعول طريقا إلى إحراز الدين ايجاب الاحتياط بلا عناية تتميم الكشف ، غاية الأمر بضم بقية المقدمات يتعين دائرة ايجاب الاحتياط المزبور في دائرة الظنون ، وهو الذي سلك به « استاذنا العلامة » في كفايته ، وذلك أيضا غير قضية كشف طريقية الظن ، بمعنى وسطيته باصطلاحه ، فتدبر. وبالجملة نقول: إن النوبة لاتصل إلى كشف جعل شرعى احتياطاً أم طريقاً جعلياً، إلا بعد منع حكم العقل لولا الجعل، أو منع اتكال الشارع به. والأوّل خلاف الإنصاف، والثاني: يجديه احتمال الإتكال. ولا يمنع هذا الإحتمال إلا دعوى الإجماع الآتى من أنّ الشارع أراد امتثال التكاليف في كل مورد بعنوان وجوبه شرعاً وحرمته، فان تم هذا الإجماع فرجعه إلى الإجماع على عدم اتكال الشارع في رفع محذور الخروج عن الدين إلى حكم العقل؛ ولازمه حينئذ هو الكشف، ولكن دون إثباته خرط القتاد كيف! ولا يناسب مثل هذا الإجماع مع اشتهار الحكومة العقلية عند أرباب الإنسداد؛ فتدبر تعرف.

لزوم الخروج عن الدين إلى أن الشارع أراد من العباد التعرض للوقايع المشتبهة ولم يرخص لهم إهمالها ، فالعقل يحكم حكما ضروريا بأنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد ليتمكنوا من امتثال التكاليف الثابتة في الوقايع المشتبهة ، ولابد وأن يكون الطريق المجعول واصلا إلى العباد ، إما بنفسه ، وإما بطريقه ، والطريق الذي يصح جعله في حال انسداد باب العلم والعلمي مع كونه واصلا بنفسه ينحصر بالاحتياط ، فإنه الطريق الواصل بنفسه لكونه محرزا للواقع وموصلا إليه فعلى هذا يكون الاحتياط في الوقايع المشتبهة طريقا مجعولا شرعيا ، نظير الاحتياط في باب الدماء والفروج. وليس من الاحتياط العقلي ، فان الاحتياط العقلي هو الذي يحكم به العقل في أطراف العلم الإجمالي ، ومحل الكلام إنما هو فيما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين ، لا العلم الإجمالي ، وليس للعقل الحكم بالاحتياط في غير العلم الإجمالي ، وإلا يلزم أن يكون احتمال التكليف في نظر العقل منجزا للواقع ليحكم بالاحتياط في الوقايع المشتبهة مع قطع النظر عن ثبوت العلم الإجمالي فيها ، وهو كما ترى! فان مجرد احتمال التكليف لا يكون منجزا عند العقل مع انسداد باب العلم به على المكلّف.

وبالجملة : لا إشكال في أن الاحتياط يكون طريقا مجعولا شرعيا إذا كان المستند في المقدمة الثانية هو الإجماع أو الخروج عن الدين ، فإنّه لا طريق

ص: 233

واصلاً إلى العباد غيره ، والمفروض أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى امتثال التكاليف التي لم يرض بإهمالها. ولا يمكن ايكال الأمر إلى العقل ، لما عرفت : من أنه ليس للعقل حكم في غير موارد العلم الإجمالي (1).

ثم بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط وأن الشارع لم ينصبه طريقا (2) - بأحد الوجوه الآتية في المقدمة الثالثة - تكون النتيجة حجية الظن شرعا ، وهي معنى الكشف ، فإنه حينئذ لا طريق غيره يصح للشارع عليه ، فيكون الظن طريقا شرعيا واصلا بطريقه لا بنفسه ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) هذا إذا كان المدرك في المقدمة الثانية الإجماع أو الخروج عن الدين.

وإن كان المدرك هو العلم الإجمالي ، فيمكن أن تكون النتيجة الكشف ، ويمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما سيتضح وجه ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى أن أساس الكشف والحكومة هو اختلاف الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ، فتفطن.

وأمّا المقدمة الثالثة : وهي عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل ، فقد عرفت أنها ثلاثة - الأولى : التقليد والرجوع إلى فتوى الغير العالم بالحكم. الثانية : الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها : من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب. الثالثة : الاحتياط في الوقايع المشتبهة بالجمع بين جميع المحتملات. ولابد من إثبات بطلان كل من هذه الطرق

ص: 234


1- أقول : كيف يمن إنكاره في مثل هذا المقام المعلوم فيه شدة الاهتمام حتى في ظرف عدم تصرف من الشارع. ولا يقاس المورد بالوقايع المشتبهة القليلة التي لا يلازم تعطيلها للخروج عن الدين ، لعدم إحراز الاهتمام فيها ، كما هو ظاهر وأشرنا إليه.
2- أقول : قد أشرنا بأن ما هو باطل إنما هو الاحتياط الكلي ، وأما ايجاب الاحتياط في الجملة بنحو يتعين في دائرة الظنون فلا وجه لمنعه ، ومع هذا الاحتمال أيضا لا يبقى مجال كشف حجية الظن بمعنى وسطيته كما أشرنا إليه آنفاً ؛ فتدبر.

الثلاثة في المقام ، لتصل النوبة إلى المقدمة الرابعة.

أمّا بطلان التقليد : فواضح ، فإنه يشترط في جواز رجوع الجاهل إلى العالم أن لا يكون الجاهل معتقدا بطلان مدرك علم العالم ولا يرى علمه جهلا ، وإلا كان من رجوع العالم إلى الجاهل ، لا رجوع الجاهل إلى العالم ، ففي المقام من يرى انسداد باب العلم والعلمي لا يجوز له الرجوع إلى من يرى انفتاح بابهما ، لأن من يرى انفتاح باب العلمي يعتقد حجية ظواهر الكتاب والأخبار صدورا وظهورا ، ومن يرى انسداد بابه يعتقد عدم حجية ذلك وعدم دلالة الأدلة التي استدل بها على الحجية ، ومع هذا كيف يجوز له عقلا الرجوع إلى الغير القائل بالانفتاح؟ فالتقليد في المقام فاسد من أصله.

وأمّا بطلان الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها : فبالنسبة إلى الأصول العدمية النافية للتكليف واضح ، لأنه يلزم من إعمالها المخالفة القطعية ، للعلم بثبوت التكاليف في مواردها. ولا سبيل إلى دعوى عدم العلم بالتكليف في جميع موارد الأصول النافية.

وأما بالنسبة إلى الأصول الوجودية المثبتة للتكليف : من الاحتياط ( إذا كانت المسألة من أطراف العلم الإجمالي الشخصي المتعلق بها بخصوصها مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلي المتعلق بأحكام الشريعة ) ومن الاستصحاب المثبت للتكليف ( إذا لم تكن المسألة من أطراف العلم الإجمالي ) فقد أفاد الشيخ قدس سره في وجه بطلان الرجوع إليها : أنه يلزم من إعمالها العسر والحرج المنفيين لكثرة المشتبهات.

والإنصاف : أن دعوى العسر والحرج بالنسبة إلى الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة في محلها ، وسيأتي الكلام فيه.

وأما بالنسبة إلى الاحتياط في بعض الموارد مما يقتضيه نفس المورد - من حيث كونه من أطراف العلم الإجمالي الشخصي - وكذا الاستصحاب الجاري في المورد الذي علم التكليف به سابقا : فليسا بمثابة يلزم من الرجوع إليهما العسر

ص: 235

والحرج ، لقلة مواردهما. نعم : لا يبعد ذلك في خصوص المعاملات ، فإن الاستصحاب فيها يقتضي الفساد ، فالرجوع فيها إلى الاستصحاب قد يفضى إلى العسر والحرج ، فتأمل جيدا.

ولكن صحة الرجوع إلى الاحتياط في موارد العلم الإجمالي الشخصي والاستصحابات المثبتة للتكليف لا يغني عن شيء ، لأنها لا تفي بأقل قليل من الأحكام المعلومة بالإجمال في الشريعة ، مضافا إلى العلم الإجمالي بانتفاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحابات ، وقد تقدم ( في مبحث القطع ) أن الأصول المحرزة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يستلزم منها المخالفة العملية (1).

ومن ذلك يظهر الخلل فيما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في المقام : من دعوى انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا من الأحكام.

والإنصاف : أن دعوى انحلال العلم الإجمالي المتعلق بأحكام الشريعة بهذا المقدار من الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية بمكان من الغرابة ، عهدتها على مدعيها ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الأحكام في الشريعة وقلة موارد الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية؟.

وأغرب من هذه الدعوى ما أفاده قبل ذلك بأسطر : من أن العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مؤديات الأصول المثبتة لا يمنع عن جريانها في خصوص المقام ولو بنينا على عدم جريانها مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي في ساير المقامات لاستلزام شمول الدين لها التناقض في مدلوله فان حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الأطراف بمقتضى قوله علیه السلام في الصدر : « لا تنقض اليقين

ص: 236


1- أقول : قد تقدم فساده ، فراجع.

بالشك » يناقض وجوب النقض في البعض بمقتضى قوله علیه السلام في الذيل : « ولكن تنقضه بيقين آخر » لأن تناقض الصدر والذيل إنما يلزم إذا كان اليقين والشك في جميع الأطراف فعليا ملتفتا إليه ، وأما إذا لم يكن الشك الفعلي إلا في بعض الأطراف وكان الطرف الآخر غير ملتفت إليه ، فالاستصحاب إنما يجرى في خصوص الطرف الملتفت إليه الذي يكون الشك فيه فعليا ، ولا يجرى في الطرف الآخر في ظرف جريانه في ذلك الطرف ، لانتفاء شرطه - وهو الشك الفعلي - وإذا وصلت النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه بعد وجود شرطه وحصول الشك الفعلي فيه يكون ذلك الطرف الذي جرى فيه الاستصحاب سابقا خارجا عن محل الابتلاء ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضا ، غايته أنه بعد ذلك يعلم أن أحد الاستصحابين كان مؤداه مخالفا للواقع ، ولا ضير في ذلك بعد ما لم يكن هذا العلم حاصلا في طرف جريان الاستصحاب ، والاستصحابات التي يعملها المجتهد في مقام الاستنباط تكون من هذا القبيل ، فان استنباط الأحكام إنما يكون على التدريج وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتا إليها دفعة ليكون الشك فيها فعليا ، بل الالتفات والشك يكون تدريجيا حسب تدريجية الاستنباط ، فلا يجري الاستصحاب في جميع أطراف الشبهة دفعة واحدة ليكون العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها مانعا عن جريانه ، بل أقصاه حصول العلم بعد تمامية الاستنباط في أبواب الفقه بمخالفة بعض الاستصحابات التي أعملها في مقام الاستنباط للواقع ، وقد عرفت : أن هذا العلم لا يضر بصحة الاستصحابات. هذا حاصل ما أفاده قدس سره بتوضيح منا.

وأنت خبير بما فيه ، فان كل مجتهد قبل خوضه الاستنباط يعلم بأن الأحكام الشرعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجوداتها قد تنتفي بعض خصوصيات الموضوع عند تحققه خارجا الموجب للشك في بقاء الحكم ، وأن الوظيفة عند ذلك هي استصحاب بقاء الحكم ، ويعلم أيضا بانتقاض الحالة

ص: 237

السابقة في بعض الموارد التي يجرى فيها استصحاب بقاء الحكم ، وإنكار حصول العلم بذلك للمجتهد قبل خوضه في الاستنباط مكابرة واضحة ، والعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الاستصحابات يمنع عن جريان الاستصحاب في كل شبهة في موطنه ، وعدم فعلية الشك في جميع الموارد لعدم الالتفات إليها تفصيلا قبل الاستنباط لا يوجب عدم حصول العلم قبل الاستنباط بمخالفة بعض مؤديات الاستصحاب للواقع في موطن الاستنباط مع كون المسائل التي يخوض فيها للاستنباط مما تعم بها البلوى ولو بالنسبة إلى بعض المقلدين : ومع هذا كيف يصح للمجتهد الافتاء بمقتضى الاستصحابات والحال أنه يعلم بالخلاف ولو في بعضها؟.

والحاصل : أن فعلية الشك في كل شبهة وإن كانت شرطا لجريان الاستصحاب فيها ، وهي تتوقف على الالتفات إلى الشبهة ، إلا أن المفروض حصول العلم بفساد بعض الاستصحابات قبل وصول النوبة إلى جريانه في موطنه ، وهذا العلم هو المانع عن جريان كل استصحاب في موطنه (1).

فالتحقيق : أنه لا يجوز الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها مع قطع النظر عن انضمام ساير الشبهات إليها لا إلى الأصول النافية ولا إلى الأصول المثبتة. أما الأصول النافية : فللعلم بثبوت التكليف في موردها ، فيلزم

ص: 238


1- أقول : حصول العلم بالانتقاض في زمان مع عدم بقائه في زمان آخر كيف يجدى في منع جريان الأصل في الزمان الآخر؟ بل المانع عن الجريان هو العلم بالانتقاض في زمان الابتلاء باجراء الأصل ، لا قبله ولا بعده ، وحينئذ فمع غفلة المجرى للاستصحاب في مورد عن الشك بالبقاء في مورد آخر كيف يعلم حين إجرائه الأصل بانتقاض أحد الأصلين؟ ولو علم به قبله ، إذ بمحض الغفلة المزبورة يرتفع العلم السابق ، ومع انعدامه كيف يصلح أن يكون مانعا عن جريان الأصل فعلا؟ فتدبر فيما أفيد. كيف! ولم يلتزم أحد بما نعية العلم السابق، حتى لو فرض سريان الشك إليه حال جريان الأصل، إذ لا يتوهم ذلك ذو مسكة ؛ وحينئذ لنا سؤال الفرق بين انعدام العلم السابق بسريان الشك إليه لاحقاً، أو بغفلته عن الشك الآخر الموجب للغفلة عن أصله الذى هو طرف علمه، إذ بمثل هذه الغفلة أيضاً يرتفع العلم السابق جزماً.

من جريانها المخالفة القطعية للتكليف. وأما الأصول المثبتة : فلقلتها وعدم كفايتها لأحكام الشريعة ولو مع ضم المعلومات التفصيلية إليها ، مضافا إلى العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها.

وأمّا بطلان الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : فيدل عليه الإجماع وقاعدة « نفي العسر والحرج » بل « اختلال النظام » على ما سيأتي بيانه.

ولابد في المقام من زيادة بسط في الكلام ، فان كثيرا من المباحث العلمية المذكورة في دليل الانسداد محلها في هذا المقام. ولأجل عدم خلط المباحث ينبغي تقديم أمور :

الأمر الأول : قد عرفت أن الاحتياط يختلف حكمه حسب اختلاف الوجوه الثلاثة المتقدمة في الاستدلال على المقدمة الثانية وهي : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة.

فعلى الوجه الأول والثاني : يكون الاحتياط طريقا مجعولا شرعيا ، فان الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة أو لزوم المخالفة الكثيرة الموجبة للخروج عن الدين يقتضي عقلا جعل الشارع طريقا إلى أحكامه ، فان المفروض انسداد باب العلم والعلمي إلى الأحكام ، فلا يمكن عدم نصب الطريق مع الحكم بعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ، ولا يصح ايكال الأمر إلى العقل ، فان العقل لا حكم له في غير مورد العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض أنه لا علم بالتكليف تفصيلا ، لانسداد بابه. والعلم الإجمالي وإن كان حاصلا إلا أن ذلك يرجع إلى الوجه الثالث ، والكلام إنما هو في الوجهين الأولين ، فلابد أولا : من قطع النظر عن العلم الإجمالي وفرض كون جميع الوقايع من الشبهات البدوية ، أو فرض عدم كون العلم الإجمالي منجزا للتكليف - كما هو رأى بعض - ثم الكلام فيما يقتضيانه الوجهان الأوّلان.

ص: 239

ولا إشكال أنهما يقتضيان عقلا نصب الشارع طريقا موصلا إلى التكاليف لأن لا يلزم إهمالها ، ولا بد وأن يكون الطريق المنصوب واصلا إلى العباد ، إما بنفسه وإما بطريقه - على ما سيأتي المراد من كون الطريق واصلا بطريقه - فان الطريق الغير الواصل بنفسه وبطريقه لا يزيد حكمه عن نفس التكاليف التي انسد باب العلم والعلمي بها ، والطريق الواصل بنفسه في حال انسداد باب العلم والعلمي ليس هو إلا الاحتياط (1) فإنه محرز للواقع لما فيه من الجمع بين المحتملات وإدراك الواقعيات. وليس الظن في عرض الاحتياط ، فإنه لا يعقل أن تكون حجية الظن منجعلة بنفسها في حال من الحالات ، كما في بعض الكلمات ، فان الحجية المنجعلة بنفسها منحصرة بالعلم ، لكونه تاما في الكاشفية ومحرزا للواقع بنفسه ، فالظن لولا التعبد به وتتميم نقص كشفه لا يكون محرزا للواقع ، بخلاف الاحتياط فإنه بنفسه بلا حاجة إلى التماس دليل يكون محرزا للواقع ، فالطريق الواصل بنفسه بلا مؤنة ليس هو إلا الاحتياط (2) وإذا بطل الاحتياط بأحد الوجوه الآتية يتعين عقلا نصب الشارع الظن طريقا ، إذ لا طريق غيره حينئذ. هذا لو كان الوجه في المقدمة الثانية

ص: 240


1- أقول : معنى الطريق الواصل بنفسه ما هو معلوم بنفسه طريقيته للمكلف بلا احتياج إلى طريق آخر توصله إلى العباد ، قبال ما هو الواصل بطريقه كالطريق الذي ظن حجيته بظن علم حجية هذا الظن لدى المكلف ، قبال ما لا يكون واصلا إلى المكلف رأسا كالطرق الواقعية المجهولة لدى المكلف ولو تفصيلا بناء على كون المراد من الوصول التفصيلي ، وسيأتي نتيجة هذا التفصيل عند فرض استكشاف الحجة الشرعية تعميما أو إهمالا. وفى هذه الجهة معنى نصب الشارع طريقاً واصلاً نصبه طريقاً علم بجعله بنفسه بلا توسط طريق آخر؛ وفى هذه الجهة لا يتفاوت بين كون المجعول هو ايجاب الإحتياط أو حجية الظن بمعنى الوسطية، فمن هذه الجهة يكون حجية الظن في عرض ايجاب الإحتياط. نعم بينها تفاوت من جهة اخرى، وهو أنّ الإحتياط موصل إلى الواقع بنفسه والظن لا يكون موصلاً ال... بنفسه ؛ وهذه الجهة غير مرتبط بالواصل بنفسه والواصل بطريقه قبال غير الواصل رأساً .
2- أقول : ما هو منحصر بالاحتياط الطريق الموصل بنفسه ، لا الواصل بنفسه « ببين تفاوت ره از كجا است تا به كجا! ».

الإجماع أو الخروج عن الدين.

ولو كان الوجه فيها العلم الإجمالي : فالاحتياط يكون هو الأصل من باب حكم العقل بلزومه إرشادا حذرا عن مخالفة التكاليف وتحصيلا لامتثالها. وهذا الحكم العقلي لا يمكن أن يستتبع الحكم الشرعي المولوي لأنه واقع في سلسلة معلولات الأحكام.

لا أقول : إنه لا يمكن للشارع جعل ايجاب الاحتياط طريقا في موارد العلم الإجمالي ، فان اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز عقلا لا يمنع عن جعل الشارع في مورده حكما ظاهريا طريقيا بعنوان الاجتناب عن المحتملات ، إذ العقل إنما يستقل بقبح المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال وأنه لابد من الخروج عن عهدته. وليس للعقل حكم بوجوب الإتيان بالمحتملات في الشبهات الوجوبية أو حرمة الإتيان بها في الشبهات التحريمية ، فان الحكم بالوجوب والحرمة من وظيفية الشارع ، وليس وظيفة العقل سوى الحكم بلزوم إفراغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف ، غايته أن فراغ الذمة عن ذلك يتوقف عقلا على الجمع بين المحتملات فعلا أو تركا - حسب اختلاف الشبهات - فللشارع جعل حكم ظاهري طريقي بوجوب الإتيان بالمحتمل بما أنه محتمل أو حرمة تركه كذلك (1)

ص: 241


1- أقول : معنى الحكم الطريقي : هو الايجاب في ظرف المطابقة والترخيص في طرف المخالفة. وإن وجه منجزيته للتكاليف المحتملة أحد الوجهين اللذين ذكرناهما في باب جعل الطرق : أحدهما : كشف الايجاب المزبور عن اهتمام الشارع تعرضه بنحو لا يرضى بتركه في ظرف الجهل به ؛ ومثل هذا الإحتمال منجز عقلاً وموضوع لحكمه بدفع الضرر المحتمل، لا قبح العقاب بلابيان. وثانيهما: كونه بياناً في ظرف الجهل، بمعنى ملازمة وجود التكليف فى الواقع مع بيانه في ظرف الجهل الملازم لاحتمال البيان المستلزم لارتفاع موضوع حكم العقل بقبح العقاب في ظرف الجزم بعدم البيان؛ وحينئذ لا مجال للحكم الطريق إلا مجرد التنجز بلا اقتضائه الجزم بالوجوب لا نفسياً ولا مقدمياً، ولذا لا يكاد ينتج الجزم بالقربة أيضاً. وعليه : فبعد استقلال الع-قل بمنجزية العلم، لا يبقى مجال للايجاب الطريق. نعم : لا بأس بتتميم الكشف ولو من جهة إثماره في الرخصة في إتيان مشكوك الوجوب بعنوان وجوبه الموجب هذا الترخيص لإخراج المورد عن التشريع؛ ولكن ليس ذلك شأن كل حكم طريقي، ولو بمثل ايجاب الإحتياط وأمثاله العارية عن لسان التنزيل؛ فليس شأنها حينئذ إلّا التنجيز المعلوم لغويته في ظرف منجزية العلم الإجمالي، كما لا يخفی.

ويكون الغرض من ذلك الوصلة إلى التكليف الواقعي ، سواء كان المحتمل من أطراف العلم الإجمالي ، أو كان من الشبهات البدوية ، ك « باب الدماء والفروج والأموال ».

ولا يتوهّم : أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في موارد استقلال العقل به لغو لا يترتب عليه أثر عملي ، فإنه لو فتحنا باب هذا الإشكال يلزم عدم صحة حكم الشارع بالإباحة الظاهرية في موارد استقلال العقل بالبرائة ، وعدم صحة حكم الشارع بالبناء على بقاء التكليف عند الشك في بقائه في موارد استقلال العقل بالاشتغال.

وحلّ الإشكال في الجميع ، هو ان وظيفة العقل ليس الحكم بالوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، بل وظيفته إدراك الحسن والقبح ، سواء كان إدراكه واقعا في سلسلة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها ، غايته أنه لو وقع في سلسلة المعلولات لا يصح للشارع جعل حكم مولوي على طبق ما أدركه العقل ، للزوم التسلسل. وأما جعل حكم آخر مغاير لما أدركه العقل فهو بمكان من الإمكان وإن اتحدا في النتيجة ، والعقل إنما يحكم لزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال وليس على طبقه حكم مولوي من الشارع ، بل المدعى أن الحكم الشرعي يتعلق بالمحتمل بما أنه محتمل لغرض الوصول إلى التكليف الواقعي ، فدعوى استحالة تعلق الجعل الشرعي بالاحتياط في موارد العلم الإجمالي مما لا ينبغي الإصغاء إليها. ولكن مجرد صحة الجعل لا يكفي ما لم يقم دليل عليه ، وإلا فنفس العلم الإجمالي لا يقتضي ذلك ، لأن حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال يكفي في لزوم الاحتياط والجمع بين المحتملات.

ص: 242

فلو استندنا في بطلان المقدمة الثانية إلى العلم الإجمالي ومنجزيته للتكاليف المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة كان الاحتياط هو الأصل من جهة حكم العقل به إرشادا ، لا من جهة جعل الشارع له طريقا - كما هو مقتضى الوجهين الأولين - ولأجل اختلاف حكم الاحتياط من حيث حكم العقل به إرشادا أو من حيث جعل الشارع له طريقا تختلف نتيجة مقدمات الانسداد من حيث الكشف والحكومة والتبعيض في الاحتياط ، على ما سيأتي تفصيله.

الأمر الثاني : للاحتياط مراتب ثلاث :

المرتبة الأولى : الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : من مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ، على وجه يقتضي إحراز جميع التكاليف الواقعية على ما هي عليها ، وهذه المرتبة من الاحتياط تخل بالنظام النوعي والشخصي ، لكثرة الوقايع المشتبهة وانتشارها في جميع ما يتوقف عليه النظام : من المعاش والمعاشرة والمحاورة والعقود والايقاعات وغيرها ، ولا إشكال أن التجنب عن جميع ذلك يخل بالنظام.

المرتبة الثانية : الاحتياط الموجب للعسر والحرج من دون أن يستلزم اختلال النظام ، بل مجرد الضيق الذي لا يناسب الملة السهلة السمحة. المرتبة الثالثة : الاحتياط الذي لا يوجب العسر والحرج ، فإذا كان الحاكم بلزوم الاحتياط في الوقايع المشتبهة هو العقل من جهة اقتضاء العلم الإجمالي ، فبطلان كل مرتبة سابقة يوجب تعين المرتبة اللاحقة ، لأن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها ، فإذا بطل الاحتياط المخل بالنظام ولم يجز العمل به عند العقل تتعين المرتبة الثانية ، وإذا بطلت المرتبة الثانية بأدلة نفي العسر والحرج - على ما سيأتي بيانه - تتعين المرتبة الثالثة ، فإذا فرضنا أن الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة - من المظنونات والمشكوكات والموهومات -

ص: 243

يوجب اختلال النظام يتعين الأخذ بالمظنونات والمشكوكات إذا لم يستلزم الاحتياط فيهما ذلك ، وإذا كان الاحتياط فيهما يوجب العسر والحرج وقلنا : إن أدلة العسر والحرج تنفى الاحتياط الموجب لذلك وإن كان الحاكم بالاحتياط هو العقل على الأقوى - خلافا لبعض الأعاظم على ما سيأتي بيانه - كان اللازم الأخذ بالمظنونات فقط ، أوهى مع بعض المشكوكات على وجه لا يلزم منه العسر والحرج. والسر في ذلك هو ما عرفت : من أن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها ، ولا يعقل أن يكون بطلان مرتبة موجبا لسقوط ساير المراتب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الأمور اللاحقة. هذا إذا كان الملزم بالاحتياط حكم العقل إرشادا من جهة العلم الإجمالي.

وإن كان الملزم بالاحتياط هو الحكم الشرعي من جهة نصبه طريقا إلى إحراز التكاليف في الوقايع المشتبهة ، فقد عرفت : أن الطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة (1) فإذا فرضنا بطلان هذا الطريق من جهة استلزامه اختلال النظام ، فتعيين بقية مراتب الاحتياط تحتاج إلى معين آخر ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد جعل الاحتياط في بعض الوقايع طريقا ، ومن الممكن أيضا أن يكون قد جعل الظن طريقا محرزا. وإن كان يمكن أن يقال : إن الوجهين الأولين يقتضيان نصب الشارع طريقا واصلا إلى العباد والطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط الذي لا يخل بالنظام ، فان الاحتياط المخل بالنظام مما يستقل العقل بقبح نصبه ، ولازم ذلك : هو كون الطريق المنصوب شرعا الاحتياط في الشبهات على وجه لا يلزم منه اختلال النظام ، فيتعين التبعيض في الاحتياط ، إلا ان يقوم إجماع على بطلان التبعيض

ص: 244


1- أقول : الأولى أن يقال : ويعبر عنه بالطريق الموصل لا الواصل ، وإلا لا اختصاص في الطريق الواصل بالاحتياط ، بل كلما علم بجعله من قبل الشارع فهو الطريق الواصل احتياطا كان أو طريقا ، بمعنى الوسطية في الإثبات بمصطلحه ، كما شرحناه. وحينئذ لا موجب على الشارع من جعل خصوص الاحتياط لمحض كونه بنفسه موصلا ، بل له أن يجعل طريقا آخر بتتميم كشفه وبجعله موصلا قبال الاحتياط ، كما لا يخفى.

في الإحتياط أو على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي - على ما سيأتي بيانه - حينئذ جعل الظن طريقاً.

ومن ذلك يظهر : أن نتيجة مقدمات الانسداد ، إما أن تكون التبعيض في الاحتياط (1) وإما أن تكون حجية الظن ، ولا تصل النوبة إلى الحكومة بمعنى الامتثال الظني ، وسيأتي تفصيل ذلك ، فانتظر.

الأمر الثالث : قد تقدم : أن التعرض للوقايع المشتبهة بعد الفراغ عن عدم جواز إهمالها لابد وأن يكون بأحد الطرق الثلاثة المقررة للجاهل : من التقليد والرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها والاحتياط في جميع الشبهات. وقد عرفت : بطلان التقليد والرجوع إلى الأصل الجاري في كل شبهة.

وأما بطلان الاحتياط في جميع الوقايع : فقد استدل عليه بوجهين : الأول : الإجماع على عدم وجوب الاحتياط. الثاني : استلزامه العسر والحرج ، بل اختلال النظام.

أمّا الإجماع : فيمكن تقريبه بوجهين :

الأول : الإجماع على عدم وجوب إحراز جميع المحتملات في الوقايع

ص: 245


1- أقول : تعين التبعيض في ظرف اختلال النظام إنما يتم مع الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي ، فمثل هذا الجعل في أحد المحتملات الغير الموجب لاختلال النظام ، إذ لولا منجزية العلم لا يكون مجرد الجعل الواقعي منجزا ، ومنجزية هذا العلم فرع كون عدم إهمال الوقايع والخروج عن الدين مستندا إلى هذا العلم ، بحيث لولاه أو لولا منجزيته يستقل العقل بقبح العقاب. وأمّا لو قلنا بأنه لو فرض عدم منجزية هذا العلم أيضا لا يجوز أيضا ترك التعرض لامتثال الأحكام بنحو يوجب محذور الخروج عن الدين ، فلا محيص حينئذ من كشف منجز آخر موجب لانحلال العلم المزبور. وبعد ذلك نقول : إن تعين هذا المنجز أما مسند إلى حكومة العقل أو العلم الإجمالي في المرتبة الثانية ، ولا مجال للأخير ، إذ يجرى الكلام السابق فيه وهلم جرا ، فيتعين الأول من حكومة العقل ، وحينئذ فلا محيص لك من الالتزام بعدم تعطيل العقل عن حكمه ، فلم لا تلتزم به من الأول المانع عن كشف جعل أصلا؟ فتدبر بعين الدقة.

والجمع بينها بفعل كل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة.

الثاني : الإجماع على أن بناء الشريعة المطهرة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال ، بل بنائها على امتثال كل تكليف بعنوانه : من الوجوب والحرمة ، لا بمعنى اعتبار قصد الوجوب والحرمة ، بل معنى : أن الإتيان بالشيء بما أنه محتمل الوجوب أو محتمل الحرمة أو محتمل الإباحة - بحيث يكون الإتيان بمتعلقات التكاليف بعنوان الاحتمال وبرجاء انطباقه على المكلف به - أمر مرغوب عنه شرعا ليس بناء الشريعة عليه.

وهذان الوجهان من الإجماع وإن لم يقع التصريح بهما في كلام القوم ، إلا أنه مما يقطع باتفاق الأصحاب عليهما (1) كما مر نظيره في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة. وقد عرفت : أن الإجماع التقديري كالمحصل الفعلي في الاعتبار.

ونتيجة هذين الوجهين من الإجماع تختلف ، فإنه على الوجه الثاني تكون النتيجة حجية الظن شرعا المعبر عنها بالكشف ، من غير فرق بين أن يكون المدرك في المقدمة الثانية ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ) هو الإجماع أو الخروج عن الدين أو العلم الإجمالي ، ولا يمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما لا يمكن أن تكون النتيجة الامتثال الظني المعبر عنه بالحكومة ، فان في التبعيض في الاحتياط أيضا يكون الامتثال احتماليا ، والمفروض أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي - كما هو مفاد الوجه الثاني من تقريب الإجماع على بطلان الاحتياط - فوجوب العمل بالمظنونات من الوقايع المشتبهة الذي هو المقصود من دليل الانسداد ليس لأجل التبعيض في

ص: 246


1- أقول : عمدة الكلام في إثبات هذا الإجماع ، لأنه أول شيء ينكر ، بل غاية ما عليه الإجماع عدم بناء الشريعة على الاحتياط الناشئ من قبل منجزية العلم الإجمالي تماما أو تبعيضا ، لا عدم إتيان مظنون التكليف لكونه مظنونا ومنجزا بهذا الظن ، كيف والقائلين بالحكومة ليس مرامهم إلا هذا! فكيف يدعى اتفاق الأصحاب على خلافه؟ ولقد أشرنا إلى ذلك في الحاشية المكتوبة في أول المسألة فذلكة لمرامه.

الإحتياط إذا كان بطلانه في جميع الوقايع من جهة قيام الإجماع على أن بناء الشريعة على الإتيان بكل تكليف بعنوانه ، بل لأجل كشف ذلك عن أن الشارع جعل الظن طريقا محرزا للواقع مثبتا للتكاليف المعلومة بالإجمال. وليس وجوب العمل بالمظنونات أيضا لأجل حكم العقل بلزوم التنزل إلى الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فان الامتثال في الامتثال الظني أيضا يكون بنحو الاحتمال الذي فرضنا أن بناء الشريعة ليس على ذلك.

فالامتثال الظني مما لا يمكن أن يحكم العقل به مع انعقاد الإجماع على وجوب الإتيان بكل تكليف بما هو هو لا بما أنه محتمل ، وإنما يحكم العقل بالامتثال الظني في الشبهات الموضوعية عند تعذر الامتثال العلمي أو تعسره ، كموارد الجهل بالقبلة ، وكتردد الفوائت اليومية بين الأقل والأكثر ، ونحو ذلك من موارد اشتباه المكلف به لأجل الشبهة الموضوعية ، فان العقل يستقل بلزوم الإطاعة والامتثال الظني مع تعذر الامتثال العلمي والإجمالي ، وهذا أجنبي عن المقام ، فان العمل بالمظنونات لا يلازم الظن بامتثال التكاليف المنتشرة في الوقايع المشتبهة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).

والغرض في المقام مجرد بيان أن قيام الإجماع على الوجه الثاني ، وهو وجوب امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة (1) يكشف كشفا قطعيا على أن

ص: 247


1- أقول : اقتضاء الإجماع على عدم بناء الشرع على الإتيان بمحتمل التكليف بما هو محتمل حجية الظن بلا واسطة شيء مساوق دعوى الإجماع على حجية الظن ، فيخرج حينئذ من نتيجة دليل الانسداد ، فلا محيص من كون هذا الاقتضاء بواسطة ضم بقية المقدمات ، ومرجعه بالأخرة إلى العلم بجعل وسط في البين الموجب لعدم الأخذ بجميع المحتملات ، فيؤخذ بالأقرب بمقتضى المقدمة الرابعة ، وحينئذ لنا أن نقول : إن هذا العلم الإجمالي لولا منجزيته وموصليته لهذا الجعل لما يكون مجرد الوسطية بوجوده الواقعي منجزا للواقع. وحينئذٍ لنا أن نقول: إنّ منجزية هذا العلم فرع كون المدرك لبطلان الخروج عن الدين هذا العلم، ومع فرض عدمه وكشف منجز آخر خرج هذا العلم عن المنجزية والموصلية، فتحتاج في تعيين الوسط المجعول وايصاله إلى منجز آخر، وهذا المنجز أيضاً لا يمكن أن يجعل وسطاً آخر فى تعين الوسط الأول، وإلا فهلم جراً؛ فلا محيص من انتهاء الأمر إلى حكم العقل واستقلاله بكون الموصل للوسط المجعول هو الظن ؛ فانتهى الأمر بالأخرة إلى لزوم الأخذ بالظن والاحتمال الراجح في تعيين ما هو وسط ، وذلك يبطل الإجماع المزبور ، إذ بالأخرة يرجع إلى امتثال الأحكام بالاحتمال لا بالجزم. نعم ينتهى النوبة إلى الجزم بمقتضى المقدمة الرابعة بناء على منجزية العلم وموصليته من باب التبعيض في الإحتياط في المرة الثانية، ولكن بطلان الخروج عن الدين يمنع عن وصول النوبة إلى منجزية العلم الإجمالي رأساً .

الشارع نصب الظن طريقا محرزا للتكاليف موصلا إليه عند انسداد باب العلم بها ، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي.

وأما على الوجه الأول من تقريب الإجماع على بطلان الاحتياط ( وهو قيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات ) فالنتيجة تختلف حسب اختلاف الوجوه الثلاثة في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة المتقدمة في المقدمة الثانية.

فانّه لو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع هو العلم الإجمالي كانت النتيجة التبعيض في الاحتياط لا محالة ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الجمع بين جميع المحتملات ، وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الجمع ، وذلك لا يقتضي سقوط الاحتياط رأسا عن جميع الأطراف بل عن بعض الأطراف ويبقى بعضها الآخر على ما يقتضيه العلم الإجمالي من الاحتياط. وعلى هذا تبقي مقدمات الانسداد عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لاستنتاج النتيجة ، وسيأتي بيانه.

وإن كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين اللذان كانا يقتضيان جعل الشارع طريقية الاحتياط في جميع الوقايع ، فقيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين جميع المحتملات وإن كان يبطل جعل الشارع طريقية الاحتياط في الجميع ، ولكن لا يقتضي جعل الشارع طريقية الظن ، فإنه كما يمكن ذلك يمكن جعل التبعيض في الإحتياط ،

ص: 248

من جهة أنه هو الطريق الواصل بنفسه وطريقية الظن يحتاج إلى جعل لم يثبت ، فالتبعيض في الاحتياط لا ينحصر أن يكون بالزام من العقل في أطراف العلم الإجمالي عند تعذر الاحتياط في الجميع ، بل يمكن أن يكون بجعل شرعي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الإجماع على أنه « ليس بناء الشريعة على العمل بالاحتمال » يقتضي حجية الظن شرعا مطلقا سواء كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي. وقيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات في الوقايع المشتبهة يقتضي التبعيض في الاحتياط ، إما عقلا إن كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع هو العلم الإجمالي ، وإما شرعا إن كان المستند في ذلك هو الإجماع أو الخروج عن الدين. هذا كله إذا كان الوجه في بطلان الاحتياط الإجماع بكلا تقريبيه.

وإن كان الوجه فيه كونه موجبا للعسر والحرج فالنتيجة أيضا تختلف حسب اختلاف الوجوه الثلاثة - المتقدمة في المقدمة الثانية - فإنه لو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي ، فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط مطلقا ، كان الاحتياط التام في جميع الوقايع مما يخل بالنظام أو كان مما يوجب العسر والحرج ، فإنه على كلا التقديرين العقل لا يلزم بالاحتياط التام ، بل يستقل بقبحه إذا كان مما يخل بالنظام ، فلابد من التبعيض في الاحتياط إلى حد لا يلزم منه العسر والحرج ، وسيأتي الوجه في ذلك.

ولو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين فان كان الاحتياط التام مما يخل بالنظام ، فالعقل يستقل أيضا بعدم نصب الشارع الاحتياط المخل بالنظام طريقا إلى امتثال التكاليف الواقعية ، بل يقبح على الشارع الإلزام بسلوك طريق يؤدى إلى اختلال النظام النوعي والشخصي ، فلابد حينئذ : إما من ايجاب التبعيض في

ص: 249

الإحتياط ، وإما من نصب الظن طريقا ، على ما تقدم بيان ذلك.

وإن كان الاحتياط التام مما لا يخل بالنظام ، بل كان يلزم منه مجرد العسر والحرج : ففي بطلان الاحتياط واستكشاف عدم نصب الشارع له طريقا من عموم أدلة نفي العسر والحرج إشكال ، من حيث إن أدلة نفي العسر والحرج كأدلة نفي الضرر إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على الموضوعات الواقعية الشاملة باطلاقها لحالة الضرر والعسر والحرج ، فلابد وأن يكون لمتعلق الحكم الواقعي حالتان : حالة يلزم منها الضرر والعسر والحرج ، وحالة لا يلزم منها ذلك لتكون أدلة نفيها حاكمة على دليل الحكم الواقعي وموجبة لنفي الحكم عن المتعلق أو الموضوع الذي يلزم منه الضرر والعسر والحرج. وأما لو اختص الحكم الواقعي بما يلزم منه الضرر أو العسر والحرج دائما بحيث لم يكن له حالة لا يلزم منها ذلك - كوجوب الخمس والزكاة والجهاد ونحو ذلك من الأحكام الضررية - فلا يمكن أن تكون أدلة نفي الضرر والعسر والحرج حاكمة على دليل الحكم ورافعة له ، لأن الحكم رتب من أول الأمر على الموضوع الضرري ، فكيف يمكن أن يكون دليل نفي الضرر حاكما على دليله! مع أن الضرر محقق لموضوع الحكم ومتعلقه ، فلا يعقل أن ينفيه ، فان الموضوع إنما يستدعى ثبوت الحكم لا نفيه ، والاحتياط في المقام يكون كالخمس والزكاة والجهاد ليس له حالة لا يلزم منها العسر والحرج ، فان الاحتياط عبارة عن الجمع بين المحتملات : من المظنونات والمشكوكات والموهومات في الوقايع المشتبهة ، والاحتياط على هذا الوجه يوجب العسر والحرج دائما ، فلو أوجبه الشارع ونصبه طريقا إلى ما في الوقايع المشتبهة من التكاليف - كما هو مقتضى الوجهين الأولين اللذين بنيت عليهما المقدمة الثانية - كان كايجاب الخمس والزكاة لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على دليل ايجابه وموجبة لنفي وجوبه.

وتوهّم : أن من أدلة نفيهما يستكشف عدم ايجاب الشارع الإحتياط

ص: 250

ونصبه طريقاً (1) فاسد ، فان أدلة نفيهما إنما تكون حاكمة على أدلة الأحكام المجعولة في الشريعة ، وليس من شأنها نفي جعل حكم في الشريعة أو إثباته ابتداء باعتبار وجود مناط الجعل وعدمه ، فان بناء أدلة نفي العسر والحرج ليس مجرد الإخبار عن أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه العسر والحرج.

وبالجملة : لا إشكال في أن أدلة نفي العسر والحرج لا تنفى الأحكام التي يختص تشريعها بحال يلزم منه العسر والحرج ، فلو كان مدرك عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين الموجبان لنصب الشارع الاحتياط طريقا في حال انسداد باب العلم والعلمي كان اللازم وجوب الاحتياط وإن استلزم العسر الحرج ، ولا تصل النوبة إلى حجية الظن أو التبعيض في الاحتياط.

وهذا بخلاف ما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي ، فإنه لا محيص عن التبعيض في الاحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج. ولا موجب لسقوط الاحتياط رأسا في جميع الوقايع المشتبهة - كما قيل - فان الضرورات تتقدر بقدرها ، فلو اضطر المكلف إلى الاقتحام في بعض أطراف العلم الإجمالي كان الاضطرار موجبا عقلا للترخيص فيما يدفع به

ص: 251


1- أقول : يكفي في دفع هذا التوهم ما أفيد من منع نظر دليل نفي العسر إلى تكليف يكون من لوازمه العسر ، بلا احتياج إلى هذه المقدمة ، إذ على فرض شمول دليل نفي الحرج لنفي جعل حكم في الشريعة يختص أيضا بنفي جعل حكم له حالتان ، ويرفع حالة العسرية على فرض وجوده ولا يرفع حكما مختصا على فرض الوجود حال الحرج. نعم : الذي يرد على أصل التقريب هو أن دليل نفي الحرج لو كان ناظرا إلى صرف ايجاب الاحتياط التام من الشارع، فالأمر كما أفيد. وأما لو كان ناظرا إلى الحكم الواقعي المشكوك على فرض الوجود ، فلا شبهة في أن له حالتان : فدليل العسر يرفع فعلية الواقع بالنسبة إلى مثل هذه الحالة المشتبهة الموجبة لعسرية امتثاله دون غيرها ، وبمثل هذا الرفع التقديري يستكشف عدم ايجاب الاحتياط ، لأنه من تبعات وجود التكليف الواقعي على فعليته حتى في هذا الحال ، كما لا يخفى. ثم إن رفع التكليف الواقعي في هذا الحال ليس المراد أيضاً رفعه مطلقاً، بل الغرض رفعه بمقدار يقتضى العسر في هذا الحال لا مطلقاً ؛ ونتيجة ذلك أيضاً ليس إلا التبعيض في الإحتياط، كما لا يخفى؛ فتدبر.

الإضطرار ، سواء كان الاضطرار من جهة لزوم الضرر أو العسر والحرج أو غير ذلك من الأسباب ، وسواء كان الاضطرار إلى البعض المعين أو غير المعين (1) غايته أنه إذا كان إلى المعين يتعين دفع الاضطرار به بخصوصه ، وإن كان إلى غير المعين يكون المكلف بالخيار في دفع الاضطرار بكل واحد من الأطراف ، وليس له التعدي عن غير ما يدفع به الضرورة ، فان مقتضى العلم الإجمالي عقلا هو لزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال بأي وجه اتفق ، لأن المفروض أن العلم الإجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، فبمجرد العلم الإجمالي يتنجز التكليف ، غايته لو صادف دفع الاضطرار بمتعلق التكليف كان ذلك موجباً

ص: 252


1- أقول : إذا كان الاضطرار مقارنا للعلم وكان متعلقا بطرف معين ، كيف يمكن دعوى منجزية العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر ، إذ بالاضطرار المزبور بعد فرض سرايته إلى الواقع على فرض وجوده في المضطر إليه يرتفع العلم الإجمالي بالتكليف ، ومع ارتفاعه لا يبقى مجال وجوب الاحتياط عن الطرف الآخر ، لكون الشبهة بدويا ، كما هو الشأن في خروجه من محل الابتلاء. نعم: ما افيد صحيح بالنسبة إلى الإضطرار بغير المعين فان هذا الإضطرار مانع عن الجمع بين المحتملين، ولازمه كون سرايته إلى الواقع رافعاً لإطلاق التكليف فى كل طرف، بنحو يقتضى وجوب إتيانه ولو في حال وجود الآخر. وبهذا الإطلاق يحكم العقل أيضاً بالجمع بين المحتملين؛ فاذا ارتفع إطلاق التكليف لا أصل التكليف فالعلم الإجمالى بأصل التكليف فى كل واحد من الطرفين باقي غايته فى كل واحد مشروط بعدم إتيان غيره؛ ولازمه إلزام العقل بعدم تركها؛ ولازمه في هذا الظرف التخيير في إتيان أحد الطرفين، إذ بهذا المقدار يقطع بالخروج عن عهدة المعلوم بالإجمال. وبمثل هذا البيان أيضاً حققنا المسألة في باب الإشتغال؛ فراجع. ثم أقول: إنّ ما افيد من تعيّين الظن بمقتضى ما ذكرنا إنّما يتم على فرض الإلتزام بالعلم بتكليف مطلق في المظنونات مثلاً ومقيد في غيره بنحو الترتب كى يبقى العلم الإجمالي بحاله، والأفمع تعين الترخيص في خصوص الأبعد مطلقاً يرتفع العلم أيضاً ،راساً، ولا يبقى مجال الأخذ بالمظنون؛ ولكن هذا الإلتزام بالترتب أيضاً ينتج لزوم العمل بالأبعد في ظرف مخالفة الأقرب، وهو أيضاً خلاف مسلك أهل الإنسداد، وبنائهم على الرخصة في ترك الأبعد مطلقاً ؛ وحينئذٍ مثل هذا الممشى لا يتم حتى بناء على اقتضاء العلم الإجمالي في المنجزية، فضلاً عن العلية، لأن الترخيص المطلق ملازم لمنع التكليف في مورده على الإطلاق، ومعه لا يبقى علم إجمالي بالتكليف أصلاً؛ وعليه فلا يكاد انتهاء النوبة على مسلك منجزية العلم الإجمالى وأدلة الحرج إلى مرام القائل بالتبعيض ومرجعية الظن في حال الإنسداد والترخيص فى غيره مطلقاً؛ فتدبر فيما ذكرنا ، ولا يغرك طول البيان وتفصيله الغير المنتهى إلى مفهوم محصل ! .

للعذر عقلا ، وأما الطرف الآخر غير المضطر إليه فهو باق على حكمه السابق لولا عروض الاضطرار ، وحيث لم يؤمن من أن يكون هو متعلق التكليف فالعقل يستقل بلزوم التحرز عنه واستحقاق العقوبة عليه عند الاقتحام فيه وصادف كونه هو متعلق التكليف المعلوم بالإجمال. وأقصى ما تقتضيه حكومة أدلة رفع الاضطرار ونفى الضرر والعسر والحرج على أدلة الأحكام الواقعية ، هو أنه لو صادف كون متعلق التكليف أو موضوعه هو المضطر إليه ( إذا كان الاضطرار إلى المعين ) أو هو الذي دفع به الاضطرار ( إذا كان إلى غير المعين ) كان موجبا إما لرفع التكليف واقعا وإما لعدم تنجزه على الوجهين في أن الاضطرار هل يوجب التوسط في التكليف أو التوسط في التنجيز ، على ما سيأتي بيانه في محله.

فالقول بأن الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي يوجب سقوط التكليف رأسا وجواز الاقتحام في غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا ، سواء كان الاضطرار إلى المعين أو غير المعين وسواء كان طرو الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده (1) ضعيف غايته ، فان الضرورات تتقدر بقدرها ، ولا معنى لسقوط التكليف عن موضوع لعروض الاضطرار إلى موضوع آخر ، سواء أريد من السقوط السقوط الواقعي أو السقوط عن التنجز. وإن أردت الاطلاع على أطراف الكلام فراجع تنبيهات الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام.

فتحصل : أن استلزام الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة العسر والحرج يوجب التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات والاحتياط في المظنونات والمشكوكات إن كان الاحتياط فيهما لا يستلزم العسر والحرج ، وإلا فبترك المشكوكات كلا أو بعضا والاحتياط في المظنونات ، ولو استلزم الإحتياط

ص: 253


1- أقول : لو ترجع إلى ما ذكرنا ترى في إطلاقه تأمل ، بل ليس لك أخذ نتيجة القائل بالتبعيض من هذه المقدمات ، فتدبر.

في المظنونات العسر والحرج تعين التبعيض في الاحتياط بترك بعض المظنونات.

وبالجملة : لما كانت التكاليف المعلومة بالإجمال منتشرة بين المظنونات والمشكوكات والموهومات وكان الاحتياط في الجميع موجبا للعسر والحرج تعين التبعيض في الاحتياط على وجه لا يلزم منه محذور العسر والحرج ، ولكن ليس المكلف بالخيار بترك الاحتياط في أي من الطوائف الثلاث ، فان الخيار في دفع الاضطرار بأي واحد من أطراف العلم الإجمالي إذا كان الاضطرار إلى غير المعين إنما هو فيما إذا كانت الأطراف متساوية الإقدام بالنسبة إلى التكليف المعلوم بالإجمال فيها ولم يكن لأحدها مزية توجب أقوائية احتمال تعلق التكليف به ، وإلا كان اللازم عقلا دفع الاضطرار بما يكون الاحتمال فيه أضعف (1) فان الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إنما استقل به العقل لأجل رعاية التكليف المعلوم بالإجمال. فبالمقدار الذي يمكن رعاية التكليف - ولو بقوة الاحتمال - يتعين عقلا ، ففي المقام ليس للمكلف الاحتياط في الموهومات والمشكوكات وترك الاحتياط في المظنونات ، فان احتمال ثبوت التكاليف في المظنونات أقوى من ثبوتها في المشكوكات ، كما أن احتمال ثبوتها في المشكوكات أقوى من ثبوتها في الموهومات ، فإذا امتنع الاحتياط في الجميع - لمكان العسر والحرج - تعين الاحتياط في المظنونات أو مع المشكوكات وترك الاحتياط في الموهومات ، لما في المظنونات من المزية التي توجب تعينها عقلا وهي كونها أقرب الإصابة إلى الواقع من الموهومات ، وذلك كله واضح ، وإنما أطلنا الكلام فيه ولم نكتف بالإشارة دفعا لشبهة غرست في أذهان طلبة العصر (2) منشأها ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في هذا المقام : من منع

ص: 254


1- أقول : لكن عليك بالمراجعة إلى الحاشية الطويلة السابقة ، ترى بالتأمل فيها ما في هذه الكلمات وعدم الوصول بها إلى النتيجة.
2- أقول : بيني وبين ربى - مع تطويل الكلام وتكرار المرام - لا يكاد وصولك نتيجة التبعيض بنحو هو مقصود القوم ، لابتناء النتيجة على مقدمة باطلة على ما حققناه في الحاشية السابقة ، فراجع وتأمل بعين الإنصاف.

حكومة أدلة نفي العسر والحرج على ما يحكم به العقل من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي أولا ، ومن عدم وجوب التبعيض في الاحتياط على فرض تسليم الحكومة ثانيا.

وحاصل ما أفاده في وجه منع الحكومة : هو أن مفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ومقتضى التوفيق بينها وبين أدلة الأحكام التكليفية والوضعية - المتعلقة بما يعم الضرر والعسر والحرج - هو تخصيص أدلة الأحكام بما عدا مورد الضرر والعسر والحرج وإن كانت النسبة بين آحاد أدلة الأحكام وأدلة نفيهما العموم من وجه ، إلا أن التوفيق العرفي يقتضي تقديم أدلة نفيهما على أدلة الأحكام.

وليس وجه التقديم حكومة أدلة نفيهما عليها كما أفاده الشيخ قدس سره لأنه يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين شارحا ومفسرا لما أريد من الآخر ، وليس أدلة نفي الضرر والعسر والحرج شارحة لأدلة الأحكام ، فلا حكومة بينهما ، إلا أنه مع ذلك تقديم أدلة نفيهما على أدلة الأحكام ، لما بينهما من الجمع العرفي بتخصيص أدلة الأحكام بغير موارد الضرر والعسر والحرج.

ولكن هذا فيما إذا كانت الأحكام بنفسها تستلزم الضرر والعسر ، وفي المقام إنما يلزم العسر والحرج من حكم العقل بالاحتياط والجمع بين المحتملات في الوقايع المشتبهة لا من نفس الأحكام ، فلا وجه لتقديم أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي ، إلا إذا قلنا : إن مفاد أدلة نفي العسر والحرج نفي الحكم الذي ينشأ من قبله العسر والحرج وإن كان ذلك بضميمة حكم العقل ، فتقدم أدلة نفيهما على حكم العقل بالاحتياط.

هذا حاصل ما أفاده في وجه منع تقديم أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي.

وأما ما أفاده من المنع عن التبعيض في الاحتياط على تقدير تسليم الحكومة : فلم يبين وجهه ، ولعله مبنى على ما اختاره : من الملازمة بين حرمة

ص: 255

المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، فإذا لم تجب الموافقة القطعية للعسر والحرج لم تحرم المخالفة القطعية. أو مبنى على ما ذهب إليه : من أن العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف لا يقتضي التنجيز مطلقا ، سواء كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده ، وسواء كان الاضطرار إلى المعين أو غير المعين ، بدعوى : أن الاضطرار لما كان من حدود التكليف وقيوده ، فلا يحصل العلم بالتكليف المطلق ليقتضي التنجيز والاجتناب عما عدا المضطر إليه.

والإنصاف : أنه لا يمكن المساعدة على شيء مما ذكره.

أما ما أفاده أخيرا : من عدم الوجه لوجوب التبعيض في الاحتياط بعد تسليم حكومة أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي ، فقد عرفت الوجه فيه (1) وحاصله : لزوم رعاية التكاليف بالمقدار الممكن عقلا ، لأن الضرورات تتقدر بقدرها ، ودعوى الملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية أو دعوى عدم اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز مع الاضطرار إلى بعض الأطراف ، فضعيفة غايته ، فان الملازمة ممنوعة (2) إذ للشارع الاكتفاء عن الواقع

ص: 256


1- أقول : ما أفاده « الأستاذ » في الاضطرار إلى الغير المعين وإن لم يكن تماما ، ونحن أيضا أوردنا عليه بما أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، ولكن ما أفيد في وجه التبعيض أيضا لا يتم ، خصوصا في الاضطرار إلى المعين ، كما أن في غير المعين بعد تعيين العقل الحرج في الأبعد واقتضائه الترخيص على الإطلاق كان بحكم المعين في مضادته مع العلم بالتكليف الفعلي إجمالا ، ومع ذلك كيف ينتج ما أفيد من التبعيض في الاحتياط ولزوم العمل بالظن والرخصة في ترك غيره مطلقا؟.
2- أقول : قد تقدم سابقا : أن الترخيص في مخالفة المعلوم بجعل البدل والمفرغ جار في المقامين ، وإنما الكلام في جريان أدلة الترخيص في أحد طرفي العلم بلا تعيين مفرغ للمعلوم ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، إذ لم نقل فيه بجريان أدلة الترخيص - ولو مثل حديث رفع الوجوب - المشكوك عند الشك فيها مع توارد الحالتين الغير الجاري فيه الاستصحاب ، وحينئذ فكمال مجال لمقايسة الترخيص بعنوان جعل المفرغ مع الترخيص بلا جعله في العلم التفصيلي ، فكذلك في المقام. و كما أن هذا المقدار من الترخيص بعنوان المفرغ لاينا في علية العلم التفصيلي للإشتغال وإثبات التكليف، كذلك نقول به فى العلم الإجمالى وحينئذٍ لا مجال لاستفادة اقتضاء العلم الإجمالي وجواز الترخيص في بعض أطراف - بلا جعل بدل وتعيين مفرغ للمعلوم - من صرف جواز الترخيص ببركة جعل البدل في المقام أو في باب العلم التفصيلي ، وألتمس منك أن لا تكرر هذا المطلب في كلماتك. وتكتفي بما ذكرنا من الجواب ، وسيأتي في مبحث الاشتغال أيضا شرح هذه الجهة ( إن شاء اللّه تعالى ).

بترك بعض الأطراف في الشبهات التحريمية أو فعله في الشبهات الوجوبية ، فان العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي ، وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم التفصيلي - كما هو مفاد الأصول الجارية في مرحلة الفراغ - والاضطرار إلى بعض الأطراف لا يزيد حكمه عن تلف بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي (1) فكما أن تلف البعض لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التأثير بالنسبة إلى الباقي ، كذلك الاضطرار إلى البعض. ومجرد أن الاضطرار إلى متعلق التكليف يكون من قيود التكليف وحدوده دون تلف المتعلق لا يصلح فارقا في نظر العقل الحاكم بالاستقلال في باب الامتثال والخروج عن عهدة التكليف في موارد العلم الإجمالي. وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال.

وأما ما أفاده أولا : من أنه لا حكومة لأدلة نفي العسر والحرج على الحكم العقلي بالاحتياط.

ففيه أولا : أن عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة ووجوب التبعيض فيه لا يبتني على حكومة أدلة نفي العسر والحرج على الحكم العقلي بوجوب الاحتياط ، بل ليس حال لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات في المظنونات والموهومات والمشكوكات إلا كحال الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف أو فعل بعضها في موارد العلم الإجمالي (2) بل العسر

ص: 257


1- أقول : ما أفيد : من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف ولو معينا كتلف بعض الأطراف المعين بعد العلم في غاية المتانة إذا كان طرو الاضطرار بعد العلم ، وفي المقام الاضطرار مقارن للعلم ، فحق المقام أن نقيس بالتلف المقارن ، فهل ترى أحدا يلتزم بمنجزية العلم بالنسبة إلى الطرف الباقي؟ حاشا منك ومن غيرك!.
2- أقول : لو فرض ورود جميع إشكالات الدنيا عليه لا يكاد يرد عليه هذا الإشكال إلا بعد تسليم التبعيض في باب الاضطرار ، وهو أول شيء ينكره فيه أيضا ، فقياس الحرج بباب الاضطرار في مقام رده غير مستقيم ، كما أن الوجه الذي أفيد للتبعيض خصوصا في المعين أوضح بطلانا ، كيف! وما قيل في شرح توسط التكليف عين احتمال وجود التكليف في غير مورد الاضطرار ، وهل هذا غير الشك البدوي؟ نعم : لو لم يسرى الاضطرار إلى الواقع واختص بموضوع وجوب العمل حال الشك به كان لبقاء العلم وجه ، وعلى فرض اقتضاء تأثيره أمكن الترخيص على خلافه ، ولك حينئذ أن تثبت توسطا في التنجيز لا في نفسه ، ولكن أنى لك باثبات المقدمتين! فتدبر.

والحرج من أفراد الاضطرار ، فإنه لا يعتبر في الاضطرار عدم القدرة التكوينية على الاحتياط في جميع الأطراف. والاضطرار إلى بعض الأطراف المعين يوجب التوسط في التكليف - ونعني بالتوسط في التكليف هو ثبوت التكليف على تقدير كون المضطر إليه غير متعلق التكليف أو موضوعه وعدم ثبوته على تقدير كونه نفس متعلق التكليف أو موضوعه - وإلى بعض الأطراف الغير المعين يوجب التوسط في التنجيز على أحد الوجهين ، أو التوسط في التكليف أيضا على الوجه الآخر ، ذكرناهما في تنبيهات الاشتغال.

ففي المقام حيث كان يتعين الأخذ بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات إن كان يلزم من الأخذ بهما كلا أو بعضا العسر والحرج كان حكمه حكم الاضطرار إلى المعين تكون النتيجة التوسط في التكليف ، بمعنى سقوط التكاليف إن كانت في المشكوكات والموهومات وثبوتها إن كانت في المظنونات فتأمل (1).

وثانيا : أنه يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على نفس الحكم العقلي بالاحتياط ، بتقريب : أن حكم العقل بالاحتياط إنما هو لأجل رعاية الأحكام الشرعية ، فإذا كان رعايتها في حال انسداد باب العلم والعلمي موجبا للعسر والحرج فأدلة نفيهما تقتضي عدم إلزام العقل بالاحتياط بمقدار يلزم منه العسر والحرج ، فتكون حكومتها على حكم العقل بالاحتياط من شؤون حكومتها على الأحكام الشرعية ، فان انتشار الأحكام الشرعية بين المظنونات

ص: 258


1- أقول : لهذا التأمل في كلامه مجال ، والحق وقع في محله ، إذ لعله إشارة منه إلى بطلان ما ادعاه ، لا إلى الدقة باعتقاده.

والمشكوكات والموهومات مع وجوب التعرض لها وعدم جواز إهمالها هو الذي أوجب العسر والحرج ، فالعسر والحرج ينتهى بالأخرة إلى الأحكام الشرعية ولو لمكان الجهل بها وانتشارها في الوقايع المشتبهة.

والحاصل : أنه حيث وجب الاحتياط عقلا في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات رعاية للتكاليف المعلومة بالإجمال وكان الاحتياط في الجميع موجبا للعسر والحرج ، فلو كانت التكاليف في الموهومات كان الحرج مستندا إليها ، فلابد وأن تكون منفية بأدلة العسر والحرج ، وكذا الحال في المشكوكات لو كان الاحتياط فيها مع المظنونات موجبا للعسر والحرج ، فلا محيص عن التبعيض في الاحتياط بمقدار لا يوجب العسر والحرج لو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ولزوم الاحتياط فيها هو العلم الإجمالي ، ليكون الاحتياط في الأطراف عقليا.

فان قلت : ما الفرق بين الاحتياط العقلي والاحتياط الشرعي؟ حيث تقدم : أن أدلة نفي العسر والحرج لا تكون حاكمة على الاحتياط المنصوب شرعا طريقا إلى امتثال التكاليف في الوقايع المشتبهة إذا كان المستند في عدم جواز إهمالها هو الإجماع أو الخروج عن الدين.

قلت : الفرق بين الاحتياط العقلي الاحتياط الشرعي في غاية الوضوح ، فان الاحتياط الشرعي من أول الأمر ورد على موضوع يوجب العسر والحرج دائما ليس له حالة لا توجب ذلك ، نظير الأمر بالجهاد ، فيكون الاحتياط الشرعي أخص مطلق من أدلة نفي العسر والحرج. والسر في ذلك : هو أن الوقايع المشتبهة لوحظت قضية واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط ، لأن الإجماع أو الخروج عن الدين إنما كان دليلا على عدم جواز إهمال مجموع الوقايع المشتبهة من حيث المجموع ، لا على كل شبهة شبهة (1) فان

ص: 259


1- 1 - أقول : إذا كان المحذور في إهمال المجموع من حيث المجموع ، فنفى هذا المحذور بالإتيان بواحد ، إذ نقيض ترك المجموع هو الإتيان بواحد منها ، لا إتيان المجموع، وحينئذ هذا الوجه لا يقتضي وجوب اتيان المجموع بما هو مجموع ، بل غاية ما يقتضيه حرمة إهمال مجموع الوقايع وجوب الإتيان بمقدار يرفع المحذور ، ولازمه التخيير بين تعرض المظنونات أو المشكوكات أو الموهومات بلا انتهاء النوبة إلى لزوم تعرض مجموع المحتملات ، إلا بتبديل هذا السر بسر آخر من دعوى الإجماع أولا بوجوب الاحتياط في المجموع ، لا من جهة محذور الخروج عن الدين ، ودون إثباته خرط القتاد ، فتدبر في هذه الأسرار وكن من الشاكرين!.

إهمال كل شبهة مع قطع النظر عن انضمام إهمال ساير الشبهات إليها لا يوجب الخروج عن الدين ولا قام الإجماع على عدم جوازه ، بل معقد الإجماع ولزوم الخروج عن الدين إنما هو إهمال مجموع المحتملات : من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وذلك يقتضي نصب الشارع طريقية الاحتياط في المجموع ، فيكون حكما خاصا ورد على موضوع خاص يلازم العسر والحرج دائما ، ومعه لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على إلزام الشارع بالاحتياط ورافعة لوجوبه. وهذا بخلاف الاحتياط العقلي ، فان العقل في كل واقعة واقعة تكون طرفا للعلم الإجمالي يحكم بالاحتياط ويلزم به ، وكل واقعة واقعة مع قطع النظر عن انضمام ساير الوقايع إليها لا تقتضي العسر والحرج ، بل العسر والحرج يلزم من الاحتياط في مجموع الوقايع : مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ، وفي كل من المظنونات والمشكوكات والموهومات يستقل العقل بالاحتياط لكونها من أطراف العلم الإجمالي ، فيكون حكم العقل بالاحتياط في الوقايع المشتبهة بمنزلة أحكام متعددة يلزم من رعاية جميعها العسر والحرج ، ولابد حينئذ من التبعيض في الاحتياط ، لأن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها (1).

فتحصل ما ذكرنا : أنه لو كان المستند في المقدمة الثانية هو العلم الإجمالي - وكان الوجه في بطلان الاحتياط هو لزوم العسر والحرج - كان المتعين

ص: 260


1- أقول : قد ذكرنا كرارا بأن ما أفيد تمام لو لم ينتهى الأمر بحكم بقية المقدمات إلى جعل الترخيص الحرجي في خصوص الموهومات بقول مطلق ، وإلا لا يبقى العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي بحاله ، للجزم بأن الحرج المتوجه إليها بخصوصياتها يسرى إلى التكليف في ضمنها قهرا ، ومع فرض رفع الحرج فعلية التكليف الواقعي من أين يبقى العلم الإجمالي بحاله؟ كي يحكم العقل بالتبعيض في الإحتياط!.

هو التبعيض في الإحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج ، لحكومة أدلة نفيهما على التكاليف المعلومة بالإجمال المنتشرة في الوقايع المشتبهة التي يلزم من رعايتها في حال الجهل وانسداد باب العلم والعلمي بها العسر والحرج.

وأمّا ما أفاده قدس سره من أن مفاد أدلة نفي العسر والحرج والضرر إنما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع وأن التوفيق العرفي يقتضي تقديمها على أدلة الأحكام من دون أن تكون حاكمة عليها لعدم كونها بمدلولها اللفظي شارحة لها ومفسرة لما أريد منها ، فلتفصيل الكلام فيه محل آخر ، وإجماله : هو أنه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر بمثل كلمة « أي » أو « أعني » وما أفاد معنى ذلك - وإن كان يوهمه ظاهر عبارة الشيخ قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح - فإنه لم يوجد فيما بأيدينا من الأدلة ما يكون بهذه المثابة ، إلا بعض ما ورد في أخبار تنصيف المهر في موت الزوجة وطلاقها (1) وإلا فأغلب الحكومات لا يكون دليل الحاكم بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من دليل المحكوم ، بل الذي يعتبر في الحكومة ، هو أن يكون مفاد دليل الحاكم النتيجة المتحصلة من تحكيم قرينة المجاز على ذيها ، أو تحكيم الخاص على العام والمقيد على المطلق.

والضابط الكلي في ذلك : هو أن يكون أحد الدليلين متكفلا لبيان ما لا يتكفله دليل المحكوم. وبذلك تفترق الحكومة عن التخصيص وإن كانت النتيجة واحدة ، فان مفاد دليل المخصص نفي ما أثبته العام أو إثبات ما نفاه مع اتحاد الموضوع والمحمول فيهما وكان الاختلاف بينهما في مجرد السلب والايجاب ، كما في مثل قوله : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من العلماء » وهذا بخلاف الحاكم والمحكوم ، فان الاختلاف بينهما ليس بمجرد السلب والايجاب ، بل دليل

ص: 261


1- راجع الوسائل الباب 58 من أبواب المهور لعلك تجد ، فانى لم أجد في أخبار الباب شاهدا صريحا لما أشار إليه ولعله قدس سره عنى بذلك الحديث 24 من الباب ( المصحح )

الحاكم يتكفل معنى لا يتكفله دليل المحكوم ولا يرد السلب والايجاب فيهما على محل واحد ، ولذلك لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم دليل الحاكم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان ظهوره أضعف من ظهور دليل المحكوم ، فان ملاحظة النسبة وقوة الظهور فرع التعارض ولا تعارض بينهما ، لأن دليل الحاكم قد يتعرض عقد وضع دليل المحكوم بإدخال ما ليس داخلا فيه ، كقوله « زيد عالم » عقيب قوله : « أكرم العلماء » أو إخراج ما ليس خارجا عنه كقوله : « زيد ليس بعالم » عقيب قوله ذلك ، وهو الغالب في باب الحكومات ، سواء كانت الحكومة واقعية ، كحكومة قوله : « لا شك لكثير الشك » على قوله : « من شك من الثلاث والأربع فليبن على الأربع » أو حكومة ظاهرية كحكومة الأمارات على الأحكام الواقعية ، وبعضها على بعض وعلى الأصول على ما بيناه في خاتمه الاستصحاب.

وقد يكون دليل الحاكم متعرضا لعقد حمل دليل المحكوم ، كما هو مفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، فان الضرر والعسر والحرج من العناوين الثانوية التي تتصف بها نفس الأحكام الشرعية : من الوضعية والتكليفية - كما أوضحناه بما لا مزيد عليه - في رسالة لا ضرر - فهي بمدلولها المطابقي تنفى الأحكام الواقعية عن بعض حالاتها ، وهي حالة كونها ضرورية أو حرجية ، فمفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج نفي تشريع الأحكام الضررية والحرجية ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما وبين الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية بعناوينها الأولية ، فان شمول أدلة الأحكام لحالة الضرر والعسر والحرج إنما يكون بالإطلاق المتأخر رتبة عن أصل الجعل والتشريع ، فان الإطلاق والتقييد من الحالات والأوصاف اللاحقة للأحكام بعد فرض وجودها وجعلها وتشريعها ، فلا يمكن أن يكون في مرتبة الجعل والتشريع الدليل متكفلا لبيان وجود الأحكام في حال كونها ضررية أو حرجية حتى يعارض ما دل على نفي الجعل والتشريع للأحكام الضررية والحرجية.

ص: 262

وأمّا حديث كون مفاد أدلة نفي العسر والحرج والضرر نفي الحكم بلسان نفي الموضوع (1) فهو بمعزل عن الصواب.

لما فيه أولا : أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يكون فيما إذا كان مدخول النفي موضوعا ذا حكم ، إما في الشرايع السابقة ، وإما في زمان الجاهلية ، وإما في هذه الشريعة ، ليرد النفي على الموضوع بلحاظ نفي حكمه ، كما في مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « لا رهبانية في الاسلام » (2) و « لا ضرورة في الاسلام » (3) وقوله تعالى « فلا رفث ولا فسوق في الحج » (4) وقوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » (5) و « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (6) وغير ذلك من القضايا يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وفي مثل نفي الضرر والعسر والحرج لا يمكن ذلك ، فان الحكم المترتب على الضرر مع قطع النظر عن ورود النفي عليه ليس هو إلا الحرمة ، فيكون مفاد

ص: 263


1- أقول : إن ما أفيد أولا في إثبات الحكومة وشرحه في باب « لا ضرر والحرج » في غاية المتانة ، ونحن أيضا أوردنا عليه ، وأما ما أفيد أخيرا من إبطال كونه من باب نفي الموضوع : فهو مبنى على كون المراد من الموضوع نفس عنوان « الحرج » و « الضرر » وأما لو كان العنوانان حاكيان عن العناوين الضررية والحرجية - كما هو مقصوده - فلا يرد عليه ما أفيد. نعم لك أن تمنع هذه الجهة، لا أنه على فرضه تورد عليه بما افيد. و ما افيد في وجه المنع من كون النفى وارداً على الدين وهو عبارة عن الأحكام، غير تام، إذا المراد من الدين مطلق الخطابات الواردة حكماً وموضوعاً، فيصح أن يقال حينئذ ما جعل اللّه في خطاباته موضوعاً حرجياً ؛ وتخصيص الدين بخصوص الأحكام لاوجه له، كما لا يخفى. نعم: ما افيد بأنه على فرض كونه من باب نفى الحكم بنفى الموضوع لا ينافي الحكومة في غاية المتانة، ونحن أيضاً مستشكلين عليه؛ فتدبر.
2- لم نجد حديثا بهذه العبارة في كتب الأخبار وما أورده في الوسائل « ليس في أمتي رهبانية » راجع الوسائل أبواب آداب السفر إلى الحج الباب 1 الحديث 4 ( المصحح ).
3- 3 - سنن أبي داود كتاب المناسك الباب 3
4- 4 - سورة البقرة الآية : 197
5- ولا يخفى أن هذين التعبيرين أيضا ليسا عين ما نقل عن المعصوم علیه السلام راجع الوسائل أبواب الخلل الباب 16 و 24 ( المصحح ).
6- ولا يخفى أن هذين التعبيرين أيضا ليسا عين ما نقل عن المعصوم علیه السلام راجع الوسائل أبواب الخلل الباب 16 و 24 ( المصحح ).

قوله صلی اللّه علیه و آله لا ضرر ( بناء على أن يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ) هو نفي حرمة الضرر ، وهو كما ترى يلزم منه عكس المقصود ، فان المقصود منه عدم وقوع الضرر لا عدم حرمته والترخيص فيه ، وأما العسر والحرج فليس له حكم حتى يكون النفي بلحاظه.

وثانيا : أن توهم كون المفاد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يكون له سبيل في مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » وأما قوله تعالى : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » فهو مما لا سبيل إليه ، فان النفي فيه ورد على « الدين » وهو عبارة عن الأحكام والتكاليف الشرعية ، فمعنى قوله تعالى : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » هو أنه لم يجعل في الأحكام حكما حرجيا ، فالنفي من أول الأمر ورد على الأحكام ، لا على الموضوع حتى يتوهم أنه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وثالثا : أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أيضا يكون من أحد أقسام الحكومة إذا كان من النفي التركيبي بمفاد « ليس الناقصة » كقوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » و « لا سهو في السهو » ونحو ذلك ، فمجرد كون مفاد الدليل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لا ينافي الحكومة.

وليس الغرض في المقام تفصيل الكلام في أقسام الحكومات فإنه قد استقصينا الكلام في ذلك في رسالة مفردة ، بل المقصود مجرد التنبيه إلى أن الوجه في تقديم أدلة نفي العسر والحرج على أدلة الأحكام إنما هو الحكومة ، ولولا ذلك لم يكن وجه للجمع بينهما بتقديمها عليها عرفا ، فان الجمع العرفي لابد وأن يكون عن منشأ : من الحكومة أو قوة الظهور ونحو ذلك مما يأتي البحث عنه في مبحث « التعادل والتراجيح » ولا سبيل إلى دعوى أظهرية أدلة نفي العسر والحرج من أدلة الأحكام ، مع أن النسبة بينها وبين آحاد أدلة الأحكام العموم من وجه ، فلا وجه لتقديمها عليها إلا الحكومة. وقد عرفت : أنه بعد تسليم الحكومة لا محيص عن التبعيض في الاحتياط فيما نحن فيه إذا كان المستند في

ص: 264

المقدمة الثانية « وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة » العلم الإجمالي واقتضائه الاحتياط في المظنونات والمشكوكات والموهومات ، فان الاحتياط في الجميع مستلزم للعسر والحرج ، وبعد ضم أدلة نفيهما إلى ما يستقل العقل به - من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي - تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات إذا لم يلزم من الاحتياط في المظنونات والمشكوكات العسر والحرج ، وإلا فيجب الاحتياط في المظنونات فقط أو مع بعض المشكوكات ، إلا أن يقوم إجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ولو لم يستلزم الاحتياط فيها العسر والحرج ، وإلا كان اللازم الاحتياط في المظنونات فقط إذا كان مفاد الإجماع مجرد عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فان حال المظنونات يكون في حال أحد الإنائات الثلاثة التي علم بنجاسة أحدها مع الاضطرار إلى الاقتحام في أحدها المعين وقيام الدليل على جواز الاقتحام على الآخر (1) فإنه يجب الاجتناب عن الثالث مخافة أن يكون هو النجس المعلوم بالإجمال في البين ، ففي المقام يجب الاحتياط في المظنونات بعد قيام الإجماع بجواز ترك الاحتياط في المشكوكات وكان الاحتياط في الموهومات

ص: 265


1- أقول : مع فرض احتمال كون النجاسة في المحتمل المعين ومقارنا مع العلم كان المحتمل المزبور مضطرا إليه ، فهل هذا الاضطرار لم يكن قائما بموضوع المحتمل على الإطلاق؟ ومع قيامه فهل فيه قصور في نفي التكليف عن المضطر إليه بالخصوص؟ ومع عدم قصوره فمن أين يبقى علم إجمالي بتكليف فعلى بعده؟ وحينئذ من أين يجئ التبعيض وإلزام العقل بلزوم حفظ البقية؟. فان قلت: إنّ المصلحة إذا كان معلوما في كل واحد من الطرفين، فمع الشك فى طرق المانع عن هذه المصلحة في تأثيره فالعقل يحكم فى مثله بالإحتياط لا البرائة، نظير الشك في القدرة. قلت: ما افيد تمام لو كان الطرف الآخر مما كان المقتضى فيه محرزاً وأن الشك كان ممحضاً في المانع وأما إذا فرضنا بأن الشك في الطرف الآخر شك في أصل المصلحة وإنما علم إجمالاً بتكليف فعلى في كل طرف بمعنى احتمال انطباقه فى كل طرف؛ فمع فرض ذهاب العلم المزبور بواسطة الإضطرار في المعين، فلا يبقى مجال لجريان الإحتياط في الطرف الآخر مع فرض الشك في أصل اقتضائه ؛ ومن هذه الجهة نقول: إنه لو فرض خروج أحد الطرفين عن محل الإبتلاء فضلاً عن القدرة مقارناً للعلم وكان معينا لا مجال للإحتياط في الطرف الآخر، كما هو ظاهر على من يرجع كلماتهم في الشبهة المحصورة؛ فتدبر.

موجباً للعسر والحرج ولو مع ضم الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ، فإنه قد تقدم : أنه يتعين دفع العسر والحرج بترك الاحتياط في خصوص الموهومات ، لأنها أبعد عن الواقع من المظنونات والمشكوكات ، فيكون حالها حال الاضطرار إلى الاقتحام في أحد الإنائات الثلاثة المعين ، فإذا ضممنا إلى ذلك الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات يتعين الاحتياط في المظنونات فقط ، فان صادف كون التكاليف المعلومة بالإجمال في المظنونات فهو ، وإن صادف كونها في الموهومات والمشكوكات فهي منفية بأدلة نفي العسر والحرج وبالإجماع. هذا إذا كان مفاد الإجماع مجرد عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات من باب أنها من أحد أطراف العلم الإجمالي.

وإن كان مفاده عدم وجوب الاحتياط فيها من باب أن مبنى الشريعة ليس على امتثال التكاليف بنحو الاحتمال ، بل لابد وأن يكون امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص من الوجوب والحرمة ، فهذا الإجماع بضميمة انسداد باب العلم والعلمي يكشف لا محالة عن جعل الشارع حجية الظن وطريقيته إلى التكاليف الواقعية ، فيكون العمل بالمظنونات من باب أن الظن محرز للواقع ، لا من باب التبعيض في الاحتياط.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن نتيجة المقدمة الثانية مع ضم المقدمة الثالثة إليها تختلف حسب اختلاف المستند في المقدمة الثانية مع اختلاف المستند في بطلان الاحتياط ، فلو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين - وكان الوجه في بطلان الاحتياط هو الإجماع على عدم وجوب الجمع بين جميع المحتملات أو لزوم اختلال النظام من الاحتياط في الجميع - كان اللازم هو التبعيض في الاحتياط ، ولكن هذا الاحتياط إنما يكون بجعل شرعي وليس من الاحتياط العقلي ، لما عرفت : من أن الإجماع أو الخروج عن الدين يقتضي جعل الشارع الاحتياط طريقا إلى امتثال التكاليف ، وأقصى ما يقتضيه الإجماع على وجوب الجمع بين جميع

ص: 266

المحتملات أو اختلال النظام هو نفي جعل الشارع الاحتياط في الجميع طريقا ، وأما جعل الطريقية في البعض فلا ينفيه ، ولا سبيل إلى دعوى نصب الشارع الظن طريقا ، لما عرفت : من أن الطريق الواصل بنفسه ليس هو إلا الاحتياط. هذا إذا كان الوجه في بطلان الاحتياط الشرعي هو الإجماع أو اختلال النظام. وإن كان الوجه فيه لزوم العسر والحرج ، فقد عرفت : أن أدلة نفيهما لا تكفى في بطلانه ، لان الاحتياط الشرعي يكون أخص مطلق من أدلة نفيهما.

ولو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي - وكان بطلان الاحتياط لأجل الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات أو لأجل اختلال النظام أو لزوم العسر والحرج - فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط أيضا ، ولكن لزوم الاحتياط في البعض على هذا يكون لأجل استقلال العقل به إرشادا ، لا لأجل ايجابه شرعا ، فهذا الوجه مع الوجه السابق وإن كان يشترك في كون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، إلا أنه في الوجه السابق يكون الاحتياط في البعض من الاحتياط الشرعي ، وفي هذا الوجه يكون من الاحتياط العقلي.

ولو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي والإتيان بمتعلقات التكاليف على وجه الاحتمال ، فالنتيجة تكون حجية الظن شرعا على جميع التقادير ، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي ، فإنه لا يمكن المنع عن الامتثال الاحتمالي بلا نصب طريق إلى إحراز التكاليف مع انسداد باب العلم بها (1) والطريق الذي يمكن نصبه شرعاً

ص: 267


1- أقول : قد تقدم سابقا بأنه لو فرض قيام الإجماع على عدم الامتثال الاحتمالي ، لا يلازم ذلك أيضا مع حجية الظن بمعنى الوسطية ، بل كما يناسب ذلك مع الإجماع المزبور يناسب أيضا مع جعل وجوب العمل بالظن شرعا من باب المقدمية لتنجيز الواقع في ضمن ظنونه ، نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية ، إذ حينئذ لا يكون الامتثال احتماليا ، بل الحكم الشرعي الطريقي دعاه على الإمتثال. نعم : لو كان مفاد الإجماع وجوب التعرض للأحكام عن طريق وكاشف عنها ولو تعبدا كان للنتيجة المزبورة وجه ، ومرجع ذلك إلى العلم الإجمالي بجعل طريق في الأحكام الموكول تعينها بيد العقل ، ولكن أنى له باثباته!. كما أن الإجماع بالمعنى الأول - الذي عبارة عن وجوب تعرض الأحكام عن وجوب شرعي ظاهري - أيضا ثبوته أول الكلام ، واللّه العالم.

بحسب الدوران العقلي منحصر بالظن ، إذ لا طريق يمكن إحراز الواقع به على وجه لا يكون الامتثال احتماليا سوى الظن ، فيتعين هو للنصب.

فظهر : أن العمل بالمظنونات مع الوقايع المشتبهة لا يخلو عن أحد وجهين لا ثالث لهما ، وإما لكونه من التبعيض في الاحتياط في أطراف الشبهة ، وإما لكونه محرزا للواقع بجعل الظن حجة شرعا.

ومن ذلك يظهر : أن مقدمات الانسداد ، إما أن تكون عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة ( إذا كان بطلان الاحتياط في المقدمة الثالثة من جهة لزوم العسر والحرج ، وكان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة في المقدمة الثانية من جهة العلم الإجمالي ) وإما أن تكون النتيجة الكشف وحجية الظن شرعا ، إذا وصلت النوبة إلى المقدمة الرابعة ( وذلك إنما يكون إذا كان بطلان الاحتياط لأجل قيام الإجماع على أن مبنى الشريعة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال ) فجعل النتيجة الحكومة بمعنى الامتثال الظني مما لا أساس له ، ولا يمكن أن تكون النتيجة ذلك ، مع أن العمل بالمظنونات لا يلازم الامتثال الظني ، على ما سيأتي بيانه عن قريب ( إن شاء اللّه تعالى ).

فما اختاره الشيخ قدس سره من الحكومة وأن نتيجة مقدمات الانسداد هي كفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة مما لا يمكن المساعدة عليه.

قال قدس سره بعد الاعتراف بأنه يجب التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات بأدلة نفي العسر والحرج ووجوبه في المظنونات

ص: 268

والمشكوكات ما لفظه : ( اللّهم إلا ان يدعى قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، وحاصله : دعوى أن الشارع لا يريد الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقايع ، فيكون حاصل دعوى الإجماع دعوى انعقاده على أنه لا يجب شرعا الإطاعة العلمية الإجمالية في الوقايع المشتبهة مطلقا ، لا في الكل ولا في البعض ، وحينئذ يتعين الانتقال إلى الإطاعة الظنية.

لكن الإنصاف : أن دعواه مشكلة جدا وإن كان تحققه مظنونا بالظن القوى ، لكنه لا ينفع ما لم تنته إلى حد العلم ».

ثم عقب ذلك بقوله : « فان قلت : إذا ظن بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد ظن بأن المرجع في كل مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فتصير الأصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ، فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلف وكفاية الرجوع إلى الأصول ، وسيجيء أنه لا فرق في الظن الثابت حجيته بدليل الانسداد بين الظن المتعلق بالواقع وبين الظن المتعلق بكون الشيء طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلف عن الواقع ».

ثم أجاب عن قوله : « إن قلت » بقوله : « قلت : مسألة حجية الظن بالطريق موقوف على هذه المسألة الخ ».

وحاصل ما أفاده في الجواب عن ذلك بقوله : « قلت » على طوله يرجع إلى أن نتيجة مقدمات الانسداد وإن كانت أعم من الظن بالواقع والظن بالطريق ، إلا أن ذلك فرع سلامة المقدمات ووصول النوبة إلى أخذ النتيجة ، والكلام بعد في سلامة المقدمة الثالثة ، فإنه لم يثبت بطلان الاحتياط رأسا في جميع الوقايع لينتقل إلى المقدمة الرابعة ، لتكون النتيجة اعتبار الظن مطلقا سواء تعلق بالواقع أو بالطريق.

ص: 269

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال (1) فإنه بعد تسليم عدم وجوب الاحتياط في الموهومات بأدلة نفي العسر والحرج ووجوبه في المظنونات سواء تعلق الظن بالواقع أو بالطريق - فان الظن بالطريق يلازم الظن بالواقع ولو من حيث الأثر - لا يبقى موقع لهذا الجواب ، فان قيام الإجماع - ولو ظنا - على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات يلازم الظن باعتبار الأصول النافية للتكليف في موارد الشك ، كما اعترف به قدس سره فتكون التكاليف في المشكوكات موهومة ولو من حيث الأثر ، فان الظن باعتبار الطريق وإن لم يلازم الظن بالواقع ، إلا أنه يلازم الظن بالخروج عن عهدة الواقع عند العمل به ، فيكون التكليف في مورد الأصل النافي له - الذي فرض الظن باعتباره بسبب قيام الإجماع الظني على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات - موهوما من حيث الأثر ، والمفروض عدم وجوب الاحتياط في الموهومات - فتأمل - فبنفس المقدمة الثالثة يثبت اعتبار الظن بالطريق بمقتضى الإجماع الظني ونحتاج إلى المقدمة الرابعة ، ولعله لذلك ضرب على قوله : « قلت : مسألة حجية الظن موقوف على هذه المسألة الخ » وتبديله - على ما في النسخ المصححة - بقوله : « قلت : مرجع الإجماع قطعيا أو ظنيا على الرجوع في المشكوكات إلى الأصول هو الإجماع على وجود الحجية الكافية في المسائل التي انسد فيها باب العلم حتى تكون المسائل

ص: 270


1- أقول : بعد ما كان الغرض أن النوبة إنما تصل إلى مثبتية الظن للتكليف بعد إبطال مثبت آخر من العلم أو العلمي إجماليا أم تفصيليا ، فمع عدم ابطال العلم الإجمالي ولو من جهة إمكان التبعيض في الاحتياط - لا يكاد وصول النوبة إلى حجية الظن في إثبات التكليف ، وحينئذ في رفع اليد عن العلم بمقدار العسر إذا اكتفى في خصوص الموهومات لا يرخص العقل ترك المشكوك ، ولو كان مما هو مظنون الخروج عن عهدة الواقع وكان موهوما من حيث الأثر ، كيف! ولو فرض في رفع العسر رفع اليد عن خصوص موهوم الواقع أو موهوم الأثر ، ربما يقدم العقل الأول في الترخيص على الأخير ، ولو فرض عدم ترجيح العقل بينهما ، فلابد بمقتضى تأثير العلم الإجمالي من التبعيض بين نحوي الموهومين لا الأخذ بجميع الموهومات ، إذ ليس في البين نص مخصوص يرفع به اليد عن كل موهوم حقيقة أم أثرا ، بل عمدة ما في البين حكم العقل بالجمع بين تأثير العلم في إثبات معلومه وبين عمومات العسر المقتصر فيها بمقدار رفع العسر ، ولو عن بعض الموهومات دون بعض ، كما لا يخفى.

الخالية عنها موارد للأصول ، ومرجع هذا إلى دعوى الإجماع على حجية الظن بعد الانسداد » انتهى (1).

وهذا الكلام وإن لم يكن منه قدس سره بل هو لبعض الأعاظم من تلامذته وهو السيد الكبير الشيرازي قدس سره إلا أن المحكى أن ذلك كان برضى من الشيخ قدس سره وإمضائه. والمقصود من تبديل الجواب عن « إن قلت » إلى ذلك ، هو أن قيام الإجماع على جواز الرجوع في المشكوكات إلى الأصول النافية يكشف لا محالة عن جعل الشارع حجة كافية لينحل ببركتها العلم الإجمالي في الوقايع المشتبهة لتجري الأصول النافية للتكليف في المشكوكات ، فان مجرد الترخيص في المشكوكات لا يكفي في اعتبار الأصول النافية ما لم يثبت التكليف في المظنونات ، وثبوته فيها إنما يكون بجعل الظن حجة محرزا للتكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، فمرجع الإجماع على الرجوع إلى الأصول النافية في المشكوكات إلى الإجماع على جعل الشارع حجية الظن ليثبت به التكليف في المظنونات ، فتجري الأصول النافية في المشكوكات.

وبذلك يظهر : أن استكشاف حجية الظن إنما يكون بأحد وجهين :

ص: 271


1- أقول : يا ليت لم يضرب الكلام الأول ولم ينتهى الأمر إلى الجواب الثاني ، كيف! وقد تقدم وجه الجواب المضروب خال عما أورد عليه ، كما أن الجواب الثاني الذي هو منسوب إلى بعض الأعاظم من تلامذته أيضا مخدوش بان قيام الإجماع على الترخيص في المشكوكات إذا كان قطعيا إنما يلازم جعل البدل أو الانحلال - بناء على المختار من علية العلم الاجمالي للتنجيز - وإلا فبناء على مختارك من الاقتضاء - الذي تنسبه إلى بعض الأعاظم أيضا - فلا يقتضي الترخيص المزبور لجعل البدل ولا الانحلال ، إذ لازمه جواز الترخيص في أحد طرفي العلم ولو بلا معارض ، وحينئذ من أين يكشف عن وجود حجة كافية في البين كي ينتهى إلى الظن؟. ثم إن هذا أيضاً إذا كان الإجماع قطعياً، وإلا فلو كان ظنياً فلا شبهة فى أنه توجب الظن بالترخيص ؛ فعلى فرض الملازمة يوجب ذلك الظن بوجود حجة كافية، وبمثل هذا الظن لا مجال لرفع اليد عن تأثير العلم الإجمالي، لأن الظن بالإنحلال لا يوجب الإنحلال؛ وحينئذٍ كيف يصير النتجية حجية الظن بمقدار الكفاية ؟ فتدبر فيا قلت، ولا يغرنك صدور الكلام ممن لا يستأهل ردّه، لأنّ الجواد قد يكبو والإنسان يساوق السهو والنسيان.

أحدهما : قيام الإجماع على أن مبنى الشريعة ليس على الإتيان بالمحتملات وامتثال التكاليف على سبيل الاحتمال ليبطل بذلك الاحتياط من أصله كلا وبعضا ، فان قيام الإجماع على ذلك لا يمكن إلا بجعل طريق شرعي محرز للتكاليف ليتمكن المكلف ببركته على امتثال التكاليف بعنوانها الخاص.

ثانيهما : قيام الإجماع على اعتبار الأصول النافية في المشكوكات (1) فان قيام الإجماع على ذلك يكشف أيضا عن وجود حجة كافية في المسائل محرزة للتكاليف ، وتلك الحجة بحسب الدوران العقلي منحصرة في الظن ، إذ ليس في البين ما يصح جعله محرزا للواقع سواه. وعلى كل تقدير : تكون النتيجة الكشف ، ولا يبقى مجال للحكومة.

ولا يكاد ينقضي تعجبي من الشيخ قدس سره من البناء على الحكومة وجعل النتيجة هي حكم العقل بكفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة والخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، مع أن مفاد قوله قدس سره : « قلت مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ » ليس إلا الكشف وحجية الظن شرعا.

ومن ذلك يظهر : ما في الوجوه الثلاثة التي ذكرها لإبطال الكشف في التنبيه الثاني من تنبيهات دليل الانسداد - المتكفل لبيان كلية النتيجة أو إهمالها - قال قدس سره : « الحق في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني وأن التقرير على وجه الكشف فاسد ، أما أولا : فلأن المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع الظن - مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصة - حجة ، لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا الخ ».

وحاصل ما أفاده في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة يرجع إلى دعوى

ص: 272


1- أقول : هذا الإجماع باعتراف مدعيه ظني ، فكيف يكفي للكشف عن وجود الحجة؟.

إمكان اكتفاء الشارع بما هو طريقة العقلاء : من العمل بالظن في التكاليف الصادرة من الموالى العرفية مع القطع بعدم نصب المولى طريقا إليها ، ولا يجب عقلا على المولى نصب الطريق عند انسداد باب العلم بالتكاليف على العبد ، بل يصح له إحالة العبد إلى ما يستقل العقل به من العمل بالظن. نعم : يجب على المولى الرضاء بما يستقل به العقل ، وليس له مؤاخذة العبد على العمل بالطريق العقلي ، هذا.

ولا يخفى ما فيه ، فان الحكم العقلي إنما يقع في سلسلة الإطاعة ، والعقل يستقل أولا بالإطاعة العلمية تفصيلا مع الإمكان ، أو إجمالا بالاحتياط مع عدم الإمكان : أو مطلقا - على التفصيل المتقدم في باب العلم الإجمالي - فإذا تعذرت الإطاعة العلمية تفصيلا وإجمالا يستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية والخروج عن عهدة التكاليف ظنا (1) فلابد أولا من إبطال الإحتياط

ص: 273


1- أقول : مرجع حجية الظن في مقام الإثبات - كما هو مقصود القائل بالحكومة في باب الانسداد - ليس إلا منجزية. الظن للأحكام ، وهذا المعنى منوط بعدم وجود منجز آخر : من علم أو علمي تفصيلي أو إجمالي ، وإلا فلا ينتهى النوبة إلى منجزية الظن به ، وحينئذ الذي ينوط به حجية الظن هو عدم وجود مثبت آخر ، لا عدم لزوم تحصيل العلم في مقام الإسقاط والفراغ ، كيف! والقائل بحجية الظن من باب الحكومة همه تحصيل الجزم بالفراغ عما اشتغلت الذمة به بالعمل بظنه ، وحينئذ ليس معنى إناطة حجية الظن عقلا على بطلان الاحتياط بمعنى تحصيل الجزم بالفراغ بأي وجه ، بل منوط بعدم وجوب الاحتياط من قبل منجز آخر : من علم إجمالي أو ايجاب احتياط شرعي مثلا ، وعدم هذا الوجوب غير منوط بالإجماع المزبور بكلا تقريريه ، بل يكفي فيه منع منجزية العلم الإجمالي ومنع ايجاب الاحتياط الشرعي ، ويكفي في الأول نفس قيام الإجماع والضرورة على بطلان الخروج من الدين ولو فرض لم يكن في البين علم إجمالي ، إذ مثل هذا الإجماع التقديري يكفي في الجزم بوجود منجز آخر غير العلم الإجمالي وهو كاف في انحلاله ، كما أن منع الإيجاب الشرعي أيضا يكفي فيه أنه لو لم يكن من قبل الشارع جعل حكم شرعي طريقي العقل يحكم حكما بتيا بلزوم تعرض الأحكام ، ومع هذا الحكم العقلي لا يبقى مجال للكشف غير الجعل الشرعي ، لاحتمال ايكاله إلى حكم العقل ، وببقية المقدمات يثبت دائرة هذا الحكم في الظن ، فيحكم العقل بمثبتية الظن وحجيته حكومة لا كشفا. نعم: لو لم يحكم العقل بشي ء أصلا لا محيص عن كشف الجعل، و لو بمثل إيجاب الاحتياط شرعا، و لو في دائرة الظنون بضم بقية المقدمات، و لكن منع حكم العقل لو لا الجعل الشرعي خارج عن الإنصاف، كما أشرنا إليه سابقا، كما أنّ دعوى الإجماع المزبور بكل من تقريريه- المستلزم لعدم إمكان تحصيل الجزم بالفراغ بنحو آخر - أول شيء ينكر ، كما أشرنا كرارا. و بعبارة أخرى: لا وجه لبطلان الاحتياط- بمعنى لزوم تحصيل الجزم بالفراغ- مقدمة لحجية الظن كي يلازم مع الإجماع المزبور بأحد تقريريه، بل غاية ما هو مقدمة لحجية الظن هو بطلان الاحتياط من قبل منجز آخر: من علم إجمالي أو إيجاب احتياط شرعي، و لا أظنّ في معقد الإجماع في كلماتهم أزيد من ذلك، كما لا يخفى.

رأساً لتصل النوبة إلى الإطاعة الظنية (1) وإلا كان اللازم هو الاحتياط ولو في المظنونات إذا كان الاحتياط في المشكوكات والموهومات موجبا للعسر والحرج. والعمل بالمظنونات من باب التبعيض في الاحتياط غير الإطاعة الظنية ، إذ لا ملازمة بينهما - على ما سيأتي بيانه - فما لم يثبت بطلان الاحتياط كلا وبعضا في المقدمة الثالثة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة.

وقد عرفت : أن بطلان الاحتياط كلا وبعضا يتوقف على قيام الإجماع على أحد الوجهين السابقين : أحدهما قيامه على أن بناء الشريعة ليس على الإتيان بالتكاليف على سبيل الاحتمال. ثانيهما : قيامه على اعتبار الأصول النافية للتكليف في المشكوكات ليرجع إلى جعل حجة كافية في المسائل ، فإنه لولا قيام الإجماع بأحد الوجهين كان المتعين هو التبعيض في الاحتياط ، ومفاد هذا الإجماع - بكلا وجهيه - ليس هو إلا الكشف.

والحاصل : أن العمل بالمظنونات من باب الاحتياط ليس من الكشف والحكومة ، بل هو من التبعيض في الاحتياط ، فان الكشف معناه : حجية الظن شرعا وجعله مثبتا ومحرزا لمتعلقه لا مجرد العمل بالظن. والحكومة عبارة عن الامتثال الظني والظن بالخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به من التكاليف ، وهو قد يحصل من العمل بالمظنونات وقد لا يحصل.

ص: 274


1- أقول : إن الذي يحتاج إليه في حجية الظن إنما هو إبطال مثبت آخر للتكليف تفصيلا أو إجمالا الموجب للاحتياط كلا أو بعضا ، وإبطالها غير منوط بالإجماع المزبور ، كما أشرنا إليه.

وكون نتيجة مقدمات الانسداد الكشف أو الحكومة يتوقف على إبطال الاحتياط ولو في المظنونات ، وإبطاله إنما يكون بالإجماع بأحد وجهيه ، وكل من الوجهين لا ينتج إلا الكشف. فمن أين صارت النتيجة الحكومة؟ فما افاده في الوجه الأول - من الوجوه الثلاثة التي أقامها لإبطال الكشف - ضعيف غايته.

ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني ، وهو ما أفاده بقوله « وأما ثانيا : فلأنه إذ بنى على كشف المقدمات المذكورة عن جعل الظن على وجه الإهمال والإجمال صح المنع الذي أورده بعض المتعرضين لرد هذا الدليل ، وقد أشرنا إليه سابقا. وحاصله : أنه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظن أو الظن في الجملة المردد بين الكل والبعض المردد بين الأبعاض ، كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجة من دون اعتبار إفادته الظن ، لأنه أمر ممكن غير مستحيل ، والمفروض عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام ، فمن أين يثبت جعل الظن في الجملة دون شيء آخر؟ ».

وأنت خبير بما في هذا الوجه ، فان قيام الإجماع على أحد الوجهين المتقدمين يكشف عن أن الشارع قد جعل للعباد طريقا واصلا إليهم ليتمكنوا بسببه من الإتيان بالتكاليف بعناوينها الخاصة من الوجوب والحرمة (1) فان الطريق الغير الواصل لا يزيد حكمه عن أصل التكليف الذي انسد باب العلم

ص: 275


1- أقول : لو تم الإجماع المزبور كان لما أفيد وجه ، وإنما الكلام في هذا الإجماع ، إذ غاية الأمر قيام الإجماع على بطلان الاحتياط الكلي ، وهذا لا يقتضي شيئا ، ولذا لا يفيد ذلك لإثبات حجية الظن ، بل المفيد له عدم منجزية العلم رأسا ، فتصل النوبة إما إلى حكم العقل أو الجعل الشرعي ، بعد الإجماع على بطلان الخروج عن الدين ، فعلى الأول : : لا يبقى مجال للكشف عن أمر شرعي ، لاحتمال ايكال الشرع إلى العقل ، وإليه النظر في الجواب الأول. وعلى الثاني : لابد وأن تكون النتيجة مهملة قابلة لجعل طريق غير الظن ، وعدم قابلية غير الظن لتتميم الكشف والطريق كلام ظاهري ، إذ كل محتمل قابل لتتميم كشفه الناقص ، كالظنون النوعية وغيرها ، وإلى هذا يرجع الجواب الثاني.

به ؛ والطريق الواصل ليس إلا الظن ، فان ما عداه يكون باب العلم به منسدا ، مع أنه لابد في الطريق المجعول من أن يكون له جهة كشف وإرائة عن الواقع ليمكن تتميم كشفه بجعله ونصبه طريقا ، وبحسب الدوران العقلي ينحصر ذلك بالعلم والظن ، والمفروض انسداد باب الأول ، فلم يبق إلى الثاني ، فلا مجال لاحتمال نصب غير الظن طريقا.

ومن ذلك يظهر ضعف ما أفاده في الوجه الثالث لإبطال الكشف بقوله : « وأما ثالثا : فلأنه لو صح كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها ، وإن عينت ، فإما أن تعين في ضمن كل الأسباب وإما أن تعين في ضمن بعضها المعين ، وسيجيء عدم تمامية شيء من هذين الوجهين إلا بضميمة الإجماع ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى الإجماع على حجية مطلق الظن بعد الانسداد ، فتسميته دليلا عقليا لا يظهر له وجه عدا كون الملازمة بين تلك المقدمات الشرعية ونتيجتها عقلية ، وهذا جار في جميع الأدلة السمعية ، كما لا يخفى » انتهى.

قلت : الوجه في تسميته بالدليل العقلي ، هو أن الكاشف عن جعل الشارع الظن حجة إنما هو العقل ، فان الإجماع بوجهيه لا يفيد أزيد من أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى التكاليف ، وأما كون المنصوب الشرعي خصوص الظن فليس هو مفاد الإجماع ، بل تعيين ذلك إنما يكون بحسب الدوران العقلي ، من جهة أنه لا أقرب من الظن في الإصابة والايصال بعد العلم.

وبالجملة : مجرد كون بعض مبادئ الدليل شرعيا لا يوجب خروج الدليل عن كونه عقليا بعد ما كان الحاكم بالنتيجة هو العقل ، مع أن مجرد عدم صحة تسمية الدليل بالدليل العقلي لا يقتضي البناء على الحكومة بعد ما كانت نتيجة مقدمات الدليل الكشف.

فالإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس سره البناء على

ص: 276

الحكومة (1) خصوصا بعد قوله - في الجواب عن الإشكال المتقدم - قلت : مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ.

فالتحقيق : أن القول بالحكومة مما لا أساس له ولا ينبغي المصير إليه (2) لما فيه :

أولا : أن الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة لا يمكن إلا بعد قيام الإجماع على أن الشارع لا يريد من المكلف فعل متعلقات التكاليف على سبيل الاحتمال ، فان هذا الإجماع هو الذي يوجب الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة ، إذ لولاه كان اللازم التبعيض في الاحتياط إذا لم يمكن في الكل لعسر ونحوه ، فلابد في بطلان التبعيض في الاحتياط من قيام الإجماع على ذلك ، ولازم قيام الإجماع على ذلك هو أن الشارع جعل للعباد طريقا محرزا للواقع يتوصلون به إلى التكاليف الواقعية ليتمكنوا من امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص ، وليس في البين طريق محرز إلا الظن ، فتكون النتيجة حجية الظن شرعا.

وثانيا : أن الحكومة بمعنى الامتثال الظني مما لا مسرح لها في المقام (3)

ص: 277


1- أقول : لو تأملت فيما قلنا ، لا مجال لك في دعوى الكشف إلا بناء على ابطال طرق اخر مثبت للتكليف بالتقريب السابق ، ومثل هذا البيان هو المأمول من « شيخنا الأعظم » لا مثل ما أفيد المبنى على دعوى الإجماع على معنى لم يخطر ببال أحد من أهل الانسداد ، فتدبر في أطراف ما ذكرنا وكن من الشاكرين.
2- أقول : لو انتهى الأمر إلى مثبتية الظن المبنى على إبطال مثبت آخر من التفصيلي والإجمالي لا محيص إلا من الحكومة بلا مجال للكشف أصلا ، خصوصا لو كان الغرض كشف حجية الظن بمعنى الوسطية ، فان دون إثباته خرط القتاد ، كما أشرنا إليه كرارا.
3- 3 - أقول : مرجع حكومة العقل بحجية الظن بعد ما كان بمعنى مثبتيته للتكليف ، فالقائل بالحكومة يقول بالتنزل في عالم الإثبات من العلم مطلقا إلى الظن ، ففي الحقيقة يلتزم بالمراتب ويتنزل من مرتبة إلى مرتبة في عالم الإثبات لا في مقام الإطاعة والإسقاط ، وحينئذ أمكن له أن يدعى أن المقدمات من انسداد باب العلم والعلمي وعدم منجزية العلم الإجمالي بالإجماع التقديري الحاصل من بطلان الخروج من الدين إلى وجوب مثبت آخر غير العلم الإجمالي الموجب لانحلاله ، وحكم العقل بمنجزية شيء لولا جعل شرعي بمقتضى المقدمة الرابعة بأن ما هو الأقرب إلى الواقع هو المنجز ، ولازمه انحصار الحجية بالظن ولولا يظن بانحصار التكليف في المظنون ، إذ ليس هم العقل حينئذ تحصيل الظن بالفراغ ، كي يحتاج إلى حصر التكليف في دائرة الظنون ، بل تمام همه حصر مثبت التكليف بالظنون ويرجع في غيره إلى البراءة ، ويكفي في إثبات هذا المقدار حكم العقل بالأخذ بمقدار خروجه عن محذور الخروج من الدين ، وبمقتضى المقدمة الرابعة يتعين في الظن بلا احتياج إلى ضم المشكوك.

فانّ الامتثال الظني عبارة عن الإتيان بالمحتملات بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ والخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به من التكاليف ، كما في باب قضاء الفوائت اليومية ، فإنه عند العلم بفوات جملة من الفرائض اليومية مع عدم العلم بعددها يجب على المكلف أولا تكرار قضاء الصلوات بمقدار يحصل معه العلم بالفراغ ، ولو تعذر ذلك عليه أو تعسر يجب عليه التكرار بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ ، وهذا المعنى من الامتثال الظني أجنبي عن وجوب العمل بالمظنونات في مقابل المشكوكات والموهومات كما هو المقصود في المقام ، فإنه - مضافا إلى أن الإتيان بالمظنون لا يكاد يحصل الامتثال الظني مع ترك الاحتياط في المشكوكات والاقتصار على فعل المظنونات فان المشكوكات مع المظنونات سيان في كونهما من أطراف العلم الإجمالي - مجرد تعلق الظن بالتكاليف في جملة من الوقايع المشتبهة لا يلازم الظن بانحصار التكاليف في المظنونات ليحصل الامتثال الظني بالعمل بالمظنونات ، فالامتثال الظني لا يحصل إلا بالاحتياط في المشكوكات أيضا ، ولو فرض قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات - كما هو المدعى - والاقتصار في الاحتياط بالعمل بالمظنونات ، فمعناه كفاية الامتثال الاحتمالي.

والحاصل : أن الامتثال الظني إنما يحصل بفعل ما يحصل معه الظن بالفراغ بتكرار العمل في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي مقدارا يوجب الظن بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال ، كما في تكرار الصلاة عند الجهل بالقبلة أو بعدد الفوائت ونحو ذلك ، فلو أريد حصول الامتثال الظني في المقام فلابد من الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ، وإلا لا يكاد يحصل

ص: 278

الإمتثال الظني ، والمفروض عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فكيف صارت النتيجة الحكومة؟.

وثالثاً : المقصود من ترتيب مقدمات دليل الانسداد إنما هو لاستنتاج حجية الظن المطلق على وجه يصلح لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات وغير ذلك مما يكون من لوازم الحجة (1) وهذه الآثار إنما تترتب على الكشف ، لأن الظن يكون حينئذ حجة محرزا للواقع كالعلم. وأما الظن بمعنى الحكومة : فهو بمعزل عن هذه الآثار ، لأنه ليس محرزا للواقع حتى يصلح للتقييد والتخصيص ، وإنما يستقل العقل به في مقام الطاعة والامتثال عند تعذر الامتثال العلمي.

وما في بعض الكلمات : من أن الظن بناء على الحكومة يكون حجة عقلية ، فهو بمكان من الفساد ، فان الحكومة عبارة عن الامتثال الظني ، وأين هذا من كونه حجية محرزا يقع وسطا لإثبات متعلقه؟ وليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، وليست وظيفة العقل إلا الحكم بكفاية الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي.

فتحصّل : أنه لا محيص عن القول بالكشف إن تم الإجماع المتقدم بأحد وجهيه (2) وإلا فلابد من التبعيض في الاحتياط ، فتأمل في أطراف ما

ص: 279


1- أقول : قد تقدم الجواب على هذه الشبهة ، فراجع.
2- أقول : لو تأملت في ما ذكرنا ، ترى بأنه لا محيص لك بناء على انتهاء النوبة إلى مثبتية الظن في حال الانسداد من الالتزام بحكومة العقل ، حيث لا طريق لك إلى الكشف إلا دعوى الإجماع المزبور الذي لم يلتزم به أحد من أرباب الانسداد القائلين بالحكومة - كما هو الغالب - خصوصا تقريبه الثاني الذي هو لدى مدعيه ظني لا قطعي. نعم لنا شبهة على مسلك المشهور المعينين المرجعية بالظن من جهة المقدمة الرابعة، وملخصه : أن هذا التعيين بحكم العقل إن كان بحكم تنجيزى، فيشكل إخراج الظن القياسي، خصوصاً إذا فرض في مورد أقوى من غيره. وتوهم : أنّ الظن القياسي لكثرة مخالفته للواقع خارج عن محط حكم العقل بمناط الأقربية، خلاف الوجدان؛ وفي ظرف أقربيته عن غيره يرى العقل شخص هذا الفرد من الظن من الأفراد النادرة ويرى فيه الملاك من الأقربية. وإن كان حكم العقل بتعيين الأقرب بمقتضى المقدمة الرابعة حكما تعليقيا ، فخروج الظن القياسي لا إشكال فيه ، ولكن يرد عليه : بأن مقتضى إطلاق دليل الترخيص في ترك الاحتياط الكلي - مثل عمومات الحرج والاضطرار مثلا - جواز ترك العمل بكل واحد من المحتملات عن بدل ، من دون فرق بين الظن وغيره ، وهذا الإطلاق يكفي لمنع حكم العقل بتعين الظن بمقتضى المقدمة الرابعة ، لفرض تعليقية حكمه ، وحينئذ من أين يتعين العمل بالظن بواسطة المقدمة الرابعة؟. نعم : لو لم يكن في البين إطلاق مثل ما تقدم وكان الحكم بالتخيير عند التساوي من جهة حكم العقل بالترجيح بلا مرجح لا من جهة إطلاق في دليل كان للاتكال إلى المقدمة الرابعة في تعيين الظن مجال ، ولكن مع وجود إطلاقات أدلة الحرج والاضطرار لا يبقى مجال لهذا الكلام ، وحينئذ فلو سلمنا ما ادعى من الإجماع المزبور من المقرر لا يكاد وصول النوبة إلى مرجعية الظن. ولذا كان لنا مسلك آخر في تعيين مرجعية الظن ، بحيث لا يحتاج إلى المقدمة الرابعة ، وهو أن مدرك بطلان الخروج من الدين - ولو لم يكن علم إجمالي في البين - حكم العقل بوجوب الأخذ باحتمال تكليف نقطع على فرض وجوده اهتمام الشارع به بنحو لا يرضى بتركه في ظرف الجهل ، وأن مثل هذا الشك خارج عن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ حينئذ لنا أن ندعي أن مراتب الاهتمام بعد ما كانت مختلفة فالمتيقن من الاهتمام المحرز هو الاهتمام بحفظ الواقع في ضمن المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، فهي على الشك في أصل الاهتمام بحفظها باقية ، ولذلك يختص حكم العقل بمناط الاهتمام بحفظه بالمظنونات ، وبذلك يبطل الاحتياط الكلي ويتعين مرجعية الظن بلا احتياج إلى المقدمة الرابعة ، فتدبر في مسلكنا هذا وتتميم الانسداد ومرجعية الظن بالحكومة العقلية بهذا البيان ، لا بنحو المشهور من الاحتياج إلى المقدمة الرابعة. وعلى مسلكنا أيضا لا يبقى مجال الإشكال ، لخروج الظن القياسي ولا الظن الممنوع ، فتدبر.

ذكرناه جيدا واغتنمه ، فإنه مما لم يسبق إليه أحد (1) هذا تمام الكلام في أصل ترتيب مقدمات الانسداد.

بقى التنبيه على أمور
الأمر الأول :

اختلفت الأقوال في النتيجة التي يقتضيها دليل الانسداد.

فقيل : إن مقدمات دليل الانسداد إنما تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الأصولية ، وهي « كون الشيء طريقا » ذهب إليه صاحب الفصول

ص: 280


1- أقول : الذي لم يسبق إليه أحد هو دعوى الإجماع المزبور ، وإلا فما أتيت بشيء جديد!

تبعاً لأخيه المحقق صاحب الحاشية.

وقيل : إن مقدمات دليل الانسداد تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الفقهية ، وهي « كون الشيء واجبا أو حراما » ذهب إليه غير واحد من المشايخ.

وقيل : إن المقدمات تقتضي عموم النتيجة واعتبار الظن في كل من الطريق والحكم الفرعي. وهو الأقوى.

وقد استدل للقول الأول بوجهين :

أحدهما : ما ذكره « صاحب الفصول » مقتصرا عليه ، تبعا للمحقق أخيه ، قال ما لفظه « إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره ، وكذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى الطرق المخصوصة ، وحيث لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا طريق نقطع من السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك ولو بعد تعذره ، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن العقلي الذي لا دليل على عدم حجيته ، لأنه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع مما عداه » انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ولعل الذي دعاه إلى اختيار اعتبار خصوص الظن بالطريق ، هو ما زعمه : من أن الوجوه التي استدل بها على حجية الخبر الواحد لو لم تفد القطع بحجيته بالخصوص فلا أقل من كونها تفيد الظن بها ، فيكون الخبر الواحد مما ظن اعتباره طريقا ، ومع تعذر العلم بكون الشيء طريقا يتنزل إلى الظن بكونه طريقا ، لأنه أقرب إلى العلم.

ص: 281

والذي يرشد إلى ما ذكرناه : من أن الذي دعاه إلى القول باعتبار خصوص الظن بالطريق ذلك ، هو أنه قد جعل دليل الانسداد من جملة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد.

قال قدس سره في ذيل كلامه المتقدم : « ولا ريب أن الخبر الواحد إن لم يكن من الطرق القطعية فهو من الطرق الظنية ، للوجوه التي ذكرناها ، فيجب العمل به ، وهو المطلوب » انتهى.

والظاهر : أن يكون مراده من « الطرق » في قوله : « كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة » هي الطرق العقلائية التي قد أمضاها الشارع ولم يردع عنها. وليس غرضه من الجعل الشرعي تأسيس الشارع طرقا مخصوصة مخترعة من قبله ليس لها عند العقلاء عين ولا أثر ، فان ذلك بعيد غايته لا ينبغي دعواه.

كما أن الظاهر أن يكون مراده من قوله : « ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى الطرق المخصوصة » هو انحلال العلم الإجمالي المتعلق بالأحكام الشرعية إلى العلم التفصيلي بما تضمنته تلك الطرق والشك البدوي بما عداها إذا كانت مؤديات الطرق بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام - كما هو المفروض - لأن الطرق المنصوبة إلى الأحكام لابد وأن تكون وافية بها. وليس غرضه تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤديات الطرق أو صرفها إليها ، فان ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق ب « صاحب الفصول » الالتزام به ، فلابد وأن يكون مراده من التكليف بالعمل بمؤدى الطرق هو العمل بالأحكام الواقعية التي تؤدى إليها الطرق بحسب دليل الحجية وجعلها محرزة لها ، فيرجع حاصل كلامه بعد توجيهه - وإن كانت خلاف ظاهره - إلى أنا وإن علمنا بثبوت الأحكام الواقعية الفعلية ، إلا أنه علمنا أيضا بنصب طرق مخصوصة - تأسيسية كانت أو إمضائية - وافية بالمعلوم بالإجمال من الأحكام ، فالواجب علينا امتثال

ص: 282

تلك الأحكام بتلك الطرق ، لانحلال العلم الإجمالي ببركتها ، وإذا لم يكن لنا تحصيل العلم بالطرق المنصوبة ، فلابد من التنزل إلى الظن بها ، لأنه أقرب إلى العلم.

ولا يخفى : أنه على ما وجهنا به كلامه يندفع غالب ما أورد عليه الشيخ قدس سره بقوله : « وفيه أولا : إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية وافية بها ، وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار الخ ».

وأنت خبير بأن ذلك إنما يرد عليه لو كان مراده من « الطرق المنصوبة » طرقا مخترعة أسسها الشارع من دون أن يكون لها عند العرف والعقلاء عين ولا أثر ، فإنها هي التي تتوفر الدواعي إلى نقلها وكانت من الوضوح كالشمس في رابعة النهار ، كما أفاده قدس سره ولكن دعوى « صاحب الفصول » لا تتوقف على ذلك ، بل يكفي في صحة دعواه إمضاء ما بيد العرف والعقلاء من الطرق مع انسداد باب العلم بها ، بمعنى أنه يعلم إجمالا إمضاء بعض الطرق العقلائية الوافي بالأحكام الشرعية ، وقد خفى علينا ما أمضاه وانسد باب العلم به ، بل قد تقدم سابقا : انه لا يحتاج إلى الإمضاء ويكفي عدم الردع عما بيد العقلاء من الطرق (1) ودعوى ذلك قريبة جدا لا سبيل إلى المنع عنها.

ص: 283


1- أقول : تخصيص الإمضاء أو عدم الردع ببعض دون بعض ليس بأقل من جعل شيء مستقل في توفر الدواعي على نقله ، وحينئذ لو اكتفينا في الحجية لدى الشارع بصرف عدم الردع يلزم مع عدم ثبوت التخصيص حجية جميع الطرق العقلائية ، إذ حينئذ يصدق عدم ردع الشرع عنها ، وإنما يصحح الردع عن بعضها بثبوت تخصيص ردعه ببعض دون بعض ، ودون إثباته خرط القتاد! وعليه فإثبات جعل الطريق في بعض الطرق العقلائية دون بعض مع عدم ثبوت تخصيص ردعه بالبعض دونه خرط القتاد! إذ ما لم يصل الردع عن البعض يكفي ذلك في إمضائه ، كما لا يخفى ، وحينئذ كيف يمكن حمل كلام « الفصول » على صورة عدم ردعه عن الطريق العقلائية في دعواه العلم بجعل طرق مخصوصة ، إذ ذلك مبنى على العلم بردعه عن بعض دون بعض ، ولو كان ذلك لبان واشتهر لدى الأعيان ، ولا أظن دعواه العلم بردع الشارع عن بعض دون بعض ، كما هو ظاهر ، وحينئذ ليس نظره في جعل الطرق وعلمه به إلى إمضائه بمقدمات عدم الردع ولو لعدم تمامية هذه المقدمات لديه ، فتدبر.

نعم : لو كان مراده ما هو ظاهر كلامه : من اختراع الشارع وتأسيسه طرقا مخصوصة ، كان للمنع عن ذلك مجال واسع ، بل كان ينبغي القطع بعدمه ، لأن عدم نقلها كاشف قطعي على العدم.

إلا أن الإنصاف : أن كلام « صاحب الفصول » ليس بمثابة لا يمكن حمله على ما ذكرنا ، فلا يرد عليه ما ذكره قدس سره بقوله : « وفيه أولا ».

وكذا لا يرد عليه ما ذكره بقوله : « وثانيا : سلمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ، بيان ذلك : أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل ، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق الخ » فان المدعى هو أن الشارع قد نصب طريقا وافيا بالأحكام على وجه يوجب انحلال العلم الإجمالي بها ، والخبر المفيد للاطمئنان ليس بتلك المثابة من الكثرة بحيث يفي بالأحكام الشرعية حتى في الزمان السابق التي كانت قرائن الصدق فيه كثيرة ، فان كثرة قرائن الصدق لا تقتضي كثرة الخبر الذي عليه قرائن الصدق على وجه يوجب الاطمئنان بحيث يفي بالأحكام المعلومة بالإجمال لينحل به العلم الإجمالي ، فلا بد من أن يكون الطريق المنصوب غير الخبر المفيد للاطمئنان وقد انسد باب العلم به علينا.

ومن ذلك يظهر : ما في قوله : « وثالثا : سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية : من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولوية الظنية ، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه ، فان وفي بغالب الأحكام اقتصر عليه وإلا فالمتيقن من الباقي الخ » إذ فيه : أن ما هو المتيقن في النصب من هذه الطرق هو ما ذكره بقوله : « وثانيا » وهو الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد عرفت : أنه قليل لا يفي بالأحكام الشرعية ، والطرق الاخر ليس فيها ما هو متيقن الاعتبار ، بل احتمال النصب في كل واحد منها على حد سواء. ودعوى : أن مطلق الخبر أو الإجماع

ص: 284

المنقول متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره - مما لا شاهد عليها ، إذ لا مزية له على سائر الطرق الظنية ، فيتردد الطريق المنصوب بينها ، ولابد حينئذ من التنزل إلى تعيينه بالظن.

وأمّا ما أفاده بقوله : « ورابعا : سلمنا عدم وجود القدر المتيقن ، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط ، فإنه مقدم على العمل بالظن الخ » ففيه : أن الاحتياط في الطرق - مع أنه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام - يرجع إلى الاحتياط في الأحكام ، فان الاحتياط بالطريق إنما يكون باعتبار المؤدى والطرق إنما تؤدى إلى الأحكام ، فالاحتياط فيها يلازم الاحتياط في الأحكام ، بل هو هو ، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه. وهذا بخلاف الظن بطريقية الطريق ، فإنه لا يلازم الظن بالحكم حتى يتوهم : أن اعتبار الظن بالطريق يرجع إلى اعتبار الظن بالحكم.

فالإنصاف : أن هذه الوجوه الأربعة قابلة للدفع عن « صاحب الفصول ».

نعم : يرد عليه ما أفاده بقوله : « وخامسا : سلمنا العلم الإجمالي بوجود الطرق المجعولة وعدم المتيقن وعدم وجوب الاحتياط ، لكن نقول : إن ذلك لا يوجب تعين العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوز له ، كما يجوز العمل بالظن في المسألة الفرعية الخ ».

وتوضيح ذلك : هو أنه قد تقدم في الدليل العقلي الذي أقيم على حجية الخبر الواحد أن مجرد العلم الإجمالي بنصب طريق لا يقتضي انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الشرعية الواقعية ، فإنه لا يترتب عيه آثار الحجية : من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، فان هذه الآثار إنما ترتب على الطريق الواصل إلى المكلف تفصيلا لتجري فيه الأصول اللفظية والجهتية ، بداهة أن الطريق ما لم يكن محرزا لدى المكلف وواصلا إليه موضوعا وحكما لا يجرى فيه الأصل اللفظي : من أصالة إرادة الظهور والأصل الجهتي : من أصالة

ص: 285

كون صدوره لبيان حكم اللّه الواقعي لا لتقية ونحوها ، فان هذه الأصول تتوقف على العلم بكون الشيء طريقا والعلم بالمؤدى والظهور ، وإلا لم يكن موضوعا لها.

وانحلال العلم الإجمالي بالأحكام إنما يكون من لوازم جريان الأصول ، وإلا كان العلم الإجمالي بها بحاله (1) فإنه لم يعلم بالطريق المنصوب موضوعا ولا بمؤداه حتى يكون العلم بما يؤدى إليه من الأحكام موجبا لانحلال العلم الإجمالي بها إذا كان ما أدى إليه بقدر المعلوم بالإجمال منها.

فالعلم الإجمالي بنصب الشارع طريقا إلى الأحكام لا أثر له ولا يكون العباد مكلفين بالعمل به ما لم يصل إليهم تفصيلا ، والمفروض عدم وصوله إليهم كذلك ، فيبقى العلم الإجمالي بالأحكام على حاله ، وهو يقتضي الخروج عن عهدتها ، إما علما مع الإمكان ، وإما ظنا مع عدمه.

نعم : العمل بمؤدى ما يظن كونه طريقا يجزى أيضا ، لعدم التفاوت بين العمل بالظن بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدى الطريق المظنون فيما هو المهم في نظر العقل : من حصول الظن بالمؤمن عن تبعة التكاليف والخروج عن عهدتها عند انسداد باب العلم بها ، فلا وجه لتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق بعد اشتراكه مع الظن بالواقع في الأثر.

هذا كله ، مضافا إلى أن ما ذكره من الدليل لا يقتضي اعتبار خصوص الظن بطريق خاص ، فان ما أفاده من الوجه - على فرض صحته وسلامته عما تقدم - لا يثبت أزيد من وجوب امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال من طرقها المقررة لها شرعا ، وذلك يقتضي كفاية الظن بأنّ الحكم

ص: 286


1- أقول : الذي مسلم واعترفنا به أيضا سابقا هو صورة عدم الجزم بظهور ما هو الصادر إجمالا بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلا فلو علم بظهور ما هو الصادر المعلوم إجمالا بمقدار المعلوم بالإجمال ، فلا قصور في حجية مثل هذا الخبر الظاهر من بين الأخبار ، وكذلك لا قصور في سببية هذا المقدار لانحلال العلم الكبير ، كما لا يخفى.

الكذائي مؤدى طريق معتبر وإن لم يحصل الظن بطريقية طريق خاص ، فلو حصل للمكلف الظن بان وجوب صلاة الجمعة مؤدى طريق معتبر كان حكمه حكم الظن بطريقية طريق خاص. والظن بالأحكام غالبا يلازم الظن بأنها مؤدى طريق معتبر ، خصوصا إذا كانت الأحكام المظنونة مما تعم بها البلوى ، فان الظن بها لا ينفك عن الظن بأنها مؤدى طريق معتبر وإن لم يتشخص ذلك الطريق لدى المكلف.

فالإنصاف : أن الوجه الأول - الذي اقتصر عليه « صاحب الفصول » لإثبات كون نتيجة دليل الانسداد اعتبار خصوص الظن بالطريق لا بالواقع - مما لا يرجع إلى محصل ولا يثبت دعواه.

الوجه الثاني : ما أفاده « المحقق صاحب الحاشية » مضافا إلى الوجه الأول ، وحاصله يتألف من مقدمات :

الأولى : ان الواجب علينا أولا - بعد العلم بأننا مكلفون بالأحكام الشرعية ولم تسقط عنا - هو العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف أو الشارع (1)

ص: 287


1- أقول : بعد ما كان اشتغال الذمة اليقينية يقتضي الفراغ اليقيني يرجع ذلك إلى حكم العقل المستتبع لحكم الشرع إرشادا بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ الوجداني أو اليقيني تنزيلا ، الذي هو عبارة عن حجية شيء على الواقع الملازم لليقين التنزيلي بالفراغ في عرض اليقين الوجداني به ، وحينئذ نقول : إن الظن بصرف أداء الواقع وإن كان ملازما للظن بالفراغ واقعا ، ولكن لا يلازم للظن بالفراغ عن يقين وجداني أو تعبدي تنزيلي ، بخلاف ما لو ظن بحجيته شرعا ، فإنه يلازم الظن بالفراغ اليقيني التنزيلي ولو لم يكن ملازما للفراغ المتيقن وجدانا ، وعمدة النكتة فيه : هو أن حجيته شرعا المساوق للفراغ اليقيني التنزيلي إنما هو في عرض اليقين بالفراغ وجدانا ، ولازمه كون الظن بها ظنا بالفراغ اليقيني الذي هو في عرض اليقين بالفراغ الواقعي ، وحينئذ إذا كان هم العقل عند الاشتغال بشيء تحصيل اليقين بالفراغ أو اليقيني منه - الذي هما في طول الفراغ الواقعي - فمع عدم التمكن يتنزل إلى تحصيل الظن بالفراغ اليقيني ، وهو ينحصر بالظن بحجية شيء لا بصرف الظن بأداء الواقع ، وحينئذ لو أراد « المحقق » هذا المعنى لا يرد عليه ما أورد ، كما إنه لا يحتاج في إثبات مدعاه إلى دعوى العلم الإجمالي بجعل طريق أصلا ، كما لا يخفى ، فتدبر فيه وفي دفع ذلك البيان بالبيان الآتي ( إن شاء اللّه تعالى ) لا بمثل هذه البيانات.

سواء حصل معه العلم بأداء الواقع أو لم يحصل ، بل المناط هو حصول اليقين بأن الشارع قد حكم بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به.

الثانية : ان الشارع قد جعل لنا طرقا خاصة (1) وحكم بأن سلوكها يوجب فراغ الذمة والخروج عن عهدة التكاليف ، سواء أصابت الواقع أو لم تصب ، بل تكون تلك الطرق التي عينها الشارع في عرض الواقع (2) فكما أن العلم بأداء الواقع يوجب فراغ الذمة والخروج عن عهدته ، كذلك سلوك الطرق المنصوبة شرعا يوجب ذلك : فمع التمكن وانفتاح باب العلم يجزى العمل بما علم أنه الواقع والعمل بما علم أنه مؤدى الطريق الخاص ، لأنه في كل منهما يعلم بفراغ الذمة في حكم الشارع.

الثالثة : أنه قد انسد علينا باب العلم بفراغ الذمة في حكم الشارع ، فلابد من تحصيل الظن بالفراغ كذلك ، والظن بالفراغ في حكم الشارع لا يحصل بمجرد الظن بأداء الواقع ، فان الظن بأداء الواقع لا يلازم الظن بأن الشارع قد اكتفى عن الواقع وحكم بفراغ الذمة عنه بما ظن أنه الواقع ، فتحصيل الظن بالفراغ في حكم الشارع ينحصر بالعمل بمؤدى ما يظن أن الشارع جعله طريقا إلى أحكامه ، لأن العمل بما يظن كونه طريقا يلازم الظن بالفراغ في حكم الشارع.

هذا حاصل ما أفاده في وجه اعتبار خصوص الظن بالطريق ، وقد أطال الكلام والنقض والإبرام فيه ، والمتحصل من كلامه هو ما ذكرناه.

وأنت خبير بأن المقدمات التي اعتمد عليها في بيان مختاره ممنوعة أشدّ المنع.

ص: 288


1- أقول : مختار « المحقق » لا يحتاج إلى دعوى العلم بجعل الطرق ، كما أشرنا إليه.
2- أقول : بل هي في عرض العلم بالواقع ، وإلا فبالنسبة إلى الفراغ الواقعي كان في طوله ، كما لا يخفى.

أمّا المقدمة الأولى : فقوله : « الواجب علينا أولا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف » مما لا محصل له (1) فان باب الامتثال وفراغ الذمة ليس مما يقبل الجعل الشرعي والحكم بأنه حصل الامتثال وفرغت الذمة أو لم يحصل ولم تفرغ الذمة ، فان حصول الامتثال وفراغ الذمة يدور مدار فعل متعلقات الأوامر وترك متعلقات النواهي ، وهذا أمر واقعي غير قابل للجعل الشرعي ، وأي معنى لحكم الشارع بأنه فرغت ذمتك أيها المكلف من التكاليف؟ فدعوى : أن اللازم على المكلف تحصيل العلم بأن الشارع قد حكم بفراغ ذمته من التكاليف غريبة (2).

وأغرب من ذلك أنه جعل المناط في الامتثال ذلك مطلقا حتى مع العلم بأداء الوقع - كما يقتضيه ظاهر كلامه - مع أنه لقائل أن يقول : إنه في صورة العلم بأداء الواقع ، هل يكون حكم من الشارع بفراغ الذمة؟ وهل يحتاج المكلف إلى تحصيل العلم بحكمه ذلك بعد العلم بفعل متعلق التكليف الواقعي؟ وأي أثر يترتب على حكمه بذلك مع أن إجزاء المأتى به عن الأمور الواقعي قهري لا يمكن أن يكون حكم شرعي في مورده؟.

وبالجملة : لم يظهر لنا معنى محصلا (3) لقوله : « إن الواجب علينا هو العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف » ولو مع انسداد باب العلم وعدم التمكن من تحصيل العلم بأداء الواقع ، فضلا عن صورة انفتاح باب العلم والتمكن من

ص: 289


1- أقول : هذا الإشكال مبنى على كون مراده من حكم الشارع حكما مولويا ، وإلا فلو كان إرشاديا فلا يرد عليه الإشكال.
2- أقول : ذلك صحيح لو كان المراد الفراغ الواقعي ، وإلا فلو كان مورد إلزام العقل الفراغ اليقيني المستتبع لحكم الشرع به إرشادا أيضا ، فلا محيص عند التنزل إلى الظن من تحصيل الظن بالفراغ المتيقن أو بحكم المتيقن ، وحيث لم يكن الأول فلا محيص من تحصيل الثاني ، وهو منحصر بالظن بالحجية ، لا الظن بأداء الواقع.
3- أقول : لو تأملت فيما ذكرنا في الحاشية ، ترى كونه معنا وجيها وقابلا لأخذ النتيجة منه.

أداء الواقع ، إلا أن نقول : إن العلم مما تناله يد الجعل الشرعي وأن وادى الفراغ والامتثال مما يقبل الحكم المولوي ، فتصح دعوى أنه مع العلم بأداء الواقع للشارع الحكم بفراغ الذمة.

وأمّا المقدمة الثانية : فجعل الطريق في عرض الواقع وأن المكلف مخير بين تحصيل العلم بأداء الواقع وبين العمل بالطريق واضح الفساد ، فان الطريق ليس أمرا مغايرا للواقع وفي عرضه ، بل ليس مفاد جعل الطريق سوى كون مؤداه هو الواقع بالجعل والتعبد الشرعي ، فان معنى كون الشيء طريقا هو أن ما يحكى عنه هو الواقع ، كما تقدم بيان ذلك بما لا مزيد عليه في أول مبحث الظن.

ولقد أجاد الشيخ قدس سره في المقام من قوله : « إن تفريغ الذمة عما اشتغلت به ، إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية (1)

ص: 290


1- أقول : لو كان هم العقل في ظرف الاشتغال تحصيل اليقين بالفراغ وجدانا أو تنزيلا المساوق لتحصيل الحجة على الفراغ بحيث كان تحصيل الحجة على الفراغ في عرض تحصيل اليقين بالفراغ الواقعي لا في عرض نفس الفراغ الواقعي لأن تتميم كشفه وتنزيل يقينه في عرض اليقين بالواقع لا في عرض الواقع ، فمع التمكن من تحصيل اليقين أو اليقيني يتعين ذلك ، ومع عدم التمكن ينتهى النوبة إلى تحصيل الظن بالفراغ اليقيني الذي هو في عرض اليقين بالفراغ ، وذلك منحصر بالظن بحجية شيء ، ولا يكاد أن يتحقق بالظن بأداء الواقع محضا بلا ظن حجيته ، وعمدة النكتة في ذلك : هو أن الفراغ اليقيني ينتزع من تنزيل اليقين وتتميم الكشف المساوق لحجية شيء ، وهو في عرض العلم بالواقع ، وكلاهما في طول الفراغ الواقعي ، كما أشرنا إليه. و ما قيل: بأن مفاد دليل الحجية إثبات الهوهوية - فهو مع أنه يناسب لكون المفاد تنزيل المؤدى لا تنزيل اليقين به نقول : إنه بالنسبة إلى أداء الواقع لا يضر بالطولية المزبورة، لأن هذه الهوهوية هوهوية تنزيلية ثابتة في ظرف الجهل بالواقع، لا فى ظرف نفس الواقع ؛ ولذا كانت حكومتها على الواقع حكومة ظاهرية، ولازمه ثبوت اليقينية التنزيلية في ظرف الجهل به . نعم: ما افيد من نفى العرضية مع الواقع متين، لكن لا بهذا البيان، كما لا يخفى. وحينئذ لا مجال لورود هذه البيانات على المحقق المزبور، بل التحقيق في جوابه أن يقال: إن التنزل إلى الظن بالفراغ ليس من باب صرف كونه ظناً به يكتفى العقل به في ظرف الإشتغال، بل إنما هو من جهة حجية هذا الظن بمقدمات الانسداد ، كي بالأخرة ينتهى إلى القطع بالفراغ. ومعلوم : أن المقدمات المزبورة لو اقتضت حجية مثل هذا الظن ، يقتضي حجية الظن بالواقع أيضا ، إذ نتيجة المقدمات قيام الظن مقام العلم بشيء في ظرف انسداده ، فكما أن العلم بأداء الواقع الجعلي يجدى ، كذلك الظن بأداء الواقع الحقيقي ، إذ بكل واحد يحصل الفراغ اليقيني ، كيف! ولو لم ينتهى الأمر بالأخرة إلى الفراغ اليقيني ، فالظن بالحجية أيضا لا يجدى شيئا ، إذ لا يكتفى العقل بغير الفراغ اليقيني في أي مورد ، وحينئذ فمع لا بدية انتهاء النوبة إلى حجية هذا الظن مقدمة للفراغ اليقيني كذلك لو انتهى النوبة إلى حجية الظن بأداء الواقع تنتهي النوبة أيضا إلى الفراغ اليقيني ، وبعد فرض عدم العلم بجعل طريق لا يفرق مقدمات الانسداد لحجية أي واحد من الظنين ، كما لا يخفى ، فتدبر.

وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمة بهذا - على مذهب المخطئة - من حيث إنه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع ، لا من حيث إنه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين » انتهى.

فلا معنى لجعل الطرق في عرض الواقع والتخيير بينهما ، بل إجزاء العمل بالطرق إنما يكون باعتبار أن مؤداها هو الواقع بجعل الشارع والحكم بالهوهوية ، وعلى ذلك يبتني عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف مخالفة الطريق للواقع - كما عليه أصول المخطئة - فالتخيير بين العمل بالطريق وبين تحصيل العلم بالواقع في صورة انفتاح باب العلم ليس من باب التخيير بين فردي الواجب المخير - نظير خصال الكفارة - بل من باب اتحاد مفاد أحدهما للآخر بحسب الجعل الشرعي ، فقوله في طي كلامه « إن الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر وحكم معه بتفريغ ذمتنا بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها مما جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم بمطابقة الواقع أو ظن ذلك أو لم يحصل شيء منهما » مما لا يستقيم ولا يقتضيه مذهب المخطئة.

وأمّا المقدمة الثالثة : ففيها أن الظن بالواقع ملازم للظن بالفراغ في

ص: 291

حكم الشارع ، كما أن العلم بالواقع يلازم العلم بالفراغ في حكم الشارع (1) كما اعترف به ، فإنه لا يعقل الفرق بين العلم والظن من هذه الجهة ، لأن العلم والظن بأحد المتلازمين يلازم العلم والظن بالآخر ، فلا معنى للتفكيك بين العلم والظن في ذلك.

والحاصل : أنه كما لا فرق بين العلم بأداء الواقع وبين العمل بمؤدى الطريق الذي علم كونه طريقا في حصول العلم بالفراغ - على ما زعمه في مورد انفتاح باب العلم والتمكن من تحصيل اليقين بذلك - كذلك لا فرق بين الظن بالواقع والعمل بمؤدى الطريق الذي ظن كونه طريقا في حصول الظن بالفراغ ، ولا حاجة معه إلى حكم الشارع بالفراغ ، بل في صورة انسداد باب العلم يستقل العقل بحصول الامتثال.

وكأن منشأ تخيل المحقق ( صاحب المقالة ) في اختياره اعتبار خصوص الظن بالطريق عند عدم التمكن من تحصيل العلم بالواقع ، هو أن مجرد نصب الشارع طريقا إلى أحكامه يقتضي اشتغال الذمة بمؤدى الطريق ويكون مدار فراغ الذمة والخروج عن عهدة التكاليف عليه لا على الواقع (2) كما كان هذا منشأ تخيل « صاحب الفصول » فيما أفاده من الوجه المتقدم ، وقد عرفت : أن مجرد نصب الطريق ما لم يكن محرزا لدى المكلف وواصلا إليه لا أثر له ولا يحصل الامتثال والفراغ بمجرد مطابقة العمل لمؤداه من باب الاتفاق والمصادفة.

وبذلك يظهر : أن الطريق الغير الواصل أسوء حالا من الحكم الواقعي الغير الواصل ، فان مطابقة العمل للواقع من باب المصادفة والإتفاق

ص: 292


1- أقول : بعد ما كان مورد الزام العقل القطع بالفراغ أو القطعي منه ، فلا شبهة في أنه مع تحصيل القطع بالفراغ يقطع بحصول موضوع الإلزام ، بخلاف الظن بالفراغ الواقعي ، فإنه لا يحصل به موضوع الإلزام المزبور ، لا وجدانا ولا تنزيلا ، بخلاف الظن بحجية شيء ، فإنه ظن بموضوع الإلزام من الفراغ اليقيني التنزيلي.
2- أقول : قد أشرنا بأن مختار المحقق المزبور لا يتوقف على العلم بجعل طريق من الشارع ، بل تمام همه أن ما يجب تحصيل العلم به مع التمكن يتنزل إلى الظن به مع عدم التمكن ، بالتقريبات السابقة.

- وإن لم يعلم المكلف به - يجزى في غير التكاليف العبادية بل حتى فيها إذا تمشى من المكلف قصد التعبد والتقرب ، وأما مطابقة العمل للطريق المنصوب من باب المصادفة والاتفاق لا يجزى ، لأن الطريق الغير الواصل لا يقتضي التنجيز ولا المعذورية ، وكيف يقتضي المعذورية مع عدم استناد المكلف إليه في العمل؟ لأن الذي يستقل به العقل هو امتثال التكاليف الواقعية ولزوم الخروج عن عهدتها إلا إذا استند المكلف في العمل إلى ما نصبه الشارع طريقا إلى التكاليف ، فلا مجال لتوهم اشتغال الذمة بالطرق المنصوبة مع عدم إحرازها ووصولها تفصيلا ، ونتيجة ذلك : هو مع العلم بالطريق يجزى العمل بمؤداه مع عدم العلم بمخالفته للواقع. كما يجزى العلم بالواقع ، ومع انسداد باب العلم يجزى العمل بما ظن كونه طريقا كما يجزى العمل بما ظن كونه حكما واقعيا ، لعدم التفاوت فيما هو المهم عند العقل : من لزوم الخروج عن تبعة التكاليف بوجه ، إما علما مع التمكن ، وإما ظنا مع عدم التمكن ، وذلك يحصل بالظن بكل من الواقع والطريق ، فتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق لا وجه له ، كما لا وجه لتخصيصها بخصوص الظن بالواقع - كما ذهب إليه بعض المشايخ - لاشتراكهما في الأثر.

ولعل منشأ توهم اختصاص النتيجة بخصوص الظن بالواقع ، هو أن مقدمات الانسداد إنما تجرى في المسائل الفرعية والأحكام الشرعية دون المسائل الأصولية ، فان أول المقدمات هو انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية ويتبعها ساير المقدمات ، فلابد وأن تكون النتيجة اعتبار خصوص الظن بالواقع لأن النتيجة تابعة للمقدمات ، هذا.

ولكن لا يخفى أن المقدمات وإن كانت تجرى في خصوص الأحكام الشرعية ، إلا أن نتيجتها أعم من الظن بالواقع والظن بالطريق (1) فانّ تمهيد

ص: 293


1- 1 - أقول : من قال باختصاص الشرعية المنسد فيها باب العلم خصوص الأحكام التكليفية؟ كي يختص المقدمات بخصوصها ، وعلى فرض التخصيص لازمه عدم الانسداد في الأحكام الأصولية ، ومع عدم انسداد باب العلم فيها لازمه لزوم تحصيل الفراغ اليقيني الجعلي بالأحكام ، ومع ذا كيف يكتفى العقل بالفراغ الظني الجعلي؟ فتدبر.

مقدمات الانسداد إنما كان لأجل رعاية التكاليف المعلومة بالإجمال والخروج عن عهدتها بوجه ، وهو كما يحصل مع الظن بالواقع يحصل مع الظن بالطريق.

هذا بناء على الحكومة وكون النتيجة حكم العقل بكفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة والخروج عن عهدة التكاليف واضح ، فان الامتثال الظني يحصل بالعمل بما ظن كونه حكما واقعيا ، ويحصل أيضا بالعمل بمؤدى ما ظن كونه طريقا شرعيا.

وأما بناء على المختار من الكشف : فقد يتوهم أن أقصى ما يستكشف من المقدمات هو حجية الظن في الأحكام الشرعية ، وأما حجيته في المسألة الأصولية وتعيين الطرق المنصوبة فلا تقتضيها المقدمات المذكورة.

ولكن التوهم في غير محله ، فإنه لا موجب لاستكشاف نصب الشارع خصوص الظن في المسألة الفرعية طريقا ، بل العقل يستكشف من المقدمات نصب مطلق الظن طريقا ، كان مؤداه مسألة فرعية من كون الشيء واجبا أو حراما ، أو مسألة أصولية من كون الشيء طريقا.

فالأقوى : عموم النتيجة بالنسبة إلى كل من الظن بالحكم والظن بالطريق مطلقا بناء على الكشف والحكومة.

الأمر الثاني :
اشارة

هل يقتضي دليل الانسداد كلية النتيجة؟ أو يقتضي إهمالها؟ (1)

ص: 294


1- أقول : ظاهر كلماتهم أن هذا النزاع متفرع على الكشف لا الحكومة ، فينبغي له أن ينبه على ذلك في عنوان المسألة ، بل بعض كلماته في طي بيانه - كما سيأتي منه - يوهم جريان النزاع حتى على الحكومة ، وعهدته على مدعيه!.

ونعني بكلية النتيجة هو اعتبار الظن مطلقا في أي مسألة من المسائل ، ومن أي سبب حصل ، وأي مرتبة من الظن كان. ويقابله إهمال النتيجة ، إما مطلقا من حيث المرتبة والسبب والمسألة ، وإما في الجملة وبالنسبة إلى بعض هذه الجهات.

والوجوه المحتملة ثلاثة : الأول : كون النتيجة كلية مطلقا. الثاني : كونها مهملة مطلقا. الثالث : التفصيل بين المرتبة فالنتيجة مهملة وبين السبب والمورد فالنتيجة كلية ، أو التفصيل بين السبب والمورد ، فبالنسبة إلى السبب كلية وبالنسبة إلى المورد مهملة ، على ما سيأتي تفصيل ذلك كله ( إن شاء اللّه تعالى ).

وينبغي أن يعلم أولا : أن المقصود من كون النتيجة مهملة ، هو أن ما تقتضيه مقدمات الانسداد أولا وبالذات ليس إلا قضية جزئية (1) وهي اعتبار الظن في الجملة في بعض الموارد ، أو بعض المراتب ، أو من بعض الأسباب ، وتعيين النتيجة من حيث العموم والمخصوص بالنسبة إلى هذه الأمور لابد وأن يكون بمعين آخر غير تلك المقدمات الأولية التي مهدت لاستنتاج اعتبار الظن. وليس المقصود من إهمال النتيجة كونها مهملة إلى الآخر من دون أن يكون لها معين ، فان ذلك يلزم لغوية دليل الانسداد (2) وهو واضح.

وإلى ذلك يرجع ما اشتهر في الألسن : من كون الطريق قد يكون واصلا بنفسه وقد يكون واصلا بطريقه ، فان معنى كون الطريق واصلا بنفسه : هو أنه لا يحتاج في استنتاج النتيجة وتعيينها إلى مقدمة خارجية أخرى وراء مقدمات الانسداد (3) ومعنى كون الطريق واصلا بطريقه : هو أنه لا تكفى تلك

ص: 295


1- أقول : يعنى قابلة للجزئية والكلية وأن المتيقن هو الجزئية ، كما يقال : من أن المهملة في قوة الجزئية.
2- أقول : لو لم يكن في البين قدر متيقن مطلقا أو بالإضافة ، وليس ذلك من المعينات الخارجية ، كما لا يخفى.
3- 3 - أقول : لا ندري من أين جاء شرح هذا الاصطلاح ، والذي سمعناه من الأساطين أن المقصود من الواصل بنفسه ما علم بحجيته ولو من جهة عناية خارجية ومعمم خارجي ، بحيث لا ينتهى النوبة إلى الاحتياط في الطريق أو إجراء مقدمات انسداد أخرى في تعيينه مرة أو مرارا إلى أن ينتهى النوبة إلى ظن واحد أو ظنون متساوية الإقدام ، ولذا جعل المعممات كل واحد مبنيا على نتيجته ، فمن عمم الظن بعدم الترجيح نظره إلى كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه ، ومن جعل المعمم إجراء مقدمات الانسداد مبناه جعل النتيجة الطريق الواصل بطريقه ، ومن جعل المعمم الاحتياط في الطرق مبناه كون النتيجة طريقا لم يوصل ولو بطريقه ، وعليك بالمراجعة إلى الكلمات ينكشف لك الحال

المقدمات في أخذ النتيجة وتعيينها ، بل لابد من ضم مقدمة أخرى إليها ، وتلك المقدمة ، إما أن تكون عناية أخرى من العقل في عرض أخذ النتيجة - كقبح الترجيح بلا مرجح ونحو ذلك مما سيأتي بيانه في وجه عموم النتيجة - وإما أن تكون تلك العناية مقدمات انسداد آخر غير المقدمات المتقدمة التي يتركب منها دليل الانسداد المعروف - على ما سيأتي توضيحه - وعلى كلا التقديرين تكون النتيجة واصلة بطريقها لا بنفسها ، ولكن العناية التي تكون في عرض أخذ النتيجة متقدمة على عناية مقدمات انسداد آخر ، فان أول مقدمة من مقدمات الانسداد الآخر هو انسداد باب العلم والعلمي فيما هو الحجة والطريق المتبع عند انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام ، فإذا كان في رتبة أخذ النتيجة ما يوجب تعميمها من حيث الموارد والمراتب والأسباب أو تعيينها في بعض هذه الجهات ، فلا تصل النوبة إلى ترتيب مقدمات انسداد آخر ، لانفتاح باب العلم والعلمي فيما هو الحجة والطريق.

وعلى كل حال : من يقول بأن نتيجة مقدمات دليل الانسداد كلية يقول : إن الطريق واصل بنفسه ، لأنه بعد البناء على كلية النتيجة لا يحتاج إلى عناية أخرى لأخذ النتيجة. ومن يقول بإهمال النتيجة يقول : إن الطريق واصل بطريقه ، وسيأتي أن الأقوى عندنا كون النتيجة من حيث المراتب خصوص الظن المفيد للاطمئنان ، وهو الظن الحاصل من خبر الثقة المحفوف بعمل المشهور ، ولمكان كونه وافيا بمعظم الأحكام صح دعوى كون النتيجة لو كانت

ص: 296

كلية فهي من حيث المراتب أيضا كلية ، لأن اعتبار خصوص الظن الاطمئناني لا ينافي كلية النتيجة ، فإنه ينحل به العلم الإجمالي ويجوز الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في المورد الذي لم يرد فيه خبر ثقة ، فلا نحتاج في أخذ النتيجة إلى إعمال مقدمة أخرى وراء نفس دليل الانسداد ، وسيأتي توضيح ذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن منشأ الاختلاف في كون النتيجة كلية أو مهملة ، هو أن ما تقدم في المقدمة الثالثة : من عدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة (1) هل هو في كل مسألة من مسائل الفقه؟ أو هو في مجموع المسائل؟

ص: 297


1- أقول : عمدة المدرك في تعميم النتيجة وإهماله والاحتياج إلى معمم خارجي : هو كون نتيجة الانسداد إن كان حجية الظن ومرجعيته في مقام الإثبات بحكومة من العقل ، فلا محيص من كون النتيجة من حيث الإثبات مطلقة. نعم : من حيث المراتب أمكن اقتصار العقل بأقوى المراتب لو كان وافيا ، لأنه المتيقن لدى العقل. وإن كان مرجعية الظن بكشف جعل شرعي فلا وجه لعموم النتيجة بنفسه ، بل يحتاج إلى معمم خارجي ، إما لعدم الترجيح ، وإما باجراء مقدمات الانسداد مرة أو مرارا إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو ظنون متساوية الأقدام ، أو بالرجوع إلى الاحتياط في دائرة الطرق المعلومة ، على الخلاف في كون النتيجة الطريق الواصل أو بطريقه أو طريق لم يوصل ، كما أشرنا إليه سابقا. وما أفيد من المدرك في وجه التعميم والإهمال غير تام ، إذ لو فرض كون بطلان الاحتياط وبطلان البراءة في مجموع المسائل ، فبعد لا بدية حكم العقل بمرجعية الظن بحكم المقدمة الرابعة لا يفرق بين الأسباب والأشخاص والأزمنة. نعم : بالنسبة إلى المراتب قضية القدر المتيقن بل المقدمة الرابعة - بمناط الأخذ بأقرب الطرق إلى الواقع الوافي به - هو الأخذ بالمرتبة الأقوى من بين الظنون أيضا. وإن قلنا بأن النتيجة هي حجية الظن بجعل شرعي ، فلا محيص من كون النتيجة مهملة ولو بنينا بعدم مرجعية الاحتياط بمعنى عدم وجود مقتضى له من طريق آخر إجمالي أو غيره في كل واحد واحد من المسائل ، كما أن بطلان البراءة أيضا لو فرض ثبوته من إجماع أو غيره في كل واحد واحد من المسائل. وعمدة نكتة الإهمال حينئذ هو أن هذه المقدمات بعد كشفها عن الجعل الشرعي لا يكون مناط جعله بيد العقل ، كي يحكم به تعميما أو غيره ، بل لابد حينئذ من استفادة التعميم من المعممات الخارجية ، على التفصيل في المشار إليها. نعم : لو تم الإجماع المدعى على وجوب الأخذ بكل محتمل بعنوان وجوبه فعلا أو تركا كان لما أفيد وجه ، ولكن تمام الكلام من أول دليل الانسداد إلى هنا في صحة ذلك الدعوى. إذ غاية ما استفيد من الكلمات قيام الإجماع على بطلان الاحتياط ولو في كل مسألة مسألة ، وأما كون ذلك من جهة عدم المقتضى له من وجود منجز إجمالي أو تفصيلي أو أنه من جهة قيام الإجماع على ما أفيد ، فغير معلوم ، والقدر المتيقن هو الأول ، فلا يكاد يستفاد من الإجماع على بطلان الاحتياط الإجماع المدعى المخرب لأساس السابقين واللاحقين ، فتدبر.

فان قلنا بعدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة في كل مسألة على حدة مع قطع النظر عن انضمام ساير المسائل إليها كانت النتيجة كلية من الجهات الثلاث موردا ومرتبة وسببا. وإن قلنا بعدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة في مجموع المسائل والوقايع المشتبهة كانت النتيجة مهملة ، إما من الجهات الثلاث ، وإما من بعض الجهات - كما سيأتي بيانه - ولابد من تعيينها عموما أو خصوصا من التماس معين آخر وراء مقدمات الانسداد.

وقد ذهب المحقق القمي (رحمه اللّه) إلى كلية النتيجة من الجهات الثلاث ، لأن بنائه على بطلان الاحتياط في كل مسألة مسألة وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك. ويظهر ذلك أيضا عن المحكى عن صاحبي « المعالم » و « الزبدة ».

وقد أورد عليهم الشيخ قدس سره بما لفظه « لكنك قد عرفت مما سبق : أنه لا دليل على منع جريان البراءة وأصالة الاحتياط أو الاستصحاب المطابق لأحدهما في كل مورد من مواردها بالخصوص (1) إنما الممنوع جريانها في جميع المسائل ، للزوم المخالفة القطعية الكثيرة ، وللزوم الحرج من الاحتياط ، وهذا المقدار لا يثبت الا وجوب العمل بالظن في الجملة ، دون تعميمه بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظن » انتهى.

وأنت خبير بما فيه ، لأن بطلان الاحتياط في الوقايع المشتبهة لا ينحصر دليله بالعسر والحرج ، حتى يقال : إن العسر والحرج إنما كان يلزم من الاحتياط في مجموع الوقايع لا في كل واقعة واقعة ، بل لو انحصر دليله في ذلك

ص: 298


1- أقول : بل لو فرض قيام دليل على عدم مرجعية الاحتياط أو الاستصحابات المثبتة في كل مسألة شخصية ، لنا أن نقول بالإهمال ، بملاحظة عدم التفات العقل بمناطه شرعا ، فلا يحتاج ردهم إلى هذا البيان ، كما لا يخفى.

كان اللازم هو التبعيض في الاحتياط وكان دليل الانسداد عقيما لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة (1) بل يقف الدليل على المقدمة الثالثة ، كما تقدم بيانه.

فالعمدة في بطلان الاحتياط إنما كان هو الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الإتيان بالمحتملات وامتثال التكاليف على سبيل الاحتمال وأنه لابد من امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص ، وقيام الإجماع على هذا الوجه هو الذي كان يقتضي الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة ، ولذلك بنينا على الكشف وأبطلنا الحكومة ، لأن قيام الإجماع على هذا الوجه يلازم جعل الشارع حجية الظن ونصبه طريقا إلى التكاليف ، كما اعترف هو قدس سره بذلك فيما تقدم من قوله : « قلت : مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ » ومفاد هذا الإجماع بطلان الاحتياط في كل مسألة مسألة لا في مجموع المسائل ، فان كل تكليف في كل واقعة يقتضي الإتيان به بعنوانه الخاص ، فلا يجوز الاحتياط ولو في مسألة واحدة.

وأما عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة : فالدليل فيه أيضا لا ينحصر بلزوم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين ، حتى يقال : إن المخالفة الكثيرة إنما تلزم من الرجوع إلى البراءة في مجموع الوقايع

ص: 299


1- أقول : مقتضى التبعيض في الاحتياط بحكم العقل هو التخيير بين المحتملات في الاحتياط التبعيضي ، وهذا التخيير من جهة عدم مرجح في البين ، فإذا فرض وجود المقدمة الرابعة فهي معينة في خصوص الظنون ، من دون فرق بين كون هذا التبعيض بمناط منجزية العلم الإجمالي ، أو بمناط منجزية الاحتمال في كل مسألة. نعم: فرق بين الصورتين في أنه على فرض منجزية العلم فمرجعية الظن بحكم المقدمة الرابعة إنما هو في مقام إسقاط التكليف لا إثباته، بخلافه على فرض منجزية الإحتمال في كل مسألة، فان المقدمة الرابعة تعين الظن في الحجية. نعم : بناء على الأول لا يكون مقدمات الإنسداد نتيجة لحجية الظن إثباتاً، وهذا موجب لحجيته كشفاً أم حكومة، فيحتاج إلى المقدمة الرابعة على كل حال.

لا في كل واقعة واقعة مع قطع النظر عن الرجوع إليها في ساير الوقايع ، بل لزوم المخالفة الكثيرة كان أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة في المقدمة الثانية.

وأما الوجه الثالث - وهو العلم الإجمالي - فهو يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة ، لأن الأصول النافية للتكليف لا تجري في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، وحيث إن كل مسألة مسألة من أطراف العلم الإجمالي ، فلا تجرى فيها أصالة البراءة.

بل يمكن تقريب الوجه الأول - وهو الإجماع - على وجه يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل واقعة واقعة ، بدعوى : أن انعقاد الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ليس لقيام دليل تعبدي عند المجمعين عليه ، بل لأجل ما استقل به العقل من قبح الاعتماد على البراءة قبل الفحص واليأس عن الظفر بمراد المولى (1) لأن من وظيفة العبد التفحص عن الأحكام ، وقبل الفحص يستقل العقل باستحقاقه للعقوبة وصحة مؤاخذته على تفويته لمرادات المولى ، وليس له الاعتذار بعدم العلم بها ، كما يستقل العقل بعدم استحقاقه للعقاب وقبح مؤاخذته وصحة الاعتذار منه بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأحكام أو بما يكون قاطعا للعذر من الحجة القائمة عليها ، فلا يجوز للعبد الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي ،

ص: 300


1- أقول : هذا إنما يتم عند التمكن عن الفحص ، وفي ظرف الانسداد كيف يتمكن من الفحص عن الدليل؟ وتوهم : أن فحصه في المقام بتتميمه بقية المقدمات إلى أن ينتهى إلى الدليل ، ظاهر الفساد إذ المقدمات المزبورة إنما تنتج مرجعية الظن في ظرف عدم جريان البراءة ، فهو أيضا من مقدمات هذه النتيجة ، فكيف يعقل كون ترتب النتيجة من موانعه؟ كما لا يخفى. نعم : الأولى أن يقال فى وجه عدم جريان البرائة : بأن مجرى البرائة فى فرض الشك في تكليف لم يحرز من الخارج شدة الإهتمام بحفظه حتى فى ظرف الجهل ، وأما مع إحراز هذا الإهتمام لا يستقل العقل بالبرائة، بل يرى نفس احتماله منجزاً، كما هو الشأن في حكمه بوجوب النظر في المعجزة، بل جعلنا هذه الجهة من وجوه منجزية أو امر الطرق - وتقدم شرحه فى بابه وعليه ففى ما نحن فيه لا شبهة فى أنّ الشك في التكليف في المقام من قبيل الثاني لا الأول، فلا مجرى فيه للبرائة أصلاً، كما لا يخفى.

وفي هذه الرتبة - أي رتبة سقوط البراءة - تجرى مقدمات الانسداد ويستقل العقل بلزوم العمل على طبق الظن كشفا أو حكومة ، فلا تصل النوبة إلى جريان البراءة ولو في مسألة واحدة مطلقا ، لا قبل رتبة جريان مقدمات الانسداد - لاستقلال العقل بلزوم الفحص عن الحكم فيها - ولا بعدها ، لاستقلال العقل بلزوم العمل بالظن مع حصوله فيها.

فظهر : أن العقل بنفسه أيضا يستقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، ويمكن أن يكون مدرك قيام الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو هذا الحكم العقلي ، وإن أبيت إلا عن أن يكون الإجماع على حكم شرعي تعبدي ، فهذا الوجه بنفسه - كالعلم الإجمالي - يقتضي عدم جواز الرجوع في كل واقعة واقعة إلى البراءة ، وإن أبيت عن ذلك أيضا - بدعوى : أن المفروض انسداد باب العلم والعلمي وعدم التمكن من تحصيل الواقع أو ما يقوم مقامه ومعه يستقل العقل بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان في كل مسألة مسألة إلا أن يتشبث بذيل الإجماع التعبدي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى البراءة فيها أو بلزوم الخروج عن الدين أو بالعلم الإجمالي فلو لم تكن هذه الوجوه الثلاثة لم يكن موقع لدليل الانسداد واستنتاج حجية الظن كشفا أو حكومة لاستقلال العقل بالبرائة بعد انسداد باب العلم والعلمي - فيكفي في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة نفس العلم الإجمالي.

فتحصل : أنه لو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو استلزامه العسر والحرج وكان الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة هو لزوم المخالفة الكثيرة القطعية ، لم يكن مجال لدعوى كون النتيجة كلية من حيث المورد والسبب والمرتبة (1) لأن أقصى ما يقتضيه العسر والحرج ولزوم المخالفة

ص: 301


1- أقول : قد تقدم إن ذلك صحيح على الكشف ، وإلا فعلى الحكومة : فالأمر بيد العقل ومناطه محرز لديه ، فلا معنى لإهمال حكمه ، كما لا يخفى.

الكثيرة هو بطلان الاحتياط والبرائة في مجموع المسائل والوقايع المشتبهة ، وذلك لا يقتضي اعتبار الظن في كل مسألة مسألة ولا أي مرتبة من مراتبه ولا من أي سبب حصل ، بل أقصى ما يقتضيه : اعتبار الظن في الجملة ، فتكون النتيجة مهملة ، ولابد من تعيينها من حيث العموم والخصوص بمعين آخر وراء مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيه.

وأما لو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو قيام الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي وكان الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة هو العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقايع ، كانت النتيجة كلية لا محالة ، فإنه لو كان اعتبار الظن في بعض المسائل دون بعض ، ففيما لا يعتبر فيه الظن لا يخلو الحال فيه ، إما من الاحتياط ، وإما من الرجوع إلى البراءة ، والمفروض بطلانهما في كل مسألة مسألة. وكذا الكلام في السبب ، فإنه لو اعتبر الظن من سبب خاص ، فالمسألة التي لا يحصل فيها الظن من ذلك السبب لا يخلو أمرها عن الاحتياط أو البراءة ، والمفروض عدم جواز الرجوع إليها مطلقا ، وقس على ذلك الكلام في المرتبة.

وحيث إن قيام الإجماع على لزوم الإتيان بكل تكليف بعنوانه الخاص مما لا محيص عنه في استنتاج النتيجة من مقدمات الانسداد والانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة وكان العلم الإجمالي بالتكاليف حاصلا في الوقايع المشتبهة ، فالأقوى ما عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من كون النتيجة كلية والطريق واصلا بنفسه ، لا مهملة ليكون الطريق واصلا بطريقه مطلقا (1) سواء قلنا بالكشف أو الحكومة.

أما بناء على الكشف : فواضح ، فان حال الظن المطلق يكون حينئذ حال الظن الخاص الذي قام الدليل بالخصوص على حجيته يتبع في العموم

ص: 302


1- أقول : هذا مبنى على اصطلاحه لا اصطلاح بقية الأساطين ، وإلا فعندهم يكون هذا التقسيم على الإهمال وأن اختلافه موجب لاختلاف المعممات من عدم الترجيح أو إجراء مقدمات أخرى أو الاحتياط في دائر الطرق.

والخصوص دليل اعتباره ، وحيث إن دليل اعتبار الظن المطلق ليس هو إلا مقدمات الانسداد ، فان العقل يستكشف منها جعل الشارع حجية الظن ، وهي لا تقتضي جعله حجة في الجملة وفي بعض الموارد أو من بعض الأسباب أو بعض المراتب ، بل قد عرفت أنها تقتضي جعله حجة مطلقا في جميع الموارد والأسباب والمراتب ، لأن بطلان الاحتياط والبرائة في كل مسألة مسألة يقتضي التعميم بالنسبة إلى المسائل ، والتعميم في المسائل يستلزم التعميم بالنسبة إلى الأسباب والمراتب - كما تقدم وجهه - فلا محيص من استكشاف العقل من المقدمات حجية الظن مطلقا من الجهات الثلاث.

وأما بناء على الحكومة : فكذلك بحسب الأسباب والمراتب ، فان المدار في الحكومة على حصول الظن بالامتثال ولزوم الخروج عن عهدة التكاليف ظنا بعد تعذر الامتثال والخروج عنها علما ، ولا دخل للأسباب المفيدة للظن في ذلك عند العقل ، فمن أي سبب حصل منه الظن بالامتثال يجزى عقلا ، كما لا دخل للمراتب في ذلك ، إلا إذا أمكن حصول الظن الاطمئناني وكان وافيا بالمعلوم بالإجمال ، فان الظن الاطمئناني مقدم عند العقل على غيره ، لأنه أقرب إلى العلم.

وأما بحسب الموارد : فقد يقال : إن العقل لا يستقل بكفاية الامتثال الظني في الموارد التي علم اهتمام الشارع بها على وجه يلزم رعاية الواقع والتحفظ عليه كيف ما اتفق - كباب الأعراض والدماء والأموال - بل لابد فيها من الامتثال العلمي ولو بالاحتياط ، وهذا لا ينافي ما تقدم من بطلان الاحتياط في كل مورد مورد ، لأن ذلك إنما كان من حيث كون المورد محتمل الوجوب أو الحرمة ، وأما إذا كان المورد بنفسه مما تجرى فيه أصالة الحرمة ، فلا محيص من الاحتياط فيه ولا يكفي فيه الامتثال الظني ، بل يمكن أن يقال : إنه حتى على الكشف لا يكون الظن حجة في هذه الموارد ، لأن العلم باهتمام الشارع بها يمنع عن استكشاف العقل من المقدمات اعتبار الظن فيها شرعاً.

ص: 303

ولكن الإنصاف : أنه لا يمكن القول بذلك (1) فإنه قد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه يجب على الشارع ايجاب الاحتياط في الموارد التي يلزم رعاية الواقع فيها لأهمية الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها ، فإنه لا سبيل للعباد إلى تشخيص الملاكات والمصالح النفس الأمرية وأنه في أي مورد يلزم رعاية المصلحة كيفما اتفق وفي أي مورد لا يلزم إلا من طريق السمع وايجاب الاحتياط في الموارد المشتبهة وعدمه. ولابد وأن يكون ايجاب الاحتياط واصلا إلى المكلف ، وإلا فهو لا يزيد على نفس التكليف الواقعي ، فكما أن احتمال التكليف لا يكون ملزما عند العقل ما لم يكن من أطراف العلم الإجمالي كذلك احتمال ايجاب الاحتياط ، فان قام دليل على وجوب الاحتياط في مورد فهو ، ويكون ذلك بمنزلة المخصص لما انعقد عليه الإجماع : من أن بناء الشريعة على امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة - الذي كان مدرك الكشف - وحاكما على ما استقل به العقل من الحكومة وكفاية الامتثال الظني ، ولا كلام فيه حينئذ ، فيكون حال ما دل على ايجاب الاحتياط في بعض الموارد حال ما دل على المنع عن العمل بالظن القياسي ، وسيأتي أنه لا إشكال فيه. وإن لم يقم دليل على ايجاب الاحتياط في مورد ، فهو يكون كسائر الموارد التي انسد باب العلم والعلمي فيها لابد من اعتبار الظن فيه كشفا أو حكومة (2) ولا أثر لمجرد احتمال ايجاب الشارع الاحتياط فيه ، فان حكمه حكم

ص: 304


1- أقول : كم فرق! بين صورة الشك في التكليف مع القطع باهتمام الشارع به على فرض وجوده وبين الشك في إهتمام الشارع به. وما يحتاج إلى ايجاب الاحتياط هو الأخير ، وهو أيضا مجرى البراءة عقلا ، وما هو مجرى الاحتياط لدى العقل هو الأول ، وفي مثله لا يكون نفي إيجاب الاحتياط رافعا لإلزام العقل ، لاحتمال اتكال إلزامه على حكم العقل به. نعم : لو تم ما ادعاه من الإجماع حتى في مثل المقام ، أمكن دعوى مهملة الظن حتى فيها ، ولكن الكلام في إتمام هذا الإجماع، كما مر غير مرة.
2- أقول : قد أشرنا بأنه في فرض القطع بالاهتمام على فرض الوجود - كما هو الشأن في الدماء والأعراض - يستقل العقل بلزوم مراعاته ، وفي مثله لا يلزم على الشارع إيجاب الاحتياط فيه ، لإمكان اتكاله على حكم العقل. وما يلزم على الشارع إيجاب الاحتياط فيه هو صورة الشك في أصل الاهتمام ، إذ هو الذي يستقل العقل فيه بالبرائة لا الأولى ، كما نبهنا على ذلك في بعض الحواشي السابقة.

احتمال التكليف في كل واقعة واقعة من الوقايع المشتبهة ، ولو كان البناء على فتح باب الاحتمال لكان احتمال عدم جعل الشارع حجية مطلق الظنون النافية للتكليف في جميع الموارد أقرب وأولى ، لأنه يمكن أن يتوهم أن مقدمات الانسداد إنما تجرى لإثبات التكاليف المعلومة بالإجمال والخروج عن عهدتها ، فتختص النتيجة بالظن المثبت للتكليف دون الظن النافي له (1) وإن كان هذا التوهم أيضا فاسدا ، فان جعل الظن المطلق طريقا محرزا كجعل الظن الخاص طريقا محرزا ، لا يفرق فيه بين كون المؤدى ثبوت التكليف أو نفيه.

وبالجملة : ليس حال الظن - بناء على الكشف - إلا كحال سائر الحجج الشرعية التي قام الدليل بالخصوص على اعتبارها من كونه طريقا مثبتا للواقع محرزا له كالعلم على الأصول العملية ، فلو فرضنا أن المورد مما تجرى فيه أصالة الحرمة في حد نفسه كان الظن المستنتج حجيته من دليل الانسداد حاكما عليها ، كحكومته على سائر الأصول العملية مطلقا ، سواء كانت نافية للتكليف أو مثبتة له ، فتأمل (2)أقول: قد تقدم أن ذلك يتم في فرض الجهل باهتمام التكليف المشكوك، وإلا فمع الجزم به لا يحتاج،في تقديمه على الظن إثبات ايجاب الاحتياط الشرعي ، كما لا يخفى.(3) (4)

ص: 305


1- أقول : كيف يمكن هذه الدعوى ، إذ من المقدمات الرخصة في مخالفة الموهومات ، ولازمه الأخذ بظن عدم التكليف ، وهذا عمدة الوجه في مرجعية الظن نفيا وإثباتا عند الانسداد ، ولو لم نقل بأن الظن حجة نفيا وإثباتا.
2- وجهه : هو أنه يمكن أن يفرق بين حجية الظن المطلق المستنتج حجيته من دليل الانسداد وبين سائر الحجج الشرعية التي قام الدليل بالخصوص على اعتبارها ، فان حجية سائر الحجج لا تتوقف على بطلان الرجوع إلى الأصول العملية في المرتبة السابقة ، بل نفس حجيتها تقتضي عدم جريان الأصول العملية في موردها ، وهذا بخلاف الظن المطلق ، فان حجيته تتوقف على بطلان الرجوع إلى الأصول العملية أولا التي منها أصالة الحرمة لينتقل إلى المقدمة الرابعة واستكشاف حجية مطلق الظن ، فلا يمكن أن يكون الظن المطلق حاكما على ما يتوقف حجيته عليه ، فالأولى أن يقال : إنه إن قام دليل على أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال ، فهو يكون حاكما على حجية الظن المطلق
3- وإلا كان الظن حجة مطلقا حتى في الأبواب الثلاثة ، ولا ينفع احتمال إيجاب الاحتياط فيها ( منه ).
4- أقول : هذا التأمل في محله ، ولقد أجاد المقرر في بيان وجهه ، فراجع.

وبناء على الحكومة فالأمر يدور مدار حصول الامتثال الظني من غير فرق أيضا بين الموارد ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على اعتبار الامتثال العلمي ، فلو ظن كون المرأة خلية يجوز للشخص تزويجها ، لأن احتمال كونها ذات بعل موهوم ، وقد أثبتنا في المقدمة الثالثة أنه لا يجب الاحتياط في الموهومات ، وكذا الكلام في الأموال والدماء.

فتحصّل : أنه لو بنينا على بطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة - كما هو مفاد الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي - وبنينا على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل شبهة شبهة - كما هو مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الشبهات - كانت النتيجة كلية سببا وموردا ومرتبة مطلقا بناء على الكشف والحكومة ، إلا إذا أمكن تحصيل المرتبة الاطمئناني من الظن وكان وافيا بالمعلوم بالإجمال ، فإنه يكون مقدما إلى غيره مطلقا ، قلنا بالكشف أو الحكومة.

وأما لو بنينا على بطلان الاحتياط في مجموع الوقايع - كما هو مفاد أدلة نفي العسر والحرج - أو بنينا على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في مجموع الشبهات - كما هو مقتضى لزوم الخروج عن الدين والمخالفة الكثيرة - كانت النتيجة مهملة (1).

ولا يخفى أنه يكفي في إهمال النتيجة أحد الأمرين : إما من عدم جواز الرجوع إلى البراءة في مجموع الشبهات وإن لم نقل ببطلان الاحتياط في المجموع بل بنينا على بطلانه في كل واقعة واقعة ، وإما من بطلان الاحتياط في المجموع وإن قلنا بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل شبهة شبهة ، وحيث إنّه لا سبيل

ص: 306


1- أقول : ظاهر إطلاقه بقرينة التقابل مع الفرض السابق أنه يشمل الإهمال حتى على الحكومة ، ولقد تقدم ما فيه : من عدم معنى لإهمال حكم العقل بعد كون المناط بيده ، فتدبر.

إلى القول ببطلان الاحتياط في المجموع لأنه يلزم من ذلك التبعيض في الاحتياط ولم تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة (1) فالقائل بإهمال النتيجة لابد وأن يلتزم بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في المجموع لا في كل شبهة شبهة ، مع التزامه ببطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة.

والالتزام بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في المجموع إنما يمكن بأحد أمرين : إما بقطع النظر عن العلم الإجمالي بالتكاليف الثابتة بين الشبهات وفرض عدم كونه منجزا لها وانحصار المدرك في بطلان الرجوع إلى البراءة بلزوم المخالفة الكثيرة أو الإجماع إن كان مفاده عدم جواز الرجوع إليها في المجموع ، وأما بالبناء على أن العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية وإنما تحرم مخالفته القطعية حتى يصح الرجوع في بعض الشبهات إلى البراءة لتكون النتيجة مهملة.

وبعد البناء على إهمالها لابد من تعيينها عموما أو خصوصا (2) والكلام في ذلك تارة : يقع على القول بالكشف ، وأخرى : يقع على القول بالحكومة.

أما على القول بالحكومة : فالظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في التعميم بحسب الموارد والأسباب ، لأنه لا يتفاوت في حصول الامتثال الظني عند العقل اختلاف الموارد والأسباب ، لاستواء الكل فيما هو المناط : من تحقق الامتثال الظني. ولا ينبغي الإشكال أيضا في وجوب الاقتصار على المرتبة الاطمئناني وإن لم يكن وافيا بالأحكام ، لأنه أقرب إلى العلم.

ص: 307


1- أقول : فيا ليت يبين بأنه على التبعيض لم لا ينتهى النوبة إلى المقدمة الرابعة التي شأنها تعيين دائرة الاحتياط أو مرجعية الطريق في الظن بلا اختصاصه بمقام دون مقام ، كما أشرنا إليه أيضا كرارا.
2- أقول قد أشرنا سابقا : بأن المناسب إخراج فرض الحكومة عن فرض إهمال النتيجة ، بل الإهمال إنما يتصور على الكشف ، وأن المعممات الخارجية جارية على هذا الممشى لا ممشى الحكومة. نعم : في دليل كلامه : من أنه على الحكومة يتصور الإهمال في المرتبة دون غيره - وإن كان أقرب إلى الصواب ، ولكنه حقه أن لا يسمى الإهمال أصلا ، إذ على الحكومة المدار على الأخذ بالأقرب الوافي بالفقه ، فإذا فرض ذلك في الاطميناني فهو من الأول متعين نتيجة بلا إهمال في البين كي يحتاج إلى معين خارجي.

ولا يتوهّم : أن التعميم بحسب الموارد يقتضي التعميم بحسب المراتب - بالبيان المتقدم - فان ما تقدم من استلزام التعميم موردا للتعميم مرتبة إنما كان لأجل البناء على بطلان الاحتياط والبرائة في كل مسألة مسألة ، وذلك كان يقتضي التعميم مرتبة كما كان يقتضي التعميم موردا - بالبيان المتقدم - وأما لو بنينا على بطلان الرجوع إلى البراءة في مجموع الوقايع - كما هو مفروض الكلام - فالتعميم موردا وسببا لا يلازم التعميم مرتبة ، لأنه في المورد الذي لا يمكن تحصيل الظن الاطمئناني يرجع فيه إلى البراءة ، فعلى القول بالحكومة الإهمال إنما يتصور بالنسبة إلى المرتبة فقط.

وأما على القول بالكشف : فيمكن فرض الإهمال بالنسبة إلى الجهات الثلاث : موردا ومرتبة وسببا (1) ولابد حينئذ من التماس ما يعين النتيجة عموما أو خصوصا.

أما بحسب الموارد : فقد ادعى الإجماع على التعميم فيها [ وقد ادعى الإجماع على التعميم بالنسبة إلى الموارد ].

وقد أورد عليه : بأن المسألة من المسائل المستحدثة لا يصح دعوى الإجماع فيها.

والأولى التمسك للتعميم بحسب الموارد بما تقدم : من أنه بناء على الكشف يكون الظن المطلق كالظن الخاص الذي قام الدليل بالخصوص على اعتباره لا يفرق فيه بين مسائل الفقه وأبوابه ، فتأمل ، مع أنّ دعوى الإجماع في

ص: 308


1- أقول : بناء على الكشف لو لم يكن في البين المقدمة الرابعة - المستلزم للاتكال في بيان مجعوله إلى حكم العقل بلزوم الأخذ بالأقرب - فلا وجه لتعين الحجة في الظن رأسا. وأن كانت مثل هذه المقدمة - المستلزم للاتكال إلى حكم العقل بتعين الأقرب في تعيين مجعوله - فلا يتصور الإهمال فيه ، إذ العقل لا إهمال في حكمه ولا قصور له في فهم ملاكه ، والمفروض أن الشارع أيضا أوكل في تعيين الحجة إلى العقل ، فيكون باب الكشف من هذه الجهة باب الحكومة ، إذ العقل على الحكومة أيضا إنما يعين الحجة بالمقدمة الرابعة ، وكذلك على الكشف حرفا بحرف بلا تصور إهمال فيه ، وحينئذ لا يكاد يتفصى عن الشبهة في الجمع بين حجية الظن على الكشف وإهماله.

المسائل المستحدثة يمكن توجيهها بما تقدم في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة.

وأما بحسب الأسباب : فقد ذكر للتعميم فيها وجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل :
اشارة

تساوى الأسباب وعدم رجحان بعضها على بعض ، فلابد من التعميم بحسبها ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.

وهذا الوجه يتوقف على إبطال ما يصلح لترجيح بعض الظنون على بعض ، وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض وجوه ثلاثة :

الأوّل :

كون بعض الظنون متيقن الاعتبار بالنسبة إلى غيره ، بمعنى أن بعضها مما يقطع اعتباره في حال الانسداد ، بحيث يعلم أنه لو كان شيء حجة عند انسداد باب العلم لكان هو الحجة ، وهذا يكفي في الترجيح ، فيجب الأخذ بما علم اعتباره.

وقد أورد على هذا الوجه بما حاصله : أنه لابد وأن تكون الحجة في حال الانسداد وافية بمعظم الأحكام ، على وجه لا يلزم عن الرجوع إلى الأصول العملية في الموارد التي لم تقم عليها الحجة المحاذير المتقدمة ، وليس في أقسام الظنون ما يكون بهذه المثابة ، فان ما يعلم اعتباره بالإضافة إلى غيره هو الخبر الصحيح الأعلائي ، وهو ما زكى جميع الرواة بعد لين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله وتميز مشتركاته في سلسلة السند ما يكون مشتركا بين الثقة والضعف بظن أضعف نوعا من سائر الأمارات ، ولم يكن موهونا بمعارضة بعض الأمارات له وكان مما اعتمد عليه الأصحاب وعملوا به مفيدا للظن الاطمئناني ، فالخبر الواجد لهذه القيود هو الذي يكون متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره من الأمارات في حال الانسداد ، وهو كما ترى! إذ ليس في ما بأيدينا من الأخبار

ص: 309

ما يكون بهذه المثابة إلا أقل قليل لا يفي بمقدار معتد به من الفقه ، فضلا عن أن يكون وافيا بمعظمه ، على أنه لو فرض كثرته وأنه يفي بمعظم الأحكام ، إلا أنه حيث يعلم إجمالا بثبوت المخصصات والمقيدات له فيما بأيدينا من الأخبار فلا يجوز الاعتماد عليه ، لأنه يكون حينئذ كظواهر الكتاب لا يجوز التمسك بها من جهة العلم الإجمالي بالمخصصات والمقيدات لها.

فان قلت : لو فرض عزة وجود هذا الصنف من الخبر وعدم كونه وافيا بمعظم الأحكام ، لكان المتعين حينئذ هو التعدي عنه إلى ما هو المتيقن بالإضافة إلى غيره مما يكون دون الخبر الصحيح الأعلائي ، فان كان وافيا وإلا يتعدى إلى غيره مما هو المتيقن بالإضافة إلى غيره ، وهكذا إلى أن يحصل فيما بين أصناف الأخبار ما يكون وافيا بمعظم الأحكام ، فعلى هذا لا يجوز التعدي إلى كل أمارة ، ولا موجب لتعميم النتيجة لكل ظن ، مثلا لو فرض أن الخبر المزكى رواته بعدل واحد مع كونه. واجدا لسائر القيود والشروط المتقدمة كان كثير الوجود وافيا بالأحكام ، فالواجب هو الاقتصار عليه ، ولا يجوز التعدي عنه إلى ما دونه مما كان فاقدا لبعض القيود الاخر ، ولو فرض أن هذا الصنف من الخبر أيضا قليل لا يفي بالأحكام ، فاللازم التعدي عنه إلى ما دون ذلك مما يكون فاقدا لشرطين وهكذا ، وبالأخرة لابد وأن ينتهى الأمر إلى وجود ما يكون بقدر الحاجة.

قلت : ليس الخبر المزكى رواته بعدل واحد مع اشتماله على سائر الشرائط والأوصاف متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره ، فإنه ليس أولى من غيره مما زكى رواته بعدلين مع كونه فاقدا لبعض القيود الاخر.

وبالجملة : الخبر الواجد لجميع الأوصاف المتقدمة هو الذي يكون متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره في حال الانسداد ، وما عدا ذلك من سائر أصناف الخبر ليس فيما بينها مما يكون متيقن الاعتبار ، فان احتمال الحجية في الخبر المشتمل على بعض الأوصاف الفاقد لبعضها الآخر ليس أقوى من الخبر

ص: 310

الواجد لما فقده غيره والفاقد لما وجده ، هذا.

ولكن الأنصاف : أن دعوى كون المتيقن في المرتبة الأولى هو الخبر الواجد للأوصاف والشروط المتقدمة مما لا شاهد عليها (1) بل الذي يكون متيقن الاعتبار في حال الانسداد هو مطلق الخبر الموثوق به - ولو بواسطة عمل الأصحاب به واعتمادهم عليه - وإن كان فاقدا للشرائط المتقدمة.

نعم : الخبر الواجد للأوصاف إنما يكون متيقن الاعتبار بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، فان القدر المتيقن دلالتها على حجية الخبر الواجد للأوصاف لو ادعى عدم إطلاقها لمطلق الخبر ، وأما القدر المتيقن في الحجية في حال الانسداد هو الخبر الموثوق به بعمل الأصحاب ، فإنه لا يمكن أن يكون غيره حجة في هذا الحال ولا يكون هو حجة.

فما أفاده الشيخ قدس سره : من أن المتيقن عند انسداد باب العلم هو الخبر المشتمل على القيود المتقدمة ، يمكن منعه ، وكأنه اشتبه عليه ما هو المتيقن من دلالة أدلة حجية الخبر مع ما هو المتيقن من دليل الانسداد. والخبر الموثوق به بمثابة من الكثرة يفي بمعظم الأحكام ، فلا وجه لتعميم النتيجة إلى مطلق ما يفيد الظن.

مع أنه لو سلم أن ما هو متيقن الاعتبار في المرتبة الأولى هو الخبر الواجد للأوصاف ، ولكن نقول : إن ما هو المتيقن في المرتبة الثانية هو مطلق الخبر الموثوق به ، ولا سبيل إلى دعوى أنه إذا لم يكن المتيقن في المرتبة الأولى وافيا بالأحكام فليس في المرتبة الثانية ما يكون متيقن الاعتبار بالإضافة ، مع أنه لو سلم أنه ليس في المرتبة الثانية ما يكون متيقن الاعتبار ، ولكن يوجد في المرتبة

ص: 311


1- أقول : يكفي شاهدا نفس اليقين به من النتيجة ، والتعدي منه إلى غيره محتاج إلى الشاهد. ولقد أجاد « شيخنا الأعظم » في ذلك ، ولا يناسب رمى مثل هذا الخريط في هذه الصنعة بالاشتباه. نعم لا بأس بالحاق مطلق الخبر الموثوق به بعمل الأصحاب بالمرتبة الأعلى ، ولو من جهة وجود متيقن في البين دل على اعتباره ، فتدبر.

الأولى ما يكون واجدا للأوصاف المتقدمة وكان مفاده حجية مطلق الخبر الموثوق به ، فتكون نتيجة دليل الانسداد هو الخبر الموثوق به ، فإنه هو المتيقن في حال الانسداد ، وحيث إنه - بحمد اللّه - يفي بمعظم الأحكام ، فلا موجب لتعميم النتجية لمطلق الظن ، فتدبر جيدا.

الوجه الثاني :

( من الوجوه التي ذكروها لترجيح بعض الظنون على بعض ) هو كون بعض الظنون أقوى من بعض ، فيتعين الأخذ بما هو الأقوى ، لأنه يلزم الاقتصار في مخالفة الاحتياط - الذي كان هو الأصل في حال انسداد باب العلم - على القدر المتيقن ، وهو ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه بعيدا.

وفيه : أن القوة والضعف من الأمور الإضافية لا يمكن ضبط مرتبة خاصة منها على وجه يمكن الإحالة عليها في تعيين النتيجة ، مع أن تعيين النتيجة المهملة بالقوة الضعف لا يخلو عن إشكال ، إذ من الممكن أن يكون الشارع قد جعل الظن الضعيف حجة ولم يجعل الظن القوى حجة (1).

نعم : الترجيح بالقوة والضعف إنما يستقيم بناء على الحكومة ، فان العقل يستقل بلزوم الأخذ بأقوى الظنون في مقام الخروج عن عهدة التكاليف. وأما بناء على الكشف - كما هو مفروض الكلام - فلا عبرة بالقوة والضعف ، لأن الجعل الشرعي يدور مدار ملاكه الواقعي ، وقد لا تكون القوة ملاكا في نظر الشارع.

ص: 312


1- أقول : بناء على الكشف بأي وجه يتعين في الظن ، مع احتمال كون مناط الحجية في غيره ، وحينئذ فلا محيص على الكشف من الالتزام بايكال الشارع ما هو مجعول لديه إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة ، وحينئذ لازمه تعيين ما هو الأقرب إلى الواقع من بين الظنون أيضا ، ولا بأس بضبطه بالاطميناني الوافي بمعظم الفقه - كما اعترف على الحكومة - بل قد أشرنا في بعض الحواشي السابقة : من أنه لا معنى على الكشف للالتزام بالإهمال مع فرض كون النتيجة حجية الظن ، إذ لا يخلو ذلك عن تهافت ، فراجع ما فصلناه هناك.
الوجه الثالث :

( من وجوه الترجيح ) هو أن بعض الظنون مظنون الحجية والاعتبار ، فيكون أولى من غيره ، وقد ذكر للأولوية وجهان :

أحدهما : كون مظنون الحجية أقرب إلى الحجية ، فيجب صرف القضية المهملة إلى ما هو الأقرب إلى الحجية.

ثانيهما : انه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع ، لأن الظن بحجية ظن من الأمارات التي تفيد الظن بالواقع ، فيكون ما ظن بحجيته للواقع أقرب إلى الواقع ، وأقرب إلى إدراك مصلحة بدل الواقع على تقدير التخلف ، لأن الظن بحجية ظن يلازم الظن بحصول المصلحة السلوكية على تقدير مخالفته للواقع ، فيكون احتمال فوات الواقع وبدله موهوما في موهوم ، وهذا بخلاف الظن الحاصل من أمارة لم يظن بحجيتها ، فإنه ليس فيه إلا الظن بمطابقة الواقع فقط ، ولا إشكال أنه لو دار الأمر بين العمل بما يظن معه إدراك الواقع أو بدله وبين العمل بما يظن معه إدراك الواقع فقط ، يتعين العمل بما يظن معه إدراك الواقع أو بدله ، فتكون النتيجة خصوص مظنون الحجية لا كل ظن (1).

وقد أفاد الشيخ قدس سره في تضعيف هذا الوجه بما حاصله : أن ما ذكر في الوجه الثاني من وجهي اعتبار مظنون الحجية لا يقتضي تعيين العمل بخصوص مظنون الحجية ، بل أقصى ما يفيده هو أن العمل بما ظن حجيته أولى من العمل بما لا يظن حجيته ، لا أنه يتعين ذلك ، مع أن هذا الوجه يرجع في

ص: 313


1- لا يخفى أن الفرق بين ما تقدم من « صاحب الفصول » و « المحقق » من اعتبار خصوص الظن بالطريق وبين ما قيل في المقام : من اعتبار خصوص مظنون الاعتبار في مقام تعيين النتيجة - بناء على كونها مهملة - هو أن ما تقدم من المحقق وأخيه كان مبنيا على أن مقدمات الانسداد لا تقتضي إلا خصوص الظن بالطريق ، سواء حصل معه الظن بالواقع أو لم يحصل. وأما ما قيل في المقام : فإنما هو بعد الفراغ عن كون النتيجة هو الظن بالواقع ، ولكن حيث كانت النتيجة مهملة ، فالواجب هو العمل بالظن بالواقع الذي ظن بحجيته واعتباره ، فتكون النتيجة اجتماعهما معا ( منه )

الحقيقة إلى الترجيح بالقوة والضعف ، وقد تقدم الجواب عنه ، مضافا إلى أنه يلزم على هذا عدم العمل بمطلق مظنون الحجية ، بل يتعين العمل بما يظن حجيته بظن قد ظن حجيته ، لأنه أبعد عن مخالفة الواقع وبدله ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما أفاده أخيرا ، فان الظن بحجية ظن يلازم الظن بادراك بدل الواقع على تقدير مخالفة الظن للواقع ، ولا يحتاج إلى كون الظن بحجية ظن مظنون الحجية بظن آخر ، بل لو فرض حصول الظن كذلك لم يترتب عليه أثر أصلا.

وما أفاده الشيخ قدس سره من أنه يكون أبعد عن مخالفة الواقع وبدله مما لا نعقله (1) فإنه لو فرض حصول ألف ظن لا يحصل من ذلك إلا الظن بادراك الواقع أو بدله ، مثلا لو فرض حصول الظن بالواقع من الشهرة ثم حصل الظن بحجية الشهرة من الخبر الواحد ثم حصل الظن بحجية الخبر عن الاستقراء ثم حصل الظن بحجية الاستقراء من الإجماع المنقول ثم حصل الظن بحجية الإجماع المنقول من أمارة ظنية أخرى ، فهذه الظنون المترتبة لا توجب إلا الظن بحصول الواقع أو بدله ، وهذا حاصل من الظن بحجية الشهرة الحاصل من الخبر الواحد ، والظنون المترتبة الأخرى لا توجب حصول ظن آخر ، بل لا توجب قوة الظن بالواقع أو بدله الذي كان حاصلا في المرتبة الأولى ، فما أفاده قدس سره بقوله : « مع أن اللازم على هذا أن لا يعمل بكل مظنون الحجية الخ » لا يخلو عن مناقشة.

ص: 314


1- أقول : الظن بالحجية إذا أفاد الظن بالبدل ، فشأنه قلب الوهم بالمصلحة بظن جبرانه ، وحينئذ فكما ترامي الظنون بحجية شيء لا يوجب الظن المتأخر قلب الوهم في المتقدم بظن نفسه ، فكيف لا يتفاوت ترامي الظنون المتأخرة مع عدمه في الظن بالجبران ، إذ الظن الثاني ظن بالجبران ووهم بعدمه فقط ، والظن الثالث يقلب هذا الوهم بالظن بالجبران ، فقهرا يوجب الثالث عدم زوال الظن بالجبران بوهم مخالفه سابقة ، ولئن شئت قلت : إن الظن الثاني ظن بالجبران ووهم بعدمه ، والظن الثالث شأنه سد هذا الوهم وقلبه بالظن بالجبران ، فقهرا يكون أقرب إلى المصلحة وجبرانه ، فتدبر تعرف.

وعلى كل تقدير : الصواب في الجواب عن الترجيح بمظنون الاعتبار ، هو أن يقال : إنه إن كان المراد من الترجيح بمظنون الاعتبار أن مجرد الظن باعتبار ظن - وإن لم يقم دليل على اعتبار الظن - يكفي في صرف القضية المهملة ويقتضي أن تكون نتيجة دليل الانسداد خصوص الظن الذي ظن باعتباره ، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان تعيين القضية المهملة لابد وأن يكون بمعين قطعي الاعتبار (1) حتى لا يلزم الترجيح بلا مرجح ، فلا يجوز الترجيح بكل مزية ما لم يقم دليل على اعتبارها.

وتوهم : أن رجحان الظن الذي ظن باعتباره على مشكوك الاعتبار وموهومه أمر قطعي وجداني فلابد وأن يكون مرجحا ومعينا للقضية المهملة ، واضح الفساد ، فان رجحان مظنون الاعتبار على أخويه وإن كان وجدانيا قطعيا ، إلا أن كونه مرجحا ومعينا للقضية المهملة ليس قطعيا بعد عدم قيام الدليل على الترجيح به ، لما عرفت : من أنه ليس كل مزية تقتضي الترجيح.

ص: 315


1- أقول : قد أشرنا إليه سابقا أيضا : من أنه لو فرض أقربية المظنون الاعتبار إلى الواقع بجبرانه ، فبذاك المناط الذي يحكم العقل بتعين الأخذ بالظن من بين المحتملات - ولو بحكم المقدمة الرابعة - لابد وأن يؤخذ بكل ما هو أقرب إلى الواقع بجبرانه وجدانا ، وهو منحصر بمظنون الاعتبار. ولا يحتاج هذا التعيين حينئذ إلى دليل خارجي ، كما لا يخفى. نعم: في المقام شيء، وهو أنّ الترجيح بمظنون الإعتبار بالتقريب المتقدم مبنى على كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه؛ والافلو احتمل كونها هي الطريق الواصل بطريقه ، فلا يكفى حينئذ الترجيح المزبور لإثبات حجية هذا الظن ولو باجراء مقدمات الإنسداد في تعيين الطريق مرة أو مراراً إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو ظنون متساوية؛ كما أنه لو احتمل كون النتيجة الطريق الغير الواصل رأساً، فلا مجال لإجراء مقدمات الإنسداد أيضاً، لأن لازمه عدم ايكال الشارع تعين طريقه إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة في الإنسداد الاولى ولا إليه في الإنسداد في الطرق؛ فلا محيص إلا من الإحتياط في دائرة الطرق ولو تبعيضاً تخيير يا بلا تعيين حسب الفرض؛ وحينئذ لنا أن نقول: إن النوبة لا تنتهى إلى الإحتياط إلا بعد عدم ايكال الشارع إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة، ولازمه أيضاً عدم تخصيص الإحتياط في خصوص المظنون لما عرفت: أنه من تبعات الايكال إلى مقدمات الإنسداد ثانياً الايكال في سابقه ] إلى المقدمة الرابعة ؛ والفرض أنه مع ايكاله إليها لا يبقى مجال للإحتياط، كما لا مجال لإجراء مقدمات الإنسداد ثانياً مع الايكال في سابقه إلى المقدمة الرابعة ؛ ومع عدمه لا يختص أيضاً بما ظن [في ] حجيته بالإنسداد الثاني بخصوص الظنون.

ولا يقاس الترجيح في تعيين الحجة الشرعية على الترجيح في الأمور العادية ، فإنه في الأمور العادية يكفي أدنى مزية موافقة للغرض وميل النفس وملائمة الطبع لترجيح أحد الطرفين واختياره ، وأما الأمور الشرعية : فلابد من أن يكون الترجيح بما ثبت حجيته واعتباره شرعا أو عقلا ، ولا يكفي في الخروج عن الترجيح بلا مرجح مطلق المزية ما لم يقم دليل على وجوب الترجيح بها.

وإن كان المراد من الترجيح بمظنون الاعتبار ، هو أن القضية المهملة المرددة بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه تتعين في خصوص مظنون الاعتبار (1) بترتيب مقدمات انسداد آخر ، بأن يقال : إنا نعلم من مقدمات الانسداد المتقدمة أن الشارع جعل لنا حجة وطريقا إلى الأحكام المعلومة بالإجمال ، وقد انسد علينا باب العلم به لتردد الطريق المجعول بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، ولا يجوز لنا إهمال الطريق المجعول لأنه يلزم من إهماله إهمال الإحكام ، ولا يجوز أو لا يجب الاحتياط في جميع الأطراف : من مظنون الاعتبار أو مشكوكه وموهومه ، فالعقل يستقل حينئذ بتعين الأخذ بمظنون الاعتبار وترك المشكوك والموهوم ، ولو فرض تردد الظن بالاعتبار أيضا بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، فلا بد من إجراء مقدمات انسداد ثالث لتعيين النتيجة وانتهاء الأمر إلى اعتبار ظن واحد أو ظنون متعددة ، فيؤخذ بالجميع ، فيكون الترجيح بمظنون الاعتبار لقيام دليل قطعي على الترجيح به ،

ص: 316


1- أقول : لا مجال لجعل الانسداد في الطرق معينا لنتيجة الانسداد الجاري في الأحكام ، لأن انتهاء النوبة إلى الانسداد الثاني فرع عدم كون النتيجة الواصل بنفسه ، وذلك لا يمكن إلا بعدم ايكال العقل في الانسداد الأول بالمقدمة الرابعة ، وإلا يستقل العقل بالأخذ بالأقرب فالأقرب ، وربما يكون نفس الظن بالاعتبار طريقا إلى الأقربية - بالتقريب المتقدم - فمع حكمه به لا يبقى مجال لإهمال العقل وإجماله ، كي ينتهى النوبة إلى الانسداد الثاني ، ثم على فرض عدم الإيكال إلى المقدمة الرابعة لا مجال لكشف حجية الظن رأسا ، فالجمع بين حجية الظن وإهماله لا يخلو عن تهافت!.

وهو مقدمات الانسداد الثاني أو الثالث أيضا إن وصلت النوبة إليه.

فيرد عليه : أن إجراء مقدمات الانسداد الثاني والثالث يتوقف على بقاء النتيجة مهملة بحيث لا يمكن تعيينها إلا بمقدمات انسداد آخر ، وليس كذلك ، فإنه بمجرد عدم ثبوت مرجح لبعض أفراد الظنون يستقل العقل بعموم النتيجة لكل ظن ، لقبح الترجيح بلا مرجح ، فلا إهمال حتى نحتاج إلى مقدمات انسداد آخر.

فان قلت : يمكن قلب الدليل بأن يقال : إن حكم العقل بعموم النتيجة موقوف على ثبوت المرجح لبعض أفراد الظنون وبمعونة الانسداد الثاني يثبت المرجح لمظنون الاعتبار ، فيرتفع موضوع حكم العقل بالتعميم الذي كان مبنيا على قبح الترجيح بلا مرجح.

وبالجملة : كما يصح أن يقال : إن العقل يستقل بعموم النتيجة لكل ظن بمجرد عدم ثبوت المرجح لبعض أفراد الظنون فلا إهمال حتى نحتاج إلى دليل الانسداد ، كذلك يصح أن يقال : إن العقل يستقل ببركة مقدمات الانسداد بترجيح مظنون الاعتبار ، فلا قبح في ترجيحه ، فلا تعميم في النتيجة.

قلت : حكم العقل بالتعميم مقدم بالرتبة على حكمه بترجيح مظنون الاعتبار بمعونة مقدمات الانسداد الثاني ، لما عرفت سابقا : من أن نتيجة مقدمات الانسداد لابد من أن تكون واصلة إلى المكلف إما بنفسها وإما بطريقها (1) فإنه لا أثر لترتيب مقدمات لا تكون النتيجة منها واصلة لا بنفسها

ص: 317


1- أقول : قد عرفت سابقا : أن النوبة لا ينتهى إلى تشكيل مقدمات الانسداد في الطرق إلا في فرض كون النتيجة الطريق الواصل بطريقه ، وهو لا يمكن إلا بعدم ايكال الشرع في تعين طريقه في الانسداد الأول إلى المقدمة الرابعة ، وإلا فلا يبقى معه مجال الإهمال ، إذ العقل مستقل بالتعميم لو لم يكن في البين أقرب إلى الواقع أو ببدله ، فيعين فيه مع وفائه بالفقه ، فتكون النتيجة حينئذ الطريق الواصل بنفسه. كما أنّ الانسداد الثاني أيضا مشروط بإيكال العقل في تعيين الطريق في الانسداد الثاني إلى المقدمة الرابعة من الأخذ بما هو أقرب الطرق إلى الطريق المجعول بالانسداد الأوّل، و إلّا فلا يكاد ينتهى النوبة إلى جريان المقدمات في الطرق ، إلا مع الجزم بالايكال في أحد المراتب بالمقدمة الرابعة ، فلابد حينئذ من إجراء المقدمات إلى أن ينتهى هناك ، ومع عدم الايكال بالرابعة مطلقا ، فلابد من إجراء المقدمات إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو أمارة واحدة - ولو لم تكن ظنا - أو أمارات متساوية ، ومع عدم الانتهاء إليها فلا محيص من كون المرجع فيه الاحتياط تماما أو تبعيضا تخييريا ، كما لا يخفى.

ولا بطريقها ، وحيث استكشفنا من مقدمات الانسداد : أن الشارع جعل الظن في الجملة طريقا إلى إحراز الأحكام وتردد الطريق المجعول بين أفراد الظن ، فلابد وأن يستقل العقل إما بالتعميم لجميع أفراد الظن وإما بتعيين بعض أفراده ، ولكن حكم العقل بالتعيين يتوقف على ثبوت معين ومرجح لبعض الأفراد في تلك المرتبة - أي في مرتبة استكشاف النتيجة من المقدمات - وفي تلك المرتبة لم يكن ما يقتضي الترجيح والتعيين لبعض الأفراد ، بل ترجيح البعض يتوقف على ترتيب انسداد آخر ، وهو يتوقف على بقاء الإهمال والإجمال في الطريق المنصوب في المرتبة المتأخرة من أخذ النتيجة ، والعقل يستقل في المرتبة السابقة بعموم النتيجة ، لأنه في تلك المرتبة لم يثبت الترجيح ، فلا يبقى موضوع للانسداد الثاني ، فتأمل.

فتحصل : أن الوجوه الثلاثة التي ذكروها لترجيح بعض أفراد الظنون على بعض وتخصيص النتيجة بالبعض المعين - ردا على ما ذكره في وجه التعميم من عدم الترجيح لبعض الأفراد على بعض - كلها مخدوشة.

الوجه الثاني : ( من وجوه التعميم )

هو ما حكى عن بعض الأعلام : من أن القاعدة وإن كانت تقتضي الاقتصار على مظنون الاعتبار إذا كان وافيا بمعظم الأحكام ، إلا أنه يعلم إجمالا أن في مشكوك الاعتبار وموهومه مقيدات ومخصصات لمظنون الاعتبار ، فيجب

ص: 318

العمل بالجميع.

وفيه أولا : منع العلم الإجمالي. وثانيا : أنه يلزم الاقتصار على الأخذ بالمشكوكات أو الموهومات التي تكون كاشفة عن المرادات في مظنون الاعتبار ، ولا موجب للأخذ بجميع المشكوكات والموهومات ، فهذا الوجه لا يقتضي تعميم النتيجة إلى كل ظن.

الوجه الثالث :

ما حكى عن بعض المشايخ : من أن قاعدة الاشتغال تقتضي العمل بجميع أفراد الظنون ، لأن الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظن في الجملة ، وحيث إنه لم يكن في أفراد الظن ما يكون قدرا متيقنا وافيا بالأحكام ، فلابد من العمل بكل ما يحتمل الحجية.

وفيه : أن الاحتياط في المسائل الأصولية يرجع إلى الاحتياط في المسائل الفقهية (1) وقد تقدم ( في المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد ) بطلان الاحتياط في المسائل الفقهية.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه على فرض كون النتيجة مهملة لا سبيل إلى تعميمها بأحد الوجوه الثلاثة ، ولكن قد عرفت : أنه لا وجه لأن تكون النتيجة مهملة بعد البناء على بطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك ، وعلى فرض كون النتيجة مهملة ، فلابد من الاقتصار على العمل بالخبر الموثوق به ، لأنه هو القدر المتيقن في حال الانسداد

ص: 319


1- أقول : كم فرق بين دائرة الاحتياط في كلية الأحكام وبين دائرة الاحتياط بين الأمارات المثبتة ، وربما لا يستلزم الثاني حرجا بخلاف الأولى ، وقيام الإجماع على بطلان الاحتياط في الأولى أيضا لا يكاد يشمل الثاني ، لوجود القائل به هنا وكلامه هناك ، فتدبر. فالأولی في الجواب عنه يقال: بأن ايكال الشارع بالمقدمة الرابعة كما يتعين الظن يوجب بطلان الإحتياط في إجراء الإنسداد الثاني أيضاً، كما أشرنا إليه كراراً.

ويفي بمعظم الأحكام الشرعية.

ولا وجه لان يكون القدر المتيقن هو الخبر الصحيح الأعلائي باصطلاح المتأخرين وهو الواجد للقيود والشروط المتقدمة ، حتى يقال : إنه لا يفي بأقل قليل من الأحكام ، مع أنه لو سلم كونه هو المتيقن ، ففيما بين الأخبار التي دلت على حجية الخبر ما يكون واجدا للقيود والشروط ، فلا محيص من البناء على كون النتيجة خصوص الخبر الموثوق به ولو لم يعمل به الأصحاب ، لأنه المتيقن الحقيقي أولا ، والمتيقن الإضافي ثانيا ، وأنه مما قام ظن واحد على حجيته ثالثا.

فسواء قلنا بصحة مقدمات الانسداد أو لم نقل يكون الطريق المنصوب هو خبر الثقة ، وهو بحمد اللّه واف بمعظم الأحكام ، فلا محذور في الرجوع إلى الأصول العملية فيما لم يقم عليه خبر الثقة ، فتأمل جيدا.

الأمر الثالث :

قد وقع الإشكال في خروج العمل بالظن القياسي عن عموم العمل بالظن المستنتج اعتباره من دليل الانسداد بناء على الحكومة ، بتوهم : أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص ، فكيف يصح المنع عن الظن الحاصل من القياس مع استقلال العقل بكفاية الامتثال الظني في حال انسداد باب العلم وعدم جواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي.

وقد أجيب عن الإشكال بأجوبة متعددة ، من أراد الاطلاع عليها مع ما فيها فليراجع فرائد الشيخ قدس سره .

ولكن الإنصاف : أنه لا وقع لأصل الإشكال ، فان حكم العقل بكفاية الامتثال الظني من أول الأمر مقيد ومعلق على عدم قيام الدليل القطعي على المنع عنه في مورد ، مع أن القياس في الأحكام الشرعية ليس من السبب

ص: 320

العقلائي الذي يصح الاعتماد عليه (1) لعدم الإحاطة بمناطاتها ، بخلاف الأمور والأحكام العادية والعرفية ، فان ملاكاتها بيد العرف يمكن قياس بعضها على بعض ، بخلاف الأحكام الشرعية فان مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات ، والعقل إنما يستقل بكفاية الامتثال الظني إذا كان حاصلا من سبب عقلائي لا يكثر خطأه ، فمع قطع النظر عن قيام الدليل القطعي على المنع عن القياس ما كان العقل يحكم بكفاية الامتثال الظني الحاصل من القياس بعد التفاته إلى كثرة خطأه.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في خروج الامتثال الظني الحاصل من القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد.

نعم : ينبغي الإشكال في صحة أصل المنع عن العمل بالقياس كلية مع قطع النظر عن دليل الانسداد مع أنه قد يصيب الواقع. وحل الإشكال انما يكون بأحد أمرين : إما الالتزام بأن الأحكام الواقعية مقيدة بما إذا لم يؤد إليها القياس ، فلا يكون الحكم الواقعي في مورد القياس على طبق ما أدى إليه القياس فيكون النهى عن العمل به من باب الموضوعية ، وإما الالتزام بالمفسدة السلوكية على عكس المصلحة السلوكية التي كانت في باب الطرق والأمارات ، فيكون النهى عنه لمكان أن في العمل بالقياس وسلوكه وأخذه طريقا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، فتأمّل.

* * *

ص: 321


1- أقول : الأولى الاقتصار في الجواب بالجواب الأول من تعليقية حكمه ، وإلا فلو بنينا على منجزيته لا يفي هذا الجواب في دفعه ، لأن تمام المناط في نظر العقل هو قربه إلى الواقع لا جهة عقلائية ، وربما يكون الظن القياسي أقرب من غيره إلى الواقع ، كما لا يخفى. نعم : ربما يصير الالتفات إلى كثرة خطائه موجبا لعدم حصول الظن منه وأين ذلك ومحل البحث!
الأمر الرابع :

في الظن المانع والممنوع.

وفيه وجوه :

والأقوى : اعتبار الظن المانع دون الظن الممنوع ، فان حال الظن الممنوع حال الظن القياسي مما قام الدليل القطعي على المنع عنه وعدم اعتباره ، وهو الظن المانع ، فإنه مما تعمه نتيجة دليل الانسداد بلا مؤنة ، بخلاف الظن الممنوع ، حيث إن اندراجه في النتيجة يتوقف على خروج الظن المانع عنها ، فيكون حال الظن المانع والممنوع حال الأصل السببي والمسببي (1) وسيأتي في محله أن الأصل السببي يمنع عن جريان الأصل المسببي ، ولا يمكن العكس ، لأن اندراج الأصل السببي في عموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لا يحتاج إلى مؤنة ، بخلاف اندراج الأصل المسببي ، فان شمول خطاب « لا تنقض اليقين » له يتوقف على خروج الأصل السببي عن العموم ، ومن المقرر في محله : أنه إذا توقف شمول العام لفرد على خروج فرد آخر عنه فالعام لا يشمل ذلك الفرد ، لا أنه يشمله ويخرج ما يكون داخلا فيه بلا مؤنة ، فان العام إنما يشمل الأفراد التي تكون متساوية الأقدام بالنسبة إلى اندراجها تحت عنوان العام ، وسيأتي توضيح ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في محله ، والظن المانع والممنوع يكونان من هذا القبيل.

ودعوى : أنه لا يمكن حصول الظن بعدم حجية ظن آخر ، مخالفة

ص: 322


1- أقول : الأولى بناء على تعليقية حكم العقل في باب الانسداد أن يقال : إن المقتضى في الظن الممنوع تعليقي وفي المانع تنجيزي ، إذ لا مانع عنه غير الظن الممنوع الذي لا يشمله الدليل باقتضائه إلا في ظرف عدم تأثير المقتضى في المانع ، وكل مورد كان من هذا القبيل يستحيل مانعيته ، لأنه دوري ، فمقتضى التنجيزي يؤثر أثره. وهذا التقريب أولى من تنظير المقام بباب الشك السببي والمسببي ، حيث هنا عموم دائر بين التخصيص ولا عموم في المقام ، كما لا يخفى.

للوجدان لا ينبغي الالتفات إليها. وبما ذكرنا يظهر ضعف ما قيل في المقام ، فراجع.

خاتمة
يذكر فيها أمور :

ونحن نقتصر على الإشارة إليها ، لأنه قد تقدم جملة منها في المباحث السابقة ، وجملة منها لا تستحق إطالة الكلام فيها ، وإن كان الشيخ قدس سره قد أطنب البحث فيها.

الأوّل : في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في معاني الألفاظ الواردة في الروايات. وقد تقدم البحث عما قيل أو يمكن أن يقال في وجه ذلك.

الثاني : في حجية الظن بوثاقة الراوي الحاصل من توثيق أهل الرجال. وتقدم أن الأقوى اعتبار الظن بذلك ، لأنه يوجب حصول الوثوق بصدور الرواية ، ومعه لا حاجة إلى دعوى انسداد باب العلم غالبا بوثاقة الراوي من غير طريق إخبار أهل الرجال ولا يحصل من إخبارهم غالبا سوى الظن ، فلو لم يكن الظن حجة يلزم إهمال ما تضمنته الأخبار من الأحكام ، أو الرجوع إلى الأصول ، أو الاحتياط ، إلى آخر ما تقدم في مقدمات دليل الانسداد.

وهذه الدعوى وإن كانت في محلها - كما تقدم سابقا - إلا أنه لا يتوقف اعتبار الظن الحاصل من قول أهل الرجال عليها ، بل لو فرض انفتاح باب العلم بوثاقة الرواة كان الظن بالوثاقة أيضا حجة ، لأنه يوجب الوثوق بالصدور الذي هو المناط في حجية الروايات.

ص: 323

الثالث : انسداد باب العلم في بعض موضوعات الأحكام لا يوجب اعتبار الظن فيه (1) فإنه لا يلزم من الرجوع إلى الأصول أو الاحتياط فيها محذور ، إلا إذا تولد من الظن فيها عنوان آخر كان هو الموضوع للحكم ك « باب الضرر » فان الظن بتحقيق الضرر يلازم الخوف الذي هو الموضوع في الحقيقة ، بل قد يحصل الخوف من الشك أيضا.

الرابع : لا عبرة بالظن في باب الأصول والعقايد ، فإنه لابد فيها من تحصيل العلم ، وفي الموارد التي انسد فيها باب العلم يمكن الالتزام وعقد القلب بها على سبيل الإجمال ، بمعنى أنه يلتزم بالواقعيات على ما هي عليها. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في هذا المقام بلا موجب.

وليكن هذا آخر ما أردنا ذكره من المباحث المتعلقة بالظن.

والحمد لله أولا وآخرا.

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين

واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 324


1- أقول : لا يخفى أن لازم مقالة القائل بالتبعيض في الاحتياط ومرجعية الظن في مقام الإسقاط : أن يلتزم في الموضوعات عند الاضطرار بغير المعين الأخذ بطرف المظنون لو كان ، لجريان تمام مقدماته فيه ، ولا أظن التزامه به ، وليس ذلك إلا من جهة منع تمامية المقدمة الرابعة في تعيين الظن في مقام إسقاط التكليف به ، ولعمري! أن ذلك من الشواهد على بطلان مسلك التبعيض في باب الانسداد ، علاوة عما ذكرنا : من أن لازم التعيين في الظن والترخيص في غيره مطلقا - كما هو ظاهر كلامه - سقوط العلم عن المنجزية رأسا ، مضافا إلى أن مقتضى محذور الخروج عن الدين - ولو لم يكن علم إجمالي - وجود منجز آخر في البين ، ومعه ينحل العلم الإجمالي رأسا ولا يبقى معه أثر ، وحينئذ كان لتعيين المنجز الآخر بالمقدمة الرابعة مجال. وبهذا البيان أيضاً قلنا ببطلان الإحتياط رأساً حتی تبعيضاً، كما لا يخفی؛ فتدبر، ولقد أشرنا إلی وجه التأمل في بعض الحواشي السابقة.
المقام الثالث: في الشك
اشارة

وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :

الأمر الأوّل :

ان الشك في الشيء قد يؤخذ موضوعا للحكم الواقعي كالشك في عدد ركعات الصلاة ، حيث إنه يوجب تبدل الحكم الواقعي إلى الركعات المنفصلة. وقد يؤخذ موضوعا لحكم ظاهري ، وهو المقصود بالبحث في المقام.

ومتعلق الشك قد يكون حكما جزئيا أو موضوعا خارجيا ، وقد يكون حكما كليا - على ما مر منا مرارا من بيان الفرق بين الحكم الجزئي والكلي - والغرض من البحث إنما هو بيان ما هو الوظيفة عند الشك في الحكم الكلي ، وقد يبحث عن الشك في الحكم الجزئي أو الموضوع الخارجي استطرادا.

والوظيفة المقررة لحال الشك هي الأصول العملية ، وهي على قسمين : منها : ما تختص بالشبهات الخارجية كأصالة الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز ومنها : ما تعم الشبهات الحكمية ، وعمدتها الأصول الأربعة ، وهي : الاستصحاب والتخيير والبرائة والاحتياط ، وقد تقدم في صدر الكتاب بيان مجاريها ، وإجماله : هو أنه إما أن يلاحظ الحالة السابقة للشك ، أولا. وعلى الثاني : إما أن يكون التكليف معلوما بفصله أو نوعه أو جنسه. أولا. وعلى

ص: 325

الأوّل : إما أن يمكن فيه الاحتياط ، أولا. فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة.

الأمر الثاني :

ظاهر كلام الشيخ قدس سره في المقام وفي مبحث « التعادل والتراجيح » أن الوجه في التنافي بين الأمارات والأصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والأصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

والتحقيق : أن التنافي بين الإمارات والأصول غير التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين ، فان التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري إنما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة والوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكية والخطابية المتقدمة ، وقد تقدم طريق الجمع بينهما ، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والأصول؟ فإنه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشك ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلا الطريقية والوسطية في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى ، ووجه التنافي بينها وبين الأصول إنما هو لمكان أنه لا يجتمع إحراز المؤدى في مورد الشك فيه مع إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إذا كانت الوظيفة المقررة على خلاف مؤدى الأمارة ، ورفع التنافي بينهما إنما هو لحكومة الأمارات على الأصول (1) وسيأتي

ص: 326


1- 1 - أقول : ما هو صريح كلمات « شيخنا العلامة » في المقام وفي باب « التعادل والتراجيح » هو أن مفاد الأصول حكم ثابت في ظرف الشك بالحكم الواقعي ومفاد الأمارة نفس الحكم الواقعي ، فقهرا يكون مفاد الأصول بحسب الرتبة متأخرة عن مفاد الأمارة ، ولازم هذا التأخير : أنه لو فرض قيام دليل على الأمارة كان رافعا لموضوع الأصل إن كان علميا وجدانيا ، وإلا كان حاكما عليه ، ومن هذا البيان ظهر : أنه قدس سره ما التزم بالتنافي بين مفاد الأصل ومفاد نفس الأمارة وبين الحكم الواقعي والظاهري من جهة اختلاف الرتبة وأنّ هذا الإختلاف يوجب « الحكومة » أو « الورود » بين دليلهما ، فجعل وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري نفس اختلاف الرتبة ، ووجه الجمع بين دليلهما حكومة أحدهما على الآخر بلا اشتراك بين المقامين في وجه الجمع وتناف بين المدلولين بنفسهما مع قطع النظر عن دليلهما ، فمن أين ظهر : أن وجه التنافي بين المقامين واحد ووجه الجمع واحد؟ إذ صريح كلامه منع التنافي بين المدلولين لمحض اختلاف الرتبة وأن هذا الاختلاف الرتبي موجب للجمع بين دليلهما بالحكومة أو الورود ، فتأمل في كلماته ، لعمري! أن هذا المقدار واضح لا يستأهل ردّاً.

تفصيل ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في آخر الاستصحاب.

وإجماله : هو أن الأمارات إنما تكون رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، لا رفعا وجدانيا بنفس التعبد بالأمارة ، بل رفعا تعبديا بثبوت المتعبد به ، وبذلك تفترق « الحكومة » عن « الورود » كما يفترق « الورود » عن « التخصيص » بأن خروج فرد عن موضوع الحكم في « الورود » إنما يكون بعناية التعبد ، وفي « التخصص » بلا عناية التعبد ، بل بالتكوين ، كخروج الجاهل عن العالم ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاستصحاب ، وبينا الوجه في حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، فراجع.

الأمر الثالث :

لا يجوز إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إلا بعد الفحص واليأس عن وجود أمارة على أحد طرفي الشك ، لما عرفت : من أن الأمارات تكون حاكمة على الأصول ، فلا يجوز الاعتماد على الأصول مع احتمال وجود أمارة في مورد الشك إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأمارة ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

الأمر الرابع :

قد عرفت : أن الوظيفة المقررة للشاك إنما هو الأصول العملية ، والتي

ص: 327

تجرى في الشبهات الموضوعية والحكمية وتعم بها البلوى وتطرد في جميع أبواب الفقه تنحصر في الأصول الأربعة ، وهي : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، وحيث إن مباحث التخيير قليلة لا يستحق إفراد فصل يخصه ، فالأولى التعرض لمباحثه في ضمن مباحث البراءة ، وعقد فصول ثلاثة للبرائة والاشتغال والاستصحاب.

الأمر الخامس :

قد تقدم : أن مجرى البراءة إنما هو الشك في التكليف ، وهو على أقسام : لأن الشك قد يكون في التكليف النفسي الاستقلالي وقد يكون في التكليف الغيري ، وعلى كلا التقديرين قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية ، والشبهة الحكمية قد تكون وجوبية وقد تكون تحريمية ، ومنشأ الشك في الشبهة الحكمية تارة : يكون فقد النص ، وأخرى : يكون إجمال النص ، وثالثة : يكون تعارض النصين ، ومناط البحث في جميع هذه الأقسام وإن كان متحدا ، إلا أنه قد يكون لبعض هذه الأقسام خصوصية تقتضي إفراد البحث عنه ، فالأولى : إفراد البحث عن كل واحد من هذه الأقسام بخصوصه ، وسيأتي أن محل النزاع بين الأصولي والأخباري خصوص الشبهات التحريمية الحكمية ، دون سائر الإقسام.

الأمر السادس :

قد يتوهم : أن البحث عن مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة يغنى عن البحث عن مسألة البراءة والاشتغال ، بل البحث عن إحدى المسألتين عين البحث عن الأخرى ، فلا وجه لعقد مسألتين يبحث في إحديهما عن الحظر والإباحة وفي الأخرى عن البراءة والاشتغال.

ولكن التحقيق : أن البحث عن إحديهما لا يغني عن البحث عن

ص: 328

الاخرى ، لأن جهة البحث عن كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة تغاير جهة البحث عن أصالة البراءة والاشتغال من وجهين :

أحدهما : ان البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الأولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأولية ، فللقائل بالإباحة في تلك المسألة أن يختار الاشتغال في هذه المسألة وبالعكس.

ثانيهما : أن البحث عن الحظر والإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان الخارجية من حيث كونه تصرفا في ملك اللّه تعالى وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث إنه فعله وإن لم يكن له تعلق بالأعيان الخارجية كالتغني ، فتأمل.

وقد يقال : إن البحث عن مسألة الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء قبل ورود البيان من الشارع ، والبحث عن البراءة والاشتغال بعد ورود البيان. وهذا بظاهره فاسد إن أريد من القبلية والبعدية الزمانية ، إلا أن يكون المراد أن البحث عن مسألة الحظر والإباحة إنما هو بلحاظ ما يستقل به العقل مع قطع النظر عن ورود البيان من الشارع في حكم الأشياء ، والبحث عن البراءة والاشتغال إنما يكون بعد لحاظ ما ورد من الشارع في حكم الأشياء ، وعلى كل تقدير : لا تلازم بين المسألتين فضلا عن عينية إحديهما للأخرى.

نعم : من قال في مسألة الحظر والإباحة بالحظر ، عليه إقامة الدليل على انقلاب الأصل إلى البراءة ، ومن قال في تلك المسألة بالإباحة فهو في فسحة عن إقامة الدليل على البراءة ، بل على الطرف إقامة الدليل على الاشتغال ، فالذي اختار في مسألة الحظر والإباحة أحد الطرفين قد يستغنى عن إقامة الدليل على ما يختاره في مسألة البراءة والاشتغال ويكون على الخصم إقامة الدليل على مدعاه ، وقد لا يستغنى ذلك ، فتأمل جيّداً.

ص: 329

الأمر السابع :

قد يتوهّم : أنه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هو الاحتياط ، فعلى الأصولي القائل بالبرائة إقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة بعد الفحص إلى البراءة والأخباري في فسحة عن ذلك.

ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، فان لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص إنما يكون بمناط تكون الشبهة فاقدة له بعد الفحص ، فان استقلال العقل بوجوب الفحص في الشبهات إنما يكون لوجهين : أحدهما ثبوت العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية فيما بين الشبهات. ثانيهما حكم العقل بوجوب إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته : من السؤال والفحص عن مرادات المولى وعدم الاعتماد على أصالة العدم ، فان الطريقة المألوفة بين العبيد والموالي العرفية هي ذلك - وقد تقدم في بعض المباحث السابقة توضيح ذلك - وهذان الوجهان لا يجريان بعد الفحص ، لانحلال العلم الإجمالي بالفحص وإعمال العبد على ما تقتضيه وظيفته ، فعلى الإخباري أيضا إقامة الدليل على اتحاد حكم الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص ، كما أنه على الأصولي إقامة الدليل على البراءة.

إذا عرفت ذلك ، فلنشرع فيما يتعلق بالفصل الأول من المقام الثالث من المباحث.

المبحث الأوّل
اشارة

في حكم الشك في التكليف في الشبهة التحريمية لأجل فقدان النص.

والأقوى : أنه تجرى فيه البراءة وفاقا لقاطبة الأصوليين خلافا لقاطبة

ص: 330

الأخباريين.

وقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة.

أمّا الكتاب : فبآيات منها : قوله تعالى « لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها » (1) والاستدلال بها مبنى على أن يكون المراد من « الموصول » التكليف ومن « الايتاء » الوصول والإعلام ، فيكون المعنى « لا يكلف اللّه نفسا إلا بتكليف واصل إلى المكلف » وفي حال الشك لا يكون التكليف واصلا ، فلا تكليف.

وفيه أولا : أن المحتملات في الموصول ثلاثة : أحدها : ما ذكر في تقريب الاستدلال. ثانيها : أن يكون المراد من « الموصول » المال ومن « الايتاء » الملك ، فيكون المعنى : « لا يكلف اللّه نفسا بمال إلا بما ملكه » ثالثها : أن يكون المراد من « الموصول » مطلق الشيء ، ومن « الايتاء » الإقدار ، أي « لا يكلف اللّه نفسا بشيء إلا بما أقدرها ومكنها عليه ».

والآية المباركة ليس لها ظهور في الوجه الأول ، بل يمكن أن يقال بظهورها في الوجه الثالث ، لظهور « الموصول » في كونه مفعولا به ، وعلى الوجه الأول لابد وأن يكون « الموصول » مفعولا مطلق ، لأنه لا يعقل أن يتعلق التكليف بالتكليف إلا على وجه تعلق الفعل بالمفعول المطلق.

ولا يمكن أن يراد من « الموصول » الأعم من التكليف والمال والشيء (2) فإنه لا جامع بين المفعول به والمفعول المطلق ، لأن نحو تعلق الفعل بالمفعول به يباين نحو تعلقه بالمفعول المطلق.

ص: 331


1- سورة الطلاق الآية 7.
2- أقول : لو لم نقل بأن تعلق الفعل بالجامع بين المفاعيل تعلق آخر غير مرتبط بأحد التعليقات الثلاثة ، مع أنه لو كان ذلك بنحو الدالين والمدلولين لا بأس بتعلقه بالموصول المتخصص بالخصوصيات بدال آخر ، وكان تعلقه بكل خاص نحوا من التعلق غير الآخر ، كما لا يخفى.

نعم : ربما يستظهر من استشهاد الامام علیه السلام بالآية المباركة عن السؤال عن تكليف الناس بالمعرفة ، وجوابه علیه السلام « لا ، على اللّه البيان - لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها » (1) أن المراد من « الموصول » التكليف ، لا المال ولا مطلق الشيء ، فيكون المراد من « الايتاء » الوصول والإعلام ، وإن كان يمكن أن يقال : إن المراد من المعرفة المسؤول عنها المعرفة التفصيلية بصفات الباري وأحوال الحشر والنبوة الخاصة ونحو ذلك ، لا المعرفة الإجمالية بوجود الباري تعالى ، فان المعرفة الإجمالية لا يمكن أن يتعلق التكليف بها إلا على وجه دائر ، والمعرفة التفصيلية لا يمكن إلا باقدار اللّه تعالى عليها ، لأنه لا يتمكن العبد من ذلك إلا بعناية اللّه تعالى وإقداره ، هذا.

ولكن الإنصاف : أنه يمكن أن يراد من « الموصول » الأعم من التكليف وموضوعه ، وايتاء كل شيء إنما يكون بحسبه ، فان إيتاء التكليف إنما يكون بالوصول والإعلام ، وايتاء المال إنما يكون باعطاء اللّه تعالى وتمليكه ، وايتاء الشيء فعلا أو تركا إنما يكون باقدار اللّه تعالى عليه ، فان للايتاء معنى ينطبق على الإعطاء وعلى الإقدار ، ولا يلزم أن يكون المراد من « الموصول » الأعم من المفعول به والمفعول المطلق ، بل يراد منه خصوص المفعول به.

وتوهم : أن المفعول به لابد وأن يكون له نحو وجود وتحقق في وعائه قبل ورود الفعل عليه ويكون الفعل موجبا لايجاد وصف على ذات المفعول به التي كانت مفروضة التحقق والوجود (2) كزيد في قولك : « إضرب زيدا » فان زيدا كان موجودا قبل ورود الضرب عليه - وعلى ذلك يبتني إشكال « الزمخشري » في

ص: 332


1- 1 - أصول الكافي : كتاب التوحيد ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث 5
2- أقول : لو كان المراد من التكليف معناه اللغوي من الكلفة فلا بأس بجعل « الموصول » عبارة عن الخطاب والحكم مع الالتزام بهذه القاعدة في المفعول به بلا عناية ، إذ معنى الآية حينئذ « إن اللّه لا يوقع العباد في كلفة حكمه وخطابه إلا خطابا أعلمه لهم وآتاهم » وهذا المقدار يكفي للقائل بالبرائة.

قوله تعالى : « خلق اللّه السماوات » من أنه لا يمكن أن تكون السماوات مفعولا به لأنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق عليها مع أن المشهور جعلوا السماوات مفعولا به فعلى هذا لا يمكن أن يتعلق التكليف بالتكليف على نحو تعلق الفعل بالمفعول به لأنه ليس للتكليف نحو وجود سابق عن تعلق التكليف به بل وجوده إنما يكون بنفس إنشاء التكليف لأن المفعول المطلق من كيفيات الفعل فلا يمكن وجوده قبله - فاسد ، فان المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية ، مثلا الوجوب والتحريم وإن كان وجودهما بنفس الإيجاب والإنشاء وليس لهما نحو تحقق في المرتبة السابقة ، إلا أنهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصح تعلق التكليف بهما. نعم : هما بمعنى المصدر لا يصح تعلق التكليف بهما ، فتأمل.

وثانيا : على فرض ظهور الآية الشريفة في إرادة التكليف من « الموصول » وإرادة الوصول والإعلام من « الايتاء » فأقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو أن المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلا بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد (1) وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها ، فالآية المباركة لا تدل على البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالى : « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » (2).

وقد قيل : إن هذه الآية أظهر الآيات التي استدل بها للبرائة.

وأنت خبير : بأن مفادها أجنبي عن البراءة ، فان مفادها الأخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجة ، كما هو حال الأمم السابقة ، فلا دلالة لها على

ص: 333


1- أقول : إذا كان المراد من بعث الرسل إتمام الحجة بالايصال إليهم يكفي هذا المقدار للقائل بالبرائة. نعم : لو كان المراد مجرد بعث الرسل واقعا ولو لم يصل إلى العباد لا يفيد ذلك للبرائة ، ولكن بهذا المعنى لا يصح حتى بالنسبة إلى الأمم السابقة ، كما لا يخفى.
2- سورة الإسراء الآية 15.

حكم مشتبه الحكم من حيث إنه مشتبه ، فهي أجنبية عما نحن فيه.

كما أن مفادها أجنبي عما زعمه الأخباريون : من دلالتها على نفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بتقريب : أن الملازمة تقتضي ثبوت العذاب عند استقلال العقل بقبح شيء ولو مع عدم بعث الرسل والآية تنفى العذاب مع عدم بعث الرسل فلا ملازمة بين حكم العقل والعذاب ويلزمه عدم الملازمة بين حكمه وحكم الشرع وإلا لما احتاج التعذيب إلى بعث الرسل.

وأنت خبير : بأن الرسول في الآية الشريفة كناية عن الحجة ، فيعم الرسول الباطني والرسول الظاهري.

وقد قيل في رد مقالة الأخباريين : إن أقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو نفي فعلية التعذيب قبل بعث الرسل ، والملازمة المدعاة إنما هي بين حكم العقل واستحقاق العقوبة ، ونفى فعلية العذاب لا يقتضي نفي الملازمة ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقل بقبحه العقل وكانت مخالفة الحكم الشرعي تقتضي استحقاق العقوبة ، ولكن الشارع تفضل بالعفو وأخبر به ، كما تفضل بالعفو عن نية السيئة (1) وكما تفضل بالعفو عن الصغائر عند الاجتناب عن الكبائر (2) وكما تفضل بالعفو عن الظهار مع حرمته (3) على ما قيل.

ولا يخفى ما فيه - أما أولا فلأن الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأن مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه (4) لأن النزاع في البراءة إنما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه ، لا في

ص: 334


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 6 و 7 و 8 و 10.
2- الوسائل : الباب 45 من أبواب جهاد النفس الحديث 4 و 5.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب الظهار الحديث 2.
4- أقول : ذلك كذلك لولا دعوى عدم القول بالفصل بين نفي الفعلية في الشبهات مع نفي الاستحقاق بين المجتهدين والأخباريين - كما هو المدعى في كلماتهم - فراجع.

فعلية العقاب ، فالاستدلال بها على البراءة يتوقف على أن يكون المراد من نفي العذاب نفي الاستحقاق ، وذلك ينافي رد مقالة الأخباريين المنكرين للملازمة بما تقدم : من أن المراد من نفي العذاب نفي الفعلية لا الاستحقاق ، وإلى ذلك ينظر كلام المحقق القمي (رحمه اللّه) حيث قال : « إن من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين ».

وأما ثانيا : فلأن الحرمة الشرعية مع إخبار الشارع بنفي التعذيب والتفضل بالعفو لا يجتمعان ، لأنه يلزم أن يحمل الشارع العباد على التجري بفعل الحرام ، فان الإخبار بالعفو يوجب إقدامهم على فعل الحرام المعفو عنه ، فيلزم لغوية جعل الحرمة (1).

نعم : لا مانع من الإخبار بالعفو بالنسبة إلى المعصية التي لا يكون الإخبار به موجبا للتجري وإقدام العباد عليها ، كالإخبار بالعفو عن نية السيئة ، فان المخبر به هو العفو عن نية السيئة المجردة عن تعقبها بالسيئة ، ولا يمكن للعبد التجري على ذلك ، فان القصد والتجري على النية المجردة لا يعقل ، إذ لا يتحقق العزم على العزم المجرد.

وكالإخبار بالعفو عن الصغاير عند الاجتناب عن الكبائر ، فان المخبر به هو العفو عن الصغاير إذا كان العبد مجتنبا عن الكبائر ما دام العمر وفي تمام أزمنة حياته (2) ولا يمكن بحسب العادة أن يعتقد الشخص أنه يجتنب عن الكبائر في مدة حياته حتى يتحقق منه التجري والإقدام على الصغاير اعتماداً

ص: 335


1- أقول : يكفي في صحة جعله إحداث موضوع العفو وإبراز مقام الغفورية ، إذ فيه مصلحة ظاهرة يكفي لتصحيح إنشاء الحرمة في مورد مع العفو ، فلا يلزم من كشف العفو عن عدم الحرمة ، كما توهم في الظهار نعم : الأولى أن يقال : إن الظاهر من الآية والتعبير ب « ما كنا معذبين » أن مثل هذا ليس شأننا وهذا غير باب العفو الذي شأنهم العذاب مع عفوه عنهم رأفة ورحمة ، كما لا يخفى.
2- أقول : في هذا الشرط نظر.

على العفو عنها ، لأنه بعد التفاته إلى أن العفو عنها مشروط بعدم ارتكاب الكبيرة أبدا ما دام العمر لا يمكن أن يكون الإخبار بالعفو موجبا لتجريه.

وأما العفو على الظهار فلم يثبت وإن قيل به ، وآية الظهار لا تدل على ذلك ، ولو ثبت العفو عنه فلابد من القول بعدم حرمته.

ثم إنه قد استدل للبرائة بآيات اخر لا دلالة لها على ذلك.

فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان الأخبار التي استدل بها للبرائة. أظهرها وعمدتها « حديث الرفع » وهو قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق » (1)

واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغنى عن التكلم في سنده ، مع أنه من الصحاح ، فالمهم بيان فقه الحديث وما يستفاد منه ، وذلك يتم برسم أمور :

الأمر الأوّل :

لا يصح استعمال « الرفع » وكذا « الدفع » إلا بعد تحقق مقتضى الوجود ، بحيث لو لم يرد الرفع أو الدفع على الشيء لكان موجودا في وعائه المناسب له ، سواء كان وعائه وعاء العين والتكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، لوضوح أن كلا من الرفع والدفع لا يرد على ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود ، فالعناية المصححة لاستعمال كلمة « الرفع » و « الدفع » إنما هي بعد فرض ثبوت مقتضى الوجود ، وهذا المقدار مما لا بد منه في صحة استعمالهما ، وبعد ذلك يفترق « الرفع » عن « الدفع » فان استعمال « الرفع » إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في

ص: 336


1- الخصال : باب التسعة الحديث 9.

المرتبة السابقة عن ورود الرفع ، و « الدفع » يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضى لوجود الشيء قبل إشغاله لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له ، فيكون الرفع مانعا عن استمرار الوجود ، والدفع مانعا عن تأثير المقتضى للوجود.

ولكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحة استعمال « الرفع » بدل « الدفع » على وجه الحقيقة بلا تصرف وعناية ، فان الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة (1) لأن بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علة البقاء وإفاضة الوجود عليه من المبدء الفياض في كل آن ، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق ، فاستعمال « الرفع » في مقام « الدفع » لا يحتاج إلى علاقة المجاز ، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا ، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، لأن غلبة استعمال « الرفع » فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره في ذلك.

ومما ذكرنا من معنى « الرفع » و « الدفع » يظهر : أنه لا مانع من جعل « الرفع » في الحديث المبارك بمعنى « الدفع » في جميع الأشياء التسعة المرفوعة ، ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة ، ولا في الإسناد.

أما عدم المجازية في الإسناد : فلما سيأتي من أن إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار.

وأما في الكلمة : فلما عرفت : من أن حقيقة الرفع هي الدفع ، فيكون المراد من رفع التسعة دفع المقتضى عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة.

ص: 337


1- أقول : ذلك كذلك لو كان مصحح صدق « الرفع » مجرد منع المقتضى عن تأثيره ، وإما لو قلنا بأن المصحح في صدقه علاوة عن ذلك عدم قصور في تأثير المقتضى في زمان سابق عن وروده قبل « الدفع » المعتبر فيه المقارنة ، فلا مجال حينئذ لتصحيح صدقه على الدفع بتدريجية إفاضة الفيض عليه ، إذ تشبه ذلك باثبات اللغة بالعرفان!.

غايته أنه في الثلاثة الأخيرة - وهي الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق - يكون المراد دفع المقتضى عن تأثيره في أصل تشريع الحكم وجعله فيها مع ثبوت المقتضى له منة على العباد وتوسعة عليهم ، وسيأتي بيان المراد من الحكم الذي كان له اقتضاء الجعل والتشريع في الحسد وأخويه.

وفي غير « ما لا يعلمون » من الخمسة الاخر - وهي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطروا إليه - يكون المراد دفع تأثير المقتضى عن شمول الحكم واطراده لحال النسيان والاضطرار والإكراه والخطأ وما لا يطاق ، فتكون نتيجة الدفع تخصيص الحكم بما عدا هذه الموارد ، وسيأتي أن التخصيص في ذلك يكون من التخصيص الواقعي وليس من التخصيص الظاهري.

وفي « ما لا يعلمون » يكون المراد دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيرها في ايجاب الاحتياط ، مع أن ملاكاتها كانت تقتضي ايجاب الاحتياط (1).

ويظهر من الشيخ قدس سره : أن « الدفع » من أول الأمر ورد على ايجاب الاحتياط ، لا أنه ورد على مقتضيات الأحكام الواقعية من حيث تأثيرها في ايجاب الاحتياط.

قال قدس سره : « وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم ايجاب الاحتياط والتحفظ فيه الخ ».

ولا يخفى ما فيه من المسامحة ، فان المراد من « الموصول » في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » نفس الأحكام الواقعية ، لأنها هي

ص: 338


1- أقول : ليس المراد نفي نفس المقتضيات الواقعية جزما ولا تأثيرها في الأحكام الواقعية كذلك ، بل المراد نفي « ما لا يعلمون » بالعناية ، باعتبار نفي تأثيرها الذي هو عين أثرها من إيجاب الاحتياط ظاهرا ، ومرجع كلام الشيخ قدس سره أيضا إلى ذلك ، فتدبر فيه.

المجهولة ، وما أريد من « الموصول » هو المرفوع ، فلابد وأن يرد الرفع على الحكم الواقعي (1) وإن كانت نتيجة رفعه عدم ايجاب الاحتياط ، لأنه لا يمكن رفعه حقيقة عن موطنه وهو عالم التشريع ، وإلا يلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، وهو ينافي ما عليه أصول المخطئة.

وورود الرفع على الأحكام الواقعية على وجه ينتج عدم ايجاب الاحتياط لا يمكن إلا بأن يراد دفع الأحكام الواقعية عن تأثير مقتضياتها في ايجاب الاحتياط ، وتكون النتيجة الترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها.

وتوضيح ذلك : هو أن أدلة الأحكام لما كانت قاصرة لأن تتكفل بيان وجود الأحكام في زمان الشك فيها - كما أن نفس الجعل والتشريع الأول للأحكام لا يمكن أن يتكفل لحال الشك فيها - فلابد من جعل ثانوي يكون هو المتكفل لبيان صورة الشك في الحكم من ثبوته وعدم ثبوته ، فيكون هذا الجعل الثانوي متمما للجعل الأولى ليس له ملاك يخصه ، نظير ما دل على اعتبار قصد التقرب في العبادات ، حيث إن الأمر الأولى لا يمكن أن يتكفل ببيان اعتبار ذلك ، بل لابد من جعل ثانوي يتكفل ببيان ذلك ويكون من متممات الجعل الأولى ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه في كثير من الموارد نحتاج إلى متمم الجعل بجعل ثانوي.

والحكم الذي يتكفله الجعل الثانوي يختلف ، فقد يكون حكما واقعيا بإضافة قيد في المأمور به الواقعي ، مثل ما دل على اعتبار قصد التقرب ، ومثل ما

ص: 339


1- أقول : الأولى أن يقال : لو كان المراد من « الرفع » الرفع الحقيقي كيف يعقل وروده عن الحكم الواقعي في ظرف الجهل به؟ إذ العدم في ظرف الجهل بشيء يستحيل وروده على الشيء الملحوظ في الرتبة السابقة عن الجهل بنفسه ، فلا محيص من كون المراد به رفعه بالعناية ، ومرجعه إلى رفع أثره حقيقة ، فالرفع الحقيقي متوجه إلى إيجاب الاحتياط بدوا ، بلا توجيهه إلى « ما لا يعلمون » ولو بنينا على التصويب واختصاص الحكم بالعالمين ، فتدبر تعرف.

دلّ على اعتبار غسل المستحاضة قبل الفجر.

وقد يكون حكما طريقيا ، مثل ما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم.

وقد يكون حكما ظاهريا ، وهو ما إذا اخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه ، فان الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون حكما واقعيا ، بل لابد أن يكون حكما ظاهريا ، على اختلاف مفاده ، فقد يكون مفاده وضع الحكم الواقعي في موطن الشك بجعل ايجاب الاحتياط ، وقد يكون مفاده رفع الحكم الواقعي بلسان الحل والترخيص ، كقوله - علیه السلام « كل شيء لك حلال » أو بلسان الرفع ، كقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي تسعة أشياء » ومنها ما لا يعلمون.

وهذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف ملاكات الأحكام الواقعية ومناطاتها ، فقد يكون الملاك بمرتبة من الأهمية في نظر الشارع يقتضي جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الشك تحرزا عن الوقوع في مخالفة الواقع.

وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، فللشارع الترخيص في ارتكاب الشبهة منة على العباد وتوسعة عليهم ، لأنه كان له التضييق عليهم بالزامهم على حفظ الملاكات بأي مرتبة كانت على أي وجه اتفق ولو بالاحتياط مطلقا في جميع موارد الشك ، ولكن الملة السهلة السمحة اقتضت عدم ايجاب الاحتياط ورفع تأثير المقتضيات والملاكات عن اقتضائها ايجاب الاحتياط ، ولازم ذلك : عدم المؤاخذة على الاقتحام في الشبهة لو صادف كونه مخالفا للواقع واتفق كون الشبهة من المحرمات الواقعية.

وبذلك تمتاز البراءة الشرعية عن البراءة العقلية ، فان البراءة العقلية عبارة عن قبح المؤاخذة بلا بيان ، فالحكم العقلي من أول الأمر يتوجه على المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، لأن استحقاق المؤاخذة والعقوبة من المدركات العقلية ليس من وظيفة الشارع وضعه ورفعه إلا بوضع ما يكون منشأ ذلك أو

ص: 340

رفعه ؛ كما أنه ليس من وظيفة العقل الحكم بجواز الاقتحام في الشبهة والترخيص في ارتكابها ، لأن ذلك من وظيفة الشارع. نعم : لازم حكم العقل بقبح المؤاخذة بلا بيان هو الترخيص في الارتكاب ، كما أن لازم حكم الشارع بالترخيص هو عدم المؤاخذة في الاقتحام ، فالبرائة الشرعية من أول الأمر تتوجه على جواز الارتكاب عكس البراءة العقلية.

فتحصل مما ذكرنا : أن « الرفع » في الحديث المبارك بمعنى « الدفع » في جميع الأشياء التسعة ، ولا يلزم من ذلك تجوز ولا حمل اللفظ على خلاف ما يقتضيه ظاهره.

وإن أبيت عن ذلك وجمدت على ما ينسبق إلى الذهن في بادئ الأمر : من أن العناية المصححة لورود الرفع على الشيء إنما هي باعتبار وجوده السابق ولا يكفي مجرد ثبوت مقتضى الوجود ، فيمكن الالتزام بذلك أيضا لوجود العناية المصححة لورود الرفع في جميع الأمور التسعة المذكورة في الحديث.

أما في غير « ما لا يعلمون » من الثمانية الاخر فواضح ، فان الرفع قد أسند فيها إلى ما هو ثابت خارجا ، لوجود الخطأ والنسيان والاضطرار وغير ذلك خارجا ، فالرفع قد ورد على ما هو موجود في الخارج ، ولا منافاة بين ورود الرفع على المذكورات وبين بقائها على ما كانت عليه بعد ورود الرفع عليها ، لأن الرفع التشريعي لا ينافي الثبوت التكويني ، كما لا ينافي وجود الضرر خارجا مع نفيه تشريعا ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي في المذكورات.

وأما في « ما لا يعلمون » فقد يقال : إنه لا يمكن أن يكون الرفع فيه بمعناه ، فان المراد من « الموصول » نفس الحكم الشرعي ، فان كل الحكم في مورد الشك ثابت فلا يتصور رفعه إلا على سبيل النسخ ، وإن لم يكن ثابتا فلا يصح إسناد الرفع إليه ، لعدم سبق الوجود ، فلابد من جعل « الرفع » في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » بمعنى « الدفع » هذا.

ولكن يمكن ثبوت العناية المصححة لإسناد الرفع إلى الحكم من دون

ص: 341

أن يلزم النسخ أو التصويب. أما في الشبهات الموضوعية : فواضح ، فإنه في مورد الشك في خمرية الشيء يصح أن يقال : رفع الحكم بالحرمة عن المشكوك ، بلحاظ أن حرمة شرب الخمر قد ثبتت في الشريعة ، فصح أن يقال : رفعت حرمة شرب الخمر عن هذا المشتبه. وأما في الشبهات الحكمية : فيمكن أيضا فرض وجود العناية المصححة لاستعمال الرفع (1) فتأمل.

ولكن هذا كله إتعاب للنفس وتبعيد للمسافة بلا ملزم ، فان استعمال « الرفع » بمعنى « الدفع » ليس بعزيز الوجود ، بل قد عرفت : أن الرفع حقيقة هو الدفع ، فيستقيم معنى الحديث المبارك بلا تصرف وتأويل.

الأمر الثاني :

قيل : إن دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا في الكلام ، لشهادة الوجدان والعيان على وجود الخطأ والنسيان في الخارج ، وكذا غير الخطأ والنسيان مما ذكر في الحديث الشريف ، فلابد من أن يكون المرفوع أمرا آخر مقدرا ، صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية.

وقد وقع البحث والكلام في تعيين ما هو المقدر ، فقيل : إن المقدر هو المؤاخذة والعقوبة. وقيل : إنه عموم الآثار. وقيل : إنه أظهر الآثار بالنسبة إلى كل واحد من التسعة.

والتحقيق : أنه لا حاجة إلى التقدير ، فان التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه ، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعا تكوينيا ، فلابد في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب. وأما إذا كان الرفع رفعا تشريعيا (2) فالكلام يصح بلا تقدير ، فانّ

ص: 342


1- أقول : يكفي في العناية وجود الحكم المشكوك في الرتبة السابقة ، ويكون رفعه في الرتبة اللاحقة رفع مسبوق الوجود رتبة لا زمانا ، فتدبر.
2- 2 - أقول : يا ليت أمثال هذه البيانات بتوقيع أو وحى! إذ لو كان المراد من الرفع التشريعي تشريع رفع هذه الأمور حقيقة فهو غلط ، وإن كان العرض جعل الشارع رفعها تنزيلا فهو يناسب مع الإخبارية أيضا ، وإن كان الغرض عدم جعلها في موارد أحكامه وتشريعاته فهو رفع حقيقي لهذه الأمور في دائرة أحكامه لا مطلقا ، فلا يخرج هذا الرفع أيضا عن التكوين ، غايته في مورد خاص ، إذ مرجع هذا المعنى إلى رفع الخطاء حقيقة في الشرعيات ، وهكذا ، فهو عين الرفع الحقيقي لها ، غاية الأمر لا مطلقا ، وهذا المعنى أيضا قابل للإخبارية ، فلا يبقى في البين إلا توهم تشريع الرفع بجعله غير ما ذكرنا ، وعليه بشرحه ، وهذا الذي لا نفهم له معنى محصلا.

الرفع التشريعي كالنفي التشريع ليس إخبارا عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي ، كقوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » وكقوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » ونحو ذلك مما يكون متلو النفي أمرا ثابتا في الخارج.

وبالجملة : ما ورد في الأخبار مما سيق في هذا المساق سواء كان بلسان الرفع أو الدفع أو النفي إنما يكون في مقام تشريع الأحكام وإنشائها ، لا في مقام الإخبار عن رفع المذكورات أو نفيها حتى يحتاج إلى التقدير ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي ونتيجته.

والغرض في المقام مجرد بيان أن دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديرا في الكلام حتى يبحث عما هو المقدر.

لا أقول : إن الرفع التشريعي تعلق بنفس المذكورات (1) فان المذكورات في الحديث غير « ما لا يعلمون » لا تقبل الرفع التشريعي ، لأنها من الأمور التكوينية الخارجية ، بل رفع المذكورات تشريعا إنما يكون برفع آثارها الشرعية - على ما سيأتي بيانه - ولكن ذلك لا ربط له بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية والكذب ، بل ذلك لأجل أن رفع المذكورات في عالم التشريع هو رفع ما يترتب عليها من الآثار والأحكام الشرعية ، كما أن معنى « نفي الضرر » هو نفي الأحكام الضررية ، فتأمل جيّداً.

ص: 343


1- أقول : لا مجال لهذا الكلام ، إذ مرجع الرفع التشريعي إلى رفع الأمور الواقعية في عالم التشريع ، ومرجع هذا الرفع إلى رفع أثره ، وهذا عين قابلية الأمور التكوينية للرفع التشريعي ، فلا معنى لقوله توضيحا لمرامه « لا أقول » إلى آخره ، خصوصا لا يفهم فرق بين الرفع التشريعي وبين رفع المذكورات تشريعا ، فتدبر.
الأمر الثالث :

قيل : إن وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من « الموصول » في « ما لا يعلمون » الموضوع المشتبه ، لأن المراد من « الموصول » فيما استكرهوا وما اضطروا وما لا يطيقون ، هو الفعل الذي استكرهوا عليه أو اضطروا إليه أو لا يطيقونه ، فان هذه العناوين لا تعرض الأحكام الشرعية ، بل إنما تعرض الأفعال الخارجية ، ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد من « الموصول » في « ما لا يعلمون » أيضا الفعل الذي اشتبه عنوانه ، كالشرب الذي اشتبه كونه شرب التتن أو شرب الخمر ، فيختص الحديث المبارك بالشبهات الموضوعية ولا يعم الشبهات الحكمية ، مضافا إلى أنه لا جامع بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية بحيث يمكن أن يراد من « الموصول » معنى يعمها ، فان المرفوع في الشبهات الحكمية إنما هو نفس متعلق الجهل وما لا يعلمون ، وهو الحكم الشرعي (1) فاسناد الرفع إلى « الموصول » يكون من قبيل الإسناد إلى ما هو له ، لأن « الموصول » الذي تعلق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعي. وأما الشبهات الموضوعية : فالذي تعلق الجهل به فيها أولا وبالذات إنما هو الموضوع الخارجي وبالتبع يتعلق بالحكم الشرعي ، والموضوع الخارجي بنفسه غير قابل للوضع والرفع الشرعي ، بل إسناد الرفع إليه يكون من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له ، فمع قطع النظر عن وحدة السياق كان الأولى اختصاص الحديث

ص: 344


1- أقول : محل البحث في أن متعلق الرفع في البقية أي شيء؟ وذلك لا ينافي مع كون المرفوع بالأخرة حكم شرعي ، فالاختلاف في المتعلق يوجب خلاف السياق. والأولى في الجواب أن يقال : إن المراد من « الموصول » ما كان معروض وصفه حقيقة ، والفعل في الشبهات الموضوعية ما تعلق عدم العلم بنفسه - كما اضطروا إليه - بل تعلق عدم العلم بعنوانه ، وهو أيضا خلاف ظهور السياق ، وحينئذ الأمر يدور بين حفظ السياق من هذه الجهة فيحمل على الحكم أو حفظ السياق من حيث إرادة الفعل من « الموصول » وارتكاب خلاف السياق من جهة أخرى ، والعرف يرجح الأول ، فيحمل على الحكم في « ما لا يعلمون » فقط.

بالشبهات الحكمية ، إلا أن وحدة السياق تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الكلام من الضعف ، فان المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في غير « ما لا يعلمون » إلى الأفعال الخارجية إنما هو لأجل أن الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض الأفعال لا الأحكام - كما ذكر - وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي ، كما أن المرفوع في « ما لا يعلمون » أيضا هو الحكم الشرعي ، وهو المراد من « الموصول » والجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية.

ومجرد اختلاف منشأ الجهل - وأنه في الشبهات الحكمية إنما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصين وفي الشبهات الموضوعية يكون المنشأ اختلاط الأمور الخارجية - لا يقتضي الاختلاف فيما أسند الرفع إليه ، فان الرفع قد أسند إلى عنوان « ما لا يعلم » ولمكان أن الرفع التشريعي لابد وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعي ، فالمرفوع إنما يكون هو الحكم الشرعي ، سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية ، فكما أن قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يعم كلا الشبهتين بجامع واحد ، كذلك قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي تسعة أشياء » فتدبر.

الأمر الرابع :

قد عرفت : نتيجة الرفع في « ما لا يعلمون » وأنه بمعنى دفع مقتضيات الأحكام في تأثيرها لإيجاب الاحتياط ، من دون أن يمس الرفع فيه كرامة الحكم الواقعي بوجه من الوجوه من حيث الوجود والفعلية ، فلا نسخ ولا تصويب ولا صرف.

وأما النتيجة في غير « ما لا يعلمون » فبالنسبة إلى رفع الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ، سيأتي البحث عنه. وأما بالنسبة إلى الخمسة الاخر : من

ص: 345

الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فنتيجة الرفع فيها هي تخصيص الأحكام الواقعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجودها بما عدا عروض هذه الطوارى.

بيان ذلك : هو أن مقتضى عموم أدلة الأحكام الواقعية عدم دخل الخطأ والنسيان وغير ذلك من الطوارئ والحالات في ترتبها على موضوعاتها ، فان مقتضى عموم قوله تعالى « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » وقوله تعالى « الزانية والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة » هو ثبوت القطع والجلد على من أكره على السرقة والزنا أو اضطر إليهما. ومقتضى الجمع بين تلك الأدلة وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الخ » هو اختصاص الأحكام بغير صورة عروض ذلك ، فلا قطع ولا جلد على من أكره على السرقة والزنا ، وقد عرفت : أن الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع ، فيكون حاصل المعنى : هو « أن مقتضيات الأحكام الواقعية وإن كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للخطأ والنسيان في ذلك ، إلا أن الشارع دفع تلك المقتضيات عن تأثيرها في ترتب الحكم على الموضوع الذي عرض عليه الخطأ والنسيان والإكراه ونحو ذلك » فلا حكم مع عروض هذه الحالات ، فتكون النتيجة تخصيص الإحكام الواقعية بالموارد التي لم تطرء عليها هذه الطوارئ.

والذي يدل على أن مقتضيات الأحكام الواقعية كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للإكراه ونحوه في ذلك ، هو أن سياق « حديث الرفع » يقتضي كون الرفع للامتنان والتوسعة على العباد ، فلولا ثبوت المقتضى في الموارد التي تعرض عليها هذه الطوارئ والحالات لم يكن موقع للامتنان ، كما لا يخفى.

وتوهم : أن النسبة بين كل واحد من أدلة الأحكام مع كل واحد من العناوين الخمسة العموم والخصوص من وجه ، فان ما دل على وجوب الجلد في

ص: 346

الزنا وإن كان يعم صورة الإكراه عليه وعدمه إلا أنه يختص بخصوص الزنا ، كما أن ما دل على رفع الإكراه وإن كان يختص بالإكراه إلا أنه يعم الإكراه على الزنا وغيره ، فلا وجه لتقديم ما دل على رفع الإكراه على ما دل على وجوب الجلد على الزاني.

فاسد ، فان « حديث الرفع » يكون حاكما على أدلة الأحكام ، فلا تلاحظ النسبة بينهما ، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام وبين ما دل على نفي الضرر والعسر والحرج. ولا فرق بين أدلة نفي الضرر والعسر والحرج وبين دليل رفع الاضطرار والإكراه ونحو ذلك ، سوا أن الحكومة في أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما تكون باعتبار عقد الحمل حيث إن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارية على نفس الأحكام فان الحكم قد يكون ضرريا أو حرجيا وقد لا يكون - كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله - وفي دليل رفع الإكراه والاضطرار وغير ذلك إنما تكون باعتبار عقد الوضع ، فإنه لا يمكن طرو الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام ، بل إنما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها ، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام ، نظير قوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » و « لا سهو مع حفظ الإمام » ونحو ذلك مما يكون أحد الدليلين متكفلا لما أريد من عقد وضع الآخر ، وسيأتي في محله : أنه لا تلاحظ النسبة بين دليل الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل دليل الحاكم يقدم على دليل المحكوم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان دليل المحكوم في المفاد أظهر من دليل الحاكم ، ونتيجة كل حكومة هي التخصيص ، فلا ينبغي التأمل في حكومة « حديث الرفع » على أدلة الأحكام ، وتكون النتيجة تخصيص الأحكام بما عدا عروض العناوين الخمسة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها ، فتأمل جيّداً.

* * *

ص: 347

الأمر الخامس :

في بيان عموم النتيجة وأن المرفوع في هذه الموارد هل هو جميع الآثار والإحكام المترتبة على الموضوعات؟ أو بعض الآثار؟ وهو من أهم الأمور التي ينبغي البحث عنها في « حديث الرفع » وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : انه يعتبر في التمسك بحديث الرفع أمور :

الأول : أن يكون الأثر الذي يراد رفعه من الآثار الشرعية التي أمر وضعها ورفعها بيد الشارع ، لا من الآثار العقلية التي ليس أمر وضعها ورفعها بيد الشارع.

الثاني : أن يكون في رفعة منة وتوسعة على العباد ، فالأثر الذي يلزم من رفعه التضييق عليهم لا يندرج في عموم الحديث.

الثالث : أن يكون الأثر بحسب جعله الأولى مترتبا على الموضوع لا بشرط عن طرو العناوين المذكورة في الحديث ، أي لم يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ والنسيان ونحو ذلك ، وإلا لم يكن مرفوعا بحديث الرفع ، فان عنوان الموضوع يقتضي وضع الأثر لا رفعه ، فلو فرض أنه قد اخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من أحد العناوين الخمسة كان ذلك الأثر خارجا عن عموم « حديث الرفع » فهذه الأمور الثلاثة مما لابد منها في صحة التمسك بحديث الرفع ، والسر في اعتبارها واضح.

الثاني : إن الرفع التشريعي للشئ عبارة عن خلو صفحة التشريع عنه ، وإن كان صفحة التكوين مشغولة به ، لعدم المنافاة بين الرفع التشريعي والثبوت التكويني ، من غير فرق بين تعلق الرفع بالحكم الشرعي ابتداء أو بالموضوع الخارجي إذا كان الموضوع ذا حكم شرعي ، فان رفع الموضوع في عالم

ص: 348

التشريع عبارة من رفع حكمه لا بتقدير في الكلام ، بل معنى رفع الموضوع شرعا هو ذلك (1).

فمفاد قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان » - بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولا - هو رفع نفس الخطأ والنسيان وتنزيل الصفتين منزلة العدم ، فكأنه لم يقع الخطأ والنسيان خارجا ، ومعنى عدم وقوع الخطأ والنسيان ، هو أن الفعل الصادر على أحد الوجهين كأن لم يصدر على هذا الوجه.

وهذا المعنى بظاهره فاسد ، فإنه يلزم على هذا ترتيب آثار العمد على الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، وذلك ينافي الامتنان والتوسعة ، فلابد وأن يكون المراد من رفع الخطأ والنسيان رفع الفعل الصادر عن ذلك ، يعنى جعل الفعل كالعدم وكأنه لم يصدر عن الشخص ولم يقع ، لا أن الفعل وقع وحيثية صدوره عن خطأ أو نسيان لم يكن ، ليلزم ترتيب آثار الصدور عن عمد عليه حتى ينافي الامتنان ، بل لابد من أن يكون مفاد رفع الخطأ والنسيان رفع أصل الفعل الواقع عن نسيان أو خطأ ، فتوافق مفاد رفع الخطأ والنسيان مع مفاد رفع ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فان المرفوع في هذه الأمور الثلاثة هو الفعل الذي وقع عن إكراه أو عن اضطرار إليه أو ما لا طاقة عليه ، لا رفع صفة الإكراه والاضطرار. ومقتضى وحدة السياق والمفاد هو أن يكون المرفوع في الخطأ والنسيان ذلك ، وقد عرفت : أن رفع الفعل تشريعا إنّما يكون

ص: 349


1- أقول : رفع ذات الموضوع لا بوصف موضوعيته إذا كان مرجعه إلى خلو صفحة التشريع عنه ، فمرجعه إلى خلو صفحة التشريع عن هذا الذات ، ومآله إلى خلو خطاباته عن هذه الأفعال واختصاصها بغيرها ، وهذا عين رفع نفسها تكوينا في طي أحكامه وخطاباته لا مطلقا ، وهذا عين المعنى الثالث الذي أشرنا إليه في الحاشية السابقة وقابل للإخبارية أيضا. ولكن الأولى منه الالتزام بالمعنى الثاني : من جعل الرفع في المذكورات تنزيليا بلحاظ رفع آثاره. ويمكن حمل كلامه من الرفع التشريعي على ذلك ، تبديل المقرر البيان المعروف من الرفع الادعائي إلى الرفع في عالم التشريع ليس إلا إخفاء الأمر على الأذهان ، وهو نوع من تبعيد المسافة.

بلحاظ رفع الآثار والأحكام ، فيقع الكلام حينئذ في أن المرفوع عموم الآثار أو بعضها؟ (1)

ص: 350


1- أقول : ينبغي في شرح هذا المرام أن يقال : إنه بعد اختصاص « حديث الرفع » بما في وضعه خلاف الامتنان على الأمة لا رفع أثره مطلقا - إذ لا امتنان في رفع ما لا يكون في وضعه خلاف امتنان عليهم بل لو فرض الامتنان فيه فالمتيقن من « الحديث » رفع هذا المقدار لا كل رفع فيه امتنان وإن لم يكن في وضعه خلاف امتنان - فكان « حديث الرفع » من هذه الجهة نظير « لا ضرر » الغير الشامل للمقدم ، مع أن نفي الحكم عنه منة عليه أيضا ، فالخبر لا يكاد يشمل الخطأ والنسيان عن تقصيره وتمكنه من حفظه. نعم : لو بلغ حفظ تمكنه عن الوقوع في الأمور المزبورة إلى حد الحرج ربما يشمله « الحديث » إذ في وضعه عليه أيضا خلاف الامتنان عليه ، ولذا يشمله عموم « لا حرج » أيضا. و من هنا ظهر الحال فى «ما لا يطيقون» حرفاً بحرف؛ كما أنّ الإضطرار فى التكليفيات لا اختصاص في رفعه بصورة التمكن عن حفظه، إذ مع قصوره العقل لايابي عن فعلية التكليف واستحقاقه العقوبة، ولذا كان وضع التكليف في مورده خلاف الإمتنان في حقه، فيشمله «الحديث» بخلاف العناوين السابقة، إذ مع قصورها يأبى العقل عن استحقاق العقوبة فى موردها ، فلا يكون التكليف فى وضعه خلاف امتنان وإنّما يختص ذلك بصورة خاصة، كما أشرنا . وأما في الوضعيات: فالظاهر أنّ رفع تأثير المعاملة عن المضطر إليها ولو قصوراً خلاف امتنان في حقه، لأنّ في وضعه كمال الإمتنان عليه ؛ وعمدة النكتة فيه : أنّ فى المعاملات المضطربها الإضطرار دعاه إلى المعاملة، فأثر المعاملة بالواسطة تنسب إلى الإضطرار الذى هو مقتضيه، فيكون من الموارد التي يترتب الأثر على نفس العنوان باقتضائه و «حديث الرفع» أجنبى عن مثلها ؛ وهذا بخلاف موارد الإضطرار على مخالفة التكليف، كما لا يخفى. وأما المكره عل-يه : ففي التكليفيات لامجال للأخذ باطلاق رفع الإكراه، كيف! ولو اكره على الزنا بتوعيده على أخذ مال قليل منه لا يكون ضرره حرجياً عليه - كالقران أو أقل منه - لم يلتزم أحد بجواز ارتكاب الزنا أو اللواط أو شرب الخمر؛ وهكذا لو كان توعيده بأمر مهم ولكن كان متمكناً عن دفعه بوجه يكره عليه إقدامه بلا حرج ، فانّ هذا المقدار يكفى للحكم بفساد المعاملة لكونه مكرهاً ؛ ومع ذا لا يكفي في التكليفيات جزماً. نعم : لا بأس بالإكتفاء بمطلق صدق الإكراه فى المعاملات لأنّ فى وضعه خلاف امتنان عليه. لا يقال : إن في المقام أيضاً الإكراه دعاه إلى المعاملة، فأثر المعاملة يحسب لعنوانه. فانه يقال : فرق بينه وبين الإضطرار، فانّ فى الإضطرار كان الإضطرار مقتضياً لتحصيل مال لمعاش عياله، ولا يكون ذلك إلا بصحة المعاملة، وفى الإكراه ليس الأمر كذلك، بل هو مقتضى لعدم ترتب الأثر، لأنه مقتضى للطيب الذى هو من أجزاء المتقضى للصحة أو شرائطه؛ فيخرج مثل هذا الأثر من الآثار التي يكون العناوين المزبورة مقتضياً لها . وما هو مورد انصراف حديث الرفع مثل هذه الآثار، لا كل أثر ينسب إلى نفسه، ولوكان مفنياً لمقتضيه أو شرطه، وذلك أيضاً عمدة النكتة الفارقة بين الإكراه والإضطرار. ولئن شئت قلت : إن الاضطرار مرفوع في خصوص التكليفيات ما لم يكن حفظه حرجيا ولا يشمل المعاملات أبدا ، والإكراه عليه مختص بالمعاملات ولا يشمل التكاليف أصلا. نعم : إذا بلغ بحد الحرج في ترك ارتكاب المكره عليه كان الأثر أيضا مرفوعا ، لكن ذلك أيضا من جهة الحرج لا الإكراه ، ولئن شئت فسمه الإكراه أيضا ، ولكن لا إطلاق فيه ، كما أشرنا. ثم أن الأثر المرفوع في المكره ليس إلا صحة المعاملة لا الأحكام التكليفية المترتبة على الصحة ، إذ هي أيضا خلاف امتنان في حق المشترى ، لانتهائه إلى كونه مالكا بلا سلطنة ، بخلاف المرفوع في البقية ، فان المرفوع فيها نفس التكليف الواقعي المستتبع لنفي ايجاب التحفظ الواصل إلى حد الحرج المستتبع لنفي استحقاق العقوبة على مخالفتها. ثم إن في رفع التكليف في باب الاضطرار وغيره لا فرق بين كون التكليف متعلقا بالوجود أو العدم وبين كون الاضطرار متعلقا بالوجود أو العدم ، إذ مرجع الجميع إلى رفع التكليف عما اضطر على خلاف مقتضاه نفيا أو إثباتا ، وسيجيء توضيح المقال في الحاشية الآتية. وأما في « ما لا يعلمون » فالمرفوع فيه ما كان في ظرف الجهل ، وليس هو إلا ايجاب الاحتياط ، ولا مجال في المقام لتعلق الرفع بنفس التكليف الواقعي ، حتى في صورة الانفتاح ، إذ لا يكون ما في وضعه عليه خلاف امتنان ، فله إبقاء حكم عقله بالاحتياط أو الفحص ، فرفع هذا الحكم بقلب موضوعه ، حيث إنه تعليقي ، ولا يحتاج رفعه برفع نفس التكليف الواقعي ، كما أنه في القاصر كان المرفوع ايجاب احتياطه شرعا بلا رفع التكليف الواقعي إلا عناية وتنزيلا. ونتيجة جميع المرفوعات بالأخرة رفع المؤاخذة عما كان لولا « حديث الرفع » ولئن تتأمل فيما ذكرنا ترى ما في كلمات الماتن المقرر مواقع النظر ، فتدبر.

فنقول : الأحكام المترتبة على أفعال العباد ، إما أن تكون وضعية - كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك - وإما أن تكون تكليفية ، وهي إما أن تكون مترتبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر ، وإما أن تكون مترتبة عليه بلحاظ مطلق الوجود بحيث كلما وجد الفعل كان الأثر مترتبا عليه.

ثم إن معروض الحكم والأثر ، إما أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أن الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إن خطاب « لا تشرب » متوجه إلى شخص الشارب ، وإما أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علة لتوجه حكم إلى غير الفاعل ، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر ، حيث إن شرب الخمر من شخص يكون علة لتوجه خطاب « إقامة

ص: 351

الحد » إلى الحاكم المقيم للحد. فهذه جملة الأحكام والآثار المترتبة على أفعال العباد.

فان كان الحكم من الأحكام التكليفية وكان مترتبا على الفعل بلحاظ مطلق الوجود وكان الفاعل هو المخاطب بالحكم ، فلا إشكال في سقوط الحكم إذا صدر الفعل عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ ، فان نتيجة رفع الفعل الصادر على هذا الوجه في عالم التشريع هو ذلك ، فمن شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لم يكن فعله حراما شرعا ، ولا يخرج بذلك عن العدالة لو كان واجدا لها قبل الشرب ، لأن الشرب عن إكراه كالعدم ، والحكم تابع لموضوعه ، فرفع الموضوع يقتضي رفع الحكم ، فلا حرمة ، وهو واضح.

وإن كان الأثر مترتبا على الفعل بلحاظ صرف الوجود ، فان أكره المكلف على الفعل أو اضطر إليه ، فهذا يختلف حسب اختلاف الآثار ، فقد يكون الأثر من الآثار التي لا تقتضي المنة رفعه ، كمن نذر أن يكرم عالما فأكره على الإكرام أو اضطر إليه ، فإنه لا يصح أن يكون الإكراه المكره عليه مشمولا لحديث الرفع ، لأن فرض الإكرام كالعدم وجعله كأن لم يكن يقتضي عدم تحقق الامتثال ووجوب الإكرام عليه ثانيا ، وذلك ينافي الامتنان. وقد يكون الأثر من الآثار التي تقتضي المنة رفعه ، كما لو نذر المكلف أن لا يكرم شخصا خاصا أو لا يشرب ماء الدجلة فأكره على الإكرام أو الشرب ، فان رفع ما يترتب على الإكرام والشرب من الحنث والكفارة يوافق المنة ، فيصح أن يقال : إن الإكرام كذلك إكرام وجعله كالعدم لرفع ما يترتب عليه من الحنث والكفارة.

وإن أكره المكلف على الترك أو اضطر إليه أو نسى الفعل : ففي شمول « حديث الرفع » لذلك إشكال ، مثلا لو نذر أن يشرب من ماء الدجلة فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسى أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث ومخالفة النذر

ص: 352

عن إرادة والتفات ، فان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنما يكون وضعا لا رفعا ، والمفروض أن المكلف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعا وجعله كالشرب ، حتى يقال : إنه لم يتحقق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة.

والحاصل : أنه فرق بين الوضع والرفع ، فان الوضع يتوجه على المعدوم فيجعله موجودا ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع ، والرفع يتوجه على الموجود فيجعله معدوما ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع ، فالفعل الصادر من المكلف عن نسيان أو إكراه يمكن ورود الرفع عليه وجعله كأن لم يصدر ، فلا يترتب عليه آثار الوجود إن كان موافقا للتوسعة والامتنان ، وأما الفعل الذي لم يصدر من المكلف وكان تاركا له عن النسيان وإكراه فلا محل للرفع فيه (1) لأن رفع المعدوم لا يمكن إلا بالوضع والجعل ، و « حديث الرفع » لا يتكفل الوضع ، بل مفاده الرفع.

ومن هنا يظهر : أنه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرايط لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فإنه لا محل لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلا لخلو صفحة الوجود عنها ، مضافا إلى أن الأثر المترتب على السورة ليس هو إلا الإجزاء وصحة العبادة ، ومع الغض عن أن الإجزاء والصحة ليست من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحة ، فان ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة ، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود ، فانّ

ص: 353


1- أقول : لنا مجال السؤال بنذر شرب أحد المايعين إجمالا واضطر بترك أحد الطرفين معيّناً أو غير معين ، فهل أحد في البين يلتزم بلزوم امتثال الطرفين؟ ما أظن التزامك به أيضا ، بل تلتزم بالتكليف التوسطي ، وهل هذا من غير جهة الإضطرار؟

المقصود من التمسك بحديث الرفع تصحيح العبادة لا فسادها ، فنفس الجزء أو الشرط المنسى موضوعا وأثرا لا يشمله « حديث الرفع » ولا يمكن التشبث به لتصحيح العبادة.

وأمّا بالنسبة إلى المركب الفاقد للجزء أو الشرط المنسى : فهو وإن كان أمرا وجوديا قابلا لتوجه الرفع إليه ، إلا أنه أولا : ليس هو المنسى أو المكره عليه ليتوجه الرفع إليه ، وثانيا : لا فائدة في رفعه ، لأن رفع المركب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت المركب الواجد له ، فان ذلك يكون وضعا لا رفعا ، وليس للمركب الفاقد للجزء أو الشرط أثر يصح رفع المركب بلحاظه ، فان الصلاة بلا سورة مثلا لا يترتب عليها أثر إلا الفساد وعدم الإجزاء وهو غير قابل للرفع الشرعي.

ومن ذلك يظهر فساد ما قيل : من أن المرفوع في حال النسيان إنما هو جزيئة المنسى للمركب ، وما أشكل عليه : من أن الجزئية لا تقبل الجعل فلا تقبل الرفع ، وما أجيب عن ذلك : من أن الجزئية مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها فتقبل الرفع برفع منشأ الانتزاع.

فان ذلك كله خروج عن مفروض الكلام ولا ربط له بالمقام ، لأن جزئية الجزء لم تكن منسية وإلا كان ذلك من نسيان الحكم ، ومحل الكلام إنما هو نسيان الموضوع ونسيان قراءة السورة مثلا ، فلم يتعلق النسيان بالجزئية حتى يستشكل بأن الجزئية غير مجعولة فيجاب بأنها مجعولة بجعل منشأ الإنتزاع.

والحاصل : أن الإشكال في شمول « حديث الرفع » للجزء المنسى ليس من جهة عدم قابلية الجزء للرفع الشرعي ، إذ لا إشكال في أنه عند الشك في جزئية شيء للمركب أو شرطيته تجرى فيه البراءة الشرعية ويندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » بل الإشكال إنما هو من جهة أنه عند ترك الجزء نسيانا مع العلم والالتفات بجزئيته ليس في البين ما يرد الرفع الشرعي عليه من حيث الموضوع والأثر ، فلا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط بمثل « حديث الرفع » بل لابد من التماس دليل آخر على

ص: 354

الصحة ، وهو في الصلاة قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة إلا عن خمس ».

وعلى ذلك يبتني جملة من القواعد التي تسالم عليها الأصحاب في باب الخلل الواقع في الصلاة ، من جملتها : أنه لو كان المنسى من الأركان فما لم يدخل المصلى في ركن آخر يجب عليه العود لتدارك الركن المنسى ومع الدخول في ركن آخر تبطل الصلاة ، بخلاف ما إذا كان المنسى من غير الأركان ، فإنه لا تبطل الصلاة بنسيانه وإن دخل في ركن آخر ، بل إن كان الجزء من الأجزاء التي يجب قضائها بعد الصلاة يقضى ، وإلا فلا شيء عليه إلا سجدتا السهو ، ونحو ذلك من الفروع والقواعد التي تستفاد من « حديث لا تعاد » وقد استقصينا الكلام فيها في « رسالة الخلل ».

ولو كان المدرك في صحة الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط نسيانا « حديث الرفع » كان اللازم صحة الصلاة بمجرد نسيان الجزء أو الشرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها ، فإنه لا يمكن استفادة التفصيل من « حديث الرفع ». ويؤيد ذلك : أنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من ساير المركبات.

هذا إذا كان النسيان مستوعبا في تمام الوقت المضروب للمركب ، وأما في النسيان الغير المستوعب فالأمر فيه أوضح ، فإنه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكر في بقية الوقت ، لأن المأمور به هو الفرد الكلي الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ولو في جزء من الوقت الذي يسع فعل المأمور به ، فمع التذكر في أثناء الوقت يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء وقته - لو كان المدرك حديث الرفع - لأن المأتى به الفاقد للجزء أو الشرط لا ينطبق على المأمور به ، فلو لا « حديث لا تعاد » كان اللازم هو إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا مع التذكر في أثناء الوقت.

فتحصل مما ذكرنا : أنه في كل مورد مست الحاجة إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد لابد من التماس دليل آخر غير « حديث الرفع » كما أنه في كل

ص: 355

مورد مسّت الحاجة إلى تنزيل الواجد منزلة الفاقد يتمسك لذلك بحديث الرفع (1) ومن هنا يمكن أن يفرق بين الأجزاء والشرائط وبين الموانع وأنه في صورة ايجاد المانع نسيانا يصح التمسك بحديث الرفع إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فتأمل جيدا.

هذا كله في الأحكام التكليفية. وأما الأحكام الوضعية - كالعقود والايقاعات والطهارة والنجاسة - فالكلام فيها تارة : يقع في الأسباب : الايجاب والقبول مثلا ، وأخرى : في المسببات ، وثالثة : في الآثار والأحكام المترتبة على المسببات.

أما الأسباب : فمجمل الكلام فيها ، هو أن وقوع النسيان والإكراه أو الاضطرار في ناحية الأسباب لا تقتضي تأثيرها في المسبب ولا تندرج في « حديث الرفع » لما تقدم في باب الأجزاء والشرائط : من أن « حديث الرفع » لا يتكفل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمرا لم يكن ، فلو اضطر إلى ايقاع

ص: 356


1- أقول : المستفاد من الرفع ما اضطروا إليه إذا كان بقوله رفعه تشريعيا - ومعنى رفعه التشريعي خلو صفحة التشريع عنه - مرجعه إلى عدم تشريع الحكم له أو عدم أخذه موضوعا لحكمه ، لا أن مرجعه إلى قلب الوجود بعدم ذاته ، أو قلب العدم بوجود ذاته ، بل غاية اقتضائه قلب أخذ في طي التشريع بعدم أخذه ، وفي هذا المعنى لا فرق بين كون الموضوع فعلا أو تركا وأن المضطر إليه فعل أو ترك ، إذ كما أن رفع الوجود تشريعا يرجع إلى خلو صفحة التشريع عن هذا الوجود ، كذلك رفع العدم تشريعا إلى خلو صفحة التشريع عن هذا العدم ، ومآله إلى رفع الحكم المترتب على هذا العدم ، لا جعله وجودا ، كي يرجع إلى وضع شيء لا يناسب رفعه. ولذا لم يتوهم أحد في مسألة الإضطرار بترك أحد طرفي العلم - خصوصاً إذا كان معيناً - بوجوب الإتيان بكل الطرفين تحصيلاً للموافقة القطعية. وحينئذ فلا قصور فى شمول «الحديث» للسورة المنسيّة، ومرجعه إلى إخراجها عن الجزئية لاجعلها بمنزلة الوجود، إذ معنى خلو صفحة التشريع عنه هو الأول لا الثانى. نعم هذا المقدار لو كان مستوعباً في الوقت لا يقتضى الإجزاء، إذ معنى رفعه ما دام النسيان عدم كونه تحت التكليف الذي هو منشأ انتزاع الجزئية مادام النسيان؛ وأما كونه واجداً لمصلحة الواقع فلا، فانّه لا يكون تحت الرفع تشريعاً، إذ ليس أمر رفعه ووضعه بيد الشرع؛ وحينئذ فالمصلحة المقتضية للجزئية باقية، فبعد رفع النسيان يؤثر المصلحة في خارج الوقت أثره، كما لو لم يكن في البين «حديث رفع» وهذا نكتة عدم تشبثهم بمثل «حديث الرفع» لتصحيح المنسيات جزء أو شرطاً أو مانعاً ؛ فتدبر.

العقد بالفارسية أو أكره عليه أو نسى العربية كان العقد باطلا بناء على اشتراط العربية في العقد ، فان رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي (1) وليس للعقد الفارسي أثر يصح رفعه بلحاظ رفع أثره ، وشرطية العربية ليست هي المنسية حتى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطية.

وأما المسببات : فهي على قسمين : فإنها تارة : تكون من الأمور الاعتبارية ليس لها ما بحذاء في وعاء العين ، بل وعائها وعاء الاعتبار - كالملكية والزوجية والرقية ونحو ذلك من الوضعيات الاعتبارية التي أمضاها الشارع - وأخرى : تكون من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع - كالطهارة والنجاسة الخبثية - على احتمال قواه الشيخ قدس سره وإن ضعفناه نحن في محله ، ويأتي بيانه في مبحث الاستصحاب.

أمّا القسم الأوّل : فهو بنفسه مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، على ما هو الحق عندنا : من أن هذا القسم من الأحكام الوضعية يستقل بالجعل وليس منتزعا من الأحكام التكليفية ، فلو فرض أنه أمكن أن يقع المسبب عن إكراه ونحوه كان للتمسك بحديث الرفع مجال (2) فينزل المسبب منزلة العدم وكأنه لم

ص: 357


1- أقول : قد أشرنا - في الحاشية السابقة - أن مرجع رفع المضطر إليه إذا كان من التروك خلو صفحة التشريع عن مثله ، ومآله إلى خروج هذا الترك عن حيز تشريع الجاعلية ، ولازم تطبيقه على عدم العربية الموجبة لتشريع الفساد به - بملاحظة دخل نقيضه في الصحة هو أن هذا العدم ما شرع في مورد الفساد الملازم لعدم كون نقيضه دخيلا في الصحة ، لا أن مفاد رفعه جعله منزلة الوجود كي يرد عليه ما أفيد ، وحينئذ ليس وجه عدم جريانهم مثل « حديث الرفع » بجميع فقراته في أبواب المعاملات حتى في فرض الاضطرار بايجاد المانع الغير الجاري فيه هذا التقريب باعترافه ، بل عمدة الوجه في أن قضية نفي الشرطية أو غيره في المعاملة ايجاب الوفاء بالفاقد ، وهو خلاف الامتنان في حق المكلف. ولذا نفرق بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب وأنّ «الحديث» مختص بالثاني دون الأول، لما عرفت : من أن لازم نفى شرط الوجوب إثبات الوجوب على المكلف على خلاف امتنانه، كما لا يخفى؛ فتدبر.
2- أقول: هذا التقريب بعينه يجىء فى الإضطرار، ولم يلتزم أحد فيه فشاد المعاملة؛ فلابد من بيان فارق بينهما، كما شرحناه في الحاشية السابقة.

يقع ؛ ويلزمه عدم ترتيب الآثار المترتبة على المسبب : من حلية الأكل وجواز التصرف في باب العقود والايقاعات.

لا أقول : إن الرفع تعلق بالآثار ، بل تعلق بنفس المسبب ، لأنه بنفسه مما تناله يد الرفع ، ولكن رفعه يقتضي رفع الآثار ، لارتفاع العرض بارتفاع موضوعه ، ولكن فرض وقوع المسبب عن إكراه ونحوه في غاية الإشكال (1) فان الإكراه إنما يتعلق بايجاد الأسباب ، وقد ذكرنا في « كتاب البيع » ما قيل وما يمكن أن يقال في المقام.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان المسبب من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع - كالطهارة والنجاسة - فهو مما لا تناله يد الرفع والوضع التشريعي (2) لأنه من الأمور التكوينية وهي تدور مدار وجودها التكويني متى تحققت ووجدت ، لا تقبل الرفع التشريعي ، بل رفعها لابد وأن يكون من سنخ وضعها تكوينا. نعم : يصح أن يتعلق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتب عليها من الآثار الشرعية.

ولا يتوهم : أن لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من أكره على الجنابة أو عدم وجوب التطهير على من أكره على النجاسة ، بدعوى : أن الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي إلا أنها باعتبار ما لها من الأثر - وهو الغسل - قابلة للرفع ، فان الغسل والتطهير أمران وجوديان قد أمر الشارع بهما

ص: 358


1- أقول : لا بأس به بناء على ما هو التحقيق : من أن الأمر بالمسبب لا يرجع إلى السبب ، كما بيناه في محله.
2- أقول : إذا كان معنى الرفع التشريعي ما أفاده سابقا : من خلو صفحة التشريع عنه ، فلا مانع من تعلقه بالأمور الواقعية التكوينية ، غاية الأمر نتيجة رفعه تشريعا رفع أثره الشرعي ، كما لا يخفى. ومن هنا ظهر : أنه لا يبقى مجال لقوله : « نعم » بعد هذا الكلام ، إذ لا معنى للرفع التشريعي إلا هذا المعنى ، وحينئذ أي شيء منفى غير ما أثبت هنا؟.

عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا ، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختيارية وغيرها (1) فتأمل ، فان المقام يحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المجال ، والبحث عن ذلك وقع استطرادا.

والمقصود الأصلي بالبحث هو البحث عن مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » فإنه هو المدرك في البراءة الشرعية ، وقد عرفت : أن الرفع في « ما لا يعلمون » يغاير الرفع في البقية ، فان الرفع في البقية رفع واقعي ينتج نتيجة التخصيص الواقعي - بالبيان المتقدم - والرفع في « ما لا يعلمون » رفع ظاهري ينتج عدم وجوب الاحتياط في موارد الشك والشبهات على ما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه - والغرض من إعادة الكلام فيه هو بيان ما يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » من الشبهات.

فنقول : المشكوك فيه تارة : يكون هو التكليف النفسي الاستقلالي ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكالشك في حرمة تصوير الصور المجردة من ذوات الأرواح. وأخرى : يكون هو التكليف الغير الاستقلالي - كالشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أو مانعيته. وثالثة : يكون في

ص: 359


1- أقول : ما أدرى جواب التوهم السابق أين صار؟ فان كان قوله « فان الغسل والتطهير أمران وجوديان » إلى قوله « فتأمل » جوابا فهو غلط ، فان الأمر في كل مورد يشمله « الحديث » باطلاق دليله شامل لصورة الاختيار والاضطرار ، وبالاضطرار أو الإكراه يرتفع ، فالأولى حينئذ : الالتزام بالإشكال ، ويلتزم بأنه في مورد الاضطرار على الجنابة ينتقل التكليف من الغسل إلى التيمم ، كما أن في مورد الاضطرار على ارتكاب النجس يرتفع وجوب الغسل أو حرمة شرب النجس ، بلا محذور فيه ولا احتياج إلى حوالة المقام ببسط الكلام فيه في مقام آخر. ثم إن من العجب أن المقرر لم ما ثبت في الجواب عن توهمه بما أسسه من الأساس؟ بتوضيح أن وجوب الغسل في النجاسة وكذا وجوب الغسل في الجنابة من آثار الطهارة الخبثية والحدثية وإسناده إليها بالعرض والمجاز ، لأنهما من مقدمات الطهارة الملازم لرفع الجنابة والنجاسة ، وحينئذ فحديث الرفع لا يشملهما من حديث عنوان الإكراه على الجنابة والنجاسة ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا عنوان ترك الطهارة حدثية أو خبثية ، و « حديث الرفع » باعترافه لا يشمل التروك.

المحصّلات والأسباب العقلية أو العادية أو الشرعية الاختراعية أو الإمضائية ، كالشك في اعتبار الغسلة الثانية في التطهير من النجاسة الخبثية ، وكالشك في اعتبار أن يكون المسح ببلة الوضوء - بناء على أن تكون الغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية من المحصلات والأسباب لا أنها بنفسها وبما هي هي متعلقات التكليف ، وكالشك في اعتبار العربية والماضوية في العقد ونحو ذلك مما كان الشك فيما هو السبب والمحصل لمتعلق التكليف أو الوضع.

فان كان الشك في التكليف النفسي الاستقلالي ، فهذا هو المتيقن في اندراجه في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ، وسواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية. وقد تقدم ضعف الإشكال في عموم « حديث الرفع » للشبهات الحكمية والموضوعية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

وإن كان الشك في التكليف الغير الاستقلالي ، فهذا هو المبحوث عنه في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وسيأتي البحث عنه بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأن الأقوى شمول « حديث الرفع » له.

وإن كان الشك في الأسباب والمحصلات ، فالأقوى : أنها بجميع أقسامها لا تجري فيها البراءة ولا يعمها « حديث الرفع » وإن حكى عن بعض الأعلام جريان البراءة في خصوص الأسباب الشرعية ، كالغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية ، بناء على أن تكون الغسلات والمسحات من الأسباب والمحصلات وأن المأمور به في باب الطهارة الخبثية هو إفراغ المحل عن القذارة الظاهرية فيكون الغسل سببا لذلك ، وفي باب الطهارة الحدثية هو تطهير الباطن عن القذارة المعنوية الحاصلة من الأحداث والغسلات والمسحات أسباب لذلك ، لا أن المأمور به نفس الغسلات والمسحات وتطهير الباطن حكمة للأمر بها ، وسيأتي البحث عن ذلك أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ) في مبحث الإشتغال.

ص: 360

وعلى ذلك يبتني الخلاف المعروف في باب الوضوء : من أنه هل يعتبر في الوضوء مع عدم القصد إلى إحدى الغايات الواجبة أو المستحبة قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة؟ أو لا يعتبر قصد ذلك؟ بل يكفي مجرد قصد أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات بقصد امتثال الأمر المتعلق بها ، فان قلنا : إن المأمور به هو نفس الغسلات والمسحات ، فلا يعتبر قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة. وإن قلنا : إن المأمور به هو الطهارة وتلك الأفعال محصلات لها ، فلابد مع عدم قصد إحدى الغايات من قصد الكون على الطهارة ، لأن قصد حقيقة المأمور به مما لابد منه في كل عبادة.

ومنشأ الخلاف : هو وقوع كل من التطهير والأفعال في حيز الطلب في « القرآن المجيد ».

فمن الأول : قوله تعالى : « وإن كنت جنبا فاطهروا » (1) بضميمة عدم الفرق بين الوضوء والغسل في ذلك.

ومن الثاني قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم » الآية (2).

فمن قال : بأنه يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة وأنها من المسببات التوليدية للأفعال حمل الأمر بالأفعال في آية الوضوء على أن الأمر بها لأجل كونها محصلة للطهارة لا من حيث هي هي ، فإنه في المسببات التوليدية يصح تعلق الأمر بكل من المسبب والسبب لكن لا بما هو هو ، بل بما أنه يتولد منه المسبب ، وهذا إذا كان الربط بين السبب والمسبب على وجه يكون الأمر بالسبب عين الأمر بالمسبب عرفا ، كما لو أمر بالإلقاء في النار ، فان الأمر به عرفا أمر بالإحراق. والظاهر أن تكون جميع الأسباب والمسببات التوليدية من هذا القبيل.

ص: 361


1- سورة المائدة الآية 6.
2- سورة المائدة الآية 6.

ومن قال : إنه لا يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة (1) حمل الأمر بالتطهير في آية الغسل على أن المراد منه نفس الأفعال لا المعنى الحاصل منها ويكون التطهير من قبيل الحكم والمصالح ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من « أن اللّه تعالى إنما أمر بالوضوء ليكون العبد متطهرا بين يدي اللّه تعالى » (2) فان الظاهر منه هو أن تكون الطهارة من الخواص والآثار المترتبة على أفعال الوضوء ، لا أنها من المسببات التوليدية ، وذكرنا - في مبحث الاشتغال - الفرق بين المسببات التوليدية والمقدمات الإعدادية ، وأن باب المصالح والمفاسد ليست من المسببات التوليدية ، بل إنما هي من الخواص والآثار المترتبة على متعلقات التكاليف ، فراجع ذلك المبحث ، فإنه قد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، وغرضنا في المقام مجرد الإشارة ، فلا فائدة في تكرار الكلام في ذلك ، مع أنه أمامنا مباحث مهمة ينبغي صرف عنان الكلام فيها ، ولعل اللّه يوفقنا للتعرض إلى جملة مما يتعلق بلباس المشكوك من المباحث النفيسة التي أفادها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ما لم تخطر ببال من سبقه من الأعلام.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » على ما هو محل البحث بين الأصوليين والأخباريين - وهو جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية - في غاية الوضوح.

ص: 362


1- أقول : لو قلنا في باب الوضوء : إنه من المطلوبات النفسية علاوة عن مطلوبيتها غيريا - كما قيل به في الغسل - فما أفيد من ابتناء النزاع في لزوم قصد الغاية وعدمه في غاية المتانة ، وحينئذ يكون الوضوء بنفسه عبادة وقعت مقدمة لعبادة أخرى. وأما لو قلنا بأنه ممحض في المطلوبية الغيرية وأن عباديته من جهة دعوة أمره الغيري إليه بلا أمر آخر نفسي فيه ، فربما يكون منشأ النزاع السابق شيء آخر ، وهو أن دعوة الأمر الغيري هل يمكن بلا قصد التوصل به إلى الغير؟ أو لا يمكن إلا مع القصد المزبور؟ فعلى الأول : لا يجب قصد الغاية ، بخلافه على الثاني ، فإنه لا يمكن الامتثال به إلا مع قصد الغاية ، حتى بناء على كون الوضوء مقدمة لا الكون على الطهارة ، فراجع المسألة في محله وتدبر.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب الوضوء الحديث 9 ولفظ الحديث « إنما امر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار ) الحديث.

وقد استدل للبرائة بأخبار أخر ، أظهرها دلالة قوله علیه السلام « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى » (1).

والاستدلال به مبنى على أن يكون « الورود » بمعنى الوصول إلى المكلفين ، لا الورود المقابل للسكوت ، وإلا كان مفاده أجنبيا عن محل البحث ، فان الورود المقابل للسكوت هو بمعنى الجهل بالتشريع ، فيكون مفاد الحديث المبارك : « كل شيء مطلق والناس منه في سعة ما لم يبين اللّه تعالى حكمه » أي ما دام مسكوتا عنه ، كما ورد في الخبر : « إن اللّه تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا » الخبر (2) وأين هذا مما هو مورد البحث من الشك في التكليف بعد تبين الأحكام وتبليغها إلى الأنام وعروض الاختفاء لبعضها لبعض موجبات الاختفاء!.

وقد استدل على البراءة بقوله علیه السلام « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « حتى تعرف الحرام منه بعينه » على اختلاف النسخ (3).

وقوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه (4).

ولا يخفى : ظهور كلمة « فيه » و « منه » و « بعينه » في الانقسام والتبعيض الفعلي - أي كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام - بمعنى أن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أن المشكوك من القسم الحلال أو الحرام ، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكى ، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر ، فان اللحم أو المايع

ص: 363


1- الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 60.
2- نهج البلاغة قصار الحكم 105.
3- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 1.
4- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 4.

بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالا وإلى ما يكون حراما ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهات الموضوعية.

وأمّا الشبهات الحكمية : فليس القسمة فيها فعلية وإنما تكون القسمة فيها فرضية ، - أي ليس فيها إلا احتمال الحل والحرمة - فان شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالا أو حراما ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إما أن يكون حراما وإما أن يكون حلالا ، فلا يصح أن يقال : إن شرب التتن فيه حلال وحرام ، إلا بضرب من التأويل والعناية التي لا يساعد عليها ظاهر اللفظ.

فكلمة « فيه » ظاهرة في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعية ، وكذا كلمة « بعينه » فان معرفة الشيء بعينه إنما يكون في الموضوعات الخارجية (1) ولا معنى لأن يقال : حتى تعرف الحكم بعينه.

ومن ذلك يظهر : اختصاص قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » بالشبهات الموضوعية ، فإنه لولا كلمة « بعينه » كان الخبر عاما للشبهات الحكمية والموضوعية ، كقوله علیه السلام « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » ولكن لفظة « بعينه » توجب ظهور الخبر في الشبهات الموضوعية.

وقد استدل للبرائة بقوله صلی اللّه علیه و آله « الناس في سعة ما لا يعلمون » (2) وفي دلالته تأمل إلاّ على بعض الوجوه.

ص: 364


1- أقول : معنى معرفة الحرام بعينه تشخيص الحرام من الحلال ، لا تشخيصه خارجا ، فلا قصور في شمول الحديث - لولا الأمثلة في ذيله - للشبهات الحكمية ، هذا مع إمكان حمل « بعينه » على بيان التأكيد لموضوع الحرمة وأنه حقيقة معروضها ، لا أنه من توابع المعروض ، فيرتفع حينئذ الإشكال رأسا. نعم: العمدة في هذه الرواية الأمثلة الواقعة في ذيلها ؛ والذى يسهل الخطب أن هذه الأمثلة لا يناسب «قاعدة الحلية» حتى على اختصاصها فى الشبهات الموضوعية؛ فلابد من التفصى عنها على كلا التقديرين، كما لا يخفى.
2- مستدرك الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 4. لفظ الحديث فيه « .. ما لم يعلموا ».

والإنصاف ، أن أظهر ما استدل به على البراءة من الأخبار هو « حديث الرفع » وفيه الكفاية.

وأمّا الإجماع :

فقد أفاد الشيخ قدس سره في تقريره وجوها.

ولكن الذي ينفع منه في المقام هو إجماع العلماء كافة من الأصوليين والأخباريين على البراءة ، والإجماع على هذا الوجه لم ينعقد ، بل هو مقطوع العدم ، كيف! وجل الأخباريين ذهبوا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية التي هو مورد البحث ، ولا يمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقق الإجماع مع أن جملة منهم من أجلاء الأصحاب وأعيانهم. وأما بقية تقريرات الإجماع : فلا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها ، بحيث تقدم أو تعارض ما سيأتي من الوجوه التي تمسك بها الأخباريون على وجوب الاحتياط ، لو تمت دلالتها وسلمت عن المناقشة في حد نفسها.

وأمّا العقل :

فحكمه بالبرائة مما لا يكاد يخفى ، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظان وجوده ، ولا يكفي في صحة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلف ، فان وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي.

فتوهم : أن البيان في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواقعي - سواء وصل إلى العبد أو لم يصل - فاسد ، فان العقل وإن استقل بقبح العقاب مع عدم البيان الواقعي ، إلا أنه استقلاله بذلك لمكان أن مبادئ الإرادة الآمرية بعد لم تتم ، فلا إرادة في الواقع ، ومع عدم الإرادة لا مقتضى لاستحقاق العقاب ، لأنه لم يحصل تفويت لمراد المولى واقعا ، بخلاف البيان

ص: 365

الغير الواصل فإنه وإن لم يحصل مراد المولى وفات مطلوبه واقعا ، إلا أن فواته لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته ، بل فواته إما أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوفى مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، وإما أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلف ، وعلى كل تقدير : لا يستند الفوات إلى العبد ، فلأجل ذلك يستقل العقل بقبح مؤاخذته ، فمناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلف.

فان قلت : يكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان الشك في التكليف يلازم الشك في الضرر ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

قلت : قد تقدم الكلام في كل من الصغرى والكبرى بما لا مزيد عليه - في مبحث الظن قبل دليل الانسداد - وإجماله : أن المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، إما أن يكون هو الضرر الدنيوي من نقص في الأنفس والأطراف والأعراض ، وإما أن يكون هو الضرر الأخروي من العذاب والعقاب ، وإما أن يكون هو المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام من القرب والبعد ونحو ذلك مما لا يرجع إلى الضرر الدنيوي ولا إلى العقاب الأخروي ، فإنه يمكن أن تكون مناطات الأحكام أمورا اخر غير المضار الدنيوية والعقاب الأخروي.

وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل في هذه الوجوه الثلاثة ليس بمناط واحد ، بل حكمه بوجوب دفع الضرر الدنيوي بالنسبة إلى خصوص الأنفس والأطراف أو الأعراض أيضا يمكن أن يكون لأجل ما في الضرر الواقعي من المفسدة التي أدركها العقل فاستقل بقبح الإقدام عليه ، ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة ، فان الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام ، وكلما كان الحكم العقلي واقعا في هذه السلسلة يكون مورد

ص: 366

القاعدة الملازمة فيستتبعه الحكم الشرعي.

فعلى هذا يكون حكمه بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر أو يظن طريقا محضا للتحرز عن الوقوع في الضرر الواقعي ، فلا يترتب على موافقته ومخالفته غير ما يترتب على نفس الواقع عند موافقة الظن أو الاحتمال للواقع أو مخالفته.

ويمكن أن يكون تمام موضوع حكم العقل هو الإقدام على ما لا يأمن معه من الوقوع في الضرر الواقعي ، من غير فرق بين صورة القطع بالضرر أو الظن أو الاحتمال ، نظير حكمه بقبح التشريع ، على ما تقدم بيان ذلك.

وعلى كل تقدير : سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه (1).

هذا كله إن كان المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل هو الضرر الدنيوي.

وإن كان المراد منه الضرر الأخروي ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل بل الموهوم إنما يكون إرشادا محضا ليس فيه شائبة المولوية ، ولا يمكن أن يستتبع حكما شرعيا ، لأن حكم العقل في ذلك إنما يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكون موردا لقاعدة الملازمة - كما أوضحناه في محله - ولكن ذلك فرع احتمال العقاب ، ومع عدم وصول التكليف بوجه لا تفصيلا ولا إجمالا يحتمل العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يكون حاكما وواردا على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل.

وبالجملة : بعد استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، تختص « قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل » بأطراف العلم الإجمالي

ص: 367


1- أقول : في الضرر الواقعي على الأول ، وفي محتمله على الثاني.

أو الشبهة البدوية قبل الفحص ، وأما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب ، لأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب.

والحاصل : أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا يصلح أن يكون بنفسه بيانا للتكليف المشكوك (1) لأنه لا يكون رافعا للشك ، وتمام الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو نفس الشك في التكليف ، فإنه بمجرده يستقل العقاب بقبح العقاب عليه فينقطع بعد العقاب ، فيرتفع موضوع قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر. هذا إذا كان المراد من الضرر في القاعدة الضرر العقابي.

وإن أريد منه المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام ، فالشك في التكليف وإن كان يلازم الشك في المصلحة والمفسدة ، إلا أن التحرز عن احتمال المفسدة وفوات المصلحة ليس مما يستقل العقل بلزومه ، بل إن أدرك العقل المصلحة والمفسدة التامة وأحاط بجميع الجهات ولم ير مزاحما لها حكم بقبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة. وأما مجرد احتمال وجود المصلحة والمفسدة مع احتمال وجود المزاحم فلا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بقبح الاقتحام على ما فيه احتمال المفسدة وترك ما فيه احتمال المصلحة.

نعم : قد تكون المفسدة أو المصلحة المحتملة بمثابة من الأهمية يلزم التحرز عن الوقوع في مخالفتها ولو احتمالا ، إلا أنه لو كانت بهذه المثابة فعلى الشارع جعل المتمم وايجاب الاحتياط ، كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ، ومع الشك في ايجاب الاحتياط كان المرجع هو البراءة ، لأنه كأحد التكاليف المجهولة ، فيعمه « حديث الرفع ».

ومما ذكرنا يظهر : ما في كلام الشيخ قدس سره من الخلل ، حيث

ص: 368


1- أقول : لو اقتصر بالبيان الأول لكان أولى ، لأن في بيانية التكاليف الطرقية لا يحتاج إلى رفع الشك ، نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية.

قال قدس سره : « ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة بأن الحكم المذكورة على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها » إلى أن قال : « وإن أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ثبوتها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية » إلى آخر ما أفاده.

والإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس سره ذلك (1) فان حكم العقل بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر العقابي إنما يكون إرشادا محضا لا يمكن أن يستتبع حكما مولويا شرعيا ، فكيف يمكن أن يكون العقاب على مخالفته وإن لم يكن في مورده تكليف واقعي؟ وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية؟ مع أن مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع

ص: 369


1- أقول : لا نفهم من كلمات الشيخ قدس سره أزيد مما أخذت بقوله : والحاصل إلى آخره ، وأن قوله : « وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية » مبنى على تسليم البيانية ولا يكون إرشادا ، لا أنه مسلم عنده ، كيف! وصريح كلماته في الشبهة المحصورة وغيرها إرشادية هذا الحكم بالنسبة إلى احتمال العقاب ، كما أن لازم كونه حكما مولويا ظاهريا الالتزام بالعقوبة على نفسه ولو لم يكن في الواقع تكليف ، كما هو شأن موضوعية الطريق عند المخالفة. وتوهم : أن الأحكام الظاهرية لا يعاقب عليها عند مخالفتها للواقع، صحيح في الأوامر الطرقية لا في الأوامر النفسية المجعولة نفسياً في ظرف الجهل بالحكم. وما افيد أيضاً بأن فى الاصول الغير المحرزة يعاقب على مخالفتها بشرط وجود التكليف في موردها، كلام ظاهرى، إذ الأمر فى هذه القاعدة إن كان طريقياً يعاقب على الواقع، وإن كان نفسياً يعاقب على نفسها وإن خالف الواقع. ولا نرى وجهاً لهذا الشرط الضمني ولا طعناً على مثل هذا «المؤسس» بعدم ترقبه منه صدور هذا الكلام؛ ولقد صدر نظيره فى ايجاب الإحتياط الشرعى رداً على الأخباريين أيضاً. نعم الذى يرد عليه هو الذي أشرنا في ذيل قول المقرر «والحاصل الخ» وهو أن مجرد كونه حكماً في ظرف الشك لا يقتضى أن يكون ايجاباً نفسياً موجبا للعقوبة على نفسه مطلقاً، بل من الممكن كون أمره طريقياً حاكياً عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها وترخيصاً محضاً عند مخالفته للواقع؛ وبه أجبنا عما أفاده في منع بيانية ايجاب الإحتياط الشرعى أيضاً، كما لا يخفى.

استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع ، بل العقاب يدور مدار مخالفة الواقع مع وجود طريق إليه ، وفي جميع موارد القواعد الظاهرية يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة القاعدة عند إدائها إلى مخالفة الواقع لا مطلقا ، على اختلاف فيها : من كونها محرزة للواقع كالأمارات والأصول التنزيلية فالعقاب على الواقع ، أو غير محرزة كأصالة الاحتياط فالعقاب على مخالفة القاعدة ولكن بشرط كونه مؤديا إلى مخالفة الواقع ، ويأتي بيان ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في خاتمة الاشتغال.

وعلى كل حال : ما أفاده الشيخ قدس سره من أن العقاب على مخالفة نفس القاعدة الظاهرية وإن لم تؤدى إلى مخالفة الواقع مما لا يستقيم.

وأغرب من ذلك : ما أفاده أخيرا : من أنه لو كان المراد من الضرر غير العقاب من المصالح والمفاسد فاحتماله لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وهذا الكلام منه قدس سره يعطى أن المصالح والمفاسد من أفراد الضرر (1) وتعمها قاعدة « قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر » ولكن الشارع رخص في الاقتحام في موارد احتمال المفسدة.

وأنت خبير بما فيه ، فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الذي يستقل العقل بلزوم التحرز عن محتمله. وعلى كل تقدير : فقد ظهر لك : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على حكمه بقبح الاقتحام على ما لا يأمن معه عن الضرر العقابي ، وهذا الحكم العقلي يعم جميع الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية والوجوبية.

ثم إنه ربما يستدل للبرائة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر ، وسيأتي البحث عن حال هذا الاستصحاب وأن استصحاب البراءة مما لا يجرى في شيء من المقامات ، سواء كان المراد من العدم المستصحب العدم

ص: 370


1- أقول : ظاهر كلامه بيان أن مراده لو كان ذلك ، وذلك لا يدل على اختياره ، كما لا يخفى.

حال الصغر قبل البلوغ ، أو العدم قبل الوقت في الموقتات ، فانتظر ما يأتي في مبحث الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام.

وقد استدل للبرائة بوجوه أخر لا تخلو عن ضعف ، فلا يهمنا التعرض لها وفيما ذكرناه كفاية.

فلنشرع في أدلة الأخبارييّن

وقد استدلوا بالأدلة الثلاثة :

فمن الكتاب قوله تعالى : « فاتقوا اللّه حق تقاته » (1) وقوله تعالى : « واتقوا اللّه ما استطعتم » (2) وقوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (3) فان الاقتحام في الشبهة ينافي التقوى المأمور بها. وكذا الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم.

ولا يقال : إن الحكم بحرمة الاقتحام فيها أيضا قول بغير علم ، فان الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمل.

ولا يخفى : أن الآيات الشريفة بمعزل عن الدلالة على مذهب الأخباريين. أما آيات التقوى : فمع أنها لا تدل على الوجوب ، لا تنافى الاقتحام في الشبهة اعتمادا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واتكالا على قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ومنه يظهر : أن القول بجواز الاقتحام ليس قولا بغير علم ، لدلالة حكم العقل والشرع على عدم استحقاق العقاب على التكليف الغير الواصل ، فيكون القول بالجواز قولاً عن علم.

ص: 371


1- سورة آل عمران الآية 102.
2- سورة التغابن الآية 16.
3- سورة الأسراء الآية 36.
ومن السنّة طوائف :

منها : أخبار التوقف كقوله علیه السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (1) وهي كثيرة مستفيضة ، بل تبلغ حد التواتر ، وظاهر التوقف هو السكون وعدم الحركة فالتوقف في الشبهات عبارة عن الاحتياط فيها وترك المضي فيها.

ومنها : الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة أيضا تبلغ حد الاستفاضة ، ففي الصحيح : عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال لا ، بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسئلوا عنه فتعلموا (2).

وفي موثقة عبد اللّه ، قال : كتبت إلى العبد الصالح علیه السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عين الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل [ الجبل ] فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك ، الخبر (3).

وعن « المفيد الثاني » قال : إن أمير المؤمنين علیه السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (4).

وقوله علیه السلام ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الإحتياط (5).

ص: 372


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 13.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
3- الوسائل الباب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث 2.
4- الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 41.
5- قال الشيخ (رحمه اللّه) في « الفرائد » أرسله الشهيد.

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حسن الاحتياط ووجوبه.

ومنها : أخبار التثليث ، كقوله علیه السلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة : وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه تعالى وإلى رسوله صلی اللّه علیه و آله قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (1).

وتقريب الاستدلال بها : هو أن « المقبولة » دلت على وجوب ترك الشاذ معللا بأنه فيه الريب ، ومقتضى عموم العلة هو وجوب ترك كل ما كان فيه الريب والشك ، ومنه ما هو المبحوث عنه من الشبهات التحريمية ، بل مورد الرواية مختص بما كان الشك فيه لأجل احتمال الحرمة ، كما يظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك » أي بين الحلال والحرام.

فدلالة أخبار التثليث على وجوب التحرز عن الشبهات التحريمية وحرمة الاقتحام فيها أوضح من الأخبار السابقة ، هذا.

والجواب أمّا عن الطائفة الأولى : فالأمر بالتوقف فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، ولا يمكن أن يكون أمرا مولويا يستتبع الثواب والعقاب ، فان المراد من « الهلكة » في قوله علیه السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » هي العقاب ولا يمكن أن يكون المراد منه العقاب الجائي من قبل مخالفة الأمر بالتوقف ، لأن الظاهر أن يكون قوله علیه السلام ذلك لبيان الملازمة بين الاقتحام والوقوع في الهلكة ، فلابد وأن تكون الهلكة مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف ، لتكون في البين ملازمة بين

ص: 373


1- الوسائل الباب 12 الحديث 9.

عدم التوقف والهلكة ، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلا بعد فرض تنجز التكليف ، وذلك لا يكون إلا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فيكون حاصل مفاد قوله علیه السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة « هو أن ترك التعرض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقف للإرشاد وهو تابع للمرشد إليه ، فان صادفت الشبهة متعلق التكليف يستحق المكلف العقوبة لفرض تنجز التكليف ، وإن خالفت الشبهة متعلق التكليف لم يكن في البين شيء إلا التجري.

ويحتمل قريبا أن تكون روايات التوقف لإفادة معنى آخر ، وهو أن الاقتحام في الشبهات يوجب وقوع المكلف في المحرمات ، لا أن نفس الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام المعلوم بالإجمال - كما هو مفاد الوجه الأول - بل ترك الوقوف عندها والاقتحام فيها مظنة الوقوع في المحرمات ، فان الشخص إذا لم يجتنب عن الشبهات وعود نفسه على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية وكان ذلك موجبا لجرئته على فعل المحرمات ، وقد ورد نظير ذلك في باب المكروهات (1) فإنه لو لم يعتنى المكلف بالمكروهات وأكب على فعلها أدى ذلك إلى الجرئة على فعل المحرمات ، كما أن الشخص لو لم يعتنى بالمعصية الصغيرة هانت عليه الكبيرة ( أعاذنا اللّه من ذلك ) وأما إذا لم يعود الشخص نفسه على الاقتحام في الشبهات بل عود نفسه على التجنب عنها والوقوف عندها حصلت ملكة التجنب عن المعاصي ، وإلى ذلك يشير قوله علیه السلام « والمعاصي حمى اللّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (2).

وعلى هذا فالأمر بالوقوف عند الشبهة يكون استحبابيا ، كما هو الظاهر

ص: 374


1- لم أجده بعد الفحص والسؤال ( المصحح ).
2- الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22.

من قوله علیه السلام في بعض أخبار التوقف « أورع الناس من وقف عند الشبهة » (1) وقوله علیه السلام « لا ورع كالوقوف عند الشبهة » (2).

وعلى كل حال : من راجع أخبار التوقف وتأمل فيها يقطع بأن الأمر فيها ليس أمرا مولويا بنفسه يستتبع الثواب والعقاب ، فلا يصلح للأخباري الاستدلال بها على مدعاه.

وأمّا الطائفة الثانية : وهي الأخبار الواردة في الأمر بالاحتياط ، فأظهرها دلالة ما تقدم منها ، وهي لا تصلح للاستدلال بها على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية.

أما الصحيحة الأولى : فلعدم العمل بها في موردها ، فان الشك في وجوب الجزاء على كل من اللذين اصطادا ، إما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، وإما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن في صورة اشتراك الشخصين في الصيد ، إما أن نقول بوجوب إعطاء نفس البدنة ، وإما ان نقول بوجوب إعطاء قيمة البدنة.

فان قلنا : بوجوب إعطاء القيمة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن اشتغال ذمة كل منهما بنصف قيمة البدنة متيقن ويشك في اشتغال الذمة بالزائد ، نظير تردد الدين بين الأقل والأكثر.

وإن قلنا : بوجوب إعطاء نفس البدنة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنه يدور الأمر بين وجوب إعطاء تمام البدنة على كل منهما أو نصفها ، وعلى تقدير كون الواجب هو تمام البدنة لا يجزى الأقل ولا يسقط به التكليف (3) نظير تردد أجزاء الصلاة بين الأقل والأكثر ؛

ص: 375


1- الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 24.
2- الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 20.
3- 3 - أقول : من الممكن على هذا التقدير أن الواجب عليه البدنة بما لها من المالية في ضمن خصوصية العين ، فإنه حينئذ لو أعطى نصف البدنة مشاعا في تمامها يجزى عن تكليفه بمقداره ولو كان الواجب عليه تمام البدنة ، وعلى أي حال : بعد كون الأقل والأكثر مطلقا مجرى البراءة يسهل الخطب في المقام. ولا يحتاج إلى هذا التشقيق ، فتدبر. كما أنّ عدم القول بالفصل بين الشبهات البدوية المحضة والمقرونة بالعلم المنحل إلی الأقل والأكثر الغير الإرتباطي يرفع توهّم عدم شمول النص مورد البحث مطلقاً، كما لا يخفی.

وعلى كلا التقديرين : الشبهة في مورد السؤال إنما تكون وجوبية ولا يجب الاحتياط فيها باتفاق الأخباريين ، فالصحيحة في موردها لم يعمل بها.

مضافاً إلى أن مورد البحث هو الشبهة البدوية التي لم يسبق العلم بالتكليف في موردها بوجه من الوجوه ، ومورد الصحيحة هو ما إذا علم بالتكليف في الجملة وإن تردد متعلقه بين الأقل والأكثر ، فيمكن الالتزام بوجوب الاحتياط في مورد الصحيحة وعدم وجوب الاحتياط في مورد البحث ، مع أن ظاهر الصحيحة هو كون المكلف متمكنا من الفحص وتحصيل العلم بحكم الواقعة ، ومحل الكلام هو ما إذا لم يكن تحصيل العلم بحكم الواقعة ، فلا يصح التمسك بالصحيحة لمورد البحث.

وأما الموثقة : فالشبهة في موردها لا تخلو : إما أن تكون موضوعية ، وإما أن تكون حكمية ، فان كانت موضوعية - كما لا يبعد ذلك بل يقربه استبعاد تقرير الإمام علیه السلام الجاهل على جهله في الشبهات الحكمية فإنه على الإمام علیه السلام رفع الشبهة وتبيين الأحكام للجاهلين لا الأمر بالاحتياط - فالاحتياط فيها واجب على كل حال ، لاستصحاب بقاء النهار وعدم دخول الليل ، ومع جريان الاستصحاب لا يبقى موضوع للبرائة ، مع أنه لو كانت الشبهة موضوعية وأغمضنا النظر عن الاستصحاب فالاحتياط لا يجب فيها باتفاق الأخباريين.

وإن كانت الشبهة حكمية : بأن يكون المراد من الحمرة المرتفعة الحمرة المشرقية التي لابد من زوالها في تحقق الغروب ، فيكون السؤال حينئذ عن وقت المغرب الذي تجب الصلاة فيه ويجوز الإفطار عنده وأنه هل يتحقق باستتار

ص: 376

القرص أو لابد من ذهاب الحمرة المشرقية؟ والإمام علیه السلام في مقام رفع هذه الشبهة وبيان أن الحمرة المشرقية لابد من زوالها في جواز الإفطار وصحة الصلاة - كما هو المشهور عند الخاصة - فبين الحكم الشرعي بلسان الأمر بالاحتياط ، وقال علیه السلام « تأخذ بالحائطة لدينك ».

ولعلّ السر في الأمر بالاحتياط - مع أنه كان ينبغي إزالة الشبهة ورفع جهل السائل بالزامه بالانتظار إلى أن تذهب الحمرة المشرقية - هو التقية والتباس الأمر على العامة القائلين بتحقق المغرب باستتار القرص ، فأمر علیه السلام بالاحتياط لكي يتخيل لهم أن الأمر بالانتظار إنما كان لأجل الاحتياط وحصول اليقين باستتار القرص ، لا لأجل أن المغرب لا يتحقق إلا بذهاب الحمرة المشرقية ، فالإمام علیه السلام قد أفاد وجوب الانتظار على خلاف فتوى العامة ببيان لا ينافي التقية ، كما أن قوله علیه السلام « أرى لك أن تنتظر » الذي يستشم منه رائحة الاستحباب - إنما كان للتقية والتباس الأمر على العامة لكي يزعموا أن الحكم بالتأخير إلى ذهاب الحمرة عند الخاصة إنما هو للاستحباب. وعلى كل حال : فالاحتياط بمعنى التأخير إلى ذهاب الحمرة مفروض السؤال واجب لا دخل له بما نحن فيه.

وأما عن بقية الأخبار المطلقة ( التي لم ترد في مورد خاص ) كقوله علیه السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك » فإنها وردت في مقام الإرشاد ، فالأمر فيها تابع للمرشد إليه ، ولا يمكن أن يكون الأمر بالاحتياط فيها أمرا مولويا ، وإلا يلزم تخصيص الأكثر ، لعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية مطلقا ، وفي الشبهات الحكمية الوجوبية بالاتفاق.

وأمّا عن الطائفة الثالثة : فبأن الأمر فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات » هو الملازمة بين التعرض للشبهات والوقوع في المحرمات ، فالأخذ بالشبهات بنفسه ليس من المحرمات ، بل يستلزم ذلك الوقوع فيها ؛ فيكون النهى عن الأخذ

ص: 377

بالشبهات للإرشاد إلى عدم الوقوع في المحرمات (1) لأن التجنب عن الشبهات يوجب حصول ملكة الردع عن المحرمات ، كما أن الاقتحام فيها يوجب التجري على فعل المحرمات ، وذلك هو الظاهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » فمفاد أخبار التثليث أجنبي عن مقالة الأخباريين.

الدليل الثالث : ( الذي استدل به الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية ) هو حكم العقل ، وتقريره من وجهين :

أحدهما : العلم الإجمالي بثبوت محرمات في الشريعة وهذا العلم الإجمالي حاصل لدى كل أحد قبل مراجعة أدلة الأحكام ، ولا إشكال في استقلال العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية ، فلابد من ترك كل ما يحتمل الحرمة ليحصل اليقين بالفراغ ، ولا يجوز الاقتصار على ترك ما علم حرمته ، لأن ذلك لا يوجب حصول العلم بالفراغ.

ثانيهما : كون الأصل في الأفعال الغير الضرورية والتي لا يتوقف عليها حفظ النظام الحظر ، فلا يجوز الاقتحام في كل أمر لم يعلم الإذن فيه.

ولا يخفى ما في كلا الوجهين من الضعف.

أمّا الوجه الأوّل : فلانحلال العلم الإجمالي بعد الرجوع إلى الأدلة والاطلاع على مقدار من المحرمات يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، بل يمكن أن يقال : إنا نعلم بمصادفة بعض الأمارات للواقع بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية. وعلى ذلك يحمل ما أجاب به الشيخ قدس سره عن الدليل العقلي بقوله : « منع تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدى إليه الطريق » وإن كان ذلك خلاف ظاهر العبارة ، فان ظاهرها لا ينطبق على

ص: 378


1- أقول : ويمكن أن يكون الأمر فيها للاستحباب ، كما مر منه في توجيه أخبار التوقف السابق ، فراجع.

القواعد (1) فتأمل.

ودعوى ثبوت العلم الإجمالي في خصوص الشبهات التي لم يقم عليها دليل ، مما لا شاهد عليها ، وقد تقدم في دليل الانسداد تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه ، هذا ، مضافا إلى أن متعلق العلم الإجمالي أعم من الشبهات الوجوبية والتحريمية ، فلا وجه لجعل ذلك وجها لوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية.

وأمّا الوجه الثاني : فهو أسوء حالا من الوجه الأول ، لما فيه أولا : من المنع عن كون الأصل في الأشياء الحظر بل الأصل فيها الإباحة لعموم قوله تعالى : « خلق لكم ما في الأرض جميعا » (2). وثانيا : من الفرق بين مسألة الحظر والإباحة ومسألة البراءة والاشتغال ، وقد تقدم تفصيل ذلك أيضا ( في أول مبحث البراءة ) فراجع.

فالإنصاف : أنه ليس للأخباري ما يمكن أن يقاوم حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » فالأقوى : جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية الحكمية التي هي مورد البحث والنزاع بين الأخباريين والأصوليين.

وقد ذكر الشيخ قدس سره في خاتمة المسألة تنبيهات لا يهمنا التعرض لها.

نعم : ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أن أصالة البراءة والإشتغال إنّما

ص: 379


1- أقول : ظاهر كلام « شيخنا الأعظم » لا غبار فيه ، إذ هو ينادى بأن التكليف الفعلي الملزم للعقل بالموافقة لا يكون إلا بما أدى إليه الطرق ، بملاحظة أن الطرق مطلقا موجبة لانحلال العلم المانع عن تنجيزه للواقعيات المحتملة الانطباق على غير دائرة الطرق المعلومة ، لا أن غرضه انقلاب التكاليف الواقعية بمؤدى الطرق ، أو أن الطرق المعلوم المطابقة بمقدار المعلوم بالإجمال ، كما توهم.
2- سورة البقرة : الآية 29.

هي من الأصول الحكمية الغير المتكفلة للتنزيل ، فكل أصل متكفل للتنزيل يكون حاكما عليها ، ونعني ب « الأصل المتكفل للتنزيل » هو أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي ، سواء كان المؤدى موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا.

ومراد الشيخ قدس سره من الأصل الموضوعي في قوله : « إن أصل أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها » هو ما ذكرنا ، لا خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي - كما ربما يوهمه ظاهر العبارة - بل كل أصل محرز متكفل للتنزيل يكون حاكما على أصالتي البراءة والاشتغال ، فلو شك في حلية الحيوان وطهارته - من جهة الشك في قبوله التذكية - حكم عليه بالحرمة ، لأصالة عدم التذكية ، ولا تجرى أصالة الحل والبرائة فيه.

ولا بأس باستقصاء الكلام في ما يتعلق بالمثال ، وإن كان خارجا عن المقام ، وذلك يتم برسم أمور :

الأمر الأوّل :

اختلفت كلمات الأصحاب فيما يقبل التذكية من الحيوان ، فقيل : لا يقبل التذكية إلا ما يحل أكله : من الغنم والبقر وغير ذلك. وقيل : كل حيوان يقبل التذكية ما عدا المسوخ. وقيل : بقبول المسوخ للتذكية أيضا ويختص ما لا يقبل التذكية بالحشرات. وينسب إلى العامة القول بقبول الحشرات للتذكية أيضا. ولا يبعد استفادة التعميم لغير الحشرات ونجس العين من بعض الأدلة. وعليه : لا يبقى مورد لجريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الحكمية بعد العلم بكون الحيوان ليس من الحشرات ولا من نجس العين ، فلو تولد حيوان من الغنم والأرنب - ولم يتبع أحدهما في الاسم - يحكم عليه بأنه يقبل التذكية ، وبعد ورود التذكية عليه - من فرى الأوداج وغير ذلك من الأمور الخمسة المعتبرة في

ص: 380

التذكية - يحكم عليه بالطهارة (1).

هذا إذا قلنا : بأن كل حيوان مما يقبل التذكية بمقتضى بعض الإطلاقات. وإن منعنا عن ذلك ، وشك في كون الحيوان المتولد من حيوانين - أحدهما يقبل التذكية والآخر لا يقبل التذكية - مما يقبل التذكية أو لا يقبل؟ فعلى بعض التقادير تجرى فيه أصالة عدم التذكية ويحكم عليه بالحرمة والنجاسة ، وعلى بعض التقادير لا تجري فيه أصالة عدم التذكية ويحكم عليه بالحل والطهارة (2) بمقتضى أصالة الحل والطهارة وسيأتي توضيح ذلك. هذا إذا كانت الشبهة حكمية ، وإن كانت الشبهة موضوعية ، كما لو شك في كون اللحم المطروح من الحيوان الذي يقبل التذكية أو من الذي لا يقبل التذكية - بعد إحراز ما يقبل التذكية وما لا يقبل بحسب الحكم الشرعي - فمع العلم بورود فعل المذكى عليه ( من فرى الأوداج وغيره ) يحكم عليه بالحل والطهارة ، لأنه لا يجرى فيه أصالة عدم التذكية (3) ومع الشك في ورود فعل المذكى عليه يحكم عليه بالحرمة والنجاسة ، لأصالة عدم التذكية (4) وذلك واضح.

الأمر الثاني :

هل التذكية الموجبة للطهارة والحلية عبارة عن المعنى المتحصل من قابلية المحل والأمور الخمسة - من فرى الأوداج بالحديد على القبلة مع التسمية وكون المذكى مسلما - بمعنى كون التذكية معنى بسيطا يحصل من المجموع

ص: 381


1- أقول : وكذا الحلية لأصالة الحلية. وقد يستظهر من ذيل كلامه : أنه على هذا لا يحتاج إلى أصالة الحل ، وأظن أنه سهو من القلم ، لأن من لوازم التذكية مطلقا هو الطهارة فقط.
2- أقول : الظاهر من التقديرين كون التذكية أثرا حاصلا أو أنها نفس الأفعال.
3- أقول : لجريان أصالة الصحة في فعله بعنوان التذكية.
4- أقول : بناء على كونها أثرا حاصلا ، لا مطلقا.

المركّب من قابلية المحل وتلك الأمور الخمسة؟ أو أن التذكية عبارة عن نفس الأمور الخمسة ، وقابلية المحل أمر خارج عن حقيقة التذكية وإن كان لها دخل في تأثير الأمور الخسمة في الطهارة والحلية؟ وجهان : لا يخلو ثانيهما عن قوة ، لقوله تعالى : « إلا ما ذكيتم » (1) فان نسبة التذكية إلى الفاعلين تدل على أنها من فعلهم (2) وعليه : لا يبقى موقع لأصالة عدم التذكية عند الشك في قابلية الحيوان للتذكية (3) لأن قابلية الحيوان للتذكية ليس لها حالة سابقه وجودا وعدما ، فلا موقع لاستصحاب عدمها ، بل المرجع عند الشك في القابلية أصالة الحل والطهارة ، بناء على جريان « قاعدة الحل » في الشبهات الحكمية. ولكن هذا إذا لم نقل بقابلية كل حيوان للتذكية - حسبما يستفاد من الأدلة - وإلا لم يكن حاجة إلى أصالة الحل والطهارة ، كما تقدم في الأمر الأول.

هذا إذا كانت التذكية عبارة عن نفس الأمور الخمسة وكانت قابلية المحل شرطا للتأثير. وإن كانت التذكية عبارة عن الأمر المتحصل عن قابلية المحل والأمور الخمسة ، فعند الشك في قابلية الحيوان للتذكية - من جهة الشبهة الحكمية تجرى أصالة عدم التذكية ، لأن الحيوان في حال الحياة لم يكن مذكى فيستصحب العدم إلى زمان خروج روحه وورود فعل المذكى عليه.

وتوهم : أن التذكية لو كانت مركبة من قابلية المحل وفعل المذكى ، والمفروض أنه قد تحقق أحد جزئيها - وهو فعل المذكى - فلم يبق إلا الجزء الآخر

ص: 382


1- سورة المائدة الآية 3.
2- أقول : لو تشبث المدعى بظهور نفس التذكية بلفظها لغة وعرفا في المعنى البسيط ( نظير التطهير ) بلا تصرف من الشارع في أصل المعنى - وأن تصرفه في سببه ومحققه - كان أولى مما أفيد ، كيف! وبعدما كانت التذكية بهذا المعنى من الأفعال التوليدية لا قصور في انتسابها إلى الفاعلين ، كما لا يخفى.
3- أقول : لو بنينا على خروج قابلية المحل عن التذكية وأن التذكية عبارة عن نفس الأفعال ، فمع القطع بوجود التذكية لا يجدى في إثبات الطهارة من دون وصول النوبة حينئذ إلى أصالة عدم التذكية ، بل تعليل عدم جريان أصالة عدم التذكية بأن قابلية المحل ليس له حالة سابقة لا يتم إلا بناء على كون القابلية المزبورة دخيلا في حقيقة التذكية لا خارجا ، فتدبر.

وهو ليس له حالة سابقة فلا معنى لاستصحاب عدم التذكية المركبة من جزئين قد تحقق أحد جزئيها وجدانا والجزء الآخر ليس مما تعلق به اليقين سابقا لعدم العلم به.

فاسد (1) فان المفروض أن التذكية ليست مركبة من جزئين ، بل هي عبارة عن الأمر البسيط المتحصل من مجموع الأمرين ، وهذا المعنى البسيط كان مقطوع العدم في حال حياة الحيوان قبل ورود فعل المذكى عليه ، وبعد ورود فعل المذكى يشك في وجوده فيستصحب عدمه ، غايته أن جهة اليقين والشك تختلف ، فإنه في حال الحياة كانت جهة اليقين بعدم التذكية عدم ورود فعل المذكى عليه وهذه الجهة قد انتفت بورود فعل المذكى عليه ، وجهة الشك في كونه مذكى هي قابليته للتذكية. واختلاف جهة الشك واليقين لا يضر بالاستصحاب. نعم : لو كانت التذكية عبارة عن نفس المجموع المركب لم يكن للاستصحاب مجال ، فتدبر جيّداً.

الأمر الثالث :

قد عرفت : أنه لو استفيد من الأدلة قابلية كل حيوان للتذكية فلا

ص: 383


1- أقول : أظن أن في ذهن « المقرر » جعل هذا الوجه أيضا أحد الشقين المقابل لما اختاره من الوجه السابق ، حيث إن مقابله إما جعل التذكية أثرا حاصلا أو جعلها عبارة عن مجموع الأفعال مع القابلية ، ثم دفع توهم جريان أصالة عدم التذكية على هذا الفرض أيضا ، فان العبارة وقعت في غير محله فصارت بمنزلة توضيح الواضح. وبالجملة نقول : إنه قد أشرنا سابقا أنه على كل واحد من الاحتمالات نحو من الأصل ، فعلى الأثر الحاصل يجرى أصالة عدم التذكية بلا إشكال. وعلى كون التذكية نفس الأفعال مع خروج القابلية عن حقيقته ، فلا قصور في جريان أصالة عدم التذكية عند الشك في جريان فعل عليه من حيث العلم بالحالة السابقة. ولكن لا نتيجة له مع الشك في القابلية ، كيف! ومع القطع بوجودها حينئذ لا ينتج شيئا. وعلى كون القابلية داخلا في حقيقتها ، فمع الشك في القابلية لا يجرى الأصل من جهة الشك في الحالة السابقة ، كما لا يخفى ، فتدبر.

موقع لأصالة عدم التذكية عند الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية ، بل المرجع عند الشك عموم الدليل ، فيحكم عليه بالطهارة ، ولو شك في حلية أكل لحمه يحكم عليه بالحلية ، لقوله علیه السلام - « كل شيء لك حلال » لو قلنا بعموم قاعدة الحل للشبهات الحكمية.

ولو لم يستفيد من الأدلة قابلية كل حيوان للتذكية ، وقلنا : إن التذكية عبارة عن المعنى المتحصل من قابلية المحل وفعل المذكى ، فالمرجع عند الشك في القابلية - كالحيوان المتولد من طاهر ونجس لم يتبعهما في الاسم وليس له اسم خاص يندرج تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة - أصالة عدم التذكية ، فيحكم عليه بالنجاسة وحرمة الأكل ، لأن غير المذكى حرام ونجس.

وإن قلنا : إن التذكية عبارة عن نفس فعل المذكى واجدا للأمور الخمسة وقابلية المحل أمر خارج عن التذكية ، فالمرجع عند الشك فيها أصالة الطهارة وقاعدة الحل ، فعلى جميع التقادير : لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الأصول العملية ، هذا.

ولكن يظهر من بعض الأساطين : التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه.

ولم يظهر وجه لهذا التفصيل ، فان مقتضى أصالة عدم التذكية النجاسة والحرمة ، ومقتضى أصالة الطهارة والحل الطهارة والحلية ، فلا وجه للتفكيك بينهما.

نعم : قد ذكر « شارح الروضة » في وجه ذلك ما حاصله : ان ما حل أكله من الحيوانات محصور معدود في الكتاب والسنة ، وكذلك النجاسات محصورة ومعدودة فيهما ، فالمشكوك إذا لم يدخل في المحصور منهما كان الأصل فيه الطهارة وحرمة لحمه.

وتوضيح ذلك : هو أن تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه ، فمع الشك في تحقق ذلك الأمر الوجودي الذي علق الحكم عليه يبنى ظاهراً على

ص: 384

عدم تحققه ؛ لا من جهة استصحاب العدم إذ ربما لا يكون لذلك الشيء حالة سابقة قابلة للاستصحاب ، بل من جهة الملازمة العرفية بين تعليق الحكم على أمر وجودي وبين عدمه عند عدم إحرازه ، وهذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم ولكن لا ملازمة واقعية ، بل ملازمة ظاهرية ، أي في مقام العمل يبنى على عدم الحكم مع الشك في وجود ما علق الحكم عليه.

ويترتب على ذلك فروع مهمة :

منها : البناء على نجاسة الماء المشكوك الكرية عند ملاقاته للنجاسة مع عدم العلم بحالته السابقة ، كما لو فرض ماء مخلوق الساعة لم يعلم كريته وقلته ، فان الحكم بالعاصمية قد علق في ظاهر الدليل على كون الماء كرا ، كما هو الظاهر من قوله علیه السلام إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا أو لم ينجسه شيء (1) فلا يجوز ترتيب آثار الطهارة على ماء لم يحرز كريته عند ملاقاته للنجاسة ، لأنه يستفاد من دليل الحكم أن العاصمية إنما تكون عند إحراز الكرية ، لا من جهة أخذ العلم والإحراز في موضوع الحكم ، بل من جهة الملازمة العرفية الظاهرية.

ومنها : أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال ، فان الحكم بجواز الوطي مثلا قد علق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال قد علق على كون المال مما قد أحله اللّه ، كما في الخبر « لا يحل مال إلا من وجه أحله اللّه » (2) فلا يجوز الوطي أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك اليمين أو الشك في كون المال مما قد أحله اللّه.

ومنها : غير ذلك من الفروع التي تبتنى على ما ذكرناه (3).

ص: 385


1- مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب الماء المطلق الحديث 6.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 8.
3- أقول : كالحكم بالخمسين في مشكوك القرشية ، ونفوذ الشرط في مشكوك المخالفة للكتاب ، وعدم الإرث في مشكوك الانتساب ، وعدم بطلان المعاملة في مشكوك الغررية ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد تخيّل « شارح الروضة » : أن باب النجاسات واللحوم من صغريات تلك الكبرى ، بتقريب : أن النجاسات في الشريعة معدودة محصورة في عناوين خاصة - كالدم والميتة والكلب والخنزير وغير ذلك - وقد علق وجوب الاجتناب على تلك العناوين الوجودية ، فلابد في الحكم بالنجاسة ووجوب الاجتناب من إحراز تلك العناوين ، ومع الشك في تحقق العناوين يبنى على الطهارة ، وحيث إن الحيوان المتولد من طاهر ونجس لم يعلم كونه من العناوين النجسة يبنى على طهارته. وكذا جواز التناول والأكل قد علق في الشريعة على عنوان الطيب ، كما قال تعالى : « أحل لكم الطيبات » والطيب أمر وجودي عبارة عما تستلذه النفس ويأنس الطبع به ، والحيوان المتولد من حيوانين : أحدهما مأكول اللحم والآخر غير مأكول اللحم ، لم يعلم كونه من الطيب ، فلا يحكم عليه بالحلية وجواز الأكل ، بل ينبغي البناء على حرمته ظاهرا ما لم يحرز كونه من الطيب. هذا غاية ما يمكن أن توجه به مقالة « شارح الروضة ».

ولكن يرد عليه أولا : أن الكبرى - وهي ان تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه - وإن كانت من المسلمات ، إلا أن ذلك في خصوص ما علق فيه الحكم الترخيصي الإباحي على عنوان وجودي ، لا الحكم العزيمتي التحريمي ، فان الملازمة العرفية بين الأمرين إنما هي فيما إذا كان الحكم لأجل التسهيل والامتنان وقد علق على أمر وجودي والأموال ، فان المدرك عندهم هو الأصل المزبور لا غيره ، كما أن الحكم بالنجاسة في المثال الأول أيضا ربما تكون ب « قاعدة المقتضى والمانع » لو لم نقل بجريان الأصل في الأعدام الأزلية ولو في أمثال هذه الأوصاف الزائدة عن الذات وغير الملازمة معها ، وإلا - كما هو التحقيق - فالأمر في كثير من الفروع السابقة واضح من جهة الأصل الموضوعي فيها ، فراجع وتدبر.(1) فلا يجوز الحكم بالترخيص

ص: 386


1- أقول : الأولى أن يمنع استفادة الملازمة الظاهرية من الكبريات الواقعية ، لعدم اقتضاء الكبرى الواقعية إلا إناطة الحكم - من إباحة أو غيرها - على أمر وجودي واقعا ، بلا نظر إلى مرتبة الجهل بالمنوط به أو المنوط. واستفادة العرف من هذا الخطاب الواقعي حكما وإناطة ظاهرية غلط ، كيف! ولا خصوصية لمثل هذا الخطاب في ذلك ، فيلزم الالتزام بهذه الاستفادة في كل خطاب ، وهو كما ترى! ومجرد كون الحكم امتنانيا لا يقتضي الملازمة المزبورة في خصوصه ، إذا العرف لا يفرق في منع الملازمة بين الحكم الواقعي والظاهري بين الأحكام الامتنانية وغيرها ، لجريان المناط في سائر الأحكام في ذلك أيضا ، كما لا يخفى. وحينئذ لولا الأصل الموضوعي لا مجال للحكم بعدم الفرق في الفروع السابقة ، خصوصا في الأعراض

والإباحة ما لم يحرز ذلك الأمر الوجودي ، لا في مثل وجوب الاجتناب عن النجاسة ، وإلا لم يبق موضوع لقوله علیه السلام « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (1) فادراج باب النجاسات في تلك الكبرى ليس في محله. نعم : إدراج الحكم بحل الطيبات في تلك الكبرى في محله لو سلم عما سيأتي.

وثانياً : منع كون الطيب أمرا وجوديا ، بل الطيب عبارة عما لا تستقذره النفس ولا يستنفر منه الطبع ، في مقابل الخبيث الذي هو عبارة عما يستنفر منه الطبع ، فالحكم بالحلية لم يعلق على أمر وجودي ، بل الحكم بالحرمة قد علق على أمر وجودي.

وثالثاً : سلمنا كون الطيب أمرا وجوديا ولكن الخبيث الذي علق عليه الحرمة أيضا أمر وجودي ، والكبرى المذكورة إنما هي في مورد لم يعلق نقيض الحكم المعلق على أمر وجودي ، على أمر وجودي آخر ، وإلا كان المرجع عند الشك في تحقق أحد الأمرين الوجوديين - اللذين علق الحكمان المتضادان عليهما - إلى الأصول العملية ، وهي في مورد البحث ليست إلا أصالة الحل ، ولا يجرى استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته ، فان للحيوة دخلا عرفا في موضوع الحرمة ولا أقل من الشك ، فلا مجال للاستصحاب والطهارة ، فالأقوى : ثبوت الملازمة بين الحل والطهارة في جميع فروض المسألة ، فتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية الحكمية إذا كان منشأ الشبهة

ص: 387


1- مستدرك الوسائل : الباب 29 من أبواب النجاسات الحديث 4. هذه العبارة هي عبارة الصدوق في المقنع.

فقدان النص ؛ وكذا الكلام فيما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص ، لعموم الأدلة المتقدمة ، من غير فرق بين أن يكون إجمال النص لأجل اشتراك اللفظ الدال على الحكم بين الحرمة وغيرها مع عدم نصب قرينة معينة - كما لو فرض اشتراك صيغة النهى بين الحرمة والكراهة لغة وعرفا - أو كان الإجمال لأجل إجمال متعلق الحكم بحسب ماله من المعنى اللغوي والعرفي ، ك « الغناء » إذا فرض إجمال معناه وتردده بين كونه خصوص الصوت المطرب المشتمل على الترجيع وبين كونه مطلق الصوت المطرب.

وقد يتوهم : عدم شمول أدلة البراءة لصورة إجمال المتعلق ، لأنه قد علم تعلق التكليف بمفهوم « الغناء » وما هو واقعه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان ، ولا يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » بل يجب العلم بالخروج عما اشتغلت به الذمة من التكليف ، وذلك لا يتحقق إلا بالاجتناب عن الأفراد المشتبهة والاحتياط بترك كل ما يحتمل كونه من أفراد « الغناء » هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان متعلق التكليف ليس هو مفهوم « الغناء » بما هو مفهوم (1) بل المفاهيم إنما تؤخذ في متعلق التكليف باعتبار كونها مرآة لما تنطبق عليها من المصاديق ، فالنهي إنما تعلق بما يكون بالحمل الشايع الصناعي غناء ، فالمقدار الذي علم كونه من مصاديق الغناء لا يندرج في أدلة البراءة ، وأما الزائد المشكوك فتعمه أدلة البراءة ويندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ويشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فتوهم الفرق بين كون منشأ الشبهة فقدان النص أو إجماله ، فاسد.

ص: 388


1- أقول : قد عرفت منا كرارا بأن الأحكام في عالم عروضها عارضة للعناوين المخزونة في الذهن ، ولكن بنحو يرى خارجية ولا تعلق بمصاديقها خارجا ، وحينئذ الأولى في الجواب أن يقال : إن عنوان « الغناء » الذي هو مفهومه وبإزاء لفظه إذا كان مرددا بين الأقل والأكثر ، فبالنسبة إلى الزائد عن القدر المعلوم ما تمت الحجة ولا العلم حاصل بتعلق التكليف به ، فيكون كلا نص فيه ، فتدبر.

وفي حكم ذلك ما إذا كان منشأ الشبهة تعارض النصين ، لعدم العلم بالتكليف أيضا الذي هو تمام المناط في البراءة الشرعية والعقلية.

نعم : قد ورد في مرفوعة « العلامة » إلى « زرارة » على ما في كتاب « غوالي اللئالي » عن الباقر علیه السلام في الخبرين المتعارضين بعد أمره علیه السلام بالأخذ بأشهرهما ثم بأعدلهما وأوثقهما ثم بما خالف العامة « قلت : ربما كانا موافقين لهما أو مخالفين لهما فكيف نصنع؟ قال علیه السلام فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط » (1) وهذه المرفوعة وإن كانت أخص من الأخبار الآمرة بالتخيير عند فقد المرجحات المذكورة ، إلا أن الشأن في اعتبار المرفوعة (2) إذ لا اعتبار بالكتاب وصاحبه ، كما اعترف بذلك « صاحب الحدائق » حيث طعن في صاحب الكتاب وزيف ما فيه من الروايات ، مع أنه من الأخباريين الذين ليس من شأنهم الطعن في الروايات!. هذا كله إذا كانت الشبهة حكمية ، وقد عرفت : أنه لا فرق بين كون الشبهة لأجل فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين.

وان كانت الشبهة موضوعية : فالظاهر انعقاد الإجماع من الأصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاجتناب عنها وجواز الاقتحام في الشبهة اعتمادا على أدلة البراءة الشرعية والعقلية.

وقد يتوهم : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » تختص بالشبهات الحكمية ولا تعم الشبهات الموضوعية ، لأن مورد القاعدة هو ما إذا لم يرد بيان من الشارع أصلا أو ورد ولكن لم يصل إلى المكلف ، وفي الشبهات الموضوعية البيان الذي هو من وظيفة الشارع قد ورد ووصل إلى المكلف ، لأنّ وظيفة الشارع

ص: 389


1- عوالي اللئالي : الجزء 4 ص 133 ح 229 ( تحقيق مجتبى العراقي ).
2- أقول : وعلى فرض تمامية الرواية لا ينافي الحكم بالاحتياط في خصوص الخبرين المتعارضين ، نظير الحكم بالتخيير عند القائل به ، مع كون الأصل في المتعارضين التساقط والرجوع إلى الأصل لولا دلالة أخبار العلاج على خلافه ، فتدبر.

إنّما هي بيان الكبريات ، كقوله تعالى : « حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير » وأما بيان الصغريات من كون هذا الشيء من أفراد لحم الخنزير أو لحم الغنم فليس هو من وظيفة الشارع ، وفي الشبهات الموضوعية الكبرى المجعولة الشرعية قد وردت ووصلت إلى المكلف وحصل العلم بها ، وإنما كانت الشبهة في الصغرى ، فلا مجال للتمسك بقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » بل ينبغي التمسك بقاعدة الاشتغال ، لأن العلم باشتغال الذمة بالكبرى المجعولة المعلومة الواصلة يقتضي العلم بالفراغ عقلا ، وذلك لا يحصل إلا بالتجنب عن موارد الشبهة.

والحاصل : أن المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو بيان الأحكام الكلية التي وظيفة الشارع بيانها ، وأما الأحكام الجزئية - فضلا عن الموضوعات الخارجية - فليس من وظيفة الشارع بيانها ، بل الأحكام الجزئية تدور مدار تحقق موضوعاتها الخارجية في عالم التكوين ، والمشكوك فيه أولا وبالذات في الشبهات الموضوعية إنما هو وجود الموضوع في الخارج ويستتبعه الشك في الحكم الجزئي ، وكل منهما ليس من وظيفة الشارع بيانه ، وأما الكبرى الكلية فقد بينها الشارع وهي واصلة إلى المكلف ، فلا مسرح لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » في الشبهات الموضوعية ، بل لابد من الاحتياط فيها لقاعدة الاشتغال.

هذا كله ، مع أنه يبقى سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والعملية ، وأنه كيف لا يجوز التمسك بالأصول اللفظية في الشبهات المصداقية ويجوز التمسك بالأصول العملية فيها؟.

وأنت خبير بفساد التوهم ، فان مجرد العلم بالكبريات المجعولة لا يكفي في تنجزها وصحة العقوبة على مخالفتها ما لم يعلم بتحقق صغرياتها خارجا ، فان تنجز التكليف الذي عليه تدور صحة العقوبة إنما يكون بعد فعلية الخطاب ، وفعلية الخطاب إنما يكون بوجود موضوعه خارجا في التكاليف التي لها تعلق

ص: 390

بالموضوعات الخارجية ؛ وذلك وإن كان بمثابة من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان في المقام حسما لمادة الشبهة.

فنقول : إن الأحكام الشرعية الوجوبية والتحريمية بعد ما كان لا محيص عن تعلقها بفعل المكلف الصادر عنه بتحريم عضلاته عن إرادته واختياره ، إما لا يكون لها تعلق بموضوع خارجي - كالصلاة حيث إن أجزائها ليست إلا الأفعال والأقوال الصادرة عن جوارح المكلف من دون أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، وكذا الغناء والكذب ونحو ذلك ، وإما أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، كوجوب إكرام العالم وحرمة شرب الخمر ، وأمثال ذلك من التكاليف الوجوبية والتحريمية التي لها ربط وتعلق بموضوع خارجي ، سواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها في الخارج ويجعلها ثابتة في عالم الأعيان - كالخمر الذي يكون صنعه وايجاده من التمر والزبيب بيد المكلف - أو كان من الموضوعات التي ليست من صنع المكلف ولا يتمكن من ايجادها في الخارج - كحرمة وطي الام ووجوب استقبال القبلة - وأمثال ذلك من التكاليف التي لها تعلق بموضوع خارجي لا يتمكن المكلف من ايجاده في الخارج.

فان لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فلا يعتبر في فعليته سوى وجود شخص المكلف واجدا للشرائط العامة والخاصة المعتبرة فيه ، فعند وجود المكلف يكون التكليف فعليا علم به المكلف أو لم يعلم ، إذ ليس للعلم دخل في فعلية التكاليف - كما أوضحناه في محله - وبعد العلم به يتنجز وتصح العقوبة على مخالفته (1) وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصور تحقق الشبهة الموضوعية.

ص: 391


1- أقول : ذلك كله في التكاليف الوجوبية المطلوب فيها صرف وجوده ، فإنه بمجرد العلم به لا يقنع العقل بالاكتفاء بما هو محتمل المصداقية ، بل يلزم تحصيل الجزم بالفراغ الوجداني أو الجعلي. وأما في التكاليف التحريمية المطلوب فيها ترك الطبيعة السارية - بشهادة عدم سقوط النهى عنه بعصيانه مرة مثلا - فلا شبهة في أن التكليف فيها انحلالي حسب تعدد مصاديقه ، وبعد ذلك إذا فرض في البين ما شك في كونه صوتا مع الترجيع . المفروض كونه غناء ، فدليل الكبرى لا يشمله ، ومع عدم شموله - ولو من جهة الشك في انطباق العنوان عليه - لا يصلح لبيانية حكمه ، فيبقى حكم هذه الشبهة الموضوعية تحت « قبح العقاب بلا بيان » إذ مثل هذا البيان كناية الحجة الموجبة لاستحقاق العقوبة ، فمع عدم حجية الخطاب بالنسبة إليه لا قصور في شمول القاعدة لمثله. وما توهم في أمثال ذلك : من عدم تصور الشبهة الموضوعية ، غلط فاحش ، كيف! وكل خبر لم يعلم كذبه من الشبهة الموضوعية وكل صوت لم يعلم فيه ترجيع من الشبهة الموضوعية ، وقس عليه نظائرها من سائر المحرمات من الزنا واللواط وغيرها.

وإن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فيمكن في عالم الثبوت أن يكون التكليف بالنسبة إلى وجود الموضوع مطلقا سواء كان الموضوع موجودا أو لم يكن - غايته أنه مع عدم وجوده يجب عليه ايجاده إن كان مما يمكنه ايجاده كسائر مقدمات الواجب المطلق - ويمكن أن يكون التكليف بالنسبة إلى الموضوع مشروطا ، ولكن هذا في التكاليف الوجودية المطلوب منها صرف الوجود.

وأما التكاليف العدمية الانحلالية : فالتكليف دائما يكون فيها مشروطا بوجود الموضوع (1) وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في « رسالة المشكوك » نسئل اللّه تعالى التوفيق لإلحاقها في آخر الكتاب. وعلى كل تقدير : إن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فما لم يعلم

ص: 392


1- أقول : في التكاليف العدمية التي لها تعلق بموضوع خارجي مثل « لا تشرب الخمر » لو كان حرمة الشرب بفعله منوطا شرعا بوجود الخمر يلزم عدم حرمة مقدمات تحصيل الخمر في ظرف يستتبع الشرب قهرا بحصوله ، ولا أظن التزامه من أحد ، فذلك برهان جزمي بأن حرمة شربه غير منوط بوجوده ، غاية الأمر عند عدم حصوله قهرا يسقط التكليف من جهة العجز ، لا من جهة فقد شرطه شرعا ، كما أنه مع التمكن من تحصيله إذا حصله فمع بقاء القدرة على ترك الشرب لا ضير فيه ، لأن المقصود من التكاليف التحريمية مجرد ترك المبغوض خارجا ، فما دامت القدرة على تفويت الشرب باقية لا بأس بايجاد سائر المقدمات ، وهذا المقدار لا يقتضي اشتراط التكليف بوجود الموضوع ، بل لنا أن نقول : إن في كلية التكاليف التحريمية المتعلقة بالغير لا يكون من باب اشتراطها بوجود المتعلق ، بل وجود المتعلق من حدود المكلف به وقيود موضوعه ، ولازمه ما ذكرناه. ثم إن من نتائج ما ذكرنا هو أن فى فرض الشك في المتعلق - كالخمر فى المثال لا يكون المقام كسائر موارد الشك في شرط التكليف الموجب للشك في أصل توجه التكليف، بل يكون من باب الشك فى مصداق الخطاب المتوجه إلينا جزماً ؛ لكن حيث إنّ الخطاب انحلالي لا يكون بالنسبة إلى هذا المشكوك حجة؛ وحينئذ فالمسلكان مشتركان فى عدم حجية الخطاب عند الشك في المتعلق لكن مختلفان في وجه عدم الحجية.

وجود ذلك الموضوع لم تصح العقوبة على مخالفة ذلك التكليف ، فسواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها أو كانت خارجة عن قدرة المكلف لا يكاد يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع خارجا (1) فان نسبة الموضوع إلى التكليف كنسبة الفاعل والمكلف ، فكما أنه لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود المكلف ، كذلك لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع ، والسر في ذلك واضح ، فان التكاليف الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي تنحل إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب المحمول (2) فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجا يعلم بعدم فعلية التكليف ، ومع الشك في وجوده يشك في فعليته ، لأن المناط في صحة العقوبة عقلا هو أن يكون التكليف قابلا للباعثية والداعوية ، بحيث يكون محركا - في عالم التشريع -

ص: 393


1- أقول : هذا التقريب تمام في الواجبات المنوطة ، لا في المحرمات ، كما شرحنا المقال في الحاشية السابقة.
2- أقول : تشكيل القضايا الحقيقية في باب التكاليف منوط بجعل التكليف في كلية المشروطات منوطا بوجود شرطها خارجا ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية المنوط فيها المحمول بوجوده الحقيقي على وجود الموضوع خارجا وبوجوده الفرضي على فرض وجود موضوعه كذلك. وأما لو بنينا على أنّ التكاليف طرّاً فعليتها مشروط بفرض وجود الموضوع في لحاظ الآمر والجاعل، فلا محيص حينئذ من الإلتزام بعدم إناطة فعلية التكليف على وجود الموضوع، بل وجود الموضوع شرط محركيته وتأثيره في انبعاث المكلف، لاشرط أصل التكليف وفعليته؛ وربما يشهد لذلك أنه لو كان فعلية الإرادة منوطاً بوجود الشرط خارجاً، فقبل وجود الشرط لا يكون إرادة أصلاً؛ وحينئذ فمن أين تجيء إرادة الجاعل بايجاد خطابه مقدمة لحفظ مرامه ؟ فهذه الإرادة الغيرية شاهد جزمى على عدم إناطة إرادة المولى على وجود الشرط خارجاً، مع أنه ربما يكون شرط التكليف مفقوداً له، كباب الوصايا العهدية المنوط إرادتها ببعد الموت؛ وكذا فيما لو قال: «إن نمت فافعل كذا» فانه كيف يمكن الإلتزام بأنّ فعلية الإرادة منوط بنومه أو مماته ؟ فلا محيص من جعل الإرادة في كلية المشروطات منوطاً بوجود الشرط لحاظاً ؛ وحينئذ ففى هذه المعلقات نقطع بفعلية التكليف في ظرف فرض وجود الموضوع لا بفعليته فرضاً، كما في القضايا الحقيقية. وعليه فجعل القضايا في باب التكاليف من القضايا الحقيقية بعيد عن الصواب ؛ ولا أقول بأنها من القضايا الخارجية الناظرة إلى الموضوعات الخارجية، بل هي داخلة في القضايا الطبيعية محضاً، كما لا يخفى؛ فتدبر.

لعضلات المكلف ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم بتحقق الموضوع وانطباق الكبرى المجعولة الشرعية عليه ، فلا أثر للعلم بتشريع الكبرى مع عدم العلم بانضمام الصغرى إليها ، لأن وجود الصغرى خارجا مما له دخل في فعلية الكبرى ، غايته أن التكليف قد يكون على وجه يجب على المكلف ايجاد الصغرى - إن كان مما يمكنه ايجاده - فتنطبق الكبرى عليها فيكون الحكم فعليا ، وقد يكون التكليف على وجه لا يجب على المكلف ايجاد الصغرى - وإن كان يمكنه ايجادها.

ثم لا يخفى أن ما ذكرنا : من أن التكاليف العدمية الانحلالية إنما تكون مشروطة بوجود الموضوع في الخارج ومع الشك في وجود الموضوع لا علم بالتكليف ، إنما هو إذا كان المنهى عنه نفس الطبيعة المطلقة على نحو السالبة المحصلة ، كقوله : « لا تشرب الخمر » حيث ينحل إلى قضايا جزئية حسبما للخمر من الأفراد الخارجية.

وأمّا إذا كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول (1) كأن يقال :

ص: 394


1- أقول مرجع القضية المعدولة إذا كان إلى ربط السلب قبال السالبة الراجعة إلى سلب الربط ، لا شبهة في أن المسلوب في المعدولة هي الطبيعية التي هي متعلق سلب الربط في السالبة ، فهذه الطبيعة إذا كانت بوجودها عين وجود الأفراد ، فلا جرم عدمها أيضا عين عدم الأفراد ، ومجرد وقوع سلبها طرف الربط في القضية لا يوجب المغايرة بين هذا العدم وعدم أفراده ، بل العينية باقية بحاله ، وحينئذ فإذا كان المسلوب الطبيعة السيالة في ضمن الأفراد ، فلا شبهة في أن عدم هذه الطبيعة يختلف قلة وكثرة بقلة الأفراد وكثرتها ، كما أن في وجودها أيضا كذلك ، حيث إنها بالنسبة إلى الأفراد بمنزلة الآباء ، فكلما ازداد الفرد كثرة ازدادت الطبيعة وجودا وقلت عدمها ، وهكذا الأمر بالعكس ، ولازمه مع الشك في فردية شيء لها تردد عدم الطبيعة - بل وجوده - بين الأقل والأكثر ، وحينئذ فإذا أضيف شيء بمثل هذا العدم كان متصفا بمفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، وفي مثله لا يكاد يجرى الاشتغال ، إذ مع تردد المفهوم بين الأقل والأكثر لا يكاد يتم حجية الخطاب بمثل هذا العنوان المردد بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، وحينئذ لو قيل « كن لا شارب الخمر » فمع كون « اللاشاربية » مرددا بين الأقل والأكثر - حسب ازدياد فرده وقلته - كيف يتم حجية هذا الخطاب بالإضافة إلى المرتبة المشكوكة؟ ومع عدم حجية الخطاب بالنسبة إلى المرتبة المشكوكة من أين يقتضي قاعدة الاشتغال تحصيل الفرد المشكوك ، فتدبر في المقام ، فإنه من مزال الأقدام. والعجب من المقرر ! حيث إنّه تارة تخيل بأن ربط سلب الطبيعة يوجب مغايرة هذا السلب لسلب الأفراد خارجاً وأن سلب الأفراد مقدمة لهذا السلب والوصف المربوط في القضية، واخرى جعل عدم الأفراد من مقدمات الإتصاف بالسلب ؛ وهو وإن كان له وجه حيث إنّ العدم إذا قام به الربط والاتصاف كان له نحو تقدم على الربط المزبور، ولكن لا يجدى له شيئاً، إذ الاتصاف و الإرتباط بأمر مردد بين الأقل والأكثر لا يوجب الإشتغال في مثله، من جهة أنّ الإتصاف بالمردد موجب للترديد في مرتبة نفس الإتصاف، لأن المعنى الحرفي في القلة والكثرة والتعيين والترديد كالكلية والجزئية تبع للمتعلق ؛ ولذا لم يتوهم أحد في تقييد شيء بشيء مردد بين الأقل والأكثر جريان قاعدة الاشتغال فيه ؛ والنكتة هو الذى أشرنا إليه ؛ فتدبر فيما افيد، خصوصاً في برهانه الآخر على التغاير الذي هو عين المصادرة.

« كن لا شارب الخمر » فحكمها يغاير حكم السالبة المحصلة ، فان متعلق التكليف في مثله قوله : « كن لا شارب الخمر » هو كون المكلف واجدا لوصف « اللاشاربية » ومعنونا بكونه تارك شرب الخمر ، من دون نظر إلى ترك الأفراد الخارجية من الخمر ، وإنما يكون تركها مقدمة عقلية لاتصاف المكلف بوصف « اللاشاربية » بحيث لو فرض محالا اتصافه بهذا الوصف مع عدم ترك شرب الأفراد الخارجية من الخمر لم يكن عاصيا ومخالفا للتكليف ، وبالعكس لو فرض محالا ترك شرب الأفراد الخارجية ولم يتصف بذلك الوصف كان عاصيا ومخالفا للتكليف ، وهذا الفرض وإن كان محالا وبحسب النتيجة لا فرق بين قوله : « كن لا شارب الخمر » وبين قوله : « لا تشرب الخمر » فإنه على كل حال يجب ترك الأفراد الخارجية ، إما لكون تركها مقدمة عقلية لحصول الوصف ، وإما لكونه متعلق النهى.

ولكن بحسب الأصول العملية تختلف النتيجة ، فإنه لو كان متعلق النهى ترك شرب الأفراد الخارجية وكانت القضية على نحو السلب المحصل ، فعند الشك في خمرية مايع تجرى البراءة ، للشك في تعلق النهى به - بالبيان المتقدم - وإن كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، فالمرجع عند الشك في خمرية مايع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، للشك في حصول الوصف مع عدم ترك المشكوك ، فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال ، هذا.

ص: 395

ولكن لم نعثر في باب النواهي على ما يكون من هذا القبيل ، وإنما يكون ذلك مجرد فرض لا واقع له ، فان ظاهر النواهي الواردة في الكتاب والسنة ، هو أن يكون متعلق النهى نفس الطبيعة باعتبار ما يفرض لها من الأفراد الخارجية ، إما على نحو العام المجموعي ، وإما على نحو العام الأصولي ، بل العام المجموعي أيضا مجرد فرض لا واقع له ، فإرجاع القضية السالبة المحصلة إلى المعدولة المحمول خلاف ما يقتضيه ظاهر النواهي.

ولنطوي الكلام في هذا المقام ونقتصر على هذا المقدار ونحيل تفصيله إلى ما نلحقه بالكتاب من « رسالة المشكوك » إن شاء اللّه تعالى ، فان استقصاء الكلام في ذلك وجمع أطرافه لا يمكن في المقام ، بل يحتاج إلى رسالة مفردة ، وقد استوفينا البحث عنه في تلك الرسالة ، فانتظر.

وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » لا تختص بالشبهات الحكمية ، بل تجرى في الشبهات الموضوعية أيضا ، من غير فرق بينهما ، سوى أنه في الشبهات الحكمية تختص القاعدة بما بعد الفحص وفي الشبهات الموضوعية لا يجب الفحص ، إلا على بعض الوجوه يأتي ذكرها في خاتمة الاشتغال.

بقى الجواب عن سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، وأنه كيف صح التمسك بالأصول العملية في الشبهات الموضوعية ولم يصح التمسك بالأصول اللفظية فيها؟.

ولعمري! أن الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فان الأصول اللفظية إنما تكون كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، وعنوان العام بعد تخصيصه يكون جزء الموضوع وجزئه الآخر عنوان المخصص (1) ولا يمكن أن يتكفل الدليل

ص: 396


1- أقول : قد حققنا في محله : بأن باب التخصيص غير باب التقييد ، وأن ما يخرج العنوان عن تمام الموضوع إلى جزئه هو باب التقييد ، ولذا لا يتوهم أحد الشك بالمطلق عند الشك في مصداق قيده ، وهذا بخلاف باب التخصيص ، فإنه من باب إخراج فرد عن تحت حكم العام ، نظير موته الغير المرتبط بعنوان العام ، غاية الأمر يوجب تقليل أفراده مع ما للعام بالإضافة إلى بقية أفراده تمام الموضوع ، ، وهذه الجهة أوقعتهم في باب الشك في فرد المخصص في حيص وبيص ، وتمام الكلام في محله إن شاء اللّه تعالى.

وجود الموضوع ، بل إنما يتكفل بيان الحكم على تقدير وجود الموضوع ، والمصداق المشتبه لم يعلم أنه من مصاديق العام أو من مصاديق الخاص؟ فلا يجوز التمسك بأصالة العموم لإثبات كونه من مصاديق العام ، وإلا يلزم أن يكون العام متكفلا لوجود مصاديقه.

وهذا بخلاف الأصول العملية فإنها وظايف عملية. والمصداق المشتبه إذا لم يقم دليل على بيان حكمه ، فبحسب الوظيفة لابد وأن ينتهى الأمر إلى أحد الأصول العملية ، ولا أقل من البراءة والاشتغال اللذين تنتهي إليهما الوظيفة العملية عقلا عند فقدان الأصول الحاكمة عليها.

هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية بأقسامها الأربعة.

وأمّا الشبهة الوجوبية :

فأقسامها أيضا أربعة - على حذو الشبهة التحريمية - لأن منشأ الشبهة ، إما أن يكون فقدان النص ، وإما أن يكون إجماله ، وإما أن يكون تعارض النصين ، وإما أن يكون لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وهذه الأقسام الأربعة وإن لم يختلف حكمها ، إلا أن الشيخ قدس سره أفرد البحث عن كل واحد منها ونحن نقتفي إثره.

القسم الأوّل : ما إذا كان منشأ الشك في الوجوب فقدان النص. والأقوى وفاقا لقاطبة الأصوليين ومعظم الأخباريين - جريان البراءة فيه وعدم وجوب الاحتياط ، سواء كان طرف احتمال الوجوب الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة ، للأدلة المتقدمة في الشبهة التحريمية ، فان تلك الأدلة تعم الشبهات الوجوبية أيضا ما عدا أخبار أصالة الحل ، ولا حاجة إلى إعادة البحث عنها.

ص: 397

فالأولى عطف عنان الكلام إلى ما يهم ذكره من التنبيهات التي ذكرها الشيخ ( قدس سره القدوسي ).

التنبيه الأوّل :

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا في جميع أقسام الشبهة التحريمية والوجوبية الحكمية والموضوعية (1).

وفي استحبابه الشرعي من جهة أوامر الاحتياط إشكال ، لاحتمال أن تكون الأخبار الواردة في الباب - على كثرتها - للإرشاد إلى ما يستقل به العقل من حسن الاحتياط تحرزا عن الوقوع في المفسدة الواقعية وفوات المصلحة النفس الأمرية ، وحكم العقل برجحان الاحتياط وحسنه إنما يكون طريقا إلى ذلك ، لا أنه نشأ عن مصلحة في نفس ترك ما يحتمل الحرمة وفعل ما يحتمل الوجوب ، بحيث يكون ترك المحتمل وفعله بما أنه محتمل ذا مصلحة يحسن استيفائها عقلا.

ومن ذلك يظهر : فساد ما ربما يتوهم : من استحباب الاحتياط شرعاً

ص: 398


1- أقول : عدم الريب في رجحان الاحتياط يقتضي حسنه حتى مع عدم مصلحة الواقع ، وحينئذ نسئل بأنه ما المناط في حسنه؟ فان كان بملاحظة حسن الاحتياط مقدمة لحفظ الواقع فهو غلط ، إذ صورة المخالفة مباين مع صورة المصلحة لا مقدمة ولا ملازم. نعم : هو مقدمة للعلم بتحصيل الواقع؟ وترشيح حسنه منه فرع حسن تحصيل العلم بالواقع ، وهو أول الكلام ، وحينئذ ما معنى طريقية حسن الاحتياط بالنسبة إلى مصلحة الواقع؟ فلا محيص حينئذ إما من دعوى إرشادية حكم العقل بالاحتياط لمحض حفظ المصالح بلا حسن فيه ، أو دعوى وجود مناط لحسنه حتى في صورة المخالفة ولو من جهة كونه موجبا لاستحقاق المثوبة ، نظير حسن الإطاعة الناشئة عن هذه الجهة ، وبذلك أيضا منعنا في مثله جريان قاعدة الملازمة ، وحينئذ لا يسمى مثل هذا الحسن طريقيا ، بل هو من شؤون إتيان محتمل الوجوب برجائه ، فيكون من تبعات الوجوب لا مستتبعا له ، كما لا يخفى. نعم: هذا البيان أيضاً إنّما يصح على المختار من حسن الإنقياد وإلا فعند من لا يقول بحسن العمل بل غايته أنه يكشف عن حسن سريرة الفاعل - كما هو مقالته فى التجرى فلا يكون الحسن العمل مناط أصلاً، بل لا محيص لمثل «المقرر» إلا من الإلتزام بالإرشاد، كما لا يخفى.

بقاعدة الملازمة ، فان المورد ليس من موارد « القاعدة الملازمة » لما تكرر منا : أن مورد الملازمة إنما هو فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، وأما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام من الإطاعة والعصيان وما يستتبعهما من الثواب والعقاب ، فلا محل لقاعدة الملازمة ، والحكم العقلي في باب الاحتياط يكون من القسم الثاني (1) لما عرفت : من أنه طريق محض للتخلص عن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة النفس الأمرية ، فهو نظير حكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، فلا يمكن إثبات استحباب الاحتياط شرعا من طريق قاعدة الملازمة.

نعم : يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الواردة في الترغيب على الاحتياط كقوله علیه السلام « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه أن يقع في المحرمات » (2) وقوله علیه السلام « من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك » (3) وقوله علیه السلام « من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (4) ونحو ذلك من الأخبار التي يمكن أن يستظهر من التعليلات الواردة فيها أنها من قبيل الحكمة لتشريع استحباب الاحتياط ، وإن كان للمنع عن ذلك أيضا مجال.

وعلى كل حال : لا شبهة في حسنه العقلي وإمكانه في التوصليات بترك ما يحتمل حرمته وفعل ما يحتمل وجوبه.

وأمّا العبادات : فقد استشكل الشيخ قدس سره في إمكان

ص: 399


1- أقول : ولقد أجاد فيما أفاد ، ولكن في جعل حسنه طريقيا تأمل قد أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، فراجع.
2- لم أعثر عليه بعد التتبع في مظانها ( المصحح ).
3- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22 ولفظ الحديث « فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ».
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 39.

الإحتياط فيها ، بل قوى العدم في هذا المقام ، مع أن بنائه في الكتب الفقهية والرسائل العملية على خلاف ذلك ، وقد نقل أن كلمة « أقواهما » لم تكن في نسخة الأصل.

وذلك هو المظنون ، فان النفس تأبى أن يكون مثل الشيخ قدس سره ينكر إمكان الاحتياط في العبادات ، مع أن ما ذكر في وجه ذلك في غاية الضعف والسقوط ، فان مبنى الإشكال - على ما ذكره الشيخ قدس سره - إنما هو اعتبار قصد التقرب والأمر في صحة العبادة (1) وذلك يتوقف على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا ، وفي الشبهات البدوية لا علم بالأمر فلا يمكن فيها الاحتياط.

وبعبارة أخرى : الاحتياط في الشيء عبارة عن الإتيان بكل ما يحتمل دخله فيه على وجه يحصل العلم بعد الاحتياط بتحقق ما احتاط فيه بجميع ما له من الأجزاء والشرائط ، ومن جملة الشرايط المعتبرة في العبادة قصد أمرها والتقرب بها ، فان العمل الفاقد لذلك لا يكون عبادة ، وقصد الأمر والتقرب يتوقف على العلم بتعلق الأمر بالعمل (2) والا كان من التشريع المحرم ، ففي الشبهات البدوية العبادية لا يمكن فيها حقيقة الاحتياط ، هذا.

ولكن الإنصاف : أنه ما كان ينبغي أن يجرى هذا الإشكال على قلم « الشيخ » فضلا عن أن يختاره ويقويه ، فإنه قد تقدم منا - في مبحث القطع - أن للامتثال مراتب أربع : أحدها : الامتثال العلمي التفصيلي ، ثانيها : الامتثال العلمي الإجمالي (3) ثالثها : الامتثال الظني ، رابعها : الامتثال الاحتمالي ؛ وهذه

ص: 400


1- أقول : لو عبر بقصد التمييز كان أولى ، لأن ما نحيل في الاحتياط هو قصد التمييز ، وإلا فلا قصور في التقرب برجاء الأمر ولا في قصد الوجه ولو رجاء ، كما لا يخفى.
2- أقول : فيه نظر ، لأن رجاء الأمر فيه كاف بلا تشريع ، ولذا قلنا : بأن الأولى جعل المانع قصد التمييز لا غير.
3- أقول : عند من احتمل اعتبار قصد التمييز لابد من عدم هذه المراتب. نعم : لا بأس بالالتزام بها في التوصليات ، حيث لا يعتبر فيها قصد التمييز ولا الوجه ، فيكفي في التقرب بها رجاء أمرها ، كما لا يخفى.

المراتب الأربع مترتبة عند العقل حسب ترتبها في الذكر ، بمعنى أنه لا تحسن المرتبة اللاحقة إلا عند تعذر المرتبة السابقة.

وعلى كل حال : بعد تعذر المراتب الثلاث من الامتثال التفصيلي والإجمالي والظني تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، والعقل يستقل بحسنه ، ويكون ذلك امتثالا للأمر الواقعي على تقدير وجوده ، ولا يتوقف حقيقة الامتثال على قصد الأمر التفصيلي ، وإلا كان اللازم عدم حصول الامتثال في موارد العلم الإجمالي (1).

وتوهّم : أن الأمر في موارد العلم الإجمالي مقطوع معلوم فلا يقاس بالشبهات البدوية التي ليس فيها إلا احتمال الأمر - فاسد ، فان مجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يكفي لو بنينا على اعتبار قصد التقرب والأمر التفصيلي في عبادية العبادة ، فإنه حين الاشتغال بكل واحد من فردي الترديد لا يمكن قصد التقرب به وامتثال أمره ، لعدم العلم بتعلق الأمر به ، لاحتمال أن يكون متعلق الأمر هو الفرد الآخر الذي يأتي به بعد ذلك ، أو الذي أتى به قبل ذلك ، ففي موارد العلم الإجمالي لا يمكن أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي بالنسبة إلى كل واحد من العملين اللذين يعلم إجمالا بتعلق الأمر بأحدهما ، فلو كان الامتثال الاحتمالي لا يكفي في صحة العبادة كان اللازم عدم التمكن من الامتثال في موارد العلم الإجمالي ، وهو كما ترى!.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أن الامتثال الاحتمالي من أحد مراتب الامتثال والعقل يستقل بحسنه وسقوط الأمر به على تقدير ثبوته واقعا (2) نعم : ليس هو في عرض الامتثال التفصيلي بل في طوله. وما أبعد ما بين القول :

ص: 401


1- أقول : لا قصور في الالتزام بهذا التالي ، ولذا نمنع عن الاحتياط فيما يستلزم التكرار المعلوم اختصاصه بصورة العلم الإجمالي ، كما لا يخفى.
2- أقول : ذلك صحيح في التوصليات ، وإلا ففي التعبديات مجال إشكال ، كما أشرنا.

بأنّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي ، وبين القول : بأن الامتثال الاحتمالي ليس من مراتب الامتثال ولا تصح به العبادة ولا يسقط به الأمر (1)! مع أنه قد عرفت : أن لازم ذلك عدم كفاية الامتثال الإجمالي (2).

فظهر : أن دعوى عدم إمكان الاحتياط في العبادات في غاية الوهن والسقوط.

وقد حاول بعض الأساطين في تصحيح الاحتياط في العبادات بالأوامر الواردة فيه ، كقوله علیه السلام « أخوك دينك فاحتط لدينك » (3) بتقريب : أن الأمر بالاحتياط قد تعلق بذات العمل الذي يحتمل وجوبه ، لا بالعمل بقيد أنه محتمل الوجوب بحيث يكون احتمال الوجوب قيدا في المأمور به ، بل متعلق الأمر نفس العمل الذي يحتمل وجوبه توصليا يكفي الإتيان به بلا قصد الأمر المتعلق به وإن كان عباديا - أي كان بحيث لو تعلق الأمر به لكان أمره عباديا - فلابد من قصد الأمر الذي تعلق به ، وهو الامر بالاحتياط الذي فرض تعلقه بذات العمل ، فينوي التقرب به ويقصد امتثاله ، ولذلك حكى : أن سيرة أهل الفتوى في العصر السابق كانت على الفتوى باستحباب نفس العمل في الشبهات البدوية الحكمية ، من غير تقييد باتيان العمل بداعي احتمال المطلوبية ، بل يطلقون الفتوى باستحباب العمل ، ولو لم تكن أوامر الاحتياط متعلقة بنفس العمل وموجبة لاستحبابه لم يكن وجه لإطلاق الفتوى باستحباب العمل ، بل كان اللازم تقييد الفتوى بإتيان العمل بداعي احتمال الأمر ، كما جرت عليه السيرة بين أهل الفتوى في العصر المتأخر ، هذا.

ص: 402


1- أقول : ولا بأس به أيضا بعد إسقاط اعتبار قصد التمييز ، إذ لا وجه لتقديم الامتثال الجزمي على غيره بعد تساويهما في القرب.
2- أقول : الأولى التشبث بدليل الإطلاقات - ولو مقاميا - لدفع اعتبار قصد التمييز في العبادة ، وإلا فلا مجال لتوهين هذا الكلام بهذه الشدة. نعم : هو صحيح في الاحتياط في التوصليات.
3- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 41.

وأنت خبير بما فيه ، فان الأمر بالعمل ، إما أن يكون بنفسه عباديا - أي كان الغرض من الأمر التعبد والتقرب به - كالأمر المتعلق بالصلاة ، وإما أن يكتسب العبادية من أمر آخر لأجل اتحاد متعلقهما ، كوجوب الوفاء بالنذر (1) فان الأمر بالوفاء بالنذر بنفسه لم يكن عباديا ، بل هو كسائر الأوامر التوصلية لا يعتبر في سقوطه قصد الامتثال والتقرب ، ولكن لو تعلق النذر بما يكون عبادة - كنذر صلاة الليل - يكتسب الأمر بالوفاء بالنذر العبادية من الأمر بصلاة الليل ، كما أن الأمر بصلاة الليل يكتسب الوجوب من الأمر بالوفاء ، والسر في ذلك : هو أن النذر إنما يتعلق بذات صلاة الليل لا بها بما أنها مستحبة بحيث يؤخذ استحبابها قيدا في متعلق النذر ، وإلا كان النذر باطلا لعدم القدرة على وفائه ، فان صلاة الليل بالنذر تصير واجبة ، فلا يمكن بعد النذر فعل صلاة الليل بقيد كونها مستحبة ، فلابد وان يتعلق النذر بذات صلاة الليل ، والأمر الاستحبابي الذي تعلق بها أيضا قد تعلق بذات صلاة الليل لا بوصف كونها مستحبة ، فان هذا الوصف إنما جاء من قبل الأمر بها فلا يمكن أخذه في متعلق

ص: 403


1- أقول : بعد ما كان رجحان متعلق النذر شرط صحة النذر ، فقهرا هذا الرجحان ملحوظ في متعلقه ، ولا يعقل تجريد المتعلق عن هذا الرجحان ، كيف! ولازم التجريد عدم دخل الرجحان في الصحة ، فإذا كان كذلك فيستحيل اتحاد الأمر الناشئ من قبل النذر مع هذا الرجحان الذي هو شرط الصحة ، فإذا لم يتحدا ، فلا محيص من اعتبار الذات في الرتبتين فرارا عن لزوم اجتماع الضدين ، وحينئذ فلا قصور في إبقاء الذات الملحوظ متعلقا للنذر وموضوعا له على استحبابه ، مع كون الذات الملحوظ في مرتبة الوفاء بالنذر الملحوظ في المرتبة اللاحقة متصفا بالوجوب ، نظير اتصاف الذات في المرتبة السابقة عن اعتقاد العصيان على ما هو عليه من الحكم الواقعي مع اتصاف الذات في رتبة اعتقاد العصيان - المسمى بالتجري - بالمبغوضية ، بلا تضاد بينهما ، كما لا يخفى. وحينئذ لا يبقى مجال لما افيد من اكتساب الأمر بالوفاء بالنذر العبادية عن الأمر بالذات، إذ هذا الإكتساب فرع التأكد واتحاد أحدهما مع الآخر؛ وهذا المعنى فى مثل المقام من طولية الحكمين مستحيل، إذ الطولية موجبة لتخلل الفاء بينهما ؛ ومع . هذا التخلل يأبى العقل عن الحكم بالإتحاد والتأكد بينها، كما لا يخفى. وحينئذ ربما يكون باب النذر من تلك الجهة كباب إجارة العبادات نعم : لو لم نقل بشرطية رجحان المتعلق في النذر كان لما افيد ،وجه ولكنه ظاهراً خلاف الإجماع، إلا في بعض الموارد على ما حقق في محله؛ فراجع كلماتهم وتدبر فيها .

الأمر ؛ فيكون كل من الأمر الاستحبابي والأمر بالوفاء بالنذر قد تعلق بذات صلاة الليل ، ولمكان اتحاد متعلقهما يكتسب كل منهما من الآخر ما كان فاقدا له ، فالأمر النذري يكتسب العبادية من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي يكتسب الوجوب من الأمر النذري ، هذا إذا اتحد متعلق الأمرين.

وأما إذا لم يتحد متعلقهما : فلا يكاد يمكن أن يكتسب أحد الأمرين العبادية مع كونه فاقدا لها من الآخر الواجد لها ، كالأمر بالوفاء بالإجارة إذا كان متعلق الإجارة أمرا عباديا ، كما لو أوجر الشخص على الصلاة الواجبة أو المستحبة على الغير ، فان الأجير إنما يستأجر لتفريغ ذمة الغير ، فالإجارة إنما تتعلق بما في ذمة المنوب عنه ، وما في ذمة المنوب عنه إنما هي الصلاة الواجبة أو المستحبة بوصف كونها مستحبة أو واجبة ، فمتعلق الإجارة إنما تكون الصلاة بقيد كونها مستحبة على المنوب عنه لا بذات الصلاة بما هي هي ، ومتعلق الأمر الاستحبابي إنما هو نفس الصلاة ، فلا يتحد الأمر الاستحبابي مع الأمر الإجاري ، ومع عدم اتحاد المتعلق لا يمكن أن يكتسب الأمر الإجاري العبادية من الأمر الاستحبابي ، كما لا يكتسب الأمر الاستحبابي وصف الوجوب من الأمر الإجاري ، فان الأمر الاستحبابي إنما تعلق بالمنوب عنه والفعل بعد باق على استحبابه بالنسبة إلى المنوب عنه (1) والأمر الوجوبي إنما يتعلق بالأجير ، فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يكتسب أحدهما من الآخر ما يكون فاقدا له.

ص: 404


1- أقول : تصور بقاء استحباب الفعل المنوب عنه إنما يصح في النيابة عن الأحياء ، وإلا ففي الأموات لا معنى له ، كما أن هذا الأمر الاستحبابي لا يكون مناط تقرب النائب إذ لا معنى لجعل أمر الغير داعيا له ، بل المناط كون العمل بنفسه من أبزار العبودية ونحو خضوع ، فالنائب يقصد بعمله هذا كونه خضوعا للمنوب عنه ، نظير تقبيل اليد عن الغير. ولقد حققنا في محله أنّ قربيّة العبادات النيابي منحصر بهذا البيان ليس إلا، وحينئذ لنا أن نقول: إنه لو فرض اتحاد متعلق الحكمين فى باب الإجارة لا يكاد يكتسب الأمر الإجارى القرب من غيره، كيف ! ولازمه تقرب النائب للمنوب عنه ؛ وحينئذ ليس عدم عبادية الأمر بوفاء الإجارة من جهة صرف تعدد الأمرين، بل مع فرض اتحادهما أيضاً لا يصلح لقربية العمل للمنوب عنه؛ فتدبر.

ومن ها يظهر : فساد ما أجاب به بعض الأعلام عن الإشكال المعروف في صحة عبادة الاجراء - وهو عدم تمشى قصد التقرب منهم مع أن المحرك والداعي لهم أخذ الأجرة - من أن لهم قصد امتثال الأمر الإجاري والتقرب به ، فان الأمر الإجاري وإن كان توصليا إلا أنه يصح التقرب به خصوصا إذا تعلق بما يكون عبادة.

وجه الفساد : هو أن الأمر الإجاري وإن صح التقرب به كسائر الأوامر التوصلية ، إلا أن قصد امتثال الأمر الإجاري لا يوجب صحة العبادة المستأجر عليها (1) فان المعتبر في صحة العبادة قصد أمر نفسها والأمر الإجاري لم يتعلق بذات العبادة ليكتسب العبادية من الأمر المتعلق بها ، وقد استقصينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في « كتاب القضاء » وفي « المكاسب المحرمة » عند البحث عن أخذ الأجرة على الواجبات.

وعلى كل حال : فقد عرفت أن الأمر العبادي ، إما أن يكون بنفسه عبادة - أي كان الغرض من الأمر التعبد به - وإما أن يكتسب العبادية من أمر آخر ، والأوامر المتعلقة بالاحتياط فاقدة لكلتا الجهتين.

أمّا الجهة الأولى : فواضح ، فان الأمر بالاحتياط إنما يكون توصليا ليس الغرض منه التعبد والتقرب به ، وإلا يلزم بطلان الاحتياط في التوصليات ، ولا سبيل إلى دعوى صيرورة الأمر بالاحتياط عباديا إذا كان الفعل المحتاط فيه عبادة ، وتوصليا إذا كان الفعل المحتاط فيه غير عبادة ، إلا على وجه يأتي بيانه مع فساده.

وأمّا الجهة الثانية : فلأن الأمر بالاحتياط لم يتعلق بذات العمل مرسلا عن قيد كونه محتمل الوجوب ، بل التقييد بذلك مأخوذ في موضوع أوامر

ص: 405


1- أقول : الأولى أن يعلل بأن التقرب بأمر الإجاري إنما يكون للنائب دون المنوب عنه ، والمقصود تقرب المنوب عنه بفعل النائب ، وإلا فلو أغمض عما ذكرنا ، فما أفيد مصادرة محضة.

الإحتياط (1) وإلا لم يكن من الاحتياط بشيء ، بخلاف الأمر المتعلق بالعمل المحتاط فيه ، فإنه على تقدير وجوده الواقعي إنما تعلق بذات العمل ، فلم يتحد متعلق الأمرين حتى يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية من الأمر المتعلق بالعمل لو فرض أنه كان مما تعلق الأمر العبادي به ، وقد عرفت : أنه ما لم يتحد متعلق الأمر الغير العبادي مع متعلق الأمر العبادي لا يمكن أن يصير الأمر الغير العبادي عبادياً.

وبالجملة : الأمر الذي يتعلق بالعمل الذي يحتمل وجوبه لا يخلو : إما

ص: 406


1- أقول : والأوضح أن يقال : إن الأمر الواقعي العبادي إنما تعلق بالذات في الرتبة السابقة عن احتمال وجوبها والأمر بالاحتياط تعلق بها في الرتبة المتأخرة عن احتمال الأمر بالذات ، وهذا على المختار يوجب مغايرة الأمرين لا محالة ، ولكن مثل « المقرر » الملتزم بعدم منافاة الطولية مع التأكد - كما صرح بأن في صورة موافقة الأمر الطريقي مع الواقع لا إشكال فيه للتأكد - له أن يلتزم في المقام أيضا بتأكد الأمرين الطوليين المستتبع لاكتساب أحدهما من الآخر العبادية ، كما هو الشأن في الأمر بالوفاء بالنذر مع أمره الاستحبابي ، فإنه لا محيص من تأكدهما على زعمه ، وأن هذا التأكد موجب لاكتساب أحدهما العبادية من الآخر ، هذا مع أن الالتزام بعدم عبادية الأمر بالاحتياط عند مخالفته مع الأمر بالذات مما لا نرى له وجها ، إذ مرجع عبادية الأمر صيرورته داعية وموجبة للتقرب ، وفي هذا المقدار لا قصور في الأمر بالاحتياط. نعم : الذى يمتاز عن الأمر العبادى سقوطه بدون دعوته، بخلاف أو امر العبادي؛ ولكن في المقام لو فرضنا عدم كفاية احتمال الأمر في العبادة واحتياجه إلى قصد التمييز، فالأمر المحتمل الواقعي لا يجدي في تحصيل الغرض؛ فينحصر تحصيل الغرض حينئذ بأوامر الإحتياط، إذ بها أيضاً يحصل التقرب والتميز، كما في أوامر الطرق. نعم: لو لم يعتبر قصد التمييز في العبادة أو كان مورده توصلياً لا يحتاج في سقوط الأمر بالإحتياط إلى التقرب، فيصير حينئذ توصلياً ؛ وأما مع الإحتياج إلى قصد التمييز في سقوط الأمر في حصول الغرض، فلا يكاد يسقط الأمر بالإحتياط إلا بدعوته الموجب لقربه وتميزه ؛ ولا نعنى من عبادية الأمر بالإحتياط إلا هذا المقدار، وفي هذا المقدار لا يحتاج إلى دعوى وحدته مع الأمر الواقعى ؛ مع أنّ النظر الدقيق أيضاً يرى بأن مجرد الوحدة بنحو التأكد أيضاً لا يقتضى الإكتساب، لأنّ مثل هذا الأمر ينحل إلى قطعتين: أحدهما عبادى، والآخر غير عبادى؛ ومجرد اتصالهما لا يقتضى الإكتساب، كما هو ظاهر. ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر مواقع النظر فيا أفاده في المقامين من أوله إلى آخره. ولعمرى! أنّ الناظر في هذا الأساس لا يرى إلا كونه سفسطة محضة ومفاهيمها لا محصل له أو مصادرات محضة لا حقيقة لأمثاله؛ فتدبر فيها وفيما ذكرنا بعين الإنصاف.

أن يتعلق به مطلقا سواء قصد به التقرب أو لم يقصد ، وإما أن يكون مقيدا بقصد التقرب ، وإما أن يكون مقيدا بقصد احتمال الأمر ، سبيل إلى الأول والثاني ، فان الأول ينافي كون العمل عباديا ، والثاني يتوقف على إحراز الأمر ليمكن التقرب به والمفروض أنه غير محرز ، فيتعين الثالث ، فلابد أن يؤخذ الإتيان بداعي احتمال الأمر في متعلق الأمر بالاحتياط ، وحينئذ فان كان إتيان العمل بداعي الاحتمال كافيا في العبادية فلا يحتاج إلى أوامر الاحتياط ، وإن لم يكن كافيا فأوامر الاحتياط لا توجب عبادية العمل.

فان قلت : أوامر الاحتياط تعم التوصليات والتعبديات بجامع واحد ، وفي التوصليات لا يعتبر أن يكون العمل بداعي احتمال تعلق الأمر به ، بل يكفي الإتيان بنفس العمل الذي يحتمل تعلق الأمر به ، فلابد وأن يكون الأمر متعلقا بذات العمل بلا قيد إتيانه بداعي الاحتمال ، والا فيلزم التفكيك بين التوصليات والتعبديات مع وحدة الدليل ، وإذا كان الأمر بالاحتياط متعلقا بذات العمل بلا أخذ قيد قصد احتمال الأمر ، فان كان العمل من الأعمال العبادية فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلق الأمر العبادي به ، وحينئذ يمكن قصد الأمر القطعي المستكشف من أوامر الاحتياط ، بل يمكن قصد التعبد بنفس الأمر بالاحتياط ، لاتحاده مع الأمر المتعلق بالعمل ، فيكون عبادة بلا حاجة إلى قصد احتمال الأمر ليستشكل بأن قصد احتمال الأمر لا يكفي في العبادية ، وهذا ما وعدناه به سابقا من الوجه.

قلت : وحدة الدليل لا ينافي استفادة قيد قصد امتثال الأمر المحتمل في العبادات من الخارج - كساير القيود التي يستفاد اعتبارها لبعض أصناف العام من دليل خارجي آخر - مثلا لو ورد « أكرم العلماء » فقد تعلق وجوب الإكرام بالنحوي والفقيه بجامع واحد ، ومع ذلك يمكن أن يعتبر في الفقيه العدالة ويستفاد ذلك من الخارج ، وكذلك نقول في المقام : إن أوامر الاحتياط قد تعلقت بالتوصليات والعباديات بجامع واحد ، ولكن قد استفيد

ص: 407

من دليل خارجي اعتبار قصد امتثال احتمال الأمر في العباديات ، والدليل الخارجي الذي يستفاد منه القيد هو ما ذكرناه من البرهان ، وحاصله : أنه لا يمكن أن تكون أوامر الاحتياط مهملة ، بل لابد إما من كونها مطلقه بالنسبة إلى قصد الامتثال وعدمه ، وإما أن تكون مقيدة بقصد امتثال الأمر ، وإما أن تكون مقيدة بقصد امتثال احتمال الأمر ، لا سبيل إلى الأول والثاني بالبيان المتقدم ، فيتعين الثالث.

هذا كله مضافا إلى ما عرفت : من أن حقيقة الاحتياط هو قصد امتثال احتمال الأمر ، فلو الغى هذا القيد لم يكن من الاحتياط بشيء ، بل كان العمل بنفسه مستحبا نفسيا كسائر الأفعال المستحبة.

فالإنصاف : أن ما يحكى عن المشهور : من الفتوى باستحباب العمل الذي يحتمل وجوبه من غير تقييد إتيانه بداعي احتمال المطلوبية ، لا ينطبق على القواعد ، إلا أن يكون نظر المشهور إلى مسألة التسامح في أدلة السنن ، وذلك على إطلاقه أيضا لا يستقيم ، فان التسامح في أدلة السنن يختص بما إذا قام خبر ضعيف على استحباب الشيء أو وجوبه - لو قلنا : بأن الخبر الضعيف القائم على وجوب الشيء يندرج في أخبار « من بلغ » ولا تختص بالخبر القائم على الاستحباب - والكلام في استحباب الاحتياط أعم من ذلك ، فان فتوى المشهور باستحباب العمل الذي يحتاط فيه تشمل ما إذا كان منشأ الشبهة فقدان النص ، وأخبار « من بلغ » التي هي المدرك في مسألة التسامح في أدلة السنن لا تشمل صورة فقدان النص.

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بالإشارة إلى مدرك ما اشتهر في الألسن : من التسامح في أدلة السنن.

فنقول : المدرك في ذلك هو ما ورد من الأخبار ، وهي كثيرة.

منها : صحيحة هشام بن سالم ، عن الصادق علیه السلام قال : من بلغه عن النبي صلی اللّه علیه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له

ص: 408

وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله (1).

ومنها : ما عن « الكليني » عنهم علیهم السلام من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله (2).

ومنها : ما عن « الإقبال » عن أبي عبد اللّه علیه السلام من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك (3).

ومنها : ما عن محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (4).

إلى غير ذلك من الأخبار المتقاربة بحسب المضمون ، ويغنى عن التكلم في سندها عمل المشهور بها والفتوى على طبقها ، مع أن بعضها من الصحاح ، فلا إشكال من حيث السند ، إنما الإشكال من حيث الدلالة. والوجوه المحتملة فيها ثلاثة :

أحدها : أن يكون مفادها مجرد الأخبار عن فضل اللّه سبحانه من غير نظر إلى حال العمل وأنه على أي وجه يقع ، وبعبارة أخرى : يمكن أن تكون هذه الروايات ناظرة إلى العمل بعد وقوعه وأن اللّه تعالى حسب فضله ورحمته يعطى الثواب الذي بلغ العامل وإن تخلف قول المبلغ عن الواقع ولم يكن الأمر كما أخبر به (5) وحينئذ لا تكون الروايات بصدد بيان حال

ص: 409


1- الوسائل : الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 3.
2- الوسائل الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 8 وفيه : « وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه ».
3- الإقبال : في ما يختص بشهر رجب ص 627.
4- الوسائل : الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 7.
5- 5 - أقول : لا شبهة في أن ترتب الثواب الذي هو لسان هذه الأخبار إنما هو بعد العمل ، إنما الكلام في أن هذا الثواب ثواب تفضل أو ثواب استحقاق ، وأيضا وصريح هذه النصوص ترتب الثواب وإن كان البلوغ على خلاف الواقع ، وهو لا يناسب طريقية البلوغ إلا على المختار : من استحقاق المنقاد أيضا مثل المطيع للثواب ، كما هو الشأن في التجري بالإضافة إلى العقوبة. وحيث كان كذلك نقول : إنّ الظاهر من بلوغ الثواب كونه كناية عن الإخبار بسببه من وجوب استحباب، كيف! وغالب الأخبار الذى هو محط هذه الروايات من هذا القبيل وقل اشتمالها على مجرد إخبار الثواب، نظير «من سترح لحيته» وأمثاله ؛ وحينئذ أمكن بقرينة السياق جعل الثواب الموعود أيضاً كناية عن إثبات مقتضيه خصوصاً مع التعبير في بعض الأخبار بالأجر؛ وحينئذٍ لا يناسب مثل هذا البيان للتفضل، إذا لثواب التفضلى لا يكون أجراً، ولا كناية عن ثبوت مقتضيه ؛ فلا محيص إما من حمل هذه النصوص لبيان استحباب العمل مولوياً أو الحمل على بيان طريقية الخبر لإثبات الاستحباب على المختار. نعم على مذهب «المقرر » لا محيص على تقدير الكناية من حمل الروايات على الإستحباب المولوى الشامل بنصها لصورة مخالفة البلوغ للواقع، فيصير البلوغ المزبور حينئذٍ مما له الموضوعية في ترتب هذا الثواب؛ كما أنه على المختار يكون الأخبار قابلاً للحمل على الطريقية وقابلاً للحمل أيضاً على محض الإتيان برجاء الواقع بلا طريقية ولا نفسية، كما يشهد له قوله «طلب» وقوله «والتماس ذلك الثواب» ولازمه جعل هذه الأخبار إرشاداً إلى حكم العقل بلا مولوية نفسية ولا طريقية، لاستقلاله بذلك، كما لا يخفى. ولعمري ! أن المتيقن من الأخبار هو ذلك ، لا المولوية ولا حجية قول المبلغ، كما لا يخفى. وعلى أتى حال: لاوجه لحمل النصوص بصورة كون خبر المبلغ واجداً لشرائط الحجية، إذ كما أن الخبر الصحيح كان داعياً على العمل كذلك رجاء الوصول إلى الواقع أيضاً ربما يكون داعياً عليه؛ ومع هذا الإحتمال لا يبقى مجال الحمل على صورة وجدان الخبر لشرائط الحجية. وتوهم أنه على هذا لا يكون البلوغ داعياً بل احتمال الثواب داعي، مدفوع بأن البلوغ كناية عن احتماله.

العمل قبل وقوعه من العامل وأنه مستحب ، ولا بصدد بيان إلقاء شرائط حجية الخبر الواحد في المستحبات وأنه لا يعتبر فيها ما يعتبر في الخبر القائم على وجوب شيء : من الوثاقة أو العدالة.

ولا يمكن التمسك باطلاق الموضوع - وهو البلوغ - ويقال : إن الموضوع في القضية مطلق لم يعتبر فيه شرائط الحجية ، فان الإطلاق في القضية إنما سيق لبيان حكم آخر وهو إعطاء الثواب على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، وإذا كان الإطلاق قد سيق لبيان حكم آخر لحكم نفسه فلا يجوز التمسك به ، نظير قوله تعالى :

« فكلوا ممّا أمسكن عليه » (1) فان إطلاق الأمر بالأكل قد ورد لبيان حلية

ص: 410


1- سورة المائدة الآية 4.

ما يصطاده كلب الصيد وأنه ليس من الميتة ، فلا يجوز التمسك باطلاق الأمر بالأكل لطهارة موضع إمساك الكلب ، وفي المقام إطلاق قوله علیه السلام « إذا بلغه شيء من الثواب فعمله كان له ذلك » لم يرد لبيان استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب حتى يؤخذ باطلاقه ، ليستفاد منه عدم اعتبار ما اعتبر في الخبر الواحد من الشرائط ، بل إنما ورد لبيان فضل اللّه تعالى على العباد وأن الثواب لا يدور مدار إصابة قول المبلغ للواقع ، وهذا لا ينافي أن يعتبر في قول المبلغ ما يعتبر في الخبر الواحد ، أي كان ترتب الثواب مشروطا بكون قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية.

والحاصل : أن مبنى الاحتمال الأول هو أن تكون هذه الأخبار بصدد بيان ما يترتب على العمل المتفرع على بلوغ الثواب عليه ، كما يرشد إلى ذلك فاء التفريع ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « فعمله » هو أن يكون العمل متفرعا على البلوغ وأنه بلغ فعمل معتمدا على البلوغ ومستندا إليه ، والعامل لا يعتمد في عمله على قول المبلغ إلا إذا كان قوله واجدا لشرائط الحجية ، فكأن واجدية قول المبلغ للشرائط اخذ في القضية مفروغ الوجود وإلا لا يصح تفريع العمل على البلوغ ، فإنه إذا لم يكن قول المبلغ واجدا للشرائط فلا يصح من العامل إسناد عمله إلى قول المبلغ والاعتماد عليه ، بل لابد من أن يكون عمله بداعي الاحتمال وأنه لعل أن يكون قوله مصادفا للواقع ، وهذا ينافي ظاهر تفريع العمل على البلوغ ، فان التفريع لا يكون إلا بعد الاعتماد على قول المبلغ وفرض إصابته للواقع.

فان قلت : الظاهر من قوله علیه السلام في خبر محمد بن مروان « ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه » هو أن يكون العمل برجاء إصابة قول المبلغ للواقع واحتمال كونه مطلوبا في نفس الأمر ، فلابد أن لا يكون قول المبلغ واجدا للشرائط ، فإنه لو كان واجدا لها لا يكون العمل بداعي احتمال المطلوبية ، بل مقتضى حجية قوله هو إلقاء احتمال مخالفة قوله للواقع وإتيان

ص: 411

العمل بداعي كونه مطلوباً واقعاً.

قلت : تقييد العمل بالالتماس ليس لبيان وجه العمل وأنه يعتبر في إعطاء الثواب أن يكون العمل بداعي الاحتمال والتماس الثواب (1) بل التقييد بذلك إنما هو لأجل أن عبادة أغلب الناس إنما تكون لرجاء الثواب والأمن من العقوبة ، فقوله علیه السلام « ففعله التماس ذلك الثواب » إنما ورد مورد الغالب ولا عبرة بالقيد الوارد مورد الغالب.

نعم : ربما يستظهر من قوله علیه السلام في بعض الأخبار « فعمل ذلك طلب قول النبي صلی اللّه علیه و آله » كون العمل برجاء قول النبي صلی اللّه علیه و آله فتأمل.

وعلى كل حال : فهذا أحد الاحتمالات التي تتحملها روايات الباب.

ثانيها : أن تكون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء ويكون مفاد قوله علیه السلام « فعمله » أو « ففعله » الأمر بالفعل والعمل (2) كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام ، سواء كانت بصيغة الماضي كقوله علیه السلام « من سرح لحيته فله كذا » أو بصيغة المضارع كقوله : « تسجد سجدتي السهو » وغير ذلك من الجمل الخبرية التي وردت في مقام الحث والبعث نحو الفعل ، فيكون المعنى : إذا بلغ الشخص شيء من الثواب على عمل فليعمله ، وعلى هذا يصح التمسك باطلاق البلوغ والقول باستحباب

ص: 412


1- أقول : ذلك كذلك لو لم نقل بأن البلوغ كناية عن احتمال الثواب أو احتمال مقتضيه ، كما هو ظاهر قوله : « طلب قول النبي » وحينئذ يكون قوله : « التماس ذلك الثواب » أو « طلب قوله » مؤكدا لاحتمال المزبور الذي هو لازم البلوغ جزما ، لا أنه بيان للازم خارجي عن البلوغ ، كما لا يخفى.
2- أقول : حمل الجملة الخبرية على الإنشاء في كلية الموارد في غاية البعد ، بل عمدة وجه استفادة الطلب من أمثال هذه الجمل جعلها من باب الإخبار بوجود شيء بملاحظة وجود مقتضيه في عالم التشريع ، فيصير الإخبار المزبور كناية عن الطلب الذي هو ملزومه ، لا إنه بنفسه عبارة عن إنشائه ، كما لا يخفى.

العمل مطلقاً ، سواء كان قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن ، فان الموضوع في القضية هو نفس البلوغ بقول مطلق ، والإطلاق يكون مسوقا لبيان حكم نفسه لا لبيان حكم آخر ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق.

ثم إن كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء وأنها في مقام بيان استحباب العمل يمكن أن يكون على أحد وجهين :

أحدهما : أن تكون القضية مسوقة لبيان اعتبار قول المبلغ وحجيته ، سواء كان واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن - كما هو ظاهر الإطلاق - فيكون مفاد الأخبار مسألة أصولية ، فإنه يرجع مفادها إلى حجية الخبر الضعيف الذي لا يكون واجدا لشرائط الحجية ، وفي الحقيقة تكون أخبار « من بلغ » مخصصة لما دل على اعتباره الوثاقة أو العدالة في الخبر وأنها تختص بالخبر القائم على وجوب الشيء ، وأما الخبر القائم على الاستحباب فلا يعتبر فيه ذلك. وظاهر عناوين كلمات القوم ينطبق على هذا الوجه ، فان الظاهر من قولهم : « يتسامح في أدلة السنن » هو أنه لا يعتبر في أدلة السنن ما يعتبر في أدلة الواجبات.

فان قلت : كيف تكون أخبار « من بلغ » مخصصة لما دل على اعتبار الشرايط في حجية الخبر ، مع أن النسبة بينهما العموم من وجه؟ حيث إن ما دل على اعتبار الشرائط يعم الخبر القائم على الوجوب وعلى الاستحباب ، وأخبار « من بلغ » وإن كانت تختص بالخبر القائم على الاستحباب ، إلا أنه أعم من أن يكون واجدا للشرائط أو فاقدا لها ، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقد للشرائط يقع التعارض ، فلا وجه لتقديم أخبار « من بلغ » على ما دل على اعتبار الشرائط في الخبر.

قلت : مع أنه يمكن أن يقال : إن أخبار « من بلغ » ناظرة إلى إلقاء الشرائط في الأخبار القائمة على المستحبات فتكون حاكمة على ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة - إن الترجيح لأخبار « من بلغ » لعمل المشهور بها ، مع أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط

ص: 413

في مطلق الأخبار لم يبق الأخبار « من بلغ » مورد ، بخلاف ما لو قدمت أخبار « من بلغ » على تلك الأدلة ، فان الواجبات والمحرمات تبقي مشمولة لها ، بل يظهر من الشيخ قدس سره - في الرسالة التي صنفها في مسألة التسامح في أدلة السنن - اختصاص ما دل على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرمات ، فان ما دل على اعتبار ذلك إما الإجماع وإما آية النبأ.

أما الإجماع : فمفقود في الخبر القائم على الاستحباب ، بل يمكن دعوى الإجماع على عدم اعتبار الشرائط في المستحبات.

وأما آية النبأ : فلا إشكال في اختصاصها بالواجبات والمحرمات ، كما يشهد بذلك ما في ذيلها من التعليل ، وعلى هذا تبقي أخبار « من بلغ » بلا معارض ، هذا.

ولكن الإنصاف : أن ما أفاده الشيخ قدس سره لا يخلو عن ضعف ، فان ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد لا ينحصر بالإجماع وآية النبأ ، بل العمدة في اعتبار الشرائط هو ما تقدم من الأخبار المتظافرة أو المتواترة ، وهي تعم المستحبات.

وعلى كل حال : لا ينبغي التأمل في ترجيح أخبار « من بلغ » على ما دل على اعتبار الشرايط ، إما للحكومة ، وإما لبقائها بلا مورد لو قدمت تلك الأدلة عليها ، مضافا إلى عمل المشهور بها ، وقد عرفت : أن هذا الوجه يقتضي أن يكون مفاد الأخبار مسألة أصولية.

الوجه الثاني : (1) أن تكون أخبار « من بلغ » مسوقه لبيان أن البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحبا ، فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارية على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها ، كالضرر

ص: 414


1- كذا في النسخة. والأنسب « ثانيهما » ( المصحح ).

والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية ، فيصير حاصل معنى قوله علیه السلام « إذا بلغه شيء من الثواب فعمله الخ » - بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية - هو أنه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان الوجه الثاني كان مبنيا على أن يكون مفاد أخبار « من بلغ » حجية قول المبلغ وأن ما أخبر به هو الواقع ، فيترتب عليه كل ما يترتب على الخبر الواجد للشرائط ، وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فان مفاده مجرد إعطاء قاعدة كلية ، وهي استحباب العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب ، فيكون مفاد أخبار « من بلغ » قاعدة فقهية ك « قاعدة لا ضرر ولا حرج » وإن كان يظهر من الشيخ قدس سره كون المسألة أصولية على كل حال ، لأنه لاحظ للمقلد فيها ولا يجوز للمفتي الإفتاء بمفاد الأخبار ، فإنه لا يمكن للعامي تطبيق القاعدة الكلية على مواردها وتشخيص جزئياتها ، لأن معرفة شرائط الحجية وأن قول المبلغ فاقد لها وأنه ليس له معارض أو التخلص عن معارضه مما يختص بالمجتهد ، فالمسألة لا تكون فقهية.

وعلى كل حال : من كون المسألة فقهية أو أصولية يشترك الوجه الثاني والوجه الثالث في استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، سواء كان قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن.

ولا يبعد أن يكون الوجه الثاني أقرب - كما عليه المشهور - (1) حيث إن

ص: 415


1- أقول : أقربية الوجه الثاني إنما يتم بناء على المختار : من استحقاق المنقاد أيضا للثواب ، وإلا فعلى مذهب « المقرر » لا مجال له إلا من التزامه بالتفضل كما هو مقتضى احتمال الأول ، أو الاستحباب النفسي كما هو مقتضى احتماله الثالث ، إذ صريح الأخبار في إعطاء الثواب حتى في صورة مخالفة البلوغ للواقع لا يناسب الاحتمال الثاني على زعمه. نعم : على المختار لا بأس به ، بل قد أشرنا سابقا أن البلوغ بعد ما كان قابلا للكناية عن الاحتمال ، فالأخبار ربما يكون المتيقن منها جعلها إرشادا إلى حكم العقل باستحقاق العامل برجاء الواقع للثواب وإن لم يكن كما بلغه.

بنائهم في الفقه على التسامح في أدلة السنن ، وقد عرفت : أن ظاهر العنوان لا ينطبق إلا على القول بالقاء شرائط الحجية في الخبر القائم على استحباب الشيء.

هذا ملخص الكلام في مسألة التسامح في أدلة السنن. وقد ذيلها الشيخ قدس سره بتنبيهات قد تعرض لجملة منها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ولكن حيث لم تكن بتلك المثابة من الأهمية طوينا الكلام فيها ، من أراد الاطلاع عليها فليراجع رسالة الشيخ قدس سره التي صنفها في خصوص هذه المسألة.

التنبيه الثاني :

في جريان البراءة عند الشك في الواجب التعييني والتخييري.

والشك في ذلك يتصور على وجهين :

أحدهما : ما لو علم بوجوب الشيئين أو الأشياء وشك في كون كل منهما واجبا عينيا لا يسقط أحدهما بفعل الآخر ، أو واجبا تخييريا يسقط كل منهما بفعل الآخر (1).

ثانيهما : ما لو علم بوجوب الشيء الخاص وتوجه الخطاب نحوه وشك في شيء آخر في أنه عدل لذلك الذي علم وجوبه فيكون من أحد فردي الواجب التخييري؟ أو أنه ليس بعدل ذلك بل هو مباح أو مستحب؟.

والشيخ قدس سره قد اقتصر - في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة الوجوبية - على بيان حكم الوجه الثاني ولم يذكر حكم الوجه الأول في هذا

ص: 416


1- أقول : سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) وجه التفصيل بين هذه الصورة والصورة الثانية في جريان البراءة وأصالة التخيير في هذه الصورة وجريان الاشتغال وأصالة التعيين في الصورة الثانية - عند تعرض « المقرر » حكم هاتين الصورتين فيما بعد ، وانتظر إن شاء اللّه تعالى.

المقام ، بل تعرض له في طي تنبيهات مبحث الأقل والأكثر ، ولعل بين الوجهين نحوا من الملازمة في النتيجة بحسب ما تقتضيه الأصول العملية.

وعلى كل حال : تنقيح البحث في دوران الأمر بين التعيينية والتخييرية يستدعى رسم أمور :

الأمر الأوّل :

الواجب التخييري على أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : الواجب التخييري بحسب الجعل الابتدائي الشرعي - أي كان الخطاب من أول الأمر خطابا تخييريا ذا أفراد في مقابل الخطاب التعييني - كخصال الكفارات ، فان الحكم المجعول الشرعي عند تعمد الإفطار في نهار شهر رمضان إنما هو التخيير بين الخصال الثلاث : من العتق والإطعام والصيام ، وفي كيفية إنشاء الخطاب التخييري وتصويره وجهان بل قولان :

فقيل : إن الخطاب التخييري عبارة عن تقييد إطلاق الخطاب المتعلق بكل من الفردين أو الأفراد بما إذا لم يأت المكلف بعدله ، فيكون وجوب العتق في الخصال مقيدا بعدم الإطعام والصيام ، ووجوب الإطعام مقيدا بعدم العتق والصيام ، وهكذا ، ومن تقييد إطلاق الخطابين ينشأ التخيير (1).

ص: 417


1- أقول : لا مجال للالتزام بتقيد إطلاق الخطاب بعدم الإتيان بالغير في التخييرات الواردة في الشريعة ، فان لازمه عدم تحقق الامتثال بالواجب التخييري عند إتيانهما ، ولا أظن في التخييرات الشرعية ما كانت بهذه المثابة ولم يتوهمه أحد أيضا ، فلا محيص حينئذ في تصوير الواجب التخييري من بيان آخر به تصير سنخ آخر من الخطاب قبال الواجب التعييني. و « المقرر » ما شرح هذا السنخ في المقام وإنما بينه في طي تحقيقه في جريان الأصل فيه ، وملخص ما أفاده : هو أن الوجوب التعييني عبارة عن وجوب شيء بلا جعل عدل له في طي الخطاب ، بخلاف التخييري فإنه عبارة عن ايجاب شيء مع ايجاب شيء آخر عدلاً له. أقول : لا يخفى أن وجود كل شيء طارد لجميع أنحاء عدمه ، ومن جملة أنحاء عدمه عدمه حين وجود غيره ، وحينئذ إذا تعلق الطلب بهذا الوجود ، فان كان الطلب حاويا لشراشر وجوده المستلزم لطرد عدمه حتى مثل هذا العدم ، فمثل هذا الوجود في عالم تعلق الطلب به لا يناسب مع جعل عدل له في هذا المقام ، إذ جعل العدل ملازم لجواز تركه في ظرف وجود العدل ، وهذا ينافي مع كون الطلب قائما بشراشر وجوده الموجب لطرد جميع الأعدام ، فلا جرم جعل العديل ملازم مع خروج بعض أنحاء عدم الوجود المزبور عن حيز الطلب ، وهو ملازم لعدم كون الوجود على الإطلاق في حيز الطلب ، بل المطلوب حينئذ حفظ الوجود من سائر الجهات ، وإليه يرجع حقيقة الوجوب التخييري فيصير الامتياز بين التعيين والتخيير بطلب الفعل بنحو يمنع عن جميع أنحاء عدمه أو بنحو لا يمنع عن بعض أنحاء عدمه ، ومن لوازمه جعل بديل له دون الأول ، وحينئذ فامتياز التعيين عن التخيير ليس إلا لشمول الطلب لجهات وجوده وحدوده بأجمعها دون التخييري ، فان الطلب لا يكون حاويا لجميع حدوده الملازم لطرد تمام أنحاء عدمه. وحيث عرفت ذلك ، ظهر لك : أن حيثية التعينية منتزعة عن جهة وجودية، وهو شمول الطلب الموجود الجميع حدوده، لا أنه متقوم بأمر عدمى ، وهو عدم جعل البدل له، كما توهم. ولعمرى! أن «المقرر» في المقام أغمض عن روح البيان واكتفى باللازم بخيال أنّه روح المراد ،وحقيقته، وهو كماترى! وسيأتي تتمة الكلام عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

وقيل : إن الخطاب التخييري بنفسه سنخ آخر من الخطاب في مقابل الخطاب التعييني ، لا أنه ينشأ من تقييد الإطلاق ، بل التخييرية والعينية سنخان متباينان بحسب الجعل والإنشاء ، ينشئان عن كيفية تعلق الإرادة الأزلية نحو المراد ، فقد تتعلق الإرادة الأزلية بشيء مخصوص لا يقوم غيره مقامه فيكون واجبا عينيا مطلقا كان أو مشروطا ، وقد تتعلق بأحد الشيئين أو الأشياء التي لم يكن بينها جامع قريب عرفي مقدور للمكلف يكون هو متعلق التكليف - كما في أفراد الواجب التخييري العقلي حيث إن التكليف فيه إنما يتعلق بالجامع بينها - فيكون واجبا تخييريا ، فالضابط في التخيير الشرعي هو أن لا يكون بين الأفراد جامع أصلا ، أو كان الجامع مجرد وحدة الملاك.

ومحصل القول الثاني هو أن مجرد تقييد إطلاق الخطاب لا يقتضي الوجوب التخييري ما لم يكن في البين اختلاف في سنخ الإرادة وكيفية تعلقها نحو المراد ، وربما نشير إلى الثمرة بين القولين بعد ذلك.

القسم الثاني : ( من أقسام الواجب التخييري ) هو التخيير الناشئ عن

ص: 418

تزاحم الحكمين وتمانع الخطابين في مقام الامتثال إذا لم يكن أحد الحكمين أهم وأولى بالرعاية - على أحد الوجهين في باب التزاحم (1) وقد تقدم تفصيل ذلك ( في الجزء الأول من الكتاب ) ويأتي أيضا ( في مبحث التعادل والتراجيح ).

وإجمال ذلك : هو أن الخطابات والتكاليف الشرعية إذا كانت بحسب أصل الجعل والتشريع مطلقا بالنسبة إلى حال اجتماع كل واحد منها مع الآخر ولم يكن بين متعلقاتها تمانع وتضاد ولكن عرض التمانع والتزاحم بينها في مقام الامتثال - من حيث إنه اتفق للمكلف العجز عن امتثالها جمعا وعدم القدرة على ايجاد كل من المتعلقين أو المتعلقات - فلابد حينئذ من تقييد الإطلاق ، لأن المفروض عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في الامتثال ، واشتراط التكليف بالقدرة ضروري ، فلا يمكن بقاء الإطلاق بالنسبة إلى كل من الخطابين أو الخطابات المتزاحمة ، فان كان أحد المتعلقين أهم وأولى بالرعاية عقلا أو شرعا يبقى إطلاق خطابه على حاله ويقيد إطلاق خطاب غير الأهم - وعلى ذلك يبتني الخطاب الترتبي - وإن لم يكن أحد المتعلقين أهم وأولى بالرعاية من الآخر وكانا ككفتي الميزان من حيث الأهمية ومن حيث ساير مرجحات باب التزاحم التي استقصينا الكلام فيها في مبحث الضد - فعلى المختار لابد من تقييد إطلاق كل من الخطابين بصورة عدم امتثال الآخر ، فتكون النتيجة التخيير في الإتيان بأحد المتعلقين وامتثال أحد الخطابين.

وهذا التخيير يعرض للخطابين بعد ما كانا عينيين ، وبذلك يمتاز عن القسم الأول.

هذا بناء على ما قويناه ( في بيان التزاحم ) من أن منشأ التزاحم إنما هو إطلاق الخطابين بالنسبة إلى فعل متعلق الآخر وعدمه ، فلابد أن يكون هو

ص: 419


1- أقول : مرجع هذا التخيير أيضا نقص في الطلب ، بلا احتياج إلى التقييد بعدم ضده ، وتوضيحه في محله إن شاء اللّه تعالى.

الساقط ؛ ولا موجب لسقوط أصل الخطاب ، لأن التزاحم لم ينشأ من وجود الخطابين بل من إطلاقهما. ولكن في المسألة قول بسقوط أصل الخطابين ، ولمكان تمامية الملاك في باب التزاحم العقل يستكشف خطابا تخييريا آخر بعد سقوط الخطابين الأصليين. وهذا القول وإن كان قد زيفناه في محله ، إلا أنه بناء عليه يكون الخطاب التخييري الذي استكشفه العقل من تمامية الملاك بعد سقوط الخطابين الأصليين كالخطاب التخييري المجعول ابتداء بحسب أصل التشريع ، ويندرج في القسم الأول ، وذلك واضح.

القسم الثالث : التخيير الناشئ عن تعارض الحجتين وتنافي الطريقين - كتعارض فتوى المجتهدين المتساويين ومؤدى الخبرين مع تساويهما في مرجحات باب التعارض - فبناء على المختار في باب الطرق والأمارات : من أن المجعول فيها نفس الحجية والطريقية والوسطية في الإثبات من دون أن يحدث في مؤدى الطريق مصلحة بسبب قيام الطريق عليه بل المؤدى باق على ما كان عليه قبل قيام الطريق من الحكم ، يكون الأصل في باب التعارض التساقط وعدم حجية كل منهما بالنسبة إلى المؤدى ، والتخيير في الأخذ بأحد المتعارضين يكون لمحض التعبد من جهة الأخبار الآمرة بالتخيير عند تعارض الروايات وفقد المرجحات ، فهذا قسم آخر من التخيير أجنبي عن القسم الأول والثاني.

وأمّا بناء على ما ينسب إلى المشهور من القدماء : من القول بالسببية في باب الطرق والأمارات وأن قيام الأمارة يوجب حدوث مصلحة في المؤدى غالبة على ما كان عليه من الملاك عند مخالفتها للواقع (1) فالتخيير بين الأمارتين

ص: 420


1- 1 - أقول : لا يخفى أن مرجع التخيير في تعارض الحجتين إلى التخيير في الأخذ بالحجة والاستناد إليه ، وهذا التخيير قائم بالأخذ والاستناد وخارج عن موضوع الحكم الطريقي وعن موضوع دليل الحجية ، ولو لم يكن مفاده حكما تكليفيا ، ولذا ينتج من هذا التخيير بالأخرة حكما تعيينيا أو حجة تعينية ، وبذلك تمتاز عن التخيير في الأقسام السابقة. ولئن شئت قلت : بأنه عند عدم سقوط الطريقين عن الحجية العقل يحكم باشتراط تعين كل واحد بالأخذ به ، فهذا التخيير في الحقيقة جاء من قبل تحصيل الحجة التعينية بأخذه عند تساويهما ، لا أنه حكم شرعي موجب للعقوبة على ترك الاستناد بهما ، كيف! ومع تركهما لا يستحق إلا العقوبة على ترك الحجة التعينية ، لا على ترك الأخذ بهما. ثم أن في هذه الجهة لا فرق بين اعتبار الطرق من باب الطريقية أو السببية ، إذ على السببية أيضا الأخذ مقدمة تعيين الحجة المقتضية لتعيين الحكم على وفقه ، بحيث نتيجة هذا التخيير أيضا ينتهى إلى حكم تعييني لا حكم تخييري ، كيف! ولا يتصور التخيير بين مفاد الحجتين المتضادين كالوجوب والحرمة ، فقهرا مثل هذا التخيير أجنبي عن التخييرات السابقة ، على السببية ، كما لا يخفى ، فتدبر.

المتعارضتين يكون على القاعدة ، ويكون من صغريات التخيير في باب المتزاحمين فيندرج في القسم الثاني ، فان كلا من الأمارتين فقد استتبعت حكما على طبقها ، وحيث لا يمكن للمكلف الجمع بين الحكمين في الامتثال ، لتضاد مؤداهما الذي هو منشأ التعارض ، فلا محيص عن التخيير ، إما بتقييد الإطلاق ، وإما بسقوط الحكمين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، لتمامية الملاك ، وذلك أيضا واضح.

الأمر الثاني :

كما يمكن أن يكون التكليف في عالم الجمع والثبوت ومرحلة التشريع والحدوث مشروطا - كاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة والصلاة بالوقت - كذلك يمكن أن يحدث للتكليف الاشتراط في مرحلة البقاء والاستمرار بعد ما كان مطلقا في مرحلة الحدوث والثبوت ، كما لو فرض اشتراط بقاء التكليف بالصلاة بعدم الصيام.

وهذان الفرضان متعاكسان في جريان البراءة والاشتغال عند الشك فيهما.

ص: 421

فلو شك في إطلاق التكليف واشتراطه في عالم الجعل والتشريع ، فالأصل يقتضي البراءة عند عدم وجود ما شك في شرطيته ، للشك في التكليف ، وإن شك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة البقاء والاستمرار فالأصل يقتضي الاشتغال ، لأن حقيقة الشك يرجع إلى أن الصيام في المثال المتقدم هل يكون مسقطا للتكليف بالصلاة أو لا يكون مسقطا؟ (1) وكلما رجع الشك إلى الشك في المسقط ، فالأصل يقتضي عدم السقوط. فلا يقاس الشك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة الحدوث بالشك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة البقاء ، فان الأول يرجع إلى الشك في التكليف عند عدم تحقق الشرط ، والثاني يرجع إلى الشك في سقوط التكليف عند عدم الشرط ، وذلك أيضا واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

الأمر الثالث :

يعتبر في جريان البراءة أن يكون الشك في أمر مجعول شرعي تناله يد الوضع والرفع ولو بتبع منشأ الانتزاع (2) كالشك في الجزئية والشرطية ، وإن لم تنلها يد الوضع والرفع في حد نفسها وبحيال ذاتها لأنها من الأمور الانتزاعية كما أوضحناه في محله - إلا أنه يمكن وضعها ورفعها بوضع التكليف الذي يكون منشأ انتزاع الجزئية والشرطية ورفعه ، وهذا المقدار يكفي في جريان البراءة عند الشك فيها.

والحاصل : أن الذي يعتبر في جريان البراءة أمران :

ص: 422


1- أقول : الأولى أن يقال : عند الشك في اشتراط بقاء التكليف المرجع استصحاب بقائه لا الاشتغال ، كيف! وفي طرف البقاء يشك في أصل التكليف وأصل الاشتغال. وما قرع سمعك من مرجعية الشك في المسقط إلى الاشتغال إنما هو في صورة تعلق الشك بوجود بدل مفوت له ، لا مثل المقام ، كما لا يخفى ، فتدبر.
2- أقول : وسيتضح لك ( إن شاء اللّه تعالى ) أن هذه المقدمة غير منتجة لمرامه ، فتكون مستدركا.

أحدهما : أن يكون المشكوك فيه مما بيد الشارع أمر وضعه ورفعه ولو لم يستقل بالخطاب ولم يمكن جعله ابتداء بل كان من الكيفيات والخصوصيات اللاحقة للخطاب بحيث يكون وضعه بوضع الخطاب ورفعه برفعه ، فان هذا المقدار من الوضع والرفع يكفي في جريان البراءة فيه.

ثانيهما : أن يكون في وضعه تضييق على العباد وفي رفعه منة وتوسعة ، فان قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ورد مورد الامتنان ، فلابد ان يكون رفع المشكوك مما يقتضي التسهيل والتوسعة ، فلو فرض أن رفع المشكوك يقتضي الضيق والكلفة على العباد ، فلا يمكن أن يعمه « حديث الرفع » ولو كان مما تناله يد الوضع والرفع شرعا ، فمجرد كون أمر وضع المشكوك ورفعه بيد الشارع لا يكفي في جريان البراءة العقلية والشرعية فيه ما لم يستتبع وضعه العقاب والتضييق ، ليكون في رفعه التوسعة ورفع العقاب.

الأمر الرابع :

الشك في التعيين والتخيير يتصور على وجوه :

فإنه تارة : في أصل التكليف التعييني أو التخييري ، بمعنى أن أصل ثبوت التكليف المردد بينهما مشكوك أو المردد بين خصوص التخيير والإباحة ، كما لو شك في أن الارتماس في نهار شهر رمضان هل يقتضي وجوب إحدى الخصال تخييرا أو لا يقتضي شيئا أصلا؟ كما لو فرض الشك في أن المفطر الكذائي هل يقتضي الكفارة أو لا يقتضيه؟ وعلى تقدير اقتضائه فهل يقتضي كفارة معينة أو يقتضي التخيير بين إحدى الخصال الثلاث؟.

ولا ينبغي التأمل والإشكال في جريان البراءة في ذلك ، فان الشك فيه يرجع إلى الشك في أصل التكليف ، فما نسبه بعض إلى ظاهر صدر كلام الشيخ قدس سره في المقام : من أنه يعطى عدم جريان البراءة في هذا القسم من الشك ، ليس في محله ولا توهمه عبارة الشيخ ، خصوصا بعد ضمّ ذيل

ص: 423

كلامه إلى صدره ، بل كلام الشيخ قدس سره ناظر إلى ما سيتلى عليك من ساير الأقسام.

وأخرى : يشك في التعيين والتخيير بعد العلم بتوجه الخطاب وثبوت التكليف ، وهذا يتصور على وجوه :

فإنه تارة : يعلم بتعلق التكليف بأحد الشيئين بخصوصه ، ويشك في أن الشيء الآخر هل هو عدله حتى يكون ما علمه تعلق التكليف به أحد فردي الواجب التخييري؟ أو أنه ليس عدله بل يتعين هو ، لا يقوم شيء آخر مقامه؟ كما لو علم بوجوب العتق وشك في وجوب الصيام على نحو يكون عدلا للعتق وأحد فردي الواجب وعدم وجوبه بل هو مستحب أو مباح.

وأخرى : يعلم بتعلق التكليف بكل من الشيئين ، ولكن يشك في أن كلا منهما واجب عينا لا يقوم أحدهما مقام الآخر ، أو أنهما واجبان تخييرا يسقط كل منهما بفعل الآخر فيكون كل واحد منهما عدلا للآخر.

وثالثة : يعلم بتعلق الوجوب بأحد الشيئين المعين ويعلم أيضا بأن الشيء الآخر مسقط لوجوب ما علم وجوبه ، ولكن يشك في أن إسقاطه للوجوب لمكان أنه قد تعلق الوجوب به أيضا وجعل أحد فردي الواجب المخير؟ أو أنه لم يتعلق الوجوب به بل هو إما مباح أو مستحب إلا أنه مسقط للواجب؟ فإنه ثبوتا يمكن أن يكون ما ليس بواجب مسقطا للواجب ، إما لفوات الملاك ، أو عدم إمكان استيفائه ، وسيأتي الثمرة بين كونه أحد فردي الواجب المخير وبين كونه مسقطا للواجب.

فهذه جملة ما يتصور من وجوه دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد عرفت أقسام الواجب التخييري.

فيقع الكلام حينئذ في ما يقتضيه الأصل العملي وأن الأصل عند الشك في التعيين والتخيير في جميع أقسام الواجب التخييري هل البراءة مطلقا؟ أو الاشتغال مطلقا؟ أو التفصيل بالنسبة إلى بعض وجوه الشك في

ص: 424

التعيين والتخيير أو بعض أقسام الواجب التخييري ، ففي بعض وجوه الشك تجرى البراءة ، وفي بعضها لا تجري ، أو إذا كان طرف الشك بعض أقسام الواجب التخييري تجرى البراءة ، وإذا كان طرف الشك بعض آخر لا تجرى.

والأقوى : أن الأصل في جميع الأقسام على جميع وجوه الشك - ما عدا الوجه الأوّل - هو الإشتغال (1)

ص: 425


1- أقول : قد تقدم - في الحاشية السابقة - أن مرجع الفرق بين التخيير والتعيين إلى كون الطلب متعلقا بالوجود على الإطلاق الذي هو طارد لجميع الأعدام ويقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه التي منها تركه في حال وجود غيره ، أو كونه متعلقا بالوجود بنحو يقتضي المنع عن بعض تروكه دون بعض ، ومن المعلوم : أن من لوازم الأخير جعل البديل له ، بخلاف الأول ، وحينئذ فليس قوام حقيقة التعيينية بعدم جعل البدل ، بل هو من تبعات تعلق الوجوب بالوجود لجميع حدوده الطارد لجميع أعدامه ، ومثل هذه الجهة أمر وجودي زائد عن كيفية تعلق الوجوب بهذا الوجود ببعض حدوده بنحو لا يكون طاردا لجميع أعدامه ، وحينئذ فلا محيص من الالتزام بأن جهة التعينية منتزعة عن سعة الطلب واحتوائه لجميع حدود الوجود ، قبال التخييرية المنتزعة عن قصور الطلب عن شموله لجميع حدوده بحيث لا يقتضي المنع إلا عن بعض تروكه ، وحينئذ عند الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في تعلقه بحد زائد عما تعلق به على التخييرية ، فقهرا من هذه الجهة يرجع الأمر في مثله إلى الأقل والأكثر ، فلا مجال لإثبات التعينية من هذه الجهة. نعم : لو علم بوجوب شيء معيّن، وشك في وجوب شيء آخر بديله وعدله أو عدم وجوبه - كما هو صورة الفرض الأول لا محيص فى هذا الفرض من الإشتغال، لانتهائه إلى العلم الإجمالى بحرمة ترك ما هو الواجب في ظرف ترك وجود الآخر، أو حرمة ترك الآخر فى ظرف ترك هذا الواجب؛ فهذا العلم يقتضى تنجز المعلوم مع الجزم بالفراغ باتيان معلوم الوجوب . وأما لو علم بوجوب شيئين، وشك في أن كل منهما تعييني أو تخييري، ففي هذه الصورة لا يبقى مجال لتشكيل العلم الإجمالي بين حرمة ترك الواجب في حال وجود غيره أو حرمة ترك الغير في حال ترك الآخر، للعلم تفصيلاً بحرمة تركه ؛ فلا يبقى فى البين إلا الشك في حرمة ترك كل واحد في حال وجود غيره وهو تحت البرائة من الطرفين للعلم التفصيلى بحرمة ترك كل واحد من سائر الجهات، وإنّما الشك في حرمة ترك خاص من كل منهما وهو تحت البرائة، حيث إنّه من مصاديق الأقل والأكثر؛ وفى مثله لا مجال لإجراء «قاعدة الشك في المسقط » إذالشك فيه مسبب عن تعلق الحرمة بتركه المخصوص ، وهو مجرى البرائة ؛ فيصير البرائة حاكمة على الإشتغال، لرجوع الأمر بالأخرة إلى الشك في أصل الإشتغال؛ كما أنه لا مجال لاستصحاب وجوب الشيء بعد الإتيان بغيره . ، لأن الوجوب المردد بين الأقل والأكثر لا ينتج شيئاً، ووجوب آخر من الأول غير معلوم، كما لا يخفى.

وينبغي إفراد كل قسم من أفراد الواجب التخييري بالبحث ، فان لكل واحد من الأقسام الثلاثة خصوصية لم تكن في الآخر ، بحيث لو أمكن القول بجريان البراءة في بعضها لا يمكن القول بجريانها في البعض الآخر ، كما سنوضحه ( إن شاء اللّه تعالى ).

فنقول : إذا كان الشك في التعيين والتخيير على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير - وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين بخصوصه وشك في كون الشيء الآخر عدلا له وأحد فردي الواجب التخييري وكان الواجب التخييري الذي هو طرف الشك من الواجبات التخييرية الابتدائية في عالم الجعل والتشريع الذي كان هو القسم الأول من أقسام الواجب التخييري - فقد قيل : إنه تجرى البراءة عن التعيينية ، لأن صفة التعيينية كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف ، بداهة أنه لو لم يكن الواجب تعيينيا لكان المكلف بالخيار بين الإتيان به أو بعدله ، فيشملها قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » وقوله علیه السلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » وغير ذلك من أدلة البراءة ، ويلزمه جواز الاكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلا لما علم تعلق التكليف به.

وقيل : بعدم جريان البراءة ، ويلزمه عدم جواز الاكتفاء بما يحتمل كونه عدلا للواجب ، وهو الأقوى ، فان صفة التعيينية وإن كانت كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف ، إلا أن مجرد ذلك لا يكفي في جريان البراءة ، بل لابد مع ذلك من أن يكون المشكوك فيه أمرا مجعولا شرعيا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بتبع خطاب آخر ، كما تقدم (1) وإلا كان اللازم جريان البرائة

ص: 426


1- أقول : بعد تسليم أن التعيينية كلفة زائدة توجب ضيقا من ناحية العقوبة على المكلف ، ففي جريان البراءة العقلية - لولا شبهة أخرى - لا يحتاج إلى كون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، وإنما يحتاج إلى ذلك في مثل « حديث الرفع » وأمثاله ، وإلا ففي مثل البراءة العقلية يكفي كون المشكوك بخصوصه موجبا للعقوبة على تركه ، وصفة التعيينية لا أقل من كونه من هذا القبيل ، هذا ، مع أنه قد تقدم من أن مرجع التعيينية إلى تعلق الطلب لجميع حدود الوجود الملازم لحرمة جميع أنحاء تروكه ، قبال التخييرية المتعلق ببعض حدود وجوده المستلزم لجواز بعض تروكه ، ومن المعلوم : أن التعيينية بهذا المعنى منتزع عن كيفية الجعل وأمر وضعه ورفعه بيد الشارع؛ فلا قصور في جريان مثل « حديث الرفع » أيضا في المقام ، كما لا يخفى ، وحينئذ العمدة في منع جريان البراءة الابتلاء بعلم إجمالي آخر بين المتباينين ، وهو مختص بصورة العلم بوجوب شيء والشك في وجوب شيء آخر عدلا له ، ولا يجرى في صورة العلم بوجوب شيئين والشك بأنها تعييني أو تخييري ، كما لا يخفى. ولقد أوضحنا المرام في الحاشية السابقة ، فراجع إليه وتدبر فيه بعين الدقة.

في جميع موارد الشك في الامتثال والسقوط ، فان عدم حصول الامتثال وعدم السقوط ضيق وكلفة على المكلف ، كما أن حصول الامتثال والسقوط توسعة ، فلو اكتفينا في جريان البراءة بمجرد كون المشكوك فيه مما يوجب الضيق والكلفة ، كان اللازم جريان البراءة عند الشك في سقوط الأمر الصلاتي مثلا بالصيام ، وهو كما ترى! وليس ذلك إلا من جهة أنه يعتبر في أصالة البراءة - مضافا إلى كونها موجبة للتوسعة ورفع الكلفة - أن يكون المشكوك فيه أمرا وجوديا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو كان من توابع نفس التكليف وخصوصياته أو من توابع متعلقه وقيوده ، ولذلك كان الأقوى عندنا جريان البراءة عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، سواء كان المشكوك فيه جزءا أو قيدا ، كما أوضحناه في محله.

وحاصل الكلام : أن الكلفة والضيق الذي يراد رفعه بالبرائة إنما هو الضيق الجائي من قبل جعل التكليف وتشريعه ، بحيث يكون الجعل متضمنا لكيفية توجب الضيق وتوقع المكلف في الكلفة ، ولابد أن تكون تلك الكيفية وجودية ليمكن رفعها عند الشك فيها وأن يكون في رفعها منة وتوسعة على العباد ، وهذا هو الضابط الكلي الذي لابد من رعايته في جميع الموارد التي تجرى فيها البراءة.

ومنه : يظهر أنه لا مجال لتوهّم جريان البراءة عند الشك في التعيين والتخيير ، لأن صفة التعيينية المشكوكة ليست من الأمور الوجودية المجعولة

ص: 427

شرعاً ولو بالتبع ، بل إنما هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل ، بداهة أن نحو تعلق الخطاب لا يختلف تعيينيا كان أو تخييريا ، فالتكليف المتعلق بالعتق مثلا لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص ولا يتكيف بكيفية وجودية إذا كان التكليف المتعلق به تعيينيا ، وإنما الاختلاف ينشأ عن قبل وجوب العدل ، فان تعلق التكليف بشيء آخر يكون عدلا له فالتكليف المتعلق بالعتق كان تخييريا ، وإلا كان تعيينيا ، فالتعيينية ليست صفة وجودية للخطاب حتى تجرى فيها البراءة.

وبالجملة : كما أنه في مقام الإثبات ظاهر الخطاب يقتضي التعيينية لأنها لا تحتاج إلى بيان زائد بل التخييرية تحتاج إلى مؤنة زائدة من العطف ب « أو » ونحوه ، كذلك في مقام الثبوت التعيينية عبارة عن تعلق الإرادة المولوية بشيء ، وليس لها فصل وجودي ، بل حدها عدم تعلق الإرادة بشيء آخر يكون عدلا لما تعلقت الإرادة به ، ففي الحقيقة الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في وجوب العدل وعدمه ، فالذي يمكن أن يعمه « حديث الرفع » لولا كونه خلاف المنة - هو وجوب العدل المشكوك ، فينتج التعيينية وهي ضد المقصود.

فظهر : أنّ المرجع عند الشك في التعيين والتخيير قاعدة الاشتغال ، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلا له ، من غير فرق بين أن يكون الشك فيهما على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ( وهو ما إذا لم يعلم تعلق الطلب بما يحتمل كونه عدلا للواجب ) أو على الوجه الثالث ( وهو ما إذا علم بتعلق الطلب به أيضا وكان الشك في مجرد كونه عدلا للآخر ) (1) فان الشك في كل من الوجهين يرجع إلى

ص: 428


1- أقول : لو تأملت فيما ذكرنا ترى الفرق بينهما كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار ، وأن الأصل في الأول هو التعيين ، وفي الثاني هو التخيير ، فتدبر تعرف.

الشك في الامتثال والسقوط ، غايته أنه في الوجه الثاني الشك إنما يكون في مسقطية خصوص مشكوك الوجوب عن مقطوعه ، وفي الوجه الثالث يكون الشك في مسقطية كل منهما عن الآخر.

وكذا لا فرق بين القول بان الواجب التخييري عبارة عن تقييد الإطلاق واشتراط التكليف في كل واحد من الفردين بما إذا لم يأت بالآخر ، والقول بأنه بنفسه سنخ آخر من الطلب يقابل الواجب التعييني ، بل رجوع الشك إلى الشك في الامتثال والسقوط لو كان من باب تقييد الإطلاق أوضح ، فان الشك يرجع إلى الشك في السقوط على كل حال ولو كانت صفة العينية وجودية ، فإنه لو قلنا بأن الواجب التخييري من باب تقييد الإطلاق ، فالتقييد إنما يكون باعتبار البقاء ومرحلة السقوط لا باعتبار الثبوت ومرحلة الحدوث ، وقد عرفت : أن الأصل عند الشك في الإطلاق والاشتراط الراجع إلى مرحلة السقوط يقتضي الاشتغال وعدم السقوط ، فتأمّل جيّداً.

بقى الكلام في الوجه الثالث من وجوه الشك في التعيين والتخيير ، وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين وعلم أيضا بأن الشيء الآخر مسقط التكليف به ، ولكن يشك في أن إسقاطه للتكليف لكونه عدلا له وأحد فردي الواجب المخير ، أو مجرد كونه مسقطا له ومفوتا لموضوعه ، سواء كان إسقاطه من حيث كون عدمه شرطا لملاك الواجب بحيث يكون وجوده معدما للملاك والمصلحة ، أو كان إسقاطه من حيث كونه مانعا عن استيفاء الملاك مع بقائه على ما هو عليه ، وعلى كلا التقديرين : يكون عدمه شرطا لوجوب الواجب ، ولا يمكن أن يكون أحد فردي الواجب المخير ، لأنه ليس فيه مصلحة الوجوب ولا حاويا لملاكه ، وإلا لم يكن إسقاطه للواجب بأحد الوجهين ، بل كان إسقاطه له من باب استيفاء الملاك ، فإنه يعتبر في الواجب التخييري أن يكون بين الأفراد جامع ملاكي.

وعلى كل حال : فان علم أن الشيء الفلاني - كالصيام مثلاً - ليس

ص: 429

من أفراد الواجب التخييري وليس فيه ملاك الوجوب وإنما هو مباح أو مستحب مسقط للوجوب عن العتق فهو ، وإن شك في ذلك وتردد أمره بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري أو مجرد كونه مسقطا ، فمع التمكن من الإتيان بما علم تعلق التكليف به - من العتق مثلا - لا يترتب على الوجهين أثر حتى يبحث عن الوظيفة في حال الشك إلا من حيث العصيان وعدمه ، فإنه عند ترك المكلف العتق مع العلم بتعلق التكليف به والاكتفاء بالصيام - مع أنه يمكن أن يكون في الواقع مما لم يتعلق به التكليف وكان مسقطيته للتكليف عن العتق لمكان كونه مفوتا لملاكه ومانعا عن استيفائه من دون أن يكون عدمه شرط للملاك - يستحق العقوبة.

وأمّا مع عدم التمكن من الإتيان بما علم تعلق التكليف به وتعذر على المكلف عتق الرقبة ، فيظهر بين الوجهين أثر عملي ، فإنه لو كان الصيام من أفراد الواجب التخييري يتعين الإتيان به ، لأنه إذا تعذر أحد فردي الواجب المخير يتعين الآخر ، وإن لم يكن الصيام من أفراد الواجب التخييري بل كان مجرد كونه مسقطا للوجوب عن العتق ، فلا يجب الإتيان به مع تعذر العتق ، لأنه بالتعذر قد سقط التكليف عنه ، والمفروض أن الصيام لم يتعلق التكليف به ، فلا ملزم لفعله بل لا أثر له ، والوظيفة عند الشك هي البراءة عن التكليف بالصيام ، للشك في تعلق التكليف به ، وذلك واضح.

وقد قيل : إن من هذا القبيل الشك في وجوب الجماعة عند تعذر القراءة على المكلف.

بيان ذلك : هو أنه تارة : نقول : إن الصلاة جماعة إحدى فردي الواجب التخييري الشرعي ، فان التخيير العقلي لا يحتمل لسقوط فيها وثبوتها في الصلاة فرادى ، فلا يمكن أن يجمعهما خطاب واحد (1) مع أنه يعتبر في التخيير العقلى أن

ص: 430


1- 1 - أقول : كيف لا يتصور جامع بين الصلاة جماعة وفرادى مع أن الصلاة ولو عند الصحيحي موضوع لمفهوم واحد ، غاية الأمر كانت من الحقائق التشكيكية القابلة للانطباق على الأقل والأكثر ، ومجرد اختصاص كل طائفة بمصداق مخصوص لا ينافي وحدة الحقيقة ، وتمام الكلام في محله. وعلى كلام « المقرر » يلزم أن يكون الصلاة مشتركا لفظيا بين الجماعة والفرادى ، وهو كما ترى!

يكون بين الأفراد جامع خطابي حتى تكون الأفراد متساوية الأقدام ، فالتخيير الذي يحتمل أن يكون بين الصلاة فرادى والجماعة هو التخيير الشرعي ، وعليه : فان تعذرت الصلاة فرادى - ولو لمكان تعذر جزئها وهي القراءة - تتعين الصلاة جماعة ، فإنه عند تعذر أحد فردي الواجب المخير يتعين الآخر.

وأخرى : نقول باستحباب الجماعة وأنها ليست إحدى فردي الواجب التخييري ولكنها مسقطة للوجوب عن الصلاة فرادى ، فلا تجب الجماعة عند تعذر القراءة ، بل للمكلف الصلاة فرادى بدون القراءة أو بما يحسن منها ، ولو شك في أحد الوجهين فالأصل يقتضي البراءة عن وجوب الجماعة عند تعذر القراءة ، للشك في تعلق التكليف بها ، كما تقدم ، هذا.

ولكن في الصلاة جماعة احتمال آخر لا يبعد استظهاره من الأخبار (1) وهو أن يكون الاكتفاء بالصلاة جماعة وإسقاطها للتكليف عن الصلاة فرادى ليس من حيث كونها مفوتة لملاك الصلاة فرادى ولا من حيث كونها إحدى فردي الواجب التخييري ، بل من حيث تنزيل قرائة الإمام منزلة قرائة المأموم ، فيكون المأموم واجدا للقرائة لكن لا بنفسه بل بإمامه ، إلا أن تنزيل قرائة الإمام منزلة قرائة المأموم لا يقتضي أن تكون الصلاة جماعة في عرض الصلاة فرادى حتى يلزم تعين الجماعة عند تعذر القراءة في الصلاة فرادى ، بدعوى : أنه يمكن تحصيل القراءة التنزيلية ، كما هو الشأن في باب الطرق والأمارات ، حيث

ص: 431


1- أقول : وهنا احتمال آخر لعله أمتن ، وهو كون الجماعة طرف التخيير بالنسبة إلى الفرادى لجميع مراتبه النازلة ، نظرا إلى أن للصلاة عرض عريض صادق على الزائد والناقص والمكلف في كل حال مكلف بمرتبة من الصلاة وفي كل حال مخير بين الفرادى والجماعة ، ولازمه كون الجماعة طرف التخيير للفرادى الاختيارية أو الإضطرارية من دون احتياج حينئذ إلى تنزيل قرائة الإمام خصوصا في طرف اختيار الجماعة كي يقال : إن أخبار تحمل الإمام قرائة المأموم آبي عن هذا التقيد ، فتدبر.

إنّه يجب الأخذ بمؤدياتها عند تعذر الوصول إلى الواقع ، لتنزيل مؤدياتها منزلة الواقع - بالبيان المتقدم في باب جعل الطرق والأمارات - فان التنزيل في باب الجماعة إنما يكون على تقدير اختيار الصلاة جماعة ، فتكون قرائة الإمام قرائة المأموم على هذا التقدير ، فلا يقتضي ذلك تعين الجماعة عند تعذر القراءة ، فتأمل جيدا.

ولو فرض الشك في كل ذلك فالمرجع البراءة عن وجوب الجماعة ، فعلى جميع التقادير : لو وصلت النوبة إلى الشك فلا محالة ينتهى إلى الشك في التكليف ، كما لا يخفى.

هذا كله إذا كان الشك بين التعيين والتخيير في القسم الأول من أقسام الواجب التخييري ( وهو ما كان التخيير فيه بجعل ابتدائي ).

وإذا كان الشك بين التعيين والتخيير في القسم الثاني من أقسام الواجب التخييري ( وهو ما كان التخيير فيه لأجل التزاحم ) فعدم جريان البراءة عن التعيينية أوضح على كلا المسلكين ، سواء قلنا : إن التخيير في باب التزاحم لأجل تقييد الإطلاق أو لأجل سقوط الخطابين المتزاحمين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، فان رجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط في غاية الوضوح ، سواء قلنا : إن صفة التعيينية وجودية أو عدمية.

فلو وقع التزاحم في إنقاذ الغريقين مثلا لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الإنقاذ وكان متمكنا من أحدهما فقط ، فان علم بتساوي الغريقين من حيث الملاك والمصلحة التي اقتضت ايجاب الإنقاذ ، فلا إشكال في التخيير في اختيار إنقاذ أحدهما.

أما على المختار : فلأن نتيجة تقييد إطلاق كل من الخطابين بصورة عدم الإتيان بمتعلق الآخر هو التخيير في إنقاذ أحدهما.

وأما على المسلك الآخر : فلأن العقل بعد سقوط الخطابين المتزاحمين يستكشف حكماً تخييرياً.

ص: 432

وإن علم بأقوائية الملاك في أحدهما المعين وأهميته في نظر الشارع فلا إشكال أيضا في تعينه على كلا المسلكين. أما على المسلك المختار. فلبقاء الإطلاق في جانب الأهم والتقييد يختص في طرف المهم ، ومنه ينشأ الخطاب الترتبي. وأما على المسلك الآخر : فلأن أقوائية ملاكه يمنع عن استكشاف العقل الحكم التخييري ، لأن التخيير فرع أن تكون الأفراد متساوية الأقدام في الملاك.

وإن شك في أهمية أحدهما المعين واحتمل أقوائية ملاكه ، كما إذا احتمل أن يكون أحدهما المعين هاشميا مع العلم بأهمية إنقاذ الهاشمي ، أو احتمل أهمية الهاشمي مع العلم بهاشمية أحدهما المعين ، فبناء على المختار : يرجع الشك إلى الشك في تقييد إطلاق محتمل الأهمية في مرحلة البقاء والامتثال مع العلم بتقييد الإطلاق في الأطراف الاخر (1) ولا إشكال في أن الأصل عند الشك في تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء يقتضي الاشتغال لا البراءة ، للشك في سقوط التكليف عن محتمل الأهمية بعد العلم بتعلق التكليف به.

وأما بناء على المسك الآخر : فالشك فيه يرجع إلى الشك في سقوط أصل الخطاب مع العلم بالملاك التام ، فعلى كلا المسلكين : يرجع الشك إلى الشك في المسقط ، والمرجع أصالة الاشتغال لأن العلم باشتغال الذمة يستدعى العلم بالفراغ ، وذلك كله واضح.

بقى الكلام في القسم الثالث من أقسام الواجب التخييري ( وهو

ص: 433


1- أقول : في كلية المتزاحمين إنما نقول بالتخيير من جهة التساوي في الاهتمام الموجب لعدم الترجيح عند العقل من جهة عدم القدرة على تحصيلهما ، فمع احتمال الأهمية في أحدهما المعين يكتفى العقل بذلك المقدار مرجحا ، فلا يبقى مجال لحكمه بالتخيير ، بل الفراغ اليقيني حينئذ يقتضي الإتيان بمحتمل الأهمية ، وهذه الجهة أيضا غير مرتبط بالشك في المسقط بمبناه ، كيف! وفي المقام ليس التقييد في مرتبة البقاء ، بل من الأول يحتمل تقيد إطلاقه عقلا ، لعجزه عن امتثالهما من أول الأمر ، فتدبر.

ما إذا كان التخيير فيه لأجل تعارض الحجتين والطريقين ) وقد عرفت : أنه في باب الطرق والأمارات إن قلنا بالسببية فالتخيير فيه يكون من صغريات التخيير في باب التزاحم ، فان لم يكن لأحد الطرفين مزية فالمكلف بالخيار بين الأخذ بأحدهما. وإن كان لأحدهما مزية يتعين الأخذ بذى المزية (1).

وإن احتمل أن يكون لأحدهما المعين مزية ، كما إذا احتمل أعلمية أحد المجتهدين بعد العلم بوجوب الأخذ بقول الأعلم ، أو احتمل وجوب الأخذ بقول الأعلم بعد العلم بأعملية أحدهما المعين ، أو احتمل أن يكون لإحدى الأمارتين مزية يجب الأخذ بها - سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية - فالكلام فيه الكلام في الفريقين عند احتمال أهمية أحدهما المعين ، ويأتي فيه المسلكان المتقدمان.

هذا إذا قلنا في باب الطرق والأمارات بالسببية ، وإن قلنا بالطريقية المحضة وأن المجعول في باب الطرق والأمارات مجرد الحجية والوسطية في الإثبات - كما هو المختار وعليه قاطبة المتأخرين - فوجوب الأخذ بمحتمل المزية في غاية الوضوح ولا يمكن الخدشة فيه ، فإنه يقطع أن سلوكه يوجب الأمن عن العقاب على تقدير مخالفته للواقع ، بخلاف سلوك الطريق الذي لا يحتمل فيه المزية فإنه يشك في حجيته ، وقد تقدم ( في مبحث الظن ) أن الأصل عند الشك في الحجية عدمها بالأدلة الأربعة ، فلا يكون المكلف معذورا على تقدير مخالفة مشكوك الحجية للواقع ويستحق العقوبة عقلا ، لأنه لم يعتمد في عمله على ما يكون مؤمنا.

فظهر : أن اقتضاء الأصل التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير

ص: 434


1- أقول : ذلك كله إذا لم يكن المزية مورد أصالة التسوية في المصلحة ، كما لو كانا متساويين قبل حصول المزية : من الأعلمية أو الأعدلية ونحو ذلك ، فإنه حينئذ الأصل يقتضي التساوي بينهما وعدم حصول الأهمية بهذه المزية ، فيستصحب التخيير بينهما ، فتدبر.

في باب الطرق والأمارات أوضح من اقتضائه التعيين في باب التزاحم ، كما أن اقتضائه التعيين في باب التزاحم أوضح من اقتضائه التعيين في باب التكاليف الابتدائية ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وينبغي تتميم البحث بالتنبيه على أمرين :
الأمر الأوّل :

إن محل الكلام إلى الآن كان في ما يقتضيه الأصل العملي بالنسبة إلى ما يشك في كونه واجبا عينيا. وأما الطرف الآخر الذي يحتمل أن يكون عدلا لما تعلق الوجوب به ، فالبحث عما يقتضيه الأصل بالنسبة إليه بعد البناء على أصالة التعيينية ساقط (1) إذ لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم وجوبه ، فإنه بمقتضى أصالة الاشتغال يتعين على المكلف الإتيان بما علم تعلق الطلب به ، والمفروض أنه لا يجب على المكلف إلا عمل واحد ، وذلك العمل يتعين بما يحتمل عينيته ، فأي أثر يترتب على البحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري؟.

وبالجملة : التكلم عما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى ما علم تعلق الطلب به وشك في عينيته يغنى عن التكلم فيما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر ، فلا أثر للبحث عن أن أصالة البراءة هل تختص بالشك في الواجبات

ص: 435


1- أقول : لا يخفى أن أصالة الإشتغال ملزم بإتيان محتمل التعيينية ولا ينفى وجوب بديله ، وفي ظرف الإتيان يقطع بعدم وجوب بديله ، وفي هذا الظرف لا معنى لجريان البراءة فيه كي تدور مدار أثرها ، وإنما الكلام في ظرف عدم الإتيان به ، ففي هذا الظرف ولو كان أصالة الاشتغال ملزما بالإتيان بمورده ، وأما في ظرف عدم الإتيان فلأصالة البراءة عن وجوب الطرف كمال الأثر ، حيث إن أصالة الاشتغال لا ينفى وجوب بديله ، فمع عدم الإتيان به يشك في وجوب الآخر ، فأصالة البراءة ينفيه ، فتدبر.

التعيينية أو تعم الشك في الواجبات التخييرية؟ وعلى تقدير الاختصاص : فهل تجرى أصالة عدم الوجوب أو لا تجري؟ فالبحث عن كل هذا ساقط بعد البناء على أصالة التعيين ، بل لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل تعلق الطلب التخييري به مطلقا ولو بنينا على أصالة البراءة عن التعيينية عند الشك في التعيين والتخيير ، فان معنى أصالة البراءة عن التعيينية جواز الاكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلا للواجب ، فلا فائدة في جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب فيه ، فالبحث عما أفاده الشيخ قدس سره في التنبيه الثالث من قوله : « إن الظاهر اختصاص البراءة بصورة الشك في الوجوب التعييني » مستغن عنه ، فتأمّل جيّداً.

الأمر الثاني :

لو شك في الوجوب العيني والكفائي ، فهل الأصل يقتضي العيني - كالشك في التعييني والتخييري - فلا يسقط الواجب بفعل الغير؟ أو أن الأصل لا يقتضي العيني؟.

ربما توهم : أن الأصل لا يقتضي العينية ، لأن مرجع الشك في العينية والكفائية إلى الشك في التكليف عند فعل الغير ما هو الواجب ، والأصل عدمه ، هذا.

ولكن رجوع الشك إلى الشك في الامتثال والسقوط في الواجب العيني والكفائي أوضح من رجوعه إلى ذلك في الواجب التعييني والتخييري ، وتوضيح ذلك : هو أن في تصوير الواجب الكفائي وكيفية تشريعه - مع أن المطلوب إشغال أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل الذي لا يقبل التكرر أو إذا كان قابلا للتكرر لا يكون وجوده الثاني متعلق الطلب - وجهان : (1)

ص: 436


1- أقول : وهنا شق ثالث : من كون الوجوب ناقصا متعلقا بفعل كل منهما بنحو يقتضي المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو تركه في حال ترك الغير ، لا في حال ايجاد الغير ، وهذه الجهة - كما أشرنا في التخيير - غير مقام التقييد ، كما توهم. وربما يوجب مثل هذه التقريبات بأجمعها الكفائية لولا إطلاق الطلب المقتضى لعينية وعدم جريان المناط من أصالة الاشتغال في المسألة السابقة في المقام. نعم: هنا مجال استصحاب بقاء الوجوب وعدم السقوط بفعل الغير، وذلك غير قاعدة الإشتغال؛ فتدبر.

أحدهما : أن يكون المخاطب به آحاد المكلفين لكن لا على وجه الإطلاق ، بل بتقييد الخطاب المتوجه على كل أحد بصورة عدم سبق الغير بالفعل المخاطب به ، فينحل الخطاب إلى خطابات متعددة حسب تعدد أفراد المكلفين ، كل خطاب مقيد بعدم سبق الغير بفعل متعلق الخطاب.

ثانيهما : أن يكون المخاطب النوع ، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كل فرد من أفراد المكلفين مخاطبا بذلك الخطاب الواحد ، فلو أشغل أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل سقط الخطاب عن الباقي ، لأن الخطاب الواحد ليس له إلا امتثال واحد وقد امتثله من خوطب به من جهة انطباق النوع عليه ، فتأمل.

وعلى كلا الوجهين : يرجع الشك في العيني والكفائي إلى الشك في سقوط الواجب بفعل الغير ، أما على الوجه الأول : فواضح ، لأن الشك في ذلك يرجع إلى الشك في تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء والامتثال وهو يقتضي الاشتغال لا البراءة. وأما على الوجه الثاني : فكذلك أيضا ، فان المكلف قبل فعل الغير يعلم بكونه مكلفا بالفعل ، إما لكون التكليف عينيا ، وإما لانطباق النوع عليه ، وبعد فعل الغير يشك في سقوط التكليف عنه ، والأصل يقتضي عدم السقوط.

فالأقوى : أن الشك في العيني والكفائي كالشك في التعييني والتخييري لا تجري فيه البراءة ، بل مقتضى أصالة الاشتغال هو البناء على كون الواجب عينيا في الأول وتعيينيا في الثاني.

هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية الحكمية إذا كان منشأ الشبهة

ص: 437

فقدان النص. وفي حكمها ما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص أو تعارض النصين ، فان الأدلة الدالة على البراءة لا تختص بصورة فقدان النص ، بل تعم صورة إجمال النص وتعارضه. وقد نسب الخلاف في ذلك إلى « صاحب الحدائق » فقال : بوجوب الاحتياط في صورة إجمال النص وتعارضه. وليس له وجه.

هذا إذا كانت الشبهة حكمية ، وإن كانت الشبهة موضوعية - كما إذا علم بوجوب إكرام العالم على وجه يكون الحكم انحلاليا ، وشك في بعض مصاديقه - فقد تقدم البحث عنها في الشبهة التحريمية ، وعرفت : أن العلم بالكبريات الكلية ما لم يعلم انطباقها على الموارد الجزئية غير منجز للتكليف لا يستتبع استحقاق العقوبة ، والظاهر إطباق الأصوليين والإخباريين على ذلك.

نعم : نسب إلى المشهور وجوب الاحتياط عند تردد الفرائض الفائتة بين الأقل والأكثر (1) ويشكل الفرق بينه وبين تردد الدين بين الأقل والأكثر ، مع أن الظاهر اتفاقهم على عدم وجوب الاحتياط في الدين المردد بين الأقل والأكثر وجواز الاكتفاء بأداء القدر المتيقن وجريان البراءة عن الأكثر.

والظاهر : أن يكون نظر المشهور في مسألة قضاء الفوائت إلى القاعدة وأنها تقتضي الاحتياط ، لا لأجل التعبد وقيام دليل خاص على ذلك ، فيتوجه حينئذ سؤال الفرق بينها وبين مسألة الدين المردد بين الأقل والأكثر؟

ص: 438


1- أقول : لا يخفى أن الشك في قضاء الفوائت تارة ناش عن عدد السنين التي مضى من عمره الذي فات فيها الصلاة أو الصوم ، وأخرى ناش عن تساهله في الإتيان في الوقت أو نومه وسكره مع الجزم بمقدار سنة عمره ، ثم في هذه الصورة تارة يحتمل التفاته إلى الفوت في الوقت ، وأخرى يقطع بأن التفاته حدث بعد الوقت ، فعلى الأخير : لا شبهة في جريان قاعدة « الوقت حائل » فيؤخذ بالمتيقن من الفوائت ، كما أنه على الأول أيضا يرجع الشك فيه - مثل الدين - إلى الأقل والأكثر. وأمّا في الصورة الثانية : فلا محيص من الأخذ بالأكثر من جهة الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال في وجه ، ويمكن حمل كلام المشهور في قضاء الفوائت على هذه الصورة ، لأن الغالب التفاتهم بعمرهم - ولو تقريبا - واحتمال الالتفات إلى الفوت قبل مضى الوقت غالبا ، فتدبر. وعلى فرض الإطلاق في كلماتهم فلا محيص من ايجاب احتياط في المورد ، فتدبر.

وقد نقل عن بعض المحققين : أنه حاول تطبيق فتوى المشهور على القاعدة ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك - بتحرير منا - هو أنه يعتبر في جريان البراءة أن لا يكون الشك الذي اخذ موضوعا فيها مسبوقا بالعلم ولو آنا ما ، فان الأصول العملية كلها مغياة بعدم العلم ومنها البراءة ، فالشك الطارئ بعد العلم لنسيان ونحوه ليس موردا للبرائة ، بل موردهما الشك الابتدائي ، ومع احتمال سبق العلم لا تجري البراءة أيضا ، لاحتمال حصول الغاية ، فيرجع التمسك بقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » مع احتمال سبق العلم - إلى التمسك بالعام في الشبهات المصداقية (1) وقد حرر في محله عدم جوازه.

وبعبارة أوضح : لا يجوز الاقتحام في الشبهة إلا مع القطع بالمؤمن إما عقلا وإما شرعا ، ومع احتمال سبق العلم بحكم الشبهة وتنجز التكليف لا قطع بالمؤمن ، فلا يجوز الاقتحام في الشبهة ، بل لابد من الاحتياط ليحصل القطع بأداء الواقع والخروج عن عهدته.

وعلى هذا تكون فتوى المشهور في محلها ، فإنه عند فوات كل فريضة لا محالة يتعلق العلم بها ، إلا إذا فرض أنه استدام نوم المكلف أو سكره أياما متعددة فانتبه أو أفاق ولم يعلم أيام نومه وسكره ، وهذا فرض نادر ، والغالب حصول العلم بالفائتة وقت فوتها ، فإذا تردد الفائت بين الأقل والأكثر فبالنسبة إلى الأكثر المشكوك كما أنه يحتمل فوته كذلك يحتمل تعلق العلم بفوته على

ص: 439


1- أقول : كيف يبقى مجال لهذا الكلام مع جزم العقل بأن العلم في كل آن منجز في حين وجوده ولا يكون منجزا حتى بعد زواله ، كيف! ولو انقلب بالعلم بالخلاف يلزم تزاحم المنجزين ، وأي عاقل يصدق ذلك! وحينئذ فبعد طرو الشك يبقى « قبح العقاب بلا بيان » بلا مانع - كحديث الرفع وغيره - كما لا يخفى. ولقد أجاد فيما أفاد في طي كلامه ، ويا ليت! يلتزم بقاعدة القبح حتى مع جزمه بسبق العلم بعد زواله ولم يتشبث باعتبار وصول البيان في فرض الشك بحصول العلم قبل زمانه ، إذ مثل هذه التشبثات خارجة عن السداد ككثير من الموارد في صحة المدعى وبطلان دليله على مدعاه. فتتبع من أول الكتاب إلى آخره ترى كثيرا ما من هذا القبيل ، وتدبر فيها.

تقدير فوته واقعاً ، ومع احتمال سبق العلم به لا تحرى البراءة. ومسألة الدين المردد بين الأقل والأكثر لو كان من هذا القبيل كان كذلك لا تجري البراءة بالنسبة إلى الزائد المشكوك.

والحاصل : أنه في كل شك احتمل سبق العلم به لا تجري الأصول العملية مطلقا ، سواء في ذلك أصالة البراءة وغيرها.

ومنه يعلم : أنه لا يجوز التمسك في مسألة الفوائت ب « قاعدة الشك بعد الوقت » فأنها أيضا من الأصول العملية المضروبة في حال الشك فيعتبر فيها ما يعتبر في البراءة ، ومع احتمال سبق العلم بالفائتة المشكوكة لا تجري « قاعدة الشك بعد الوقت » وليس في البين أصل موضوعي ينقح حال الشك وأنه مما سبقه العلم أو لم يسبقه.

فلا يتوهم : جريان أصالة عدم سبق العلم ، لأنه قبل الفوات لا موضوع للعلم وبعد الفوات يشك في تعلق العلم به حال الفوت ، فليس للعلم حالة سابقة يمكن استصحابها وجودا وعدما.

فظهر : أنه لو قلنا : إن العلم بحال الشبهة ولو آنا ما يكفي في التنجز ولا يعتبر استدامته ، ففي كل شبهة احتمل سبق العلم بها لا تجري الأصول العملية مطلقا شرعية كانت أو عقلية. أما الشرعية : فلاحتمال حصول الغاية ، فيكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. وأما العقلية : فلأنه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان ، ومع احتمال سبق العلم لا مؤمن ، فلا يستقل العقل بقبح العقاب.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه به فتوى المشهور ، وعليه بنى « شيخنا الأستاذ مد ظله » في الدورة السابقة ، وقد عدل عن ذلك في الدورة الأخيرة والتزم بجريان البراءة العقلية والشرعية.

أما البرائة العقلية : فلأنه لا يعتبر في جريانها إلا عدم وصول التكليف الذي يدور التنجز واستحقاق العقاب مداره ، إذ المراد بالبيان في « قاعدة قبح

ص: 440

العقاب بلا بيان » على ما تقدم سابقا - هو البيان الواصل إلى المكلف ، فما لم يصل البيان ولم يكن له وجود علمي لا يكاد يتنجز التكليف ويستحق عليه العقوبة ، ولا يكفي في ذلك مجرد احتمال سبق العلم والوصول مع طرو النسيان ، فان المعتبر هو الحالة الفعلية وفي الحالة الفعلية لا يكون البيان واصلا فيتحقق موضوع القاعدة.

وأما البراءة الشرعية : فلأنه لا يعتبر في موضوعها إلا عدم العلم ، ففي كل زمان صدق هذا العنوان يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ومجرد احتمال حصول العلم في آن ما لا يكفي. ولا يكون من الشك في حصول الغاية حتى يندرج في التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، فان الغاية حصول العلم بالواقع ، واحتمال حصول العلم عين الشك في الواقع ، فلم تحصل الغاية ، مع أنه لو كان احتمال سبق العلم مانعا عن جريان البراءة لا نسد باب البراءة في غالب الشبهات الموضوعية - كالدين والنذر والكفارة والصوم - فإنه في جميع ذلك يحتمل سبق العلم بالأكثر المشكوك ، مع أن الظاهر اختصاص فتوى المشهور بقضاء الصلوات الفائتة ولم يلتزموا بوجوب الاحتياط في قضاء الصوم عند تردده بين الأقل والأكثر.

والإنصاف : أنه لا يمكن تطبيق فتوى المشهور على القاعدة (1) فالأقوى جريان البراءة عن الأكثر المشكوك في قضاء الصلوات الفائتة ، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط خروجا عن مخالفة المشهور.

وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه من المباحث الراجعة إلى أصالة البراءة.

والحمد أولا وآخرا.

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

ص: 441


1- أقول : قد عرفت أن الالتزام بوجوب الأخذ بالأكثر في بعض الصور إنما هو على القواعد ، وعليه أيضا يحمل فتوى المشهور على فرض صدق الشهرة ، فراجع الحاشية السابقة.

خاتمة

اشارة

قد عرفت - في مبحث القطع وفي أول مبحث البراءة - أن الأصول العملية في جميع الشبهات الحكمية والموضوعية أربعة : البراءة والتخيير والاشتغال والاستصحاب ، فكان ينبغي عقد فصول أربعة كل فصل يتكفل البحث عن أحد هذه الأصول ، ولكنا جعلنا الفصول ثلاثة : الفصل الأول في البراءة ، والثاني في الاشتغال ، والثالث في الاستصحاب ، ولأجل قلة مباحث أصالة التخيير لم نعقد لها فصلا مستقلا وجعلنا البحث عنها في خاتمة البراءة المناسبة ، وتنقيح البحث عنها يستدعى رسم أمور :

الأمر الأول :

قد تقدم المختار في مجاري الأصول ، وأن مجرى أصالة التخيير هو ما إذا علم بجنس الإلزام ولم يمكن الاحتياط لأجل عدم التمكن من الموافقة والمخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، وقد تقدم أيضا - في الفعل الأول - ضابط تأثير العلم الإجمالي وتنجيزه للتكليف ، وحاصله : أن المعلوم بالإجمال إذا صح وأمكن أن يتعلق به التكليف على ما هو عليه من الإجمال بحيث كون قابلا لأن تتعلق به إرادة العبد وتحريك عضلاته نحوه ، فالعلم الإجمالي المتعلق به يكون منجزا للتكليف ، كما إذا علم بوجوب إحدى الصلاتين أو حرمة أحد الشيئين

ص: 442

أو وجوب أحدهما وحرمة الآخر وغير ذلك من الأقسام المتصورة التي يأتي ذكرها - في الجزء الرابع - فان المعلوم بالإجمال في جميع هذه الموارد يكون بعثا مولويا محركا لإرادة العبد مع ما هو عليه من الإجمال ، إذ لو فرض أن التكليف من أول الأمر شرع على هذا الوجه - أي تعلق التكليف واقعا وفي نفس الأمر بأحد الشيئين لا على التعيين - لم يلزم محذور من ذلك وصح أن يكون معجزا مولويا ومحركا للإرادة في عالم التشريع نحو المتعلق ، غايته أن المكلف يكون مخيرا بين أحد الشيئين ، إما تخييرا شرعيا ، وهو فيما إذا لم يكن بين الشيئين جامع خطابي ( كما إذا دار الأمر بين وجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر أو وجوب أحد الشيئين ووجوب شيء آخر لا يجمعهما جنس قريب ) وإما تخييرا عقليا وهو فيما إذا كان بين الشيئين جامع خطابي ( كما إذا دار الأمر بين وجوب إكرام هذا العالم أو ذلك العالم ) فإنه يصح التكليف باكرام العالم مبهما ، فيكون المكلف مخيرا عقلا في إكرام أحد الفردين أو الأفراد.

وعلى كل حال : يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن يكون المعلوم بالإجمال صالحا لتشريعه كذلك ، أي على ما هو عليه من الإجمال.

فان كان المعلوم بالإجمال غير صالح لتشريعه كذلك وكان قاصرا عن أن يكون داعيا ومحرما لإرادة العبد ، فالعلم الإجمالي المتعلق به لا يقتضي التأثير والتنجيز وكان وجوده كعدمه ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد بين وجوب الشيء أو حرمته قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا نحو فعل الشيء أو تركه ، لأن الشخص بحسب خلقته التكوينية لا يخلو عن الفعل أو الترك ، فلا يصح تشريع التكليف على هذا الوجه ، لأن تشريع التكليف على هذا الوجه لا أثر له ولا يزيد على ما يكون المكلف عليه تكوينا ، فإنه إما أن يفعل وإما أن لا يفعل ، فهو غير قابل لتحريك عضلات العبد وغير صالح للداعوية والباعثية ، فإذا كان متعلق العلم الإجمالي وجوب الفعل أو حرمته ، فالعلم لا يقتضي تنجيز متعلقه وكان وجوده كعدمه.

ص: 443

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن جعل التخيير الشرعي الواقعي ولا جعل التخيير الظاهري - كالتخيير في باب تعارض الطرق والأمارات - (1) فان التخيير بين فعل الشيء وتركه حاصل بنفسه تكوينا ، فلا يمكن جعل ما هو الحاصل بنفسه ، سواء كان جعلا واقعيا أو جعلا ظاهريا ، فما قيل : من أن الأصل في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير ، ليس على ما ينبغي (2) إن كان المراد منه الأصل العملي المجعول وظيفة في حال الشك ، لما عرفت : من أنه لا يمكن جعل الوظيفة في باب دوران الأمر بين المحذورين ، من غير فرق بين الوظيفة الشرعية والعقلية.

أما الوظيفة الشرعية : فواضح بالبيان المتقدم.

وأما الوظيفة العقلية : فلأن التخيير العقلي إنما هو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفائه ولم يتمكن المكلف من الجمع بين الطرفين كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم - وفي دوران الأمر بين المحذورين

ص: 444


1- أقول : قد تقدم أن مرجع التخيير في باب التعارض حتى على الموضوعية إلى التخيير في الأخذ بإحدى الحجتين ، بحيث يكون كل منهما بعد الأخذ حجة تعيينية ، وكذا نقول : إن التخيير في المسألة الأصولية يستتبع للتعيين في الحكم الفرعي ، وحينئذ تصور هذا المعنى من التخيير في المقام إلى التخيير في الأخذ بأحد الاحتمالين بنحو يصير الحكم الظاهري بعد الأخذ به حكما تعينيا ، ومثل هذا المعنى لا قصور في جريانه في المقام على فرض قيام الدليل عليه ، ولا محذور له عقلا ، كما توهم ، فتدبر.
2- أقول : لا يخفى أن كل علم إجمالي ملازم مع احتمال عدم وجوب كل واحد منفردا عن عدم وجوب الآخر ، فلا يحتمل فيه عدم وجوبهما مجتمعا ، فالعلم الإجمالي مضاد مع احتمال عدم وجوبهما مجتمعا ومجتمع مع احتمال عدم وجوب كل واحد منفردا ، فإذا شك في وجوب كل واحد أو لا وجوبه منفردا فهو مجتمع مع العلم ، وأما لو شك في لا وجوبهما مجتمعا فهو مضاد مع العلم ، وهذا هو عمدة الفارق بين الشك في إباحة الفعل والترك فإنه شك واحتمال لا وجوبهما مجتمعا وهو مضاد مع العلم بجنس التكليف بينهما ، فلا يجري أصالة الإباحة ، لعدم موضوعه. وأما في غير الفعل والترك فلا بأس باحتمال الإباحة فى فعل كل وتركه عن الإنفراد عن الفعل الآخر وتركه ؛ وبذلك أيضاً يفرق مع استصحاب عدم وجوب كل واحد، إذ هو يناسب مع الشك التبادلي، كما لا يخفى؛ فتدبر. وحينئذ يشكل في الشك في التخيير أيضاً ، فتدبر لعدم كون لا وجوب تبادلياً، لعدم تبادلية شكه؛ فتدبر.

ليس كذلك ، لعدم ثبوت الملاك في كل من طرفي الفعل والترك ، فالتخيير العقلي في باب دوران الأمر بين المحذورين إنما هو من التخيير التكويني ، حيث إن الشخص لا يخلو بحسب الخلقة من الأكوان الأربعة ، لا التخيير الناشئ عن ملاك يقتضيه ، فأصالة التخيير عند دوران الأمر بين وجوب الفعل وتركه ساقطة.

وأما الأصول الاخر : من أصالة الإباحة والبرائة الشرعية والعقلية واستصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة ، فلا مجال لها أيضا ، ولكن لا بملاك واحد بل عدم جريان كل واحد منها بملاك يخصه.

أمّا أصالة الإباحة - فمضافاً إلى عدم شمول دليلها لصورة دوران الأمر بين المحذورين فإنه يختص بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحل كما هو الظاهر من قوله علیه السلام « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال » وليس في باب دوران الأمر بين المحذورين احتمال الإباحة والحل بل طرف الوجوب ، ومضافا إلى ما قد تقدم : من أن دليل أصالة الحل يختص بالشبهات الموضوعية ولا يعم الشبهات الحكمية - إن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن ، فان أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافى المعلوم بالإجمال ، لأن مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك ، وذلك يناقض العلم بالإلزام (1) وإن لم يكن لهذا العلم أثر عملي وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز ، إلا أن العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان ، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا ، فان الحكم الظاهري إنما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي ، فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به.

والحاصل : أن بين أصالة الإباحة وأصالة البراءة والاستصحاب فرقاً

ص: 445


1- أقول : الأولى أن يصار إليه بما ذكرنا ، لا بهذا الوجه.

واضحاً ، فان مورد أصالة البراءة والاستصحاب - على ما سيأتي بيانه - إنما يكون خصوص ما تعلق بالفعل من الوجوب أو الحرمة ، فيحتاج كل من الوجوب والحرمة إلى براءة أو استصحاب يخصه ، ولا تغنى أصالة البراءة في طرف الوجوب عن أصالة البراءة في طرف الحرمة ، وكذا الاستصحاب.

وهذا بخلاف « أصالة الحل والإباحة » فان جريانها في كل من طرف الفعل والترك يعنى عن جريانها في الطرف الآخر ، فان معنى إباحة الفعل وحليته هو الرخصة في الترك وبالعكس ، ولذلك كان مفاد أصالة الحل بمدلوله المطابقي يناقض نفس العذر المشترك المعلوم بالإجمال ، وهو جنس الإلزام.

فظهر : أن عدم جريان أصالة الحل في دوران الأمر بين المحذورين إنما هو لعدم انحفاظ رتبتها ، لا لأجل مخالفة مؤداها للموافقة الالتزامية الواجبة كما قيل ، فان الموافقة الالتزامية إن كانت بمعنى التدين بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله والتصديق بالإحكام والالتزام بها على ما هي عليها ، فوجوبها بهذا المعنى وإن كان غير قابل للإنكار ، فان الحكم إن كان من الضروريات فالالتزام به عبارة عن الإيمان والتصديق بالنبي صلی اللّه علیه و آله ولذلك كان إنكاره كفرا ، وإن لم يكن من الضروريات وكان من القطعيات المذهبية فانكاره وإن لم يوجب الكفر إلا أن عدم الالتزام به يكون من التشريع المحرم ، فتأمل ، إلا أن البناء على الإباحة الظاهرية لا ينافي هذا الالتزام ، فان الالتزام الواجب عند دوران الأمر بين المحذورين هو الالتزام والتصديق بجنس الإلزام لا بخصوص الوجوب أو الحرمة ، فان الالتزام بأحدهما بالخصوص لا يمكن إلا مع العلم بالخصوصية وإلا كان من التشريع المحرم ، فالذي يمكن من الالتزام هو الالتزام بأن لله تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا ، وذلك لا ينافي البناء على الإباحة والرخصة الظاهرية في ظرف الجهل بنوع الإلزام. نعم : لو كانت أصالة الإباحة من الأصول المتكفلة للتنزيل المحرزة

ص: 446

للواقع لكان الالتزام بمفادها ينافي الالتزام بجنس التكليف المعلوم في البين ، فان البناء على الإباحة الواقعية وإلقاء الشك وجعل أحد طرفيه هو الواقع - كما هو مفاد الأصول التنزيلية - لا يجتمع مع البناء والالتزام بأن الحكم المجعول في الواقعة ليس هو الحل والإباحة ، ولكن أصالة الإباحة ليست من الأصول التنزيلية ، بل مفادها مجرد الرخصة في الفعل مع حفظ الشك من دون البناء على كون أحد طرفيه هو الواقع ، وهذا المعنى كما ترى لا ينافي الالتزام بحكم اللّه الواقعي على ما هو عليه من الإجمال.

هذا إذا كان المراد من الموافقة الالتزامية التصديق والتدين بالإحكام التي جاء بها النبي صلی اللّه علیه و آله وإن كان المراد منها معنى آخر ، فموضاعا وحكما محل إشكال.

فتحصل : أن العمدة في عدم إمكان جعل الإباحة الظاهرية في باب دوران الأمر بين المحذورين هو مناقضتها للمعلوم بالإجمال بمدلولها المطابقي ، فتأمل جيدا.

هذا كله في أصالة الحل والإباحة.

وأمّا أصالة البراءة : فهي بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية كأصالة الحل لا ينافي مفادها لها ، لأنها أيضا من الأصول الغير المتكفلة للتنزيل. وأما بالنسبة إلى انحفاظ رتبتها : فبينها وبين أصالة الحل فرق ، فان أصالة الحل - كما عرفت - بمدلولها المطابقي تناقض المعلوم بالإجمال ، من غير فرق بين إعمالها في طرف الفعل أو الترك ، فان إباحة الفعل عبارة أخرى عن إباحة الترك وبالعكس. وأما أصالة البراءة : فمفادها رفع خصوص الوجوب والعقاب عن خصوص الفعل أو خصوص الترك أو رفع خصوص الحرمة عنهما كذلك ، وخصوصية الوجوب والحرمة مشكوكة ، فلا يناقض مفادها نفس المعلوم بالإجمال ، فان المعلوم بالإجمال هو جنس الإلزام لا خصوص الوجوب والحرمة.

نعم : لازم رفع الوجوب والحرمة عدم الإلزام ، إلا أن هذا لا يوجب

ص: 447

المناقضة بين مفاد كل من أصالة البراءة عن وجوب الفعل وأصالة البراءة عن حرمته للمعلوم بالإجمال.

وبالجملة : لما كان مجرى أصالة البراءة الشك في نوع التكليف المتعلق بالفعل وكان نوع التكليف المتعلق به مشكوكا - ولذا كان كل من الوجوب والحرمة يحتاج إلى براءة يخصه ولا تغنى أصالة البراءة في أحدهما عنها في الآخر - فلا يكون مفادها مناقضا للمعلوم بالإجمال ، وإن كان يلزم من الجمع بين البرائتين نفي الإلزام المعلوم في البين ، وذلك أيضا لا يمنع من جريان البراءة ، فإنه لم يلزم من الجمع بين البرائتين مخالفة عملية للإلزام المعلوم ، فان المكلف على كل حال لا يخلو : إما من الفعل وإما من الترك ، فهذه الجهات الثلاث - أي جهة وجوب الموافقة الالتزامية وجهة انحفاظ رتبة جعل الحكم الظاهري وجهة المخالفة العملية - لا تقتضي المنع من جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

نعم : في البين جهة أخرى توجب المنع عن جريان البراءة في باب دوران الأمر بين المحذورين ، وهي أنه لا موضوع لها.

أما البراءة العقلية : فلأن مدركها « قبح العقاب بلا بيان » وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ، لأن وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير - بالبيان المتقدم - فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وأما البراءة الشرعية : فلأن مدركها قوله : « رفع ما لا يعلمون » والرفع فرع إمكان الوضع ، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير - كما تقدم وجهه - ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع ، فأدلة البراءة الشرعية لا تعم المقام أيضا ، فتأمل جيدا.

وأمّا الاستصحاب : فهو من جهة انحفاظ الرتبة لا محذور فيه ، فان كلاً

ص: 448

من الوجوب والحرمة مجهول والاستصحاب إنما يجرى بالنسبة إلى خصوص نوع التكليف المتعلق بالفعل ، فهو من هذه الجهة كأصالة البراءة لا يكون مؤداه مضادا للمعلوم بالإجمال الذي هو جنس الإلزام ، وكذا من جهة المخالفة العملية ، فإنه أيضا لا يلزم من جريانه في كل من الوجوب والحرمة مخالفة عملية ، لأن المكلف لا يخلو من الفعل والترك.

نعم : لما كان الاستصحاب من الأصول المتكفلة للتنزيل - كما سيأتي بيانه في محله - فلا يمكن الجمع بين مؤداه والعلم الإجمالي ، فان البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعا - كما هو مفاد الاستصحابين - لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته (1) وسيأتي في محله : أن الأصول التنزيلية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا ، سواء لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم.

وإن شئت قلت : إن البناء على مؤدى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية ، فان التدين والتصديق بأن اللّه تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا إما الوجوب أو الحرمة لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا.

فتحصل : أن شيئا من الأصول العملية العقلية والشرعية لا تجري في باب دوران الأمر بين المحذورين ، يعنى لا موقع لجعل وظيفة عقلية أو شرعية فيه ، بل المكلف بحسب خلقته التكوينية مخير بين الفعل والترك ، وهذا التخيير ليس بحكم شرعي أو عقلي واقعي أو ظاهري.

وما ورد من التخيير في باب تعارض الأمارات إن كان المراد منه التخيير في المسألة الأصولية - وهو التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وطريقا إلى الواقع في مقام الاستنباط - فهو أجنبي عما نحن فيه ، وإن كان المراد منه التخيير في المسألة الفقهية - أي التخيير في العمل - فيكون من التخيير العقلي التكويني لا تعبدي شرعي إذا كان التعارض على وجه يوجب دوران الأمر بين

ص: 449


1- أقول : ولقد دفعنا هذه الشبهة أيضا في الجزء التالي من هذا الكتاب ، فراجع هناك.

المحذورين في مقام العمل ، وإلا كان من التخيير الشرعي الظاهري ، فتأمل جيّداً.

الأمر الثاني :

إذا كان لأحد الحكمين اللذين تعلق العلم الإجمالي بأحدهما مزية على الآخر ، إما من حيث الاحتمال ( كما إذا فرض كون احتمال الوجوب أقوى من احتمال الحرمة ) وإما من حيث المحتمل ( كما إذا كان الشيء الذي يحتمل تعلق الوجوب به على تقدير وجوبه من أقوى الواجبات الشرعية وأهمها بخلاف ما إذا كان الشيء حراما فليس بتلك المرتبة من الأهمية ).

فهل المزية تقتضي تعين الأخذ بصاحبها ، فيبنى على الوجوب إذا كان من حيث الاحتمال أو المحتمل أقوى من الحرمة ، فيتعين على المكلف ترتيب آثار الوجوب على الفعل ، فلا يجوز تركه اعتمادا على احتمال أن يكون الفعل حراما؟.

أو أن المزية لا تقتضي تعين الأخذ بصاحبها ، بل للمكلف اختيار الفعل واختيار الترك؟.

ربما يتوهم : أن المزية تقتضي تعين الأخذ بصاحبها ، لأن المقام يكون من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد تقدم : أن الأصل يقتضي التعيينية.

وأنت خبير بما فيه ، فان ما تقدم من اقتضاء الأصل التعيينية عند الشك في التعيين والتخيير إنما كان لأجل العلم بالخطاب والتكليف الشرعي الذي يلزم امتثاله وكان مرجع الشك فيهما إلى الشك في الامتثال والسقوط ، وأين هذا مما نحن فيه؟ فان التخيير في دوران الأمر بين المحذورين ليس لاقتضاء الخطاب ذلك ، بل إنما هو من التخيير العقلي التكويني كما تقدم ، فإذا لم يكن في البين خطاب شرعي يكون المكلف ملزما باتيانه وكان وجود العلم

ص: 450

الإجمالي كعدمه لا أثر له ولا يقتضي التنجيز ، فوجود المزية أيضا كعدمها (1) فان المزية إنما توجب الأخذ بصاحبها بعد الفراغ من تنجز التكليف ولزوم رعايته وامتثاله ، والتكليف في دوران الأمر بين المحذورين غير لازم الرعاية.

ثم على تقدير كون المزية توجب تعين الأخذ بصاحبها ، فهل نفس احتمال الحرمة يكفي في ترجيح جانبها على احتمال الوجوب فيتعين ترك الفعل وترتيب آثار الحرمة عليه؟ أو أن مجرد كون طرف احتمال الوجوب هو احتمال الحرمة لا يكفي في ترجيح جانب الحرمة ما لم تكن الحرمة من حيث الاحتمال أو المحتمل أقوى من الوجوب؟.

فقد قيل : إن مجرد كون طرف احتمال الوجوب هو احتمال الحرمة يكفي في ترجيح جانب الحرمة ، بدعوى : أن في احتمال الحرمة احتمال المفسدة وفي احتمال الوجوب احتمال النفع ، ودفع المفسدة المحتملة أولى من جلب النفع المحتمل ، كما أن دفع المفسدة المتيقنة أولى من جلب المنفعة المتيقنة ، وعلى ذلك يبتني القول بتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب في مسألة اجتماع الأمر والنهى.

وفيه أولا : أن المنافع والمفاسد تختلف بحسب القلة والكثرة ، فرب نفع يكون جلبه أولى من دفع المفسدة ، وعلى فرض التساوي من حيث القلة والكثرة لم يقم برهان على أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، ولم يظهر من طريقة العقلاء أن بنائهم على ذلك.

وثانيا : أن دعوى أنه ليس في الواجبات إلا جلب المنافع فلا يكون في تركها مفسدة بل مجرد فوات النفع ، ممنوعة ، فلم لا يكون في ترك الواجب مفسدة كفعل الحرام؟.

ص: 451


1- أقول : لو قيل بأن مناط حكم العقل بالتخيير في المقام عدم الترجيح بين الاحتمالين أمكن دعوى توقفه عنه عند وجود المزية لأحد الطرفين ويحكم بالأخذ بذى المزية ، لاحتمال تعينه ، فافهم وتدبر.

وثالثاً : على تقدير تسليم أن يكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة مطلقا وتسليم أن ترك الواجب ليس فيه مفسدة ، فإنما يكون ذلك في المنافع والمفاسد الراجعة إلى شخص الفاعل والمباشر لما فيه المنفعة والمفسدة. ودعوى : أن منافع الواجبات ومفاسد المحرمات راجعة إلى شخص الفاعل ، دون إثباتها خرط القتاد! فإنه من المحتمل أن تكون المنافع والمفاسد راجعة إلى النوع بحسب ما يقتضيه النظام التام ، إلا أن يقال : إن مجرد احتمال ذلك لا يكفي مع احتمال أن تكون راجعة إلى المباشر ، فتأمل جيدا.

الأمر الثالث :

يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أن يكون كل من الواجب والحرام توصليا أو يكون أحدهما الغير المعين توصليا ، فلو كان كل منهما تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا فليس من دوران الأمر بين المحذورين ، لأن المكلف يتمكن من المخالفة القطعية بالفعل أو الترك لا بقصد التعبد والتقرب وإن لم يتمكن من الموافقة القطعية ، فبالنسبة إلى المخالفة القطعية العلم الإجمالي يوجب التأثير ويقتضي التنجيز وإن لم يقتض ذلك بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وذلك واضح.

الأمر الرابع :

دوران التكليف بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعل الواحد ، تارة : يكون مع وحدة الواقعة ، كما لو دار الأمر بين كون المرأة المعينة محلوفة الوطي أو محلوفة الترك في ساعة معينة.

وأخرى : مع تعدد الواقعة ، كالمثال إذا فرض أن الحلف على الفعل أو الترك كان في كل ليلة من ليالي الجمعة.

فان كان على الوجه الأول : فلا إشكال في كون الحالف مخيراً بين

ص: 452

الوطي وعدمه في الساعة التي تعلق الحلف بها ، ولا موقع للنزاع في كون التخيير بدويا أو استمراريا ، لأنه لا تعدد في الواقعة حتى يتصور فيها التخيير الاستمراري.

وإن كان على الوجه الثاني : فللنزاع في كون التخيير بدويا أو استمراريا مجال. فقيل : إن التخيير بدوي ، فما اختاره المكلف في ليلة الجمعة الأولى من الفعل أو الترك لابد أن يختاره أيضا في الليالي اللاحقة ، وليس له أن يختار في الليلة اللاحقة خلاف ما اختاره في الليلة السابقة ، فإنه لو اختلف اختياره في الليالي لزم منه المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فأنه يعلم بتحقق الحنث ، إما في الليلة السابقة ، وإما في الليلة التي هو فيها ، فلأجل الفرار عن حصول المخالفة القطعية لابد من أن يكون التخيير بدويا ، هذا.

ولكن للنظر في ذلك مجال ، فان المخالفة القطعية لم يتعلق بها التكليف التحريمي شرعا بحيث تكون المخالفة القطعية كسائر المحرمات الشرعية قد تعلق بها النهى المولوي الشرعي ، بل قبح المخالفة القطعية كحسن الطاعة من المستقلات العقلية التي لا تستتبع الخطاب المولوي ، وحكم العقل بقبح المخالفة القطعية فرع تنجز التكليف ، وإلا فنفس المخالفة بما هي مخالفة لا يحكم العقل بقبحها ما لم يتنجز التكليف.

وبالجملة : مخالفة التكليف المنجز قبيحة عقلا ، وأما مخالفة التكليف الغير المنجز فلا قبح فيها ، كما لو اضطر إلى الاقتحام في أحد أطراف المعلوم بالإجمال واتفق مصادفة ما اضطر إليه للحرام الواقعي ، فأنه مع حصول المخالفة يكون المكلف معذورا ، وليس ذلك إلا لعدم تنجز التكليف بالنسبة إلى الوجوب أيضا إلا أن تنجزه بنحو الموافقة التدريجية كان ملغى ، فيبقى تنجزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية على حاله.

وحينئذ الأولى فى الجواب أن يقال: إنّ عدم الجمع بين امتثال لزوم الموافقة وحرمة المخالفة القطعية إذا

كان بمناط «لايطاق» فالعقل فى هذا المقام لا يفرق بينهما بالإقتضاء والعلية، وإنما الفرق في الاقتضاء والعلية في قابلية العلم للرخص الشرعى فى أحد الطرفين بمناط البرائة الشرعية وعدمه، بلا نظر إلى مناط «لايطاق» والترخيص في المقام هو بمناط «لا يطاق» وفى هذا المقام نسبة حكم العقل علية واقتضاء بمناط واحد، كما لا يخفى فتدبر.

قد تم والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً

في شهر شوال المكرم سنة 1362(1) ففي ما نحن فيه

ص: 453


1- أقول : عمدة شبهة من التزم بتقديم حرمة المخالفة وكون التخيير بدويا ، هو أن حكم العقل بلزوم الموافقة التدريجية بنحو الاقتضاء وبحرمة المخالفة القطعية التدريجية بنحو العلية ، ومع التزاحم تقدم العلية على الاقتضاء ، فيحكم بالحرمة دون لزوم الموافقة. وذلك البيان لا ينافي عدم التنجيز بالنسبة إلى كل آن آن بنحو الدفعية ، وإنما تجئ الشبهة من منجزية العلم الإجمالي بالحرمة بنحو التدريج ، وهذا المعنى وإن كان متحققاً

لا يكون التكليف منجزا في كل ليلة من ليالي الجمعة ، لأنه في كل ليلة منها الأمر دائر بين المحذورين ، فكون الواقعة مما تكرر لا يوجب تبدل المعلوم بالإجمال ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين ، فان متعلق التكليف إنما هو الوطي أو الترك في كل ليلة من ليالي الجمعة ، ففي كل ليلة يدور الأمر بين المحذورين. ولا يلاحظ انضمام الليالي بعضها مع بعض ، حتى يقال : إن الأمر فيها لا يدور بين المحذورين لأن المكلف يتمكن من الفعل في جميع الليالي المنضمة ومن الترك في جميعها أيضا ومن التبعيض ففي بعض الليالي يفعل وفي بعضها الآخر يترك ومع اختيار التبعيض تتحقق المخالفة القطعية لأن الواجب عليه إما الفعل في الجميع وإما الترك في الجميع ، وذلك : لأن الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف والتكليف بها ، بل متعلق الحلف والتكليف كل ليلة من ليالي الجمعة مستقلة بحيال ذاتها ، فلابد من ملاحظة الليالي مستقلة ، ففي كل ليلة يدور الأمر فيها بين المحذورين ويلزمه التخيير الاستمراري.

والحاصل : أن التخيير البدوي في صورة تعدد الواقعة يدور مدار أحد أمرين : إما من حرمة المخالفة القطعية شرعا ليجب التجنب والفرار عن حصولها ولو بعد ذلك فيجب على المكلف عدم ايجاد ما يلزم منه المخالفة القطعية ، وإمّا

ص: 454

من ملاحظة الوقايع المتعددة منضما بعضها إلى بعض في تعلق التكليف بها حتى يتمكن المكلف من مخالفة التكليف بتبعيض الوقايع واختياره في البعض ما يخالف اختياره في الآخر. وكل من الأمرين اللذين يبتني على أحدهما التخيير البدوي محل منع ، فلا محيص من التخيير الاستمراري وإن حصل العلم بالمخالفة ، فتأمل جيدا.

الأمر الخامس :

لو دار أمر الشيء بين كونه شرطا للعبادة أو مانع عنها أو دار الأمر بين الضدين - كما إذا دار الأمر في القراءة بين وجوب الجهر بها أو وجوب الإخفات - فالأمر وإن كان يدور بين المحذورين بالنسبة إلى العبادة الواحدة ، فإنه لا يمكن أن تكون العبادة الواحدة واجدة للشئ وفاقدة له فيما إذا تردد بين كونه شرطا لها أو مانع عنها ، وكذا لا يمكن أن تكون القراءة الواحدة جهرية وإخفاتية ، إلا أنه حيث يتمكن المكلف من الموافقة القطعية - ولو بتكرار الصلاة تارة مع ما يحتمل كونه شرطا وأخرى بدون ذلك ، أو بتكرار القراءة فقط بقصد القربة المطلقة - فلا محالة يجب الاحتياط بتكرار العمل أو الجزء ، فلا يندرج في باب دوران الأمر بين المحذورين.

هذا تمام الكلام في « الجزء الثالث » من الكتاب ، ويتلوه « الجزء الرابع » إن شاء اللّه تعالى.

والحمد اللّه أوّلاً وآخراً

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطبين الطاهرين

واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الأربعاء التاسعة والعشرين من شهر شوال

المكرّم سنة ألف وثلاثمأة وإثنين وأربعين

ص: 455

تنبيه

قد اكتفينا في كثير من المباحث الراجعة إلى هذا الجزء من الكتاب بالإشارة إليها - خصوصا ما يرجع إلى مباحث القطع والبرائة - اعتمادا على ما سيأتي - في الجزء الرابع - من استقصاء الكلام فيها وتفصيلها بما لا مزيد عليه ، وحرصا على نشر ما أفاده حضرة شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في مسألة اللباس المشكوك : من الكنوز والنفائس العلمية التي لم تصل إليها أفهام أولى الألباب وكانت تحت الخبا ، حتى من اللّه تعالى على حملة العلم بطلوع الشمس العلم من مركزه ، أعني به حضرة « شيخنا الأستاذ متع اللّه المسلمين بطول بقاه » فحق على حملة العلم أن يقدروا ويشكروا ما أنعم اللّه تعالى عليهم من شريف وجوده ، وحق علينا نشر ما أفاده في ذلك أداء المقدار من حقوقه وخدمة لأهل العلم ، سائلين منه ( سبحانه وتعالى ) قبول ذلك ، وأن يجعله في صحيفة حسناتنا

ويكفّر به سيئاتنا ، إنه أرحم الراحمين.

ص: 456

الفهرست

تحقيق أنّ المراد من «المكلّف» فى كلامهم ، هو خصوص المجتهد... 3

دفع الإشكال عن تثليث الأقسام... 4

الإشكال على الشيخ قدس سره فى تشخيص مجارى الاصول ، وبيان ما هو الأحسن أن يقال في المقام 4

الحصر فى الأربع فى مجارى الاصول عقلى، بخلاف نفس الاصول... 5

المقام الأول فى القطع ، وفيه مابحث

المبحث الأوّل :

فى وجوب متابعة القطع وأنّ طريقيته ذاتية لا تنالها يدالجعل... 6

فى عدم صحّة إطلاق الحجّة على القطع وعدم كون البحث عن حجيته من مسائل علم الاصول 7

المبحث الثاني :

فى القطع الطريقى والموضوعى ، وبيان المراد من القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية والمأخوذ على نحو الطريقية والكاشفية 9

عدم إمكان أخذ العلم بالحكم موضوعاً للحكم الذى تعلّق العلم به إلّا بنتيجة التقييد 11

ادّعاء تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام فى حق العالم والجاهل ، والايراد عليه ... 12

صحة أخذا العلم بالحكم من وجه خاص مانعاً عن ثوت الحكم واقعاً ... 13

توجيه مقالة الأخباريين فى قولهم : لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة... 14

ص: 457

المبحث الثالث :

في قيام الطرق والاصول مقام القطع ... 15

فى أنّ المراد من الاصول المبحوث عنها فى المقام هو الاصول المحرزة... 15

فى بيان الجهات الثلاث التيى تجتمع فى القطع ... 16

فى الفرق بين لحكومة الظاهرية والواقعية ... 19

فى أنّه ليس للواقع فردان : فرد حقيقى وفرد جعلى ، إلّا على مبنى جعل المؤدّى بنحو من المسامحة 20

الوجوه والأقوال فى قيام الطرق والأمارات والاصول التنزيلية مقام القطع ... 21

اختيار القول الثالث ، وهو قيامها مقام القطع الطريقى مطلقاً وعدم قيامها مقام القطع الصفتى ، وتضعيف ما ذكر من المنع عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقية ... 21

الإشكال بأنّ الذى اخذ جزء الموضوع فى ظاهر الدليل هو العلم والإحراز الوجدانى لا الإحراز التعبّدى ، والتفصّى عنه بوجوه 23

عدم إمكان قيام الأمارات والاصول مقام القطع المأخوذ على جهة الصفتية ... 26

لم نعثر فى الفقه على مورد اُخذ العلم فيه موضوعاً على وجه الصفتية ، وردّ الأمثلة التى ذكرها الشيخ قدس سره 26

فى بيان ما أفاده المحقّق الخراسانى فى الحاشية فى وجه قيام الطرق والاُصول مقام القطع بجميع أقسامه ، والإشكال عليه مضافاً إلى ما أورده عليه فى الكفاية ... 27

فى أنّ الظن ليس كالعلم حجيته منجعلة ومن مقتضيات ذاته ، بل لابدّ أن يكون حجيته بجعل شرعى 31

فى بيان أقسام الظن من حيث أخذه موضوعاً لحكم آخر ... 31

فذلكة : فى الإشارة إلى اختلاف بيان «الاستاذ» فى أقسام الظن المأخوذ موضوعاً ... 35

المبحث الرابع :

فى استحقاق المتجرّى للعقاب ، والبحث يقع فيه من جهات : ... 37

الجهة الاولى: دعوى أنّ الخطابات الأوّلية تعمّ صورتى موافقه القطع للواقع ومخالفته ... 37

ص: 458

الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلّق العلم بشىء تكون من الصفات والعناوين الطارية على ذلك الشىء المغيّرة لجهة حسنه وقبحه 41

الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرّى للعقاب من باب استقلال العقل بذلك ... 46

الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجرى من جهة قيام الاجماع ودلالة الأخبار عليه ... 50

تنبيهان :

الأوّل : فى بيان عدم الفرق فى التجرّى بين مخالفة العلم وبين مخالفة الطرق والاصول المثبتة للتكليف 53

الثانى : فيما ذكره صاحب الفصول : من أنّ قبح التجرّى يختلف بالوجوه والاعتبار ، والإشكال عليه 54

المبحث الخامس

فى المستقلاّت العقلية ، والبحث يقع فيها من جهات : ... 57

الجهة الاولى : فى فساد مقالة الأشاعرة حيث أنكروا الحسن والقبح العقليين ... 57

الجهة الثانية : فى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وردّ مقالة بعض الأخباريين ومن تبعهم - كصاحب الفصول - فى ذلك المقام ... 60

الجهة الثالثة : فى ردّ ما ادّعاه الأخباريون : من قيام الأدلّة السمعية على منع العمل بحكم العقل 63

المبحث السادس :

فى ما حكى عن الشيخ الكبير : من عدم اعتبار قطع القطّاع ، وبيان فساده إن أراد من قطع القطّاع الطريقى منه وتوجيهه إن أراد الموضوعى منه ... 64

المبحث السابع :

فى أحكام العلم الإجمالى وأنّه لافرق فى نظر العقل فى الآثار المترتبة على العلم بين العلم بين العلم التفصيلى والعلم الإجمالى 65

المقام الأوّل : فى ما يرجع إلى مرحلة سقوط التكليف بالعلم الإجمالى ... 66

فى عدم اعتبار معرفة الوجه وقصده فى العبادة ... 66

فى أنّه لم يقم دليل شرعىّ على التصرف فى كيفية الاطاعة ، والأمر موكول إلى نظر العقل 68

ص: 459

فى بيان مراتب الامتثال ... 69

المقام الثانى : فى ما يرجع إلى مرحلة ثبوت التكليف بالعلم الإجمالى ... 74

فى بيان فساد ما توهّم : من أنّ العلم الذى يكون موضوعاً عند العقل فى باب الطاعة والمعصية يختصّ بالعلم التفصيلى ولا يعمّ العلم الإجمالى ... 75

فى ردّ ما ذهب إليه بعض الأعاظم : من انحفاظ رتبة الحكم الظاهرى فى أطراف العلم الإجمالى 76

فى عدم جريان الاصول التنزيلية فى أطراف العلم الإجمالى وإن لم يلزم منه المخالفة العملية 78

تحقيق ماهو المانع من جريان الاصول فى أطراف العلم الإجمالى ... 78

فى شرائط تأثير العلم الإجمالى ... 79

الإشارة إلى ما ذكره الشيخ قدس سره من الموارد التى توهّم فيها انحزام القاعدة العقلية التى يقتضيها العلم الإجمالى ، وحلّ الإشكال فى كل مسألة عليحدة ... 84

فيما لوتردّد المعلوم بالإجمال بين مايكون بوجوه الواقعى ذا أثر وبين مايكون بوجوده العلمى كذلك 86

المقام الثانى فى الظن ، وفيه مباحث

المبحث الأوّل:

فى إمكان التعبد بالظن ... 88

المحاذير المتوهّمة من التعبد بالأمارات ، من جهة الملاكات ... 89

الامور التى يتوقف عليها محذور تفويت المصلحة والإلقاء فى المفسدة... 89

تحقيق إمكان التعبد بالأمارة حتى فى صورة انفتاح باب العلم... 90

وجوه سببية الأمارة لحدوث المصلحة ، وبيان أقسام التصويب ... 95

فى بيان المراد من المصلحة السلوكية ... 96

فى ما يلزم من التعبد بالأمارات والاصول من المحذور الخطابى ، وهو اجتماع حكمين متضادين أو متناقضين ، وبيان وجوه التفصّى عنه ... 99

فيما أفاده الشيخ قدس سره فى الجمع بين الحكم الظاهرى والواقعى ... 100

ص: 460

فيما أفاده بعض الأساطين : من حمل الأحكام الواقعية على الشأنية والأحكام الظاهرية على الفعلية ، والايراد عليه 101

فى أنّه لابدّ من حلّ الإشكال فى كلّ مورد عليحدة ... 105

حلّ الإشكال فى باب الطرق والأمارات ... 105

حلّ الإشكال فى باب الاصول المحرزة ... 110

حلّ الإشكال فى باب الاصول الغير المحرزة ... 112

تصدّي بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين باختلاف الرتبة ، والإشكال عليه ... 112

المبحث الثانى :

فى تأسيس الأصل عند الشك فى التعبد بالأمارة ... 119

حرمة التعبد بكل أمارة لم يعلم التعبد بها من قبل الشارع ، بالأدّلة الأربعة ... 119

الكلام فى مسألة قبح التشريع

فى أنّ حرمة التشريع ممّا تناله يدالجعل ... 120

هل قبح التشريع يسرى إلى الفعل المتشرع به؟ ... 121

فى أنّ حجية الأمارة يستلزم صحّة التعبد بها وجواز إسنادها إلى الشارع ، وردّ ما توهّمه المحقق الخراسانى ، بالنسبة إلى الظن على الحكومة ... 122

فى مناط قبح التشريع ، وأنّه قبيح بمناط نفسه ... 123

تتمة : فى تقرير أصالة عدم الحجية بوجه آخر ، وهو استصحاب عدم الحجية. وما أفاده الشيخ والمحقق الخراسانى - قدس سرهما - فى المقام ... 126

المبحث الثالث :

فى حجية الأمارات ، والبحث عنها يقع فى ما مقامين : ... 132

المقام الأوّل :

فى بيان الأمارات التى قام الدليل على اعتبارها بالخصوص ، وما قيل بقيامه عليها ، وفيه فصول : 133

الفصل الأوّل : فى حجية الظواهر... 133

مقالة الأخباريين فيما ادّعوه : من عدم جواز العمل بظواهر الكتاب العزيز ... 135

التفصيل الذى أفاده المحقق القمى رحمه اللّه فى جحية الظواهر ... 137

ص: 461

فى المباحث المتعلقة بتشخيص الظواهر ... 139

حجية قول أهل الخبرة ... 142

الإشكال على كون اللغوى من أهل الخبرة ... 143

الاستدلال على اعتبار قول اللغوى بالانسداد الصغير ، والإشكال عليه ... 143

التنبيه على امور :

الأوّل : فى أنّ الوثوق الحاصل من قول اللغوى قد يصير منشأً للظهور ... 144

الثانى : فى أنّه يجب الأخذ بالظهور بعد الفحص عن القرائن ولو لم يحصل الوثوق بارادة الظاهر 145

الثالث : لا عبرة فى الظهور بظهور المفردات وإنّما الاعتبار بظهور الجملة التركيبية فيقدّم على ظهور المفردات عند التعارض 146

الفصل الثانى : فى حجية الإجماع المنقول ... 146

اعتبار محسوسية الخبر باحدى الحواس الظاهرة ... 147

مدرك حجية الإجماع المحصّل ... 149

الفصل الثالث : حجية الشهرة الفتوائية وبيان أقسامها ... 152

الفصل الرابع : فى حجية الخبر الواحد ... 156

الإشكال على كون البحث عن حجية الخبر الواحد من مسائل علم الاصول ، والجواب عنه 157

ادّعاء الإجماع على حجية الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، والإشكال عليه 158

استدلال النافين لحجية الخبر الواحد بالأدلّة الأربعة ، والجواب عنه ... 160

أدلة المثبتين لحجية الخبر الواحد ... 164

1 - آية النبأ وتقريب الاستدلال بها ... 164

الخدشة فى الاستدلال بالآية على كل من تقريبى مفهوالوصف ومفهوم الشرط ... 166

استفاده المفهوم من الآية بضميمة شأن النزول ... 169

تكملة :

حول الإشكالات التى تختص بآية النبأ فى الاستدلال بها لحجية خبر العدل

ص: 462

منها : تعارض المفهوم على فرض ثبوته مع عموم التعليل فى ذيل الآية ... 170

منها : لزوم خروج المورد عن عموم المفهوم ... 173

حول الإشكالات التى لا تختص بالآية

منها : وقوع التعارض بينها وبين الآيات الناهية عن العمل بالظن ... 175

منها : أنّه لوكان الخبر الواحد حجّة لكانت من جملة أفراده الإجماع الذى أخبر به السيد رحمه اللّه على عدم حجية الخبر الواحد 177

منها : إشكال شمول أدلّة الحجية للأخبار الحاكية لقول المعصوم علیه السلام بواسطة أو بوسائط 177

تحقيق الحال فى حلّ الإشكال ... 182

2 - آية النفر ، وتقريب الاستدلابها ... 184

دفع ماذكر من الإشكالات على التمسك بالآية الشريفة... 187

3 - الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنّة ... 189

4 - الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع ، ووجوه تقرير الإجماع ... 191

5 - الاستدلال على حجية الخبر الواحد بدليل العقل.

الوجه الأوّل : ما أفاده الشيخ من ترتيب مقدمات الانسداد الصغير ... 196

فى بيان المراد من الانسداد الصغير والفرق بينه وبين الانسداد الكبير ... 197

تقرير إجراء مقدمات الانسداد الصغير بالنسبة إلى الأخبار المودعة فى الكتب ... 199

ثلاث ايرادات على جريان مقدّمات الانسداد الصغير ... 199

تقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه آخر ، والإشكال عليه ... 205

الوجه الثانى : ما أفاده المحقق صاحب الحاشية قدس سره ... 212

الوجه الثالث : ما أفاده صاحب الوافية رحمه اللّه ... 213

المقام الثانى :

فى الوجوه التى استدلّوا بها على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعى ، أو فى الجملة الوجه الاوّل : لزوم دفع الضرر المظنون عقلاً 214

منع تحقق صغرى الضرر المظنون فى المقام ... 219

ص: 463

فى بيان ما سلكه الشيخ رحمه اللّه فى منع الصغرى ، والايراد عليه ... 222

الوجه الثانى - من الوجوه التى استدلوا بها لحجية مطلق الظن - ما ذكره السيّد المجاهد رحمه اللّه 225

الوجه الثالث : لزوم ترجيح المرجوح على الراجح ... 225

الوجه الرابع : الدليل المعروف بدليل انسداد ... 225

فى بيان المقدمات الأربع ... 226

فى منع المقدمة الاولى وإثبات كفاية الخبر الموثوق به بمعظم الأحكام ... 228

استغراب ما حكى عن المحقق القمى قدس سره فى هذا المقام ... 229

القول فى المقدمة الثانية ، والاستدلال عليها بوجوه ثلاثة ... 230

فى أنّ الاختلاف فى النتيجة من حيث الكشف والحكومة ينشأ من الاختلاف فى مدرك المقدمة الثانية 232

فى بيان المقدمة الثالثة ، وهى عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقرّره للجاهل ... 234

نقد ما أفاده المحقق الخراسانى فى المقام ... 236

بسط الكلام فى بطلان الاحتياط التام فى الوقايع المشتبهة ... 239

فى بيان مراتب الاحتياط ، وأنّ الضرورات تتقدر بقدرها ... 243

الاستدلال على بطلان الاحتياط بالإجماع وبيان اختلاف نتيجة الإجماع على كلا تقريبيه 245

إذا كان الوجه فى بطلان الاحتياط لزوم العسر والحرج ... 249

الإشكال على بطلان الاحتياط التام إِذا لم يلزم منه الإخلال بالنظام ، بل كان يلزم منه مجرّد العسر والحرج 250

فى ما أفاده المحقق الخراسانى قدس سره من منع حكومة أدّلة العسر والحرج على ما يحكم به العقل فى أطراف العلم الإجمالى ، والإشكال عليه ... 255

لا يعتبر فى الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظى شارحاً ومفسّراً لما اريد من الدليل الآخر ، وبيان الظابط الكلّى فى المقام 261

الإشكال فيما أفاده الآخوند رحمه اللّه من أنّ مفاد أدلّة نفى العسر والحرج هو نفى الحكم بلسان نفى الموضوع... 263

اختلاف النتيجة حسب اختلاف المستند فى المقدمة الثانية... 266

ص: 464

نقل ما أفاده الشيخ قدس سره فى مقام النتيجة ، والمناقشة فيما اختاره من الحكومة ... 268

تحقيق أنّ القول بالحكومة ممّا لا أساس له وأنّه لا محيص عن القول بالكشف ... 277

التنبيه على امور :

1 - هل النتيجة التى يقتضيها دليل الانسداد ، هى اعتبار الظن فى خصوص المسألة الاصولية؟ أو فى خصوص المسألة الفقهية؟ أو تعمّهما؟ ... 280

ما ذهب إِليه صاحب الفصول ... 281

ما أورده الشيخ على صاحب الفصول - قدس سرهما - ... 283

حاصل ما أفاده صاحب الحاشية - طاب ثراه - والايراد عليه ... 287

2 - هل يقتضى دليل الانسداد كلّية النتيجة؟ أو يقتضى إِهمالها؟ ... 294

بيان منشأ الاختلاف فى كون النتيجة كلّية أو مهملة ... 297

ما ذهب إِليه المحقق القمى قدس سره من كلّية النتيجة ، وايراد الشيخ رحمه اللّه عليه ... 298

الإشكال على ما أورده الشيخ ، وتقوية ما عليه المحقق القمى ... 298

الإشكال على التعميم بحسب الموارد إذا كان المورد من الموارد التى اهتم به الشارع ، والجواب عنه 303

تعيين النتيجة من حيث العموم والخصوص بعد البناء على إِهمالها ... 307

ادّعاء الإجماع على التعميم بحسب الموارد ... 308

الوجه الأوّل ممّا ذكر للتعميم بحسب الأسباب ... 309

ذكر وجوه ثلاثة لترجيح بعض الظنون على بعض ... 309

الوجه الثانى من وجوه التعميم ... 318

الوجه الثالث من وجوه التعميم ... 319

3 - الإشكال على عموم النتيجة من حيث دخول الظن القياسى فيه ، والجواب عنه 320

4 - الأقوى اعتبار الظن المانع دون الظن الممنوع ... 322

خاتمة يذكر فيها امور :

1 - فى حجية الظن الحاصل من قول اللغوى ... 323

2 - حجية الظن بوثاقة الراوى الحاصل من توثيق أهل الرجال ... 323

3 - عدم العبرة بالظن فى الموضوعات ... 324

ص: 465

4 - عدم العبرة بالظن فى باب الاصول والعقائد ... 324

المقام الثالث فى الشك

فى بيان مجارى الاصول الأربعة ... 325

فى أنّ التنافى بين الأمارات والاصول غير التنافى بين الحكم الواقعى والظاهرى ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين 326

بعض الامور التى ينبغى تقديمها ... 327

البحث عن أصالة الحذر أو الإباحة لا يغنى عن البحث عن مسألة البرائة والاشتغال 328

دفع ما يتوهّم : من أنّه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هوالاحتياط فعلى الاصولى القائل بالبرائة إِقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة ... 330

المبحث الأوّل :

فى حكم الشك فى التكليف فى الشبهة التحريمية لأجل فقدان النصّ ... 330

الاستدلال على البرائة بالآيات الشريفة ... 331

ردّ ما زعمه الأخباريون : من دلالة آية «وما كنّا معدّبين الخ» على نفى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع 334

ردّ ما قيل : بأنّ الشارع تفضّل بالعفو عن نيّة السيّئة ، وعن الصغائر عند الاجتناب عن الكبائر ، وعن الظهار مع حرمته 334

الكلام فى حديث الرفع :

فى تحقيق معنى الرفع والدفع ، وأنّ الرفع يرجع إلى الدفع ... 336

عدم لزوم التجوّز فى الكلمة ولا فى الإسناد وإِن جعلنا الرفع فى الحديث بمعنى الدفع فى جميع الأشياء التسعة المرفوعة 337

نقد ما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من أنّ الدفع من أوّل الأمر ورد على ايجاب الاحتياط 338

حول العناية المصححة لورود الرفع على العناوين المذكورة فى الحديث ... 341

فى أنّ دلالة الاقتضاء لا تقتضى تقديراً فى الكلام حتى يبحث عمّا هو المقدّر ... 342

ردّ ما قيل : إنّ وحدة السياق تقتضى أن يكون المراد من الموصول فى «مالا يعلمون»

ص: 466

الموضوع المشتبه ولا تعم الشبهات الحكمية ... 344

فى أنّ حديث الرفع يكون حاكماً على أدلّة الأحكام ولا يلزم منه نسخ ولا تصويب ولا صرف 345

هل المرفوع فى هذه الموارد جميع الآثار أو بعض الآثار؟ ... 348

يعتبر فى التمسك بحديث الرفع امور ثلاثة :

1 - كون الأثر من الآثار الشرعية

2 - أن يكون فى رفعة منّة

3 - أن يكون الأثر مترتّباً على الموضوع لا بشرط عن طروّ العناوين المذكورة فى الحديث 348

فى بيان معنى رفع الخطأ والنسيان تشريعاً ... 349

تفصيل الكلام فى رفع جميع الآثار أو بعضها ... 351

شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ... 352

لا يمكن تصحيح العباة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرايط بحديث الرفع ... 353

تفصيل الكلام فى جريان حديث الرفع فى الأحكام الوضعية ... 356

بيان ما يندرج فى قوله صلی اللّه علیه و آله «رفع مالا يعلمون» ومالا يندرج فيه ... 359

الأقوى عدم جريان البرائة فى الأسباب والمحصّلات ... 360

ابتناء الخلاف المعروف فى باب الوضوء على مسألة الأسباب والمحصّلات ... 361

الاستدلال للبرائة بأخبار آخر : مثل «كل شىء مطلق حتى يرد فيه نهى» و «كل شىءٍ فيه حلال وحرام فهو لك حلال» و «كل شىءٍ لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» ... 363

الاستدلال على البرائة بالاجماع ، وتقريره وردّه ... 365

الاستدلال على البرائة بقاعدة «قبح العقاب بلابيان» ... 365

ردّ ما توهّم : من أنّ البيان فى موضوع حكم العقل هو البيان الواقعى ... 365

هل يكفى فى البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل؟ ... 366

استدلال الأخباريين على الاحتياط بالآيات الشريفه ، والجواب عنه ... 371

احتجاج الأخباريين على الاحتياط بالسنّة ... 372

الجواب عمّا استدل به الأخباريون ... 373

استدلال الأخباريين بدليل العقل ، والجواب عنه ... 378

ص: 467

التنبيه على أنّ أصالة البرائة والاشتغال من الاصول الغير المتكفّلة للتنزيل فكلّ أصل تنزيلى يكون حاكماً عليها 379

الكلام فى أصالة عدم التذكية :

نقل كلمات الأصحاب فيما يقبل التذكية من الحيوان ... 380

هل التذكية عبارة عن المعنى المتحصّل من قابلية المحل والاُمور الخمسة أو هى عبارة عن نفس الاُمور لخمسة؟ 381

لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلّية والنجاسة والحرمة بحسب الاصول العملية ... 383

فى ما يظهر من بعض الأساطين : من التفصيل بين الطهارة والحلّية ، وما ذكره شارح الروضة فى وجه ذلك 384

ما يرد على شارح الروضة ... 386

تحقيق جريان البرائة فيما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص وتعارض النصين ... 388

انعقاد الإجماع من الاصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الموضوعية ، ودفع ما يتوهّم من اختصاص قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بالشبهات الحكمية ... 389

مجرّد العلم بالكبريات المجعولة لا يكفى فى تنجّزها وصحة العقوبة عليها مالم يعلم بتحقق صغرياتها خارجاً 390

اختلاف النتيجة بين ما إذا كانت القضية بنحو السالبة المحصّلة وبين ما إذا كانت بنحو الموجوبة المعدولة المحمول 394

سؤال الفرق بين الاصول العملية والاصول اللفظية ، حيث يصحّ التمسك بالاصول العملية فى الشبهات الموضوعية ولم يصح التمسك بالاصول اللفظية فيها ، والجواب عنه ... 396

جريان البرائة فى الشبهات الوجوبية بأقسامها الأربعة ... 397

تنبيهات البرائة :

التنبيه الأوّل : فى رحجان الاحتياط عقلاً ، والإشكال فى استحبابه الشرعى ... 398

استشكال الشيخ قدس سره فى إمكان الاحتياط فى العبادات ، والجواب عنه ... 399

ما أفاده بعض الأساطين فى تصحيح الاحتياط فى العبادات بالأوامر الواردة فيه ، والإشكال عليه 402

ص: 468

فساد ما أجاب به بعض الأعلام عن الإشكال المعروف فى صحة عبادة الاجراء : من أنَّ لهم قصد امتثال الأمر الإجارى 405

قاعدة التسامح فى أدّلة السنن

ما ورد من الأخبار فى ذلك ... 408

بيان الوجوه المحتملة فى الروايات ... 409

التنبيه الثانى : فى جريان البرائة عند الشك فى الواجب التعيينى والتخييرى ... 416

الواجب التخييرى على أقسام ثلاثة ... 417

لا يقاس الشك فى الإطلاق والاشتراط فى مرحلة الحدوث على الإطلاق والاشتراط فى مرحلة البقاء 421

يعتبر فى جريان البرائة أن يكون الشك فى أمر مجعول شرعى ممّا تناله يد الوضع والرفع ، وأن يكون فى رفعه منّة وتوسعة 422

الشك فى التعيين والتخيير يتصوّر على وجوه ثلاثة ... 423

الأقوى أنّ الأصل فى جميع الأقسام على جميع وجوه الشك - ما عدى الوجه الأوّل - هو الاشتغال 425

الكلام فى الوجه الثانى من وجوه الشك فى التعيين والتخيير ... 426

الكلام فى الوجه الثالث من وجوه الشك فى التعيين والتخيير ... 429

حول ما قيل : من أنّ الشك فى وجوب الجماعة عند تعذر القرائة من قبيل الوجه الثالث 430

حكم الشك فى التعيين والتخيير فى القسم الثانى من أقسام الواجب التخييرى ... 432

الكلام فى القسم الثالث من أقسام الواجب التخييرى ... 433

تتميم البحث بالتنبيه على أمرين :

1 - لا أثر للبحث عمّا يقتضيه الأصل العملى بالنسبة إِلى ما يحتمل كونه عدلاً لما تعلق الوجوب به بعد النباء على أصالة التعيينية 435

2 - الأقوى عدم جريان البرائة فى الشك فى الوجوب العينى والكفائى ... 436

الكلام فى الشبهة الوجوبية الموضوعية

إطباق الاصولين والأخباريين على عدم وجوب الاحتياط فيها ... 438

حول ما نسب إِلى المشهور : من وجوب الاحتياط عند تردّد الفرائض الفائتة بين الأقلّ

ص: 469

والأكثر ... 438

تحرير ما نقل عن بعض المحققين : من تطبيق فتوى المشهور على القاعدة ... 439

تحقيق عدم إِمكان التطبيق وتقوية جريان البرائة فى المسألة ... 440

خاتمة : فى أصالة التخيير

تحقيق عدم إِمكان جعل التخيير الشرعى الواقعى ولا الظاهرى فى موارد دوران الأمر بين المحذورين 443

تحقيق عدم جريان الاصول مطلقاً فى باب دوران الأمر بين المحذورين وأنّ المكلّف مخيّر بين الفعل والترك بحسب خلقته التكوينية 445

هل المزيّة توجب الأخذ بصاحبها فى باب دوران الأمر بين المحذورين؟ ... 450

يعتبر فى دوران الأمر بين المحذورين أن يكون كل من الواجب والحرام توصّلياً أو يكون أحدهما الغير المعيّن توصّلياً 452

فى أنّ التخيير فى صورة تعدّد الواقعة استمرارى ، ودفع ما قيل إِنّه بدوىّ ... 453

عدم جريان حكم الدوران فى ما إِذا كان المكلّف متمكّناً من الموافقة القطعية ولو بتكرار العمل أو الجزء 455

الحمد اللّه أوّلاً وآخراً

وصلّى اللّه على نبيّنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 470

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

المحقق: الشيخ رحمة اللّه رحمتي الأراكي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

ISBN: 978-964-470-899-2

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1409 ه.ق

الصفحات: 832

الجزء الرابع

فوائد الأصول

من إفادات قدوة الفقهاء و المجتهدين آية اللّه في الارضين

الميرزا محمد حسين الغروي النائيني

(1355 ه ق)

تأليف الأصولي المدقق والفقيه المحقق العلامة الرباني

الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني

(1365 ه ق)

مع تعليقات خاتم الفقهاء والأصوليين آية اللّه في العالمين

الشيخ آغا ضياء الدين العراقي

(1361 ه ق)

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360

ص: 1

اشارة

ص: 2

الصورة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. وبعد ، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا الموسوم ب « فوائد الأصول » وهو يشتمل على مهمات مباحث الاشتغال والاستصحاب والتعادل والتراجيح ، وهي نتيجة ما تلقيته من بحث شيخنا الأستاذ ، الامام الفقيه ، علم العلم وبدر سمائه ومشكاة نوره ، مفصل الصواب وفصل الخطاب ، من قد استبطن أسرار العلوم واستجلى غوامضها ومحص حقائقها وأحصى مسائلها وأحاط بفروعها وأصولها ومعقولها ومنقولها ، صدر العلماء وعين الفقهاء ، قبلة المشتغلين وخاتمة المجتهدين آية اللّه في العالمين ، من قد ألقت له الرياسة الدينية أزمتها في أواسط القرن الرابع عشر ، حضرة « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » متع اللّه الاسلام بشريف وجوده ، آمين.

ص: 3

الفصل الثاني من المقام الثالث: في الشك في المكلف به

اشارة

والكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأول : في تردد المكلف به بين المتباينين.

المقام الثاني : في تردده بين الأقل والأكثر.

أما المقام الأول

اشارة

ففيه مباحث. وقبل الخوض فيها ينبغي تقديم أمور :

الأول :

في ضابط الشك في المكلف به.

وحاصله : أن رجوع الشك إلى المكلف به لا يكون إلا بعد العلم بالتكليف في الجملة ، وإلا كان من الشك في التكليف لا المكلف به.

وتوضيح ذلك : هو أنه قد تكرر منا أن القضايا المتضمنة للأحكام الشرعية

ص: 4

ليست من القضايا الشخصية الخارجية (1) بل هي من القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها (2) وهي بمنزلة

ص: 5


1- أقول : لا يخفى أن مفاد القضايا الحقيقية على فرض تسليمها في القضايا الطلبية والخطابات التكليفية يس إلا فعلية الحكم واقعا بوجود موضوعه واقعا ، من دون اقتضاء هذا المقدار العلم به وجدانا ، فترتب لعلم بوجود الموضوع لابد من مقدمة أخرى غير مرتبطة بلوازم القضية ، خارجية كانت أم حقيقية ، فجعل هذه الجهة مقدمة لتوضيح المرام لا يخلو عن غضاضة. ثم إن ما ذكر إنما في التكاليف المنوطة بوجود الشيء خارجا ، وأما التكاليف المطلقة مثل « أقيموا الصلاة » وأمثاله ، فلا يكون تنجز التكليف إلا بالعلم بالكبرى محضا بلا احتياج إلى العلم بشيء آخر ، كما لا يخفى.
2- أقول : قد تقدم منا في مباحث الألفاظ بأن القضية الحقيقية بعدما لا يكون إلا إنشاء الحكم على موضوع أعم من الفعلية والفرضية ، فلا محيص من كونه بفعلية وجود موضوعه فعليا ، وبفرضه فرضيا ، نظير « النار حارة » وبعد ذلك نقول أيضا : إن هذه القضية غير متكفل لمقام العلم بالصغرى أو الكبرى ، بل لابد وأن يكون العلم المزبور من أسباب خارجة عن مفاد هذه القضية ، فهذه القضية داخلة في الخطابات الواقعية المشتركة بين العالم والجاهل ، وبعد ذلك نسئل بأنه في ظرف وجود موضوعه واقعا مع جهل المكلف به ، فأي مرتبة من الحكم يصير فعليا؟ فان أريد مرتبة محركية العبد نحو العمل فهو غلط واضح مع وجود قبح العقاب بلا بيان ، وإن أريد مرتبة محركية اشتياقه بالعمل للمولى - لصيرورته بصدد إبراز اشتياقه وتهيئة أسباب تحريك عبده في ظرف تحقق شرائط التنجز على عبده - فهو فعلا قبل وجود موضوعه حاصل ، وحينئذ فأي شيء أريد من الحكم الذي بفعلية موضوعه يصير فعليا؟ وبفرضه يكون فرضيا ، الذي هو شأن القضايا الحقيقية. وتوهم الجعل في حقيقة الحكم التكليفي كالوضعي أيضا من الأغلاط ، إذ بعد إبراز المولى إرادته واشتياقه يكفي ذلك ، لحكم العقل بالامتثال ولو لم تكن في البين جعل أصلا ، مع أن مرتبة محركية الاشتياق في ظرف وجود الموضوع الذي هو المسمى بالإرادة فرع وجود الاشتياق عند وجود الموضوع ، والحال ان كثيرا ما يكون المولى في هذا الحين في حال لا يتمشى منه الإرادة والاشتياق ، بل ربما يكون اميتا ، كما في الوصية بنحو القضية الحقيقية ، كقوله : « كل من دخل داري فأكرموه » فأنشدكم باللّه! اي حكم يصير فعليا بفعلية موضوعه بعد موته؟ فلا محيص إلا ان تقول حينئذ بان الحكم هو الايجاب المجعول بلا إرادة حين وجوده ، وهذا المعنى مما يضحك به الثكلى! فهل بذلك حينئذ إلا من الالتزام بعدم جريان القضايا الحقيقية في الطلبيات ، وان مثل هذا التقسيم إنما هو في محمولات تكون ظرف عروضها واتصافها خارجيا ، ولا يشمل الأمورات التي لا تكون ظرف عروضها إلا ذهنا بلا تبعيتها لوجوداتها خارجا.

الكبريات لأقيسة الاستنباط ولابد في تحقق الحكم وفعليته من وجود الموضوع خارجا ، ويكون ذلك بمنزلة الصغرى لتلك الكبرى المجعولة الشرعية ، والنتيجة هي الحكم الفعلي الشرعي الذي يستتبع عصيانه وإطاعته العقاب والثواب. فقول الشارع : « الخمر حرام » إنما هو كبرى كلية لا يستتبع العلم بها شيئا من الثواب والعقاب ما لم ينضم إليها صغرى وجدانية ليتألف قياس الاستنباط من تلك الصغرى الوجدانية والكبرى المجعولة الشرعية ، فيقال : « هذا خمر ، وكل خمر يحرم شربه » والنتيجة هي الحكم الشرعي المستتبع موافقته ومخالفته للثواب والعقاب : فيتوقف العلم بالحكم الشرعي الفعلي على العلم بكل من الصغرى والكبرى ، ولا يكاد يحصل العلم بالحكم مع الشك في إحديهما ولو مع العلم بالأخرى ، بل يكون ذلك من الشك في التكليف لا المكلف به.

فضابط الشك في التكليف : هو رجوع الشك ، إما إلى تحقق الصغرى خارجا ، وإما إلى جعل الكبرى شرعا (1) غايته : أنه إن كان الشك في تحقق الصغرى تكون الشبهة موضوعية ، وإن كان في جعل الكبرى تكون الشبهة حكمية. ومنشأ الشك في الصغرى أحد موجبات الجهل بوجود الموضوع ، وفي الكبرى فقد النص أو إجماله أو تعارضه. وقد تقدم الكلام فيها.

وضابط الشك في المكلف به : هو رجوع الشك ، إما إلى نفس متعلق التكليف وهو الفعل أو الترك المطالب به أو بنقيضه ، وإما إلى متعلق المتعلق وهو الموضوع الخارجي لأجل تردده بين أمور بعد العلم بتحققه خارجا أو ما هو بمنزلة العلم من الامارات والأصول الشرعية.

* * *

ص: 6


1- ولا فرق في ذلك بين الشك في أصل جعل الكبرى أو الشك في قيدية شيء لها بناء على المختار من جريان البراءة في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( منه ).
الثاني :

في أقسام الشك في المكلف به : وهي كثيرة ، لأن الشك إما أن يكون في متعلق التكليف ، وإما أن يكون في متعلق المتعلق.

فعلى الأول : إما أن يكون الشك في تحقق المتعلق خارجا بعد العلم بجنس التكليف وفصله ، وجنس المتعلق وفصله (1) وينحصر ذلك ظاهرا بموارد الشك في المحصل والفراغ (2) على ما يأتي تفصيله.

وإما أن يكون الشك في فصل المتعلق مع العلم بجنسه وجنس التكليف وفصله ، كما إذا علم بوجوب الصلاة في يوم الجمعة وشك في أنها الظهر أو الجمعة

وإما أن يكون في جنس المتعلق مع العلم بجنس التكليف وفصله ، كما إذا شك في وجوب الصلاة أو الزكاة مع العلم بوجوب أحدهما إجمالا.

وإما أن يكون في فصل التكليف ، وهذا قد يكون مع العلم بجنس المتعلق وفصله ، كما إذا علم بتعلق الالزام بالفعل الخاص وشك في أنه الوجوب أو الحرمة.

وقد يكون مع الشك في فصل المتعلق مع العلم بجنسه أو مع الشك في جنسه أيضا ، كما إذا شك في وجوب صلاة الظهر أو حرمة الجمعة مع العلم بإحديهما إجمالا ، أو شك في وجوب الصلاة أو حرمة الغناء كذلك.

وأما الشك في جنس التكليف فهو ليس من أقسام الشك في المكلف به ، فإنه يعتبر في جميع أقسام الشك في المكلف به العلم بجنس التكليف.

وعلى الثاني : فإما أن تكون الشبهة وجوبية ، وإما أن تكون تحريمية. وعلى

ص: 7


1- أقول : هذا التشقيق أجنبي عن المقام ، ولا مجال لتصحيحه حتى بالعناية.
2- لا يخفى أن الشك في المحصل لا يرجع إلى الشك في متعلق التكليف إلا بنحو من العناية ، وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ( منه ).

كلا التقديرين : إما أن يتردد متعلق المتعلق بين أمور محصورة ، وإما أن يتردد بين أمور غير محصورة ، على ما سيأتي من الضابط لهما.

فهذه جملة الأقسام المتصورة في الشك في المكلف به المردد بين المتباينين.

وأما المردد بين الأقل والأكثر : فأقسامه أيضا كثيرة يأتي تفصيلها في المقام الثاني

والأقوى في جميع الأقسام المذكورة للشك في المكلف به المردد بين المتباينين هو وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، إلا إذا كان هناك مانع عقلي كما في موارد دوران الامر بين المحذورين على ما تقدم بيانه ، أو مانع شرعي كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز أو غير ذلك : وسيأتي بيانه.

الثالث :

البحث عن وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية في موارد الشك في المكلف به إنما يقع بعد الفراغ عن ثبوت التكاليف الواقعية وإطلاق أدلتها وعدم تقييدها بصورة العلم (1) حكما وموضوعا وبعد كون الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الامرية من غير دخل للعلم في ذلك (2) بداهة أن مسألة دخل العلم في معاني الألفاظ إنما هي من المسائل اللغوية ، ومسألة إطلاق الأدلة من المسائل الفقهية ، والبحث عنهما لا يناسب الأصولي ، مع أن كلا من المسألتين من المسائل الواضحة المتسالم عليها ، فالمبحوث عنه في المقام إنما هو ثبوت الرخصة الظاهرية التي اقتضتها الأصول العملية وعدم ثبوتها مع بقاء الواقع على ما هو عليه من غير تقييد ولا نسخ ولا تصويب.

ص: 8


1- أقول : أي التفصيلي ، وإلا فالعلم الاجمالي غير مانع عن الجريان في المقام.
2- أقول : مع أن محط الكلام بعد الفراغ عن العلم بأي وجه بلا احتياج إلى النزاع في مسألة أخرى ، كما هو واضح.

إذا انمهدت هذه الأمور فالكلام يقع في المباحث

المبحث الأول: في الشك في المكلف به في الشبهة الموضوعية التحريمية
اشارة

وإنما قدمناها على الشبهة الوجوبية لقوة المخالف فيها ، حيث ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهة التحريمية بعض من قال : بأن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، لتوهم شمول مثل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (1) لموارد العلم الاجمالي في الشبهة التحريمية الموضوعية ، وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإنه لم يخالف في حرمة المخالفة القطعية فيها كل من قال : بأن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، إلا بعض من لا يعتد بخلافه.

نعم : من قال : بأن العلم الاجمالي لا يقتضي التنجيز كما نسب إلى المحقق الخونساري رحمه اللّه لابد له من الالتزام بعدم حرمة المخالفة القطعية مطلقا في الشبهة الوجوبية والتحريمية. وعلى كل حال. البحث عن الشبهة التحريمية الموضوعية في الشك في المكلف به يقع في مقامين :

المقام الأول : في الشبهة المحصورة.

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.

ص: 9


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 1 ولفظ الحديث « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ».
أما المقام الأول :
اشارة

فالكلام فيه يقع من جهتين :

الأولى : في حرمة المخالفة القطعية.

الثانية : في وجوب الموافقة القطعية.

أما الجهة الأولى :

فالأقوى فيها حرمة المخالفة القطعية ، ويتضح وجهه بالتنبيه على أمر قد تقدم بيانه في مبحث القطع والظن ، وهو أن الاحكام الظاهرية المجعولة في باب الطرق والامارات والأصول بعد اشتراكها في أخذ الشك في مؤدياتها إما موضوعا كما في الأصول وإما موردا كما في الامارات ، تمتاز بعضها عن بعض باعتبار اختلاف ما هو المجعول فيها ، فان المجعول في باب الامارات هو نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، والمجعول في باب الأصول التنزيلية هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر ، والمجعول في باب الأصول الغير التنزيلية هو مجرد الجري العملي وتطبيق العمل على أحد طرفي الشك لا على أنه هو الواقع.

وقد تقدم تفصيل ذلك كله في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. والغرض من إعادته جرد التنبيه عليه لتكون على ذكر منه حيث إنه ينفعك في المقام.

وبعد ذلك نقول : إن الأصول العملية تختلف من حيث الجريان وعدم الجريان في أطراف العلم الاجمالي حسب اختلاف المجعول فيها وحسب اختلاف المعلوم بالاجمال.

وتوضيح ذلك : هو أن العلم الاجمالي عبارة عن خلط علم بجهل ، وتنحل القضية المعلومة بالاجمال إلى قضية معلومة بالتفصيل على سبيل منع الخلو في

ص: 10

ضمن جميع الأطراف وقضيتين مشكوكتين في كل طرف بالخصوص (1) فلو

ص: 11


1- أقول : مقتضى التحقيق أن يقال : إن العلم تارة يتعلق بعنوان إجمالي بشيء ، وأخرى يتعلق بعنوان تفصيلي له ، والأول هو المسمى بالعلم الاجمالي ، والثاني بالعلم التفصيلي ، ومرجع الفرق بينهما إلى التفصيل والاجمال في معروض العلم ومتعلقه ، وإلا ففي نفس العلم لا فرق بينهما ، وحينئذ لا مجال لاتصاف العلم بالتفصيلي إلا مع كون متعلقه عنوانا تفصيليا لشيء ، وإلا فمع إجمال متعلقه لا محيص إلا من كونه إجماليا ، والتعبير عنه حينئذ بالعلم التفصيلي في غير محله. ثمّ إنّ من لوازم العلم بالعنوان الإجمالي محضا الشّك بعنوان كلّ واحد من طرفيه تفصيلا، و لذلك يكون العلم الإجمالي توأما مع الشكّين تفصيليّين أو أزيد، حسب ازدياد طرف العلم عن الاثنين، و حيث إنّ قوام العلم و الشّك في عالم العروض بنفس العنوان من دون سرايته منه إلى المعنون- و لذا يكون الخارج ظرف اتّصافه بالمعلوميّة أو المشكوكيّة، و إلّا فظرف عروضه ليس إلّا الذهن، بشهادة أنّه ربما لا تكون موجودا في الخارج، مع أنّ العلم و الشّك و أمثالهما من الصفات المتقوّمة بوجود المعروض موجود فلا محيص من أن يكون معروضها المقوّم بوجودها ما هو المخزون في الذهن، غاية الأمر في عالم عروضها عليه لا بدّ و أن يلحظ الموجود الذهني بنحو الفناء في الخارجيّات، بمعنى كونه ملحوظا خارجيّا بلا نظر إلى حيث ذهنيّته. و بعد ما كان كذلك، فنقول: من البديهي أن العنوان الإجمالي في عالم العنوانيّة مباين مع العنوان التفصيليّ و إن اتّحدا وجودا و لازمه عدم سراية العلم الإجمالي القائم بعنوانه إلى المعنون التفصيليّ، إذ في عالم العروض كلّ واحد من العناوين الإجماليّة و التفصيليّة غير الآخر، فالعارض لأحد العنوانين غير عارض للآخر، و من ذلك يجتمع الشّك بالعنوان التفصيليّ مع العلم بالعنوان الإجمالي مع اتحادهما وجودا و خارجا، و لو لا تباين المعروضين للزم اجتماع اليقين و الشّك في شي ء واحد، مع أنّ التضاد بين اليقين و الشّك كالنار على المنار، و ذلك أيضا شاهد صدق على عدم سراية هذه الصفات إلى الوجود الخارجي، بل وقوفها بنفس العنوان، فانّ العنوانين حينئذ لمّا كانا متباينان لا يبقى جهة تضادّ بينهما، لعروض كلّ منهما بعنوان غير معروض الآخر. و حيث عرفت ذلك نقول: في فرض دوران الأمر بين المعروضين ما هو معروض العلم هو عنوان «أحد الأمرين» لا خصوص الفعل و لا خصوص الترك، فكلّ واحد من الفعل و الترك بهذا العنوان التفصيليّ لهما تحت الشّك، و حينئذ فلو كان موضوع الإباحة التعبّدية الشّك في لزوم الفعل أو الترك، فكلّ واحد بعنوان الفعل أو الترك مشكوك، و إن كان بعنوان أحدهما معلوم الإلزام، و عليه فلو ورد في البين ترخيص في فعله و تركه، لا يكاد يشمل هذا الترخيص التعبّدي أزيد من الفعل المشكوك و الترك المشكوك، و لا يكاد يشمل العنوان الإجمالي المعلوم، كي لا يصحّ التعبّد بالنسبة إليه، و لكن ذلك المقدار لا يفيد و لا يقتضي في منع شموله للطرفين تفصيلا من عنوان الفعل والترك ، والمفروض أن أصل الإباحة التعبدية أيضا لا يقتضي أزيد من الترخيص في طرفي الفعل والترك ، ولا يشمل لعنوان أحدهما المبائن مع عنواني الفعل والترك ، كي يلزم عدم صحة التعبد بالإباحة في مورد العلم بالمحذورين. و توهّم عدم جريان أصالة الإباحة في المحذورين دون سائر الأصول الجارية في الطرفين في غاية الدفع، و حينئذ لا يبقى في البين إلّا شبهة مضادّة الترخيصين مع الإلزام الواقع، و بعد إمكان الجمع بين الإباحة الظاهرية مع اللزوم الواقعي لا يبقى مانع عن الجريان إلّا حيث تنجيز الواقع، و مع عدم تنجّزه أيضا بحكم العقل لا يبقى مجال لرفع اليد عن إطلاق أصالة الحلّية في مثل المورد- كإطلاق أدلّة سائر الأصول للطرفين و لو لدفع احتمال إيجاب الاحتياط الشرعي في البين- كي يتوهّم بأنّ مع حكم العقل تنجّزيّا بالتخيير لا مجال لجريان الترخيص الشرعي، كما لا يخفى.

علم بوجوب أحد الشيئين أو الأشياء ، فهنا قضية معلومة تفصيلا وهي وجوب أحدهما على سبيل منع الخلو ، وقضيتان مشكوكتان إحداهما : وجوب هذا الطرف بالخصوص ، والأخرى : وجوب الطرف الآخر كذلك. ولو كانت الأطراف متعددة فالقضايا المشكوكة تزيد بمقدار عدد الأطراف.

ومن المعلوم : أن رتبة الحكم الظاهري ليست محفوظة بالنسبة إلى نفس القضية المعلومة بالتفصيل : لان الجهل مما لابد منه في كل حكم ظاهري ، أمارة كان أو أصلا تنزيليا أو غير تنزيلي ، فلا مجال للتعبد بكل أمارة أو أصل كان مؤداه مماثلا أو مضادا لنفس المعلوم بالاجمال : فلو فرض أن هناك أصلا كان مؤداه مضادا لنفس المعلوم بالاجمال ، فهذا الأصل لا يجري ، وينحصر ذلك (1) ظاهرا في أصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين : لما تقدم في تلك المسألة من أن أصالة الإباحة تقابل نفس المعلوم ، فلو علم إجمالا بوجوب فعل شيء أو تركه ، فأصالة الإباحة من الفعل تقتضي الرخصة في كل من الفعل والترك وكذا أصالة الإباحة من الترك تقتضي ذلك ، وهذا ينافي العلم

ص: 12


1- سيأتي في بعض المباحث أن قاعدة الفراغ في بعض موارد الشك في أفعال الصلاة يكون مؤداها مضادا للمعلوم بالاجمال أيضا ( منه ).

بوجوب الفعل أو الترك ، فأصالة الإباحة لا تجري في كل من طرفي الفعل والترك ، لأن مفادها يضاد المعلوم بالاجمال ، فلا موضوع لها ، لما عرفت : من أن الشك قد اخذ موضوعا في الأصول العملية مطلقا.

وأما ما عدا أصالة الإباحة من البراءة والاستصحاب في مسألة دوران الامر بين المحذورين ومطلق الأصول حتى أصالة الإباحة في غير تلك المسألة ، فلا يقابل شيء منها نفس المعلوم بالاجمال ، ولا تكون مؤدياتها مضادة لما هو المحرز بالوجدان ، لأنها إنما تجري في الأطراف وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فان كل واحد من الشيئين اللذين علم بوجوب أحدهما أو الانائين اللذين علم بنجاسة أحدهما مشكوك الوجوب والطهارة ، وأصالة البراءة أو الطهارة إنما تجري في كل واحد من الشيئين أو الانائين بخصوصه ، وليس مؤداها عدم وجوب أحدهما إجمالا أو عدم نجاسة أحدهما كذلك لينافي العلم الاجمالي بوجوب أحدهما أو نجاسة أحدهما ، بل مؤداها عدم وجوب هذا الشيء بخصوصه وعدم وجوب الشيء الآخر بخصوصه ، وكل من الشيئين بخصوصه لم يتعلق العلم بوجوبه ، فلا يكون مؤدى الأصلين في كل واحد من الطرفين مضادا لنفس المعلوم بالاجمال.

نعم : قد تقدم منا الاشكال في جريان البراءة والاستصحاب في دوران الامر بين المحذورين ، إلا أن الاشكال ليس من جهة انتفاء الموضوع بل من جهة أخرى : لأنه لا يعتبر في موضوع الأصل أزيد من الجهل بالحكم ، وكل من الفعل أو الترك بخصوصه عند العلم بوجوب أحدهما مشكوك الوجوب والبرائة والاستصحاب إنما يجري في كل من الفعل والترك بخصوصه ، فلا يضاد مفاد البراءة والاستصحاب نفس المعلوم بالاجمال ، وهذا بخلاف أصالة الإباحة ، فان مفادها يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، لما عرفت من أن معنى أصالة الإباحة في الفعل هو الرخصة في الفعل والترك وعدم وجوب أحدهما ، وهو ينافي العلم

ص: 13

بوجوب أحدهما ، فالفرق بين أصالة الإباحة وسائر الأصول مما لا يكاد يخفى.

فتحصل مما ذكرنا : أن إشكال انتفاء الموضوع ينحصر بأصالة الإباحة في خصوص مقام دوران الامر بين المحذورين ، دون ساير الأصول في ذلك المقام ، ودون مطلق الأصول في غير ذلك المقام.

نعم : في خصوص الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب جهة أخرى غير انتفاء الموضوع تمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ، وهي قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الاجمالي.

وتوضيح ذلك : هو أن المجعول في الأصول التنزيلية - على ما عرفت - إنما هو البناء العملي والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم في عالم التشريع ، فان الظاهر من قوله علیه السلام - في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » هو البناء العملي على بقاء المتيقن وتنزيل حال الشك منزلة حال اليقين والاحراز ، على ما سيأتي توضيحه في محله.

وهذا المعنى من الحكم الظاهري في الشبهات البدوية الغير المقرونة بالعلم الاجمالي يمكن جعله ، وكذا المقرونة بالعلم الاجمالي لكن بالنسبة إلى بعض الأطراف. وأما بالنسبة إلى جميع الأطراف ، فلا يمكن مثل هذا الجعل ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وانقلاب الاحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى إحراز آخر يضاده (1) ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الاحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبدا ، فان الاحراز التعبدي لا يجتمع مع

ص: 14


1- أقول : الذي انتقض إنما هو العلم بطهارة أحدهما ، وإلا فالعلم بطهارة كل عنوان تفصيلي ما انتقض أبدا. ولئن شئت قلت : بأن ما نحن فيه من قبيل انتقاض العلم بطهارة أحدهما ، لا انتقاض أحد العلمين بالطرفين تفصيلا ، بل العلم بطهارة كل منهما مما شك في بقائه بلا انتقاضه بعلم آخر ، فتدبر.

الاحراز الوجداني بالخلاف.

والحاصل : أنه لا يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في كل من الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما.

نعم : يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في أحد الانائين دون الآخر ، لأنه لا يعلم بنجاسته بالخصوص ، فالذي لا يمكن هو الجمع بين الحكمين وجعل الاستصحابين معا ، وهذا من غير فرق بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية كالمثال ، حيث إن استصحاب طهارة كل من الانائين يقتضي جواز استعمال كل منهما في مشروط الطهارة ، فيلزم مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين وهو وجوب الاجتناب عن النجس منهما وعدم جواز استعماله في مشروط الطهارة (1) وبين أن لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية ، كما إذا كان الاناءان مقطوعي النجاسة سابقا وعلم بطهارة أحدهما لاحقا ، فإنه لا يلزم من استصحاب نجاسة كل منهما مخالفة عملية ، لان العلم بطهارة أحدهما لا يقتضي تكليفا ليلزم من جريانهما مخالفة عملية ، لما عرفت من عدم إمكان الحكم ببقاء المستصحبين مع العلم بانتقاض أحدهما ، وهذا يرجع إلى عدم إمكان الجعل ثبوتا (2) ولا دخل للمخالفة العملية وعدمها في ذلك. ويترتب على ذلك عدم

ص: 15


1- أقول : إن مفاد الأصل المزبور أيضا هو الترخيص في طرفي العلم - كما عرفت في الحاشية السابقة - لا في نفس المعلوم ، فمع تلك الجهة حالها حال سائر الأصول ، غاية الامر الفرق بينهما في اقتضاء أصالة الإباحة الترخيص في طرفي العلم بتطبيق واحد وفي البقية بتطبيقين ، وذلك المقدار لا يجدي فرقا في الجهة المهمة ، كما هو واضح.
2- 2 - أقول : بعدما عرفت شرح العلم الاجمالي وأنه لا يكاد إلا أن يتعلق بالعنوان الاجمالي من دون سرايته إلى العنوان التفصيلي وأنه كان باقيا على مشكوكيته ، نقول : إن مفاد « لا تنقض اليقين » بعدما لا يكون إلا إبقاء المتيقن في ظرف الشك لا تنزيل الشك منزلة اليقين - كما سيجيء توضيح هذه الجهة أيضا في مقام محكومية الاستصحاب للامارة وحكومته على سائر الأصول المأخوذ في موضوعها عدم العلم والمعرفة - لا شبهة في أن الحكم بإبقاء النجاسة في كل واحد من الطرفين تفصيلا أو التعبد باليقين به في ظرف شكه كيف ينافي مع العلم بعدم بقاء السابق بعنوانه الاجمالي؟ إذ الاحراز التعبدي في كل مشكوك تفصيلي كيف ينافي مع إحراز عدمه بعنوانه الاجمالي؟ فكما أن هذا الاحراز الوجداني لا ينافي الشك فيه ولا عدم إحرازه بعنوانه التفصيلي ولو كانا في الواقع متحدين وجودا - مع أن الشك واليقين من المتضادات - فكيف يضاد مثل هذا اليقين الوجداني الاجمالي ما هو من أحكام هذا الشك القائم بعنوانه التفصيلي المعبر عنه بالاحراز التعبدي. نعم : لو كان اليقين الاجمالي قابلا للسريان إلى العنوان التفصيلي واقعا ، كان لما أفيد وجه ، إذ الاحراز التعبدي لا يعقل مع إحراز عدم الحالة السابقة إجمالا في مورد واحد ، وأما بعد بداهة عدم السراية - بشهادة اجتماع الشك واليقين في وجود واحد خارجي بتوسط العناوين الاجمالية والتفصيلية - لا مجال لانكار الجمع بين إحراز نجاسة كل منهما تفصيلا تعبدا مع العلم بطهارة أحدهما بهذا العنوان الاجمالي ، وحينئذ لا مانع في مثل هذه الأصول أيضا إلا مجرد المخالفة العملية ، وسيجئ توضيح هذه الجهة أيضا عند تعرضه في محله حسب وعدته ( إن شاء اللّه تعالى ). و بالجملة نقول: إنّ ما أفيد من الجزم بانقلاب اليقين السابق بيقين بضده، و مع هذا الجزم الوجداني كيف يعقل الحكم ببقاء اليقين السابق تعبّدا في الطرفين؟ يسأل منه: أنّ ما هو منقلب إلى اليقين بالخلاف هو اليقين بنجاسة كأس زيد أو اليقين بنجاسة كأس عمرو بعنوانهما التفصيليّ، حاشا! بل المنقلب هو أحد اليقين أو اليقين بأحدهما بهذا العنوان الإجمالي. و من المعلوم أيضا: أنّ موضوع الإبقاء التعبّدي ليس اليقين بأحدهما و لا أحد اليقينين بهذا العنوان الإجمالي بل الموضوع هو اليقين بكأس زيد و اليقين بكأس عمرو، و في هذين لا نقطع بانقلابه إلى اليقين بالخلاف، فلا وجه لعدم شمول دليل التعبّد لهما بهذين العنوانين التفصيليّين، كما لا يخفى.

نجاسة الملاقي لاحد الانائين في المثال الأخير ، لعدم جريان استصحاب النجاسة فيهما ليحكم بنجاسة الملاقي لأحدهما ، وسيأتي في أواخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك مع بعض ما يرد عليه من النقوض والجواب عنها.

فتحصل مما ذكرنا : أن المانع من جريان الأصول التنزيلية في أطراف العلم الاجمالي ليس هو انتفاء الموضوع ولا المخالفة العملية ، بل لان المجعول فيها معنى لا يعقل ثبوته في جميع الأطراف.

وأما الأصول الغير التنزيلية - كأصالة الطهارة والبرائة والحل ونحو ذلك - فلا

ص: 16

مانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلا المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين ، فهي لا تجري إن لزم من جريانها مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وتجري إن لم يستلزم ذلك.

والسرّ فيه : هو أن المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون تنزيل المؤدى منزلة الواقع المشكوك فيه ، كما كان هو المجعول في الأصول التنزيلية ، فان مفاد أصالة الإباحة هو مجرد الترخيص الظاهري وعدم المنع من الفعل والترك : ولا مانع من الترخيص الظاهري في كل واحد من الأطراف من حيث نفسه مع قطع النظر عن استلزامه المخالفة العملية ، فإنه لا يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، لان الترخيص يرد على كل طرف بخصوصه في غير دوران الامر بين المحذورين ، وكل طرف بالخصوص مجهول الحكم ، فالموضوع للترخيص الظاهري محفوظ في كل واحد من الأطراف : وليس فيه جهة إحراز وتنزيل للواقع المشكوك فيه حتى يضاد الاحراز التعبدي في كل طرف للاحراز الوجداني بالخلاف في أحد الأطراف ، فينحصر المانع بالمخالفة العملية للتكليف المعلوم بالاجمال.

ودعوى : أنه لا مانع من الترخيص الظاهري في المخالفة العملية واضحة الفساد ، فان المخالفة العملية مما لا يمكن أن تنالها يد الاذن والترخيص ، لأنها عبارة عن المعصية ، ولا يعقل الاذن في المعصية ، لاستقلال العقل بقبح المعصية كاستقلاله بحسن الطاعة وليست من المجعولات الشرعية : ولو فرض أنه ورد من الشارع الاذن في المخالفة للمعلوم بالاجمال فلابد من حمله على نسخ الحكم أو تقييده بصورة العلم التفصيلي ولو بنتيجة التقييد ، والكلام إنما هو بعد الفراغ عن إطلاق الحكم الواقعي وعدم تقييده بالعلم التفصيلي وانحصار جهة البحث في انحفاظ رتبة الحكم الظاهري من حيث إنه حكم ظاهري ، كما تقدم في صدر العنوان ، ومن المعلوم بالبداهة : أن نتيجة الجعل الظاهري وهي الجري العملي والترخيص الظاهري في جميع الأطراف تنافي العلم بالتكليف المنجز في البين

ص: 17

بعد البناء على أن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، فلا تكون رتبة الجعل الظاهري محفوظة بالنسبة إلى جميع الأطراف.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن عدم انحفاظ رتبة الحكم الظاهري يكون لاحد أمور :

إما لانتفاء الموضوع ، وينحصر ذلك في أصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين.

وإما لقصور المجعول عن شموله للأطراف كما في الأصول التنزيلية ، سواء كانت نافية للتكليف المعلوم بالاجمال أو مثبتة له.

وإما لعدم إمكان تطبيق العمل على المؤدى كما في الأصول الغير التنزيلية النافية للتكليف المعلوم بالاجمال ، كأصالة الإباحة والبرائة عند العلم بوجوب أحد الشيئين.

وأما إذا كانت مثبتة للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها كما في أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال (1) عند العلم بحرمة إراقة دم أحد الشخصين أو حرمة إحدى المرأتين أو المالين وحلية الآخر ، فان أصالة الحرمة في كل من الشخصين والمرأتين والمالين تجري من دون أن يلزم منها مخالفة عملية لان مؤداها موافق للمعلوم بالاجمال. هذا كله بحسب مقام الثبوت والجعل.

وأما بحسب مقام الاثبات فأدلة الأصول العملية بقسميها من التنزيلية وغيرها تشمل أطراف العلم الاجمالي ، لما عرفت من أن الأصول إنما تجري في الأطراف ، وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فيشمله قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع

ص: 18


1- أقول : لا نرى لأصالة الحرمة مدركا غير استصحاب عدم الحل في الأموال وغيرها ، فمع العلم بالانتقاض في أحد الطرفين يجيء ما ذكرت من الاشكال ، ولو كان لنا أصل آخر فعليه بالبيان.

ما لا يعلمون » وقوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (1) وقوله علیه السلام « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » وغير ذلك من أدلة الأصول ، فان كل واحد من الأطراف مما يشك في بقاء الحالة السابقة فيه أو مما لا يعلم أو لا يعرف أنه حرام أو طاهر فتشملها أدلتها. فإذا لم يكن في مقام الثبوت مانع عن الجعل بأن كانت رتبتها محفوظة - بالتفصيل المتقدم - لم يكن في مقام الاثبات مانع عن شمول الأدلة لجميع الأطراف ، لعموم أدلة الأصول للشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي.

هذا ، ولكن يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره عدم شمول أدلتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، بدعوى : أنه يلزم من الشمول مناقضة صدر الدليل لذيله حيث قال قدس سره في آخر مبحث الاستصحاب عند تعارض الاستصحابين ما هذا لفظه : الثانية : أنه إذا لم يكن مرجح ، فالحق التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين. إلى أن قال بل لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » لان قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله » يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله. إلى أن قال : وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة : وأن قوله علیه السلام « كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام » لا يشمل شيئا من المشتبهين. انتهى موضوع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.

ومراده مما تقدم : هو ما ذكره في أول الشك في المكلف به ، فإنه قد أطال

ص: 19


1- أقول : هذا سهو من قلمه الشريف ، وإلا فبهذا المضمون ليس في الاخبار.

الكلام في وجه عدم شمول قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » لموارد العلم الاجمالي ، وأن لفظة « بعينه » لا دلالة لها على الشمول.

ومن ذلك كله يظهر : أن المانع عنده من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي هو جهة الاثبات وعدم شمول أدلة الأصول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، لا جهة الثبوت ، فإنه لو كان المانع هو عدم إمكان الجعل ثبوتا لم يكن موقع لإطالة الكلام في شمول لفظة « بعينه » للأطراف وعدم شمولها ، فان لفظة « بعينه » - كانت في هذه الأخبار أولم تكن - لا دخل لها بمقام الجعل ، فالبحث عن دلالة لفظة « بعينه » وعدم دلالتها ينحصر وجهه بمقام الاثبات لا الثبوت.

نعم : يظهر من كلامه في حجية القطع عند البحث عن حرمة المخالفة الالتزامية الموارد العلم الاجمالي أن المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة العملية ، ويظهر منه ذلك أيضا في مواضع اخر من الكتاب.

وبالجملة : قد اختلفت كلمات الشيخ قدس سره في وجه عدم جريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي.

فمن بعضها يظهر أن. المانع هو لزوم المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين. وهذا يرجع إلى مقام الجعل ، حيث لا يعقل جعل ما يؤدي إلى المخالفة القطعية.

ومن بعضها يظهر أن الوجه في ذلك هو قصور الأدلة وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.

وعلى كل حال : إن رجع كلامه قدس سره إلى مقام الثبوت والجعل وان المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة العملية فهو حق في خصوص الأصول الغير التنزيلية النافية للتكليف ، وأما الأصول التنزيلية فالمانع من جريانها ليست هي المخالفة العملية ، بل هو قصور المجعول فيها لان يعم

ص: 20

الأطراف : لأنه لا يمكن الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في كل من الأطراف مع العلم الوجداني بعدم بقائه في بعضها ، على ما تقدم بيانه.

وإن رجع كلامه إلى مقام الاثبات وأن أدلة الأصول لا تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فيرد عليه :

أولا : ما عرفت من أن الأصول العملية إنما تجري في الأطراف وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فلم يحصل ما اخذ في الأدلة غاية للتعبد بمؤدى الأصول وهو العلم بالخلاف في كل واحد من الأطراف ، ومجرد العلم بالخلاف وانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف على سبيل الاجمال لا يوجب خروج كل واحد من الأطراف عن كونه مجهول الحكم ، وإلا انقلب العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي (1).

ص: 21


1- أقول : لا يخفى أنه بعد تقريره إشكال شيخنا العلامة بأحسن بيان كيف يتوجه عليه إيراد هذه الوجوه؟ إذ مرجع كلامه قدس سره بعدما كان إلى مناقضة حرمة النقض لكل واحد من الشكين مع وجوب النقض باليقين الشامل للاجمالي ، بلا توهم انصرافه إلى اليقين بما تعلق به الشك ، إذ ليس الغرض نقض الشك باليقين كي يتوهم الانصراف إلى ما تعلق به ، بل الغرض نقض اليقين به ، وفيه لا مجال لدعوى الانصراف المزبور ، وحينئذ مع كونهما في رتبة واحدة لا يبقى مجال لترجيح الحرمة على الوجوب ، لا أن مجرد العلم الاجمالي كان غاية للأصل ، كي يرد بأنه ليس على الخلاف في كل واحد من الطرفين ، كما أن ظاهر وجوب النقض يقتضي انحصار مورده بصورة العلم بالتكليف ، وإلا فمع العلم الاجمالي بغيره لا يقتضي ذلك وجوب نقضه ، وذلك هو النكتة الفارقة بين صورة لزوم المخالفة العملية وغيره ، كما أن إطلاق وجوب النقض ربما يزاحم الترخيصات المطلقة الشاملة للطرفين ، خصوصا مع قوله : « بعينه » في بعضها ، فلا أقل من التساقط المانع عن الشمول في مقام الاثبات : فتأمل كي لا يتوهم بأنه بعد ابتلائه بصدر الخبر من حرمة النقض ومعارضته يصير مجملا ولا يصلح أن يزاحم المطلقات المنفصلة عنه ، إذ يمكن أن يقال : إن وجوب النقض بالعلم بالخلاف ارتكازي عقلي غير قابل لاحتمال التصرف فيه ، بخلاف حرمة نقض اليقين بالشك ، فإنه يصلح أن يكون مغيا بما هو موضوع لوجوب النقض ، وحينئذ لا يكون الصدر موجبا لاجماله ، وبعده فكما كان مقدما على صدر الرواية كان مقدما على بقية المطلقات المنفصلة أيضا ، كما لا يخفى. ولعل بهذا البيان أمكن إثبات تساقط الأصول من الاطلاق ، حتى على اقتضاء العلم بلا انتهاء النوبة إلى التخيير ، فتدبر.

نعم : هذا إنما يتم في خصوص الأصل الذي يضاد مؤداه نفس المعلوم بالاجمال ، وذلك منحصر بأصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين كما تقدم بيانه ، وأما ما عدا ذلك فليس شيء من مؤديات الأصول تقابل نفس المعلوم بالاجمال وتضاده ، لان مؤدياتها هي حلية كل واحد من الأطراف أو طهارته أو عدم وجوبه - على اختلاف الأصول - ولم يحص العلم بالخلاف بالنسبة إلى كل واحد منها وإن حصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها على سبيل الاجمال والترديد. فلا فرق بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في شمول الأدلة لهما وكونهما مندرجين تحت العموم على نسق واحد ، ولا يلزم من الشمول مناقضة صدر الدليل لذيله.

وثانيا : أنه لو كان المانع من عدم جريان الأصول في الأطراف هو قصور الأدلة وعدم شمولها لها لأجل حصول الغاية في بعض الأطراف ، على ما زعمه قدس سره فأي فرق بين ما يلزم من جريانها مخالفة عملية وما لا يلزم؟ فان شمول الدليل وعدمه لا دخل له بالمخالفة العملية وعدمها ، إذ العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف لا على التعيين إن أوجب حصول ما اخذ في الدليل غاية ففي الجميع يوجب ذلك كانت هناك مخالفة عملية أو لم تكن ، وإن كان العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف لا يوجب حصول ما اخذ غاية ففي الجميع لا يوجب ذلك ، مع أنه قدس سره قد صرح في مواضع من الكتاب بجريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها المخالفة العملية. فراجع كلامه في حجية القطع عند البحث عن المخالفة الالتزامية.

وثالثا : أن مناقضة الصدر للذيل - على تقدير تسليمه - إنما يختص ببعض

ص: 22

اخبار الاستصحاب الذي اشتمل على الذيل ، فإنه هو الذي يمكن أن يتوهم منه أن حصول يقين آخر وإن لم يتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق يوجب عدم شمول الصدر للأطراف وإلا ناقض صدره ذيله.

وأما مالا يشتمل منها على هذا الذيل من أخبار الاستصحاب وغيرها حتى قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « منه بعينه » - على اختلاف الأخبار الواردة في ذلك - فهو سالم عن إشكال مناقضة الصدر للذيل.

أما ما كان من قبيل قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » مما لم يذكر فيه الغاية ، فواضح.

وأما ما كان من قبيل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » ، وقوله علیه السلام » كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » وغير ذلك مما اشتمل على ذكر الغاية فلظهوره أيضا في وحدة متعلق الشك والغاية ، لظهور الضمير في ذلك. وفي الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي لا يتحد متعلق الشك والغاية ، فان متعلق الشك هو كل واحد من الأطراف بعينه ، ومتعلق الغاية هو أحد الأطراف لا بعينه ، فكل واحد من الأطراف يندرج في الصدر بلا أن يعارضه الذيل.

فتحصل : أن دعوى عدم شمول أدلة الأصول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي خالية عن الشاهد بل ظاهر الأدلة خلافها : ولابد من رفع اليد عن ظاهرها في كل مورد لا يمكن التعبد بالمؤدى لعدم انخفاظ رتبة الحكم الظاهري بأحد الأمور المتقدمة : إما لانتفاء الموضوع من الشك والجهل الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، وإما لقصور المحمول وما هو المجعول فيها عن شموله لموارد العلم الاجمالي ، وإما للزوم المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وفيما عدا ذلك فالأصول تجري في الأطراف ويعمها الأدلة بلا معارض.

ص: 23

وحينئذ لا يبقى موقع لاتعاب النفس وإطالة الكلام فيما يستفاد من لفظة « بعينه » الواردة في أخبار أصالة الحل بعد فرض كون أخبار أصالة الحل كسائر أدلة الأصول إنما وردت لبيان الحكم الظاهري وجعل الوظيفة للجاهل بالموضوع أو الحكم الواقعي ، أو خصوص الجاهل بالموضوع ولا تشمل الجاهل بنفس الحكم ابتداء ، على اختلاف الوجهين فيما يستفاد من أخبارها من أنها تختص بالشبهات الموضوعية أو تعم الحكمية أيضا.

نعم : لو كانت الاخبار بصدد بيان الحكم الواقعي وتقييده بصورة العلم بالموضوع أو الحكم لكان للبحث عن مقدار دلالتها من حيث إنها تقتضي التقييد بخصوص العلم التفصيلي بالموضوع أو الحكم أو تعم العلم الاجمالي أيضا مجال ، إلا أن ذلك مع كونه خلاف الفرض - لان المبحوث عنه في المقام هو جريان الأصول العملية المتكفلة للأحكام الظاهرية - يأباه ظاهر الاخبار ، فان الظاهر منها أنها وردت لبيان وظيفة الجاهل بالحكم أو الموضوع بعد الفراغ عن إطلاق الحكم الواقعي.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر الوجه في حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال وعدم جواز الاذن فيها إلا بنسخ الحكم الواقعي أو تقييده بصورة العلم التفصيلي.

وأما الجهة الثانية :

- أعني وجوب الموافقة القطعية - فالأقوى وجوبها أيضا ، لأنه يجب عقلا الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال ، وهو لا يحصل إلا بالاجتناب عن جميع الأطراف ، إذ لو لم يجتنب المكلف عن الجميع وارتكب البعض فلا يأمن من مصادفة ما ارتكبه لمتعلق التكليف المعلوم في البين ، فيكون قد ارتكب الحرام بلا مجوز عقلي أو شرعي ، فيستحق العقوبة : وذلك كله واضح بعد البناء على أن

ص: 24

العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز.

نعم : للشارع الاذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر كما سيأتي بيانه ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلة العامة المتكفلة لحكم الشبهات ، من قبيل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال » أو « كل شيء طاهر » قوله « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله صلی اللّه علیه و آله . « رفع ما لايعلمون » وغير ذلك من أدلة الأصول العملية ، لان نسبتها إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء : ولا يمكن أن تجري في الجميع لأنه يلزم المخالفة القطعية ، ولا في الواحد المعين لأنه يلزم الترجيح بلا مرجح ، ولا في الواحد لا بعينه لان الأصول إنما تجري في كل طرف بعينه : ومقتضى ذلك هو سقوط الأصول بالنسبة إلى جميع الأطراف ، من غير فرق بين الأطراف التي يمكن ارتكابها دفعة واحدة وبين الأطراف التي لا يمكن ارتكابها إلا تدريجا ، لاتحاد مناط السقوط في الجميع : ويبقى حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حاله.

فان قلت : نعم وإن كانت نسبة الأصول إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، إلا أن ذلك لا يقتضي سقوطها جميعا ، بل غاية ما يقتضيه هو التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ، لأنه بعد الاعتراف بعموم أدلة الأصول وشمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي - كما تقدم - تكون حال الأصول العملية حال الامارات على القول بالسببية فيها. وتوضيح ذلك : هو أن التخيير في باب الامارات المتعارضة على ذلك القول إنما هو لأجل وقوع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال ، لعدم القدرة على الجمع بين الامارات المتضادة في المؤدى : ولابد حينئذ

إما من تقييد إطلاق الامر بالعمل بمؤدى كل من الامارتين المتعارضتين بحال عدم العمل بالأخرى - إن لم يكن أحد المؤديين أهم وأولى بالرعاية من الآخر ، وإلا فيقيد إطلاق أمر المهم فقط ويبقى إطلاق أمر الأهم على حاله - واما من سقوط الامرين معا واستكشاف العقل حكما تخييريا لأجل وجود

ص: 25

الملاك التام في متعلق كل من الامارتين على الوجهين المذكورين في باب التزاحم : من أن التخيير بين المتزاحمين هل هو لأجل تقييد إطلاق الخطاب من الجانبين مع بقاء أصله؟ أو هو لأجل سقوط الخطابين واستكشاف العقل حكما تخييريا؟.

والأقوى : هو الوجه الأول ، لان التزاحم إنما ينشأ من عدم القدرة على الجمع بين المتزاحمين في مقام الامتثال ، والمقتضي لايجاب الجمع إنما هو إطلاق كل من الخطابين لحال امتثال الآخر وعدمه ، إذ لو لم يكن للخطابين هذا الاطلاق وكان كل منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر لما كاد يحصل إيجاب الجمع الموجب لوقوع التزاحم بينهما ، ومن المعلوم : أن الذي لابد منه هو سقوط ما أوجب التزاحم وليس هو إلا إطلاق الخطابين : فلا موجب لسقوط أصلهما ، لان الضرورات تتقدر بقدرها. وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في محله : والمقصود في المقام مجرد التنبيه على المختار : من أن التخيير بين المتزاحمين إنما يكون لأجل تقييد إطلاق الامر من الجانبين.

ومن جملة أفراد التزاحم : تزاحم الامارات المتعارضة على القول بالسببية فيها ، لأنه على هذا القول تندرج الامارات المتعارضة في صغرى التزاحم : ولابد من الحكم بالتخيير في الاخذ بإحدى الامارتين لتقييد إطلاق الامر بالعمل بكل منهما بحال عدم العمل بالأخرى ، وحينئذ يستقيم تنظير باب الأصول العملية بباب الامارات ، بتقريب : أن حجية كل أصل عملي إنما تكون مطلقة بالنسبة إلى ما عداه من سائر الأصول لاطلاق دليل اعتباره ، وهذا الاطلاق يكون محفوظا في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي إذا لم يلزم من جريان الأصول في الأطراف مخالفة عملية لعدم التعارض بينها ، فلا موجب لتقييد إطلاق حجيتها : وأما إذا لزم من جريانها في الأطراف مخالفة عملية فلا يمكن بقاء إطلاق الحجية لكل من الأصول الجارية في الأطراف ، لان بقاء الاطلاق

ص: 26

يقتضي صحة جريانها في جميع الأطراف ، والمفروض عدم صحة ذلك ، لأنه يلزم من جريانها في الجميع مخالفة قطعية عملية ، فلابد من رفع اليد عن إطلاق الحجية. ولكن هذا لا يوجب سقوط أصل الحجية من كل أصل في كل واحد من الأطراف ، بل غاية ما يلزم هو تقييد إطلاق حجية كل من الأصلين المتعارضين أو الأصول المتعارضة بحال عدم جريان الأصل الآخر في الطرف المقابل. ونتيجة هذا التقييد هو التخيير في إجراء أحد الأصلين لا سقوطهما رأسا ، فان المانع من إجراء الأصلين معا ليس هو إلا المخالفة العملية ، وهي لم تلزم من نفس حجية الأصلين ، بل من إطلاق حجيتها لحال إجراء الآخر وعدمه ، إذ لو كان حجية كل أصل مشروطا بحال عدم إجراء الأصل الآخر لم تحصل المخالفة العملية ، فالمخالفة العملية انما نشأت من إطلاق الحجية لكل من الأصلين المتعارضين ، فلابد من تقييد حجية كل من الأصلين بحال عدم إجراء الآخر ، كتقييد الامر بالعمل بكل من الامارتين المتعارضتين بحال عدم العمل بالأخرى من غير فرق بينهما ، سوى أن الموجب للتقييد في الامارتين المتعارضتين هو عدم القدرة على العمل بهما جمعا ، وفي الأصلين المتعارضين هو لزوم المخالفة العملية من جرائهما معا.

وحاصل الكلام : أن حجية كل أصل عملي إنما تكون مشروطة بانخفاظ رتبة الأصل كاشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، وكما أنه في باب التكاليف الواقعية تكفي القدرة على امتثال أحد التكليفين المتزاحمين في الحكم بالتخيير بينهما ، فكذلك في باب الأصول العملية يكفي انحفاظ رتبة أحد الأصلين المتعارضين في الحكم بالتخيير بينهما ، ولا إشكال في انحفاظ رتبة كل من الأصلين عند عدم إجراء الآخر ، فلا وجه لسقوطهما معا.

قلت : هذا غاية ما يمكن أن توجه به مقالة التخيير ، وقد ذهب إليه بعض الأعاظم في حاشيته على الفرائد وتبعه بعض أعيان أهل العصر.

ص: 27

ولكن الانصاف : أن القول بالتخيير في الأصول المتعارضة في غاية الوهن والسقوط ، لأنه قول بلا دليل ولا يساعد عليه العقل ولا النقل ، فان التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين لابد وأن يكون لاحد أمرين : إما لكون المجعول في باب الأصول العملية معنى يقتضي التخيير في تطبيق العمل على أحد الأصلين المتعارضين ، وإما لأجل اقتضاء أدلة الحجية ذلك ، ومن الواضح أن المجعول في الأصول ودليل حجيتها لا يقتضي التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ، وقياس الأصول العملية بالامارات في غير محله ، فان التخيير في الاخذ بإحدى الامارتين المتعارضتين على القول بالسببية فيها إنما هو لأجل كون المجعول في الامارات معنى يقتضي التخيير في الاخذ بإحدى الامارتين المتعارضتين.

وتوضيح ذلك : هو أن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين :

أحدهما : اقتضاء الكاشف والدليل الدال على الحكم التخيير في العمل.

ثانيهما : اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضي التعيينية (1).

ص: 28


1- أقول : إطالة الكلام ربما يوجب اغتشاش ذهن المبتدين وذهاب أصل المطلب من البين ، والأولى تلخيصا في الجواب هو أن عموم دليل الأصل بعدما يقتضي الشمول لكل واحد من الطرفين ، فافرض هذا العموم بمنزلة « أكرم العلماء » في المثال ، ثم افرض المخصص العقلي في المقام بمنزلة العلم بخروج إكرام عمرو وزيد ، فنقول : وإن علمنا بخروج كأس زيد المشكوك وكأس عمرو المشكوك المقرونين بالعلم الاجمالي ، ولكن لا نعلم بخروج كل منهما في جميع الحالات أو خروج كل منهما في حال إتيان الاخر ، بحيث يكون وجود كل منهما تحت عموم الحلية في حال دون حال ، فكما أن بعموم « أكرم العلماء » تعين خروج كل واحد من الفردين في حال دون حال ، وكذلك بعموم دليل الحلية لكل واحد من الشكين أيضا تثبت خروج كل واحد من الشكين في حال دون حال ، فعليك حينئذ بابداء الفرق بين المقامين إلى يوم القيامة!. وأيضا لنا أن نقرر المطلب ببيان آخر ، وهو : ان العقل في مورد المتزاحمين ليس له وجه لرفع اليد عن إطلاق الدليلين عن الفعلية أو دليل واحد مع التزاحم في فرديته ، إلا عدم إمكان الجمع بين الفعلين للتكليف بما لا يطاق ، وإن فرض مقامنا أيضا حكم العقل بامتناع الجمع بين الحليتين لا يقتضي هذا المانع إلا رفع اليد عن أحدهما لا كليهما ، سواء كان ذلك من جهة التزامه بالتقيد الحالي في إطلاق « كل شيء لك حلال » مثلا ، أو من جهة كشف العقل عن الحلية التخييرية بعين كشفه في باب المتزاحمين ، وحينئذ ليس لك أن تقول بعد التطويل الممل : إن التخيير في المقام ممكن ليس له دليل. ونسئل عنك بأن تطبيق ما ذكرت في الأمثلة بعينه في المقام بلا زيادة ونقصان ، ولا تظن سوء بذوي الافهام ، ولا تظن لرفع هذه الغائلة على مذهب إطلاق الاخبار والاقتضاء في منجزية العلم بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وحينئذ فعليك بتنقيح علية العلم حتى في هذا المقام ، أو الالتزام بمعارضة مطلقات أدلة الأصول مع عموم وجوب النقض باليقين في ذيل أخبار الاستصحاب ، كما أشرنا ، فتدبر فإنه دقيق نافع.

فمن الأول : ما إذا ورد عام ، كقوله : « أكرم العلماء » وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام ، ولكن شك في أن خروجهما هل هو على وجه الاطلاق بحيث لا يجب إكرام كل منهما في حال من الأحوال؟ أو أن خروجهما ليس على وجه الاطلاق بل كان خروج كل منهما مشروطا بحال عدم إكرام الآخر؟ بمعنى أن يكون عدم وجوب إكرام كل منهما مقيدا بحال إكرام الآخر بحيث يلزم من خروج أحدهما عن العموم دخول الآخر فيه.

وبعبارة أوضح : يدور أمر المخصص بين أن يكون أفراديا وأحواليا لو كان خروج الفردين على وجه الاطلاق ، أو أحواليا فقط لو كان خروج أحدهما في حال دخول الآخر. والوظيفة في مثل هذا الفرض هو التخيير في إكرام أحد الفردين وترك إكرام الآخر ، ولا يجوز ترك إكرام كل منهما ، لان مرجع الشك في ذلك إلى الشك في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء ، ولابد من الاقتصار على المتيقن خروجه وهو التخصيص الأحوالي فقط ، لأنه لو قلنا بخروج الفردين مطلقا في جميع الأحوال يلزم زيادة تخصيص على ما إذا كان الخارج كل منهما مشروطا بدخول الآخر ، فإنه على هذا يدخل أحد الفردين تحت العموم على كل حال ، فلا محيص عن القول بالتخيير في إكرام أحدهما وعدم إكرام الآخر

ص: 29

ولكن الحكم بالتخيير في مثل هذا الفرض إنما نشأ من اجتماع دليل العام وإجمال دليل الخاص بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص ، فان اجتماع هذه الأمور أوجب التخيير في العمل ، وليس التخيير فيه لأجل اقتضاء المجعول ذلك ، بل المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم التعييني ، والتخيير فيه إنما نشأ من ناحية الدليل لا المدلول ، بالبيان المتقدم.

ومن الثاني : ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما ، فان التخيير في باب التزاحم إنما هو لأجل أن المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد المتزاحمين ، لأنه يعتبر عقلا في المجعولات الشرعية القدرة على امتثالها لقبح تكليف العاجز ، والمفروض حصول القدرة على امتثال كل من المتزاحمين عند ترك امتثال الاخر ، ولا موجب لتعين صرف القدرة في امتثال أحدهما بالخصوص ، لان كلا من المتزاحمين صالح لان يكون معجزا مولويا وشاغلا عن الآخر ، إذ كل تكليف يستدعي نفي الموانع عن وجود متعلقه وحفظ القدرة عليه ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال ، فالعقل يستقل حينئذ بصرف القدرة في أحدهما تخييرا ، إما لأجل تقييد التكليف في كل من المتزاحمين بحال عدم امتثال الآخر ، وإما لأجل سقوط التكليفين معا واستكشاف العقل حكما تخييريا لوجود الملاك التام في كل منهما ، على اختلاف المسلكين في ذلك ، كما تقدمت الإشارة إليهما.

وعلى كل حال : التخيير في باب التزاحم لم ينشأ من ناحية الدليل الدال على وجوب كل من المتزاحمين ، بل نشأ من ناحية المدلول والمنكشف ، لما عرفت : من أن المجعول في باب التكاليف إنما يقتضي التخيير في امتثال أحد التكليفين عند تعذر الجمع ، بالبيان المتقدم. وقد استقصينا الكلام في ذلك في محله. والفرق بين التخيير الجائي من قبل الدليل والتخيير الجائي من قبل المدلول ، هو أن التخيير في الأول ظاهري وفي الثاني واقعي ، كما لا يخفى وجهه.

ص: 30

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن القول بالتخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.

أما انتفاء الشاهد من ناحية الدليل : فهو مما لا يكاد يخفى ، فان دليل اعتبار كل أصل من الأصول العملية إنما يقتضي جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه ، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين (1)

وأما انتفاء الشاهد من ناحية المدلول : فلان المجعول في باب الأصول العلمية ليس هو إلا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إما بقيد أنه الواقع ، وإما لا بقيد ذلك - على اختلاف المجعول في باب الأصول التنزيلية وغيرها - ولكن الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة المتقدمة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، بالتفصيل المتقدم ، فعند اجتماع هذه القيود الثلاثة يصح جعل الحكم الظاهري بتطبيق العمل على المؤدى ، ومع انتفاء أحدها لا يكاد يمكن جعل ذلك ، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ، ولا من ناحية المجعول فيها (2).

ص: 31


1- أقول : يكفي دليلا ملاحظة أجمع بين إطلاق دليل الحلية لكل واحد من الفردين على أي حال ، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم ، فيدور الامر بين تخصيص الفردين ، أو تقيد كل واحد بحال عدم ارتكاب الآخر ، ومعلوم : أن التقيد المزبور أولى من التخصيص ، وذلك أيضا هو الوجه في تقييد إطلاق كل واحد من الخطابين في باب المتزاحمين ، ولا يرى بينهما فرقا بين المقامين ، إذ في الصورتين يستكشف من الاطلاق دخول كل واحد في حال دون حال ، فالمستكشف حكم ملازم مع التخيير واقعا والتعبد بإطلاق الكاشف حكم ظاهري. وتوهم الفرق بين التقريب في المثال وباب المتزاحمين بالواقعية والظاهرية في غير محله.
2- 2 - أقول : فيه ما فيه! ولا يكفيه من التوجيه ، إذ الدليل عليه كالنار على المنار ، ولا يبطله إلا تعلق الإرادة السببية على خلافه.

والحاصل : أن مجرد عدم صحة الجمع في إجراء الأصلين المتعارضين لا يوجب الحكم بالتخيير بينهما ، فان الحكم التخييري كسائر الاحكام يحتاج إلى قيام الدليل عليه. وقياس باب الأصول العملية بباب الامارات على القول بالسببية فيها ليس في محله ، لما عرفت من أن التخيير في العمل بإحدى الامارتين المتعارضتين على ذلك القول إنما هو لأجل أن المجعول في الامارات يقتضي التخيير في صورة التعارض لاندراجها في باب التزاحم الذي قد عرفت أن التخيير فيه ينشأ من ناحية المجعول ، بالبيان المتقدم ، وأين هذا من باب الأصول العملية المجعولة وظيفة للشاك في الحكم أو الموضوع؟.

فظهر : أن القول بالتخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ، وإنما أطلنا الكلام في ذلك ، لان شبهة التخيير قد غرست في أذهان بعض طلبة العصر ، وبعد البيان المتقدم لا أظن بقاء الشبهة في الأذهان (1) وسيأتي في آخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك.

فتحصل مما ذكرنا : أن القاعدة في مورد تعارض الأصول تقتضي السقوط ، ويبقى التكليف المنجز المعلوم بالاجمال على حاله (2) والعقل يستقل بوجوب

ص: 32


1- أقول : ولكن لاكل ما يتمنى المرء يدركه! إذ قد تقدم بطلانه بما لا مزيد عليه.
2- أقول : بعدما كان العلم الاجمالي في ظرف عدم الانحلال لا قصور في سببيته ، لاشتغال ذمة المكلف بالمعلوم ، وفي هذه المرحلة لا يكون قابلا لمنع المانع بشهادة ارتكاز الذهن من التناقض بين الالزام المعلوم وترخيصه على ترك هذا المعلوم بنحو الاجمال ، بعين التناقض الذي يرى العقل في هذا الترخيص في العلم التفصيلي ، فلا محيص من الالتزام بأن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة للاشتغال. ولئن شئت فعبر بأن حكم العقل بثبوت التكليف في عهدة المكلف حكم تنجيزي غير قابل لورود ترخيص شرعي مانع عن أصل الاشتغال ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، وحيث ثبت به الاشتغال المزبور ، ينتهي النوبة إلى مرحلة الفراغ ، وفي هذه المرحلة أيضا نقول : إنه لا شبهة في اكتفاء العقل بالفراغ الجعلي ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي ، وحينئذ فكل أمارة أو أصل يوجب تعيين مصداق التكليف الموجب لكونه مصداقا جعليا يكتفى به ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، فلا إشكال ولا شبهة في هذا المقدار. وإلى مثله يرجع موارد الاكتفاء بجعل البدل في أطراف المعلوم بالاجمال ، ففي الحقيقة مرحلة جعل البدل يرجع إلى التصرف في مرحلة الفراغ ، سواء تحقق بعد العلم أو قبله أو مقارنه ، بخلاف مرحلة الانحلال ، فإنه - كما حققناه في محله - تصرف في مرحلة الاشتغال ، ولا يوجب منعا عنه ، إلا في ظرف تقارنه مع العلم لا تقدمه أو تأخره ، وتمام الكلام في محله. والغرض في المقام الإشارة الاجمالية بالفرق بين مقام جعل البدل وبين مرحلة الانحلال ، وأن أحدهما غير مرتبط بالآخر. وبالجملة : لا كلام لنا في هذا المقدار ، وإنما الكلام وعمدة الاشكال في صورة عدم اقتضاء أصل أو أمارة لتعين مصداق المأمور به الذي نسميه بالفراغ الجعلي ، وكنا ممحضا بفرض الشك في الفراغ في ظرف تحقق الاشتغال بأن في هذه الصورة هل للشارع أن يرخص بالارتكاب واكتفاء بمحض الشك في الفراغ أم ليس له ذلك؟. و بعبارة أخرى: تمام الكلام في أنّ حكم العقل في ظرف الاشتغال بتحصيل المقطع بالفراغ هل هو حكم تنجيزي؟ أو تعليقي؟ فعلى الثاني يلزم إمكان مجي ء الترخيص بالاكتفاء بالمشكوك حتّى في العلم التفصيليّ، و إلّا فلو كان حكم العقل المزبور تنجّزيّا فلا يعقل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي، و لو بلا معارض، و حينئذ مركز الكلام من حيث إمكان جريان الأصل في أحد الطرفين في هذه الصورة، و إلّا ففي فرض الانحلال أو جعل البدل بالمعنى المزبور فلا إشكال من أحد فيه، إذ محطّ البحث بعد ثبوت الاشتغال بالعلم الإجمالي من دون وجود مانع فيه في هذه المرتبة و بعد عدم دليل يدلّ على تعيّن مصداق المأمور به الّذي يعبّر عنه بالفراغ الجعلي و بجعل البدل. يبقى الكلام في أنّه هل يجوز للشارع أن يرخّص في ارتكاب ما هو مشكوك المصداق؟ كي يكون حكم العقل بتحصيل الجزم به حكما تعليقيّا قابلا لمنع المانع، أو أنّ هذا الحكم العقلي أيضا تنجيزي غير قابل لورود الترخيص على خلافه؟ كي يلزمه عدم جريان الأصل في أحد الطرفين و لو بلا معارض، و حيث عرفت محطّ الإشكال فليس لك الاستشهاد للجريان بمسألة جعل البدل و موارد الانحلال، إذ تمام الكلام بعد الفراغ، فإذا كان الأمر كذلك فنقول: إنّه لا يتمّ جريان الأصل المزبور إلّا مع الالتزام بتعليقيّة حكم العقل بالفراغ اليقيني عند الاشتغال اليقيني بالتكليف، و إلّا فمع فرض تنجيزيّته لا يبقى مجال جريان الأصل و لو بلا معارض، و إن كانت مرتبة الحكم الظاهري فيه محفوظا. و عليه نقول: لا شبهة و لا ريب في تنجيزيّة حكم العقل المزبور، كما هو الشأن في العلم التفصيليّ، إذ لم يكتف أحد بإتيان العمل مع الشك في تحقّقه مع كونه معنا بسيطا، فضلا عمّا لو كان مقيّدا أو مركّبا مع الشكّ في تحقّق شرطه أو جزئه، بعد الفراغ عن أصل الشرطيّة و الجزئيّة حكما. و توهم أنّ الأصل لا يقتضي الاكتفاء به لعدم عموم يجري فيه بخلاف العلم الإجمالي، مدفوع: بأنّه يكفي فيه عموم «حديث الرفع» الشامل لرفع استحقاق المؤاخذة على ترك الموافقة المشكوكة أو المخالفة الغير المعلومة المستتبع إنّا للترخيص على تركه المانع عن حكم العقل الملزم بعدم الاكتفاء بالمشكوك، و هكذا بقيّة الأصول الجارية في الترخيص على ترك المشكوك الوجوب. و لعمري! انّه لا يرفع هذه الغائلة إلّا تنجيزيّة حكم العقل بالفراغ و عدم الاكتفاء بالمشكوك على وجه لا يبقى محال الجريان لهذه الأصول، و إذا كان كذلك، فنقول: بعين هذا الوجه الّذي لا يجري الأصول في فرض الشّك في الفراغ في العلم التفصيليّ لا يجري هذه الأصول في فرض الشكّ في الفراغ بعد ثبوت الاشتغال في العلم الإجمالي أيضا، لأنّ تنجيزيّة حكم العقل في تحصيل الجزم بالفراغ لا يفرّق بين العلم الإجمالي و التفصيليّ، كما هو واضح.

موافقته والخروج عن عهدته ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد من الشارع. ولا ينحصر

ص: 33

طريق الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال بالقطع الوجداني ، ضرورة أن التكليف المعلوم بالاجمال لا يزيد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، وهو لا ينحصر طريق امتثاله بالقطع الوجداني ، بل يكفي التعبد الشرعي ، كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأصول المجعولة في وادي الفراغ (1) فان كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم الاجمالي أولى منه في ذلك ، لان الواقع لم ينكشف فيه تمام الانكشاف ، فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر ، سواء كان الترخيص واقعيا كما إذا اضطر إلى ارتكاب

ص: 34


1- أقول : الظاهر بقرينة ذيل كلامه أن غرضه من الفراغ هو تحصيل المؤمن ، ولو أنه كان كذلك فلم لا يكتفي بالشك بالموافقة بحديث الرفع - بالتقريب المتقدم في العلم التفصيلي أيضا - وأي فرق بينه وبين قاعدة التجاوز والفراغ؟ فلا محيص حينئذ إلا أن يقول بالفرق بين ما كان لسانه لسان تعين مصداق المعلوم وبين غيره ، فيجوز في الأول الاكتفاء ، لان موضوع الفراغ الذي راجع إلى تحصيل الامتثال أعم من الحقيقي والجعلي ، وأن الغرض من تحصيل الفراغ ذلك ، لا مطلق الترخيص المؤمن بخياله ، ولو مع الشك بالمصداق والامتثال ، وحينئذ فما قرع سمعك : من تحصيل الفراغ ، هو ما ذكرنا الراجع إلى تحصيل الامتثال.

بعض الأطراف ، أو ظاهريا كما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ، على ما سيأتي تفصيله.

والحاصل : أن الذي لابد منه عقلا هو القطع بالخروج عن عهدة التكليف ، والعلم بحصول المؤمن من تبعات مخالفته ، وهذا كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية بترك الاقتحام في جميع الأطراف ، كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبدية بترك الاقتحام في بعض الأطراف مع الاذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر (1) ولو بمثل أصالة الإباحة والبرائة إذا فرض جريانهما في بعض الأطراف بالخصوص ولم يجريا في الطرف الآخر ليقع المعارضة بينهما.

نعم : لا يجوز الاذن في جميع الأطراف ، لأنه إذن بالمعصية ، والعقل يستقل بقبحها ، وأما الاذن في البعض فهو هما لا مانع عنه ، فان ذلك يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلا عن الواقع (2) والاكتفاء بتركه عنه لو فرض أنه صادف المأذون فيه للواقع وكان هو الحرام المعلوم في البين.

ودعوى : أنه ليس للشارع الاكتفاء عن الواقع ببدله مما لا شاهد عليها ، وإلى ذلك يرجع ما تكرر في كلمات الشيخ قدس سره من إمكان جعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع ، فإنه ليس المراد منه تنصيص الشارع بالبدلية ، بل نفس الاذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهرا.

ص: 35


1- أقول : مجرد ترك الاقتحام في البعض لا يكون إلا موافقة احتمالية ، إذ لا معنى للموافقة إلا إتيان مصداق المعلوم ، ولا يكون إلا بجعل الشارع مصداقيته ، لا بصرف تركه مع الاذن بارتكاب الطرف ، إذ لا يكون ذلك إلا الاذن بالاكتفاء بمحتمل المصداقية وهو الذي نمنعه أشد المنع.
2- أقول : الغرض من البدلية إن كان جعله مصداقا للمعلوم فهو متين لو كان له طريق آخر غير هذا الترخيص ، وإلا فلو كان الطريق منحصرا بعموم دليل الترخيص فيدور ، لان شمول دليل الترخيص فرع العلم بالمصداقية ، فكيف يحصل العلم من عموم دليل الترخيص؟ وإن كان الغرض من البدلية الاكتفاء بتركه مع احتمال كونه مصداقا ، فليكن دليل الترخيص يثبت ذلك في العلم التفصيلي أيضا.

ومما ذكرنا ظهر الوجه فيما أفاده الشيخ قدس سره من أن العلم الاجمالي يكون علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضيا لوجوب الموافقة القطعية فان عليته لحرمة المخالفة القطعية إنما هي لأجل عدم جواز الاذن فيها ، بخلاف الموافقة القطعية ، فإنه يجوز الاذن بتركها بالترخيص في البعض ، فدعوى التلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الاجمالي إما أن يكون علة لهما معا وإما أن لا يكون علة لهما ، في غاية الضعف (1) لما عرفت : من أن العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، فكيف يكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية مع أن العلم التفصيلي لا يكون علة تامة له؟!

نعم يصح أن يقال : إن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي يكون علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بتعميم الموافقة القطعية إلى الوجدانية والتعبدية لا خصوص الوجدانية. وذلك كله واضح لا يهمنا إطالة الكلام فيه ، وإنما المهم بيان ما يوجب الترخيص الواقعي أو الظاهري في بعض الأطراف دون الآخر. أما الترخيص الواقعي : فموجبه حدوث أحد الأسباب الرافعة للتكليف واقعا من اضطرار ونحوه ، وسيأتي البحث عنه في بعض التنبيهات.

وأما الترخيص الظاهري : فينحصر موجبه بما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله : وذلك إنما يكون بقيام ما يوجب ثبوت

ص: 36


1- أقول : الانصاف أن لنا مجال دعوى عدم وصولك إلى الغرض من علية العلم للتنجز تفصيليا أم إجماليا ، إذ نقول بأنه ليس المقصود من علية العلم عدم انفكاكه عن العقوبة ، بل المقصود هو عليته لوجوب الامتثال في ظرف الاشتغال ، ولا نعني من التنجز إلا هذا ، لا استحقاق العقوبة على مطلق المخالفة ، وتمام الخلط من هنا. ومن العجب أنه صرح في قوله : « نعم يصح أن يقال الخ » بكون العلمين علة تامة للموافقة القطعية! ومع هذا التصريح يلتزم بجريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض ، حتى مع عدم قيام دليل على كون الطرف مصداقا للمعلوم بالاجمال وإطاعة له ، وذلك هو الذي نحن نقول به ، ولا نلتزم بجريان الأصل بهذا المعنى في واحد من الأطراف ولو بلا معارض ، كما هو ظاهر.

التكليف في بعض الأطراف المعين : من علم أو أمارة أو أصل شرعي أو عقلي ، لكن يبقى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض ، من غير فرق بين أن يكون الموجب لثبوت التكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي أو بعده ، غايته : أنه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وفي الثاني يوجب انحلاله (1).

وتفصيل ذلك : هو أن المثبت للتكليف في بعض الأطراف المعين قد يكون هو العلم ، وقد يكون أمارة ، وقد يكون أصلا شرعيا تنزيليا أو غير تنزيلي ، وقد يكون أصلا عقليا ، وعلى جميع التقادير قد يكون ذلك حاصلا قبل العلم الاجمالي ، وقد يكون حاصلا بعده ، وأمثلة الكل وإن كانت لا تخفى على المتأمل ، إلا أنه لا بأس بذكرها تشريحا للذهن.

أما أمثلة ما إذا كان المثبت للتكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فيجمعها ما إذا علم تفصيلا بحرمة شيء معين لنجاسته أو غصبيته أو غير ذلك من أسباب الحرمة ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو كان مستصحب الحرمة ، أو كان مما تجري فيه أصالة الحرمة لكونه من الدماء والفروج والأموال ، أو كان مما يجب الاجتناب عنه عقلا لكونه من أطراف العلم الاجمالي ، ثم بعد ذلك حدث موجب آخر للحرمة من سنخ السبب السابق وتردد متعلقها بين أن يكون هو ذلك الشيء المعين الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا أو شيئا آخر ، ففي جميع هذه الصور العلم الاجمالي الحادث مما لا أثر له ، لسبق التكليف بوجوب

ص: 37


1- أقول : ولا يخفى ما فيه من الخلط ، حيث إنه جعل باب جعل البدل والانحلال من واد واحد ، مع أنك قد عرفت أن الأول تصرف في مرتبة الفراغ بعد تأثير العلم في الاشتغال ، والثاني تصرف في مرتبة تأثير العلم في الاشتغال ، بل وقد ذكرنا أن ذلك لا يكون منتجا لاقتضاء العلم الاجمالي في التنجيز ، وإنما المنتج فيه جواز الترخيص في أحد الطرفين بلا جعل بدل أو انحلال ، كما لا يخفى. وتوهم عدم مورد له ، مدفوع بما سيجيء من وجود المورد له ( إن شاء اللّه تعالى ).

الاجتناب عن بعض أطرافه ، ويحتمل أن يكون متعلق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا ، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر : والعلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الاجتناب عن أطرافه إذا كان علما بالتكليف (1).

وبتقريب آخر : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الموافقة القطعية إذا كانت الأصول النافية للتكليف الجارية في الأطراف متعارضة ، وفي جميع الفروض المتقدمة لا تكون الأصول متعارضة ، لان أحد طرفي العلم الاجمالي لا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لوجوب الاجتناب عنه على كل حال ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل النافي بلا معارض ، فلا موجب للاجتناب عنه (2).

نعم : لو كان الموجب الحادث يقتضي أثرا زائدا عما كان يقتضيه السبب السابق ، كما إذا كان السبب لوجوب الاجتناب عن الشيء المعين هي النجاسة التي لا يجب التعدد في غسلها كالدم وكان الموجب الحادث مما يجب فيه التعدد كالبول ، فالعلم الاجمالي يؤثر بمقدار الأثر الزائد ، والأصول بالنسبة إليه متعارضة ، وسيأتي توضيحه.

هذا كله لو علم بحدوث سبب آخر للتكليف غير ما كان سابقا. وقس عليه ما إذا احتمل ذلك ، كما إذا قامت البينة على نجاسة أحد الانائين بلا ذكر

ص: 38


1- أقول : ولو لم يعلم بحدوث التكليف حينه ، بشهادة أنه لو حدث مثل هذا العلم مع احتمال سبق التكليف بلا علم به فإنه يتنجز بلا شبهة ، مع أنه يصدق بعدم العلم بحدوث تكليف جديد ، فعنوان العلم بحدوث التكليف لغو في المقام ، وتمام المدار على العلم بوجود تكليف حين وجوده ، وهو حاصل في المقام ، فلابد من منع تنجزه من بيان آخر ، لا بهذا البيان.
2- أقول : وأوهن من التقريب السابق هذا التقريب ، لان جريان الأصل في ظرف عدم جعل الموافقة والمصداق تعبدا فرع إسقاط العلم عن تأثيره في الاشتغال ، وإلا فبعد ثبوت الاشتغال العقل يحكم حكما جزميا بلزوم تحصيل الجزم بالامتثال وعدم القناعة بالشك فيه ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، كما تقدم. وحينئذ جريان الأصل من توابع العلم بالانحلال لا العكس، والفرض أن هذا العلم أيضا لا يحصل باطلاق أدلة الترخيص للدور ، كما هو الشأن في جعل البدل أيضا.

السبب بعد العلم بنجاسة أحدهما المعين أو ما يلحق بالعلم واحتمل أن يكون سبب النجاسة التي قامت عليه البينة غير النجاسة التي علم بها سابقا ، فإنه أيضا لا يكون العلم الاجمالي الحاصل من قول البينة علما بتكليف زائد عما علم به أولا ، كما لا يخفى وجهه.

وأما أمثلة ما إذا حصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف بعد العلم الاجمالي ، فيجمعها أيضا ما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الشيئين لا على التعيين ثم بعد ذلك علم تفصيلا بحرمة أحدهما المعين ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو شك في بقاء حرمته السابقة لكي يجري فيه استصحاب الحرمة التي كانت ثابتة فيه قبل العلم الاجمالي ، أو تبين أن أحد الشيئين المعين كان من الدماء والأموال والفروج لكلي تجري فيه أصالة الحرمة ، أو ظهر أن أحدهما المعين كان طرفا لعلم إجمالي سابق على العلم الاجمالي بحرمة أحدهما.

ففي جميع هذه الصور ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الاجتناب عن غير ما ثبت التكليف به ، لان الأصل النافي للتكليف يجري فيه بلا معارض (1) كما في صورة ثبوت التكليف به قبل العلم الاجمالي.

فان قلت : كيف ينحل العلم الاجمالي بذلك مع سبق تأثيره في وجوب الاجتناب عن أطرافه؟ نعم : لو ثبت أن متعلق التكليف المعلوم بالاجمال هو ذلك المعين لكان للانحلال وجه ، وأما لو لم يثبت ذلك فالعلم الاجمالي لا ينحل ، ومجرد ثبوت التكليف في المعين لا يقتضي انحلاله ، فان ذلك لا يزيد على العلم التفصيلي بحدوث سبب التكليف في البعض المعين بعد العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين أن يكون متعلقا بذلك المعين أو بغيره ، كما لو وقعت قطرة من الدم في أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، ولا إشكال في عدم

ص: 39


1- أقول : هذا التعليل عليل ، كما أشرنا.

انحلال العلم الاجمالي في هذا الفرض ، وليس وجهه إلا سبق تأثير العلم الاجمالي ، وهذا الوجه يجري فيما إذا ثبت نجاسة أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما لا على التعيين ، فان العلم الاجمالي أيضا قد سبق في التأثير ، فلا أثر لثبوت نجاسة المعين بعد ذلك ما لم يثبت أنها هي المعلومة بالاجمال ، كما هو مفروض الكلام.

قلت : مجرد حدوث العلم الاجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ، بل يعتبر أيضا بقائه على صفة حدوثه ، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علما بالتكليف لاحتمال سبق التكليف عليه - كما في الأمثلة المتقدمة - فلا محالة ينحل ويسقط عن التأثير قهرا ، إذ لم يعتبر العلم الاجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم لعدم أخذه موضوعا في أدلة التكاليف ، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقا إلى متعلقه وكاشفا عنه ، فلابد من ملاحظة المعلوم والمنكشف به ، فان كان هو من التكاليف فالعلم الاجمالي به يوجب تنجزه والخروج عن عهدته بالاجتناب عن جميع أطرافه ، وإن لم يكن المعلوم والمنكشف من التكاليف فالعلم الاجمالي به لا يقتضي شيئا ولا يؤثر أثرا ، ومع سبق التكليف في بعض الأطراف على العلم الاجمالي - وإن تأخر العلم به عن العلم الاجمالي - يخرج العلم الاجمالي عن كونه طريقا وكاشفا عن التكليف ، لاحتمال أن يكون المنكشف به قد تعلق بما سبق التكليف به.

وحاصل الكلام : أنه إذا وجب الاجتناب عن بعض الأطراف المعين في الزمان السابق على العلم الاجمالي وثبت ذلك بأحد الوجوه المتقدمة بعد العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي يتبدل ويتغير عما كان عليه ويخرج عن كونه علما بالتكليف وهذا بخلاف ما إذا حدث سبب وجوب الاجتناب عن المعين بعد العلم الاجمالي ، كما إذا أصاب أحد الانائين المعين نجاسة بعد العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الاناء الآخر ، فإن العلم الاجمالي في المثال لم يتبدل عما كان عليه ، لان

ص: 40

المنكشف به غير النجاسة الحادثة في المعين : ومعه كيف يعقل أن تكون النجاسة الحادثة رافعة لاثر العلم الاجمالي؟ بل الامر بالعكس ، فان العلم الاجمالي يكون رافعا لاثر النجاسة الحادثة لأنها حدثت في محل كان يجب الاجتناب عنه بسبب آخر سابق عليها ، فقياس حدوث العلم الاجمالي بعد وجود سبب الاجتناب عن المعين على حدوث سبب الاجتناب عنه بعد العلم الاجمالي ليس في محله ، لان المقيس والمقيس عليه متعاكسان في الحكم ، فإنه في المقيس عليه لا أثر للسبب الحادث في المعين بعد العلم الاجمالي ، وفي المقيس لا أثر للعلم الاجمالي الحادث بعد سبق التكليف في المعين ، وحق القياس أن يقاس ما نحن فيه على ما إذا كان العلم بوجوب الاجتناب عن المعين حاصلا قبل العلم الاجمالي ، لما عرفت من أنه لا فرق بينهما سوى أن ذلك يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وما نحن فيه يوجب انحلاله ، وهذا مجرد اصطلاح ، والنتيجة لا تختلف ، وهي ثبوت التكليف في المعين من غير ناحية العلم الاجمالي ، فلا يكون العلم طريقا إلى إحرازه ، ويلزمه انحلال العلم حقيقة (1).

ص: 41


1- أقول : حيث انجر الكلام إلى باب انحلال العلم الاجمالي ، فلا بأس ببسط الكلام ، كي يرتفع به ما وقع من الأوهام ، فنقول - وعليه التكلان - إن موجب الانحلال تارة قيام العلم بالتكليف في أحد الطرفين أو أمارة كذلك أو أصل مثبت شرعي أو عقلي ولو قاعدة الاشتغال ، كما أن محط البحث أيضا صور قيام الطريق أو الأصل على وجود التكليف في الطرف المعين بلا عنوان ، وإلا فلو قام الطريق على تعين المعلوم بالاجمال فيه فهو خارج عن باب الانحلال وداخل في باب جعل البدل المعين لمصداق المعلوم بالاجمال ، ويكتفى به ولو قام بعد العلم الاجمالي أيضا. ثم في فرض قيام الطريق على التكليف بلا عنوان سواء كان قبل العلم أو بعده أو مقارنه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي حقيقة ، ولو كان الطريق علميا ، لان ميزان وجود العلم الاجمالي وجود لازمه من الشكين التفصيليين في الطرفين ، وهذا الشك مع وجود العلم المزبور موجود بعينه بملاحظة احتمال كون المعلوم بالتفصيل غيره ، وذلك يلازم احتمال عينيته ، وهو ملازم لاحتمال وجود المعلوم في كل واحد من الطرفين ، غاية الامر على تقدير عين المعلوم بالتفصيل وعلى تقدير غيره. و من هذه الجهة نقول: إنّه لا معنى لانحلال العلم الإجمالي في المقام حقيقة، و إنّما كان كذلك في انحلال العلم في باب الأقلّ و الأكثر. فانّه لا مجال لتوهّم بقاء العلم على إجماله، لعدم احتمال كونه غير المعلوم تفصيلا، فلا محيص في مثله بأن كان من قبيل ضمّ مشكوك بمعلوم. ثمّ لا يخفى أنّ كلّ علم أو طريق إنّما يتنجّز التكليف في ظرف وجوده، لا أنّه بحدوثه يحدث التنجز إلى الأبد و إن زال العلم أو الطريق، و حينئذ سبق العلم التفصيليّ بالتكليف مثلا لا يجدي شيئا في المقام، لأنّ تأثيره السابق في تنجّز معلومه غير مرتبط بتنجّز العلم الإجمالي، و ما هو مضرّ به هو بقاء تأثيره إلى حين العلم الإجمالي، و من هذه الجهة يجري عليه حكم المقارن، كما أنّ المدار في باب الانحلال العلم بالتكليف الفعلي المردد بين كونه عين المعلوم تفصيلا أم غيره و إن لم يعلم بحدوث التكليف من قبل العلم بسببه، إذ المدار ليس على العلم بحدوث التكليف جديدا، بل تمام المدار بالعلم بوجود التكليف حين حدوث السبب، و ذلك بعينه موجود حينه، و حينئذ لا يبقى في البين مجال توهّم ذهاب العلم الإجمالي بوجود العلم التفصيليّ و انقلابه إليه حقيقة، و عليه فلا محيص من الالتزام بمنع العلم بالتفصيلي عن تأثير العلم الإجمالي، لا عن نفسه، كما هو الشأن في الانحلال بالأمارة و الأصل المثبت للتكليف، و لا نعني من الانحلال الحكمي إلّا ذلك، و حيث اتّضح لك ذلك نقول: إنّ عمدة وجه المنع عن تأثير العلم الإجمالي ليس إلّا جهة منجّزية العلم التفصيليّ الحاصل من حين وجوده حال العلم الإجمالي، و إلّا فتأثيره في الزمان السابق غير مضرّ بالعلم، كما عرفت. و عليه فنقول أيضا: إنّ من المعلوم أنّ لتكليف واحد لا يتصوّر إلّا تنجّز واحد، و مع قيام العلم التفصيليّ مقارنا للعلم الإجمالي يحتمل اتّحاد التكليف الغير القابل لتأثير العلم، و مع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لحكم العقل بمنجّزيّة العلم الإجمالي، إذ معنى منجّزيّة العلم الإجمالي كونه مؤثّرا في المعلوم على الإطلاق، و هذا المعنى غير معقول، فلا يبقى في البين إلّا كون العلم مؤثرا على تقدير، و من المعلوم: أنّ التكليف على تقدير لا يكون متعلّق العلم، بل هو مشكوك تفصيلا، فما هو معلوم ليس إلّا معنى قابلا للانطباق في كلّ طرف، و هذا المعنى يستحيل تنجّزه من قبل العلم الإجمالي، و ما هو قابل للتنجّز هو التكليف المحتمل في الطرف الآخر، و هو ليس معلوما إجمالا، لعدم قابلية انطباقه على الطرف المعلوم تفصيلا، و من هذه الجهة يسقط العلم عن السببيّة في الاشتغال و جعل المعلوم في عهدة المكلّف، فصار وجوده كالعدم، فلا بأس حينئذ بجريان الأصول النافية في الطرف الآخر، ففي الحقيقة وجه جريان الأصل النافي في المقام من جهة سقوط الأصل عن التأثير، لا من جهة صرف عدم المعارضة، كما توهّم. و هذا معنى كون الانحلال موجبا للتصرّف في مرتبة الاشتغال، كما أشرنا إلى الفرق بينه و بين جعل البدل الذي هو تصرف في مرتبة الفراغ. ثمّ إنّه بعد ما عرفت ذلك ترى هذا الوجه بعينه في الأمارة المثبتة و أصله، من دون فرق بين الجميع في المنع عن تأثير العلم، كما أنّ المدار في المنع المزبور مقارنة العلم الإجمالي مع التفصيليّ في الوجود، و لو كان العلم التفصيليّ متأخّرا فقهرا يحصل في البين علمان إجماليّان: أحدهما دفعيّا، و الآخر تدريجيّا بين الطرف قبل العلم و الطرف الآخر بعده، و من المعلوم: أنّ العلم الدفعي أيضا يسقط عن التأثير حين العلم التفصيليّ، لأنّ تأثير السابق ملغى، و التأثير حين العلم مستند إليهما لا إلى الإجمالي. و بعده يستحيل أيضا تأثر المعلوم القابل للانطباق على كلّ طرف من قبل العلم الإجمالي، و أمّا العلم التدريجي يبقى على تأثيره بلا انحلال، كما هو الشأن في التلف بعد العلم، فانّ المنجّز فيه أيضا هو العلم التدريجي الموجود فعلا، لا أنّ العلم بحدوثه أثّر في التنجّز إلى الأبد، كما توهّم. و من هذه الجهة نفرّق بين العلم التفصيليّ الحاصل قبل العلم الإجمالي و بعده من دون فرق أيضا بين أن يكون متعلّق العلم التفصيليّ الحادث التكليف السابق على المعلوم بالإجمال أو مقارنه أو اللاحق له، إذ ليس المدار في منجّزيّة العلم الإجمالي على العلم بحدوثه من قبله كي ينقلب بعد العلم بالتكليف السابق، بل المدار على العلم بوجود التكليف حينه و إن احتمل حدوثه قبله، و لذا لو لم يكن في البين علم تفصيلي لاحق لا شبهة- حتّى عند الخصم- بمنجّزيّة هذا العلم الإجمالي مع احتمال عدم حدوث التكليف حينه، فذلك كاشف جزميّ بأنّ تمام المدار في منجّزيّة العلم الإجمالي هو وجود التكليف حينه لا حدوثه، و معلوم: أنّ هذا المعنى لا ينقلب إلى يوم القيامة، كان في البين علم تفصيلي أو لم يكن، و حينئذ فالعلم المزبور بالنسبة إلى الطرف قبل العلم و الطرف الآخر بعده بنحو التدريج باق بحاله بلا قيام طريق مثبت بالنسبة إلى طرفي هذا العلم، فلا مانع عن بقاء منجّزيّته بلا صلاحية العلم التفصيليّ للمنع عن تأثيره، لعدم قيامه على أحد طرفيه، و سيجي ء (إن شاء اللَّه تعالى) أنّه لا فرق في منجّزيّة العلم بين الأطراف الدفعيّة أو التدريجيّة، و عليك بالتأمّل في المقام، ترى ما في كلمات الماتن مواقع النّظر و الإشكال. و لئن تأمّلت ترى نقطة البحث بيننا و بينه في هذه المسألة هو أنّ منشأ جريان الأصل في الطرف الآخر هل هو من جهة نقص في العلم الإجمالي في المنجّزية و لو من جهة انعدامه حقيقة أو تنزيلا؟ أو من جهة نقص في المعلوم من حيث التنجّز من قبله؟ فتمام نظر الماتن إلى الأوّل و لذا لا يفرّق بين العلم التفصيليّ بعده أو مقارنه لاشتراط بقاء العلم على ما هو عليه في المنجّزيّة. و تمام نظرنا إلى الثاني، و لذا نفرّق بين الصورتين.

وما ربما يظهر من بعض : من تسمية ما نحن فيه بالانحلال التعبدي ، فليس

ص: 42

كما ينبغي : إذ لا معنى للتعبد بالانحلال ، فان الانحلال وعدمه يدور مدار كون

ص: 43

العلم الاجمالي طريقا إلى ثبوت التكليف وعدمه ، فان كان العلم طريقا إليه فلا يعقل انحلال العلم الاجمالي ، وإن لم يكن طريقا إليه وكان ثبوت التكليف في أحد الأطراف من طريق آخر غير العلم الاجمالي - ولو كان هو علما إجماليا سابقا عليه - فلا يعقل عدم انحلاله ، بل ينحل لا محالة انحلالا خارجيا ، لعدم بقاء العلم على حاله وجدانا : فالانحلال لا يكون إلا حقيقيا.

نعم : ما يتحقق به الانحلال قد يكون هو العلم الوجداني ، وقد يكون أمارة أو أصلا شرعيا أو عقليا ، كما عرفت ذلك كله في الأمثلة المتقدمة : والاختلاف إنما يكون في المحقق للانحلال لا في نفس الانحلال ليكون الانحلال على قسمين : حقيقا وتعبديا. وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، لان البحث يرجع إلى التسمية لا إلى النتيجة.

فتحصل مما ذكرنا : أنه مهما كان في بعض أطراف العلم الاجمالي أصل مثبت لوجوب الاجتناب عنه ، فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ويجري فيه الأصل النافي للتكليف بلا معارض.

ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا من انحلال العلم الاجمالي إذا كان في بعض الأطراف أصل مثبت للتكليف دون الآخر ، بين أن يكون الأصل المثبت للتكليف في البعض موجودا من أول الامر كما إذا كان أحد الانائين قبل تعلق العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو بعده مستصحب النجاسة ، وبين أن يوجد أصل مثبت للتكليف في البعض بعد سقوط الأصول النافية للتكليف الحاكمة عليه كما إذا علم بعد الفراغ من الصلاة بفوات سجدتين وشك في أنها من ركعة واحدة أو ركعتين ، فيعلم إجمالا بوجوب أحد الامرين : من إعادة الصلاة أو قضاء السجدتين ، والأصول النافية للتكليف في المثال كلها ساقطة.

أما قاعدة الفراغ الجاري في مجموع الصلاة : فلان مفادها نفي التكليف رأسا عن كل من إعادة الصلاة وقضاء السجدتين ، خصوصا إذا كانت قاعدة الفراغ

ص: 44

من الأصول المحرزة ، فان مفادها يكون حينئذ وقوع المشكوك فيه وعدم فوات السجدتين من الصلاة ، وهذا كما ترى ينافي العلم بفواتها ، فمؤدى قاعدة الفراغ في المثال يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، نظير أصالة الإباحة في دوران الامر بين المحذورين.

وأما قاعدة التجاوز الجارية في كل من الركعتين اللتين يعلم بفوات السجدتين منهما : فلانه يلزم من جريانها فيهما مخالفة عملية. هذا إذا لم نقل بأنها من الأصول المحرزة ، وإلا فهي لا تجري وإن لم يلزم منها مخالفة عملية - كما تقدم بيانه - فإذا سقطت الأصول النافية للتكليف تصل النوبة إلى الأصل المحكوم بها وهو استصحاب عدم الاتيان بالسجدة من كل ركعة واستصحاب عدم الاتيان بالسجدتين من الركعة الواحدة ، والاستصحابان يقتضيان إعادة الصلاة وقضاء السجدتين معا ، وهو وإن لم يلزم منه مخالفة عملية ، إلا أنه لما كان الاستصحاب من الأصول التنزيلية وهي لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة علمية ، فالاستصحابان يسقطان أيضا بالتعارض ، وتصل النوب إلى الأصول الحكمية المحكومة بالاستصحاب ، وهي أصالة بقاء الاشتغال بالصلاة عند الشك فيها في الوقت المقتضية لإعادة الصلاة وأصالة البراءة عن وجوب قضاء السجدتين ، فينحل العلم الاجمالي ببركة قاعدة الاشتغال المثبتة للتكليف بالإعادة.

وبالجملة : لو فرض أن في الأطراف أصولا متعددة نافية للتكليف وكان في أحد الأطراف أصل مثبت للتكليف محكوم بالأصول النافية السابقة في الرتبة عليه ، فعند سقوط الأصول النافية ووصول النوبة إلى الأصل المثبت ينحل العلم الاجمالي ، كما إذا كان من أول الامر في أحد الأطراف أصل مثبت للتكليف غير محكوم بالأصل النافي.

ص: 45

وهم ودفع :

أما الوهم : فهو أنه كيف يمكن انحلال العلم الاجمالي بالأصل المثبت للتكليف في البعض مع أن قوام جريان الأصل المثبت هو العلم الاجمالي؟ بداهة أن المنشأ لسقوط الأصول النافية للتكليف ووصول النوبة إلى الأصل المثبت له إنما كان هو العلم الاجمالي ، إذ لولاه لم تقع المعارضة بين الأصول النافية لتسقط ، ولولا سقوط الأصول النافية لم تصل النوبة إلى الأصل المثبت ، فلو كان الأصل المثبت للتكليف يقتضي انحلال العلم الاجمالي لزم من وجوده عدمه ، لان انحلال العلم الاجمالي يوجب رجوع الأصول النافية لأنه المنشأ لسقوطها ، ورجوع الأصول النافية يوجب عدم جريان الأصل المثبت لأنه محكوم بها ، فيلزم من جريان الأصل المثبت عدم جريانه.

وأما الدفع : فحاصله : أن انحلال العلم الاجمالي لا يوجب رجوع الأصول النافية لكي يلزم من رجوعها عدم جريان الأصل المثبت ، فان العلم الاجمالي بما أنه علم ليس علة لسقوط الأصول النافية لترجع عند انحلاله ، بل العلة لسقوطها هي عدم انحفاظ رتبتها ولزوم المخالفة العملية من جريانها ، وهذه العلة كما تقتضي سقوطها عند وجود العلم الاجمالي ، كذلك تقتضي عدم رجوعها عند انحلال العلم الاجمالي.

والحاصل : أن الأصول النافية لا ترجع بعد سقوطها ، لأنه يلزم من رجوعها سقوطها لبقاء علة السقوط بعد الرجوع ، فإذا لم ترجع الأصول النافية يبقى الأصل المثبت مستقرا وينحل به العلم الاجمالي ، فتأمل جيدا.

تتمة :

لو فرض أنه كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله

ص: 46

ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت للتكليف من غير ناحية العلم الاجمالي ، فالعلم الاجمالي ينحل به أيضا ، كما ينحل بالأصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف ، لان الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمن.

ولكن فرض أن يكون في أحد الطرفين أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت له بعيد ، بل الظاهر أنه لا يمكن.

نعم : يمكن فرضه في الأصل الجاري في وادي الفراغ وناحية الامتثال ، كما لو علم إجمالا بعد دخول المغرب بفوات إحدى الفرائض الخمس من هذا اليوم وترددت بين كونها الظهر أو المغرب ، فإنه في مثل الفرض تجري قاعدة الشك بعد الوقت النافية للتكليف عن الظهر وينحل بها العلم الاجمالي.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن المثال ليس مما نحن فيه ، لوجود الأصل المثبت في أحد طرفي العلم الاجمالي وهو أصالة الاشتغال الجارية في صلاة المغرب مع بقاء وقتها ، فالانحلال إنما يكون بالأصل المثبت.

وبالجملة : فرض خلو أحد الأطراف عن كل من الأصل المثبت للتكليف والنافي له مما لم نعثر على مثاله.

وقد يتوهم : أن العلم بنجاسة أحد الانائين اللذين كان أحدهما متيقن الطهارة قبل العلم الاجمالي دون الآخر يكون مثالا لما نحن فيه ، بتقريب : أن الاستصحاب الطهارة في متيقن الطهارة يعارض أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر فيسقطان ، وتصل النوبة حينئذ إلى أصالة الطهارة في مستصحب الطهارة ، وهي سليمة عن المعارض لسقوط معارضها في المرتبة السابقة ، وليست أصالة الطهارة في مستصحب الطهارة في مرتبة استصحابها لتسقط بسقوطه ، لأنها محكومة ، فهي في ظرف جريان الاستصحاب لا تجري ، وفي ظرف جريانها لا يكون لها معارض

ص: 47

هذا ، ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، لان تعارض الأصول إنما هو باعتبار تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها ، والمؤدى في كل من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة ، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة في كل من الانائين ، فكل من مؤدى استصحاب الطهارة وقاعدتها في متيقن الطهارة يعارض مؤدى قاعدة الطهارة في الاناء الآخر ، فتسقط جميعا في عرض واحد (1) وحكومة الاستصحاب على القاعدة لا أثر لها في المقام ، وإنما يظهر أثرها في الشك السببي والمسببي.

والحاصل : أن تعارض الأصول وسقوطها إنما هو باعتبار أن المجعول فيها معنى يؤدي إلى المخالفة العملية ، فلابد من ملاحظة ما هو المجعول في الأصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، فان كان المجعول فيها معنى يؤدى إلى المخالفة العملية فلا محالة يقع التعارض بينها وتسقط ، ولو فرض أنه كان في أحد الأطراف أصول متعددة وفي الطرف الآخر أصل واحد ، فان الأصل الواحد يعارض جميع تلك

ص: 48


1- أقول : لم يبق أحد شبهة في أن جعل الطهارتين في طرف واحد وفي عرض فارد مستحيل ، كما أنه لا شبهة لاحد أيضا في أن منشأ تعارض الأصول بملاحظة مؤداتها الموجب لطرح العلم الاجمالي ، وإنما الكلام في أنه لم لا يمكن في مقام الثبوت جعل طهارتين طوليين بنحو لا يكاد اجتماعهما في زمان بل ورتبة واحدة؟ ولو لمصلحة ثبوت المتأخر عند عدم ثبوت السابق ، فينتج في المقام جريان الطهارة في أحد الطرفين بلا معارض ، ومع الاغماض عن هذه الجهة لم لا يمكن جعل الشارع للطهارة الواحدة المجعولة طريقين؟ أحدهما في مرتبة الدلالة في طول الآخر ، بحيث لا يصل النوبة إلى عموم الثاني الذي هو أحد الطريقين إلا بعد سقوط العموم الأول ولو بالتعارض. و لعمري! أنّ الجواب في المقام كالجواب عن التخيير في جريان الأصول النافية ليس إلّا مجرّد المصادرة و دعوى بلا دليل يعرف البصير الناظر أنّه ليس الالتزام بما التزم إلّا من باب ضيق الخناق و تشبّث الغريق بكلّ حشيش!. فمن الأوّل تلتزم بما أسلفناه تستريح من هذه النقوض الواضحة البيّنة الّتي تكون في الوضوح- لو لا انغراس الشبهة- كالنار على المنار و كالشمس في رابعة النهار.

الأصول (1) ولا يلتفت إلى ما بينها من الحكومة واختلاف المراتب بعد اتحاد المجعول فيها وعدم اختلافها في المؤدى ، وذلك واضح وإن خفي على بعض الاعلام.

ولا يتوهم : أن ذلك يقتضي عدم جواز العمل بالامارة القائمة على طهارة أحد الانائين ، بتخيل أن مؤدى الامارة يعارض مؤدى أصالة الطهارة الجارية في الاناء الآخر.

فان قيام الامارة على طهارة أحد الانائين تدل بلازمها عل نجاسة الآخر ، فيندرج فيما تقدم : من قيام أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف ، وأين هذا من الأصول العملية التي لا عبرة بلوازمها وملزوماتها؟ فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية في الشك في المكلف به.

بقي التنبيه على أمور
الأول :

لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية بين أن يكون متعلق العلم عنوانا معينا ذا حقيقة واحدة كما لو كان المعلوم بالاجمال خصوص نجاسة أحد الانائين أو خصوص غصبية أحدهما ، وبين أن يكون المتعلق عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما لو كان المعلوم

ص: 49


1- 1 - أقول : وهل الأصل الواحد يعارض أصلا غير جاري في المورد في طرف جريانه؟ فلا تعارض إلا ما هو الجاري ليس إلا ، وحينئذ عليك باثبات جريان قاعدة الطهارة في عرض الاستصحاب في طرفها ، أو باثبات عدم جريان القاعدة حتى مع عدم الاستصحاب ، لا سبيل لك في الأول ، لان تطبيق موضوعه منوط بعدم الاستصحاب ، فكيف يكون في عرضه؟ كما أنه لا سبيل إلى الثاني ، إذ لازمه عدم جريان القاعدة ولو مع عدم الاستصحاب ، وهو أيضا رفع اليد عن عموم دليله بلا دليل ، كما لا يخفى

بالاجمال مرددا بين النجاسة والغصبية.

والمحكي عن الحدائق : اعتبار أن يكون المعلوم بالاجمال عنوانا معينا غير مردد ، فالعلم الاجمالي بتحقق أحد العنوانين في أحد الانائين لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية.

ولا يخفى ضعفه ، فان تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة إنما هو لأجل كشفه عن الالزام المولوي بعثا أو زجرا ، وتردد المعلوم بالاجمال لا يوجب قصورا في كشفه ، لأنه يعلم بتعلق النهي المولوي عن التصرف في أحد الانائين على كل تقدير ، إما لكونه غصبيا ، وإما لكونه نجسا ، فلابد من الخروج عن عهدة التكليف بترك التصرف في كل من الانائين وترتيب الاحكام الخاصة لكل من النجاسة والغصب إذا كان لكل منهما حكم خاص لا يشاركه الآخر فيه غير الاحكام المشتركة بينهما ، لان العلم بتحقق أحد العنوانين يستلزم العلم بثبوت أحد الحكمين والأصول النافية متعارضة من الجانبين ، فلابد من الموافقة القطعية لكل من الحكمين ، إلا إذا فرض أن لاحد العنوانين حكما يخصه لا يشاركه الآخر فيه ولا يكون للآخر حكم خاص ، فان الأصل النافي للحكم الخاص يجري بلا معارض ، كما لا يخفى.

الامر الثاني :

إلزام العقل بالاحتياط في أطراف العلم إنما هو للارشاد إلى التخلص عن تبعة مخالفة التكليف المعلوم في البين ، فلا يترتب على مخالفة الاحتياط أزيد مما يترتب على مخالفة الواقع ، وقد تكرر منا الكلام في ذلك ، فلا حاجة إلى إعادته.

الامر الثالث :
اشارة

يعتبر في تأثير العلم الاجمالي إمكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف ، فلا أثر

ص: 50

للعلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء

وتوضيح ذلك : هو أن المطلوب في باب النواهي مجرد الترك واستمرار العدم وعدم نقضه بالوجود ، كما أن المطلوب في باب الأوامر هو مجرد الفعل ونقض العدم الأزلي ، ولا إشكال في اعتبار القدرة العقلية على كل من طرفي الفعل والترك في صحة كل من الأمر والنهي وإلا لزم التكليف بما لا يطاق أو بتحصيل الحاصل ، ففي اعتبار القدرة العقلية يشترك الأمر والنهي ، ولكن يختص النهي بقيد زائد ، وهو أنه يعتبر في صحته مضافا إلى القدرة العقلية على الفعل المنهي عنه القدرة العادية عليه ، بحيث يتمكن المكلف عادة من نقض العدم وفعل المنهي عنه ، ولا يكفي في صحة النهي مجرد القدرة العقلية على الفعل ، لاستهجان التكليف بترك مالا يقدر على فعله ، فان الترك حاصل بنفسه. والتكليف المطلق بترك ما يكون منتركا عادة يكون كالتكليف المطلق بترك ما يكون منتركا عقلا من حيث اللغوية والاستهجان ، فلا يصح النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مع عدم إمكان الابتلاء به عادة.

نعم : يصح النهي عنه مقيدا بصورة حصول القدرة العادية ولو على خلاف العادة (1) وإنما زيد هذا القيد في خصوص النواهي ولم يعتبر في الأوامر التمكن

ص: 51


1- أقول : بعد النتيجة بحسب المقدمات وخروجها عن حيز العادة ربما يوجب استهجان الخطاب ولو بنحو المشروط ، مثل أن يقال لشخص فقير : بأنك إذا صرت سلطانا لا تحكم بين الناس بظلم ، أو لعنين : إذا صار لك ولد لا تسمه باسم كذا ، مع إمكان صيرورة الولد له بشفائه ، مع بعده عنه عادة لا عقلا. ثم إنّ مناط استهجان الخطاب إنّما هو بعدم صلاحيته للدعوة إلى المتعلّق لبعد تمكّنه منه عادة، بحيث يرى العرف مثل هذا الشخص أجنبيّا عن هذا الفعل فعلا، من دون فرق بين كون خطابه أمرا أو نهيا، و كون الغرض من الأمر إيجاده و من النهي تركه لا يجدي فرقا في رفع استهجان الخطاب إلى من هو أجنبيّ عن العمل، و يرونه العرف بحسب العادة غير قادر عليه، كما لو قيل لشخص قبل تزويجه: ارفق مع زوجتك، في ظرف لا يكون له أسباب الزواج مهيّئا عادة.

العادي من الفعل (1) مضافا إلى التمكن العقلي ، لان الامر بالفعل إنما يكون لأجل اشتمال الفعل على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع ، ولا يقبح من المولى التكليف بايجاد ما اشتمل على المصلحة بأي وجه أمكن ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقلي من تحصيلها.

نعم : للمولى من باب التفضل والتوسعة عدم الامر بالفعل الذي يلزم منه العسر والحرج ، إلا أن ذلك أمر آخر غير قبح التكليف واستهجانه ، فلا يتوقف صحة الامر بالفعل على أزيد من التمكن العقلي من إيجاده. وأما النهي عن الفعل فلا يصح مع عدم التمكن العادي من إيجاد المنهي عنه ، لان الغرض من النهي ليس إلا عدم حصول ما اشتمل عل المفسدة ، ومع عدم التمكن العادي من فعل المنهي عنه لا تكاد تحصل المفسدة فلا موجب للنهي عنه ، بل لا يمكن ، لاستهجانه عرفا.

فان قلت : يلزم على هذا عدم صحة النهي عن كل مالا يحصل الداعي إلى

ص: 52


1- لا يخفى أن مقتضى التقابل بين الأمر والنهي ، هو أن يعتبر في صحة الامر القدرة العادية على الترك لا على الفعل ، ولا يبعد اعتبار ذلك في صحة الامر * ( منه ). * أقول: بناء على صحّة المائز بين الأمر و النهي- من كون الغرض من الأمر وجوده لتحصيل مصلحة و من النهي تركه و إنّما يصير عدم القدرة العاديّة سببا للترك فلا يبقى مجال لإعمال المولويّة بخلاف الأمر فانّ سبب إيجاده ليس إلّا دعوة أمره بتحصيل الأمور الغير العادية- لا يبقى مجال لتشبيه الأمر بالنهي و لو من جهة تركه، فعدم القدرة العاديّة لا يجدي على كلامه شيئا، فمع تسليم الكبرى المزبورة لا مجال لهذا الكلام. نعم: الأولى أن يلحق الأمر بالنهي- بناء على ما ذكر من المناط- بصورة الجزم بابتلاء المأمور بالعمل عادة لو لا الأمر، فانّ إحداث الداعي في حقّه أيضا لغو، مع أنّه ليس كذلك، و ذلك أيضا يكشف بأنّ منشأ استهجان الخطاب ليس ما ذكر، بل العمدة كون البعد عن العمل بمثابة يرى العرف مثل هذا الشخص أجنبيّا عنه، بحيث لا يحسنون توجيه الخطاب نحوه، من دون فرق بين الأمر و النهي، كما أشرنا، فتدبّر.

إيجاده ، كما لو فرض أن المكلف بحسب طبعه لا يميل إلى شرب الخمر ولا تنقدح في نفسه إرادته ولو لم يتعلق به النهي ، كما يشاهد ذلك في بعض المنهيات الشرعية بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، فان صاحب المروة يأبى عن كشف العورة بمنظر من الناس ولو لم يكن منهيا عنه ، فترك مثل هذا الفعل حاصل بنفسه عادة من صاحب المروة ، فيلزم استهجان التكليف بستر العورة ولغوية النهي عن كشفها ، وذلك مما لا يمكن الالتزام به ، فإنه يلزم قصر النواهي الشرعية بمن تنقدح في نفسه إرادة الفعل ويحصل له الداعي إلى إيجاد المنهي عنه ، يل يلزم قصر الأوامر الشرعية أيضا بمن لم يكن مريدا للفعل بنفسه وخروج من كان يحصل له الداعي إلى إيجاد متعلق الامر من عند نفسه ولو لم يتعلق به الامر ، لاستهجان التكليف بفعل ما يوجده المكلف من عند نفسه ، وهو كما ترى واضح البطلان.

قلت : فرق بين عدم القدرة عادة على الفعل وبين عدم إرادة الفعل عادة (1) فان القدرة من شرائط حسن الخطاب ، ولابد من أخذها قيدا في التكليف لقبح التكليف مع عدم القدرة العقلية واستهجانه مع عدم القدرة العادية ، بالبيان المتقدم.

وأما إرادة الفعل فليس لها دخل في حسن الخطاب ولا يعقل أخذها قيدا في التكليف وجودا وعدما ، لان التكليف إنما هو لبعث الإرادة ، فلا يمكن أن يكون التكليف مقيدا بحال وجود الإرادة ولا بحال عدمها لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ، وهذا بخلاف القدرة ، فإنها بكلا قسميها من العقلية والعادية من الانقسامات السابقة على التكليف التي لابد من اعتبارها في متعلق

ص: 53


1- أقول : إذا كان المانع عن الاقدام تنفر الطبع فلا باس بتقيد الخطاب بعدمه ، وذلك غير تقيده بإرادته ، بل الإرادة من تبعاته كتبيعتها للقدرة العادية ، فلو كان مناط الاستهجان مجرد تركه عادة لا فرق بين الترك لعدم القدرة أو لتنفر الطبع ، فذلك يكشف بأن مجرد ذلك لا يكون مناط استهجان الخطاب ، بل مناطه شيء آخر لا فرق فيه بين الأمر والنهي ، كما لا يخفى.

التكليف ، لما عرفت من قبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية أو العادية ، فقياس باب القدرة بباب الإرادة ليس في محله ، لعدم استهجان النهي عن فعل مالا يحصل الداعي إلى إيجاده عادة ، واستهجان النهي عن فعل مالا يتمكن من إيجاده عادة ، والذي يدلك على ذلك ملاحظة النواهي في الموالي والعبيد العرفية ، فإنه لا يكاد يشك في عدم حسن النهي عن فعل مالا يقدر على فعله عادة ، وحسن النهي عن فعل مالا يحصل الداعي إلى فعله ، كما لو فرض أن العبد بحسب طبعه لا يميل إلى شرب التتن ولا تنقدح إرادته في نفسه ، فإنه لا ينبغي التأمل في صحة نهي المولى عن شربه ولا يعد لاغيا في نهيه ، بخلاف من لم يقدر على شرب التتن عادة ، كما لو كان في أقصى بلاد الهند ولا تصل يده إليه عادة ، فإنه يقبح النهي عن شربه ويعد لاغيا في نهيه ، وهو واضح لكل من راجع الطريقة المألوفة بين العقلاء في الأوامر والنواهي العرفية.

وقد ظهر مما ذكرنا الوجه في عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء لعدم التمكن العادي من الاقتحام فيه.

وحاصله : أن العلم الاجمالي إنما يكون مؤثرا إذا كان المعلوم بالاجمال مما يصح النهي عنه في أي طرف كان حتى يعلم بالتكليف على كل تقدير ، ومع خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء لا علم بالتكليف على كل تقدير ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف هو الخارج عن مورد الابتلاء ، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لأنه لا يترتب عليه أثر عملي ويبقى الطرف الآخر الذي يمكن الابتلاء به جاريا فيه الأصل بلا معارض.

ثم إنه قد يشك في إمكان الابتلاء ببعض الأطراف وعدمه ، فان للقدرة العادية مراتب مختلفة يختلف حسن الخطاب وعدمه حسب اختلاف مراتبها ، فان الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند أو الابعد منه مثلا مما يقطع بخروجه عن مورد الابتلاء وعدم التمكن العادي منه ، كما أن الخمر الموجود في هذا البلد مما يقطع

ص: 54

بامكان الابتلاء به وحصول القدرة العادية عليه ، فلا إشكال في استهجان النهي عنه في الأول وعدم استهجانه في الثاني ، وأما الخمر الموجود في البلاد المتوسطة بين البعيدة والقريبة فقد يحصل الشك في القدرة العادية عليه وإمكان الابتلاء به ، فان القدرة العادية لا تزيد على القدرة العقلية ، والشك في حصول القدرة العقلية كثيرا ما يقع.

ومن المعلوم : أن الشك في حصول القدرة العادية يستتبع الشك في ثبوت التكليف وعدمه ، فإذا كان المشكوك فيه أحد أطراف العلم الاجمالي ففي وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر الذي يعلم بحصول القدرة عليه وإمكان الابتلاء به وعدمه ، قولان : أقواهما وجوب الاجتناب عنه لوجهين :

الأول : هو أن الشك في ذلك وإن كان يستتبع الشك في ثبوت التكليف وتحقق الخطاب ، إلا أنه لمكان العلم بالملاك وما هو المناط لانقداح الإرادة المولوية يجري عليه حكم الشك في المسقط.

وتوضيح ذلك : هو أن القدرة بكلا قسميها من العقلية والعادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الامرية ومناطات الاحكام ، بل إنما هي من شرائط حسن التكليف والخطاب ، لقبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية والعادية ، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها ، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه ، غايته أنه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها العقل لا يلزم برعاية الملاك ، للعلم بأنه ليس للمولى حكم على طبقه.

وأما مع الشك في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال تخلصا عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في جميع المستقلات العقلية ، حيث إنه للعقل حكم طريقي في موارد الشك على طبق ما استقل به ، وليس في شيء من الاحكام

ص: 55

العقلية ما يحكم العقل بالبراءة عند الشك في موضوع حكمه ، كما أوضحناه في بعض المباحث السابقة ، فعند الشك في القدرة العقل لا يحكم بالبراءة وترتب آثار عدم القدرة ، بل يستقل بلزوم رعاية احتمال القدرة.

غايته : أن نتيجة حكم العقل بذلك تختلف ، فان النتيجة عند الشك في القدرة العقلية هي وجوب الفحص عنها حتى يظهر الحال ، كما لو علم بتحقق ما هو المناط والملاك في تكليف المولى برفع الحجر عن الأرض وشك في القدرة عليه ، فان ضرورة العقل حاكمة بلزوم الفحص عن القدرة إلى أن يتبين العجز ، وليس للعبد الاتكال على الشك وإجراء البراءة عن التكليف.

وأما النتيجة عند الشك في القدرة العادية ، فهي وجوب ترتيب آثار تحقق التكليف في المشكوك فيه ، ولازم ذلك هو أنه لو صار المشكوك فيه طرفا للعلم الاجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الاجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ، ولا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في مورد الابتلاء ، بتوهم أن الشك في ثبوت القدرة العادية في أحد طرفي العلم الاجمالي يستلزم الشك في التكليف ، فتجري البراءة في الطرف الذي يعلم بامكان الابتلاء به ، وذلك لما عرفت : من أن العلم بتحقق الملاك يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لابد من العلم بما يوجب سقوط الملاك ، فالشك في المقام ينتج نتيجة الشك في المسقط الذي يقتضي الاشتغال لا البراءة (1)

ص: 56


1- أقول : لقد أجاد فيما أفاد : من أنه مع إحراز المقتضى للتكليف العقل [ لا يحكم بالبرائة ] باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال ، وأن مصب قبح العقاب بلا بيان إنما في صورة احتمال قصور في اقتضاء التكليف من ناحية المولى ، وحيث كان كذلك ، فنقول : لا يرد عليه بأن لازمه لزوم الاجتناب عن المبتلى به حتى مع القطع بخروج الطرف عن محل الابتلاء كما توهم ، إذ من المعلوم : أن ما هو موضوع حكم العقل بالاحتياط هو الشك في مثل القدرة الطاري في مورد المصلحة ، وهذا المعنى في الفرض السابق موجود ، بخلافه في الفرض التالي ، إذ في ظرف وجود المصلحة في الخارج عن محل الابتلاء يعلم بعدم القدرة فيه ، وإنما الشك في مثله من جهة الشك في وجود المصلحة في المقدور ، وحينئذ يصدق على مثله بأنه في ظرف وجود المصلحة في أي طرف ليس لنا شك في القدرة ، بل إما مقدور جزما ، وإما غير مقدور جزما ، وإنما الشك في أن ظرف المناط أيما كان ومرجعه إلى الشك في أصل المناط في المقدور ، لا في ظرف وجود المناط يشك في القدرة ، وما هو موضوع الاحتياط هو ذلك ، لا الفرض الأول. وليس العجب من المتوهم اشتباه الامر عليه ، وإنما العجب من أستاذه كيف قنع بهذا الاشكال؟!.

فتأمل (1).

الوجه الثاني : هو ما أفاده الشيخ قدس سره ومن التمسك باطلاقات أدلة المحرمات. وتقريب الاستدلال بها : هو أنه لا إشكال في إطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر مثلا وشموله لكلتا صورتي الابتلاء به وعدمه (2) والقدر الثابت من

ص: 57


1- وجهه : أنه يلزم على هذا وجوب الاجتناب عن أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع العلم بخروج الآخر عن مورد الابتلاء ، للعلم بتحقق الملاك أيضا في أحد الطرفين ، لأن المفروض أنه لا دخل للابتلاء وعدمه في الملاك ، فلو كان العلم بثبوت الملاك يقتضي وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين مع الشك في خروج الآخر عن مورد الابتلاء فليقتض ذلك أيضا مع العلم بخروج أحدهما عن مورد الابتلاء ، مع أنه قد تقدم أن خروج بعض الأطرف يقتضي عدم وجوب الاجتناب عن الآخر. و السرّ في ذلك: هو أنّ مجرّد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل بوجوب رعايته ما لم يكن تامّا في الملاكيّة و لم يعلم أنّ الملاك في الخارج عن مورد الابتلاء يكون تامّا في ملاكيّته. و عليه لا فرق بين المتيقّن خروجه عن مورد الابتلاء و المشكوك خروجه عنه في عدم وجوب الاجتناب عن الآخر. و شيخنا الأستاذ- مدّ ظلّه- قد أسقط الوجه الأوّل عن الاعتبار بعد ما كان بانيا عليه لمّا أوردت عليه النقض المذكور (منه).
2- أقول : قد يستشكل بأن القدرة العادية كالعقلية كما هو شرط للخطاب الواقعي كذلك هو شرط في إيجاب التعبد به ظاهرا ، وحينئذ فكما أن الخطاب الواقعي مشكوك كذلك الخطاب الظاهري الدال على إيجاب التعبد به أيضا مشكوك ، ولذا نقول بعدم حجية الخبر الواحد أو الظاهر في الخارج عن محل الابتلاء ، كما هو الشأن في مفاد الأصول ، ومع هذا الشك من أين يحرز صحة الخطاب كي يثبت به فعلية الحكم الواقعي؟. و بعبارة أخرى: مرجع حجيّة شي ء إلى جعله طريقا إلى الواقع مقدّمة للعمل، و مع الشكّ في الأثر العملي لا يبقى مجال للقطع بحجيته ، ومع الشك في حجيته كيف يجوز التمسك لاثبات فعلية الحكم الواقعي؟ وإلى هذا البيان نظر استاذنا العلامة في كفايته ، حيث منع في المقام قابلية المورد للاطلاق ، ومرامه قابلية المحل لحجية الاطلاق عند عدم التقيد بشيء ، لا أن الغرض عدم قابلية الواقع للاطلاق ، كي يجاب بأن شأن إطلاق الخطاب إثبات هذا المعنى ، فتدبر ، فان سوء التعبير ربما يوقع الطرف في الوهم.

التقييد والخارج عن الاطلاق عقلا هو ما إذا كان الخمر خارجا عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شك في استهجان النهي وعدمه في مورد الشك في إمكان الابتلاء بموضوعه وعدمه ، فالمرجع هو إطلاق الدليل ، لما تبين في مبحث العام والخاص : من أن التخصيص بالمجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك بالعام فيما عدا القدر المتيقن من التخصيص وهو الأقل ، بل جواز التمسك بعموم أدلة المحرمات في المقام أولى من غيره ، لان المقيد فيما نحن فيه إنما هو حكم العقل باشتراط كون موضوع التكليف مما يمكن الابتلاء به ، وفي المقيدات اللبية يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية فضلا عن الشبهات المفهومية إذا كان الترديد بين الأقل والأكثر كما فيما نحن فيه ، إذ الشك في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء إنما هو لأجل إجمال القيد مفهوما وتردده بين الأقل والأكثر ، لما عرفت : من أن للقدرة العادية المعبر عنها بامكان الابتلاء مراتب متعددة يختلف حسن التكليف وعدمه حسب اختلاف مراتب القدرة. وقد يشك العرف في حصول القدرة في بعض الموارد المستلزم لحصول الشك في حسن الخطاب واستهجان التكليف وعدمه ، وليس مفهوم القدرة والاستهجان أوضح من سائر المفاهيم العرفية ، مع أنه كثيرا ما يقع الشك في صدقها على بعض المراتب.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في جواز التمسك باطلاق أدلة المحرمات الواردة في الكتاب والسنة في كل ما شك في حصول القدرة العادية وعدمها ، وعليه يكون

ص: 58

حال ما شك في خروجه عن مورد الابتلاء حال ما علم دخوله في مورد الابتلاء في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.

فان قلت : المخصص المجمل المتصل بالعام يسري إجماله إلى العام ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيا أو عقليا ضروريا ، سواء كان إجماله لأجل تردده بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، والتفصيل بينهما إنما هو في المخصص اللفظي المنفصل أو ما بحكمه من العقل النظري ، وأما العقل الضروري فحكمه حكم المتصل في سراية إجماله إلى العام وسقوطه عن قابلية التمسك به.

والسر في ذلك : هو أن المخصص إذا كان من الضروريات العقلية فبمجرد صدور العام من المتكلم ينتقل الذهن إليه ويكون كالقرينة المحتفة بالكلام يسري إجماله إليه لا محالة ، وهذا بخلاف العقل النظري ، فإنه لا ينتقل الذهن إليه إلا بعد الالتفات إلى المبادي التي أوجبت حكم العقل ، وقد لا تكون المبادي حاصرة في الذهن فلا يمنع عن انعقاد الظهور للعام ، ولا يسري إجماله إليه ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله.

ومن المعلوم : أن المخصص في المقام إنما يكون من الاحكام العقلية الضرورية ، لان ضرورة العقل قاضية باستهجان النهي عما لا يمكن الابتلاء به ولا يقدر عليه عادة ، فان اعتبار إمكان الابتلاء بموضوع التكليف من المرتكزات عند العرف والعقلاء ، فإذا اشتبه حال المخصص وتردد أمره بين الأقل والأكثر لاجمال مفهومه ، فلا محالة يسري إجماله إلى العمومات والمطلقات الدالة على حرمة المحرمات ، وتسقط عن قابلية التمسك بها في موارد الشك في إمكان الابتلاء واستهجان النهي.

قلت : أولا : يمكننا منع كون المخصص في المقام من الضروريات العقلية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء.

ص: 59

وثانيا : أن سراية إجمال المخصص اللفظي المتصل أو العقلي الضروري إلى العام إنما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب وتردد مفهومه بين الأقل والأكثر ، كما لو تردد مفهوم « الفاسق » الخارج عن عموم « أكرم العلماء » بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، وأما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلم بخروج بعض مراتبه عن العام وشك في خروج بعض آخر ، فإجمال المخصص وتردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام ، لأن الشك في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشك في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به.

والحاصل : أنه فرق بين التخصيص بما لا يكون ذا مراتب والتخصيص بما يكون ذا مراتب (1) فان إجمال الأول وتردده بين الأقل والأكثر يمنع عن التمسك بالعام إذا كان متصلا به ، وإجمال الثاني وتردده بين أن يكون الخارج مرتبة خاصة من مراتبه وبين أن يكون مرتبتين أو أكثر لا يسري إلى العام ولا يمنع عن التمسك به فيما عدا المرتبة المتيقن خروجها ولو كان المخصص متصلا بالعام ، والتخصيص فيما نحن فيه يكون من قبيل الثاني ، فان بعض مراتب الخروج عن

ص: 60


1- أقول : كل من قال بحجية الألفاظ من باب أصالة الظهور يلتزم بأنه إذا اتصل بالكلام ما يشك ولو بدوا في قرينيته يضر بانعقاد الظهور ، ومن المعلوم : بأن الحكم العقلي الحافة بالكلام لو فرض لم يكن مرددا بين الأقل والأكثر بل كان موجبا للشك في التخصيص بدوا يمنع هذا المقدار في انعقاد أصل الظهور ، بلا احتياج إلى ضم عنوان واقعي كان مفهومه مرددا بين الأقل والأكثر ، مع أن المقام لو كان من قبيل العلم بخروج الخارج عن محل الابتلاء في الجملة وكان الخارج مرددا بين المراتب ، فالامر كما نقول. و أمّا لو نعلم بأنّ ما هو في الخارج بحكم العقل مطلق مراتبه الصادق على أوّل وجوده أيضا و شكّ في أنّ أوّل وجوده يحصل بأيّ مرتبة من البعد، ففي هذه الصورة ليس لعنوان المخصّص مراتب، بل ليس له إلّا مفهوم واحد مردّد بين الأقل و الأكثر من حيث البعد إلى المقصد، فتكون من هذه الجهة نظير الفسق المردّد بين مراتب ارتكاب المحرّمات من حيث ارتكاب الصغيرة و الكبيرة، فتدبّر.

مورد الابتلاء مما يعلم بخروجه عن عمومات أدلة المحرمات - كالخمر الموجود في أقصى بلاد الهند ، فإنه يعلم بخروجه عن مورد الابتلاء واستهجان النهي عنه وبعض مراتب الخروج عن مورد الابتلاء مما يشك في استهجان النهي عنه وخروجه عن العمومات ، والشك في ذلك لا يوجب إجمالها ولا يمنع عن التمسك بها ، فتأمل.

فإن قلت : التمسك بالاطلاقات والعمومات اللفظية إنما يصح بعد الفراغ عن صحة الاطلاق والعموم النفس الأمري وإمكان تشريع الحكم على وجه يعم المشكوك فيه ، فحينئذ يجوز التمسك بالعمومات اللفظية في موارد الشك في التخصيص ، وأما لو فرض الشك في إمكان تشريع الحكم ثبوتا على وجه يعم المشكوك فلا يجوز التمسك بالعمومات اللفظية عند الشك في التخصيص ، والشك في المقام يرجع إلى الشك في صحة الاطلاق النفس الأمري وإمكان التشريع على وجه يعم المشكوك خروجه عن مورد الابتلاء ، لان إمكان الابتلاء بموضوع التكليف من الشرائط المعتبرة ثبوتا في أصل تشريع التكليف لاستهجان التكليف واقعا بما لا يمكن الابتلاء به ، فالشك في إمكان الابتلاء بالخمر الموجود في البلد الكذائي مثلا يرجع إلى الشك في إمكان تشريع النهي عن الخمر على وجه يعم ذلك الفرد منه في الواقع ونفس الامر ، وهذا لا ربط له بناحية الاثبات والكشف حتى يصح التمسك بالعمومات والمطلقات اللفظية.

قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة (1) فان إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عن إمكان الاطلاق النفس الأمري وصحة تشريع الحكم على وجه يعم المشكوك فيه. ولو كان التمسك بالمطلقات والعمومات اللفظية مشروطا بإحراز إمكان الاطلاق النفس الأمري لا نسد باب التمسك بالمطلقات بالكلية ، إذ ما من

ص: 61


1- أقول : قد مر شرح مرام الأستاذ ، وأن سوء تعبيره أوقع الطرف في الوهم ، والامر فيه سهل.

مورد يشك في التقييد إلا ويرجع إلى الشك في إمكان التقييد والاطلاق النفس الأمري ، خصوصا على مذهب العدلية : من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، فان الشك في كل قيد يلازم الشك في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد ، وعلى تقدير ثبوتها في الواقع يمتنع الاطلاق النفس الأمري ، فالشك في كل قيد يرجع بالآخرة إلى الشك في إمكان الاطلاق الواقعي ، فلو اعتبر في التمسك بالاطلاقات اللفظية إحراز صحة الاطلاق في عالم الجعل والتشريع يلزم عدم صحة التمسك بها في شيء من الموارد.

والحاصل : أن كل خطاب لفظي كما أنه يكشف عن ثبوت الملاك والمناط ، كذلك كل إطلاق لفظي يكشف عن ثبوت الاطلاق النفس الأمري ، ففيما نحن فيه القدر الثابت من تقييد أدلة المحرمات هو ما إذا كان النهي عن الشيء مستهجنا بنظر العرف لخروجه عن مورد الابتلاء ، وفيما عدا ذلك من الموارد المشكوكة يؤخذ بظاهر الاطلاق ويستكشف منه إنا عدم استهجان التكليف في مورد الشك ، كما يستكشف من إطلاق قوله علیه السلام « اللّهم العن بني أمية قاطبة » عدم إيمان من شك في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة (1) مع أن حكم العقل بقبح لعن المؤمن لا ينقص عن حكمه بقبح تكليف من لا يتمكن عادة ، فكما يجوز التمسك بإطلاق اللعن لاخراج من شك في إيمانه عن كونه مؤمنا ، كذلك يجوز التمسك بإطلاق أدلة المحرمات لادخال ما شك في خروجه عن مورد الابتلاء فيه.

فان قلت : التمسك بالمطلقات إنما يصح في القيود والانقسامات السابقة على

ص: 62


1- أقول : من التأمل فيما ذكرنا ظهر عدم المجال لمقايسة المقام بمثل « لعن اللّه بني أمية » إذ المخصص العقلي بقبح لعن المؤمن إنما يقيد الحكم الواقعي ، وأين هذا مع القدرة التي هي شرط للحكم الظاهري أيضا ، ومع الشك فيها لا يبقى مجال القطع بحجية الخطاب كي به يحرز الواقع واجدا للقيد ، كما هو ظاهر.

الخطاب التي يمكن أخذها في المتعلق ، وأما القيود اللاحقة للخطاب الحادثة بحدوثه فلا يصح التمسك بها في نفي ما شك في اعتباره ، لأنه لا يمكن لحاظها في المرتبة السابقة على الخطاب حتى يمكن إطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إليها ، خصوصا في القيود التي تكون شرطا لتنجز التكاليف - كالعلم بالتكليف وكالابتلاء بموضعه - فان رتبة وجود هذه القيود متأخرة عن رتبة التكليف ، فكيف يمكن أخذها قيدا في المتعلق؟.

قلت : هذا الكلام أوضح فسادا من الكلام السابق ، لما فيه :

أولا : من أن الابتلاء بالموضوع ليس من القيود المتأخرة عن التكليف وجودا ، بل هو من الانقسامات السابقة عليه ، لان القدرة العادية كالقدرة العقلية من الأوصاف العارضة على المكلف قبل توجه التكليف إليه ، حيث إن المكلف ينقسم إلى القادر على إيجاد المتعلق والعاجز عنه ولو لم يكن هناك تكليف بالمتعلق ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يمكن لحاظها في المرتبة السابقة على التكليف ، كالطهارة والستر والاستطاعة وغير ذلك من القيود الشرعية المعتبرة في التكاليف ، غايته أن الحاكم باعتبار القدرة بكلا قسميها هو العقل والحاكم باعتبار تلك القيود هو الشرع ، وهذا لا يوجب تفاوتا فيما نحن فيه : من أن لحاظ اعتبارها يكون سابقا على التكليف ، فدعوى أن الابتلاء من العناوين الحادثة بحدوث الخطاب المتأخر وجودها عن وجوده ، واضحة الفساد.

وثانيا : سلمنا أن الابتلاء وعدمه من الانقسامات اللاحقة للخطاب بعد وجوده ، فدعوى أنه يكون من الشرائط الموجبة للتنجيز مما لا سبيل إليها ، بل شرط التنجيز ينحصر مصداقا بالعلم وما يقوم مقامه من الطرق والامارات والأصول المحرزة (1).

ص: 63


1- 1 - أقول : معنى تنجيز الخطاب وصوله بمثابة يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته ، ومنشأ الاستحقاق المزبور ليس مجرد الوصول محضا ، بل كما للوصول دخل فيه كذلك للقدرة عليه أيضا دخل في فعليته ، فلا معنى لحصر أسباب التنجيز بخصوص الوصول بعد فرض جعل القدرة خارجة عن شرائط أصل الخطاب ، بشهادة جعلها من الانقسامات اللاحقة الغير الموجبة لتقيد الخطاب به.

والسر في ذلك : هو أن تنجز التكاليف إنما يكون بوصولها إلى المكلفين ، لأنها بوجوداتها الواقعية قاصرة عن أن تصير داعيا لحركة العضلات ، فان الشيء بوجوده الواقعي غير قابل لتحريك الإرادة وانقداحها في النفس ، بل المحرك للإرادة هو الوجود العلمي ، من غير فرق في ذلك بين الأمور التكوينية والتشريعية ، فالتكاليف الشرعية ما لم تصل إلى المكلف لا تصلح للداعوية ، فكل ما أوجب وصول التكاليف تكوينا أو تشريعا يكون شرطا لتنجيزها ، لان التنجيز إنما يكون بالوصول ، والموجب للوصول ليس هو إلا العلم أو ما يقوم مقامه ، وأما سائر الانقسامات المتأخرة عن الخطاب الحادثة بحدوثه فليس شيء منها توجب الوصول (1) ومنها إمكان الابتلاء وعدمه على فرض تسليم كونه من الانقسامات المتأخرة (2).

والحاصل : أن مجرد كون الابتلاء من القيود المترتبة على الخطاب لا يقتضي أن يقع في عداد شرائط التنجيز ، وإلا كان كل قيد مترتب على الخطاب شرطا للتنجيز ، وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به! لما عرفت من أنه يعتبر في شرط

ص: 64


1- أقول : ولعمري! ان هذا البرهان أشبه شيء بما هو المعروف بأنه لم يرفع المؤذن يديه ويضعهما في اذنه؟ فأجيب بأنه لو وضع يديه على فمه لم يقدر أن يؤذن ، إذ تمام الكلام في إخراج القدرة عن شرائط التنجز وحصره بالوصول ، فهل يناسبه بيان أنه لولا الوصول لا يتنجز وأن بقية الأمور الاخر ليس مما يوجب الوصول؟.
2- لا يخفى أنه لا مجال للتمسك بالاطلاقات اللفظية بعد تسليم كون الابتلاء من القيود المتأخرة عن الخطاب وإن لم يكن من شرائط التنجيز ، فإنه لا ملازمة بين عدم كونه شرطا للتنجيز وبين صحة التمسك بالاطلاقات ، إذ يكفي في المنع عن التمسك بالاطلاقات مجرد كونه من الانقسامات المترتبة على الخطاب ، كما لا يخفى ، فالأولى منع كونه من الانقسامات المترتبة ( منه ).

التنجيز مضافا إلى كونه من القيود المتأخرة عن الخطاب أن يكون موجبا لوصول التكليف ، وقيد الابتلاء بموضوع التكليف ليس مما يوجب وصول التكليف ، لأنه أجنبي عن ذلك ، كما لا يخفى.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا مانع من التمسك بإطلاق أدلة المحرمات لاثبات حرمة ما شك في إمكان الابتلاء به على تقدير أن يكون هو الحرام المعلوم بالاجمال ، وحينئذ يجب الاجتناب عن الطرف الآخر المتيقن دخوله في مورد الابتلاء ، فان حال المشكوك خروجه عن مورد الابتلاء حال المتيقن دخوله في مورد الابتلاء من جريان الأصل النافي للتكليف فيه ومعارضته بالأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر الذي هو متيقن الدخول في مورد الابتلاء ، والمرجع بعد سقوط الأصول النافية للتكليف إلى قاعدة الاشتغال ، وهي تقتضي وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف. فقد ظهر ضعف القول بعدم وجوب الاجتناب عما هو داخل في مورد الابتلاء عند الشك في خروج الآخر عن مورد الابتلاء ، فتأمل جيدا.

تكملة :

خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما يكون لعدم القدرة العادية على التصرف فيه مثل ما إذا كان أحد طرفي المعلوم بالاجمال في أقصى بلاد المغرب ، كذلك يكون لعدم القدرة الشرعية عليه ، كما إذا كان أحد الانائين المعلوم نجاسته ملكا للغير الذي يبعد بحسب العادة ابتلاء المكلف باستعماله ولو بالشراء من صاحبه أو استعارته أو هبته وغير ذلك من الأسباب المجوزة شرعا للتصرف فيه. وقد يكون أيضا لبعد اتفاق الابتلاء به عادة ، كما إذا كان أحد الطرفين الذي تعلق العلم الاجمالي بنجاسته تراب الطريق الذي يبعد بحسب العادة الابتلاء به من السجود عليه أو التيمم به. ولا إشكال في أن عدم القدرة الشرعية على

ص: 65

التصرف في بعض الأطراف في حكم عدم القدرة العادية على التصرف فيه : من عدم تأثير العلم الاجمالي فيه ، فان النهي الشرعي عن التصرف في ملك الغير يوجب سلب القدرة عنه ، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لعدم إمكان تطبيق العمل على مؤدى الأصل شرعا ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا معارض.

نعم : لو فرض أن ملك الغير في معرض البيع والشراء وكان المكلف بصدد شرائه منه ، فلا يبعد تأثير العلم الاجمالي وعدم جريان الأصول النافية في كل من الطرفين ، لان ملك الغير وإن حرم التصرف فيه قبل الشراء إلا أنه حيث كان في معرض الانتقال إلى المكلف ، فلا يقبح التكليف بالاجتناب عنه على تقدير وقوع النجاسة فيه ، وهذا بخلاف ما إذا لم يمكن الانتقال إليه عادة كالإناء الموجود في حرم السلطان فان التكليف بالاجتناب عنه لغو مستهجن ولو فرض حصول القدرة العادية على التصرف فيه ولو بالسرقة (1).

هذا إذا كان عدم الابتلاء ببعض الأطراف لعدم القدرة الشرعية على التصرف فيه.

وأما إذا كان لبعد اتفاق الابتلاء به كتراب الطريق ، ففي تأثير العلم الاجمالي وعدمه وجهان مبنيان على أن المناط في استهجان التكليف الموجب لعدم تأثير العلم الاجمالي هل هو عدم اتفاق الابتلاء بالموضوع أو عدم إمكانه؟ فعلى الأول : يكون بعد اتفاق الابتلاء في حكم عدم القدرة العادية عليه ، وهو الذي يظهر من الشيخ قدس سره وعلى الثاني : يكون في حكم الابتلاء به ، وقد تأمل في ذلك

ص: 66


1- أقول: يكفي لصحّة الخطاب مجرّد القدرة العاديّة على الاستيلاء خارجا، و لا يكفي فيه مجرّد حرمة التصرّف شرعا كنذر أو غصبيّة، و حينئذ لا مجال لدعوى صدق الخروج عن الابتلاء و لو بعد السرقة، و نظيره في المنع بعد الاحتياج إليه مع كونه تحت استيلائه كتراب الطريق لتيمّمه: فتدبّر.

شيخنا الأستاذ - مد ظله - في ابتداء الامر ، إلا أنه أخيرا وافق الشيخ وجعل المناط في الاستهجان عدم اتفاق الابتلاء لا عدم إمكانه ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :
اشارة

لا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ، إلا إذا قلنا بأن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس إنما هو لأجل سراية النجاسة من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ( بالكسر ) (1).

ص: 67


1- 1 - أقول : الذي يقتضي تحقيق المقام مقدمة لشرح المرام أن يقال : أولا : ان ما يتصور في وجه نجاسة ملاقي النجس أمور : أحدها: الالتزام بأنّه حكم تعبّدي و مجعول مستقلّ قبال جعل النجاسة للملاقي (بالفتح) و أنّ مثل هذا الحكم في ظرف ملاقاته النجس بحيث يكون مثل هذه الجهة مأخوذا في موضوعه بنحو التعليل و الشرطيّة. الثاني: أن يكون نجاسة الملاقي (بالكسر) جائية من قبل نجاسة الملاقي (بالفتح) و أنّه من شئونه، كمجي ء حركة المفتاح من قبل حركة اليد، و أنّ الملاقاة سبب هذا النشو، و مرجعه إلى كون نجاسة الملاقي (بالكسر) معلول نجاسة الملاقي (بالفتح) و كان هو مؤثرا فيه، لا أنّه حكم مجعول مستقلّ في قباله، نظير نجاسة الكلب في قبال الخنزير، غاية الأمر مشروطا بالملاقاة لا مطلقا. الثالث: كون نجاسة الملاقي (بالكسر) مرتبة من مراتب نجاسة الملاقى (بالفتح) و كونه مقام سعة هذه النجاسة بلا اعتبار سببيّة و مسبّبيّة بينهما، و أنّ اختلاف مراتب النجاسة سعة و ضيقا بازدياد معروضه و قلّته الناشئة من اتّصال أحد الجسمين بالآخر و عدمه. و لكن لا يخفى أنّ الوجه الآخر لا أظنّ التزامه من أحد، إذ مع التزامهم بأنّ الشكّ في أحدهما مسبّب عن الشكّ في الآخر- كما يشهد لذلك التزامهم بعدم معارضة أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) مع استصحاب النجاسة في الملاقى (بالفتح) لأنّ التعبّد بالنجاسة لا يقتضي السراية الّتي من اللوازم العاديّة الواقعيّة- لا يناسب مثل هذا الوجه، إذ مرجعه إلى كون نجاسة الملاقي (بالكسر) من مراتب نجاسة الملاقى (بالفتح) سعة و ضيقا، و هذا المعنى يناسب وحدة نجاستهما مرتبة، مع أنّه لا يناسب التعبير في النصوص بأنّه «ينجّسه» أو لا «ينجّسه» إذ الظاهر من هذا التعبير نظير التعبير بقوله: «يحرّكه العواصف» كونه منشأ له، لا أنّه من مراتب وجوده كطول الخطّ بالنسبة إلى ذاته، فانّه لا يكون إلّا في رتبة نفسه لا في رتبة متأخّرة عنه، كما أنّه لا مجال أيضا من الالتزام بأنّه مجعول مستقلّ قبال نجاسة الملاقي (بالفتح) بتعبّد من الشرع، إذ هو أيضا خلاف ارتكاز أذهانهم في التنجيسات العرفيّة و قذاراتهم، بل خلاف ظاهر النص من قوله عليه السلام «لا ينجّسه» أو «ينجّسه» إذ الظاهر منه أنّ نجاسة المتنجّسات من قبل ما لاقاها، لا أنّه موضوع مستقلّ كالكلب في قبال الخنزير، و كلماتهم أيضا في وجه عدم سراية النجاسة إلى الماء العالي الوارد أيضا يأبى عن ذلك و يناسب مع ما ذكرناه، فحينئذ المتعيّن من مجموع الكلمات و النصوص هو الوجه الثاني. و الظاهر أيضا ان غرضهم من السراية أيضا هذا المعنى، نظير تعبيرهم من سراية حركة اليد إلى المفتاح، لا أنّ الغرض من السراية انبساط وجود النجاسة في الموضوعين في رتبة واحدة، و حيث كان الأمر كذلك، فليس مبنى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) منحصرا بجعل النجاسة حكما مجعولا مستقلا تعبّدا، قبال جعل نجاسة الملاقي (بالفتح) بل لو بنينا على السراية بالمعنى الثاني- نظير سراية الحركة من اليد إلى المفتاح- كان للسراية وجه. نعم: لو بنينا على السراية بالمعنى الأخير لا مجال للسراية، و ذلك أيضا لا لما أفيد: من أنّ العلم بنجاسة الملاقى (بالفتح) و طرفه يكفي في وجوب الاجتناب عن ملاقيه كيف! و من قبل هذا العلم لا يترتّب إلّا ما علم وجوده و تنجّز معلومه لا شي ء آخر، بل من جهة كونه طرف العلم بوجود التكليف في طرف و تكليفين عرضيّين في طرف آخر. و لكن قد عرفت: أنّ السراية بهذا المعنى ممّا لم يلتزم به أحد، بل كلماتهم مشحونة على السراية بالمعنى الّذي نحن شرحناه، إذ حينئذ لا مجال لتنجّز التكليف بالملاقي (بالكسر) لأنّ علمه في طول العلم بنجاسة الملاقي (بالفتح) و هذا العلم غير صالح للتنجّز باعترافه، كما لا يخفى، فتدبّر.

وتفصيل ذلك : هو أنه لا إشكال في وجوب ترتيب كل ما للمعلوم بالاجمال من الآثار والأحكام الشرعية على كل واحد من الأطراف تحصيلا للقطع بالامتثال والفراغ عما اشتغلت الذمة به ، فكما لا يجوز شرب كل واحد من الانائين اللذين يعلم بخمرية أحدهما ، كذلك لا يصح بيع كل واحد منهما ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الانائين ، فلا تجري أصالة الصحة في بيع أحدهما ، لأنها معارضة بأصالة الصحة في بيع الآخر ، وبعد سقوط أصالة الصحة من الجانبين لابد من الحكم بفساد البيع في كل منهما ، لأنه يكفي في الحكم بالفساد عدم ثبوت الصحة.

ص: 68

فان قلت : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب ترتيب الاحكام على كل واحد من الأطراف إذا كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لها ، وأما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع لحكم فما لم يثبت الجزء الآخر لا يجب ترتيب ذلك الحكم ، كما هو واضح ، ففي المثال الخمر المعلوم في أحد الانائين لا يكون تمام الموضوع لفساد البيع ، بل إنما هو جزء الموضوع ، وجزئه الآخر وقوع البيع خارجا ، إذ الصحة والفساد من الأوصاف والاحكام اللاحقة للبيع بعد فرض صدوره في الخارج ، فلا وجه للحكم بفساد بيع أحد الانائين ، للشك في وقوعه على الخمر ، فتجري فيه أصالة الصحة ولا يعارضها أصالة الصحة في بيع الآخر ، لأن المفروض عدم وقوع البيع على الطرف الآخر ، فلا موضوع لأصالة الصحة فيه حتى تعارض أصالة الصحة في البيع الواقع على أحد الطرفين فقط.

قلت : لا وقع لهذا الاشكال ، فان الخمر المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لعدم السلطنة على بيعه ، وعدم السلطنة على البيع يلازم فساده بل هو عينه ، لأنه ليس المجعول الشرعي إلا حكما واحدا (1) غايته أنه قبل البيع يعبر عنه بعدم السلطنة وبعد البيع يعبر عنه بالفساد ، فعدم السلطنة على البيع عبارة أخرى عن فساده ، كما أن السلطنة على البيع عبارة أخرى عن صحته (2) فأصالة الصحة في بيع

ص: 69


1- أقول : لا معنى لارجاع الفساد إلى السلطنة المسلوبة ، بل أحدهما مسبب عن الآخر لا عينه. وحينئذ لا معنى للصحة والفساد إلا في ظرف وجود البيع، وإلا فقبله لا معنى لصحته أو فساده. نعم : قبل البيع لا معنى إلا لأصالة عدم السلطنة على البيع أو عدم ما هو سبب السلطنة : من الملكية وأمثالها ، وبعد فرض عدم جريان الأصل المزبور ، - لأنها من الأصول التنزيلية الغير الجارية في طرفي العلم - فلا يبقى في البين إلا أصالة الصحة التي لا مجرى له إلا بعد البيع أو مقارنه ، وحينئذ لو فرض وقوع البيع على أحد الطرفين لا مانع لجريان أصالة الصحة في أحد الطرفين بلا معارض ، والفرض أن الأصول النافية لا مانع من جريانها إلا المعارضة على مختاره ، فلا وجه لالتزامه بالتساقط ، كما لا يخفى.
2- 2 - أقول : وفيه ما فيه ، ولا يكفيه التوجيه ، إذ القدرة على إيجاد شيء مقدمة عليه رتبة ، فنقيض القدرة الذي عبارة عن عدم السلطنة أيضا مقدم على عدم إيجاد البيع بسببه الذي هو عبارة عن فساد السبب.

كل من الانائين من أول الامر ولو قبل صدور البيع تجري وتسقط بالمعارضة ، ولا يتوقف جريانها على وقوع البيع خارجا.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن عدم السلطنة على بيع الخمر وفساده كحرمة شربه من الآثار المترتبة على نفس المعلوم بالاجمال ، وقد عرفت : أن كل ما للمعلوم بالاجمال من الاحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف (1)

ص: 70


1- أقول : لما كان شأن العلم الاجمالي تنجيز الواقع المعلوم فالعقل يحكم بلزوم ارتكاب الطرفين أو تركه مقدمة للفرار عن العقوبة المحتملة ، ولازمه عدم مشاركة الطرفين للمعلوم إلا من حيث لوازم التكليف إطاعة أم عصيانا لمحض إرشاد العقل إلى الفرار عن العقوبة المحتملة ، وإلا فليس لنا دليل تعبدي على شركة الطرفين للمعلوم بالاجمال في جميع الآثار وضعا أم تكليفا ، ولذا نقول أيضا : إن العلم بالوضع لا يؤثر في الطرف شيئا إلا بملاحظة انتهائه إلى التكليف ، كما لا يخفى. و حيث كان الأمر كذلك نقول أيضا: إنّ شأن العلم الإجمالي في الموضوعات ليس إلّا إحراز صغرى الخطاب التكليفي و لو بواسطة إحراز حكم وضعي مستتبع لتكليف في البين، كي ببركة هذا الصغرى المحرزة بالعلم يتنجّز الكبرى المترتّبة على موضوعه المحرز بالعلم، و حيث عرفت ذلك، فنقول: إنّ كلّ تكليف مترتّب على المعلوم فلا شبهة في تنجّزه بإحراز صغراه، و نتيجة تنجّزه ليس إلّا حكم العقل إرشادا بلزوم العمل عليه بارتكاب طرفيه أو تركه، و لا فرق في ذلك أيضا بين كون التكليف المحرز واحدا في الطرف و متعدّدا في طرف آخر، من دون أن يكون التكليف الآخر مسبّبا عن الخطاب المعلوم موضوعا أم حكما. و أمّا لو كان مسبّبا عن شي ء مضاف إلى موضوع الخطاب أو نفسه، فان أحرز هذا السبب أيضا بنحو الإجمال نظير ارتكاب العصيان في الفسق و كالكفّارة المترتّب على ارتكاب الحرام شرعا أو الحدّ المترتّب على شرب الخمر الحرام، فلا إشكال أيضا في إحراز صغراه و لو إجمالا، كأصل الخطاب الأوّلي، فالعقل أيضا يحكم بوجوب مقدّمة العلميّة فعلا أو تركا، خصوصا لو كان العلم الإجمالي بتحقّق السبب موجبا للعلم التفصيليّ بالمسبّب، كما هو الشأن في الكفارة و الحد، فيجب إقامتهما. و أمّا لو فرض عدم إحراز هذا السبب و لو بأن لا يرتكب إلّا لأحد الطرفين أو لا يشرب إلّا أحد الإناءين أو لا يقدم إلّا على أحد المحتملين، فلا شبهة في عدم إحراز صغرى الخطاب الثاني، و الفرض أنّ هذا الخطاب في طول الخطاب الأوّل أيضا، بحيث يكون طرفيّته للعلم في طول العلم بالخطاب الأوّل، فحينئذ بأيّ وجه يحكم بوجوب الاجتناب عن الخطاب الثاني؟ بعد فرض عدم إحراز صغراه وعدم طرفيته للعلم المنجز لفرض سبقه ولو رتبة بعلم آخر ، وبعد أن علمت ما ذكرنا ، فنقول : بعد الجزم بأنّ الملاقاة للنجس سبب لنجاسة الملاقي (بالكسر) قد عرفت في الحاشية السابقة بأنّها واسطة لاكتساب الملاقي النجاسة من الملاقى (بالفتح) نظير اكتساب المفتاح الحركة من اليد، كما يشهد له التعبير بتنجيسه الظاهر في المنشئيّة، لا أنّه حكم تعبّدي مستقلّ و لا أنّه مرتبة أخرى في عرض نجاسة الملاقي (بالفتح) مرتبة، و حينئذ يصير نجاسة الملاقي (بالكسر) معلول نجاسة الملاقي (بالفتح) فلا جرم تصيران في التكليف أيضا طوليّتين، و حينئذ لا مجال لتنجز التكليف في الملاقي (بالكسر) لطوليّة علمه لعلم سابق منجّز، و من هنا أيضا ظهر حال الثمرة للشجرة. و تفصيل القول فيه أيضا أن يقال: إنّ ملك النماء و المنفعة تارة يقال: إنّه من آثار ملكيّة العين بحيث أخذ ملكيّة العين علة لملك النماء، فلا شبهة في أنّ التكليف المتولد من هذه الملكية أيضا يصير في طول التكليف المتولد من ملكيّة العين، و أخرى يقال: بأنّ ملكيّة المنفعة و العين في عرض واحد و إنّما النماء من تبعات العين وجودا لا ملكيّة، بل هما في عروض الملكيّة في غرض واحد، فعلى الأخير: لا يكون الحكم التكليفي المتولّد من ملكيّتهما إلّا عرضيّا، لعدم اقتضاء في طوليتهما، و حينئذ فمهما وقع غصبية العين طرفا للعلم الإجمالي يصير غصبيّة النماء في عرضه أيضا طرفا، فيصير المقام من صغريات العلم الإجمالي بتكليفين في طرف و تكليف واحد أو تكليفين في الطرف الآخر، و في هذه الصورة يصير جميع التكاليف منجّزة في عرض واحد، و في هذا المقام لا فرق في وجوب الاجتناب عن ثمرة الشجرة المحتمل غصبيّته بين أن يكون من طرف واحد أو من طرفين، كلتا الثمرتين محلّ الابتلاء أو أحدهما بعد فرض الابتلاء بذات الشجرة من الطرف الآخر. و أمّا على الأوّل: فلا شبهة في أنّ التكليف المتوجّه إلى الثمرة في طول التكليف المتوجّه إلى الشجرة، و في مثله لا يكون العلم الإجمالي بين الثمرة و الشجرة الأخرى إلّا في طول علم آخر بين الشجرتين، فمع فرض عدم الابتلاء بثمر شجرة أخرى لا وجه للاجتناب عن هذه الثمرة، لأنّ الثمرة متعلّق تكليف مستقلّ غير تكليف الشجرة، مع عدم إحراز موضوعه، لأنّ موضوعه ملك الغير المشكوك فعلا، بعد فرض عدم جريان أصالة عدم ملكيّته، لمعارضته بأصالة عدم ملكية أخرى، حسب اعترافه في الأصول التنزيليّة و لو كانت مثبتة. و على أيّ حال: لا مجال لتوهم أنّ التكليف بحرمة التصرّف في الثمرة من تبعات التكليف بعدم جواز التصرّف في الشجرة المغصوبة و شئونه و يكفي في تنجّزه تنجّز التكليف بحرمة التصرّف في الشجرة المغصوبة، إذ الغرض من كونه من تبعاته و شئونه أنّه تكليف آخر من تبعات التكليف بحرمة الغصب في الشجرة، فمرجعه إلى اختيار الاحتمال الأوّل: من طوليّة تكليفهما، و مع هذا الاختيار لا معنى لاقتضاء تنجّز التكليف السابق رتبة بعلمه، لتنجّز هذا التكليف المشكوك موضوعه وجدانا، مع فرض عدم كونه أيضا طرف العلم المنجّز، لسبقه بعلم آخر. و إن أريد أنّه من تكليف آخر، و لكن بملاحظة تبعيّة ذات المنفعة أو النماء للعين يحسب من تبعاته، و إلّا فهو تكليف آخر في عرض التكليف بالشجرة، فمرجعه إلى الاحتمال الثاني: من منجّزيّة العلم له أيضا، لكونه من باب العلم بتكليف في طرف و تكليفين في طرف، لا أنّ منجّزه مجرّد العلم بغصبيّة الشجرة، إذ لا يكون علمه إلّا منجّزا لتكليفه لا لتكليف آخر، فالمنجّز للتكليف الآخر ليس إلّا وقوعه طرفا للعلم الآخر المنجّز. و إن أراد التكليف بالاجتناب عن الثمرة عين التكليف بالاجتناب عن الشجرة المغصوبة فبداهة فساده غنيّ عن بيانه. نعم: الّذي يسهّل الخطب في هذا الباب إمكان ترجيح الاحتمال الثاني، لعدم مقتض لطوليّة التكليفين في الثمرة و الشجرة، لأنّ طوليّة أحدهما للآخر وجودا لا يقتضي طوليّتهما حكما، كما أنّه لو بنينا على الطوليّة أيضا- لمكان جريان الأصول المثبتة للتكليف في الطرفين، كما أوضحناه- لا يبقى مجال جريان البراءة عن الثمرة، و هو العمدة في أصالة الحرمة في الأموال أيضا، فتدبّر تعرف. كما أنّ في مسألة الملاقاة قد عرفت أنّ ما هو المرتكز في الأذهان و معقد كلمات الأصحاب و التعبير بتنجّس الشي ء للشي ء في النصوص كون نجاسة (الملاقي) بالكسر ناشئة عن نجاسة الملاقي (بالفتح) بحيث يكون منشئه سرايتها من الملاقى (بالفتح) إلى الملاقي (بالكسر) و لذا يكون التكليف بأحدهما مسبّبا عن التكليف بالآخر و لو قلنا بالسراية بنحو ذكرنا، كما هو المرتكز في الأذهان، كما يشهد له كلماتهم في عدم تنجّس العالي الوارد على النجس، فتدبّر.

ص: 71

سواء كان الحكم من مقولة الوضع أو من مقولة التكليف (1) وسواء قارن زمان الابتلاء بالتصرف في أحد الأطراف لزمان العلم أو تأخر عنه. فلو فرض أن أحد الأطراف لم يأت زمان الابتلاء به بل كان الابتلاء به متأخرا عن زمان العلم ، ففي ظرف مجيء زمان الابتلاء به يلزم ترتيب ما للمعلوم بالاجمال عليه وإن خرج الطرف الآخر عن مورد الابتلاء بفقد وتلف ونحوه ، فان المدار في وجوب ترتيب الاحكام على كل واحد من الأطراف إنما هو على فعلية الاحكام وتنجزها ،

ص: 72


1- أقول : لو تمت هذه الكبرى لزم الحكم بنجاسة الطرف بمحض العلم بالبولية ، لأنه تمام الموضوع للنجاسة ، وحينئذ كيف يحكم بطهارة ملاقيه؟.

ولا دخل لزمان الابتلاء في ذلك.

وعلى هذا يتفرع وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع المتصلة والمنفصلة ، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين ، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين كذلك يجب الاجتناب عما لهما من الأثمار ، من غير فرق بين أن يكون كل من الشجرتين من ذوات الأثمار أو كانت أحدهما من ذوات الأثمار دون الأخرى ، ومن غير فرق بين وجود الثمرة حال العلم وعدم وجودها ، ومن غير فرق بين ثمرة هذه السنة وثمرة السنين الآتية ، ومن غير فرق بين بقاء الطرف الآخر حال وجود الثمرة وبين تلفه ، بل من غير فرق بين بقاء نفس الأصل وعدمه - كما لو فرض أن الشجرة المثمرة بعدما أثمرت وقطف ثمرها تلفت بحرق أو غرق ونحو ذلك - فإنه في جميع هذه التقادير يجب الاجتناب عن الثمرة كما يجب الاجتناب عن أصلها والطرف الآخر ، لان وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفس المغصوب ، فان النهي عن التصرف في المغصوب نهي عنه وعن توابعه ومنافعه ، فيكفي في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيلي أو الاجمالي (1) فلو فرض أن الشجرة المثمرة كانت هي المغصوبة فوجوب الاجتناب عن ثمرها المتجدد وإن لم يكن فعليا لعدم وجود موضوعه ، إلا أنه يكفي في وجوب الاجتناب عنها فعلية وجوب الاجتناب عن نفس الشجرة بما لها من المنافع والتوابع (2) وحينئذ تسقط أصالة الحل عن الثمرة بنفس سقوطها عن ذي الثمرة بالمعارضة لأصالة الحل في الطرف الآخر وهي الشجرة الغير المثمرة ، فلا تجري صالة الحل في الثمرة بعد وجودها وفقدان طرف العلم الاجمالي. وقس على ذلك

ص: 73


1- أقول : قد تقدم شرح فساد هذه الجهة في الحاشية السابقة ، فراجع بطولها.
2- أقول : لولا التزام بمنجزية العلم التدريجي لما يتم ما أفيد في وجه المنجزية ، كما يظهر مما ذكرنا في الحاشية السابقة الطويلة ، فتدبر.

الدار ومنافعها ، والحمل وذا الحمل ، وساير ما كان لاحد الأطراف منافع متجددة دون الآخر.

فان قلت : فرق بين منافع الدار وبين ثمرة الشجرة وحمل الدابة ، فان تبعية الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل إنما يكون في الوجود ، والتبعية في الوجود لا تستلزم التبعية في الحكم ، وكيف يعقل أن يكون الحكم في الثمرة والحمل تابعا لحكم الشجرة ودي الحمل؟ مع أن كلا من الثمرة والحمل موضوع من الموضوعات الخارجية له وجود استقلالي ويدخل تحت اليد بنفسه في مقابل الشجرة وذي الحمل ، فلا يمكن أن يكون الحكم فيهما تابعا لحكم الأصل ، بل لكل من الأصل والفرع حكم يستقل به عند وجوده ، ولا يعقل أن يتقدم حكم الثمرة على وجودها ، كما لا يعقل أن يتقدم حكم الشجرة على وجودها ، بل كل حكم تابع لوجود موضوعه ، فعند وجود الشجرة المغصوبة لا حكم إلا وجوب الاجتناب عن نفسها ، وبعد وجود الثمرة يثبت حكم آخر وهو وجوب الاجتناب عنها ، لان الشجرة المغصوبة ثمرها أيضا يكون مغصوبا ، هذا إذا علم تفصيلا بغصبية الشجرة المثمرة.

وأما إذا كانت الشجرة طرفا للعلم الاجمالي ، فقبل وجود الثمرة لا يجب الاجتناب إلا عن الشجرة والطرف الآخر من باب المقدمة العلمية ، وأما بعد وجود الثمرة ، فإن كان الطرف الآخر موجودا يجب الاجتناب عن الثمرة أيضا ولو فقد الأصل ، لان الثمرة بعد وجودها تقع طرفا للعلم الاجمالي كالأصل ، وإن كان الطرف الآخر مفقودا أو خارجا عن محل الابتلاء عند وجود الثمرة فلا يجب الاجتناب عن الثمرة ولو كان الأصل موجودا ، لان الثمرة بعد وجودها لا تكون طرفا للعلم الاجمالي ، لفقدان ما يصلح أن يكون طرفا لها ، فتكون الشبهة بالنسبة إلى الثمرة بدوية تجري فيها أصالة الحل بلا معارض.

نعم : يجب الاجتناب عن الأصل إذا كان موجودا ، لسقوط أصالة الحل فيه

ص: 74

عند وجود الطرف الآخر وفقدانه بعد ذلك لا أثر له ، هذا كله بالنسبة إلى الثمرة والحمل ونحو ذلك من المنافع المستقلة في الوجود. وأما مثل منافع الدار فهي تابعة للدار وجودا وحكما لعدم استقلالها في الوجود وعدم دخولها تحت اليد بنفسها فحكمها يتبع حكم الدار ، فلو علم بغصبية إحدى الدارين يجب الاجتناب عن المنافع المتجددة ولو كان أحد طرفي المعلوم خربة لا منفعة له (1).

قلت : ليس المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما ، فان امتناع فعلية الحكم قبل وجود موضوعه غير قابل للانكار حتى في منافع الدار ، إذ من المستحيل فعلية وجوب الاجتناب عن منافع السنة المقبلة ، بل المقصود من التبعية هو أن النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة عند وجودها ، وكذا الدابة المغصوبة ، فلا يحتاج حرمة التصرف في الثمرة والحمل في ظرف وجودهما إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه ، فحرمة التصرف في المنافع من شؤون حرمة التصرف في ذي المنفعة (2) من غير فرق في ذلك بين الثمرة والحمل وبين منافع الدار. والاستقلال في الوجود والدخول تحت اليد وعدمه لا يصلح أن يكون فارقا بينهما فيما نحن فيه ، فان تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الثمرة والحمل ومنافع الدار إنما هو نفس المعلوم بالاجمال ، وقد

ص: 75


1- أقول : ما معنى التبعية في الحكم؟ فان كان ترتب أحد الحكمين على الآخر مع الالتزام بوجود الحكمين ، فكل واحد في منجزيته يحتاج إلى قيام الطريق إليه ، ولا يكفي طريق أحدهما لتنجز الآخر بلا كونه طرف العلم مستقلا ، فيحتاج في تنجزه إلى علم آخر ، ثم يلاحظ بأنه إن كان في طول غيره فلا تنجز ، وإلا فينجز بالعلم الاجمالي القائم بينه وبين غيره.
2- 2 - أقول : ما المراد من الشؤون؟ فان كان الغرض وحدة الحكمين فهو غلط ، وأنت معترف بتعدد

عرفت : أنه مهما كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لحكم فلابد من ترتيب آثار ذلك الحكم على كل واحد من أطراف العلم الاجمالي ، لسقوط الأصل النافي له بالتعارض ، بخلاف ما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع للحكم ، فإنه لا يترتب ذلك الحكم على كل واحد من الأطراف.

وعلى ذلك يتفرع عدم جواز إقامة الحد على من شرب أحد طرفي المعلوم بالاجمال ، فان الخمر المعلوم في البين إنما يكون تمام الموضوع بالنسبة إلى حرمة شربه وفساد بيعه ، وأما بالنسبة إلى إقامة الحد فيتوقف على أن يكون شربه عن عمد واختيار. وإن شئت قلت : إن علم الحاكم بشرب الخمر اخذ جزء الموضوع لوجوب إقامة الحد ، ولا علم مع شرب أحد الطرفين ، فلا يجوز للحكام إقامة الحد.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن كل أثر كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع له يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف من باب المقدمة العلمية (1) وكل أثر كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع له لا يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف ، وهذه الكبرى الكلية مما لا إشكال فيها ، وعليها يبتني وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلوم بالاجمال وعدمه.

بيان ذلك : هو أنه بعد قيام الاجماع والضرورة على نجاسة الملاقي للنجس ووجوب الاجتناب عنه وقع الكلام في وجه نجاسته ، والذي قيل فيه أو يمكن أن يقال أحد وجهين :

الأول : أن تكون نجاسته لمحض التعبد الشرعي ، من دون أن تكون نجاسته ووجوب الاجتناب عنه من الآثار والاحكام المترتبة على نفس نجاسة الملاقى

ص: 76


1- 1 - أقول : لا دليل على هذه الكلية ، بل العمدة هو أن كل حكم تكليفي يتنجز بالعلم الاجمالي يحكم العقل بلزوم إتيان طرفيه أو تركه من باب المقدمة العلمية ، وحينئذ فكل علم إجمالي لم يكن

( بالفتح ) ووجوب الاجتناب عنه ، بل الملاقي للنجس فرد آخر من النجس حكم الشارع بوجوب الاجتناب عنه في عرض وجوب الاجتناب عن الملاقى ( بالفتح ).

الثاني : أن تكون نجاسته لأجل سراية النجاسة من الملاقي إليه ، فتكون الملاقاة موجبة لاتساع دائرة النجس كاتساعها في صورة اتصال الماء النجس بغيره وامتزاجه به ، فان امتزاجهما يوجب اتساع دائرة النجس وسراية النجاسة من الماء النجس إلى ما امتزج به (1) فيمكن أن يكون حال الملاقاة حال الاتصال والامتزاج من أنها تقتضي سعة دائرة النجاسة وسرايتها من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ( بالكسر ) من دون دخل للملاقات شرعا في ذلك ، بل كانت الملاقاة واسطة عقلية لاتساع النجاسة وسرايتها ، فلا تكون نجاسة الملاقي فردا آخر من النجاسة ، بل هي عين نجاسة الملاقى ( بالفتح ) (2) وحينئذ يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس من الاحكام المترتبة على نفس نجاسة النجس ، وليس الاجتناب عنه بتعبد آخر وراء التعبد بالاجتناب عنه ، بل يكون الحكم بالاجتناب عن النجس بنفسه يقتضي الاجتناب عن ملاقيه ، لأنه على هذا يكون الاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن النجس وتبعاته ، كالثمرة ومنافع الدار ، حيث تقدم أن حرمة التصرف في الثمرة والمنافع من شؤون حرمة التصرف في الشجرة والدار المغصوبة ، وبناء على أن تكون نجاسة الملاقي من باب السراية

ص: 77


1- أقول : لا مجال لهذا التشبيه ، لان الامتزاج أو اتصال المايعين عند العرف كان بمنزلة ماء واحد بل حقيقة واحدة ، ومع هذه الوحدة لا يرى فيه إلا حكما واحدا يصير طرفا للعلم ، وهذا بخلاف مقامنا الذي هما موضوعان للنجاستين بلا وحدة بينهما ولا بين حكمهما شخصيا ، ففي هذه لا محيص من الالتزام بالطولية بالبرهان السابق ، ومع الطولية يخرج الملاقي ( بالكسر ) عن طرفية العلم المنجز ، كما لا يخفى.
2- أقول : مع فرض تعدد الموضوع كيف يمكن الالتزام بالعينية الشخصية ، إلا بدعوى انتقال العرض بشخصه من محله إلى محل آخر ، وهو محال ، فالقائل بالبرائة لابد وأن يلتزم بأن نجاسة الملاقي غير الملاقى مع فرض تعدد الموضوع والمحل ناشئة من قبل ملاقاته مع الآخر ، غايته يكون من شؤون نجاسة الملاقى ( بالفتح ) لكون المعلول من شؤون علته.

يكون حال الملاقي حال الثمرة والمنافع ، وهذا من غير فرق بين أن نقول : بأن النجاسة متأصلة في الجعل أو أنها منتزعة عن التكليف ، غايته أنه بناء على التأصلية تكون نجاسة الملاقي من شؤون جعل النجاسة للنجس ، وبناء على الانتزاعية يكون وجوب الاجتناب عنه من شؤون وجوب الاجتناب عن النجس.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه إن قلنا : إن نجاسة الملاقي للنجس ليست لأجل السراية بل لكونها فردا آخر للنجاسة أوجب الشارع الاجتناب عنها في عرض الاجتناب عن الملاقى ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي ، للشك في ملاقاته للنجس المعلوم في البين المستلزم للشك في حكم الشارع عليه بالنجاسة ، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، كما سيأتي بيانه.

وأما إن قلنا : بأن نجاسة الملاقي للنجس لأجل اتساع النجاسة وسرايتها من النجس إلى ملاقيه ، فلا محيص عن القول بوجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي ، لأنه على هذا يكون النجس المعلوم في البين تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن ملاقيه ، وقد عرفت : أنه كل ما كان للمعلوم بالاجمال من الآثار والاحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف ، مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به.

ولا وجه لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين وإن كانت نجاسة الملاقي للنجس من الآثار المترتبة شرعا على نفس النجس (1) وذلك لأنه بعد الاعتراف بأن وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس من الاحكام المترتبة. على نفس النجس لا يبقى مجال للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين ، لأنه على هذا يكون الملاقي

ص: 78


1- أقول : بعدما كان نظره إلى كون نجاسة الملاقي معلول نجاسة الملاقى ( بالفتح ) لا يرد عليه ما أفيد ، إلا بدعوى سراية حكم المعلوم إلى الطرف ، وهو بمكان من الفساد ، كما عرفت.

( بالكسر ) طرفا للعلم الاجمالي كالملاقي ( بالفتح ) ويسقط عنه الأصل النافي للتكليف بنفس سقوطه عن الملاقى ( بالفتح ) بالبيان المتقدم في منافع الدار وما يلحق بها ، وهذا كله واضح مما لا ينبغي الاشكال فيه.

إنما الاشكال فيما هو المستفاد من الأدلة الواردة في النجاسات ، فقد يقال : إن ما دل على وجوب الاجتناب عن النجس بنفسه يدل على وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، كما استدل ابن زهرة في الغنية بقوله تعالى : « والرجز فاهجر » (1) لوجوب هجر الملاقي. ولا يخفى ضعفه ، فان الرجس والرجز عبارة عن نفس الأعيان النجسة ، فالآية إنما تدل على وجوب الاجتناب عن الأعيان النجسة من غير تعرض لها لحكم الملاقي ، ولو كان مبنى الاستدلال على تعميم الرجز للمتنجس ، فهو مع فساده في نفسه يكون أجنبيا عن المقام ، إذ أقصاه أن تكون الآية من الأدلة على وجوب الاجتناب عن المتنجس كالنجس ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه : من إثبات كون الموضوع لوجوب الاجتناب عن المتنجس نفس النجس.

نعم : يمكن أن يستدل على ذلك بما رواه عمر بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر علیه السلام « إنه أتاه رجل ، فقال له : وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر علیه السلام لا تأكله ، فقال الرجل : الفارة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها! فقال له أبو جعفر علیه السلام إنك لم تستخف بالفارة وانما استخففت بدينك! إن اللّه حرم الميتة من كل شيء » (2).

وتقريب الاستدلال بها : هو أنه علیه السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام الذي وقعت فيه الفارة استخفافا بالدين وفسره بتحريم الميتة ، ولولا كون نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي الاجتناب عن الطعام الملاقي لها لم

ص: 79


1- سورة المدثر ، الآية : 5.
2- 2 - الوسائل : الباب 5 من أبواب الماء المضاف ، الحديث 2

يكن موقع للجواب بذلك ، فإنه لو كانت نجاسة الملاقي للميتة فردا آخر من النجاسة ثبتت بتعبد آخر من الشارع وراء التعبد بنجاسة الميتة كان ترك الاجتناب عن الطعام الملاقي لها استخفافا لوجوب الاجتناب عن الملاقي لها والتعبد بترك التصرف فيه ، لا استخفافا بتحريم الميتة ، فان حرمة الميتة على هذا لا ربط لها بحرمة الملاقي حتى يكون ترك الاجتناب عن الملاقي استخفافا لحرمة الميتة ، كما لا يخفى.

فالانصاف : أن الرواية لا تخلو عن إشعار على كون نجاسة الملاقى ( بالفتح ) تقتضي بنفسها نجاسة الملاقي ( بالكسر ) ووجوب الاجتناب عنه. ولكن الرواية ضعيفة السند لا يعتمد عليها ، مع أنه يمكن أن يكون وجه السؤال عن الطعام الذي وقعت فيه الفارة هو الجهل بنجاسة الفارة لا تنجيسها ، فأراد السائل أن يستعلم نجاسة الفارة ، غايته أنه لما كان مغروسا في ذهنه نجاسة الملاقي للنجس استعلم نجاسة الفارة بالسؤال عن الطعام الذي وقعت فيه ، فأعلمه الامام علیه السلام بنجاسة الفارة على طبق ما كان مغروسا في ذهنه ، فقال علیه السلام « لا تأكله » ثم إن السائل استخف بنجاسة الفارة بقوله « الفارة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها » فأجابه الامام علیه السلام بأن الاستخفاف بنجاسة الفارة استخفاف بالدين ، لان اللّه تعالى حرم الميتة من كل شيء ، فتكون الرواية سيقت سؤالا وجوابا لنجاسة الفارة لا لنجاسة الملاقي لها ، فتخرج الرواية عن صلاحية التمسك بها لما نحن فيه.

وبالجملة : بعد لم نعثر على دليل يعتد به يدل على كون نجاسة الملاقي للنجس ووجوب الاجتناب عنه من الآثار والاحكام المترتبة على نفس النجس (1) بل الظاهر كون الملاقي موضوعا مستقلا لوجوب الاجتناب عنه

ص: 80


1- 1 - أقول : يكفي ارتكاز الذهن ، حتى قيل : بأن نجاسة الماء العالي الوارد على النجس غير معقول ، لعدم ارتكاز إلى السراية من الداني إلى العالي ، ولكن هذا المقدار لا يجدي لوجوب الاجتناب عنه بعد فرض طولية علمه لعلم آخر سابق عنه في التنجز، ولقد شرحنا في مثله بأنه لا مجال لتنجز التكليف به ، كما لا يخفى على من راجع الحاشية الطويلة الأولى في وجه نجاسة الملاقي ( بالكسر ).

فردا آخر من النجس بتعبد يخصه في عرض التعبد بنجاسة الملاقى ( بالفتح ). وحينئذ لا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ، للشك في ملاقاته للنجس ، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

فإن قلت : كيف تجري أصالة الطهارة في الملاقي مع أنه كالملاقي يكون طرفا للعلم الاجمالي ، لأنه عند العلم بنجاسة أحد الشيئين وملاقاة ثالث لأحدهما يحصل علوم ثلاثة : علم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، وعلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، وعلم بنجاسة الملاقى والملاقي معا أو الطرف ، لأنه بعد الملاقاة يعلم باتحاد حكم الملاقى والملاقي فيكونان معا بمنزلة طرف واحد للعلم الاجمالي ، كما لو علم بوقوع قطرة من الدم إما في هذا الاناء الواحد وإما في ذينك الانائين ، ومقتضى هذه العلوم الثلاثة هو تعارض أصالة الطهارة في كل من الملاقي والملاقى والطرف ، فيجب الاجتناب عن الجميع مقدمة لحصول العلم بالاجتناب عن النجس المعلوم في البين.

قلت : حصول العلوم الثلاثة وإن كان وجدانيا لا سبيل إلى إنكاره ، إلا أن المؤثر من هذه العلوم الثلاثة هو الأول وهو العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، ولا أثر للعلمين الآخرين.

أما الأول منهما : وهو العلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) والطرف ، فلسبق التكليف بالاجتناب عن الطرف ، لأنه كان طرفا للملاقى ( بالفتح ) قبل تحقق الملاقاة ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه لا أثر للعلم الاجمالي إذا كان في بعض أطرافه أصل مثبت للتكليف في الرتبة السابقة عن العلم الاجمالي ولو كان الأصل المثبت عقليا ، كما إذا كان طرفا لعلم إجمالي آخر - كما في

ص: 81

$$$$$$$$$$$$$$$

المقام - فلا يجري الأصل النافي فيما يجري فيه الأصل المثبت ، فتبقى أصالة الطهارة جارية في الملاقي ( بالكسر ) بلا معارض (1) وهذا من غير فرق بين سبق العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف على العلم بالملاقات ، أو سبق العلم بالملاقات على العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف ، غايته أن الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، والثاني يوجب انحلاله ، لان المدار على سبق المعلوم لا على سبق العلم ، وسيأتي توضيحه.

وأما الثاني منهما : وهو العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف ، فلان الملاقي ( بالكسر ) ليس في عرض الملاقى ( بالفتح ) حتى يكونا معا بمنزلة طرف واحد ، لأن الشك في نجاسة الملاقي وطهارته مسبب عن الشك في طهارة الملاقى ونجاسته ، والأصل الجاري في الشك السببي ليس في رتبة الأصل الجاري في الشك المسببي ليجريان معا أو يسقطان معا ، بل رتبة الأصل السببي مقدمة على الأصل المسببي (2) ولا تصل النوبة إليه مع جريان الأصل السببي توافقا في الذي مبناه على مانعية نفس العلم عن جريان الأصل في الطرف ولو بلا معارض.

ص: 82


1- أقول : على مسلكه من جريان الأصل بلا معارض في طرف لا يحتاج إلى اسقاط المتأخر عن التأثير ، وإنما هو شأن من التزم بأن منجزية العلم مانع عن الجريان ولو بلا معارض ، فلا يخلو هذه الكلمات عن الخلط بين المسلكين ، فتدبر.
2- أقول : ما أفيد على مبناه : من أن منشأ سقوط الأصل في أطراف العلم جهة معارضته في غاية المتانة ، لان الأصل السببي يجري على أي حال في موضوعه بلا معارض ، لسقوط أصل الطرف بمعارضته مع الأصل في السبب. وأما لو بنينا على المختار : من علية العلم للموافقة القطعية أيضا - بحيث يكون المانع عن جريان الأصل في العلم المنجز للتكليف هو نفس العلم ولو لم يكن للأصل معارض - فلا محيص في جريان الأصل المسببي الفارغ عن المعارض من أن لا يكون في طرف العلم المنجز ، ولو بأن يكون مسبوقا بحسب الرتبة بعلم آخر منجز لطرفيه ، كي يرد العلم المتأخر رتبة على ما يتنجز طرفيه في الرتبة السابقة الموجب لمنع العلم المتأخر عن صلاحية المنجزية في أحد الطرفين من جهة سبقه بعلة أخرى ، وحيث كان الامر كذلك ، فتمام المدار في جريان الأصل النافي المسببي الغير المعارض على عدم سبق علمه بمنجز آخر رتبة ، ومن المعلوم : أن إثبات هذه الجهة لا يمكن إلا بفرض كون العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) ناشئا عن العلم بالملاقات مع طرف العلم بالنجاسة في البين ، وإلا فلو فرض العلم بنجاسة المتلاقيين من الأول من غير جهة الملاقاة ، ولو بمثل إخبار معصوم أو شيء آخر مفيد لليقين بنجاستهما ، ثم علم بأن منشأ النجاسة في الملاقي ( بالكسر ) ملاقاته مع الملاقى ( بالفتح ) فالعلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) لا يكون مسبوقا بالعلم الآخر ، بل هما في عرض واحد ، كما لو علم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) مع الطرف الآخر ، ثم علم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) من قبل العلم بملاقاته مع الآخر ، فلا محيص في مثل هذه الصورة العلم بين المسبب والطرف سابقا عن العلم بالسبب والطرف ، عكس الصورة الأولى ، ففي مثل هذا يكون التنجز منحصرا بالمسبب دون السبب ، عكس السابق. كما أنّ في الصورة الثانية كان العلمان في رتبة واحدة بلا سبق لأحدهما على الآخر رتبة، فلا موجب لتنجّز الملاقى و الطرف بلا تنجّز الملاقي (بالكسر) مع كونه أيضا طرفا لهذا العلم. و توهّم: أنّ مدار تأثير العلم في التنجّز على سبق المعلوم و لحوقه لا على سبق العلم، كلام ظاهري، إذ بعد الجزم بأنّ التكليف- في أي وقت أو مرتبة كان- لا يعقل أن يتنجّز إلّا في ظرف تعلّق العلم به، بحيث يستحيل أن يؤثّر العلم في تنجّز المعلوم قبل تحقّقه، فمن حين تحقّق العلم يلاحظ بأنّه إن كان العلم المزبور قام على طرفه منجّز سابق أو مقارن يخرج العلم المزبور عن المنجّزيّة، و إلّا يبقى منجّزا لمعلومه، و حينئذ إذا فرض كون العلم بالسبب ناشئا عن العلم بالمسبّب، يستحيل تأثير العلم بالسبب لسبقه بالمنجّز بحسب الرتبة، و مجرّد سبق المعلوم رتبة كيف يجدي في قلب العلم أو تأثيره في التنجّز في المرتبة السابقة؟. و توهّم: أن العلم من عوارض المعلوم فمع سبق المعلوم قهرا يسبق علمه عن العلم بمسبّبه، مدفوع غاية الدفع، إذ مجرّد سبق شي ء في الوجود الخارجي على شي ء لا يقتضي سبق علمه، لعدم كون العلم من عوارض الوجود خارجا، و إنّما ظرف عروضه الذهن، غاية الأمر بما هو منظور خارجيّا، لا الخارج، و من البديهي أنّ السبق في الوجود لا يقتضي السبق في عالم التصوّر، و لذا ربما يصير العلم بالمعلول علّة للعلم بالعلّة بلا انقلاب العلمين عمّا هما عليه من العلية و المعلوليّة، و حيث كان كذلك، فلا وقع لهذا الكلام: من أنّ المدار في سبق التنجّز على سبق المعلوم لا العلم. و العجب من مثل هذا المقرّر! حيث إنّه يجري الأصل في طرف واحد بلا معارض، و مثله لا يحتاج إلى إثبات سبق العلم بمنجّز آخر، بل يكفيه مجرّد سبق المعلوم رتبة في جريان الأصل في المسبّب بلا معارض، و لا داعي له على إثبات عدم سبق لعلم بمنجّز آخر أو سبقه، كي يلتزم بمثل هذا المحذور و صدور هذه الكلمات قبال أستاذنا الأعظم نعم: على مسلكه يلزم إشكال آخر، و هو أنّ أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) و إن كان معارضا مع أصالة الطهارة في الطرف، و لكن بعد سقوط أصالة الطهارة فيه ينتهي النوبة إلى أصالة حلّيّته و يصير هذا الأصل في رتبة أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) فيتساقطان، ثمّ بعد ذلك ينتهي النوبة إلى أصالة الحلّيّة في الملاقي (بالكسر) و هو لا ينتج إلّا في جواز شربه، و لا يجدي في صحّة وضوئه المشروط بطهارة مائه، مع أنّ بنائهم على صحّة الوضوء بالملاقي (بالكسر) لأصالة طهارته. و لعمري! أنّ هذه الشبهة من غوامض الشبهات. و العجب من الماتن! إنّه لم لم يتعرّض له، مع أنّه مسبوق به، و لعلّه من جهة وضع تقريره على الاقتفاء على ما أفاده أستاذه- و التحقيق أنّ هذه الشبهة على مسلك اقتضاء العلم و سقوط الأصول ممّا لا محيص عنه. و أمّا على مسلكنا: من مانعيّة العلم عن جريان الأصل في طرفه و لو بلا معارض، فالإشكال لا وقع له، لأنّه لو فرض عدم معارضة أصالة الحلّ في الطرف مع أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) لا مجال لجريانه في الطرف الآخر، لأنّ العلم الإجمالي السابق بعد ما يتنجّز التكليف بحرمة الشرب و الوضوء به أوّلا لا يكاد يجري فيه أصالة الحلّيّة في طرفه، لسبق تنجّز التكليف في المحتمل المانع عن الأصل النافي، و حينئذ لا يكاد يجري هذا الأصل، كي يصلح للمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر). نعم: على مسلكه يلزم إشكال آخر، و هو أنّ أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) و إن كان معارضا مع أصالة الطهارة في الطرف، و لكن بعد سقوط أصالة الطهارة فيه ينتهي النوبة إلى أصالة حلّيّته و يصير هذا الأصل في رتبة أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) فيتساقطان، ثمّ بعد ذلك ينتهي النوبة إلى أصالة الحلّيّة في الملاقي (بالكسر) و هو لا ينتج إلّا في جواز شربه، و لا يجدي في صحّة وضوئه المشروط بطهارة مائه، مع أنّ بنائهم على صحّة الوضوء بالملاقي (بالكسر) لأصالة طهارته. و لعمري! أنّ هذه الشبهة من غوامض الشبهات. و العجب من الماتن! إنّه لم لم يتعرّض له، مع أنّه مسبوق به، و لعلّه من جهة وضع تقريره على الاقتفاء على ما أفاده أستاذه- و التحقيق أنّ هذه الشبهة على مسلك اقتضاء العلم و سقوط الأصول ممّا لا محيص عنه. و أمّا على مسلكنا: من مانعيّة العلم عن جريان الأصل في طرفه و لو بلا معارض، فالإشكال لا وقع له، لأنّه لو فرض عدم معارضة أصالة الحلّ في الطرف مع أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) لا مجال لجريانه في الطرف الآخر، لأنّ العلم الإجمالي السابق بعد ما يتنجّز التكليف بحرمة الشرب و الوضوء به أوّلا لا يكاد يجري فيه أصالة الحلّيّة في طرفه، لسبق تنجّز التكليف في المحتمل المانع عن الأصل النافي، و حينئذ لا يكاد يجري هذا الأصل، كي يصلح للمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر).

المؤدى أو تخالفا ، لان الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، كما يأتي بيانه

ص: 83

( إن شاء اللّه تعالى ) في خاتمة الاستصحاب ، وإنما تصل النوبة إلى الأصل المسببي عند عدم جريان الأصل السببي لموجب ، فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي ( بالكسر ) ليست في عرض أصالة الطهارة الجارية في الملاقى ( بالفتح ) لتسقط بسقوطها ، بل جريانها موقوف على سقوط أصالة الطهارة في الملاقى ( بالفتح ) بالمعارضة لأصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر ، ففي ظرف جريان أصالة الطهارة في الملاقى لم تجر أصالة لطهارة في الملاقي ( بالكسر ) وفي ظرف جريان أصالة الطهارة فيه لم يكن لها معارض ، لسقوط معارضها في الرتبة السابقة.

وقياس الملاقى والملاقي بالانائين في المثال المتقدم في كونهما طرفا واحدا للعلم الاجمالي ليس في محله ، فان الشك في نجاسة أحد الانائين وطهارته في المثال ليس مسببا عن الشك في نجاسة الآخر وطهارته ، بل الشك في كل منهما مسبب

ص: 84

عن وقوع النجاسة فيهما أو في الاناء الثالث ، فالأصل في كل من الانائين يجريان في عرض واحد ويسقطان بالمعارضة للأصل الجاري في الاناء الثالث.

فظهر : أن المؤثر من العلوم الثلاثة التي ذكرها المستشكل هو خصوص العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف.

إزاحة شبهة :

للمحقق الخراساني قدس سره تفصيل في وجوب الاجتناب عن الملاقي أو الملاقى.

فتارة : أوجب الاجتناب عن الملاقى ( بالفتح ) دون الملاقي ، وذلك فيما إذا تأخر العلم بالملاقات عن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف.

وأخرى : أوجب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) دون الملاقى. وقد ذكر لذلك موردين :

الأول : ما إذا تأخر العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف عن العلم بالملاقات والعلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، كما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف من دون التفات إلى سبب نجاسة الملاقي ، ثم حدث العلم بالملاقات والعلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف والعلم بأنه ليس لنجاسة الملاقي ( بالكسر ) على تقدير أن يكون هو النجس الذي تعلق العلم به أولا سبب إلا جهة ملاقاته ، لأن المفروض أنه ليس في البين إلا نجاسة واحدة ، والتقييد بانحصار سبب نجاسة الملاقي بالملاقات وإن لم يصرح به في متن الكفاية ، إلا أنه صرح بذلك في حاشية الكفاية ، ووجه الحاجة إلى القيد واضح.

الثاني : ما إذا علم بالملاقات ، ثم حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، ولكن حال حدوث العلم الاجمالي كان الملاقي ( بالكسر )

ص: 85

موردا للابتلاء ، والملاقى ( بالفتح ) خارجا عن مورد الابتلاء ثم عاد إلى مورد الابتلاء.

وثالثة : أوجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معا ، وذلك فيما إذا حصل العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف بعد العلم بالملاقات مع كون كل منهما في مورد الابتلاء.

هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في الحاشية.

ولا يخفى عليك : أن هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي بما أنه علم وصفة قائمة في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وإن تبدلت صورته وانقلبت عما حدثت عليه ، لأنه يكون المدار حينئذ على حال حدوث العلم ، ومن المعلوم : أنه قد يكون متعلق العلم الاجمالي حال حدوثه هو نجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، وقد يكون هو نجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، وقد يكون هو نجاستهما معا أو الطرف.

ولكن الانصاف : فساد المبنى بمثابة لا سبيل إلى الالتزام به ، ضرورة أن المدار في تأثير العلم الاجمالي إنما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، وفي جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالفتح ) والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) وإن تقدم زمان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، لان التكليف في الملاقي إنما جاء من قبل التكليف بالملاقى ، فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخره بعدما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا رتبة أو زمانا على المعلوم بالآخر ، كما أنه لا أثر لخروج الملاقى ( بالفتح ) عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم ، ووضوح الامر وإن كان بمثابة لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان لإزاحة الشبهة.

ص: 86

فنقول : إنه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقائه على صفة حدوثه وعدم تعقبه بما يوجب انحلاله وتبدل المنكشف به (1) لان اعتبار العلم الاجمالي إنما هو لكونه طريقا وكاشفا عن التكليف المولوي ، فلابد من انحفاظ طريقيته وكاشفيته ، وهو إنما يكون ببقائه على صفة حدوثه وعدم حدوث ما يوجب تغييرا في ناحية المعلوم ، فالعلم الاجمالي بوجوب الاجتناب عن أحد الشيئين إنما يقتضي الاجتناب عنهما إذا لم يحدث ما يقتضي سبق التكليف بالاجتناب عن أحدهما ولو كان ذلك علما إجماليا آخر كان المعلوم به سابقا في الزمان أو في الرتبة على المعلوم بالعلم الاجمالي الأول ، وإلا كان المدار على العلم الاجمالي الثاني الذي سبق معلومه معلوم الأول وسقط العلم الأول عن الاعتبار.

فلو علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الانائين ، ثم بعد ذلك علم بوقوع قطرة أخرى من الدم في أحد هذين الانائين أو في الاناء الثالث ، ولكن ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانيا أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أولا ، فلا ينبغي التأمل في أن العلم الاجمالي الثاني يوجب انحلال الأول لسبق معلومه عليه (2) ومن الواضح : أن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) والطرف دائما يكون المعلوم به متأخرا عن المعلوم بالعلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف ،

ص: 87


1- أقول : لا ريب في ذلك ، وإنما الكلام في أن سبق التكليف بشيء آخر وعدمه لا يوجب انقلاب العلم عما هو عليه ، والمفروض أن المنجزية يدور مدار العلم بالتكليف ، فإذا فرض علم آخر بتكليف آخر سابق عليه ، فان كان هذا العلم مسببا عن العلم الأول فالمنجزية للسابق ولو كان في التكليف لاحقا ، فما قيل في المقام حينئذ لا يخلو عن مصادرة.
2- أقول : فليت شعري! أين هذا الجزم؟ فإنه بعد أن لا يعقل أن يكون العلم المتأخر منجزا للمعلوم في الزمان السابق عن العلم ، فالعلم الحاصل من الأول بأن هذا الكأس واجب الاجتناب في أول الصبح أو الكأس الآخر في آخر اليوم ، هذا العلم التدريجي أين ذهبت؟ وأي مانع عن منجزيته؟ ولعمري ان هذه الكلمات كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!!!.

تقارن العلمان في الزمان ، أو تقدم تعلق العلم بالملاقي ( بالكسر ) على تعلق العلم بالملاقى أو انعكس الامر ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بزمان حدوث العلم ، بل العبرة بزمان حدوث المعلوم. والنجاسة المعلومة بين الملاقى ( بالفتح ) والطرف تكون أسبق من النجاسة المعلومة بين الملاقي ( بالكسر ) والطرف في جميع الصور ، ففي أي زمان يحدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف يسقط العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والطرف عن التأثير ، لأنه يتبين سبق التكليف بالاجتناب عن أحد طرفيه وهو طرف الملاقى ( بالفتح ) فتكون الشبهة بالنسبة إلى الملاقي ( بالكسر ) بدوية تجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

هذا كله ، مضافا إلى أن الذوق يأبى عن أن يكون الحكم وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) دون الملاقى ، مع أن التكليف به إنما يأتي من قبل التكليف بالملاقى ( بالفتح ).

نعم : لو فرض أن الملاقى ( بالفتح ) كان في ظرف حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محله ولو بالأصل ، فالعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف مما لا أثر له ، ويبقى الملاقي ( بالكسر ) طرفا للعلم الاجمالي فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف (1) لان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف وإن تقدم معلومه على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي

ص: 88


1- أقول : بناء على مشرب اقتضاء العلم وجريان الأصل النافي بلا معارض ، لنا أن نقول : إنه لا بأس بجريان الأصل في الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ آثاره المبتلى به ، فيسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف ، فيجري الأصل في الملاقي ( بالكسر ) أيضا بلا معارض. نعم: له أن يقول: إنّ ما نحن فيه من قبيل قاعدة الطهارة بالنسبة إلى استصحابها، فلو تمّ الجواب هناك لتمّ هنا، و لقد عرفت عدم تماميّة الجواب هناك، فلا يتمّ في المقام أيضا، و لذا أوردنا على شيخنا العلامة بأنّ الجمع بين إطلاق جريان الأصل في المسبّب حتّى مع تقدّم علمه على العلم بالسبب مع الالتزام بجريان الأصل في المقام لا يخلو عن التهافت، لعدم مناسبته مع واحد من المسلكين في علّيّة العلم و اقتضائه، فتدبّر.

( بالكسر ) أو الطرف ، إلا أنه لما كان الملاقى ( بالفتح ) خارجا عن محل الابتلاء فلا أثر للعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف. ولا تجري فيه أصالة الطهارة لتعارض أصالة الطهارة في الطرف ليبقى الأصل في الملاقي ( بالكسر ) سليما عن المعارض ، بل المعارض للأصل الجاري في الطرف هو الأصل الجاري في الملاقي ( بالكسر ) وذلك كله واضح ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

تذييل :

قد عرفت : أن عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال كان مبنيا على أن لا تكون نجاسة الملاقي للنجس لأجل سراية النجاسة منه إليه ، بل لكونها فردا آخر من النجاسة أوجب الشارع الاجتناب عنه بتعبد يخصه.

ولو شك في أحد الوجهين ، ففي وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي وعدمه وجهان : أقواهما وجوب الاجتناب عنه.

ويتضح وجهه بتقديم مقدمة ربما تمر عليك في بعض المباحث الآتية ، وهي : أنه لو دار الامر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر :

فتارة : لا يكون بين الشيئين واسطة ، بل كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، كما إذا شك في أن الجهر بالقراءة شرط في الصلاة أو أن الاخفات بها مانع ، فإنه لا واسطة بين الجهر والاخفات ولا يمكن خلو القراءة عن الوصفين.

وأخرى : يكون بين الشيئين واسطة ، كما إذا شك في أن السورة بشرط الوحدة شرط في الصلاة؟ أو أن القران مانع؟ فإنه يمكن خلو الصلاة عن السورة والقران ، فتكون الصلاة بلا سورة واسطة بينهما.

لا إشكال في جريان البراءة عن الشرطية المشكوكة في القسم الثاني ، لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر ، لان شرطية السورة بقيد الوحدة تقتضي بطلان

ص: 89

الصلاة بلا سورة ، ومانعية القران لا تقتضي ذلك ، فلا يشترك جعل الشرطية مع جعل المانعية في جميع الآثار ، بل يكون في جعل الشرطية أثر زائد تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع.

وبعبارة أوضح : في المثال المذكور يعلم تفصيلا بأن القران مبطل للصلاة ، إما لفقد الشرط من السورة بقيد الوحدة ، وإما لوجود المانع ، ويشك في بطلان الصلاة بلا سورة للشك في شرطية السورة ، فتجري فيه البراءة (1).

ص: 90


1- أقول : وببيان أظهر : أن الشك في مانعية القران لا يكون ملزما باتيان السورة بذاته ، فالبرائة يجري فيه بلا مانع ، بخلاف المقام ، فإنه بعد الجزم بوجوب إتيان القراءة الشك في مانعية الاخفات المقرون بالعلم الاجمالي المزبور يلزم باتيان الجهر تحصيلا للجزم بالفراغ ، وحينئذ فما أفيد : من جريان الأصل عند الشك في وجود المانع في غاية المتانة على المختار : من أن حكم العقل بالفراغ بعد ثبوت الاشتغال تنجيزي ، لأنه على المانعية أصالة عدم وجود ما هو المانع يجدي في الفراغ الجعلي ، ولا يجدي هذا الأصل في طرف وجود الشرط ، بل أصله يقتضي عدم الفراغ. و أمّا لو بنينا على مبناه: من جريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي بلا معارض من كون حكم العقل في مرتبة الفراغ حكما تعليقيّا، فلا شبهة حينئذ في كون أمر وضع هذا الحكم و رفعه بيد الشارع و لو بإيجاد منشئه من الترخيص على تركه، و حينئذ فللشارع أن يرخّص في ترك تحصيل الجزم بحصول الشرط و لو من جهة الشكّ في حرمة تركه فعلا، فيشمله حينئذ عموم «كلّ شي ء لك حلال» بل و حديث الرفع، لتطبيقه على رفع المؤاخذة عن ترك تحصيل ما هو مشكوك وجوبه و لو بإبداء الترخيص في تركه. و توهّم حكومة استصحاب وجوبه على مثل هذه الأصول، مدفوع أوّلا بأنّ الاستصحاب كيف يجري في فرض توارد الحالتين؟ أو في صورة الشكّ في محققات أمر بسيط؟ و ثانيا أنّ هذه الجهة غير مرتبط بما أفيد: من القصور في اقتضاء حديث الرفع و غيره للشمول في المقام. هذا كلّه، مع أنّ بقاء الوجوب و عدمه من ناحية الفراغ و عدمه عقليّ و ليس أمر وضعه و رفعه بيد الشارع، فلا مجال لجريان الاستصحاب المزبور عند الشكّ في الوجوب من ناحية الفراغ، بل المرجع في مثله ليس إلّا قاعدة الاشتغال، فإذا فرضنا أنّ حكم العقل تعليقي، فلا قصور لجريان الأصول السابقة، فيرتفع حكم العقل بتحصيل الجزم به، و لازم ذلك حينئذ عدم كون ما نحن فيه من قبيل الشكّ في شرطيّة الجهر أو مانعيّة الإخفات، إذ لا بأس بجريان الأصل عند الشكّ في وجود الشرط، بخلاف المقام، فانّ جريان أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) فرع إحراز السببيّة و المسببيّة بينهما، و مع الشكّ لا قصور في شمول العموم له، فيتساقط الجميع، كما لا يخفى.

وأما القسم الأول : فالشك فيه يرجع إلى المتبانين لا الي الاقل والاكثر لاشتراك الشرطية والمانعيه في الاثار وليس للشرطية اثر زائد تجري فيه البرائة ، اذ كما ان الشرطية الجهر تقتضي بطلان الصلاة عند الاخفات بالقراءة ، كذلك مانعية الاخفات تقتضي بطلان الصلاة عنده فلا فرق بين ان يكون الجهر شرطا او يكون الاخفات مانعا ، ويتحدان في عالم الجعل والثبوت في الاثر.

نعم : نفس الشك في الشرطية يقتضي اثرا زائدا عما يقتضيه الشك في المانعية ، لان الشرط لابد من إحرازه ولا يكفي الشك في وجوده ، بخلاف المانع ، فإنه لا يلزم إحراز عدمه بناء على جريان أصالة عدم المانع عند الشك في وجوده.

ففي المثال لو شك المأموم في أن الامام أجهر بالقراءة أو أخفت بها ، فبناء على مانعية الاخفات تجري أصالة عدم وجود المانع ويتم صلاته مع الامام ، وبناء على شرطية الجهر ليس له إتمام صلاته معه ، لعدم إحراز ما هو الشرط في صحة صلاته (1) فلزوم إحراز الشرط إنما يكون من الآثار المترتبة على نفس الشك في الشرطية ، وليس من آثار جعل الشرطية ، وحينئذ يقع الكلام في أن هذا المقدار من الأثر الذي اقتضاه الشك لا الجعل مما تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع ، أو لا؟.

وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب جريان الأصل ، هو أنه يلزم من جعل الشرطية ضيق وكلفة على المكلفين ، لأنه يلزمهم إحراز وجود الشرط ، بخلاف جعل المانعية ، فإنهم في سعة عن ذلك ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة ، لان في رفع الشرطية منة وتوسعة على المكلفين.

ص: 91


1- أقول : لولا جريان أصالة الصحة في صلاته حتى مع الشك في فقد شرطه.

هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة - عند شرح الحديث المبارك - أنه يعتبر في الرفع مضافا إلى ذلك أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعية التي يمكن أن تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ولو تبعا ، وخصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من المجعولات الشرعية ولا من لوازم المجعول الشرعي ، بل هي من الآثار المترتبة على الشك فيما هو المجعول الشرعي ، ومثل هذه الخصوصية لا يعمها حديث الرفع ولا تجري فيها البراءة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول في المقام : إن الوجهين اللذين ذكرناهما في نجاسة الملاقي يشتركان في الأثر ، لأنه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس على كل تقدير ، سواء قلنا بالسراية أو لم نقل ، وليس هناك أثر يختص به أحد الوجهين في عالم الجعل والثبوت.

نعم : يفترقان في حال الشك ويظهر لاحد الوجهين أثر زائد عنده ، فإنه بناء على السراية يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ولا تجري فيه أصالة الطهارة مع أنه يشك في ملاقاته للنجس ، على ما تقدم بيانه ، وبناء على الوجه الآخر لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة ، فيكون الشك في أحد الوجهين لنجاسة الملاقي كالشك في شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر في الضدين اللذين لا ثالث لهما من حيث عدم اقتضاء أحد الجعلين أثرا زائدا عما يقتضيه الجعل الآخر واقتضاء الشك فيما هو المجعول أثرا زائدا.

فان قلنا في دوران الامر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر بجريان البراءة عن الأثر الذي اقتضاه الشك قلنا به في المقام أيضا ، وتجري أصالة الطهارة في الملاقي لاحد الطرفين ، وإن قلنا بعدم جريان البراءة في ذلك المقام فاللازم الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين ، ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لأنه طرف للعلم الاجمالي وجدانا ، وإنما أخرجناه عن ذلك بمعونة السببية والمسببية

ص: 92

بالبيان المتقدم. والسببية والمسببية كانت مبنية على أن لا تكون نجاسة الملاقي بالسراية ، فلو احتمل كونها بالسراية - كما هو المفروض - تبقى طرفيته للعلم الاجمالي على حالها كالملاقي ( بالفتح ) ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لمعارضتها بأصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر (1) فتأمل فإنه لا يخلو عن دقة.

الامر الخامس :
اشارة

لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف :

فتارة : يكون الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به ، كما لو اضطر إلى استعمال أحد مقطوعي الطهارة أو الحلية ثم حدثت نجاسة أحدهما أو حرمته والعلم بها. وأخرى : يكون الاضطرار بعد تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به. وثالثة : يكون الاضطرار بعد العلم به أيضا أو مقارنا له.

وعلى جميع التقادير : فتارة يكون الاضطرار إلى أحدها المعين. وأخرى إلى أحدها لا بعينه.

فإن كان الاضطرار قبل تعلق التكليف والعلم به وكان إلى المعين ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر الغير المضطر إليه ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف هو المضطر إليه ، فالعلم الاجمالي الحادث لم يتعلق بالتكليف الفعلي ، والأصول غير جارية في جميع الأطراف لتسقط بالمعارضة ، لعدم جريان الأصل النافي للتكليف في الطرف المضطر إليه ، للقطع بعدم وجوب الاجتناب عنه ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا

ص: 93


1- أقول : ولعمري! ان المسألة في المقام يتم بكلمتين ، وملخصه أن جريان الأصل في الملاقي فرع إحراز المسببية ، إذ مع الشك فيه فلا قصور في شمول العموم له أيضا في ظرف شموله للبقية ، فتساقط الأصول جميعا ، وبعد ذلك أين الداعي على بسط الكلام في شيء آخر؟ لا يكاد يتم المقايسة بينه وبين المقام إلا على مختارنا - كما أسلفناه مفصلا - لا على مختاره.

معارض.

ولو كان إلى غير المعين ، فحكمه الاضطرار إلى الواحد لا بعينه بعد تعلق التكليف بأحد الأطراف وقبل العلم الاجمالي به. وسيأتي أن الأقوى فيه وجوب الاجتناب عما عدا ما يدفع به الاضطرار.

وإن كان الاضطرار بعد تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به وكان إلى المعين ، فالأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه وفاقا للشيخ قدس سره لان الاضطرار إلى بعض الأطراف قبل العلم الاجمالي كتلف بعضها قبله ، ولا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الباقي الغير التالف ، لاحتمال أن يكون التالف هو متعلق التكليف ، فلا يكون العلم الاجمالي علما بالتكليف ، فلا تعارض بين الأصول ، بل الأصل في التالف لا يجري ، وفي الباقي يجري بلا معارض (1) والاضطرار ملحق بالتلف في جميع المقامات ، لان المضطر إليه كالمعدوم.

فإن قلت : لا أثر لتأخر حدوث العلم الاجمالي عن الاضطرار إذا كان المعلوم سابقا على الاضطرار ، فان المدار على المعلوم لا على العلم ، إذ العلم إنما يكون طريقا وكاشفا عن التكليف ، فلابد من ملاحظة زمان ثبوت التكليف لا زمان حدوث العلم ، والمفروض : أن التكليف بالاجتناب عن أحد الأطراف كان سابقا على الاضطرار ولم يعلم وقوع الاضطرار إلى متعلق التكليف ليسقط التكليف بسببه ، فلابد من تحصيل العلم بالمسقط ليأمن من تبعة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل ذلك إلا بالاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه.

ص: 94


1- أقول : هذا كله على ممشاه : من أن سقوط الأصول عن الأطراف بالتساقط ، وهكذا على ممشانا : من مانعية العلم عن الجريان ولو بلا معارض ، لأنه فرع العلم بالتكليف ، وليس حتى مع سبق التكليف ، لان سبقه لا يجدي شيئا بعد عدم كون العلم إلا منجزا من حينه ، كما لا يخفى.

وقد حكي أن شيخنا الأستاذ - مد ظله - كان في الدورة السابقة بانيا على هذا الوجه ولكن عدل عنه في هذه الدورة وأجاب عن الاشكال بما سيتلى عليك

قلت : العلم الاجمالي وإن كان بالنسبة إلى متعلقه لا يكون إلا كاشفا وطريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى التنجيز وجريان الأصول في الأطراف وتعارضها وتساقطها يكون تمام الموضوع ، بداهة أنه قبل العلم الاجمالي بتعلق التكليف بأحد الأطراف لا تجري الأصول فيها لكي يقع التعارض بينها ، لان الأصول العملية إنما جعلت وظيفة للمتحير والشاك ، ولا شك مع عدم العلم الاجمالي ، فقبل العلم الاجمالي لا تجري الأصول النافية للتكليف في الأطراف ، وبعد العلم الاجمالي لا تعارض بينها ، لعدم جريان الأصل في الطرف المضطر إليه ، للقطع بعدم وجوب الاجتناب عنه ، ولا يعقل التعبد بما يكون محرزا بالوجدان ، فلم يبق إلا الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا معارض. وقد عرفت في بعض المباحث السابقة التلازم بين تأثير العلم الاجمالي وتعارض الأصول.

فالأقوى : أنه لا فرق في عدم وجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه بين سبق التكليف على الاضطرار وعدمه إذا كان العلم به بعد الاضطرار.

وقس عليه ما إذا كان العلم مقارنا للاضطرار ، لان العلم الاجمالي إنما يقتضي تنجيز التكليف الذي يمكن امتثاله والانبعاث عنه بعد العلم ، فالعلم المقارن للاضطرار لا يوجب التنجيز فلا تعارض بين الأصول ، وهو واضح.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى المعين قبل العلم الاجمالي أو مقارنا له.

وأما إذا كان بعد العلم الاجمالي ، فالأقوى فيه وجوب الاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه ، لان التكليف قد تنجز بالعلم الاجمالي فلابد من الخروج عن عهدته (1) وأقصى ما يقتضيه الاضطرار إلى المعين هو الترخيص فيما

ص: 95


1- 1 - أقول : مجرد حدوث العلم الاجمالي بين الشيئين لا يوجب التنجز إلى الأبد ، لان كل طريق عقلي أم شرعي إنما يوجب التنجز في آن وجوده ، ولا يؤثر في التنجز حتى في حال انعدامه ، كما أن سقوط الأصول بمناط المعارضة لا يقتضي سقوطها مطلقا حتى مع ذهاب المانع من البين ، وحينئذ هذا المقدار من البيان لا يجدي لاثبات وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لا في المقام ولا في باب تلف مورد التكليف. و ما أفيد من الفرق: من عدم كون التلف حدّا بخلاف الاضطرار، قد حقّقنا بطلانه بأنّ ما هو ليس بحدّ نفس معروض التكليف لا متعلّقه، كيف و هو من قبيل شرط التكليف! فكيف لا يكون من حدوده؟ و بالجملة نقول: إنّه لو لا تشكيل العلم الإجمالي بين التدريجيين و منجّزيّته لما يكاد إثبات منجّز في البين من حين الاضطرار. و ربّما يستفاد من بعض كلمات المقرّر التزامه بمثل هذا العلم و تشبّثه به في قوله: من «التكليف المردّد بين المحدود و غير المحدود» خصوصا مع تمثّله بالصلاة المزبورة، فان أراد ما ذكرنا فلقد أجاد، و إن أراد أنّ العلم بين المحدود و غير المحدود بمجرّد الحدوث منجّز إلى الأبد، فهو أوّل شي ء ينكر، فتدبّر. و الظاهر أنّه أراد المعنى الأخير بقرينة إيراده على أستاذنا الأعظم في فرقه بين الاضطرار بعد العلم في المعيّن و بين غير المعيّن، و سيتّضح ذلك (إن شاء اللّه تعالى) عند التعرّض لكلامه.

اضطر إليه ورفع التكليف عنه على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف واقعا وهذا لا يوجب الترخيص فيما عداه ورفع التكليف عنه على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف ، لان الضرورات تتقدر بقدرها ، فلا مجوز لارتكاب ما عدا المضطر إليه ، لا عقلا ولا شرعا.

أما عقلا : فلعدم جريان البراءة العقلية فيه ، لعدم تقبيح العقل مؤاخذة من خالف التكليف وارتكب الحرام المعلوم في البين تشهيا بلا اضطرار إليه.

وأما شرعا : فلتساقط الأصول النافية للتكليف بمجرد حدوث العلم الاجمالي ، وعروض الاضطرار لا يوجب رجوع الأصل في الطرف الغير المضطر إليه ، كما لا يوجب ذلك في الطرف الباقي عند تلف الآخر بعد العلم الاجمالي ، فالاضطرار إلى البعض بعد العلم الاجمالي كتلف البعض بعده لا يوجب سقوط العلم الاجمالي عن التأثير بعدما حدث مؤثرا.

ص: 96

وهذا بخلاف ما إذا كان الاضطرار حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فان العلم فيه يحدث قاصرا عن التأثير ، فلا يقاس أحدهما بالآخر ، بل حق القياس أن يقاس الاضطرار قبل العلم الاجمالي بتلف البعض قبله ، والاضطرار بعد العلم الاجمالي بتلف البعض بعده.

وما قيل في المقام : من الفرق بين تلف البعض بعد العلم والاضطرار إليه بعده ، من أن تلف موضوع التكليف ليس من حدود التكليف وقيوده الشرعية ، بل سقوط التكليف بتلف الموضوع إنما هو لأجل انعدام الموضوع وقواته ، فالمعلوم بالاجمال من أول الامر هو التكليف المطلق الغير المقيد شرعا بعدم تلف الموضوع ، وقد تنجز التكليف المطلق بالعلم الاجمالي ، فلابد من الخروج عن عهدته بترك التصرف في الطرف الباقي ، وهذا غير الاضطرار إلى موضوع التكليف ، فان التكليف من أول الامر محدود شرعا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه ، فلا موجب لتنجز التكليف مطلقا حتى مع حصول الاضطرار الذي اخذ حدا للتكليف شرعا ، لأنه لا يقين باشتغال الذمة بالتكليف إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعاية التكليف بعد الحد.

واضح الفساد : فإنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجز بين أن يتعلق بالتكليف المطلق الغير المحدود شرعا وبين أن يتعلق بالتكليف المردد بين المحدود وغير المحدود مع تعدد المتعلق ، كما إذا علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، فإنه لا ينبغي التأمل في تأثير العلم الاجمالي في وجوب صلاة الظهر بعد انقضاء ساعة من الزوال ، مع أن العلم الاجمالي قد تعلق بالتكليف المردد بين المحدود وغيره ، فان التكليف بصلاة الظهر لا حد لآخره شرعا بل يمتد وقته إلى آخر العمر ، لثبوت القضاء فيها ، بخلاف صلاة الجمعة ، فان التكليف بها محدود شرعا إلى انقضاء ساعة من الزوال ، ولا فرق بين انقضاء الساعة في المثال وبين عروض الاضطرار إلى المعين فيما نحن فيه ، لان كل من الساعة

ص: 97

والاضطرار جعل حدا للتكليف شرعا.

فدعوى : أن العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين المحدود وغيره لا يقتضي التنجيز ، مما لا سبيل إليها.

نعم : تصح هذه الدعوى مع وحدة متعلق العلم ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد وتردد بين اليوم واليومين ، فإنه في مثل ذلك يمكن أن يقال : بعدم وجوب الاكرام في اليوم الثاني وجريان البراءة عنه إن لم نقل بجريان استصحاب وجوب الاكرام الثابت في اليوم الأول.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الاضطرار إلى المعين لا يرفع تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر إذا كان طرو الاضطرار بعد العلم.

وأما الاضطرار إلى غير المعين ، فالأقوى فيه وجوب الاجتناب عما عدا ما يدفع به الاضطرار مطلقا في جميع الصور ، سواء كان الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحد الأطراف أو بعده ، وسواء كان قبل العلم به أو بعده أو مقارنا له ، فان الاضطرار إلى غير المعين يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما ، لامكان رفع الاضطرار بغير متعلق التكليف (1) مع قطع النظر عن العلم والجهل

ص: 98


1- أقول : لا يخفى أن الاضطرار بغير المعين إنما يجتمع مع التكليف بالمعين ما لم يزاحم هذا التكليف بتكليف آخر ولو عقليا ظاهريا ، إذ حينئذ يلزم العقل بجعل الاضطرار في غير مورد التكليف ، فيؤثر التكليف بلا مزاحم في إيجاد متعلقه. و أمّا لو كان في البين إلزام آخر- و لو ظاهريّا- لا مجال لإلزام العقل بجعل الاضطرار في الطرف الآخر، فللمكلّف جعل اضطراره في مورد التكليف، ففي هذه الصورة يزاحم الاضطرار مورده، و لازم ذلك صلاحية مثل هذا الاضطرار لرفع اليد عن التكليف الواقعي، غاية الأمر لا مطلقا بل مشروطا باختيار ترك الآخر، و نتيجة ذلك عدم بقاء الواقع على فعليته المطلقة، بل قهرا يبقى للواقع تكليف توسّطي بين ثبوته في الواقع بقول مطلق و بين نفي التكليف رأسا، و لازمه جواز ترك الموافقة القطعيّة و إن قلنا بعليّة العلم الإجمالي، و ذلك من جهة نقص في المعلوم، لا في العلم، و حينئذ ليست المسألة من صغريات ذلك البحث، كما لا يخفى.

الطاري ، بل لولا الجهل بشخص متعلق التكليف لكان يتعين رفع الاضطرار بغيره ، فالاضطرار إلى غير المعين قبل العلم بالتكليف - بل قبل تعلق التكليف بأحد الأطراف - كلا اضطرار ، لا يوجب التصرف في الواقع ولا يصادم متعلق التكليف ولا تقع المزاحمة بينهما إلا بعد العلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف والجهل بشخصه (1) فإنه في هذا الحال لا يمكن التكليف برفع الاضطرار بغير

ص: 99


1- أقول : مع الغض عما ذكرنا في الحاشية السابقة وقلنا : بأن الاضطرار الغير المعين غير مصادف واقعا لمورد التكليف رأسا ، بل العلم الاجمالي بالتكليف المطلق باق مع الاضطرار المزبور ، ولكن الاشكال أيضا في أن الاضطرار الناشي عن الجمع بين المحتملين لا يصلح إلا لرفع الحكم بلزوم الجمع بينهما الذي هو عبارة أخرى عن الحكم بوجوب الموافقة القطعية ، وهذا الحكم في طول الحكم الواقعي ، ولا مساس له به ، وإنما الكلام في أن الترخيص الاضطراري على ترك الجمع ورفع اليد عن الموافقة القطعية مع بقاء الواقع على إطلاق فعلية في موضوعه إنما يتم بناء على كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية مقتضيا ، إذ حينئذ يجمع بين الترخيص الاضطراري عن الجمع بين المحتملين وفعلية الواقع المعلوم على ما هو عليه بنحو يجمع بين الاحكام الواقعية والظاهرية في غير مقام بلا مضادة بينهما أصلا. و أمّا لو بنينا على علّيّة العلم الإجمالي حتّى بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة- بمعنى كون حكم العقل في طرف قيام الطريق على التكليف حكما تنجيزيّا بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ- فلا شبهة في أنّ الترخيص الظاهري و لو بمناط الاضطرار في ترك الموافقة القطعيّة غير معقول، لأنّ في ظرف العلم بالتكليف حكم العقل بلزوم الموافقة القطعيّة لا يكاد تناله يد الجعل منعا و إثباتا، و حينئذ فلو ورد في البين ترخيص بعنوان الاضطرار على ترك الموافقة، فلا محيص من أن يكون ذلك برفع اليد عن منشئه من فعليّة الواقع على تقدير المصادفة مع مورد الترخيص، و حينئذ يبقى مجال توهّم أنّ العلم الإجمالي بتكليف فعلي على تقدير دون تقدير لا يصلح للتنجيز، كما هو الشأن في الاضطرار إلى المعيّن، قيل و إلى ذلك نظر أستاذنا الأعظم، لا إلى مجرّد المضادّة بين الأحكام الظاهريّة و الواقعيّة، كي يرد عليه بمنع تكفّل الخطاب للمرتبة المتأخّرة عن جهله، و ما أبدى في حاشية الكفاية أيضا: من الفرق بين الاضطرار بعد العلم و قبله إنّما هو في الدورة الأخيرة حيث أوردنا عليه بالعلم بين التدريجيّين، و هو غير مرتبط بما أفاد في المقام في وجه المضادّة، و لا مرتبط بمقام كلّيّة المضادّة بين الأحكام الظاهريّة و الواقعيّة، بل لو بنينا على عدم المضادّة لا بدّ و أن نلتزم بالمضادّة في المقام على المختار: من علّيّة العلم الإجمالي للتنجيز، و حينئذ فتوجه كلامه بما ذكر توجيه بما لا يرضى صاحبه في خصوص المقام ، إذ ليس نظره في وجه المضادة المزبورة إلى كلية المضادة بين الحكم الظاهري والواقعي ، فتدبر تعرف حقيقة مرامه. نعم: الّذي يرد عليه هو أنّ الترخيص التنجيزي لا تضادّ الحكم الواقعي حتّى في ظرف المضادّة مع فعليّة الواقع بقول مطلق، و إنّما يضادّ إطلاق فعليته، و ذلك لا ينافي مع العلم بالتكليف الناقص الحافظ للمتعلّق بمرتبة منه بالنسبة إلى الطرفين، و مثل هذا العلم لا يقتضي إلّا الفرار عن المخالفة القطعيّة، و لا يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة. و ممّا ذكرنا تعرف أنّ ما وجّهه المقرّر في وجه لزوم الاجتناب عن الآخر إنّما يتمّ على مسلكه: من بقاء الحكم الواقعي على فعليّته المطلقة، بناء على مختاره من كون العلم مقتضيا بالنسبة إلى الموافقة القطعيّة، و إلّا فبناء على مسلكنا، فلا يتمّ إلّا ما ذكرنا من العبارتين، فتدبّر تعرف.

متعلق التكليف ، لعدم العلم بشخصه ، ومن الممكن أن يصادف ما يدفع به الاضطرار لمتعلق التكليف.

والحاصل : أنه فرق بين بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين ، فان الاضطرار إلى المعين يزاحم التكليف الواقعي بنفس وجوده إذا صادف كون متعلق التكليف هو المضطر إليه ، ولا تتوقف المزاحمة بينهما على العلم بالتكليف والجهل بموضوعه ، بل تدور المزاحمة مدار واقع المضطر إليه ، فان كان هو متعلق التكليف فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ويسقط التكليف بسببه ، ولذا كان العلم الحاصل بعد الاضطرار إلى المعين لا يقتضي التنجيز ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو متعلق التكليف.

وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعين ، فإنه بوجوده الواقعي لا يزاحم التكليف ، لأنه لا يتعين رفع الاضطرار بمتعلق التكليف لامكان رفع الاضطرار بغيره.

والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو علم بمتعلق التكليف في حال الاضطرار ، فالواجب رفع الاضطرار بغيره ، بخلاف الاضطرار إلى المعين ، فان العلم بالمتعلق لا يزيد شيئا إذا اتفق كون المضطر إليه هو متعلق التكليف.

ص: 100

والغرض من ذلك كله : بيان الفرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين ، وأن ما ذكرناه من التفصيل بين سبق العلم على الاضطرار ولحوقه في الاضطرار إلى المعين لا يأتي في الاضطرار إلى غير المعين ، بل ينبغي تعميم البحث فيه لكلتا صورتي حصول الاضطرار قبل العلم وبعده ، فإما أن نقول : بوجوب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا في كلتا الصورتين ، وإما أن نقول : بعدم الوجوب مطلقا.

والأقوى : هو الوجوب لعين ما تقدم في الاضطرار إلى المعين إذا كان بعد العلم الاجمالي. ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول :

إن أدلة رفع الاضطرار كأدلة نفي الضرر والحرج إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية بمقدار الاضطرار والضرر والحرج ، ولا يمكن أن يكون الاضطرار إلى شيء موجبا لرفع حكم شيء آخر ، فالاضطرار إلى المعين يقتضي رفع التكليف عن ذلك المعين بخصوصه ، والاضطرار إلى غير المعين يقتضي رفع التكليف عما يدفع به الاضطرار. وأما الطرف الباقي بعد رفع الاضطرار بغيره فهو باق على حكمه ، ولا موجب للترخيص فيه ، فلابد من الاجتناب عنه خوفا عن مصادفته لمتعلق التكليف من دون أن يكون هناك مؤمن عقلي أو شرعي.

وبالجملة. ارتكاب أحد المشتبهين لابد وأن يكون بأحد الأسباب المجوزة للارتكاب ، إما للاضطرار إليه وإما لقيام الدليل عليه ولو كان هو من الأصول العملية ، وبعد رفع الاضطرار بأحد المشتبهين يبقى المشتبه الآخر بلا مجوز لارتكابه ، لعدم الاضطرار إليه ، وعدم جريان الأصول النافية للتكليف فيه ، لأنه من أطراف العلم الاجمالي ، فلا مؤمن من أن يكون هو متعلق التكليف.

وما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن الترخيص في بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم ، لوضوح أن التخيير في ارتكاب البعض لا يجتمع مع فعلية التكليف ، فلا أثر للعلم الاجمالي بالتكليف الغير الفعلي

ص: 101

واضح الفساد ، فان فعلية الحكم تدور مدار وجود موضوعه ، كما أن التنجيز يدور مدار العلم بالحكم أو ما يلحق به من الامارات والأصول المحرزة ، ولا يعقل أن لا يكون الحكم فعليا مع وجود موضوعه. والاضطرار إلى غير المعين لا ينافي فعلية الحكم ، لوجود موضوعه على كل حال ، لأن المفروض وجود موضوع التكليف بين المشتبهات ، والاضطرار الذي يكون عدمه قيدا في الموضوع عقلا أو شرعا لم يقع على موضوع التكليف ، لامكان رفع الاضطرار بغيره ، فالمكلف غير ملجأ إلى الاقتحام في موضوع التكليف وإن كان معذورا لو صادف دفع الاضطرار به ، لجهله بالموضوع.

فالاضطرار إلى غير المعين لا يمس موضوع التكليف لينافي فعلية التكليف ، بل الموضوع بتمام ماله من القيود الوجودية والعدمية محفوظ في مورد الاضطرار إلى غير المعين ، فالحكم يكون فعليا على كل تقدير.

نعم : في الاضطرار إلى المعين لا يكون التكليف فعليا على كل تقدير ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو موضوع التكليف ، فهو فعلي على تقدير وغير فعلي على تقدير آخر.

فدعوى : أن الترخيص في بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم ، مما لا سبيل إليها.

نعم : تصح هذه الدعوى على مبناه : من أن الحكم إنما يكون فعليا إذا كان المولى بصدد تحصيل مراده على كل تقدير وبأي وجه اتفق ولو برفع جهل المكلف تكوينا ، أو إيجاب الاحتياط عليه تشريعا ، ضرورة أن هذا المعنى من الفعلية ينافي الترخيص في البعض تخييرا لان الترخيص في البعض يقتضي عدم إرادة الواقع على تقدير مصادفة ما اختاره المكلف للواقع ، بل الترخيص في البعض المعين ينافي الفعلية بهذا المعنى.

فلا وجه للتفصيل بين الاضطرار إلى المعين وغير المعين : من أنه في الأول

ص: 102

لا يجوز الاقتحام في غير المضطر إليه إذا كان الاضطرار بعد العلم ، وفي الثاني يجوز الاقتحام في غير ما يدفع به الاضطرار ، مع أنه قدس سره قد صرح بالتفصيل بينهما في حاشية الكفاية ، وإن اختار في متنها جواز الاقتحام مطلقا في المعين وغير المعين. ولو كان معنى الحكم الفعلي إرادة الواقع على كل تقدير لكان ينبغي إطلاق القول بأن الترخيص في البعض ينافي فعلية الحكم. ولكن دعوى : كون الحكم الفعلي عبارة عن بلوغ البعث والزجر إلى تلك المرتبة ، ضعيف غايته (1) فإنه ليس وظيفة الشارع رفع جهل المكلف ، وإنما وظيفته إنشاء الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجودها على طبق القضايا الحقيقية ، وفعلية الحكم إنما يكون بوجود الموضوع خارجا ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في الواجب المشروط ، فالحكم في مورد الاضطرار إلى غير المعين يكون فعليا على كل تقدير.

هذا كله ، مع أنه يكفي في وجوب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار فعلية التكليف على تقدير دون تقدير ، كما في الاضطرار إلى المعين (2) فان العلم الاجمالي بتعلق التكليف بأحد الأطراف لو خلي وطبع يقتضي وجوب

ص: 103


1- أقول : بعد الاعتراف بأن الخطابات الواقعية غير واصلة إلى ما أفيد من مرتبة الفعلية ، يسئل أن إنشاء الحكم التكليفي بعدما كان على طبق الإرادة للانشائات السازجة عنها ، فلا محيص من الالتزام بوجود مرتبة من الاشتياق الغير البالغ إلى مرتبة التحريك الفعلي قبل قيام الطرق إليه ، ومن البديهي أن هذه المرتبة من الاشتياق لا ينوط فعلية وجوده بوجود موضوعه خارجا ، وبعد ذلك كيف يعقل تشكيل القضية الحقيقية في الأحكام التكليفية؟ إذ مرتبة إنشائه حاك عن مقام إرادته مبرز لها ، والمفروض أن هذه المرتبة من الاشتياق غير منوط بوجود الموضوع خارجا ، فأين فعلية حكم منوط بوجود موضوعه خارجا؟. نعم: تشكيل هذه القضيّة إنّما يصحّ في الأوصاف الّتي تكون ظرف عروضها و اتّصافها خارجيّة، لا مثل المقام الّتي تكون ظرف العروض ذهنا و الاتّصاف خارجيّا.
2- أقول : هذا البيان يقتضي وجوب الاجتناب في المعين أيضا ولو اضطر قبل العلم ، وهو كما ترى!.

الاجتناب عن جميع الأطراف مقدمة لترك الحرام المعلوم في البين ، وإنما يجوز رفع اليد عن مقتضاه بمقدار ما يثبت من المانع ، والاضطرار إلى غير المعين لا يصلح أن يكون مانعا عن وجوب ترك الحرام مطلقا ولو لم يصادف رفع الاضطرار به ، بل أقصى ما يقتضيه الاضطرار هو جواز الاقتحام في الحرام على تقدير مصادفة ما يدفع به الاضطرار له ، لان الضرورات تتقدر بقدرها ، ويكفي في وجوب الاجتناب عن الباقي الغير المضطر إليه احتمال أن يكون هو الحرام المعلوم.

وتوهم : أنه ليس للمولى الترخيص في مخالفة التكليف على تقدير دون تقدير فاسد ، فإنه لا مانع من ذلك ، فدعوى : أن الترخيص في البعض تخييرا يلازم الترخيص في الكل مما لا شاهد عليها ، فتأمل.

كشف قناع :

لا إشكال في أن الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط في التكليف.

وأما الاضطرار إلى غير المعين ففي اقتضائه التوسط في التكليف أو التوسط في التنجيز ، إشكال.

وتوضيح ذلك : هو أن التوسط في التكليف معناه : ثبوت التكليف الواقعي على تقدير وعدم ثبوته على تقدير آخر ، بتقييد إطلاقه وتخصيصه بحال دون حال (1) كما هو الشأن في تقييد كل إطلاق بقيد وجودي أو عدمي.

ص: 104


1- أقول : تفسير التوسط في التكليف بنحو يشمل الاضطرار بالمعين لو كان لاصطلاح منه فلا مشاحة في الاصطلاح معه ، وإن كان الغرض منه الإشارة إلى ما أفاده الشيخ قدس سره في المقام فهو بمعزل عن مرامه ، بل مرجع كلامه إلى التكليف الناقص القائم بكل واحد من الطرفين الذي هو حافظ لوجود مرامه من جهة دون جهة ، وهو الذي كان واسطة بين نفي التكليف رأسا وبين ثبوته بقول مطلق ، كما هو الشأن في كل طلب قائم بطرفي التخيير في الواجبات التخييرية ، كما لا يخفى ، فتدبر فافهم ترى مثل هذا التكليف مختصا بالاضطرار بغير المعين.

والتوسط في التنجيز معناه : بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجز على تقدير وعدم بلوغه إلى تلك المرتبة على تقدير آخر ، مع إطلاق التكليف الواقعي وثبوته في كلا التقديرين بلا تصرف فيه واقعا ، بل كان تنجز التكليف مقصورا بأحد التقديرين.

إذا تبين ذلك فاعلم : أن الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط في التكليف لا محالة ، ولا يمكن أن يقتضي التوسط في التنجيز ، فان التكليف الواقعي مقيد بعدم طرو الاضطرار إلى مخالفته ، فعند الاضطرار إلى المعين لا يمكن الجزم ببقاء التكليف الواقعي ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو متعلق التكليف ، فيوجب رفعه واقعا ، فيدور التكليف الواقعي بين ثبوته على تقدير عدم كون المضطر إليه هو الموضوع للتكليف ، وعدم ثبوته على تقدير أن يكون هو الموضوع.

وحاصل الكلام : أن الجهل بشخص موضوع التكليف في مورد الاضطرار إلى المعين لا دخل له في الترخيص ، بل العلة في الترخيص هو الاضطرار ، فالترخيص فيه يكون واقعيا لا ظاهريا ، لان الترخيص الظاهري يتوقف على أن يكون الجهل بالموضوع علة له ، لان الجهل بالموضوع أو الحكم الواقعي له دخل في كل حكم ظاهري ، فلا يكون الترخيص في الاضطرار إلى المعين إلا واقعيا.

ومعنى الترخيص الواقعي هو : أنه يجوز للمكلف مخالفة التكليف واقعا على تقدير أن يكون المضطر إليه هو الحرام ، وهذا عين التوسط في التكليف ، لان التوسط في التنجيز يتوقف على بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه من دون أن يكون في البين ما يقتضي رفعه واقعا ، وإنما كان بلوغه إلى مرتبة التنجز مقيدا بحال دون حال ، وهذا إنما يكون إذا كان للجهل بموضوع التكليف أو متعلقه دخل في الترخيص في بعض الأطراف ليكون الترخيص ظاهريا ، كما في باب الأقل والأكثر الارتباطيين بناء على جريان البراءة عن الأكثر ، فان العلة

ص: 105

في ترخيص ترك الأكثر إنما هي الجهل بمتعلق التكليف ، فلا محالة يكون الترخيص في تركه ظاهريا على تقدير أن يكون متعلق التكليف واقعا هو الأكثر ، فالتكليف بالأكثر يكون متوسطا في التنجيز ، بمعنى أنه إن كان المكلف به واقعا هو الأكثر فالتكليف به قد تنجز على تقدير ترك الأقل ، فيعاقب على ترك الأكثر ، وأما مع عدم ترك الأقل فلا يكون التكليف به منجزا ولا يعاقب على تركه ، فبلوغ التكليف بالأكثر إلى مرتبة التنجز يدور مدار فعل الأقل وتركه ، فهو منجز على تقدير وغير منجز على تقدير آخر.

فظهر : أن التكليف في مورد الاضطرار إلى المعين لا يكون إلا من التوسط في التكليف ، وفي مورد الأقل والأكثر لا يكون إلا من التوسط في التنجيز.

وأما الاضطرار إلى غير المعين : ففي اقتضائه التوسط في التنجيز أو التوسط في التكليف ، كما اختاره الشيخ قدس سره وجهان ، لأنه قد اجتمع فيه كل من الجهتين ، فان لكل من الجهل والاضطرار دخلا في الترخيص فيه ، إذ لولا الجهل بشخص الحرام كان يتعين على المكلف رفع الاضطرار بغيره ، كما أنه لولا الاضطرار كان يجب الاجتناب عن جميع الأطراف ولم يحصل في البين ما يوجب الترخيص في البعض ، فالترخيص في ارتكاب أحد الأطراف تخييرا يستند إلى مجموع الأمرين : من الجهل والاضطرار.

وحينئذ لابد من ملاحظة الجزء الأخير لعلة الترخيص.

فإن كان هو الجهل ، فالترخيص فيه يكون ظاهريا لا واقعيا ، ويلزمه التوسط في التنجيز ، والترخيص الظاهري في المقام - كسائر موارد الترخيصات الظاهرية المستفادة من أصالة البراءة والحل - لا يقتضي أزيد من المعذورية في مخالفة التكليف على تقدير مصادفة ما اختاره المكلف لدفع الاضطرار لموضوع التكليف مع بقاء الواقع على ما هو عليه بلا تصرف فيه ، فان الترخيص الظاهري لا يصادم الواقع ، كما أوضحناه في محله.

ص: 106

وإن كان هو الاضطرار ، فالترخيص فيه يكون واقعيا ويلزمه التوسط في التكليف.

والانصاف : أن لكل من الترخيص الواقعي والترخيص الظاهري وجها قويا.

أما وجه كون الترخيص ظاهريا : فهو ما تقدم من أن الاضطرار إلى غير المعين بوجوده لا يصام التكليف الواقعي ولا يمس الموضوع ، بل الموضوع بتمام ماله من القيود الوجودية والعدمية محفوظ ، فالعلة الموجبة للترخيص في ارتكاب الحرام إنما هو الجهل ، إذ لولا الجهل كان يتعين رفع الاضطرار بغير الحرام ، ولذا قلنا : إن الحكم في مورد الاضطرار إلى غير المعين يكون فعليا.

وأما وجه كون الترخيص واقعيا : فهو أن الاضطرار بوجوده وإن لم يناف التكليف الواقعي ، إلا أنه في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام ينافيه ويقع المصادمة بين التكليف والاضطرار ولو في صورة مصادفة ما اختاره لدفع الاضطرار لموضوع التكليف ، فان ارتكاب المكلف للحرام في هذا الحال يكون مصداقا للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ، ويصح أن يقال : إن ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه ، وإن كان يمكن رفع الاضطرار بالطرف الآخر نظير الاتيان بأحد فردي الواجب التخييري ، فان المأتي به يكون مصداقا للواجب ، مع أنه يجوز تركه والآتيان بالفرد الآخر ، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام ، فالترخيص فيه يكون واقعيا.

وتوهم : أن الترخيص الواقعي في كل واحد من الأطراف تخييرا ينافي العلم بالتكليف الواقعي تعيينا فاسد ، فإنه إنما ينافي العلم بالتكليف التعييني على كل تقدير وفي كل حال ، وأما العلم بالتكليف على تقدير دون تقدير وفي حال دون حال ، فالترخيص التخييري في كل واحد لا ينافيه ، فتأمل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه كون الاضطرار إلى غير المعين يقتضي

ص: 107

الترخيص الواقعي والتوسط في التكليف ، وقد مال إليه شيخنا الأستاذ - مد ظله - بل قواه في ابتداء الامر ، ولكن عدل عنه في فذلكة البحث واختار الترخيص الظاهري والتوسط في التنجيز (1) وهو الذي ينبغي المصير إليه ، والذي يسهل الخطب هو : أنه لا يترتب على الوجهين ثمرة مهمة ، وقد تقدم في دليل الانسداد شطر من الكلام في ذلك ، فراجع.

الامر السادس :
اشارة

لو كانت الأطراف تدريجية الوجود بحيث كان وجود بعضها بعد تصرم الآخر ، ففي تأثير العلم الاجمالي مطلقا ، أو عدمه مطلقا ، أو التفصيل بين ما كان للزمان دخل في الخطاب والملاك وبين ما لايكون له دخل في ذلك ، وجوه.

وتفصيل ذلك هو أنه تارة : يكون للزمان الذي هو ظرف وقوع المشتبه دخل في التكليف خطابا وملاكا كالأحكام المترتبة على الحيض ، فان الحيض هو الدم الذي تراه المرأة في أيام العادة ولزمان العادة دخل في ثبوت تلك الأحكام ملاكا وخطابا.

وأخرى : لا يكون للزمان دخل في التكليف لا ملاكا ولا خطابا وإنما يكون الزمان ظرفا لوقوع المشتبه خارجا ، من باب أن كل فعل لابد وأن يقع في الزمان من دون أخذه في موضوع التكليف شرعا ، كحرمة الغيبة والكذب والربا ونحو ذلك.

وثالثة : يكون للزمان دخل في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب نظير الواجب المعلق على القول به. ويمكن أيضا أن يكون للزمان دخل في حسن الخطاب من دون أن يكون له

ص: 108


1- أقول : فياليت كان باقيا على ما كان أولا! لما عرفت من البيان في الحاشية السابقة ، فراجع.

دخل في الملاك. فهذه جملة ما يتصور في اعتبار الزمان في الأحكام الوضعية والتكليفية.

فإن لم يكن للزمان دخل لا في الملاك ولا في الخطاب ، فلا إشكال في تأثير العلم واقتضائه الموافقة القطعية ، فلو علم المكلف بأن بعض معاملاته في هذا اليوم أو الشهر تكون ربوية فيلزمه التحرز عن كل معاملة يحتمل كونها ربوية (1) مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف بترك المعاملة الربوية ، فان الشخص من أول بلوغه يكون مكلفا بترك المعاملة الربوية صباحا ومساء في أول الشهر وآخره ، والتكليف بذلك يكون فعليا من ذلك الزمان غير مشروط بزمان خاص ، كالنهي عن الغيبة والكذب.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : « والتحقيق أن يقال : إنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء دفعة » انتهى. فإن الابتلاء دفعة مع عدم وجود المشتبهات فعلا لا يكون إلا لأجل إطلاق النهي وعمومه لجميع الأزمنة

ص: 109


1- أقول : كيف يكون التكليف بالترك في آخر اليوم فعليا في أول يومه! كي يصدق في حقه العلم الاجمالي في أول الصبح بالتكليف الفعلي ، بل التكليف بالترك في آخر اليوم - حسب مختاره : من عدم التفكيك بين ظرف التكليف وظرف المأمور به مقدمة لابطال الواجب المعلق الخارج عن القدرة فعلا حتى بالواسطة - ليس إلا مشروطا بزمانه ، فيكون المقام من باب دخل الزمان في أصل الخطاب دون الملاك ، وحينئذ ففي جميع هذه الفروض لابد من إجراء حكم إسراء الزمان في الملاك أيضا ، لان عمدة الاشكال في منجزية العلم هو المنع في كل آن عن العلم بالتكليف الفعلي ، وهذه الجهة على مختاره مشتركة في الجميع من دون خصوصية لدخل الزمان في الملاك أيضا. نعم : هذا التفصيل إنما يصح عند من يجوز الواجب التعليقي ولا يرجعها إلى المشروط ، كما لا يخفى. و إن كان التحقيق هو الّذي أفاده: من عدم الفرق بين الواجب المشروط و غيره بعد وجوب حفظ القدرة بحكم العقل من ناحية غير شرط الوجوب، إذ العلم الإجمالي بمثل هذا التكليف منجّز عقلا و ملزم بالإتيان بالطرف الفعلي و بحفظ القدرة على الطرف الآخر، فتدبّر.

التي توجد فيها المشتبهات التدريجية.

وقس على ذلك ما إذا كان للزمان دخل في الامتثال من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب ، كما لو نذر المكلف ترك وطي الزوجة في يوم معين واشتبه بين يومين ، فان التكليف بترك الوطي يكون فعليا بمجرد انعقاد النذر ، والزمان إنما يكون ظرفا للامتثال ، فأصالة عدم تعلق النذر في كل من اليوم الحاضر والغد معارضة بأصالة عدم تعلق النذر بالآخر ، فلابد من ترك الوطي في كل من اليومين مقدمة للعلم بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المنجز بالعلم.

وتوهم : أن الوطي في الغد لا يمكن الابتلاء به في اليوم الحاضر فلا تجري في اليوم الحاضر أصالة عدم تعلق النذر به فاسد ، لما عرفت من أنه بمجرد انعقاد النذر يكون التكليف بترك الوطي فعليا مطلقا في كل زمان تعلق النذر به ، ففي اليوم الحاضر تجري أصالة عدم تعلق النذر بترك الوطي في الغد وتعارض بأصالة عدم تعلق النذر بترك الوطي في اليوم الحاضر. ويلحق بذلك ما إذا كان للزمان دخل في حسن الخطاب من دون أن يكون له دخل في الملاك لو فرض أن له موردا فيما بأيدينا من التكاليف ، فان فعلية الملاك يكفي في تأثير العلم الاجمالي ، كما لا يخفى وجهه.

وأما إذا كان للزمان دخل في كل من الملاك والخطاب ، ففي تأثير العلم الاجمالي وعدمه وجهان ، اختار الشيخ قدس سره عدم التأثير وجواز المخالفة القطعية ، لان الأصول النافية للتكليف تجري في الأطراف بلا تعارض ، فإنه لو كان أيام الحيض آخر الشهر ، فالتكليف بترك الوطي والصلاة ودخول المساجد ونحو ذلك لا يكون فعليا من أول الشهر ، لان لزمان العادة دخلا في تلك الأحكام خطابا وملاكا ، فأصالة عدم الحيض في آخر الشهر لا تجري من أول الشهر حتى تعارض بأصالة عدم الحيض في أوله ، بل في أول الشهر يجري

ص: 110

الأصل المختص به وفي آخره يجري الأصل المختص به ، ولم يجتمع الأصلان في الزمان حتى يتعارضا ويسقط الأصلان ، لان الحيض في آخر الشهر لا يمكن الابتلاء به من أوله والحيض في أول الشهر لا يمكن الابتلاء به في آخره ، فظرف الابتلاء بكل منهما إنما يكون في ظرف عدم الابتلاء بالآخر ، فالشبهة في كل من أول الشهر وآخره تكون بدوية ويجري فيها الأصل بلا معارض ، فللزوج والزوجة ترتيب آثار الطهر في أول الشهر وآخره ، غايته أنه بعد انقضاء الشهر يعلم بمخالفة الواقع ووقوع الوطي في الحيض ، ولكن العلم بالمخالفة في الزمان الماضي لا يمنع عن جريان الأصول في ظرف احتمال التكليف ، لأنه لا دليل على حرمة حصول العلم بالمخالفة للواقع ، حتى يقال : إنه يجب نرك الوطي في أول الشهر وآخره مقدمة لعدم حصول العلم بالمخالفة فيما بعد ، لان الثابت من حكم العقل هو قبح المخالفة والعصيان إذا كان الفاعل ملتفتا حال العمل أو قبله إلى كون العمل مخالفا للتكليف وعصيانا له ، وأما العلم بتحقق المخالفة لخطاب لم يتنجز في ظرفه فلا قبح فيه لا شرعا ولا عقلا ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في دوران الامر بين المحذورين. هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلام الشيخ قدس سره .

ولكن للمنع عنه مجال ، فان الصناعة العلمية وان اقتضت جريان الأصول في الأطراف ، إلا أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يؤدي إلى المخالفة وتفويت مراد المولى (1) فان المقام لا يقصر عن المقدمات المفوتة التي يستقل

ص: 111


1- أقول : بعد حكم العقل بحفظ القدرة للطرف في ظرف العلم بوجود شرط الوجوب في موطنه ترى تنجز التكليف من ناحية حفظ القدرة في موطنه ، ومع هذا الحكم كيف يرى العقل طرح التكليف المنجز بالأصل في الطرفين؟ ومع ذلك كيف يكون جريان الأصلين بمقتضى الصناعة؟ كما هو ظاهر. ومما ذكرنا ظهر أن فيما نحن فيه مثل باب المقدمات المفوتة يلزم العقل بحفظ القدرة للطرف الآخر المحتمل بضميمة ترك الطرف الآخر المحتمل فعلا بمقتضى العلم الاجمالي بلزوم أحدهما ، فتدبر.

العقل بحفظ القدرة عليها في ظرف عدم تحقق الخطاب والملاك ، بل ما نحن فيه أولى من المقدمات المفوتة ، لأنه يحتمل أن يكون ظرف وقوع الوطي في كل من أول الشهر وآخره هو ظرف تحقق الملاك والخطاب.

والحاصل : أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب فوات مطلوب المولى مع العلم بأن للمولى حكما إلزاميا ذا مصلحة تامة ، غايته أن نتيجة حكم العقل بذلك مختلفة ، ففي باب المقدمات المفوتة يلزم حفظ القدرة ، وفيما نحن فيه يلزم ترك الاقتحام في كل واحد من أطراف الشبهة مقدمة لحصول مراد المولى ومطلوبه.

فالانصاف : أنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة بين أن لا يكون للزمان دخل في الملاك والخطاب وبين أن يكون له دخل فيهما ، غايته أنه إذا لم يكن للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرمات تقتضي وجوب الاحتياط في الأطراف بضميمة حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف ، وإن كان للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرمات لا تفي بذلك ، بل يحتاج إلى حكم العقل بقبح تفويت مراد المولى ، فتأمل.

تذييل :

لو بنينا في الموجودات التدريجية على عدم وجوب الموافقة القطعية فلا تحرم المخالفة القطعية أيضا ، لعدم تعارض الأصول ، فيرجع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها ، ففي مثل الحيض يرجع إلى استصحاب الطهر وأصالة البراءة عن حرمة الوطي ودخول المساجد ونحو ذلك في كلا طرفي الشهر ، وفي مثل المعاملة الربوية يرجع إلى أصالة الحل من حيث التكليف وأصالة عدم النقل والانتقال من حيث الوضع (1) ولا يجوز التمسك بالعمومات لاثبات النقل والانتقال

ص: 112


1- 1 - أقول : في جريان أصالة عدم الانتقال على مختاره : من عدم جريان الأصول المحرزة مع العلم بالانتقاض واقعا ولو لم يكن في البين مخالفة عملية ، إشكال ، وإن كان فيه ما فيه ، كما تقدم. نعم : لا بأس بجريانه على المختار لولا حكومة أصالة عدم اتصاف العقد بالربوية ، بناء على التحقيق : من جريان الأصل في الاعدام الأزلية ، ومع الغض عن ذلك لا بأس بالتفصيل بين صورة صدور المعاملة من الغير فيجري في حقه أصالة الصحة ولو كانت المعاملة مسبوقة بالشك في صحته ، أو صدوره من نفسه فلا يجري في حقه أصالة الصحة إلا في صورة حدوث الشك بعد العمل بمناط قاعدة الفراغ ، كما لا يخفى.

لخروج المعاملة الربوية عنها ، ولا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية كما فيما نحن فيه ، لأن المفروض العلم بوقوع معاملة ربوية في هذا اليوم أو الشهر والشك في أنها تقع في أوله أو آخره ، وكذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحة الجارية في العقود إجماعا الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال ، لان مورد أصالة الصحة هو العقد الواقع المشكوك في صحته وفساده ، لا العقد الذي لم يقع بعد ، كما في المقام ، لأنه قبل صدور المعاملة في أول النهار وآخره يشك في صحتها وفسادها ، والمرجع في مثل ذلك ليس إلا أصالة عدم النقل والانتقال. ولا ملازمة بين الحلية التكليفية وصحة المعاملة ، لعدم كون الصحة والفساد فيها مسببا عن الحلية والحرمة التكليفية ، ولذا لا تصح المعاملة الربوية من الناسي والجاهل القاصر مع عدم الحرمة التكليفية في حقهما ، فلا منافاة بين أصالة الحل من حيث التكليف وأصالة الفساد من حيث الوضع ، لأنه لا حكومة لاحد الأصلين على الآخر لكي يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر.

وبما ذكرنا ظهر فاسد ما ذكره الشيخ قدس سره أخيرا : من أن العلم الاجمالي بوقوع معاملة ربوية في أحد طرفي النهار كما لا يمنع من جريان الأصول العملية ، كذلك لا يمنع من جريان الأصول اللفظية ، فيصح التمسك بمثل « أحل اللّه البيع » لصحة كل من البيع الواقع في أول النهار وآخره ، كما لو كانت الشبهة بدوية. ثم ضعفه بإبداء الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ،

ص: 113

من غير بيان الفارق.

وجه الفساد : هو أنه في مثل المقام لا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات البدوية فضلا عن المقرونة بالعلم الاجمالي ، لما عرفت من أن الشبهة فيه مصداقية ، ولا فرق في عدم جواز الرجوع إلى العموم فيها ، بين أن نقول : بأن العلم الاجمالي بالمخصص يمنع عن الرجوع إلى العموم أو لا يمنع ، فان ذلك البحث إنما هو في الشبهات الحكمية.

نعم : لو أغمضنا عن كون الشبهة فيما نحن فيه مصداقية أو قلنا بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية - كما ذهب إليه بعض - لكان للبحث عن أن العلم الاجمالي بالمخصص هل يمنع عن الرجوع إلى العموم أو لا يمنع في الموارد التي لا يمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية؟ مجال.

والحق : أنه يمنع ، للفرق بين الأصول العملية والأصول اللفظية ، فان المطلوب في الأصول العملية هو مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، وربما لا يلزم من جريانها في موارد العلم الاجمالي مخالفة عملية ، وهذا بخلاف الأصول اللفظية ، فان اعتبارها إنما هو لأجل كونها كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، والعلم الاجمالي بالمخصص يمنع عن كونها كاشفة كما لا يخفى (1).

ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس سره أخيرا من إبداء الفرق بين الأصول العملية والأصول اللفظية ، ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر.

ص: 114


1- أقول : ولكن لازم ذلك أن يفرق على مختاره بين الأصول المحرزة وغيرها ، فلا مجال لاجراء الأصول المحرزة أيضا ، كما أشرنا في الحاشية السابقة ، وأشرنا أيضا أن المدعى باطل حتى في الطرق ، لان العلم الاجمالي لا يمنع عن الكشف النوعي الذي هو مورد تتميم الكشف تعبدا في الطرفين ، إذ لكل طرف جهة كشف وحكاية عن الواقع تفصيلا ، بحيث لا ينافي مع العلم الاجمالي بخلافهما لا وجدانا ولا تعبدا ، كما لا يخفى.
ثم إن شيخنا الأستاذ - مد ظله -

تنظر فيما أفاده الشيخ قدس سره من عدم الملازمة بين الحلية التكليفية والحلية الوضعية في المعاملات بما حاصله : أن المنهي عنه في باب المعاملات إنما هو إيقاع المعاملة على وجهها ، وليس المنهي عنه هو إيقاع المعاملة بما أنه إيقاع وعقد لفظي ، فإنه لا ينبغي التأمل في عدم حرمة التلفظ بالعقد بما أنه عقد ولفظ ، بل المحرم هو إيجاد النقل والانتقال الحاصل من العقد.

وبعبارة أخرى : المنهي عنه هو إيقاع العقد على أن يكون آلة لايجاد المعنى الاسم المصدري من النقل والانتقال ، والمبحوث عنه في باب النهي عن المعاملات من أنه يقتضي الفساد أو لا يقتضيه إنما هو إذا كان النهي عن هذا الوجه ، ضرورة أنه لا يتوهم اقتضاء النهي عن العقد بما أنه لفظ للفساد ، لان حرمة اللفظ لا دخل له بالنقل والانتقال.

وبالجملة : لا إشكال في أن المنهي عنه في المعاملة الربوية إنما هو المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره عن العاقد بالعقد اللفظي أو بغيره ، وحرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد لا محالة ، لخروج المسبب عن تحت سلطنة المالك بالمنع الشرعي - كما أوضحناه في محله - وكما أن حرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد ، كذلك حلية المعاملة على هذا الوجه تستتبع الصحة ، وعلى ذلك يبتني جواز التمسك بقوله تعالى : « أحل اللّه البيع » لنفوذه وصحته ، حتى لو كان المراد من الحلية الحلية التكليفية - كما استظهره الشيخ - قدس سره في كتاب البيع لان حلية البيع على الوجه المذكور تلازم الصحة والنفوذ ، وحينئذ تصح دعوى التلازم بين حلية المعاملة وصحتها وحرمة المعاملة وفسادها ، فلا مجال للتفكيك بين التكليف والوضع ، بل تكون الحل حاكمة على

ص: 115

أصالة الفساد ، لارتفاع موضوعها بذلك ، كما هو الشأن في كل أصل سببي ومسببي.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن فساد المعاملة الربوية ليس لأجل حرمتها التكليفية ، بل لأجل انتفاء شرط من شروط العوضين وهو التساوي بين المالين إذا كانا من المكيل والموزون (1) فتصح دعوى عدم التلازم بين الحلية والصحة ، ولأجل ذلك لا تصح المعاملة الربوية في حق الناسي والجاهل القاصر ، فأصالة الحل في المعاملة لا تنفع في صحتها ، لعدم كون الفساد فيها مسببا عن الحرمة التكليفية ، بل مسببا عن عدم التساوي بين المالين ، فتأمل جيدا.

هذا ما كان يهمنا بيانه من التنبيهات المتعلقة بالشبهة المحصورة ، وقد بقي بعض التنبيهات لا يهمنا التعرض لها ، لأنها قليلة الجدوى ، وإن أطال الشيخ قدس سره الكلام في بعضها.

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة
اشارة

وقبل التعرض لحكمها ينبغي بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة.

ص: 116


1- أقول : بعد تسليم أن النهي عن التسبب بالعقد إلى المعاملة يقتضي عدم السلطنة عليه المستتبع لفسادها لا محيص إلا من الالتزام بأن الفساد من آثار هذه الحرمة الوضعية الملازم لعدم القدرة على التسبب ، بل ربما يستفاد شرطية التساوي بين العوضين من مثل هذا النهي. نعم : الذي يسهل الخطب هو أن النهي التكليفي المولوي لا يقتضي إلا عدم القدرة الشرعية كسائر الأفعال المحرمة ، وذلك لا يقتضي نفي القدرة العقلية على التسبب بالعقد إلى المعاملة ، وما هو ملازم للبطلان هو ذلك ، لا الأول ، ولذا نقول : إن النهي عن المعاملة بأي وجه منه لا يقتضي الفساد ، إلا إذا كان للارشاد إلى عدم قدرته على إيجادها حقيقة ، كما لا يخفى ، فتدبر.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك ، فعن بعض تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حد تعسير عدها ، وزاد بعض قيد « في زمان قليل » وعن بعض آخر إرجاعها إلى العرف ، وقد قيل في تحديدها أمور اخر لا تخفى على المتتبع ، مع ما فيها : من عدم الانعكاس والاطراد.

والأولى أن يقال : إن ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال : من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك (1) وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالاجمال.

فتارة : يعلم بنجاسة حبة من الحنطة في ضمن حقة منها ، فهذا لا يكون من الشبهة الغير المحصورة ، لامكان استعمال الحقة من الحنطة بطحن وخبز وأكل ، مع أن نسبة الحبة إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف.

وأخرى : يعلم بنجاسة إناء من لبن البلد ، فهذا يكون من الشبهة الغير المحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف ، لعدم التمكن العادي من جمع الأواني في الاستعمال وإن كان المكلف متمكنا من آحادها.

فليس العبرة بقلة العدد وكثرته فقط ، إذ رب عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة ، كالحقة من الحنطة.

كما أنه لا عبرة بعدم التمكن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط ، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة ، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لابد في الشبهة الغير المحصورة عما تقدم في الشبهة المحصورة من اجتماع كلا الأمرين : وهما كثرة العدد وعدم

ص: 117


1- أقول : لا يخلو هذه الضابطة أيضا عن شبهة ، لأنه ربما يتمكن عادة عن الابتلاء بالجميع بطول الزمان وتدريج المضي من الليالي والأيام ، فلابد من أن يحدد مقدار أيضا بحيث يصدق عليه كون كل واحد محل ابتلائه على وجه لا يصير طول الزمان منشأ لخروجه عنه ، كما لا يخفى.

التمكن من جمعه في الاستعمال ، وبهذا تمتاز الشبهة الغير المحصورة (1) من أنه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد من أطرافها ، فان إمكان الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع ، والتمكن العادي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف في الشبهة الغير المحصورة حاصل ، والذي هو غير حاصل التمكن العادي من جمع الأطراف ، لكثرتها ، فهي بحسب الكثرة بلغت حدا لا يمكن عادة الابتلاء بجمعها في الاستعمال ، بحيث يكون عدم التمكن من ذلك مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر.

ومما ذكرنا من الضابط يظهر حكم الشبهة الغير المحصورة ، وهو عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية (2).

ص: 118


1- 1 - والظاهر سقوط « عن المحصورة » ( المصحح )
2- أقول : الأولى أن يقال بعدم انتهاء الامر مع عدم التمكن العادي منه إليه ، لا أنه لا يحرم مخالفته القطعية كما لا يخفى ، وليس نتيجة ذلك إلا عدم التمكن على إتيان البعض الغير ، ومرجع ذلك كله إلى عدم التمكن من الجمع بين المحتملات الراجع إلى عدم التمكن من كل واحد في ظرف وجود البقية ، لا إلى عدم التمكن مطلقا ، وحينئذ ففي ظرف عدم البقية كان كل واحد مقدورا ، ولازمه حينئذ القطع بحرمة مخالفة المعلوم بالاجمال المستتبع لعدم جريان الأصول النافية الموجب عند العقل لوجوب الموافقة القطعية أيضا. و ما أفيد: من أنّ وجوب الموافقة القطعيّة فرع تعارض الأصول، فهو على مبناه: من عدم البأس في جريان الأصول في بعض الأطراف ما لم ينته إلى مخالفة قطعيّة عمليّة في غاية المتانة، إذ من جريان الأصول في المقام لا ينتهي الأمر إلى مخالفة قطعيّة عمليّة أصلا، و لكن قد مرّ التحقيق بأنّ علّيّة العلم للتنجّز مانع عن جريان الأصل في أطرافه و لو بلا معارض ما لم يكن في البين جعل بدل أو انحلال، و حينئذ فلا يصلح عدم التعارض في المقام لإسقاط العلم بالتكليف عن المنجّزيّة، و لازمه حينئذ عدم جواز الارتكاب في الشبهة التحريميّة ما لم يستلزم من تركه حرج، لا جوازه، إذ ما نحن فيه حينئذ كشبهة محصورة في حرمة أحد الكأسين، مع العلم بعدم القدرة على شرب الكأسين، و لا أظنّ أحدا يلتزم بجواز ارتكاب واحد منهما، كيف! و لو ابتلي بالامرأتين في آن بمقدار يسع جماع أحدهما، أيّ شخص يقول بجواز جماع أحدهما أيّ واحد يختاره؟ مع علمه إجمالا بكون أحدهما أجنبيّة و لو في فرض عدم جريان أصالة الأجنبية ، خصوصا على مذهبه : من تعارض الأصول التنزيلية ولو كانت مثبتة ، فتدبر.

أما عدم حرمة المخالفة القطعية : فلان المفروض عدم التمكن العادي منها.

وأما عدم وجوب الموافقة القطعية : فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية ، لأنها هي الأصل في باب العلم الاجمالي ، لان وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف ، وتعارضها فيها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية - كما هو المفروض - لم يقع التعارض بين الأصول ، ومع عدم التعارض لا يجب الموافقة القطعية.

فالتفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية بحرمة الأولى وعدم وجوب الثانية - كما يظهر من الشيخ قدس سره ليس في محله ، لان حرمة المخالفة القطعية فرع التمكن منها ، ومع التمكن لا تكون الشبهة غير محصورة.

تنبيه :

ما ذكرنا في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية إنما يختص بالشبهات التحريمية ، لأنها هي التي لا يمكن المخالفة القطعية فيها ، وأما الشبهات الوجوبية فلا يتم فيها ذلك ، لأنه يمكن المخالفة القطعية فيها بترك جميع الأطراف ، وحينئذ لابد من القول بتبعيض الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية في الشبهات الوجوبية.

نعم : لو تم ما ذكره الشيخ قدس سره وجها لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة : من أن كثرة الأطراف توجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي لضعف احتمال الضرر في كل واحد من الأطراف ، لعم ذلك الشبهات التحريمية والوجوبية ، وكذا بعض الوجوه الاخر التي ذكرت في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية ، فإنها لو تمت لكانت تعم كلا قسمي الشبهة ، إلا

ص: 119

أن الشأن في صحة الوجوه المذكورة ، فإنها لا تخلو عن ضعف.

أما الوجه الأول ، وهو دعوى الاجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة ، فالظاهر أنه ليس في المسألة إجماع تعبدي.

وأما الوجه الثاني ، وهو دعوى استلزام الموافقة القطعية فيها العسر والحرج غالبا ، ففيه : أن ذلك لا يقتضي عدم وجوب الموافقة مطلقا في جميع الموارد حتى فيما إذا لم يلزم منها العسر والحرج ، بل لابد من الاقتصار على الموارد التي يلزم منها ذلك ، مع أن المدعى عدم وجوب الموافقة القطعية مطلقا ، حتى في الموارد التي لا يلزم منها العسر والحرج.

نعم : إذا ثبت أن العسر والحرج في المقام حكمة للتشريع لا علة للحكم ، كان للقول بعدم وجوب الموافقة القطعية مطلقا في جميع الموارد وجه ، لان من شأن الحكمة عدم الاطراد ، إلا أن دون إثبات ذلك خرط القتاد!! فان العسر والحرج في الشريعة إنما يكون علة للحكم لا حكمة للتشريع ، ولذا كانت أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية.

نعم : قد يتفق في بعض الموارد كون العسر والحرج حكمة للتشريع كما في نجاسة الحديد ، إلا أن ذلك يحتاج إلى دليل بالخصوص ولا يطرد في جميع الموارد ، فتأمل جيدا.

وأما الوجه الثالث ، وهو التمسك بمثل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال » ففيه : أن ذلك يختص بالشبهات البدوية ، كما تقدم.

وأما الوجه الرابع ، وهو التمسك بما ورد في الجبن من قوله علیه السلام « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟ » الخبر (1) فهو وإن كان لا يخلو عن دلالة على عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة الغير

ص: 120


1- الوسائل : الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 5.

المحصورة ، إلا أنه في الرواية احتمال آخر - ذكره الشيخ قدس سره - يسقط الاستدلال بها لما نحن فيه.

وأما الوجه الخامس ، وهو ما ذكرناه آنفا : من أن كثرة الأطراف توجب أن يكون العلم كلا علم وعدم اعتناء العقلاء به في أمورهم الدنيوية - كما يشاهد أن العقلاء لا يتحرزون عن السم المردد بين ألف إناء لضعف احتمال الضرر في كل إناء - ففيه : أن قياس الأحكام الشرعية واحتمال الضرر الأخروي على الاحكام العرفية واحتمال الضرر الدنيوي ليس في محله ، كما لا يخفى على المتأمل.

وأما الوجه السادس ، وهو كون الغالب خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء وذلك يقتضي عدم تأثير العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة فضلا عن الشبهة الغير المحصورة ، ففيه : أن محل الكلام في الشبهة الغير المحصورة إنما هو فيما إذا كان كل واحد من الأطراف مما يمكن الابتلاء به وإن لم يمكن الابتلاء بالجميع بوصف الاجتماع.

فالانصاف : أن هذه الوجوه الستة لا تخلو عن المناقشة.

والأولى هو ما ذكرناه : من أن تأثير العلم الاجمالي يدور مدار إمكان المخالفة القطعية ، وفي الشبهات الغير المحصورة لا يمكن المخالفة القطعية ، فلا أثر للعلم الاجمالي ، على التفصيل المتقدم بين الشبهات التحريمية والوجوبية ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا علم أن الشبهة غير محصورة ، ولو شك في ذلك ففي وجوب الموافقة القطعية بترك التصرف في جميع الأطراف وعدمه وجهان : أقواهما وجوب الموافقة القطعية ، للعلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف وإمكان الابتلاء به ، فيجب الجري على ما يقتضيه العلم إلى أن يثبت المانع : من كون الشبهة غير محصورة ، فتأمل.

ص: 121

تذييل :

سقوط العلم الاجمالي عن التأثير في أطراف الشبهة الغير المحصورة هل يلازم سقوط حكم الشك عن كل واحد من الأطراف أيضا بحيث يكون كل واحد منها كعادم الشبهة؟ أو لا يلازم ذلك؟ بل غايته أن تكون الشبهة في كل واحد من الأطراف بدوية ويرجع إلى حكمها ، فقد يكون حكم الشبهة البدوية حكم المقرونة بالعلم الاجمالي ، كما إذا كان المعلوم بالاجمال المردد بين أطراف غير محصورة من الأموال والدماء والفروج ، فإنه لا يجوز الاقتحام في الشبهات البدوية في هذه الأبواب الثلاثة ، وعلى ذلك يبنى جواز الوضوء من الأواني الغير المحصورة عند العلم الاجمالي بإضافة أحدها ، فإنه لو قلنا : إن سقوط العلم يلازم سقوط حكم الشك أيضا ، فيجوز الوضوء من كل إناء ، لأنه يكون في حكم الماء المقطوع إطلاقه ، وإن قلنا : إنه لا يلازم ذلك ، فلا يجوز الوضوء من كل إناء ، لأنه يكون كل إناء مشكوك الاطلاق والإضافة ولا يجوز التوضي به ، لعدم إحراز الشرط في صحة الوضوء : من إطلاق الماء ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل (1) وكان شيخنا الأستاذ - مد ظله - يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضا.

ص: 122


1- أقول : إن بنينا على أن مدار جريان الاستصحاب في الطرفين عدم بانتقاض المعلوم بالاجمال ، ففي المقام لا يجري الاستصحاب في الطرفين في ظرف عدم الاتيان بالطرفين للعلم المزبور ، كما هو الشأن في الاستصحابين في الدوران بين المحذورين ، فلا يجري في المقام إلا أصالة الإباحة ، وهو لا يرفع الاشتغال بالصلاة عن طهور. نعم: لو بنينا على عدم قصور في جريان الاستصحاب في الطرفين عند عدم لزوم مخالفة قطعيّة و عدم إضرار العلم بانتقاضه، فلا بأس حينئذ بجريان استصحاب إطلاق الماء، حيث لا يلزم مخالفة قطعيّة عمليّة، و لازمه جواز الوضوء بهذه المياه المشكوكة. و أوضح من ذلك بناء على مبنانا: من بلوغ الكثرة بحدّ يوجب الاطمئنان بعدم الإضافة المعلومة إجمالا في كل طرف بشرط انفراده في عالم اللحاظ الملازم لحصول الاطمينانات تدريجا بلا اجتماعها في زمان واحد ولذا لا بأس بحجية جميعها بلا مانعية العلم الاجمالي على خلافها لأن المفروض أن نتيجة حجية كل ظن ليس إلا جواز المخالفة الاحتمالية في ظرف وجوده بلا انتهاء النوبة إلى التعبد بظنون متعددة على خلاف العلم في زمان واحد ، فلا يقاس المقام حينئذ بالبينة على كل طرف في زمان واحد.

هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية.

* * *

المبحث الثاني: في الشك في المكلف به في الشبهة التحريمية الحكمية
اشارة

ومنشأ الشك فيه إما فقد النص ، وإما إجماله ، وإما تعارض النصين. والكلام فيه الكلام في الشبهة الموضوعية من حيث وجوب الموافقة القطعية ، بل الشبهة الحكمية أولى في ذلك من الشبهة الموضوعية ، فان الأخبار الدالة على أصالة الحل التي توهم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي إنما تختص بالشبهة الموضوعية ، ولا تعم الشبهات الحكمية إلا بنحو من العناية والتكلف ، على ما تقدم بيانه في مبحث البراءة.

المبحث الثالث: في الشك في المكلف به في الشبهة الوجوبية

والأقوى فيها أيضا : وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، لعين

ص: 123

ما تقدم في الشبهة التحريمية.

وما ينسب إلى المحقق الخونساري والقمي - رحمهما اللّه - من جواز المخالفة القطعية في غير ما قام الاجماع والضرورة على عدم الجواز ، بتوهم أن التكليف بالمجمل لا يصلح للانبعاث عنه ، فلا أثر للعلم بالتكليف المجمل المردد بين أمور.

واضح الفساد ، فان الاجمال الطاري لا يمنع عن تأثير العلم الاجمالي ، لعدم أخذ العلم التفصيلي قيدا في الموضوع أو الحكم ، والتكليف بالمجمل الذي لا يصلح للداعوية غير الاجمالي الطاري على التكليف المعين في الواقع لأجل اشتباه الموضوع أو فقد النص أو إجماله.

وبالجملة : لا فرق في نظر العقل بين العلم التفصيلي بالتكليف وبين العلم الاجمالي به في قبح المخالفة ووجوب الموافقة القطعية مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به.

نعم : إذا كانت الشبهة لأجل تعارض النصين ، فحكمها التخيير في الاخذ بأحد النصين مطلقا في الشبهة الوجوبية والتحريمية ، لاطلاق ما دل على التخيير عند تعارض الاخبار ، وفيما عدا ذلك تجب الموافقة القطعية ، وسواء كانت الشبهة موضوعية - كبعض موارد القصر والاتمام - أو حكمية ، كما المنشأ فقد النص أو إجماله.

وما ذكره الشيخ قدس سره من عدم تصوير إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين عن وقت الخطاب ، لاختصاص الخطابات بالمشافهين أو الموجودين في ذلك الزمان ، فيرجع إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين إلى فقد النص.

فهو مبني على خلاف التحقيق في الخطابات الشرعية ، فان توهم اختصاص الخطاب بالحاضرين مبني على أن تكون القضايا الشرعية من

ص: 124

القضايا الخارجية ، وأما إذا كانت من القضايا الحقيقية فهي تعم الغائبين والمعدومين على نسق الموجودين (1) - كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله - وحينئذ يمكن فرض إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين كالموجودين.

وعلى كل حال : لا ينبغي التأمل في حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية في كل ما فرض إجمال المكلف به وتردده بين المتباينين.

فما يظهر من المحقق القمي : من الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بفعل أحد طرفي المعلوم بالاجمال ، ضعيف غايته ، لاستقلال العقل بأن الاشتعال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، إما وجدانا وإما تعبدا ، ليأمن من تبعة مخالفة التكليف المعلوم.

دفع وهم :

ربما يتوهم : أن وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر عند الاتيان بأحد المحتملين مما يقتضيه استصحاب بقاء التكليف ، فلا حاجة في إثبات ذلك إلى قاعدة الاشتغال ، بل لا مجال لها لحكومة الاستصحاب عليها.

هذا ، ولكن التحقيق : عدم جريان الاستصحاب في ذلك ، لأنه يلزم من جريانه : إما إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، وإما البناء على اعتبار الأصل المثبت.

ص: 125


1- أقول : قد تقدم في بعض حواشينا في مباحث الألفاظ أن مبنى اختصاص الخطاب بالمشافهين ليس على جعل مفاد القضايا الشرعية برمتها خارجية ، بل إنما يبتنى على خصوصية ملازمة ظهور الخطاب بالمشافهين مع كون القضية خارجية ، إذ لازم كونها حقيقية رفع اليد عن ظهور الخطاب في الاختصاص ، فأصل هذا النزاع مبني على هذه الجهة ، لا أن المسألة المزبورة مبنية على كون القضايا الشرعية خارجية ، وكم فرق بين المعنيين! فتدبر.

وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمور :

الأول : يعتبر في الاستصحاب أن يكون الشك راجعا إلى بقاء الحادث ، لا إلى أن الباقي هو الحادث (1) لان قوام الاستصحاب إنما هو بالشك في البقاء بعد العلم بالحدوث ، فلا يجري الاستصحاب عند الشك في كون الباقي هو الحادث.

نعم : قد يتولد الشك في البقاء من الشك في الحدوث ، كما إذا علم بنجاسة أحد مقطوعي الطهارة أو طهارة أحد مقطوعي النجاسة ، فان الشك في بقاء طهارة كل منهما أو نجاسته مسبب عن الشك في حدوث النجاسة فيه أو الطهارة ، لكن الشك في حدوث النجاسة أو الطهارة في كل منهما إنما يكون منشأ للشك في بقاء الحالة السابقة المتيقنة فيهما ، والاستصحاب يجري باعتبار الشك في بقاء تلك الحالة.

وهذا غير الشك في كون الباقي هو الحادث ، لأن الشك فيه لا يرجع إلى البقاء بل إلى الحدوث ، كما لو علم بحدوث فرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، فإنه وإن كان يشك في بقاء الحادث ، إلا أن ارتفاع أحد فردي الترديد يوجب الشك في حدوث الفرد الباقي.

فلا يجري استصحاب الفرد المردد ، لان استصحاب الفرد المردد معناه :

ص: 126


1- 1 - أقول : الأولى أن يقال : إنّ الشكّ في حدوث الباقي بعد ما كان ملازما للشكّ في بقاء ما حدث من الجامع بينهما ذاتيّا أم عرضيّا، لا شبهة في أنّ الشكّ في بقاء هذا الجامع إنّما يثمر في ظرف كونه بنفسه موضوع الأثر في الدليل، و إلّا فلا معنى للتعبّد به، و من هذه الجهة لا مجال لاستصحاب الفرد المردّد و لا لمفهوم المجمل المردّد بين المتباينين أو الأقل و الأكثر، لأنّ ما هو مشكوك البقاء لا أثر له و ما له الأثر كان بين ما هو متيقّن الارتفاع أو متيقّن الحدوث.

بقاء الفرد الحادث على ما هو عليه من الترديد (1) وهو يقتضي الحكم ببقاء الحادث على كل تقدير ، سواء كان هو الفرد الباقي أو الفرد الزائل ، وهذا ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير أن يكون هو الفرد الزائل ، فاستصحاب الفرد المردد عند العلم بارتفاع أحد فردي الترديد مما لا مجال له.

نعم : لا مانع من استصحاب الكلي والقدر المشترك بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، للشك في بقائه بعد العلم بحدوثه ، ويثبت بذلك الآثار الشرعية المترتبة على نفس بقاء القدر المشترك ، ولا تثبت الآثار المختصة بأحد الفردين إلا على القول بالأصل المثبت ، ففي الحدث المردد بين الأصغر والأكبر يجري استصحاب بقاء الحدث عند الاتيان بأحد فردي الطهارة : من الوضوء أو الغسل ، ويترتب عليه حرمة مس كتابة المصحف ، لان حرمة المس من الاحكام المترتبة على نفس بقاء الحدث من دون أن يكون لخصوصية الأصغر والأكبر دخل في ذلك ، لقوله تعالى : « لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » (2) وسيأتي توضيح ذلك في مبحث الاستصحاب ( إن شاء اللّه تعالى ).

والمقصود في المقام : مجرد بيان عدم جريان استصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، كما ربما يختلج في البال ، بل قيل به بتوهم : أن ارتفاع أحد الفردين يوجب الشك في بقاء الفرد الحادث ، فيجري فيه

ص: 127


1- أقول : استصحاب الفرد المردد لا يقتضي إلا الحكم ببقاء ما هو المعلوم الغير الساري إلى العنوان التفصيلي ، لأنه متعلق لشكه ، والغرض أن التعبد الاستصحابي لا يتعدى عن مورد شكه ، ومورد شكه أيضا هو متعلق يقينه ، فكما أن اليقين الاجمالي يجتمع مع الشك بالطرفين تفصيلا كذلك الشك الاجمالي أيضا يجتمع مع العلمين التفصيليين ، وحينئذ لا يقتضي الاستصحاب المزبور التعبد ببقاء كل واحد من المعلومين تفصيليين ، فلا يتم هذا الوجه في منع جريان استصحاب الفرد المردد ، بل الأولى ما ذكرناه في الحاشية السابقة.
2- الواقعة : الآية 79.

الاستصحاب ، ولا حاجة إلى استصحاب الكلي والقدر المشترك بين الفردين.

ولا يخفى ضعفه ، فان استصحاب الفرد المردد مع العلم بارتفاع أحد فردي الترديد لا يمكن ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك فيما هو الحادث ، وأنه هو الفرد الباقي أو أنه هو الفرد الزائل ، والاستصحاب لا يثبت ذلك ، فان شأن الاستصحاب هو إثبات بقاء ما حدث لا حدوث الباقي.

ودعوى : أن الشك فيما هو الحادث يستلزم الشك في بقاء الحادث ، والاستصحاب إنما يجري باعتبار الشك في بقاء الحادث لا باعتبار الشك فيما هو الحادث ، نظير الشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين المقطوع نجاستهما عند العلم بحدوث الطهارة في أحدهما حيث تقدم أن الشك في بقاء النجاسة في كل منهما مسبب عن الشك في حدوث موجب الطهارة فيه ، والاستصحاب إنما يجري باعتبار الشك في البقاء وإن لم يثبت به محل الطهارة الحادثة.

واضحة الفاسد ، فإنه في مثال الانائين كان هناك شكان : شك في بقاء النجاسة في كل منهما ، وشك في حدوث الطهارة في كل منهما ، ومتعلق الشك في أحدهما غير متعلق الشك في الآخر ، غايته أن أحد الشكين مسبب عن الشك الآخر.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنه ليس فيه إلا شك واحد ، وهو الشك فيما هو الحادث (1) وهذا الشك مستمر من زمان العلم بحدوث أحد الفردين إلى زمان ارتفاع أحدهما.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في عدم جريان الاستصحاب الشخصي والفرد

ص: 128


1- أقول : لو بنينا في التعبد بالبقاء على كفاية مرآتية المشكوك لما له الأثر لا قصور في استصحاب أحد الفردين المقطوع حدوثه ومشكوك بقائه ، فالعمدة حينئذ منع هذه الجهة ، وإلا فعدم حصر الشك في كون الباقي حادثا من البديهيات.

المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد.

الامر الثاني : يعتبر في الاستصحاب أيضا أن يكون الأثر المقصود إثباته مترتبا على بقاء المستصحب ، لا على حدوثه ، ولا على الأعم من الحدوث والبقاء (1) لو فرض إمكان ذلك (2) فان الحدوث محرز بالوجدان ويلزمه إحراز الأثر المترتب عليه ، فلا مجال للاستصحاب ، لأنه يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، وهو أردأ أنحاء تحصيل الحاصل ، وذلك واضح.

الامر الثالث : يعتبر في الاستصحاب أيضا أن يكون الأثر الذي يراد إثباته به مترتبا على نفس الواقع المشكوك فيه ، لا على الشك فيه بحيث يكون الشك تمام الموضوع للأثر من دون أن يكون للواقع المشكوك فيه دخل في ذلك ، فإنه لو كان الأثر مترتبا على نفس الشك ، فبمجرد حدوث صفة الشك يترتب الأثر ويكون محرزا بالوجدان ، فلا حاجة إلى إحراز الواقع بالاستصحاب ، بل لو فرض كون الأثر مترتبا على الأعم من الواقع والشك فيه ، فالاستصحاب أيضا لا يجري ، لاحراز الأثر بمجرد الشك ، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب ، لان الاستصحاب إنما شرع لبقاء الواقع وتنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن ، فإذا فرض أن الأثر رتب شرعا على نفس الشك فلا موقع للتعبد ببقاء الواقع ، لأنه يلزم التعبد بما هو محرز بالوجدان.

الامر الرابع : لا إشكال في أن الاستصحاب وارد على قاعدة الاشتغال والبراءة (3) سواء توافقا في المؤدى أو تخالفا.

ص: 129


1- أقول : بل ويكفي في الاستصحاب كون الأثر مترتبا على ما هو محفوظ في ضمن الحدوث والبقاء الساري فيهما من دون دخل لحيث البقاء فيه أيضا ، كما هو الغالب في موارده.
2- والظاهر أنه لا يمكن ، لسبق الحدوث على البقاء دائما فيلزم لغوية أخذ البقاء موضوعا آخر للأثر في عرض الحدوث ، لان الأثر دائما يستند إلى الحدوث ولا يستند إلى البقاء أبدا ، فتأمل ( منه ).
3- 3 - أقول : ما أفيد في البراءة إنما يصح لو كان موضوع القبح لا بيان بالإضافة إلى الوجود والعدم ، وإلا فلو كان الموضوع هو اللابيان بالإضافة إلى خصوص الوجود ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في جهة رفع العقوبة ، لأنه مرفوع في الرتبة السابقة عن الحكم بالبرائة شرعا. نعم : ما أفيد تمام بالنسبة إلى استصحاب التكليف في مورد القاعدة في صورة إثبات الأصل وجوب موردها ، لان الأصل المزبور حينئذ معين للفراغ والقاعدة بالنسبة إلى الأصول المعينة للفراغ مورود - كما مر منا مرارا - لا مطلقا كما توهم ، ولقد تقدم تفصيل ذلك في الحواشي السابقة ، فراجع.

أما وروده على البراءة : فواضح ، من جهة أن مبنى البراءة هو قبح العقاب بلا بيان ، والاستصحاب يكون بيانا ، فلا موضوع للبراءة مع الاستصحاب.

وأما وروده على قاعدة الاشتغال : فلان حكم العقل بوجوب الاحتياط بترك المشكوك فيه في الشبهات التحريمية وفعله في الشبهات الوجوبية إنما هو لأجل لزوم دفع الضرر المحتمل وحصول المؤمن عن تبعة مخالفة التكليف ، وهذا يرتفع موضوعه بقيام الاستصحاب على نفي التكليف أو ثبوته في المشكوك.

أما في صورة قيامه على نفي التكليف فواضح ، لعدم احتمال الضرر وحصول المؤمن حينئذ.

وأما في صورة قيامه على ثبوت التكليف ، فلان استصحاب التكليف كالعلم به يكون محرزا للتكليف ، ومعه لا يبقى موضوع لحكم العقل بالاحتياط ، لان حكمه بذلك إنما يكون في ظرف عدم إحراز التكليف في المشكوك.

وبالجملة : لا إشكال في أن حكم العقل بالبراءة أو الاشتغال معلق على عدم ثبوت التكليف أو نفيه من الشارع ولو بالاستصحاب ، وإلا لزم طرح الأصول الشرعية بالمرة ، إذ ما من مورد إلا وينتهي الامر فيه بالآخرة إلى حكم العقل بالبراءة أو الاشتغال.

ومن الغريب! ما نسبه بعض من لا خبرة له إلى الشيخ قدس سره من القول بعدم جريان الاستصحاب في الموارد التي يستقل العقل فيها بالبراءة والاشتغال ، مع أنه قدس سره قد صرح بخلاف ذلك في مواضع من الكتاب.

ص: 130

منها : ما أفاده في المقام بقوله : « ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شك في فعله ، فان الاستصحاب بنفسه مقتض هناك الوجوب والآتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه الموظف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما ». انتهى.

فلو كان جريان الاستصحاب عنده مقصورا على صورة عدم استقلال العقل بالاشتغال لكان ينبغي أن لا يقول بجريان استصحاب عدم فعل الظهر عند الشك فيه ، لاستقلال العقل بالاشتغال فيه. ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف ينسب ذلك إلى مثل الشيخ قدس سره مع أن فساده بمكان لا يخفى على أصاغر الطلبة؟.

إذا عرفت ما مهدناه من الأمور فاعلم : أنه لا موقع لاستصحاب بقاء التكليف عند العلم بوجوب أحد الشيئين في صورة الاتيان بأحد المحتملين ، كما لو علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة وقد فعل المكلف إحدى الصلاتين دون الأخرى ، فإنه لو أريد من الاستصحاب استصحاب شخص التكليف المعلوم بالاجمال ، ففد عرفت - في الامر الأول - أن الاستصحاب الشخصي لا يجري مع العلم بزوال أحد فردي المردد ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في حدوث الفرد الباقي لا في بقاء الفرد الحادث - على ما تقدم بيانه - وإلا لزم ترتيب آثار بقاء الفرد المردد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بكل من الظهر والجمعة ، لان هذا هو أثر بقاء الوجوب المردد ، مع أن المفروض تحقق فعل الجمعة أو الظهر ، فلا يبقى موقع لفعل المأتي به ثانيا ، فالاستصحاب الشخصي لا يجري.

وإن أريد من الاستصحاب استصحاب الكلي والقدر المشترك بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، فالشك فيه وإن كان شكا في البقاء والاستصحاب يجري فيه ، إلا أنه :

ص: 131

إن أريد من استصحاب بقاء القدر المشترك إثبات كون الحادث هو الفرد الباقي وأنه هو متعلق التكليف ، فهذا يكون من أردأ أنحاء الأصل المثبت ، ودعوى وضوح الملازمة وخفاء الواسطة مما لا ترفع غائلة المثبتية ، كما سيتضح وجهه في مبحث الاستصحاب ( إن شاء اللّه تعالى ).

وإن أريد من استصحاب بقاء القدر المشترك مجرد لزوم الاتيان بالمحتمل الآخر والفرد الباقي مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، فهذا مما يكفي فيه نفس حدوث التكليف والشك في الامتثال (1) ولا يتوقف على إحراز بقاء التكليف والعلم بعدم الامتثال ، لاستقلال العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وليس هذا من الاحكام التي تنالها يد الجعل الشرعي ، لان ذلك من شؤون الطاعة والمعصية التي يستقل العقل بها ، فوجوب الاتيان بالمحتمل الآخر عقلا مما هو محرز بالوجدان ، لأن الشك بالفراغ تمام الموضوع له ، ولا يعقل التعبد بما هو محرز بالوجدان ، فإنه أسوأ حالا من الامر بتحصيل الحاصل ، لان تحصيل الحاصل هو ما إذا كان المحصل للحاصل من سنخ الحاصل ، كإحراز المحرز بالوجدان بالوجدان أو المحرز بالتعبد بالتعبد ، وأما

ص: 132


1- أقول : وقد يوهم هذا البيان أن هذا المقدار يكفي لجريان الاستصحاب لولا قاعدة الاشتغال ، كما في صورة حصول العمل بعد التلف ، ولا يخفى ما فيه : من أن استصحاب الجامع الاجمالي إنما يجري في صورة الجزم بكون المورد عمله ومورد امتثاله ، ومع الشك فيه - كما هو الشأن في علمه الوجداني - لم يحرز لهذا الجعل أثر عملي ، فلا يجري كي يقتضي لزوم الاتيان بالمحتمل ، وإن كان في البين قاعدة اشتغال. نعم : لو بنينا - كما هو المشهور - من أن نتيجة استصحاب التكليف جعل المماثل ، أمكن أن يقال : بأن جعل الجامع لا يعقل إلا في صمن فصل ، وهو لا يكون إلا لخصوصية وجوب الباقي ، فبالاستصحاب حينئذ يحرز هذه الخصوصية ، لأنه من لوازم الحكم الظاهري ، لا من لوازم الواقع محضا كي يكون مثبتا ، ولازمه حينئذ عدم جريان قاعدة الاشتغال ، لوجود البيان الرافع لموضوع القاعدة ، كاستصحاب تكليف شخص المورد ، كما لا يخفى ، فتدبر فيما ذكرنا ، كي لا يبقى لك مجال جعل القاعدة مانعا من جريان هذا الاستصحاب.

إحراز المحرز بالوجدان بالتعبد فهو أردأ من ذلك.

وحاصل الكلام : أنه عند العلم بوجوب أحد الشيئين مع حصول امتثال أحدهما لا يجري استصحاب بقاء التكليف ، لا الشخصي ، ولا الكلي.

أما الشخصي : فللشك في حدوث الفرد الباقي بالبيان المتقدم.

وأما الكلي : فلانه لا يثبت به تعلق التكليف بالمحتمل الآخر ، وأثر وجوب تحصيل اليقين بالفراغ والعلم بالخروج عن عهدة التكليف مما يقتضيه نفس حدوث التكليف والشك في امتثاله ، وليس من الآثار المترتبة على بقاء التكليف واقعا ليجري فيه الاستصحاب. ولو فرض أنه من الآثار المترتبة على الأعم من الحدوث والبقاء ، فالاستصحاب أيضا لا يجري ، لسبق الحدوث على البقاء ، والشيء إنما يستند إلى أسبق علله.

ولا يقاس ما نحن فيه على ما إذا علم بمتعلق التكليف تفصيلا وشك في امتثاله ، حيث إنه يجري استصحاب بقاء التكليف بلا كلام ، كما صرح به الشيخ قدس سره في كلامه المتقدم ، وذلك : لان المستصحب فيه هو التكليف الشخصي المتعلق بالفعل الخاص ، وبقائه ليس محرزا بالوجدان وبالاستصحاب يحرز بقائه ، فالذي يتأتى من الاستصحاب في مثل ذلك لا يتأتى من قاعدة الاشتغال ، لان قاعدة الاشتغال لا تثبت التكليف ولا تحرز بقائه.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان المفروض عدم جريان الاستصحاب الشخصي ، والأثر الذي يمكن إثباته من استصحاب الكلي ليس إلا لزوم الاتيان بالمحتمل الآخر مقدمة للعلم بالفراغ ، وهذا المعنى يتأتى من قاعدة الاشتغال ولا يحتاج إلى الاستصحاب ، لان موضوعه نفسه الشك في الامتثال. وبذلك يمتاز مورد قاعدة الاشتغال عن مورد الاستصحاب ، ولا يمكن أن

ص: 133

يجتمعا في مورد واحد ، فان مورد قاعدة الاشتغال هو ما إذا كان الأثر الذي يراد إثباته مترتبا على نفس الشك بلا دخل للواقع المشكوك فيه ، ومورد الاستصحاب هو ما إذا كان الأثر مترتبا على نفس الواقع بلا دخل للشك فيه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ، فإنه قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين القاعدة والاستصحاب ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في مبحث الظن في تأسيس الأصل عند الشك في الحجية ، فراجع.

وينبغي التنبيه على أمور
الأول :

ربما يقال : بعد وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية في الشرائط والموانع ، كالقبلة واللباس ونحو ذلك ، بدعوى : سقوط الشرط عند عدم العلم به تفصيلا ، فيأتي بالمشروط فاقدا للشرط أو واجدا للمانع (1) ولعله لذلك ذهب الحلي رحمه اللّه إلى عدم وجوب الستر عند اشتباه اللباس.

والمحكي عن المحقق القمي رحمه اللّه التفصيل بين الشرائط المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا تصل فيما لا يؤكل » (2) ونحو ذلك من الأوامر والنواهي الغيرية فذهب إلى سقوط الشرط في موارد اشتباهه ، وبين الشرائط

ص: 134


1- أقول : إتمام هذا الكلام أمكن فيما لو كان آخر الوقت بحيث لا يبقى مجال إلا لصلاة واحدة ، فإنه حينئذ أمكن دعوى إلغاء الساتر عند اشتباهه بالنجس من جهة أهمية مانعية النجاسة عن شرطية الستر ، كما هو الشأن عند حصر الساتر بالنجس ، ووجهه حينئذ لزوم تركه فيها المستتبع لعدم القدرة على الساتر. نعم : مع سعة الوقت لا مجال لهذه المزاحمة ، إذ بتكرار الصلاة يحفظ بين شرطية الستر ومانعية النجاسة ، كما لا يخفى.
2- لم أجد حديثا بهذه العبارة. ولعله قدس سره أراد النقل بالمعنى ، فراجع. ( المصحح ).

المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلا بطهور » (1) ونحو ذلك ، فقال : بعدم سقوط الشرط عند الجهل به.

ولم يحضرني كتب المحقق رحمه اللّه حتى أراجع كلامه ، وكأنه قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ، فقد حكي عن بعض الاعلام هذا التفصيل بعينه في موارد تعذر الشرط ، وسيأتي الكلام فيه في مبحث الأقل والأكثر.

وعلى كل حال ، فالأقوى : أنه لا فرق بين الشرائط وغيرها في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع وتردده بين أمور محصورة ، فيجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، أو في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس ، أو الحرير بغيره ، ولا وجه لسقوط الشرط ، إلا إذا استفيد من الدليل اختصاص الشرطية بصورة العلم التفصيلي بالموضوع ، كما ربما يستفاد من قوله علیه السلام « أذن وأقم لأولهن » (2) كون الترتيب بين الفوائت إنما يعتبر عند العلم بما فات أولا.

وبالجملة : لا وجه لاطلاق القول بسقوط الشرط عند عدم العلم به تفصيلا ، بل لابد من ملاحظة ما يستفاد من دليل الشرط وأن شرطيته مقصورة بصورة العلم بموضوعه تفصيلا أولا؟.

وقياس باب العلم والجهل بباب القدرة والعجز ليس على ما ينبغي ، فان القدرة من الشرائط لثبوت التكليف والعلم بالموضوع أو الحكم من الشرايط لتنجز التكليف ، والمفروض أنه قد علم بحصول الشرط بين الأطراف فلا موجب لسقوطه ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في المباحث الآتية ( إن شاء اللّه تعالى ).

ص: 135


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الوضوء الحديث 1.
2- الوسائل : الباب 37 من أبواب الأذان والإقامة الحديث 1 ، لفظ الحديث : « إذا كان عليك قضاء صلوات فابدأ بأولهن فأذن وأقم الخ ».
الامر الثاني :

يظهر من الشيخ قدس سره التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية إذا كان المحتمل أو المعلوم بالاجمال من العبادات ، فإنه في الشبهات البدوية يكفي مجرد قصد احتمال الامر والمحبوبية ، فينوي من احتمل الجنابة عند الغسل امتثال الامر الاحتمالي ، فان هذا هو الذي يمكن في حقه.

وأما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي : فلا يكفي ذلك ، بل لابد من قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، وذلك يتوقف على أن يكون المكلف حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر ، إذ مع عدم قصد ذلك لا يتحقق قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، بل يكون قصد امتثال الامر على تقدير تعلقه بالمأتي به ، وهذا لا يكفي في تحقق الامتثال مع العلم بالامر ، لأنه يعتبر في حسن الطاعة والامتثال قصد امتثال الامر المعلوم تعلقه بأحد المحتملين. هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه التفصيل في كيفية النية بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي.

ولكن للنظر فيه مجال ، فان العلم بتعلق الامر بأحد المحتملين لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات (1) فان الطاعة والامتثال في كل من المحتملين

ص: 136


1- 1 - أقول : بناء على مبناه : من لزوم الامتثال الجزمي في العبادة مهما أمكن - خصوصا لو بنينا على الاشتغال في مثل هذه القيود عند الشك فيها وفي كيفيتها - فمع العلم بوجود عبادة في البين يجب إتيانه بداعي أمره الجزمي الملازم لان يكون إتيانه بما هو معلوم في البين عبادية ، بلا نظر إلى كل واحد من المحتملين إلا من باب احتمال انطباق عنوان العبادة المعلومة عليه لا أنه بما هو عبادة محتملة ، ففي الحقيقة الداعي على إتيان المحتمل احتمال انطباق العبادة المعلومة المأتية بجزم أمره عليه ، لا أن الداعي على إتيانه احتمال أمره ، وكم فرق بين الأمرين! وحينئذ الأولى منع اعتبار الجزم بالنية حتى مع التمكن ، كما لا يخفى.

ليست إلا احتمالية ، كما إذا لم يعلم بتعلق الامر بأحدهما وكانت الشبهة بدوية ، إذ المكلف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الامر الاحتمالي عند الاتيان بكل من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء ، حتى يقال : العلم بتعلق التكليف بالفعل الواحد يقتضي قصد امتثال الامر المعلوم.

وبالجملة : لا إشكال في أن فعل كل من المحتملين لا يمكن إلا بداعي احتمال تعلق الامر به ، فلا يتوقف تحقق الامتثال في كل منهما على قصد الامر المعلوم بالاجمال ، بل لو أتى المكلف بأحد المحتملين من دون أن يكون قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر يحصل الامتثال ويصح العمل على تقدير تعلق الامر بذلك المحتمل.

نعم : يكون متجريا في قصده ، حيث إنه لم يقصد امتثال الامر على كل تقدير ، إلا أن تجريه في ذلك لا دخل له في تحقق الطاعة والامتثال على تقدير مصادفة المأتي به للواقع.

والحاصل : أنه يمكن أن يكون للمكلف رغبة في فعل أحد المحتملين بحيث يحب طاعة أمره الاحتمالي ، ولا يكون له رغبة في فعل المحتمل الآخر فلا يطيع أمره الاحتمالي ، ولا ملازمة بين الاطاعتين ولا ارتباط بين الامتثالين ، فلا يتوقف حصول الامتثال لأحدهما على قصد امتثال الآخر ، فتأمل جيدا.

الامر الثالث :

لو كان المعلوم بالاجمال أمرين مترتبين شرعا كالظهر والعصر المردد بين الجهات الأربع عند اشتباه القبلة ، فلا إشكال في عدم جواز استيفاء جميع محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر ، للعلم بفوات الترتيب ، كما

ص: 137

لا إشكال في عدم جواز فعل العصر إلى جهة مغايرة لجهة فعل الظهر ، لفوات الترتيب أيضا.

وفي جواز الاتيان ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر وعدم جوازه وجهان : مبنيان على أن الامتثال الاجمالي في عرض الامتثال التفصيلي؟ أو في طوله؟.

بيان ذلك : هو أنه بعد الفراغ عن اشتراط الترتيب بين الظهر والعصر ولزوم إحراز وقوع العصر عقيب الظهر - كسائر الشرائط التي لابد من إحرازها في مقام الامتثال - يقع الكلام في أنه هل يعتبر في حصول الطاعة وحسن الامتثال إحراز تحقق الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر؟ بحيث يكون المكلف حين اشتغاله بالعصر محرزا لفراغ ذمته عن صلاة الظهر لكي يكون محرزا للترتيب في ذلك الحال ، أو أنه لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي العلم بتحقق الترتيب ووقع العصر عقيب الظهر ولو بعد الفراغ عن صلاة العصر.

فان قلنا : إنه يعتبر إحراز الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ، فلا يجوز أن يأتي ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر ، لأنه حين الاتيان بذلك البعض لا يعلم بفراغ الذمة عن صلاة الظهر ، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة التي صلى الظهر إليها.

وإن قلنا : إنه لا يعتبر إحراز الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ، بل يكفي إحرازه ولو بعد الفراغ عن صلاة العصر ، فيجوز فعل كل واحد من محتملات العصر عقيب كل واحد من محتملات الظهر إلى أن يستوفي جميع المحتملات ، لأنه بعد استيفاء جميع المحتملات يعلم بوقوع العصر عقيب الظهر وإن لم يعلم بذلك حين الاتيان بكل من محتملات العصر ، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة التي صلى الظهر والعصر إليها.

فإن قلت : لا فرق بين الصورتين ، فإنه على كل حال لا يعلم بوقوع العصر

ص: 138

عقيب الظهر حين الاتيان بها ، لو أخر استيفاء محتملاتها عن محتملات الظهر ، فإنه حين الاتيان بكل واحد من محتملات العصر لا يعلم بكون تلك الجهة جهة القبلة ، فيحتمل أن لا تكون هذه الصلاة هي صلاة العصر المأمور بها ، والترتيب إنما يعتبر بين الظهر والعصر المأمور بهما واقعا ، لا الظهر والعصر المأتي بهما من باب المقدمة العلمية ، والعلم بتحقق الترتيب بين الظهر والعصر المأمور بهما واقعا لا يكاد يحصل إلا بعد استيفاء جميع المحتملات لكل منهما ، فلا فرق بين أن يؤخر محتملات العصر عن محتملات الظهر وبين أن يأتي بكل من محتملات العصر عقيب كل من محتملات الظهر.

قلت : الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فإنه عند تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر يعلم حين الاتيان بكل من محتملات العصر أن الصلاة المأتي بها واقعة عقيب الظهر الواقعي وإن كان لا يعلم بكونها عصرا واقعا ، لاحتمال أن لا تكون إلى القبلة ، إلا أن هذا لمكان الجهل بالقبلة لا لمكان الجهل بالترتيب ، فإنه يعلم بالترتيب ووقوع كل من محتملات العصر عقيب الظهر الواقعي حال الاشتغال بالمحتملات ، وهذا بخلاف ما إذا أتى بكل من محتملات الظهر والعصر عقيب الاخر (1) فإنه حال الاشتغال بكل من

ص: 139


1- أقول : الفرق المزبور مبني على كون المعتبر في الصلاة القطع بوقوع محتمل العصرية بما هو محتمل عقيب الظهر ، وإلا فلو كان المعتبر فيه حين الاتيان القطع بوقوع العصر الواقعي عقيب الظهر في كل محتمل فهو حاصل في الأخير أيضا ، غاية الامر هذا المعنى في غير المحتمل الأخير تعليقي وفيه تنجيزي. و لئن شئت تقول: بأنّ الشكّ في جميع المحتملات متعلّق بالقبلة، و إلّا فمن حيث الترتيب يقطع بالترتيب في فرض الفراغ عن كونه قبلة، و من هنا ظهر أنّ المكلّف ليس له جهلان: أحدهما متعلّق بالترتيب و الآخر بالقبلة، إذ لازم الجهلين بقاء أحدهما على حاله مع رفع الآخر، نظير الجهل بالقبلة و اللباس. و الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، إذ مع رفع الجهل عن القبلة لا يبقى جهل بالترتيب، و حينئذ صحّ لنا دعوى عدم جهل بالترتيب أصلا بين الظهر الواقعي و عصره، و إنّما الجهل ممحّض بكون المأتيّ به إلى القبلة أم لا ، كما لا يخفى. وحينئذ فلو بنينا على تقديم الامتثال التفصيلي على الاجمالي ، لا يجب في المقام اختيار الشق الأول ، فضلا عن التحقيق من عدم تقديمه ، كما سيأتي عند تعرضه ( إن شاء اللّه تعالى ).

محتملات العصر غير الأخير منها لا يعلم بوقوع العصر عقيب الظهر الواقعي ، للشك في وقوع الظهر المأتي بها إلى جهة القبلة ، فالمكلف حال الاشتغال بكل واحد من محتملات العصر كما يكون جاهلا بالقبلة يكون جاهلا بالترتيب ووقوع العصر عقيب الظهر الواقعي ، فلا يحصل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى كل من شرطية القبلة وشرطية الترتيب ، وبناء على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي يجب تحصيل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى كل شرط يمكن فيه ذلك.

ولا ملازمة بين الشروط ، بحيث لو سقط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه يسقط بالنسبة إلى سائر الشروط ، بل الامتثال التفصيلي يجب بأي مقدار أمكن ، وفي المقام يمكن حصول الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى شرط الترتيب بتأخير جميع محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر وإن لم يمكن تحصيله بالنسبة إلى شرطية القبلة ، فما نحن فيه نظير ما إذا تردد كل من القبلة واللباس بين أمور محصورة مع إمكان رفع الترديد بالنسبة إلى اللباس ، فإنه لا إشكال في وجوب رفع الترديد بالنسبة إلى اللباس تحصيلا للامتثال التفصيلي فيه.

فإن قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثال ، فإنه في المثال يلزم زيادة في المحتملات عند عدم رفع الترديد عن اللباس ، فإنه يجب تكرار الصلاة في كل من الثوبين المشتبهين إلى كل من الجهات الأربع ، فتكون المحتملات في كل من الظهر والعصر ثمانية مع إمكان تقليلها بجعلها أربعة عند رفع الترديد عن اللباس ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان المحتملات في كل من الظهر والعصر لا تزيد على الأربعة ، سواء قدم جميع محتملات الظهر عن محتملات العصر أو

ص: 140

لا ، ومن المعلوم : أن تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي على القول به إنما هو فيما إذا لزم من الامتثال الاجمالي تكرار في العمل ، لا مطلقا ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) فلا موجب لرفع الجهل عن قيدية الترتيب بعدما لم يلزم منه زيادة في المحتملات.

قلت : تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي هو الذي أوجب المنع عن التكرار ، لا أن المنع عن التكرار أوجب تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي ، فالمانع إنما هو لزوم الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي وإن لم يلزم منه زيادة في المحتملات.

فتحصل مما ذكرنا : أن وجوب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر مبني على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن الأقوى : اعتبار الامتثال التفصيلي مع التمكن منه ، وعليه يجب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :

قد تقدم في الشبهة التحريمية عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كانت الأطراف غير محصورة ، لعدم التمكن من المخالفة القطعية فيها عادة ، بالبيان المتقدم (1)

ص: 141


1- 1 - أقول : قد تقدم بما لا مزيد عليه أن مجرد عدم التمكن عن تحصيل بصدور المخالفة منه خارجا لا يستلزم جريان النافية من الأصول ولا جواز الارتكاب وترك الموافقة ، وإنما المانع عن جريان الأصول نفس منجزية العلم بنحو العلية ولو لم يكن معارضا ، وذلك حاصل في ظرف ترك المحتملات ، إذ في هذا الظرف يقطع بالقدرة على المخالفة الواقعية فيحرم ، فجريان الأصل حينئذ لا مجال له ولو لم تكن يتعارض لمكان وجود العلم المنجز في هذا الظرف ، فيجب حينئذ بحكم العقل الموافقة القطعية ، وحينئذ فلو بنينا على عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور حتى في التحريمية ، فلابد وأن يكون من إجماع على الترخيص الكاشف عن جعل البدل ، بناء على ما هو التحقيق : من علية العلم ، ولا رمه الالتزام في الشبهة الوجوبية أيضا بمناط واحد ، نظرا إلى إطلاق معاقد الاجماعات ، وإلى هذا البيان نظر شيخنا الأعظم : من الاكتفاء بفعل واحد وترك الباقي. وبمثل هذا البيان ينبغي أن يفهم كلمات شيخنا الأعظم ، فتدبر.

وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإن المخالفة القطعية بترك جميع المحتملات بمكان من الامكان ، فلابد من تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية وعدم جواز ترك جميع المحتملات.

نعم : لا يمكن الموافقة القطعية بفعل جميع المحتملات لكثرة الأطراف ، فلابد من التبعيض في الاحتياط والآتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.

ولا وجه للاكتفاء بفعل أحد المحتملات وترك الباقي ، بدعوى : أن تعذر الموافقة القطعية يوجب التنزيل إلى الموافقة الاحتمالية ، وهي تحصل بفعل أحد المحتملات ، لان المانع من وجوب الموافقة القطعية ليس هو إلا لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات ، والضرورات إنما تتقدر بقدرها ، فلابد من سقوط ما يلزم منه العسر والحرج ، ولا موجب لسقوط الزائد عن ذلك ، فلا محيص من وجوب الاتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.

هذا تمام الكلام في الشك في المكلف به عند دورانه بين المتباينين ، وقد بقي منه بعض التنبيهات لم يتعرض لها شيخنا الأستاذ - مد ظله - لأنها قليلة الجدوى

* * *

ص: 142

المقام الثاني: في دوران الامر بين الأقل والأكثر

اشارة

وأقسامه كثيرة ، فان الترديد بين الأقل والأكثر

تارة : يكون في نفس متعلق التكليف من الفعل أو الترك المطالب به.

وأخرى : يكون في موضوع التكليف فيما إذا كان للتكليف تعلق بالموضوع الخارجي.

وثالثة : يكون في السبب والمحصل الشرعي والعقلي أو العادي.

وعلى جميع التقادير ، تارة : يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأخرى : يكون من قبيل الشرط والمشروط ، وثالثة : يكون من قبيل الجنس والنوع.

ثم ما كان من قبيل الشرط والمشروط ، تارة : يكون منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا عن المشروط مباينا له في الوجود ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وأخرى : يكون داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود ، كالايمان بالنسبة إلى الرقبة.

وفي جميع هذه الأقسام ، تارة : يكون الأقل والأكثر ارتباطيين ، وأخرى : يكون غير ارتباطيين

وعلى التقديرين : تارة : تكون الشبهة وجوبية ، وأخرى : تكون تحريمية.

ومنشأ الشبهة : إما فقد النص ، وإما إجمال النص ، وإما تعارض النصين ، وإما الاشتباه في الموضوع الخارجي.

فهذه جملة الأقسام المتصورة في باب الأقل والأكثر ، وسيأتي مثال كل قسم عند البحث عن حكمه.

وكأن الشيخ قدس سره غفل عن إمكان تردد نفس متعلق التكليف بين

ص: 143

الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، وأبدل هذا القسم بما يرجع إلى الشك في المحصل ، ولكن سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن ذلك بمكان من الامكان ، ومنه تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره.

وعلى كل حال : ينبغي إفراد كل واحد من هذه الأقسام بفصل يخصه - إلا ما كان منها متحد الحكم مع الآخر - لاختلاف أحكامها ، فان منها ما تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها مالا تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها ما هو مختلف فيه.

الفصل الأول: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الأسباب والمحصلات

والأقوى : عدم جريان البراءة عن الأكثر مطلقا في الأسباب العادية والعقلية والشرعية.

أما في الأسباب العادية والعقلية : فواضح (1) فان المجعول الشرعي فيها ليس إلا المسبب ولا شك فيه ، والمشكوك فيه ليس من المجعولات الشرعية

ص: 144


1- أقول : بعدما كان الامر البسيط معلوما بجميع حدوده ، فلا يكون الشك فيه راجعا إلى الشك في متعلق التكليف ، وحينئذ لا قصور فيه من ناحية الاشتغال ، ولازمه استلزام الشك في دخل شيء في المحقق الشك في حصول الفراغ منه بدونه ، وحينئذ فعلى التحقيق : من كون حكم العقل بالفراغ تنجيزيا ، لا شبهة في عدم جريان الأصول النافية فيه ، ولو كانت حرمة شيء في المسبب مجعولا بجعل مستقل. وإن قلنا بأن حكم العقل المزبور تعليقي ، فلا قصور في جريان البراءة عن حرمة مخالفة التكليف بالبسيط من قبل ترك مشكوك الحرمة ، وإن كانت سببيته عادية أم عقلية. فما أفيد من التفصيل في المقام بين المجعولات وغيرها غير تام ، إلا على القول بالأصول المثبتة ، بدعوى أن رفع جزئية المشكوك يثبت مؤثرية الأقل ، فيتحقق المسبب ، فيصير الأصل المزبور مثبتا للفراغ الجعلي الظاهري ، ولكن أنى لنا بذلك! كما لا يخفى.

ولا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، فلا يعمه أدلة البراءة (1) فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في حصول متعلق التكليف وتحقق الامتثال عند عدم الاتيان بالأكثر ، والعقل يستقل بوجوب إحراز الامتثال والقطع بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب ، وذلك واضح.

وأما في الأسباب الشرعية : كالغسلات في باب الطهارة الحدثية والخبثية ، بناء على أن يكون المأمور به هو التطهير والغسلات محصلة له ، لا أنها هي المأمور بها - كما ربما يدل عليه الامر بالتطهير في جملة من الأدلة الواردة في باب الطهارة الحدثية والخبثية - فقد يتوهم : جريان البراءة عن الأكثر ، لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في المجعول الشرعي ، فيعمه أدلة البراءة.

هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة فساد التوهم ، ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن شمول أدلة البراءة للمحصلات الشرعية يتوقف على أن تكون المجعولات الشرعية هي الأسباب لا المسببات ، وأن تكون أجزاء السبب وشرائطه أيضا مجعولة بجعل مستقل مضافا إلى جعل الأسباب ، وقد بينا في محله استحالة ذلك.

بيان الملازمة : هو أنه لو كانت المجعولات الشرعية نفس المسببات وترتبها على أسبابها - كترتب الطهارة على الغسلات الثلاث ، والنقل والانتقال على البيع والشراء - فالأسباب تكون خارجة عن دائرة الجعل ، ولا تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، إذ لا تعقل أن تتعلق الجعل الشرعي بكل من السبب والمسبب ، لان جعل أحدهما يغني عن جعل الآخر ، فبناء على تعلق الجعل

ص: 145


1- أقول : لو كان المراد من المجعول الأعم من الأصلي والتبعي قد يشكل أمر التفكيك بين جعلية المسبب وعدم جعلية السبب ولو تبعا ، إذ لا معنى لجعل المسبب إلا منوطا بالامر العقلي أو العادي ، وإلا لو لم يلحظ في مقام جعله هذه الإناطة لا يتصور سببية الامر العادي للامر الجعلي ، ومع تصوره فيرجع إلى جعل السببية ولو تبعا ، لجعل المسبب منوطا بالمطلق أو المقيد ، كما لا يخفى.

بالمسببات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية والعادية غير قابلة للوضع والرفع ، وإطلاق السبب الشرعي عليها إنما هو باعتبار أن الشارع حكم بترتب المسبب عليه من دون أن يكون في البين ترتب عادي أو عقلي ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في ترتب المسبب على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط (1) وبالآخرة يشك في حصول المكلف به في باب التكاليف وفي حصول المسبب في باب الوضعيات عند عدم الاتيان بما يشك في جزئيته أو شرطيته ، ولا يكاد يحصل العلم بذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب. هذا إذا لم نقل بجعل السببية.

وإن قلنا بجعل السببية ولكن لم نقل بجعل الجزئية والشرطية بجعل مغاير لجعل السببية ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في جعل الشارع سببية الأقل ، للقطع بسببية الأكثر ، ورفع السببية عن الناقص يقتضي عدم تعلق الجعل الشرعي به ، ولازم ذلك عدم ترتب المكلف به على الناقص ، وهذا ينتج عكس المقصود ، لان المقصود من إجراء البراءة هو ترتب المكلف به على الناقص.

فمجرد القول بجعل السببية لا يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل ما لم ينضم إليه القول بجعل الجزئية والشرطية مستقلا ، فإنه حينئذ يصح أن يقال : إن أدلة البراءة تقتضي رفع ما يشك في جزئيته أو شرطيته.

فإن قلت : يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل كون الجزء

ص: 146


1- أقول : ويمكن القول بأنه يرجع إلى الشك في تعلق الجعل بالزائد الذي هو منشأ انتزاع الجزئية في المجعولات الوضعية ، فمن حيث كون أمر وضع الجزئية ورفعه بيد الشارع بتوسيط المنشأ لا فرق بين التكليفيات والوضعيات. نعم : الذي يسهل الخطب في المقام هو أن أصالة عدم الجزئية لا يثبت سببية الأقل ومؤثريته في البسيط ، فلا يثمر مثل هذا الأصل على فرض تنجيزية حكم العقل بالفراغ. نعم : على تعليقيته يكفي هذا الأصل ، بل ويكفي البراءة عن حرمة المخالفة من قبل المشكوك ، من دون فرق في الفرضين بين كون الجزئية مجعولة بجعل مستقل أم لا ، فتدبر.

والشرط مجعولا بتبع جعل السبب المركب منه ومن غيره ، كما هو الشأن في جزء متعلق التكليف وشرطه ، فإن جزئية السورة مثلا للصلاة ليست مما تنالها يد الجعل مستقلا بل هي منتزعة عن الامر بالصلاة المركبة منها ومن غيرها ، ومع ذلك تجري فيها البراءة ويعمها حديث الرفع عند الشك فيها ، وبعد البناء على جعل السببية تكون أجزاء السبب وشرائطه كأجزاء الصلاة وشرائطها منتزعة عن نفس تعلق الجعل بالسبب المركب ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة عند الشك فيها ، ولا يتوقف على أن تكون الجزئية مجعولة بجعل مغاير لجعل السبب.

قلت : فرق بين الأسباب وبين متعلقات التكاليف ، فإن المشكوك فيه في متعلقات التكاليف إنما هو تعلق الامر بالأكثر الواجد للجزء أو الشرط المشكوك فيه ، ورفع الجزئية أو الشرطية إنما يكون برفع الامر عن الأكثر ، فان رفع الانتزاعيات إنما يكون برفع منشأ انتزاعها ، ومنشأ انتزاع الجزئية في متعلقات التكاليف ليس هو إلا تعلق الامر بالأكثر ، وهذا بخلاف الأسباب ، فإن منشأ انتزاع الجزئية المشكوك فيها إنما هو سببية الأكثر ، وسببيته وترتب المسبب عليه مما لا شك فيها ، وإنما الشك في سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، ورفع سببية الناقص ينتج عدم سببيته وعدم ترتب المسبب عليه.

والحاصل : أن حديث الرفع إنما يرفع المشكوك فيه ، والمشكوك فيه في متعلقات التكاليف هو تعلق التكليف بالأكثر ، وفي الأسباب هو جعل سببية الأقل ورفع سببيته يوجب عدم ترتب المسبب عليه ، فالقائل بالبراءة في باب الأسباب والمحصلات يلزمه القول باستقلال الجزئية والشرطية في الجعل ، ليكون الجزء المشكوك فيه مما تناله يد الرفع بنفسه ، ولا يكفي في إثبات مدعاه مجرد جعل السببية ، فتأمل (1).

ص: 147


1- 1 - وجهه : هو أنه قد يختلج في البال عدم الفرق بين متعلقات التكاليف وبين الأسباب بعد البناء على جعل السببية ، فإن تعلق التكليف بالأكثر في باب متعلقات التكاليف وإن كان مشكوكا ، إلا أن تحقق الامتثال وحصول البراءة عن التكليف عند الاتيان بالأكثر يكون معلوما ، وفي باب الأسباب يكون الامر كذلك ، فان جعل الأكثر سببا وإن كان مشكوكا إلا أن ترتب المسبب عليه يكون معلوما ، وكذا الحال في طرف الأقل ، فإنه كما يكون متعلق التكليف بالأقل في باب متعلقات التكاليف يكون معلوما ، كذلك دخل الأقل في ترتب المسبب في باب الأسباب يكون معلوما ، فلا فرق بينهما في كل من طرفي الأقل والأكثر ، وحينئذ يصح أن يقال : إنه يمكن رفع الجزئية المشكوك فيها برفع منشأ انتزاعها وهو جعل الأكثر سببا كما في متعلقات التكاليف ، ولا يحتاج إلى جعل الجزئية بجعل مغاير لجعل المسبب ، فتأمل ( منه )

بل هذا أيضا لا يثبت المدعى إلا على القول بالأصل المثبت ، فإن مجرد رفع المشكوك لا أثر له ما لم تثبت سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، وذلك مبني على الأصل المثبت.

فتحصل : أنه في موارد الشك في المحصل وتردده بين الأقل والأكثر لابد من الاحتياط ، ولا تجري البراءة مطلقا وإن كان المحصل شرعيا (1).

الفصل الثاني: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الشبهات التحريمية

كتردد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت ، أو بقيد كونه مطربا.

والظاهر : أن تكون الشبهات التحريمية على عكس الشبهات الوجوبية ، فإنه في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقن الوجوب والأكثر مشكوكا ، وفي

ص: 148


1- أقول : على مختاره : من كون حكم العقل بالفراغ تعليقيا - كما هو أساس بنائه على اقتضاء العلم بالنسبة إلى الموافقة القطعية وأن الأصول إنما يتساقط من أطراف العلم بالتعارض - لا وجه لالتزامه في المقام بالاحتياط ، لما مر من عدم قصور في جريان أدلة الترخيصات الظاهرية بالنسبة إلى الفراغ المشكوك من ناحية المشكوك الدخل في السبب ، فتدبر بعين الدقة.

الشبهات التحريمية الأكثر متيقن الحرمة والأقل مشكوكا.

والأقوى : جريان البراءة عن حرمة الأقل مطلقا ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وسواء تردد الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف أو في موضوعه ، وسواء كان الأقل والأكثر من الارتباطيين أو غيره.

والذي خالف في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ينبغي أن لا يقول بجريانها في الشبهات التحريمية أيضا ، لاتحاد ملاك النزاع في المقامين (1) ولكن الأكثر لم يتعرضوا لحكم الشبهات التحريمية.

ثم إن الارتباطية في المحرمات إنما هي على حذو الارتباطية في الواجبات لابد وأن تكون حرمة الأقل في ضمن حرمة الأكثر على تقدير أن يكون الأكثر هو متعلق الحرمة من دون أن تكون للأقل حرمة تخصه ، وهذا إنما يكون بانبساط الحرمة النفسية على الاجزاء بحيث يكون لكل جزء حظ من تلك الحرمة ليصدق الشروع في فعل الحرام بالاتيان بأول جزء منه ، والأمثلة التي تخطر بالبال لا تنطبق على هذا المعنى.

نعم : يمكن أن يكون حرمة تصوير ذوات الأرواح مثالا لذلك على بعض المحتملات ، بأن يشك في أن المحرم هو تصوير الصورة التامة أو بعضها ، وعلى فرض أن يكون متعلق الحرمة هو التصوير التام يكون الشروع في التصوير محرما

ص: 149


1- أقول : لا يخفى أن عصيان الحرام المركب لا يكاد يتحقق إلا بايجاد مجموع الاجزاء ، فالعقل ملزم بترك واحد منها ولو كان آخر وجودها ، فمع الشك في دخل شيء آخر يمكن كونه آخر الوجودات ، فمع تركه يجتزي به العقل من جهة شكة في حرمة البقية ، وهذا بخلاف الواجب المركب ، فان ترك أول وجود منه يوجب عصيانه ، فالقائل بالاحتياط فيه له أن يدعي بأن الاشتغال بوجوب الأقل يقتضي تحصيل الفراغ عنه ، ولا يحصل إلا بالاتيان بالأكثر ، وهذا بخلاف الحرمة ، فان الاشتغال بالحرام لا يقتضي إلا الفراغ عن المجموع ، ومع الشك في دخل شيء آخر يشك في الاشتغال بالأقل ، وحينئذ كيف للقائل بالاحتياط في الواجبات أن يقول به في المحرمات؟ ولابد له من بيان واف بما أفيد كي نفهم مقصوده.

بشرط تعقبه بسائر الاجزاء. وعلى كل حال : الامر في المثال سهل بعد وضوح المقصود.

الفصل الثالث: في دوران الامر بين الأقل والأكثر الغير الارتباطيين في الشبهة الوجوبية

ولا إشكال ولا كلام في جريان البراءة في الأكثر ، للشك في وجوب الزائد عن الأقل ، فتعمه أدلة البراءة.

وتوهم : أن الزائد من أطراف العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر فيجب الاحتياط فيه واضح الفساد ، فإن الضابط في تأثير العلم الاجمالي : هو أن تكون نسبة المعلوم بالاجمال إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، بحيث تتولد من العلم الاجمالي قضية منفصلة على سبيل منع الخلو ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فإن القضية المعلومة بالاجمال تنحل إلى قضيتين : قضية معلومة بالتفصيل وهي وجوب الأقل ، وقضية مشكوكة وهي وجوب الأكثر ، بل لا يصح إطلاق العلم الاجمالي على مثل ذلك ، كما لا يخفى.

الفصل الرابع: في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الوجوبية الحكمية في باب الاجزاء
اشارة

كالشك في جزئية السورة للصلاة. وكان ينبغي أن يبحث في هذا الفصل

ص: 150

عما يعم الشروط ، لاتحاد حكم الاجزاء والشروط ، ولكن أفردنا البحث عن الشروط بفصل يخصها لنكتة يأتي التنبيه عليها ( إن شاء اللّه تعالى ).

وعلى كل حال : فقد اختلفت كلمات الأصحاب في جريان البراءة من وجوب الأكثر على أقوال ثلاثة ، فقيل : بعدم جريان البراءة مطلقا ، وقيل : بجريان البراءة مطلقا ، وقيل : بالتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية ، وهو الأقوى.

وأضعف الأقوال : هو الأول ، فإنه لا وجه له إلا توهم : أن العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يقتضي عدم جريان الأصول الشرعية والعقلية النافية للتكليف في كل من طرف الأقل أو الأكثر ، فلابد من الاحتياط بفعل الأكثر تحصيلا للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، هذا ولكن سيأتي ما يظهر منه ضعف هذا الوجه.

وأما وجه القول الثاني : فليس هو أيضا إلا تخيل انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر ، وهذا هو الذي اختاره الشيخ قدس سره . وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أن المقتضي لجريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر موجود والمانع عنه مفقود.

أما وجود المقتضي : فلان الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو إلا الشك في التكليف النفسي المولوي الذي يستتبع مخالفته العقاب ، وفيما نحن فيه يشك في تعلق التكليف بالأكثر ، فالعقاب على تركه يكون بلا بيان ، وكذا الموضوع في أدلة البراءة الشرعية هو الجهل بالحكم الواقعي ، والمفروض في المقام هو الجهل بوجوب الأكثر ، فيعمه حديث الرفع ونحوه من الأدلة الشرعية.

وأما فقد المانع : فلان المانع المتوهم في جريان البراءة في الأكثر ليس هو إلا العلم الاجمالي بتعلق التكليف بالأقل أو الأكثر ، ولن ينحل العلم الاجمالي إلى

ص: 151

العلم التفصيلي بتعلق التكليف بالأقل والشك البدوي في الأكثر ، فإن المعلوم بالاجمال ليس هو إلا خطابا واحدا نفسيا ، وتعلق هذا الخطاب بالأقل معلوم تفصيلا للعلم بوجوبه على كل حال ، سواء تعلق التكليف بالأكثر أو لم يتعلق.

وما تكرر في كلمات الشيخ قدس سره من أنه يعلم بتعلق التكليف بالأقل على كل تقدير سواء كان نفسيا أو مقدميا ، فليس ظاهره بمراد ، لان وجوب الأقل لا يكون مقدميا على كل حال ولو كان وجوبه في ضمن وجوب الأكثر وبتبع التكليف به ، لان الاجزاء لا تجب بالوجوب المقدمي الغيري ، بل إنما هي تجب بالوجوب النفسي المتعلق بالمركب المنبسط على كل واحد من الاجزاء ، لان المركب ليس إلا الاجزاء بأسرها ، فهي واجبة بعين وجوب الكل ، ومن هنا تصح دعوى العلم التفصيلي بتعلق التكليف النفسي بالأقل والشك في تعلقه بالأكثر ، فينحل العلم الاجمالي لا محالة.

هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه جريان البراءة العقلية والشرعية عن الأكثر ، بتحرير منا.

وقد أورد عليه بوجوه :

منها : ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية قدس سره من أن العلم بوجوب الأقل لا ينحل به العلم الاجمالي ، لتردد وجوبه بين المتباينين ، فإنه لا إشكال في مباينة الماهية بشرط شيء للماهية لا بشرط (1) لان أحدهما قسيم

ص: 152


1- أقول : مرجع الشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر إلى أن شخص الوجوب المنبسط على الاجزاء محدود بنحو لا يشمل الزائد أو يشمل ، وعلى التقديرين لا يكون الواجب المعروض لهذا الوجوب محدودا في رتبة سابقه عن تعلق وجوبه ، كيف! وهذه القلة إنما طرء من جهة قصور الوجوب عن الشمول للزائد ، ومثل هذا الحد يستحيل أن يؤخذ في معروض الوجوب. نعم : يمتنع عن إطلاقه في المعروضية حتى مع الزائد ، لان معروض الوجوب هو المحدود بحد القلة ، كما أن اعتبار عدم الانضمام بالزائد خارجا أيضا لم يلحظ فيه ، وإلا فيخرج عن البحث ويدخل في المتبائنين ، كالقصر والاتمام ، فمن هذه الجهة يكون المعروض لا بشرط محض ، ولكن معنى لا بشرطيته ليس إلا عدم إضرار انضمام الغير بوجوبه ، وإلا فالواجب في ظرف الانضمام وعدمه ليس إلا معنى واحدا ، وهو الذات المهملة المحفوظة في ضمن الانضمام بالغير تارة وعدمه أخرى ، وفي كل تقدير ليس المعروض إلا الذات الملازم لحد القلة لا المقيد به ، لما عرفت : من أن هذا الحد جاء من قبل الحكم والوجوب ، ولا يكون مثل هذا الحد مأخوذا في معروضه ، كما أن حد الكثرة أيضا لا يوجب تقيد الأقل المعروض للوجوب في ضمن الأكثر واشتراطه بكونه منضما بالأكثر ، إذ مثل هذه الضمنية التي هي منشأ ارتباط الاجزاء بالاجزاء إنما جاء من قبل وحدة الامر المتعلق بالجميع، فيستحيل أخذ مثل هذه الحيثيات الناشئة من قبل الامر في معروض الامر ، فمعروض الامر أيضا ليس إلا ذوات الاجزاء عارية عن التقيد بالانضمام بالغير. نعم : عار عن الاطلاق أيضا ، فالمعروض للوجوب عند وجوب الأكثر أيضا ليس إلا ذات الأقل بنحو الاهمال ، لا المقيد بقيد الانضمام ، وحينئذ فالأقل بقصور الوجوب عن الشمول لغيره وعدم قصوره لا يكاد يختلف معروضيته للوجوب بحد من حدوده ، بل المعروض للوجوب على التقديرين هو الذات المهملة العارية عن الاطلاق والتقييد ، وحينئذ فعند الشك في حد الوجوب بين الأقل والأكثر لا يوجب اختلافا في حد الأقل الواجب مستقلا أم ضمنا ، فما هو واجب ضمنا بعينه هو واجب مستقلا ، وإنما الاختلاف في حد وجوبه من حيث انبساطه على الزائد منه أم لا ، وهذه الجهة غير مربوطة بواجبية الأقل ، فالواجب من الأقل ليس إلا مرتبة واحدة بحد واحد ، ضم إليه غيره في الوجوب أم لا ، وعليه فيستحيل تردد الأقل الواجب بين المتبائنين ، كما أن سعة انبساط الوجوب على الأكثر وعدمه أيضا لا يقتضي إلا اختلافا في حد الوجوب بلا اشتراطه بشيء ولا اختلافا في حقيقته ، كما لا يخفى.

الآخر ، فلو كان متعلق التكليف هو الأقل فالتكليف به إنما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان متعلق التكليف هو الأكثر فالتكليف بالأقل إنما يكون بشرط انضمامه مع الزيادة ، فوجوب الأقل يكون مرددا بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء ، كما أن امتثال التكليف المتعلق بالأقل يختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلق به ، فان امتثاله إنما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظا بشرط شيء ، بخلاف ما إذا كان ملحوظا لا بشرط ، فإنه لا يتوقف امتثاله على انضمام الزائد إليه ، فيرجع الشك في الأقل والأكثر الارتباطي إلى الشك بين المتباينين تكليفا

ص: 153

وامتثالا. هذا حاصل ما أفاده المحقق (1) قدس سره بتحرير منا.

ولا يخفى فساده ، فان اختلاف سنخي الطلب لا دخل له في انحلال العلم الاجمالي وعدمه ، بل الانحلال يدور مدار العلم التفصيلي بوجوب أحد الأطراف (2) بحيث يكون هو المتيقن في تعلق الطلب به ولو فرض الشك في كيفية التعلق وأنه طورا يكون لا بشرط وطورا يكون بشرط شئ.

وإن شئت قلت : إن الماهية لا بشرط والماهية بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما ، فان التقابل بينهما ليس من تقابل التضاد ، بل من تقابل العدم والملكة ، فان الماهية لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيدا في الماهية ، وإلا رجعت إلى الماهية بشرط لا ، ويلزم تداخل أقسام الماهية ، بل الماهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها لا لحاظ العدم ، ومن هنا قلنا : إن الاطلاق ليس أمرا وجوديا بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد ، خلافا لما ينسب إلى المشهور - كما ذكرنا تفصيله في مبحث المطلق والمقيد - فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة للماهية بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع (3) بل يجمعهما نفسا الماهية ، والتقابل بينهما إنما

ص: 154


1- والعبارة التي وقفت عليها في الحاشية لا تنطبق على ذلك ، بل انطباقها على ما سيأتي من الوجه المختار أولى من انطباقها على المحكي ، فراجع ( منه ).
2- أقول : لو التزمت في المقام باختلاف سنخ الطلب وأن المعلوم بالاجمال هو اللابشرط الجامع بين الوجودين أو المشروط بالخصوصية الزائدة ، فلا محيص لك من الاحتياط ولا يفيدك الانحلال ، لان العلم بوجوب الأقل عين العلم الاجمالي بالجامع [ بين ] الوجوبين ، كما يعترف به بعد ذلك ، ولكن عمدة الكلام في المقام في ذلك من أنه من هذا الباب أو من باب العلم بشخص الوجوب المردد بين الحدين الوارد عليه تبادلا؟ فإنه حينئذ ليس الجامع اللابشرط جامعا بين الوجودين ، بل هو مجمع بين الحدين ، وفي مثله العلم الاجمالي قائم بين حدي الوجوب لا نفسه ، وهذا العلم لا اعتبار به كما شرحناه في الحاشية الآتية ، فراجع وتدبر.
3- 3 - أقول : وببيان أوضح نقول : إن مرجع اللابشرطية في المقام ليس إلى الجامع بين الواجد والفاقد بنحو كان قابلا للانطباق على كل منهما فعلا ، كما هو الشأن في بقية الجوامع بالنسبة إلى أفرادها ، بل المراد كون الواجب معنا محفوظا في أحد الحدين بنحو التبادل ، بمعنى كونه في مرتبة مخصوصة مجتمعة مع وجود شيء زائد عنها منضم بها وعدمه ، بحيث بضم الزائد به وعدمه لا يكاد ينقلب ما هو معروض الوجوب لا بذاته ولا بحده ، ومعلوم : أن هذه المرتبة محفوظة بنفس ذاته في ضمن الأكثر ، كما أنها محفوظة أيضا في ضمن حد القلة بلا دخل لهذا الحد على أي تقدير في عروض الوجوب على القليل ، بل الواجب ليس إلا المحفوظ بين الحدين. نعم : على تقدير كون الواجب هو الكثير ليس امتيازه عن القليل إلا بوجوب الزيادة لا يدخل شيء في معروضية الأقل للوجوب ، وحينئذ من أين يصير الأقل مرددا بين الحدين المتبائنين؟ كي يجيء في البين العلم الاجمالي في معروض الوجوب ، بل لا يكون في البين إلا علم تفصيلي بمرتبة من الواجب وشك بدوي بمرتبة أخرى. نعم: العلم الإجمالي في المقام ليس إلّا بين حدّي الوجوب الطاري بالعرض على معروضه أيضا، و مثل هذا المعنى خارج عن مصبّ حكم العقل بالامتثال، كما لا يخفى. ثمّ العجب من المقرّر! حيث إنّه بعين هذا الوجه الّذي استشكل على المحقّق المحشّي في تقريب عدم الانحلال اختار هو في تقريبه، و أظنّ أنّ ذلك من قصور العلم، فيا ليت يوضح الفارق بين وجهه و كلام صاحب الحاشية بأزيد من ذلك! حتّى نفهم! و إن كان ما شرحناه في شرح التردّد بين الأقلّ و الأكثر كافيا في الجزم ببطلان تقرير الاحتياط من قبل العلم الإجمالي و عدم الانحلال بأيّ نحو كان، كما هو واضح.

يكون بمجرد الاعتبار واللحاظ (1).

ففي ما نحن فيه ، الأقل يكون متيقن الاعتبار على كل حال ، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء ، فان التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل عن كونه متيقن الاعتبار ، هذا كله بحسب البرهان. وأما بحسب الوجدان فلا يكاد يمكن إنكار ثبوت العلم الوجداني بوجوب الأقل على كل حال ، كانت الماهيتان. متباينتين أو لم تكن ، فتأمل جيدا.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على تنجز التكليف على كل تقدير ، سواء كان متعلقا بالأقل أو بالأكثر ، فإنه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو

ص: 155


1- أقول : بل التقابل بينهما بسعة الوجود وضيقه ، وهو ليس اعتباريا محضا.

متعلق الطلب لم يجب الاتيان بالأقل ، لان وجوبه إنما يكون بتبع وجوب الأكثر ومقدمة لحصوله (1) فلو لم يتنجز الامر بذي المقدمة لا يلزم الاتيان بالمقدمة ، فوجوب الاتيان بالأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الاتيان بالأكثر على كل تقدير ، لأنه بعد فرض عدم تنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف لا يلزم الاتيان بالأقل ، لاحتمال أن يكون وجوبه لأجل كونه مقدمة لوجود الأكثر ، ولا يجب الاتيان بالمقدمة عند عدم وجوب الاتيان بذي المقدمة ، فيلزم من وجوب الأقل على كل تقدير عدم وجوبه على كل تقدير ، وما يلزم من وجوبه عدمه محال. هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في حاشية الفرائد.

ولا يخفى ما فيه ، فإنه يرد عليه :

أولا : أن ذلك مبني على أن يكون وجوب الأقل مقدميا على تقدير أن يكون متعلق التكليف هو الأكثر (2) فيستقيم حينئذ ما أفاده : من أن العلم التفصيلي بوجوب أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع تردد وجوبه بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الطرف الآخر - على تقدير أن يكون هو الواجب المعلوم بالاجمال - لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ألا ترى : أنه لو علم إجمالا بوجوب

ص: 156


1- أقول : ليس نظره من التبعية إلى جهة المقدمية ، كيف! وهو ملتزم بوجوب الأقل نفسا ، بل نظره إلى تبعية الوجوب الضمني للوجوب المستقل في الفعلية والتنجز ، ومرجع كلامه إلى ملازمه تنجز الأقل لتنجز الأكثر على تقدير الضمنية ، فتدبر.
2- أقول : مجرد نفسية وجوب الأقل في المقام لا يجدي في الانحلال ، إلا على فرض تصور الاستقلال في تنجز الواجب الضمني وانفكاكه مع الأكثر في التنجز ، ونظر استاذنا الأعظم إلى هذه الجهة : من تبعية تنجز الواجب الضمني من الأقل للواجب المستقل من الأكثر ، كان وجوب الأقل نفسيا ضمنيا أو غيريا ، وحينئذ العمدة رفع هذه الشبهة والالتزام بامكان التفكيك بينهما في التنجز ، وهذا الالتزام على مبناه في غاية البعد ، لان التفكيك المزبور فرع صلاحية مجيء الواجب الضمني في العهدة مستقلا ، وهو مناف لضمنية الأقل وارتباطه بالأكثر ، فتدبر.

نصب السلم أو الصعود على السطح وتردد وجوب نصب السلم بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها ، فالعلم التفصيلي بوجوب نصب السلم لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجوب النصب أو الصعود ، فان العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلا بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود ، وذلك كله واضح.

إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما تقدم : من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا على كل تقدير ، سواء كان متعلق التكليف هو الأقل أو الأكثر ، فان الاجزاء إنما تجب بعين وجوب الكل ، ولا يمكن أن يجتمع في الاجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري.

وكلام الشيخ قدس سره في المقام وإن أوهم تعلق الوجوب الغيري بالأقل على تقدير وجوب الأكثر ، إلا أنه لابد من تأويل كلامه ، فإن ذلك خلاف ما بنى عليه في مبحث مقدمة الواجب.

فدعوى : أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الأكثر على كل تقدير لاحتمال أن يكون وجوبه مقدميا واضحة الفساد ، لأنه لا يحتمل الوجوب المقدمي في طرف الأقل ، بل يعلم تفصيلا بوجوبه النفسي على كل تقدير ، كان التكليف متعلقا بالأكثر أو لم يكن ، فلا يلزم من انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل المحذور المتقدم ، لان المعلوم بالاجمال ليس إلا تكليفا نفسيا ، وهذا التكليف النفسي ممكن الانطباق على الأقل مع العلم التفصيلي بوجوبه (1) ولا يعتبر في انحلال العلم

ص: 157


1- أقول : الغرض من وجوب الأقل وجوبه عقلا لا شرعا ، فلا يرد عليه ذلك الاشكال.

الاجمالي أزيد من ذلك.

وثانيا : أن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجز التكليف بالأكثر لا تستقيم ولو فرض كون وجوبه مقدميا ، سواء أريد من وجوب الأقل تعلق (1) التكليف به أو تنجزه ، فإن وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجز التكليف به ، لان وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعا وإن لم يبلغ مرتبة التنجز ، وكذا تنجز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجز التكليف بالأكثر ، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه (2) فان تنجز كل تكليف إنما يتوقف على العلم بذلك التكليف ،

ص: 158


1- في حاشية الفرائد ما يدفع هذا الاحتمال ، فإنه صرح فيها بعدم توقف تعلق نفس الطلب بالأقل على تنجز التكليف بالأكثر ، بل في الكفاية أيضا ما يدفع هذا الاحتمال ، فراجع وتأمل ( منه ).
2- أقول : وذلك هو العمدة في الاشكال عليه ، ومرجعه إلى منع الملازمة بين التنجيزين ، بشهادة جريان البراءة العقلية في البين ، ولكن نقول : بأنك لو التزمت بأخذ الارتباط في الاجزاء الواجبة في المرتبة السابقة عن الوجوب ، بحيث يكون مأخوذا في الواجب - كما هو صريح جملة من كلماتك - كيف مجيء الأقل مستقلا في عهدة المكلف بمحض العلم به؟ مع فرض الواجب هو الأكثر ، إذ اعتبار استقلال وجوده في العهدة بلا ضم غيره به ينافي ارتباطه بغيره ، وحينئذ كيف يعقل تنجز الأقل مستقلا بلا تنجز الأكثر؟ مع أنه لا نعني من تنجز إلا مجيئه في العهدة واعتبار وجوده فيه ، ولقد عرفت في الحاشية السابقة إرجاع كلمات أستاذنا إلى هذا البيان ، وحينئذ لا يصلح رده إلا ما أشرنا سابقا : بأن جهة الارتباط غير مأخوذ في موضوع الوجوب. وإنما جاء ذلك من قبل وحدة وجوبه الطاري على الاجزاء بأسرها ، فما هو مأخوذ في موضوع الوجوب في الرتبة السابقة عنه ليس إلا نفس الاجزاء بلا ارتباط لأحدهما بالآخر ، وإنما الوحدة والارتباط طاريتان عليها من قبل وحدة حكمه ومصلحته ، وحينئذ لا قصور في مجيء نفس المعروض في العهدة مستقلا بمحض العلم بوجوبه ولو ضمنيا ، ومن المعلوم حينئذ : أن هم العقل أيضا تحصيل الفراغ عما كان في العهدة بايجاده وإن يشك في سقوط وجوبه لقصور في نفس الوجوب عن السقوط ، لا لقصور في وجود متعلقه ، وأن ما قرع سمعك : من أن العقل عند اليقين بالاشتغال لا يكتفي بالشك بالفراغ ، مرجعه إلى عدم قناعته على الشك في إتيان ما جاء في العهدة بملاحظة قصور فيه نفسه ، لا من جهة قصور في سقوط حكمه : من احتمال ملازمة سقوطه مع مالا يتنجز من القطعة المشكوكة. و من هذا البيان ارتفع شبهة أخرى يتوهّم ورودها، و هي توهّم أنّ الاشتغال بالأقلّ يقتضي الفراغ اليقيني عن الأقلّ بعد تسليم الانحلال و عدم المنجّزيّة للعلم الإجمالي، و مرجع هذا الكلام إلى أنّ العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ يقتضي الفراغ عنه، و لا يحصل ذلك إلّا بالإتيان بالأكثر. و المقرّر لو جعل نظره في وجه لزوم الأكثر إلى هذا الوجه- كما كان المتراءى من بدو كلامه ذلك- لكان أولى، و كان وجهه حينئذ ممتازا عن كلام المحقّق صاحب الحاشية، فيصلح ردّه طريقه الاحتياط و اختيار ذلك، و لكن ما قنع بذلك و وجّهه بعين ما يرجع إلى كلام المحقّق، و أظنّ أنّ ذلك خلط من المقرّر، فتدبّر.

ولا دخل لتنجز تكليف آخر في ذلك ، فتأمل.

وعلى كل حال : لا يمكن الخدشة في جريان البراءة العقلية وفي انحلال العلم الاجمالي من هذه الجهة بعد البناء على كون الأقل واجبا نفسيا على كل تقدير.

وقد أورد على الانحلال بوجوه اخر ، ذكرها الشيخ مع الجواب عنها.

فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان المختار في وجه عدم جريان البراءة العقلية ، وعدم كفاية العلم التفصيلي بوجوب الأقل في انحلال العلم الاجمالي عقلا.

فنقول : إنه لا إشكال في أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة أن الامتثال الاحتمالي إنما يقتضيه التكليف الاحتمالي ، وأما التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لان العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلا ، ولا يكفي احتمال الفراغ ، فإنه يتنجز التكليف بالعلم به ولو إجمالا ، ويتم البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه ، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلا ، لأنه يشك في الامتثال

ص: 159

والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.

والعلم التفصيلي (1) بوجوب الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر (2) ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ، لأنه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه.

ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الشيخ قدس سره من أن التكليف المردد بين الأقل والأكثر يكون من التوسط في التنجيز عقلا ، بمعنى : أن متعلق التكليف إن كان هو الأقل فالتكليف به يكون منجزا عند العقل ، وإن كان هو الأكثر فالتكليف به لا يكون منجزا ، فان هذه الدعوى بمكان من الفساد (3) ضرورة أن التنجيز يدور مدار العلم بالتكليف ولو إجمالا ، والمفروض : أنه قد علم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، فما هو شرط التنجيز عند العقل قد تحقق في كل من الأقل والأكثر.

نعم : تصح دعوى التوسط في التنجيز بعد البناء على جريان البراءة الشرعية ورفع التكليف عن الأكثر بأدلة البراءة - على ما سيأتي بيانه -.

وأما لو منعنا عن جريان البراءة الشرعية وكان الامر موكولا إلى نظر العقل فقط ، فالتكليف عند العقل قد تنجز على كل تقدير ، سواء تعلق بالأقل أو

ص: 160


1- أقول : لو لم يكن هذه الضميمة وقنع بالبيان السابق لكان ممتازا عن وجه المحقق ، ومع هذه الضميمة فياليت نفهم الفارق بين مختاره ومختار المحقق الذي كان مردودا ومختاره معقولا.
2- أقول : قد تكرر منا أن ما هو طرف العلم الاجمالي في المقام هو حد التكليف لا نفسه ، وهذا الاحتمال خارج عن مصب حكم العقل ، إذ ليس مصبه إلا ذات التكليف المعلوم تفصيلا المشكوك حدا.
3- أقول : لو تأملت فيما ذكرنا في شرح الأقل والأكثر ترى فساد تلك الكلمات ، لا كلام شيخنا الأعظم.

بالأكثر ، للعلم بوجوب أحدهما ، والمفروض : أن العلم الاجمالي كالتفصيلي في اقتضائه التنجيز ، وقد عرفت ما في دعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، فان العلم التفصيلي بوجوب الأقل وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أنه في الحقيقة تفصيله عين إجماله ، لتردد وجوبه بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء (1) والعلم التفصيلي المردد بين ذلك يرجع إلى العلم الاجمالي بين الأقل والأكثر بل هو عينه ، فلا سبيل إلى دعوى الانحلال.

وبتقريب آخر : الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلق التكليف به فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أن هناك جهة أخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقل ، فان هذا الاحتمال بضميمة العلم الاجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا ، فإنه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضح القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة ، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله على حاله ، فلابد من ضم الخصوصية الزائدة.

فان قلت : الشك في الارتباطية والقيدية إنما يكون مسببا عن الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة ، وبعد حكم العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف بالخصوصية الزائدة - كما هو المفروض - لا يبقى مجال للقول بالاشتغال العقلي من حيث الشك في الارتباطية والقيدية ، لأن الشك السببي رافع للشك المسببي ، فالقول بقبح العقاب من حيث الشك في تعلق التكليف

ص: 161


1- أقول : الذي هو مردد هو حد الوجوب لا نفسه ، وهو خارج عن مصب حكم العقل بوجوب الامتثال ، كما عرفت.

بالخصوصية الزائدة المشكوكة يساوق القول بجريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي.

قلت : قيدية الزائد للأقل إنما تتولد من تعلق التكليف بالمجموع من الأقل والزائد ، وليست مسببة عن تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة فقط ، فإنه ليست الارتباطية إلا عبارة عن ملاحظة الأمور المتباينة أمرا واحدا يجمعها ملاك واحد ، فالارتباطية إنما تنتزع من وحدة الملاك والامر المتعلق بالمجموع.

هذا ، مضافا إلى أن الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا للشك المسببي إذا كان من الأصول الشرعية ، وأما البراءة العقلية فهي لا ترفع الشك المسببي ولا تمنع من جريان الأصل فيه ، على ما سيأتي وجهه ( إن شاء اللّه تعالى ) في خاتمة الاستصحاب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا محل للبراءة العقلية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي (1).

وأما البراءة الشرعية : فلا محذور في جريانها (2) لان رفع القيدية إنما هو من

ص: 162


1- أقول : بعد التأمل فيما ذكرنا ، لا يبقى لك بد من البراءة العقلية.
2- 2 - أقول : بعدما كان مفاد أدلة البراءة هو الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخرة عن الشك بالواقع لا يصلح مثله لتحديد الامر الواقعي بالأقل بخصوص الفاقد ، لاختلاف رتبتهما ، والمفروض أن ما هو معلوم تعلقه بالأقل ليس إلا الامر الواقعي ، لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيه ، فحينئذ أين أمر يصلح حديث الرفع لاثباته للأقل بنحو يكون الامر به مطلقا ولا بشرط من حيث الانضمام بغيره وعدمه؟ ولئن اغمض عن ذلك نقول : إنّ رفع القيد إنّما يثبت الإطلاق من حيث الانطباق على مورد القيد و عدمه بنحو التشكيك، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، إذ على فرض وجوب الأقلّ كان الوجوب متعلّقا بأمر محدود و لو بحدّ وجوبه، فحينئذ تماميّة الإطلاق لا يقتضي هذا التحديد، و إنّما يقتضي انطباق الواجب تشكيكا على الأقلّ بتمامه و على الأكثر كذلك، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، بل من قبيل دوران الوجوب بين حدّين متباينين، و حينئذ كان مجال دعوى أنّ رفع الزائد لا يثبت الحدّ الناقص إلّا بالأصل المثبت. ثمّ إنّ من العجب! تشبّث الماتن بهذا التقريبات في أدلّة البراءة، و صار همّه إثبات وجوب الأقلّ، مع أنّه في فسحة من ذلك بعد بنائه على جريان الأصل في أحد أطراف العلم بلا معارض، إذ حينئذ له إجراء أدلّة الترخيص على ترك الأكثر، و إن لم يثبت به وجوب الأقلّ ظاهرا، و إنّما يحتاج إلى مثل هذا البيان من قال بعلّيّة العلم الإجمالي للتنجّز و انتهاء الأمر فيه بعد الاشتغال إلى تحصيل الفراغ الأعم من الجعلي و الحقيقي، إذ مثل هذا المشرب لا محيص له من إثبات هذه الجهة في جريان البراءة، كي يصير الإتيان بالأقلّ فراغا جعليّا، و حيث نحن قائلين بالعلّيّة و أنّ مثل أدلّة البراءة في باب الأقلّ و الأكثر غير صالحة لإثبات وجوب الأقلّ، لا محيص لنا من عدم التفكيك بين البراءة و الاحتياط عقليّها و نقليّها، و عليك بالتأمّل في أطراف الكلام ترى ما فيها من مواقع النّظر.

وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أن وضعها ورفعها إنما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك فيه ، فكما أن للشارع الامر بالمركب على وجه يعم الجزء الزائد ، كذلك للشارع رفعه بمثل قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » ونحو ذلك من الأدلة الشرعية المتقدمة في مبحث البراءة ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي ويرتفع الاجمال عن الأقل ، ويثبت إطلاق الامر به وكون وجوبه لا بشرط عن انضمام الزائد إليه.

ولا يتوهم : أن رفع التكليف عن الأكثر لا يثبت به إطلاق الامر بالأقل إلا على القول بالأصل المثبت.

فإنه قد تقدمت الإشارة إلى أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل التضاد لكي يكون إثبات أحد الضدين برفع الآخر من الأصل المثبت ، بل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وليس الاطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، فحديث الرفع بمدلوله المطابقي يدل على إطلاق الامر بالأقل وعدم قيدية الزائد ، وبذلك يتحقق الامتثال القطعي للتكليف المعلوم بالاجمال ، لما تقدم في المباحث السابقة : من أن الامتثال القطعي الذي يلزم العقل به هو الأعم من الوجداني والتعبدي ، إذ العلم الاجمالي بالتكليف لا يزيد عن العلم التفصيلي به ، ولا إشكال في كفاية الامتثال التعبدي في موارد العلم التفصيلي بالتكليف.

ص: 163

والسر في ذلك : هو أن حكم العقل بلزوم الامتثال إنما هو لرعاية حكم الشارع ، وبعد رفع الشارع التكليف عن الأكثر ولو رفعا ظاهريا يتعين كون المكلف به هو الأقل ، فيحصل الامتثال التعبدي بفعل الأقل ، ولا يجب الزائد عليه.

وبالجملة : دائرة الامتثال تختلف سعة وضيقا حسب سعة متعلق التكليف وضيقه ، ولا إشكال في أنه للشارع رفع التكليف عن الأكثر ، إما واقعا بالنسخ ، وإما ظاهرا بمقتضى الأصول العملية لانحفاظ رتبة الحكم الظاهري في الأكثر ، لعدم العلم بتعلق التكليف به ، فلا مانع من جريان أصالة البراءة الشرعية عن التكليف بالأكثر ، ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل ، للعلم بوجوبه على كل تقدير ، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه ، وبعد رفع التكليف عن الأكثر يكون متعلق التكليف بحسب الظاهر هو الأقل ، فيدور الامتثال مدار فعله ، ويتحقق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف بالاتيان به ، وليس اشتغال الذمة بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر بأقوى من اشتغال الذمة بالتكليف بأصل الصلاة وأركانها ، فكما أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بالنسبة إلى ذلك ، كموارد الشك بعد الوقت وبعد تجاوز المحل ، كذلك للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المردد بين الأقل والأكثر.

والغرض من إطالة الكلام : بيان فساد ما أفاده المحقق الخراساني - في حاشية الكفاية - من منع جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطي بعد ما اختار جريانها في متنها ، وكأنه جرى على مسلكه : من الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية (1) وقد تقدم منع الملازمة في أول

ص: 164


1- 1 - أقول : إنما جرى استاذنا الأعظم في الحاشية المزبورة الحاضرة عندنا - وسمعناه منه - على مبناه : من التضاد بين الحكم الفعلي التبعي الواقعي مع الترخيص الظاهري ، ولذا فصل بين العلم بفعلية الخطاب الواقعي على تقدير وجوب الأكثر فلا يجري أدله البراءة ولو في الشبهة البدوية وبين ما علم بثبوت الخطاب الواقعي القابل للحمل على مرتبة الانشاء وإن كان ظاهرا في الفعلية فلا مانع من جريان البراءة ، وبها يكشف شأنيته الواقعي وليس في كلامه الذي عندنا تعرض لقاعدة دفع الضرر المحتمل وتقديمه على البراءة ، كي يرد عليه ما أفيد ، وحينئذ حق الاشكال منع التضاد بين فعلية الاحكام الواقعية والظاهرية ، لا منع الملازمة بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، فتدبر في أطراف كلامه.

مبحث الاشتغال.

ومن الغريب! ما زعمه : من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلة البراءة الشرعية ، فان ذلك بمكان من الفساد ، ضرورة أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوعه بأدلة البراءة ، لان احتمال الضرر فرع بقاء التكليف بالأكثر ، وبعد رفع الشارع التكليف عنه لا يحتمل الضرر حتى يلزم دفعه ، سواء أريد من الضرر العقاب أو الملاك ، فالبراءة الشرعية تكون ورادة على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، بل البراءة العقلية أيضا تكون ورادة على هذا الحكم العقلي فضلا عن البراءة الشرعية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الدليل الأول من الأدلة الأربعة التي أقيمت على حجية مطلق الظن وفي مبحث البراءة ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

تذييل :

قد استثنى الشيخ قدس سره من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر مورد الشك في حصول العنوان ومورد الشك في حصول الغرض ، فذهب إلى أصالة الاشتغال وعدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيهما ، وقد تقدم ما يتعلق بشرح مرامه في هذا المقام ، ولا بأس بإعادته تتميما لمباحث الأقل والأكثر.

فنقول : إن الافعال تختلف بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليها ، فان الفعل :

تارة : يكون سببا توليديا للأثر من دون أن يتوسط بين الفعل والأثر مقدمة أخرى ، وهذا إنما يكون إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لحصول

ص: 165

الأثر بحيث لم يشاركه في ذلك فعل فاعل آخر ، أو الجزء الأخير من العلة لحصوله وإن سبقه فعل فاعل آخر.

والظاهر : أن يكون الأول مجرد فرض لا واقع له خارجا في الآثار التكوينية المترتبة على الافعال الخارجية (1) فإنه ما من أثر إلا ويشترك فيه جملة من الافعال الصادرة عن عدة من الأشخاص ، فالذي يمكن وقوعه في الخارج هو أن يكون الفعل جزء الأخير من العلة لترتب الأثر ، كالالقاء في النار لحصول الاحراق والضرب بالسيف لحصول القتل ، فان الالقاء بالنار والضرب بالسيف يكون هو الجزء الأخير لعلة الاحراق والقتل ، ولابد من سبق الاجزاء الاخر : من حيازة الحطب وجمعه وإضرام النار فيه (2) وإخراج الحديد من معدنه وصناعة السيف ، وغير ذلك من المقدمات التي لا يحصيها إلا اللّه تعالى.

وأخرى : يكون الفعل مقدمة اعدادية لحصول الأثر ، فيتوسط بين الفعل والأثر أمور اخر خارجة عن قدرة الفاعل وإرادته ، كما في صيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا والعنب زبيبا ، فان الفعل الصادر عن الفاعل ليس إلا حرث الأرض ونثر البذر ونحو ذلك من مقدمات الزرع ، وهذا بنفسه لا يكفي في حصول السنبل ، بل يحتاج إلى مقدمات اخر : من إشراق الشمس ونزول المطر وغير ذلك من الأسباب التي جرت عليها العادة بحسب الإرادة الإلهية في تحقق هذه الآثار ، فمثل هذه الآثار لا تصلح لان تتعلق بها إرادة الفاعل ، بل هي تكون من الدواعي والعلل الغائية لانقداح إرادة الفعل في نفس الفاعل ، لعدم القدرة عليها ، وهذا بخلاف المسببات التوليدية ، فإنها بنفسها تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها مقدورة له ولو بتوسط القدرة على الأسباب.

ص: 166


1- أقول : لو كان الغرض من العلية كونه معطي الوجود بلا دخل لشيء آخر فيه وإن كان في البين أيضا علل طولية بنحو يحسب مقدمة لوجود العلة وجوده في التكوينيات إلى ما شاء اللّه.
2- أقول : لا يخفى أن هذه مقدمات العلة لا أجزائها.

والفرق بين ما إذا كان الفعل سببا توليديا للأثر وبين ما إذا كان مقدمة إعدادية له مما لا يكاد يخفى ، فان الأثر في الأول مما يصح أن يستند إلى الفاعل حقيقة ، لأنه هو الموجد له بإرادته واختياره. وأما الثاني فلا يصح أن يستند الأثر إلى الفاعل ولا يكون هو الموجد له ، لخروجه عن قدرته واختياره ، ولا يمكن أن تتعلق به إرادته ، وهذا هو السر في بطلان اشتراط صيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا في ضمن العقد - كما صرح به الفقهاء - لأنه شرط غير مقدور للمشروط عليه.

وبما ذكرنا من الفرق بين المسببات التوليدية والعلل الغائية ظهر : أنه يصح أن يتعلق التكليف بنفس المسبب التوليدي ، لأنه يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل ، وكلما أمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل صح أن تتعلق به إرادة الآمر ، لان الإرادة الآمرية هي المحركة للإرادة الفاعلية في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تتعلق الإرادة الآمرية فيما لا يمكن أن تتعلق به الإرادة الفاعلية ، وفي المسببات التوليدية يمكن أن تتعلق بها الإرادة الفاعلية كتعلقها بالأسباب ، فكما يصح التكليف بالالقاء في النار والضرب بالسيف ، كذلك يصح التكليف بالاحراق والقتل لتعلق القدرة بكل منهما ، غايته أنه في السبب بلا واسطة وفي المسبب مع الواسطة ، وهذا بخلاف العلل الغائية ، فإنها لا يمكن أن تتعلق بها الإرادة الآمرية ولا يصح التكليف بها (1) لكونها خارجة عن تحت القدرة. والاختيار ، ولا يمكن أن تتعلق بها الإرادة الفاعلية ، بل إنما تتعلق الإرادة الآمرية

ص: 167


1- أقول : الذي لا يمكن تعلق الإرادة به هو إيجاده المساوق لطرد أعدامه من جميع الجهات ، لخروج ذلك عن حيز قدرته كما أفيد ، وأما حفظ وجوده من ناحيته بمعنى سد باب عدمه وطرده من قبل ما يتمشى منه ، فهو في غاية المقدورية له ولو بالواسطة ، وحينئذ لا يلزم في هذه المقامات أيضا بالالتزام بتوجيه الإرادة نحو المقدمة ، بل له توجيه الإرادة نحو حفظ وجوده من جهة دون جهة ، ولقد حققنا شرح هذه المقالة في باب المقدمة ، فراجع وتدبر فيه.

والفاعلية بنفس المقدمة الاعدادية من الفعل الصادر عن الفاعل ، وإنما تكون الآثار من الدواعي لحركة عضلات الفاعل والعلل التشريعية لإرادة الآمر ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن الملاكات ومناطات الاحكام كلها تكون من الدواعي والعلل التشريعية ، ولا يصلح شيء منها لان يتعلق به إرادة الفاعل والآمر.

ثم إنه قد يكون المسبب التوليدي عنوانا ثانويا للسبب بحيث يكتسب السبب عنوان المسبب ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ، فيكون للسبب عنوانين : عنوان أولي وعنوان ثانوي ، كضرب اليتيم ، فإنه بعنوانه الأولي ضرب وبعنوانه الثاني تأديب.

بل قد يدعى (1) أن المسببات التوليدية كلها تكون من العناوين الثانوية لأسبابها ، كالالقاء في النار والضرب بالسيف وفري الأوداج بالسكين ، فان الاحراق والقتل والذبح تكون من العناوين الثانوية للالقاء والضرب والفري ، ويصح حمل كل منها على السبب المولد له.

وعلى كل حال : المراد من العنوان الواقع في كلام الشيخ قدس سره الذي ذهب إلى عدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيه إنما هو السبب التوليدي الذي يكون الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لتولده أو الجزء الأخير منها ، وحينئذ تصح دعوى عدم جريان البراءة العقلية والشرعية عند الشك في حصوله مطلقا ، سواء تعلق التكليف بالمسبب ابتداء أو تعلق بالسبب ، لان التكليف بالسبب إنما هو من حيث تولد المسبب منه وتعنونه بعنوانه ، لا بما هو هو ، من غير فرق بين الأسباب العادية والعقلية كالالقاء في

ص: 168


1- 1 - اختلفت كلمات شيخنا الأستاذ - مد ظله - في ذلك ، ففي مبحث البراءة جعل المسببات التوليدية على قسمين : منها ما تكون عنوانا ثانويا للسبب ، ومنها مالا تكون كذلك ، وفي هذا المقام جعل جميع المسببات التوليدية من العناوين الثانوية لأسبابها ، ولعل ما ذكره في البراءة أولى ، فتأمل جيدا ( منه )

النار والضرب بالسيف وبين الأسباب الشرعية كالغسل بالنسبة إلى الطهارة الخبثية والحدثية - على أحد الوجهين في ذلك - لوضوح أن الامر بالالقاء والضرب بالسيف والغسل بالماء إنما هو لأجل حصول الاحراق والقتل والطهارة ، فالمأمور به في الحقيقة إنما هو هذه العناوين ، فلابد من القطع بحصولها والخروج عن عهدتها ، ولا تجري البراءة في المحصلات والأسباب مع الشك في حصول المسببات وتولد العناوين منها (1) لوجوه :

الأول : عدم تعلق الجعل الشرعي بالأسباب والمحصلات.

الثاني : أنه ينتج عكس المقصود.

الثالث : أنه لا يثبت سببية الأقل ومحصليته إلا على القول بالأصل المثبت (2) وقد تقدم تفصيل ذلك في الفصل الأول ، هذا كله في معنى العنوان.

وأما معنى « الغرض » المعطوف على العنوان في كلام الشيخ قدس سره فقد يتوهم : أنه عبارة عن المصالح والملاكات التي تبتني عليها الاحكام على ما ذهب إليه العدلية ، وربما يؤيد كون المراد من « الغرض » ذلك قوله : « إن قلت : إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به ، الخ ».

ولكن التأمل في كلامه يعطي عدم إرادة ذلك منه ، فإنه لو كان المراد من « الغرض » ملاكات الاحكام فيلزم سد جريان البراءة في جميع موارد تردد

ص: 169


1- أقول : قد تقدم هنا أيضا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، فراجع.
2- أقول : بناء على جعلية السبب لا قصور في جريان حديث الرفع بالنسبة إلى تعلق الجعل بالامر المشكوك ، وبه يثبت تعلق الجعل بالأقل ظاهرا بعين ما أفيد في رفع الامر المتعلق بالمشكوك في الأقل والأكثر وإثبات كون الأقل مأمورا به ، ولا نرى ما يرى بين المقامين من هذه الجهة وإن كان فيه ما فيه في كلا المقامين ، كما تقدم شرح ذلك مفصلا ، فتدبر وافهم.

المكلف به بين الأقل والأكثر ، لأنه ما من مورد إلا ويشك في قيام الملاك بالأقل فيشك في حصول الملاك عند ترك الأكثر ، وهذا مع أنه خلاف ما صرح به في مبحث التعبدي والتوصلي يقتضي تصديق الاشكال المذكور في قوله : « إن قلت : إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل ، الخ ». وما أجاب به عن الاشكال من الوجهين لا محصل لها ، كما سيأتي بيانه.

هذا ، مضافا إلى أن المصالح والملاكات التي تبتني عليها الاحكام لا تدخل تحت دائرة الطلب ، لعدم القدرة على تحصيلها - على ما سيأتي توضيحه - فلا يمكن أن يكون المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان ملاكات الاحكام ، كما لا يمكن أن يكون المراد منه نفس العنوان المعطوف عليه ، بتوهم : أن عطف الغرض عليه يكون من عطف البيان ، فان العبارة تأبى عن ذلك ، كما يظهر بالتأمل فيها ، فلابد من أن يكون المراد من « الغرض » معنى آخر يمكن أن يتعلق الامر به (1) ويكون من القيود والخصوصيات اللاحقة للمأمور به التي يتوقف الامتثال عليها.

ص: 170


1- أقول : لا يخفى أن « الغرض » الذي عبارة عن قصد الامتثال في التعبديات إنما هو من أغراض النفس ، ولا يكاد يترتب على المأمور به ، وبذلك يمتاز عن ملاكات الاحكام ، فإنها مترتبة على المأمور به ، وهذه الداعية على إرادتها ، وحينئذ فمع تصريح كلمات الشيخ في الرسائل بقوله : « وعلم أنه الغرض من المأمور به » بعد قوله : « وعلم أن المقصود إسهال الصفراء » كيف يحمل هذا الكلام على الغرض الناشي من الامر من قصد الامتثال؟ خصوصا بعد قوله : « إن قلت الخ » و « علم أنه » ان ذلك توجيه بما لا يرضى صاحبه. و العجب! إنّه جعل الإشكال الوارد على شيخنا الأعظم بخياله في جواب «إن قلت» قرينة على رفع اليد عن صريح كلامه في المقام، و أعجب من ذلك!! تأييده بالتعبير منه بلفظ «الغرض» في باب التعبّدي و التوصّلي، إذ لا إشكال في صدق «الغرض» على قصد الامتثال، إلّا أنّه من الأغراض المترتّبة على الأمر لا المأمور به، و في المقام صرّح بالثاني، فكيف يصير تعبيره بالغرض مع كون المراد منه «الغرض من الأمر» شاهدا للمقام، كما لا يخفى.

وتوضيح ذلك : هو أن « الغرض » قد يطلق ويراد منه مصلحة الحكم وملاكه وهو الشايع في الاستعمال ، وقد يطلق ويراد منه التعبد بالامر وقصد امتثاله ، فان الغرض من الامر قد يكون مجرد حصول المأمور به خارجا ، وقد يكون الغرض منه التعبد به ، ولا إشكال في انقسام الامر إلى هذين القسمين ووقوعهما خارجا ، كما لا إشكال في أنه لا يمكن أخذ قصد الامتثال والتعبد في متعلق الامر ، لأنه من القيود اللاحقة للامر بعد وجوده.

وإنما الاشكال في أن عروض وصف التعبدية للامر هل هو بالجعل الثانوي المصطلح عليه بمتمم الجعل؟ أو باقتضاء ذات الامر (1)؟ بأن يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضي قصد الامتثال ويمتاز عن الامر التوصلي بنفسه بلا حاجة إلى متمم الجعل ، بل الطلب بذاته يحدث كيفية التعبد في المأمور به ويقتضي إيجابها ، فيكون انقسام الامر إلى التعبدي والتوصلي لا لأمر خارج عنهما ، بل لتباينهما ذاتا ، وعلى هذا يكون قصد الامتثال من العوارض

ص: 171


1- أقول : بعد كون قوام تعبدية الامر بعدم سقوطه إلا باتيان المأمور به بداعي الامر قبال التوصلي الساقط باتيان ذات العمل ، فهذا المعنى ذاتي له غير مرتبط بعالم الجعل ، إذ مثل هذا المعنى في الحقيقة من تبعات دخل المصلحة لبقاء أمره الداعية له ثبوتا ، كدخل حصوله في سقوطه ، والاحتياج إلى متمم الجعل في عالم بيان كيفية الغرض الملازم لكيفية سقوطه أو عدم احتياجه - بخيال اقتضاء العقل عند الجزم بالامر القطع بالفراغ منه ، ولا يحصل إلا بضم القصد المزبور ومع هذا الحكم العقلي لا يبقى مجال جريان البراءة عن القصد المشكوك ، فلا يحتاج حينئذ إلى تتميم الجعل - أجنبي عن مرحلة اقتضاء الامر التعبدي في عالم الثبوت مثل هذا القصد ، وحينئذ لا أرى لمثل هذا التشقيق مفهوما محصلا ، فالعمدة في المسألة في أن مثل هذا القيد الخارج عن المأمور به يحتاج إلى بيان مستقل نسميه تتميم الجعل ، أم لا يحتاج ، بل يكفي له بيانا قاعدة الاشتغال في نفس ما امر به ، وحينئذ مرجع هذه الجهة إلى المغالطة الواقعة في الأقل والأكثر : من تقريب الاشتغال من ناحية الامر بالأقل ، ولقد بينا شرح المغالطة والجواب عنه مفصلا ، وملخص الجواب : ان العقل إنما يحكم بلزوم الفراغ عما اشتغلت الذمة به لا واقعا ، وما اشتغلت الذمة على فرض الأكثر وجوده من طرف الأقل لا مطلقا ، فمرجع الكلام إلى التوسط في التنجيز ، كما لا يخفى.

والكيفيات اللاحقة للمأمور به بنفس الامر بلا لحاظ سابق ولا جعل لاحق.

وهذا الوجه وإن كان خلاف التحقيق عندنا ، لما بينا في محله : من أن الامر التعبدي لا يباين الامر التوصلي بهوية ذاته ، بل وصف التعبدية إنما يلحق المأمور به بالجعل الثانوي المتمم للجعل الأولي ، فإنه للآمر التوصل إلى بيان تمام غرضه بجعلين إذا لم يمكن استيفائه بجعل واحد ، كما إذا كان لقصد الامتثال دخل في غرضه ، فإنه لا يمكن أخذه في متعلق الامر ، لكونه من الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد تعلق الامر به ، فيتوصل المولى إلى بيان تمام غرضه بجعلين : جعل يتكفل الاجزاء والشرائط التي يمكن أخذها في المتعلق ، وجعل يتكفل اعتبار قصد الامتثال والتعبد ، فيكون الجعل الثانوي متمما للجعل الأولي ويقوم بهما ملاك واحد ، كما أوضحناه في محله.

ومن هنا كان الأقوى عندنا جريان البراءة عن وجوب قصد الامتثال عند الشك في التعبدية والتوصلية ، ولا موقع للرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، لأنه يكون من صغريات تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، وقد تقدم أن الأقوى جريان البراءة الشرعية فيه.

ولكن لو بنينا على أن لحوق وصف التعبدية للمأمور به من مقتضيات ذات الامر بلا حاجة إلى متمم الجعل لكان للمنع عن جريان أصالة البراءة عند الشك في اعتبار قصد الامتثال وجه ، فإنه بعد البناء على تباين الامر التعبدي والتوصلي يكون الدوران بين التعبدية والتوصلية من أقسام الدوران بين المتباينين ، فلا يجوز إهمال قصد الامتثال ، لاحتمال أن يكون الغرض من الامر التعبد به وقصد امتثاله ، ولا دافع لهذا الاحتمال عقلا وشرعا ، لأنه ليس اعتباره بالجعل الثانوي حتى يدفع احتمال اعتباره بأصالة عدم تعلق الجعل به ، بل المفروض : أن ذات الامر يقتضي إيجاب التعبد وقصد الامتثال ، فلا أصل ينفي احتمال كون الغرض من الامر التعبد به ، فلابد من قصد الامتثال عند الشك في اعتباره لكي يعلم بتحقق

ص: 172

الغرض من الامر.

وهذا هو المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان في كلام الشيخ ، لا الغرض بمعنى الملاك ، فإنه لا ينبغي أن يتوهم أحد وجوب تحصيل القطع بتحقق الملاك الذي لا يكاد يمكن الامر بتحصيله ، فالغرض الذي يمكن أن يقال بوجوب تحصيل العلم بتحققه هو الغرض بمعنى قصد التعبد والامتثال ، فإنه بهذا المعنى يكون من كيفيات المأمور وخصوصياته اللاحقة له بنفس تعلق الامر به.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه يمكن القول بالبراءة حتى على القول بتباين الامر التعبدي والتوصلي (1) فان تباين الأمرين لا دخل له بتباين المتعلقين ، ولا إشكال في أن قصد الامتثال يكون قيدا زائدا في المأمور به ، والامر التوصلي فاقد لهذا القيد ، فبالأخرة يرجع الشك في اعتبار قصد الامتثال إلى الشك بين الأقل والأكثر ، سواء قلنا بالجعل الثانوي أو لم نقل ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا في معنى « الغرض » المعطوف على العنوان أنه لا موقع للاشكال على ذلك (2) بقوله : « إن قلت إن الأوامر الشرعية

ص: 173


1- أقول : قد أشرنا سابقا بأن وجه اقتضاء الامر التعبدي للقصد المزبور إنما هو بتوسيط حكم العقل بالاشتغال في تحصيل الفراغ عن الامر المعلوم ، ومع هذا الحكم لا يبقى مجال لمتمم الجعل ، فلا يبقى حينئذ ما هو قابل للرفع : من الامر الجعلي ، كي يجري فيه البراءة الشرعية ، فما أفيد : من رجوع المسألة إلى الشك في القيد الزائد في المأمور به على اي حال غلط ، إذ على فرض جريان قاعدة الاشتغال يكون المسألة من صغريات الشك في دخل قيد زائد في الامتثال ، لا في المأمور به ، وأدلة رفع الامر المجعول أجنبية عن الشمول لمثل هذا القيد ، كما أن « كل شيء لك حلال » أيضا لا تشمل إلا ما احتمل حرمته شرعا لا عقلا ، فتدبر.
2- 2 - أقول : إن كان هذا الاشكال من شخص آخر على كلام من أشكل على « الغرض » المزبور كان لما أفيد وجه ، وأما بعدما كان كلها من كلام واحد ، فلا محيص من حمل « الغرض » على مفاد كلامه الآخر علاوة على صريح كلامه : من إضافة « الغرض » إلى المأمور به الذي هو أجنبي عن قصد الامتثال الذي هو الغرض من الامر ، كما لا يخفى ، وقد أشرنا إليه سابقا أيضا.

كلها من هذا القبيل الخ ».

فإنه إن كان الاشكال راجعا إلى العنوان ، بدعوى : أن المصالح وملاكات الاحكام كلها تكون من العناوين والمسببات التوليدية لمتعلقات التكاليف ، فيلزم سد باب البراءة في جميع موارد الشك في حصول الملاك.

ففيه : أن الملاكات لا تكون من المسببات التوليدية للأفعال (1) لما عرفت : من أن المسبب التوليدي هو الذي يكون الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لتولده أو الجزء الأخير منها حتى يمكن أن تتعلق بايجاده إرادة الفاعل لكلي يمكن أن تتعلق به إرادة الآمر ، وباب المصالح والملاكات ليس بهذه المثابة ، فإنه لا تتعلق بها الإرادة الفاعلية ، لعدم القدرة عليها (2) فلا تدخل تحت دائرة الطلب ، ولا يكون الفعل الصادر عن الفاعل إلا مقدمة إعدادية لحصولها ، فهي لا تصلح إلا لان تكون من الدواعي لحركة عضلات الفاعل والعلل التشريعية لأمر الآمر ، فالمصالح والملاكات المترتبة على متعلقات التكاليف الشرعية نظير الخواص والآثار المترتبة على الأمور التكوينية - كصيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا - لا يمكن أن تكون عنوانا للفعل ومسببا توليديا له.

والذي يدلك على ذلك ، هو عدم وقوع الامر بتحصيل الملاك وإيجاد المصلحة في مورد (3) ولو كان الملاك من العناوين والمسببات التوليدية لتعلق

ص: 174


1- أقول : لا يخفى ان المصلحة عبارة عما يدعو الآمر للامر به بها ، وهذا المعنى يستحيل أن لا يترتب على المراد ولو بحفظ نحو من أنحاء وجوده في ظرف تحقق سائر جهاته ، ومن المعلوم : أن هذا المقدار تحت الإرادة الموجبة لامره نحو محققه المردد بين الأقل والأكثر ، وحينئذ عدم ترتب تمام وجودها على المأمور به لا يجدي شيئا في رفع الاشكال ، فتأمل.
2- قد عرفت ما فيه سابقا ، فراجع.
3- أقول : الذي لا يقع تحت الامر هو وجوده الطارد لجميع أعدامه ، لا حفظ وجوده من قبل المأمور به في ظرف انحفاظ سائر جهاته ، فإنه لا محيص من وقوعه تحت الإرادة جدا ، كما هو الشأن في كل غرض مترتب على المأمور به ، ولقد عرفت : أن هذا المقدار في منع جريان البراءة كاف ، لولا دعوى : ان العقل لا طريق له إلى فعلية الإرادة بالنسبة إلى الغرض البسيط بأي مرتبة منه ، إلا من جهة فعلية الامر بالمفصل المحصل له ، وحينئذ في مقدار من المفصل المعلوم إرادته يستكشف فعلية حفظ الغرض من قبله ، وليس نفس الغرض أو حفظه بأي مرتبة تحت خطاب مستقل كي يكشف إرادته بهذا العنوان البسيط ، كي يكون الشك في المحقق ، بل من الأول لا يعلم بفعلية الغرض إلا [ من ] علم بفعلية التكليف ، وحيث لا يعلم إلا بالأقل فلم يعلم بفعلية الغرض أزيد مما يلزم حفظه من قبل ما علم إرادته من العمل ، كما لا يخفى ، فتدبر تعرف.

الطلب به في غير مقام ، لان المأمور به في باب الأسباب والمسببات التوليدية إنما هو المسبب ، وتعلق الامر بالسبب أحيانا إنما يكون بلحاظ تولد المسبب منه وكونه آلة لايجاده ، ولا يصح إطلاق الامر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبب إلا إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولد المسبب منه من الأمور العرفية المرتكزة في الأذهان ، بحيث يكون الامر بالسبب أمرا بالمسبب عرفا ، على وجه يعلم أن تعلق الطلب بالسبب لا بما هو فعل صادر عن الفاعل بل بما أنه يتولد منه المسبب ويتعنون بعنوانه ، كما يستفاد من الامر بالالقاء في النار والضرب بالسيف كون الامر بهما لأجل تولد الاحراق والقتل منهما ، فلو لم يكن السبب والمسبب بهذه المثابة لم يصح إطلاق الامر بالسبب مع إرادة المسبب ، بل لابد من تقييد الامر بالسبب بما يوجب تولد المسبب منه ، وإلا كان ذلك إغراء بالجهل ونقضا للغرض.

ومن المعلوم بالضرورة : أن تولد الملاكات من متعلقات التكاليف وتعنونها بالمصالح ليس بمثابة يستفاد من الامر بالفعل أنه أمر بالملاك ، إذ ليس تعنون الافعال بالملاكات من المرتكزات العرفية لكي يصح إطلاق الامر بالفعل مع إرادة الملاك ، فاطلاق الامر بالفعل وعدم تقييده بما يوجب تولد الملاك منه يكون كاشفا قطعيا عن أن الملاكات ليست من المسببات التوليدية لمتعلقات

ص: 175

التكاليف.

وإن أبيت عن ذلك ، فلا أقل من أن يشك في كونها من المسببات التوليدية ، فإنه لا سبيل إلى دعوى القطع بذلك ، فيشك في وجوب الاتيان بالفعل على وجه يكون محصلا للملاك ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف نفس الفعل الصادر عن الفاعل من حيث هو لا من حيث تعنونه بالملاك ، فيؤول الامر إلى تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، للعلم بتعلق الطلب بالفعل الصادر عن الفاعل والشك في وجوب القيد : من إتيان الفعل على وجه يكون محصلا للملاك ، والأصل البراءة عن وجوبه ، فتأمل (1).

هذا كله إذا كان الاشكال راجعا إلى العنوان.

وإن كان راجعا إلى الغرض - كما هو ظاهر العبارة - بدعوى : أن الغرض من تعلق الطلب بالافعال إنما هو حصول الملاكات والمصالح التي تبتني عليها الاحكام ، فيجب الاتيان بكل ما يحتمل دخله في حصول الملاك ، ولازم ذلك عدم جريان البراءة في جميع موارد الشك بين الأقل والأكثر ، لاحتمال أن تكون للخصوصية الزائدة دخل في حصول الملاك. ففيه : ما عرفت : من أن المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان ليس هو الملاك ليرد عليه ذلك (2) بل المراد من « الغرض » هو التعبد بالمأمور به

ص: 176


1- وجهه : هو أنه لو وصلت النوبة إلى الشك واحتمل أن يكون الامر بالفعل لأجل تعنونه بالملاك ، فمقتضى العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين أن يكون متعلقا بالفعل الصادر عن الفاعل من حيث هو وبين أن يكون متعلقا به من حيث كونه محصلا للملاك هو وجوب الاتيان بكل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول الملاك ، ولا تجري البراءة فيه ، والعلم التفصيلي بتعلق التكليف بالفعل على كل تقدير لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، لان التكليف بالفعل مردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، نظير العلم التفصيلي بوجوب نصب السلم المردد بين كونه لنفسه أو لكونه مقدمة للكون على السطح ، وقد تقدم أن مثل هذا العلم التفصيلي لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، فتأمل جيدا.
2- 2 - أقول : قد عرفت ان مراد الشيخ رحمه اللّه صريح في كونه الملاك لا التعبد الذي هو الغرض المترتب على الامر به ، فلا مجال لشرح مرامه بما ذكر ، إذ هو قريب بالاجتهاد في قبال النص ، فتدبر.

وقصد امتثال الامر - بالبيان المتقدم -.

وبذلك يظهر ضعف ما أفاده الشيخ قدس سره الوجهين في دفع الاشكال.

أما الوجه الأول : ففيه : أنه ليس المقام مقام المجادلة لكي يتكلم على مذاق الأشاعرة المنكرين للمصالح والمفاسد ، بل لابد من دفع الاشكال على ما يقتضيه مسلك العدلية : من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأوامر.

وأما الوجه الثاني : وهو قوله : « وثانيا أن نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا الخ ».

ففيه : أولا : أن قصد الوجه ليس له دخل في تحقق الامتثال قطعا ، وإن ذهب إلى اعتباره بعض المتكلمين.

وثانيا : أن الكلام ليس في خصوص العبادات ، فان الأوامر التوصلية أيضا تشتمل على المصالح ، وقصد الوجه على تقدير اعتباره إنما يختص بالعبادات.

وثالثا : أن توقف حصول المصلحة على إيقاع الفعل على وجهه ، إما أن يكون مطلقا غير مقيد بصورة التمكن ، وإما أن يكون مقيدا بذلك. فعلى الأول : يلزم سقوط التكليف رأسا في جميع موارد تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، لعدم التمكن من قصد الوجه ، فلو بقي الواجب على وجوبه يلزم أن يكون بلا مصلحة ، ومع سقوط التكليف لا عقاب حتى يجب التخلص عنه والامن منه.

وعلى الثاني : يلزم سقوط اعتبار إيقاع الفعل على وجهه عند الشك في المكلف به وتردده بين الأقل والأكثر ، لعدم التمكن منه ، ولكن سقوط قصد الوجه لا ينافي وجوب الاحتياط والآتيان بكل ما له دخل في حصول الملاك

ص: 177

فالانصاف : أن ما أجاب به الشيخ قدس سره عن الاشكال لا يحسم مادته ، بل لا محصل له. فالحق في الجواب عن الاشكال هو ما تقدم : من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ، لأنه ليست من العناوين والمسببات التوليدية.

فان قلت : هب إن الملاكات ليست من المسببات التوليدية لمتعلقات التكاليف ، إلا أنه يجب على المكلف سد باب احتمال عدم حصول الملاك من ناحيته ، بأن يأتي بالمقدمات الاعدادية على وجه يمكن انطباق الملاك عليها ، بحيث لو انضم إليها الأمور الخارجة عن قدرة المكلف واختياره لحصل الملاك ، وذلك لا يكون إلا بفعل كل ما يحتمل دخله في الاعداد ، بحيث لو لم يحصل الملاك لكان ذلك لأجل عدم انضمام المقدمات الاخر الخارجة عن القدرة والاختيار ، نظير الزارع الذي يفعل كل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول السنبل من المقدمات الاعدادية الراجعة إليه ، بحيث لو لم يحصل السنبل لكن ذلك لأجل عدم إشراق الشمس أو نزول المطر وغير ذلك من الأسباب السماوية والأرضية.

قلت : وظيفة المكلف هو الاتيان بما تعلق الطلب به وما هو الواصل إليه من قبل المولى ، وأما تطبيق العمل على الوجه المحصل للملاك فليس هو من وظيفة المكلف (1) بل ذلك من وظيفة المولى ، حيث إنه يجب على المولى الامر بما

ص: 178


1- أقول : بعدما كانت الإرادة المترشحة إلى الفعل ناشئة عن فعلية الإرادة بسد باب عدم الملاك ، فقهرا حفظ وجود الملاك من قبله تكون تحت الإرادة قهرا ، والعقل أيضا حاكم بتحصيل مرام المولى ، ولو لم يكن بنفسه في حيز خطابه بل كان لازمه ، وحينئذ لا مجال لمقايسة المقام بباب ملازمة حكم العقل والشرع المحتمل عدم كون حفظ الملاك - ولو من قبل الفعل المزبور - تحت الإرادة ، كما هو نظر من أنكر الملازمة ، وحينئذ لا محيص من الجواب إلا بما ذكرنا : من أن الطريق إلى إرادة حفظ الغرض من قبل العقل ليس إلا الخطاب إلى الفعل فبمقدار يعلم إرادته يعلم بإرادة حفظ الغرض من قبله ، وهو ليس إلا الأقل ، ومن هنا ظهر : أن العمل على الوجه المحصل من قبله تحت الإرادة ، لكن هذا المقدار حسب تردد المحصل - كما في الأقل والأكثر - يصير هو أيضا مرددا بين الأقل والأكثر.

ينطبق على الملاك ، لقبح تفويته على العبد.

وبالجملة : الواجب على المكلف عقلا هو امتثال أمر المولى والآتيان بكل ما وصل إليه من قبله ، ولا يجب عليه فعل كل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول الملاك من دون أن يصل من المولى بيان ، بل لا يجب على المكلف عقلا الاتيان بما يعلم دخله في الملاك من دون أن يدخل تحت دائرة الطلب ويتعلق الامر المولوي به ، ولذا أتعب الاعلام أنفسهم في إثبات الملازمة بين حكم العقل والشرع.

فلو كانت المصالح والملاكات لازمة التحصيل ولو مع عدم الامر بالفعل القائم به الملاك لم يكن وجه لاتعاب النفس في إثبات الملازمة ، بل كان الحكم العقلي بثبوت الملاك في فعل يكفي في وجوبه ولو لم تثبت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فتأمل.

فإذا كان العلم بقيام الملاك في فعل لا يؤثر في وجوب ذلك الفعل مع عدم الامر به شرعا ، فالشك في قيام الملاك بفعل أولى بأن لا يؤثر في وجوب الفعل.

نعم : ربما يكون الملاك المقتضي لتشريع الحكم لازم الاستيفاء في عالم الثبوت ، بحيث لا يرضى الشارع أن يفوت من المكلف على أي وجه اتفق.

ولكن إذا كان الملاك ثبوتا بهذه المثابة فيجب على المولى جعل المتمم وإيجاب الاحتياط في موارد الشك كإيجابه في باب الدماء والفروج والأموال ، لأنه لا طريق إلى إحراز كون الملاك بهذه المثابة إلا بإيجاب الاحتياط ، فان نفس الحكم الأولي قاصر عن الشمول لحال الشك فيه أو في موضوعه ، فلابد من جعل المتمم لئلا يقع المكلف في مخالفة الواقع ، ولابد أيضا من أن يكون إيجاب الاحتياط واصلا إلى المكلف ، إذ هو لا يزيد عن أصل الحكم الأولي الذي وجب الاحتياط لمراعاته ، فكما أنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك في الحكم الأولي في غير دوران الامر بين الأقل والأكثر - حيث تقدم أنه لا مساس

ص: 179

للبراءة العقلية فيه - فكذلك تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك في جعل المتمم وإيجاب الاحتياط.

وتوهم : عدم جريان البراءة العقلية عند الشك في وجوب الاحتياط لان مخالفته لا يستتبع العقاب (1) فلا يكون موردا لقبح العقاب بلا بيان فاسد ، فان إيجاب الاحتياط إنما يكون لأجل مراعاة الواقع وعدم وقوع المكلف في مفسدة مخالفة الحكم الواقعي ، فلو صادف كون المشكوك فيه هو متعلق التكليف الواقعي ، فوجوب الاحتياط يتحد مع الحكم الواقعي ويصح العقاب على ترك الاحتياط ، لاتحاده مع الواقع ، وبهذا الاعتبار يمكن جريان البراءة العقلية عند الشك في وجوب الاحتياط. وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وعلى كل حال : فقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه ينبغي عزل باب المصالح وملاكات الاحكام عن البحث في جريان البراءة والاشتغال ، ولا يمنع الشك في حصولها عن جريان البراءة العقلية والشرعية في شيء من المقامات.

فما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في غير موضع : من أن الملاك يكون مسببا توليديا لمتعلق التكليف وعليه بنى عدم جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي ، ضعيف غايته.

وأضعف من ذلك ما ذكره في مبحث التعبدي والتوصلي : من التفصيل بين القيود التي يمكن أخذها في متعلق التكليف - كالاجزاء والشرائط - فتجري فيها البراءة الشرعية دون العقلية ، وبين القيود التي لا يمكن أخذها في المتعلق - كقصد الامتثال والقربة - فلا تجري فيها البراءة العقلية أيضا.

ص: 180


1- أقول : ذلك عين الاعتراف بأن إيجاب الاحتياط حكم طريقي قابل لتنجز الواقع عند الموافقة ، لا أنه حكم نفسي موجب للعقوبة على مخالفة نفسه وافق الواقع أو خالف ، خلافا لشيخنا الأعظم في باب البراءة ، فراجع وتدبر ، ولم أر في كلام المقرر شيئا في تلك المسألة كي أوازنه مع المقام.

فإنه يرد عليه : مضافا إلى ما تقدم - من عدم كون الملاك سببا توليديا لمتعلق التكليف فلا يلزم العلم بحصوله - أنه ينبغي على هذا عدم جريان البراءة الشرعية أيضا في الاجزاء والشرائط التي يمكن أخذها في المتعلق (1) فان الجزء والشرط وإن كان مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، إلا أن رفع الجزء المشكوك فيه لا يثبت كون الأقل الفاقد له قائما به الملاك ومحصلا للغرض ، إلا على القول باعتبار الأصل المثبت. وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إلا أنه لا بأس به ، لان شبهة لزوم إحراز تحقق الملاك والمنع عن جريان البراءة في موارد الشك في حصول تأتي في كثير من المواضع ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

دفع وهم :

ربما يتمسك لاثبات وجوب الأكثر باستصحاب الاشتغال وبقاء التكليف ، وفي مقابله التمسك لاثبات وجوب الأقل فقط بإطالة عدم وجوب الأكثر.

والتحقيق : عدم جريان الاستصحاب لاثبات التكليف في كل من طرف الأقل والأكثر.

أما عدم جريان استصحاب الاشتغال : فقد تقدم في باب المتباينين من

ص: 181


1- أقول : إن بنينا على كون العلم الاجمالي علة تامة للموافقة القطعية ، فلازمه عدم جريان البراءة الشرعية عند كل من التزم بالاحتياط عقلا ، بعد فرض عدم اقتضاء حديث الرفع وأمثاله تعين الواجب المعلوم في الأقل ، لكونه حسب اعترافه مثبتا. وإن قلنا بأن العلم الاجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية ، فلا بأس بجريان الأصل المجوز الشرعي في ترك المسبب المستند إلى ترك المشكوك من محققه وسببه ، وإن لم يثبت به وجوب الأقل ، وحينئذ التفكيك بينهما - كما هو مختاره أيضا - لا يخلو عن محذور ، وإن كان ما أورده على استاذنا الأعظم في غاية المتانة ، ونحن أيضا أشكلنا عليه بمثل هذا البيان.

أنه لا يجري في شيء من موارد العلم الاجمالي.

وأما عدم جريان استصحاب عدم وجوب الأكثر : فيحتاج إلى بسط من الكلام ، إذ لعله ينفع في غير المقام.

فنقول : المستصحب تارة : يكون هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، وأخرى : يكون هو عدم جوب الأكثر المشتمل على المشكوك فيه ، وعلى كلا التقديرين : المراد من العدم إما أن يكون هو العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، وإما أن يكون هو العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات كقبل الزوال والمغرب والفجر بالنسبة إلى الصلوات اليومية ، وإما أن يكون هو العدم السابق على البلوغ ، وفي جميع هذه التقادير لا يجري استصحاب العدم. ولكن ينبغي إفراد كل من هذه الأقسام بالبحث ، إذ منها : ما لايكون له متيقن سابق يمكن الحكم ببقائه ، ومنها : ما لايكون لبقائه أثر شرعي ، ومنها : ما يجتمع فيه الأمران.

وتوضيح ذلك : هو أنه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه وأريد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، بتقريب أن يقال : إن لحاظ جزئية السورة وتعلق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم ، ومقتضى الأصل هو عدم تعلق الجعل واللحاظ بها.

فيرد عليه : أنه إن أريد من العدم العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، وهو عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركب ولحاظ أجزائه (1) فهذا العدم لم يكن متيقنا في زمان لكي يستصحب ، فإنه في ظرف تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بأجزاء المركب إما أن يكون قد شملته عناية الجعل وتعلق اللحاظ به أولا : وليس تعلق الجعل به متأخرا رتبة أو زمانا عن

ص: 182


1- أقول : بحيث يصدق مجعول مركب لم يلحظ فيه الأكثر.

تعلق الجعل بالمركب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.

وإن أريد من العدم العدم المحمولي بمفاد ليس التامة ، وهو العدم السابق على لحاظ أجزاء المركب وتعلق الجعل به ، فهو وإن كان متيقنا قبل ذلك - لان أصل الجعل واللحاظ أمر حادث مسبوق بالعدم - إلا أن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلق الجعل بالمركب غير مفيد (1) إلا إذا أريد إثبات تعلق الجعل واللحاظ بخصوص أجزاء الأقل ، ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بالأصل المثبت.

هذا كله ، مضافا إلى أن مجرد عدم تعلق اللحاظ والجعل بالجزء أو الشرط المشكوك فيه لا أثر له ، لان الآثار الشرعية بل العقلية - من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك من الآثار المترتبة على الأحكام الشرعية - إنما تترتب وجودا وعدما على المجعول ، لا على نفس الجعل ، فان الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف إنما هو المجعول ، ولا أثر لنفس الجعل بما هو قول إلا باعتبار أنه يستتبع المجعول ، بحيث لو فرض محالا انفكاك الجعل عن المجعول وكان هناك جعل بلا أن يستتبع وجود المجعول لم يترتب على ذلك الجعل أثر عقلي أو شرعي ، وبالعكس لو فرض محالا وجود المجعول بلا أن يسبقه

ص: 183


1- أقول : مرجع الجعل بعدما كان إلى تعلق لحاظه بشيء وجعله واجبا أم جزءا ، فلا شبهة في أن تعدد المجعول ووحدته تختلف مراتب الجعل ، وحينئذ فإذا علم بمرتبة منه وشك في تحقق مرتبة أخرى ، فالأصل إذا نفي هذه المرتبة ، فهو وإن لم يثبت مرتبة الجعل بخصوص الأقل ، إلا أنه يكفي في عدم الالتزام به مجرد عدم وجوبه الباقي من الأزل بضميمة اكتفاء العقل أيضا بوجوب تحصيل ما علم وجوبه وإن لم يعلم بأنه تمام الواجب ، وحينئذ فلا قصور في استصحاب عدم الوجوب الذي هو محط كلامه أو عدم جعله ، إذ عدم جعل الوجوب مستتبع لعدم الوجوب واقعيا كان أو ظاهريا. فلا ربط للمقام بالأصول المثبتة ، لان عدم الوجوب الظاهري من لوازم عدم الجعل الظاهري الذي هو الاستصحاب ، لا نفس المستصحب ، والمفروض أيضا أن نفس الجعل أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، ولا نعني من الأثر الشرعي في باب الاستصحاب إلا هذا.

الجعل لترتب عليه تمام الآثار الشرعية والعقلية ، فأصالة عدم تعلق الجعل بالمشكوك فيه لا أثر لها إلا إذا أريد إثبات عدم وجود المجعول ، وذلك مبني على حجية الأصل المثبت أو دعوى خفاء الواسطة ، وسيأتي في مبحث الاستصحاب فساد ذلك.

وإن كان المستصحب هو عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه ، بتقريب أن يقال : إن تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بالصلاة مع السورة أمر حادث والأصل عدمه.

فيرد عليه - مضافا إلى ما تقدم أخيرا في الوجه الأول من أنه لا أثر لمجرد عدم الجعل إلا باعتبار ترتب عدم المجعول عليه - أن أصالة عدم تعلق الجعل بالأكثر لا تجري ، لمعارضتها بأصالة عدم تعلق الجعل بالأقل الفاقد للجزء المشكوك ، فان لحاظ الأقل لا بشرط يباين لحاظه بشرط شيء ، وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم. وهذا لا ينافي ما تقدم منا في رد ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية : من أن الماهية لا بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فان ذلك كان باعتبار نفس الماهية الملحوظة ، وأما باعتبار اللحاظ فهما متباينتان ، وكل منهما أمر حادث تجري فيه أصالة العدم ، فتأمل (1).

هذا كله إذا كان المراد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام.

وإن أريد منه العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ، فالكلام

ص: 184


1- وجهه : هو أنه قد يختلج في البال عدم جريان الأصل في طرف الأقل ، للعلم بتعلق الجعل به على كل تقدير ، سواء كان لحاظه لا بشرط أو بشرط شيء بناء على المختار : من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا. نعم: لو قلنا: بأنّ الأقل لا يكون واجبا نفسيّا على تقدير أن يكون الواجب هو الأكثر، فأصالة عدم وجوبه النفسيّ تجري و تعارض أصالة عدم وجوب الأكثر، فتأمّل جيّدا (منه).

فيه عين الكلام في العدم الأزلي ، فإنه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء المشكوك فيه ، فعدم وجوبه النعتي لم يتعلق اليقين به في وقت ، فانه حين تحقق المجعول وثبوت وجوب الصلاة عند الزول ، اما ان يكون قد انبسط الوجوب علي الجزء الزائد متاخرا عن انبساطه علي الاقل ، لكي يجري استصحاب عدم انبساطه عليه.

وعدم وجوبه المحمولي وان كان قد تعلق اليقين به قبل الزوال لعدم وجوب الجزء قبل الزوال ولو لعدم ثبوت وجوب سائر الأجزاء إلا أن بقاء العدم المحمولي إلى حين الزوال لا ينفع إلا إذا أريد من ذلك انبساط الوجوب على خصوص أجزاء الأقل ، وذلك يكون من الأصل المثبت ، هذا إذا كان المستصحب عدم وجوب الجزء.

وإن كان المستصحب عدم وجوب الأكثر ، فأصالة عدم وجوبه الثابت قبل الزوال معارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ، فان الثابت قبل الزوال هو عدم الوجوب رأسا ، لا وجوب الأقل ولا وجوب الأكثر ، وهذا العدم انتقض قطعا عند الزوال ولم يعلم أن انتقاضه كان في طرف الأقل أو الأكثر ، وأصالة العدم تجري في الطرفين وتسقط بالمعارضة ، فتأمل.

نعم : استصحاب العدم الثابت قبل الزوال سالم عن الاشكال الأخير المتقدم في الوجه السابق ، فان المستصحب في العدم الأزلي إنما كان هو عدم الجعل الأزلي ، فكان يرد عليه : أن الجعل وعدمه لا يترتب عليه أثر إلا باعتبار ما يستتبعه من المجعول ، وأما في العدم السابق على حضور وقت العمل فالمستصحب إنما هو عدم وجود المجعول.

والسر في ذلك : هو أن ظرف وجود المجعول الشرعي إنما هو ظرف تحقق الموضوع خارجا ، وهو الانسان بجميع ما اعتبر فيه من القيود : من البلوغ والعقل والقدرة ، وغير ذلك من الشرائط والأوصاف المعتبرة في المكلف ، بناء على

ص: 185

ما أوضحناه في محله : من أن القضايا الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقة التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها ، فقبل وجود الموضوع خارجا لا مجال لجريان استصحاب عدم المجعول ، لأنه ليس رتبة وجوده ، بل الاستصحاب الجاري هو استصحاب عدم الجعل الأزلي ، وأما بعد وجود الموضوع وتحقق شرائط التكليف ، فالاستصحاب إنما يجري بالنسبة إلى نفس المجعول الشرعي وجودا وعدما ، فإنه إذا زال الزوال وشك المكلف في وجوب الصلاة عليه ، فالعدم الذي كان قبل الزوال هو عدم المجعول وهو المستصحب ، ولا معنى لاستصحاب عدم الجعل ، لأنه قبل الزوال ليس رتبة الجعل والانشاء فإنه أزلي رتبته سابقة على خلق العالم.

ومن المعلوم : أن عدم كل شيء إنما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلا استصحاب عدم الجعل ، وبعد وجود الموضوع لا يجري إلا استصحاب عدم المجعول.

وإذا كان المستصحب هو العدم في حال الصغر السابق على البلوغ ، وهو الذي يعبر عنه باستصحاب البراءة الأصلية ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لم يعتبر في موضوعاتها قيد زائد على الشرائط العامة ، كما في أغلب المحرمات وبعض الواجبات.

فيرد عليه (1) : أن الثابت في حق الصغير ليس إلا عدم وضع قلم التكليف

ص: 186


1- لا يخفى : أن هذا البيان إنما يتم في العدم السابق على رشد الصبي وتمييزه ، فإنه بعد الرشد والتمييز يمكن وضع قلم التكليف عليه ، كما وضع في حقه قلم التكليف الاستحبابي بناء على شرعية عبادات الصبي ، فعدم التكليف في حال التميز يمكن إسناده إلى الشارع ، ولذا لو شك في استحباب شيء عليه بعد البلوغ يصح استصحاب عدم الاستحباب الثابت في حال الصغر ، فهذا البيان لا يتم إلا ان يدعى القطع بتساوي الحالين وأن عدم التكليف الثابت في حال التمييز هو العدم الثابت في حال عدم التمييز من دون أن يكون هناك تصرف من قبل الشارع ، فتأمل جيدا ( منه ).

عليه بمعنى كونه مرخى العنان ولا حرج عليه في كل من الفعل والترك ، من دون أن يكون الشارع أطلق عنانه ورفع قلم التكليف والحرج عنه ، فان اللاحرجية الشرعية انما تكون في الموضوع القابل لوضع قلم التكليف ، وذلك انما يكون بعد البلوغ ، ولذا كان عدم التكليف قبل حضور وقت العمل في الوجه المتقدم يستند إلى الشارع ، بحيث لو بنينا على حجية الأصل المثبت لأثبتنا الإباحة الشرعية من استصحاب عدم التكليف قبل الوقت ، وهذا بخلاف عدم التكليف الثابت قبل البلوغ ، فإنه لا يستند إلى الشارع ، لان الصغير ليس في حال يمكن وضع قلم التكليف عليه ، بل هو كالبهائم ليس في حقه جعل شرعي لا وجودا ولا عدما ، لقصوره عن ذلك بنفسه.

فالعدم الثابت قبل البلوغ مما لا يمكن استصحابه ، للعلم بانتقاضه حين البلوغ ، إما بالوجود وإما بعدم آخر مغاير بالنسخ للعدم الثابت قبل البلوغ ولو باعتبار حكم الشارع ببقائه وعدم نقضه بالوجود ، فان اللاحرجية الشرعية مغايرة للاحرجية القهرية التكوينية.

وبالجملة : لا مجال لاستصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فإنه - مضافا إلى العلم بانتقاضه حين البلوغ - يرد عليه : أن عدم التكليف قبل البلوغ لا يترتب عليه أثر سوى عدم استحقاق الصغير للعقاب في كل من طرف الفعل والترك ، وأثر استحقاق العقاب لم يترتب على ثبوت التكليف واقعا ، بل يتوقف على تنجز التكليف.

فنفس الشك في التكليف يكون تمام الموضوع لعدم استحقاق العقاب ، ولا يحتاج إلى إثبات عدم التكليف بالاستصحاب.

وتوهم : صحة استصحاب الكلي والقدر المشترك بين اللاحرجية القهرية الثابتة في حق الصغير واللاحرجية الشرعية الثابتة في حق البالغ ، فاسد ، فإنه مضافا إلى أنه يكون من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي الذي

ص: 187

لا عبرة به - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - أن القدر المشترك ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ولا يترتب على بقائه أثر سوى عدم استحقاق العقاب ، وهو محرز بالوجدان بنفس الشك في التكليف ، فاستصحاب البراءة الأصلية الثابتة في حال الصغر لا يجري في جميع المقامات ، ومنها ما نحن فيه : من استصحاب عدم وجوب الأكثر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : فساد التمسك لاثبات وجوب الأقل فقط بأصالة عدم وجوب الأكثر ، فان أصالة العدم لا تجري على جميع التقادير ، سواء أريد من العدم العدم السابق على لحاظ المأمور به ، أو أريد منه العدم السابق على جعل الاحكام وإنشائها ، أو أريد منه العدم السابق على الوقت المضروب شرعا للعمل ، أو أريد منه العدم السابق على البلوغ.

أما الوجه الأول : فلان علم لحاظ الأكثر لا أثر له ، إلا إذا أريد من ذلك عدم مجعولية وجوب الأكثر ، وذلك مثبت بواسطتين : واسطة اللحاظ السابق على الجعل ، وواسطة الجعل السابق على المجعول ، مضافا إلى أنه معارض بأصالة عدم لحاظ الأقل بحده.

وأما الوجه الثاني : فإنه يرد عليه ما يرد على الوجه الأول ، سوى أن مثبتيته تكون بواسطة واحدة.

وأما الوجه الثالث : فإنه يرد عليه إشكال المعارضة ولا يرد عليه شيء آخر.

وأما الوجه الرابع : فلانه وإن لم يرد عليه إشكال المعارضة أيضا ، للعلم بانتقاض اللاحرجية في طرف الأقل فلا يجري فيه الأصل حتى يعارض بالأصل الجاري في طرف الأكثر ، إلا أنه يرد عليه : أن عدم التكليف بالأكثر قبل البلوغ ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ولا يترتب عليه أثر شرعي (1) وأثر

ص: 188


1- 1 - أقول : يكفي في شرعية الأثر في المستصحب كونه ببقائه قابلا للرفع والوضع ، ولا يلزم كونه بحدوثه كذلك، فتدبر.

عدم استحقاق العقاب على ترك الأكثر محرز بالوجدان بنفس الشك في وجوب الأكثر.

هذا كله إذا كان المستصحب عدم وجوب جملة الأكثر ، وإن كان المستصحب عدم وجوب الجزء الزائد المشكوك فيه فقد عرفت : أن عدمه النعتي لم يتعلق اليقين به في وقت ، وعدمه المحمولي يكون من الأصل المثبت. فظهر : أن نفي وجوب الأكثر لا يمكن إلا بمثل حديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة الشرعية ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

الفصل الخامس: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في باب الشروط والموانع
اشارة

كما إذا شك في شرطية شيء لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة ، أو لموضوع التكليف كالايمان في الرقبة (1) أو شك في مانعية شيء لهما ، والكلام

ص: 189


1- أقول : في كلية الخصوصيات العرضية الغير المشخصة المقرونة ، مثل الايمان في الرقبة وقيامه وأمثالهما : فتارة : يكون كل فرد من الطبيعة قابلا حين التكليف لطرو الخصوصية عليه واتحاده فيه ، وأخرى : لا يكون كذلك. فان كان من قبيل الأول ، فلا محيص من كونه من باب الأقل والأكثر ، وذلك : لان التكليف بالجامع الصرف ملازم بنظر العقل مع تعلقه بأول وجوده ، والمفروض أن كلما يتصور من أفراد هذه الطبيعة ويفرض كونه أول وجوده قابل لطرو الخصوصية عليه ، وحينئذ يصدق بالنسبة إلى هذه الحصة من أول الوجودات أنه هو الواجب أو هو وغيره من الخصوصية الزائدة القابلة لطروه عليه ، فلا جرم ينتهي أمره إلى التردد بين الحدين لا الوجودين ، كما هو الشأن في ميزان الأقلية والأكثرية ، على ما شرحناه. و أمّا لو كان من قبيل الثاني، فلا شبهة في أنّ للأوّل وجود لو كان هو الفاقد فلا نعلم بوجوب الحصّة من الطبيعي المحفوظ فيه، لاحتمال كون الواجب حصّة أخرى الواجدة للقيد أو القابل لإيجاده فيه، و لازمه حينئذ تردد الواجب بين الجامع بين الوجودين أو خصوص الواجد، من دون يقين بمرتبة محفوظة في ضمن مرتبة أخرى، و بهذا المعيار يسلك في مقام التميز بين باب الأقلّ و الأكثر من المشروطات بالأمور العرضيّة و المقيّدات و بين باب التعيين و التخيير، و نأخذ بمسلك البراءة في الأوّل و الاحتياط في الثاني، فافهم و اغتنم.

فيه عين الكلام في الاجزاء في جريان البراءة الشرعية وعدم جريان البراءة العقلية ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا متحدا مع المشروط في الوجود كالايمان في الرقبة ، أو مباينا له في الوجود كالطهارة في الصلاة ، فان المناط في جريان البراءة : هو أن يكون المشكوك فيه مما تناله يد الوضع والرفع الشرعي ولو بوضح منشأ الانتزاع ورفعه ، وأن يكون في رفعه منة وتوسعة على المكلفين ، وهذا المناط يعم الشك في الاجزاء والشروط على نسق واحد ، فالبحث عن الاجزاء يغني عن البحث في الشروط والموانع ولا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه ، ونحن إنما أفردنا البحث عن الشروط للتنبيه على أمر ، وهو أن منشأ انتزاع الشرطية

تارة : يكون هو التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها ، كقوله : « لا تصل في الحرير وفيما لا يؤكل ». وأخرى : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي ، وهذا إنما يكون في الشرائط التي كان منشأ اعتبارها هو وقوع التزاحم بين التكاليف النفسية ، كشرطية إباحة المكان في الصلاة ، فان منشأ انتزاع الشرطية هو النهي النفسي المتعلق بالغصب بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتغليب جانب النهي على ما أوضحناه في محله.

فإن كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف الغيري ، فحكمه ما تقدم : من جريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية (1) من غير

ص: 190


1- 1 - أقول : بعد فرض الوجوب الغيري بما هو مقدمة فارغا عن المقدمية ، فجهة مقدميته لابد أن يكون يكون في رتبة سابقة عن وجوبه ، ولا نعنى من حيثية مقدميته إلا شرطيته ، وحينئذ كيف انتزاع الشرطية التي بها قوام المقدمية عن وجوبه غيريا؟ وحينئذ ليس منشأه إلا بدخل تقيد موضوع تكليفه النفسي بهذا الشيء ، وهذا التقيد أيضا مأخوذ في رتبة سابقة عن وجوبه نفسيا ، فلا يعقل انتزاع الشرطية عن الحكم النفسي المتعلق بالمقيد ، ولذا حققنا بأن شرطية شيء للواجب يستحيل أن يكون منتزعا عن التكليف ، بخلاف الجزئية أو الشرطية للتكليف كما لا يخفى ، فتدبر.

فرق في ذلك بين ما إذا لم يكن في البين تكليف نفسي أصلا - كما في لبس مالا يؤكل فإنه لم يتعلق به نهي نفسي مطلقا لا في الصلاة ولا في غير الصلاة لعدم حرمة لبسه في جميع الأحوال - وبين ما إذا كان في البين تكليف نفسي أيضا - كما في لبس الحرير - فإنه قد اجتمع فيه كل من الخطاب الغيري والخطاب النفسي ، لحرمة لبس الحرير على الرجال مطلقا في الصلاة وغيرها ، ولكن منشأ انتزاع شرطية عدم لبس الحرير في الصلاة ليس هو النهي النفسي ، بل هو النهي الغيري ، فكل من الشرطية والحرمة مستقلة في الجعل ، وليس جعل الشرطية بتبع جعل الحرمة ، بل كل منهما مجعول في عرض الآخر ، فالشك في جعل أحدهما لا يكون مسببا عن الشك في جعل الآخر ، وحينئذ يكون كل منهما مجرى لأصالة البراءة عند الشك فيهما ، ولا يغني جريان الأصل في أحدهما عن جريانه في الآخر ، فلو فرض أنه مورد شك في حرمة لبس الحرير وشرطية عدمه في الصلاة ، فأصالة البراءة تجري في كل من الشرطية وحرمة اللبس على حدة ، كما إذا انحصر الشك في أحدهما فقط ، لاستقلال كل منهما بالوضع والرفع الشرعي ، وذلك واضح ، هذا كله إذا كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف الغيري.

وإن كان منشأ انتزاعها هو التكليف النفسي :

فتارة : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف الواصل إلى المكلف ، كما هو أقوى الوجهين في باب الغصب ، فان اشتراط عدمه في الصلاة إنما هو لأجل وقوع

ص: 191

المزاحمة بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة وتغليب جانب النهي ، ومن المعلوم : أن تقديم أحد المتزاحمين على الآخر إنما هو في صورة تنجز التكليف بالمتزاحمين ، وإلا لم يقع التزاحم بينهما (1) كما أوضحناه في محله.

وأخرى : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي بوجوده الواقعي وإن لم يتنجز ولم يصل إلى المكلف.

فعلى الوجه الأول : تدور الشرطية مدار تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بالعلم وما يقوم مقامه ، ومع عدم العلم به لا شرطية واقعا ، لعدم تحقق منشأ انتزاعها ، فعند الشك في التكليف النفسي يرتفع موضوع الشرط ويقطع بعدمه وجدانا ، ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة عن الشرطية ، لأنه يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، كما لا يخفى

وأما على الوجه الثاني : ( وهو ما إذا كان منشأ انتزاع الشرطية نفس التكليف بوجوده الواقعي ) فالشك في التكليف النفسي يلازم الشك في الشرطية ، لأنه يحتمل ثبوت التكليف واقعا ، والمفروض : كون الشرطية تتبع وجوده الواقعي ، وحينئذ لابد من علاج الشك في الشرطية.

فقد يكون الأصل الجاري في طرف التكليف بنفسه رافعا للشك في الشرطية ، وذلك فيما إذا كان الأصل الجاري لنفي التكليف من الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب ، فان شأن الأصل المحرز هو رفع التكليف الواقعي ظاهرا ، والمفروض : أن الشرطية مترتبة على وجود التكليف الواقعي ،

ص: 192


1- أقول : قد تقدم منا بأن التكليفين بشيء مثل باب الصلاة والغصب إنما يكون تضادهما بنفس ذاتهما مع قطع النظر عن مقام تنجزهما. نعم : في المتضادين أمكن دعوى تضادهما في عالم المحركية المساوق للوصول إلى مرتبة التنجز، وأين هذا بباب اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع؟ وعلى الجواز فلا مضادة بينهما حتى في مرحلة التنجز ، إلا بتوهم بعيد ، من عدم صلاحية المأمور به للمقربية مع اقترانه مع المبعد ، وهو فاسد أيضا ، كما لا يخفى.

فبرفعه ترتفع الشرطية أيضا لا محالة ، ولا يبقى مجال لجريان الأصل في طرف الشرطية ، لان الأصل الجاري في الشك السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، هذا إذا كان الأصل الجاري لنفي التكليف من الأصول المحرزة.

وإن كان من الأصول الغير المحرزة - كأصالة الحل والبراءة - فالأصل الجاري في طرف التكليف لا يغني عن جريان الأصل في طرف الشرطية ، بل لابد من جريان الأصل فيها مستقلا ، كما إذا لم تكن الشرطية منتزعة عن التكليف النفسي ، فان أصالة الحل والبراءة لا تتكفل رفع التكليف الواقعي ليلزمه رفع الشرطية ، بل أقصى ما تقتضيه أصالة الحل والبراءة هو الترخيص في الفعل والترك ، فيبقى الشك في الشرطية على حاله ، وعلاجه منحصر بجريان الأصل فيها.

فظهر مما ذكرنا : أن ما أفاده الشيخ قدس سره قبل تنبيهات الأقل والأكثر بأسطر : من أن الأصل الجاري لنفي التكليف يغني عن جريانه في طرف الشرطية ، على إطلاقه ممنوع ، بل ينبغي التفصيل بين ما إذا كان الأصل الجاري في طرف التكليف من الأصول المحرزة أو من غيرها - بالبيان المتقدم - فتأمل جيدا.

تتمة :

لا فرق في جريان البراءة الشرعية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في باب الاجزاء والشروط والموانع بين أن يكون منشأ الشك في وجوب الأكثر فقد النص أو إجماله ، فان وجود النص المجمل في المسألة لا يمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية واللفظية ، إلا في المخصص المجمل المتصل بالعام ، فان إجماله يسري إلى العام ويوجب عدم انعقاد الظهور له.

وأما فيما عدا ذلك من موارد إجمال النص ، فلا مانع من الرجوع فيها إلى

ص: 193

أصالة العموم أو الاطلاق ، فضلا عن الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال ، فقيام النص المجل على وجوب الأقل والأكثر لا يمنع عن جريان البراءة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون الاجمال في نفس متعلق التكليف - كما لو تردد مفهوم الاكرام الواجب بقوله : « أكرم العلماء » أو المحرم بقوله : « لا تكرم الفساق » بين أن يكون هو خصوص الضيافة أو مع زيادة التحية - أو يكون الاجمال في متعلق المتعلق ، كما لو تردد مفهوم العالم بين من كان له ملكة الفقه فقط أو بزيادة ملكة النحو ، وكما لو تردد مفهوم الفاسق بين من كان مرتكب الصغيرة أو بزيادة ارتكاب الكبيرة ، ففي جميع ذلك يؤخذ بالمتيقن ويرجع في المشكوك إلى أصالة البراءة ، سواء كان المتيقن هو الأقل - كما في متعلقات التكاليف الوجوبية فان المتيقن من تعلق التكليف به في قوله : « أكرم العلماء » هو الضيافة وأما التحية فيشك في تعلق التكليف بها - أو كان المتيقن هو الأكثر ، كما في متعلقات التكاليف التحريمية ، وكما في موضوعات التكاليف مطلقا وجوبية كانت أو تحريمية ، فان المتيقن من تعلق النهي به في قوله : « لا تكرم الفساق » هو الضيافة بضميمة التحية ، وأما الضيافة فقط فيشك في تعلق النهي بها ، وكذا المتيقن من الموضوع في قوله : « أكرم العلماء » هو من كان له ملكة الفقه والنحو ، والمتيقن من الموضوع في قوله : « لا تكرم الفساق » هو من كان مرتكب الكبيرة والصغيرة معا ، وأما من كان له ملكة الفقه فقط ومن كان مرتكب الصغيرة فقط ، فيشك في وجوب إكرامه أو حرمة إكرامه ، لعدم العلم باندراجه في عموم « أكرم العلماء » أو في عموم « لا تكرم الفساق » والأصل البراءة عن وجوب إكرام الأول وحرمة إكرام الثاني.

ففي مثل قوله : « لا تكرم الفساق » يجوز الضيافة مع التحية لمرتكب الصغيرة فقط ، فإنه وإن علم بتحقق الاكرام ، إلا أنه يشك في تعلقه بالفاسق ، لاحتمال أن يكون لارتكاب الكبيرة دخل في صدق الفاسق ، وكذا يجوز الضيافة فقط

ص: 194

لمرتكب الصغيرة والكبيرة ، فإنه وإن علم بضيافة الفاسق ، إلا أنه يشك في تحقق الاكرام المنهي عنه ، لاحتمال أن يكون للتحية دخل في الاكرام.

والسر في ذلك : هو أن متعلقات التكاليف وموضوعاتها إنما هي المسميات والمعنونات الخارجية لا المفاهيم والعناوين (1) فان المفهوم والعنوان غير قابل لتعلق الامر أو النهي به ، بل المأمور به والمنهي عنه في قوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » هو واقع الاكرام وحقيقته المتعلق بواقع العالم ، وكذا المأمور به في قوله تعالى : « أَقِيمُوا الصَّلَاةَ » هو حقيقة الصلاة وما هو الصادر عن المكلف خارجا : من القراءة والركوع والسجود وغير ذلك من الاجزاء التي تحمل عليها الصلاة عند اجتماعها ، وليس المأمور به مفهوم الصلاة وعنوانها.

فما ربما يتوهم : من أنه لابد من إحراز انطباق مفهوم الصلاة مثلا على المأتي به خارجا ، فلا يجوز الاقتصار على الأقل المتيقن ، للشك في صدق الصلاة عليه

واضح الفساد ، فان الذي لابد منه هو الاتيان بمتعلق الامر وما هو المطالب به خارجا ، وليس هو إلا الافعال الخارجية (2) والمقدار المتيقن من تعلق الطلب

ص: 195


1- أقول : ما هو الصادر خارجا ليس إلا معلول الإرادة ، فكيف يعقل أن يكون موضوعه السابق عنها رتبة؟ نعم : في متعلقات التكليف - كالعالم وغيره - والعناوين المأخوذة في المكلف مثل « من استطاع » مثلا كون المتعلق والموضوع نفس المعنون خارجيا أو العنوان فرع الكلام في فعلية الإرادة ، فان كان المدار على المرتبة المحركية الفعلية ، فلا محيص من كون الموضوع هو المعنون بوجوده خارجا ، ولكن هذا المعنى غير مأخوذ في مدلول الخطاب الواقعي المحفوظ قبل مرتبة التنجيز ، إذ قبل قيام الطريق إليه لا يبلغ الخطاب إلى مرتبة المحركية بحكم قبح العقاب بلا بيان ، ولا يبقى حينئذ إلا مرتبة فعلية الاشتياق القابلة للتحريك ، ومثل هذا المعنى لا يحتاج فعلية وجوده إلى وجود الموضوع خارجا ، بل يكفي في مثله وجودها في لحاظ الآمر ، ومن هذه الجهة أنكرنا القضية الحقيقية في الخطابات التكليفية الواقعية المحفوظة قبل رتبة التنجيز كما لا يخفى ، فتدبر.
2- 2 - أقول : بناء على ارتباطية حقيقة الصلاة وأن المأمور به هو هذا المعنون المتقوم بالاتيان المزبور بتمامه يجيء الاشكال المزبور بأن المأتي به يشك في كونه مأمورا به ، وحينئذ لابد من علاج هذا الاشكال على المسلكين. وحله بان القطع بتعلق الامر بواقع الصلاة أو بعنوانه لا يقتضي إلا الخروج عن تبعات إضافة الامر إليه ، لا تحصيل الجزم بكون المأتي به هو الصلاة المأمور به بعنوانها أو معنونها ، كما لا يخفى.

به هو الأقل ، وأما الأكثر فيشك في تعلق الطلب به ، والأصل البراءة عن وجوبه ، ومجرد الشك في صدق المفهوم على المأتي به لا يقتضي المنع عن جريان البراءة ، لما عرفت : من أن المأمور به ليس هو العنوان المفهوم لكي يلزم إحراز انطباق المفهوم والعنوان على المأتي به ، ولا فرق في ذلك بين أن نقول : بوضع ألفاظ العبادات للصحيح أو للأعم ، فإنه في الرجوع إلى الأصول العملية لا يتفاوت الحال بين الوضع للصحيح (1)أقول : لا قصور فيه لو كان الجامع قابلا لان يشار إليه بتوسط الملاك.(2) أو للأعم.

وإنما تظهر الثمرة بين القولين في الرجوع إلى الأصول اللفظية : من أصالة العموم والاطلاق ، فإنه على القول بالوضع للصحيح يحصل الاجمال في المعني ، لاحتمال أن يكون لما شك في اعتباره دخل في الصحة ، فلم يحرز موضوع العام لكي يرجع إليه ، وأما على القول بالوضع للأعم فيصح التمسك بالعام لنفي ما شك في اعتباره إذا لم يكن له دخل في التسمية عرفا وكان المتكلم في مقام البيان ، على ما أوضحناه في محله.

فتحصل : أن إجمال النص في باب الأقل والأكثر الارتباطي كإجماله في ساير الأبواب لا يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لولا إطلاق أدلة التخيير في

ص: 196


1- لا يخفى أن جريان البراءة عن الأكثر إنما يتوقف على أن يكون بين الافراد الصحيحة جامع خطابي ، ويكون ذلك الجامع من الافعال الصادرة عن المكلف ابتداء من دون أن يكون الفعل الصادر سببا توليديا له ، وإلا كان مجرى الاشتغال لا البراءة ، ولا يكفي الجامع الملاكي ، فان الملاك غير قابل لان يتعلق التكليف به ، كما تقدم. وفي تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة على وجه لا يرجع إلى الملاك ولا إلى المسبب التوليدي إشكال
2- وتفصيله موكول إلى محله ( منه ).

باب تعارض الاخبار كان الحكم عند تعارض النصين في وجوب الأكثر هو التساقط والرجوع إلى البراءة ، إلا أن إطلاق أدلة التخيير تعم مورد تعارض النصين في وجوب الأكثر ، فللمجتهد الفتوى على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، وللمقلد العمل على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الفقهية ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) في محله.

نعم : هنا بحث آخر قد تعرض له الشيخ قدس سره في المقام وفي باب التعادل والتراجيح ، وهو أن التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين هل يختص بما إذا لم يكن في البين إطلاق أو عموم موافق لأحدهما؟ بحيث كان المرجع بعد التساقط لولا أدلة التخيير هو الأصول العملية ، فلو كان هناك عام موافق فالعمل لابد وأن يكون على طبق العام لا التخيير (1) أو أن التخيير في الاخذ

ص: 197


1- 1 - أقول : بعدما كان مفاد أدلة التخيير في المتعارضين الوجوب التخييري لا صرف الارشاد إلى التخيير في العمل ، كيف! وهو خلاف ظاهر أمره بالتخيير بقوله : « إذن فتخير » فلا محيص حينئذ من تطبيقه على مورد يمكن مخالفة هذا الامر ، وهو لا يكون إلا في صورة التمكن عن مخالفة مفاد المتعارضين ، وبعد فرض انتهاء الامر في تعارض الخبرين إلى النفي والاثبات اللتين هما من النقيضين يستحيل تصور الوجوب التخييري في مثله ، كي ينتهي الامر إلى التخيير في المسألة الفرعية ، بل التخيير المتصور فيه هو مجرد التخيير العملي الذي هو مفاد البراءة ، أو التخيير في المسألة الأصولية الراجع إلى الامر بأخذ كل واحد في استطراقه إلى الواقع ، كي ينتج بعد الاخذ تعين الحجة والطريق له ، فإذا كان كذلك ، فنقول ، إن المتعين بظاهر الامر في المولوية هو الأخير ، لا الأوليين ، وبعد ذلك نقول : إنّ من المعلوم: أنّ حجّيّة كلّ واحد قبل الأخذ به محال، و لازمه تحيّر المكلف قبل الأخذ بواحد منهما، غاية الأمر أمكن للمكلّف رفع تحيّره بواحد منهما بعد أخذه، و حينئذ لو بنينا على قصر اقتضاء حجيّة العامّ على طرف لم يرد على خلافه حجّة أقوى صدق هذا المعنى قبل الأخذ بواحد منهما، و عليه فلو كان الأمر بالتخيير مختصّا بالمتحيّر العقلي فلا يشمل المقام، لوجود العام في رفع تحيّره، و إن قلنا بعدم اختصاصه يشمل المقام، فيسقط العامّ بعد الأخذ بالمخالف عن الحجّيّة لوجود الحجّة الأقوى على خلافه، و لا معنى حينئذ لمرجّحيّة العام. نعم: لو بنينا على اقتضاء العموم للحجيّة و أنّ الحجّة الأقوى من باب وجود الأقوى في المتزاحمين أمكن أن يقال : مع إمكان الاخذ بظهور العام - ولو بالأخذ بما يوافقه العقل - يحكم بالأخذ بظهور العام وترجيح ما يوافق في الاخذ على وجود الاخذ المخالف للعام ، لاقوائيته ، وهذا هو الأقوى.

بأحدهما لا يختص بذلك؟ بل يعم صورة وجود المطلق أو العام الموافق لأحدهما - كما إذا تعارض الخبران في وجوب إكرام زيد العالم مع قيام الدليل على وجوب إكرام مطلق العالم - أو يفصل بين أن يكون التخيير في المسألة الفقهية فالمرجع هو العام الموافق لأحدهما وبين أن يكون التخيير في المسألة الأصولية فالمرجع هو إطلاق أدلة التخيير؟ ولا يرجع إلى العام الموافق إلا إذا قلنا : بأن العام يصلح لان يكون مرجحا لما وافقه من الدليلين المتعارضين فيرجع إلى العام ، لكن لا لكونه مرجعا كما في الوجه الأول ، بل لكونه مرجحا للدليل الموافق له كسائر المرجحات الاخر.

فقد يتوهم : أن إطلاق أدلة التخيير يعم صورة وجود العام أو المطلق الموافق لاحد المتعارضين. ولكن يضعف : بأن الموضوع في أدلة التخيير هو « المكلف المتحير الذي لم يقم عنده دليل اجتهادي يصح التعويل عليه » والعام الموافق لأحدهما صالح لان يعول عليه ، فان قوله : « أكرم العلماء » يعم زيد العالم ولم يثبت تخصيصه بقوله : « لا تكرم زيدا العالم » لأنه معارض بقوله : « أكرم زيدا العالم » والمخصص المبتلى بالمعارض وجوده كعدمه غير قابل لان يمنع عن أصالة العموم ، بل أصالة العموم تبقى سليمة عن المانع ويصح التعويل عليها ، فلا يبقى موضوع لأدلة التخيير.

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن إطلاق أدلة التخيير وعدم شمولها لمورد وجود العام الموافق لاحد المتعارضين.

وقد عدل عنه بعد ذلك بقول : « ولكن الانصاف » واختار (1) التفصيل

ص: 198


1- لا يخفى : أن عبارة الشيخ قدس سره في المقام لا تخلو عن اضطراب فان صدر كلامه يعطي عدم الفرق بين القول بالتخيير في المسألة الأصولية أو الفقهية ، لان الظاهر من قوله : « ولكن الانصاف أن أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الأصولية » هو الاطلاق بقرينة « إن » الوصلية ، وظاهر ذيل كلامه يعطي التفصيل بين القولين ، فراجع العبارة وتأمل فيها ( منه )

بين القول بالتخيير في المسألة الفقهية والقول بالتخيير في المسألة الأصولية.

وحاصل ما أفاده في وجه التفصيل - بتحرير منا - هو أن القول بالتخيير في المسألة الفقهية يرجع إلى سقوط كل من المتعارضين عن الحجية رأسا وفرض المسألة خالية عن الحجة ، فيكون التخيير في تطبيق العمل على أحدهما من جهة عدم قيام الدليل على تعيين كيفية العمل وما هو وظيفة المكلف ، ومع وجود العام الموافق لاحد المتعارضين لا يبقى مجال للتخيير في العمل ، لان المسألة لم تخلو عن الحجة ، لان العام حجة معين لكيفية العمل من دون أن يكون له مزاحم ، لسقوط مزاحمه بالمعارضة ، فلا محيص عن الرجوع إلى العام.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، فان التخيير في المسألة الأصولية يرجع إلى التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وجعله طريقا ووسطا لاثبات الواقع ، كما إذا كان وحده ولم يكن له معارض ، فالمسألة لم تخلو عن الحجة رأسا ، بل لكل من المتعارضين حظ من الحجية ولو في صورة اختياره والاخذ به ، فالمخصص يزاحم العام في الحجية ولو في الجملة (1) ولم يسقط عن الحجية رأسا ، ومعه لا يبقى مجال للرجوع إلى العام ، بل لابد من التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين ، لسقوط أصالة العموم عن الحجية ، فتأمل ، ولتفصيل الكلام محل آخر.

ص: 199


1- أقول : قد تقدم أنه لو بنينا على اختصاص أدلة التخيير بالتخيير العقلي ، فقبل الاخذ بواحد منهما كان العام حجة ، فلا تحير في البين ، فلا تخيير. نعم : لو لم يكن دليل التخيير مختصا بالمتحير كان لما أفيد وجه ، ولكن ذلك أيضا على فرض قصر اقتضاء حجية العام بعدم وجود الأقوى ، وإلا فعلى فرض فعلية حجيته لا اقتضائه فلا يبقى مجال لسقوط العام عن الحجية ، بل كان موجبا للقوة ومرجحا للموافق ، كما لا يخفى.
الفصل السادس: في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية

وقد تقدم : أن الشيخ قدس سره أرجع الشبهة الموضوعة في باب الأقل والأكثر الارتباطي إلى ما يرجع إلى الشك في المحصل ، كما يظهر من تمثيله للشبهة الموضوعية بالشك في جزئية شيء للطهور الرافع للحدث ، ومن التزامه بأصالة الاشتغال فيها على خلاف ما التزم به في المسائل الثلاث المتقدمة في الشبهة الحكمية ، فإنه قال فيها بأصالة البراءة.

ولكن كان الأنسب بترتيب المباحث إفراد كل من الشك في المحصل والشبهة الموضوعية بالبحث ، لتكون مسائل الشك في باب الأقل والأكثر على طبق مسائل الشك في باب المتباينين ، ويبحث في المسألة الرابعة عن حكم تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وكأنه قدس سره غفل عن ذلك أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.

والتحقيق : أنه يمكن فرض الشبهة الموضوعية في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لها تعلق بالموضوعات الخارجية.

وتوضيح ذلك : هو أن التكليف بما يكون له تعلق بالموضوع الخارجي - كالتكليف بإكرام العالم وإهانة الفاسق - يختلف متعلقه سعة وضيقا على حسب ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فان دائرة الاكرام تتسع بمقدار ما للعلماء من الافراد خارجا ، لان زيادة أفراد العلماء في الخارج توجب زيادة في

ص: 200

الاكرام الواجب ، فكلما كثرت أفراد العلماء خارجا اتسعت دائرة الاكرام.

ومن المعلوم : أن الشك في عالمية بعض الافراد يستتبع الشك في وجوب إكرامه ، فلو علم بمقدار من أفراد العلماء خارجا وشك في عالمية بعض ، فالاكرام الواجب يتردد بين الأقل والأكثر ، لأنه يعلم بوجوب مقدار من الاكرام على حسب مقدار ما علم من أفراد العلماء ويشك في وجوب الاكرام الزائد ، للشك في موضوعه.

وهذا من غير فرق بين لحاظ العلماء في قوله : « أكرم العلماء » مجموعيا أو استغراقيا ، فإنه على كلا التقديرين يتردد الاكرام الواجب بين الأقل والأكثر عند العلم بمقدار من أفراد العلماء والشك في عالمية بعض (1).

ص: 201


1- أقول : إن الشبهة في المصداق تارة : من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى ، وأخرى : من جهة الشك في وجود ما اتصف به ، فعلى الأول - فتارة : يكون دليل الكبرى معينة من حيث الحدود المأخوذ في موضوع الكبرى نظير عنوان عشرة عالم وأمثاله ، وأخرى : مبهمة قابلة للانطباق على الأقل والأكثر ، فعلى الثاني - لا شبهة في أن الشبهة لمصداقية موجب للترديد في مقدار إرادة المولى من الكبرى ، لان إبهامه موجب للشك في أن مقدار إرادة المولى قائم بالأقل أو الأكثر ، ففي هذه الصورة صدق الترديد في سعة الحكم وضيقه من جهة نفس الخطاب وإبهامه ، غايته هذه الجهة من الترديد جاء من الخارج لا من ناحية المولى ، بل ربما لا يدري المولى أيضا مقدار إرادته في خطابه ، ولعمري! ان مثل هذه الجهة من الشبهة المصداقية أجنبية عن محل كلام شيخنا العلامة ، إذ محط كلامه إنما هو في صورة تمحض الشك في مقدار الإرادة من غير جهة الخطاب وإبهامه ، فلابد من فرضه في صورة تعين مقدار الإرادة من ناحية الخطاب ، وإنما كان الشك في وجوب الأقل والأكثر في عالم التطبيق محضا فيحمل بين الهلالين أو الشك في المحقق ، وإلا فالصورة المقرر في المثال كالنار على المنار. وجفاء نسبة الغفلة فيه إلى خريط هذه الصنعة. و بعد ذا نقول: لا مجال لهذين المثالين أيضا، إذ بين الهلالين أيضا من حيث الحدّ مبهمة ككليّ عالم. و أمّا الشكّ في المحقّق: ففي السبب شبهة حكميّة و في المسبّب شبهة موضوعيّة لأمر بسيط لا الأقلّ و الأكثر، كما أنّ في الشبهة المصداقيّة للعشرة مع انحصار الأمر بالمشكوك فالأقلّ غير معلوم الوجوب، و مع عدم انحصاره و إن يتصوّر الشكّ في الأقلّ و الأكثر، إلّا أنّ الأكثر طرف الشكّ في الإيجاب تخييرا، و هو خارج عن محلّ الفرض، كما أنّ في الشبهة الموضوعيّة من جهة الشكّ في الوجود، فمع الشكّ في أصل الوجود لا يكون أقلّ معلوم الوجوب و أكثر مشكوك، و مع الإتيان بمقدار منه و الشكّ في وجود البقيّة لا يكون الأقلّ معلوم الوجوب، بل يقطع بسقوطه، فلا يتصوّر في هذه المقامات الشكّ في وجوب الأقلّ أو الأكثر في مقام المصداق زائدا عن مرحلة الكبرى، إلّا في موارد دوران الأمر في تحصيل الفراغ عمّا هو الواجب بين وجوب تمام الصلاة أو إتمامه من جهة الشكّ في فوت ركن أو غيره مع عدم أصل يحرز أيّهما، فتدبّر في مباحث الخلل.

غايته أنه إن لوحظ العلماء على نحو العام الاستغراقي يرجع الشك في ذلك إلى الشك بين الأقل والأكثر الغير الارتباطي ، لان وجوب إكرام ما شك في كونه من أفراد العلماء واقعا لا ربط له بوجوب إكرام ما علم من أفراد العلماء خارجا ، لانحلال التكليف إلى تكاليف متعددة حسب تعدد أفراد العلماء ، ويكون لكل تكليف إطاعة وعصيان يخصه ، كما هو الشأن في كل عام استغراقي ، فلا دخل لاكرام أحد الافراد بإكرام الفرد الآخر.

وإن لوحظ على نحو العام المجموعي يرجع الشك في عالمية بعض إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، فإنه لم يتعلق التكليف الاستقلالي بإكرام ما يشك في كونه من أفراد العلماء على تقدير أن يكون من أفراد العلماء واقعا ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام كل فرد من العلماء بمنزلة الجزء لاكرام ساير العلماء - كجزئية السورة للصلاة - فان الاخلال بإكرام أحد الافراد يوجب الاخلال بإكرام الجميع ، ويتحقق عصيان التكليف بذلك ، لان معنى العام المجموعي هو لحاظ الافراد المتباينة مرتبطة بعضها ببعض يقوم بها ملاك واحد ، فيكون كل فرد من أفراد العلماء بمنزلة الجزء لساير الافراد يتوقف امتثال التكليف على إكرام الجميع ، فالشك في وجوب إكرام بعض الافراد يكون كالشك في وجوب السورة يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، غايته أن التكليف

ص: 202

بالسورة ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، فلا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية فيها ، بل لابد وأن تكون حكمية ، بخلاف الشك في وجوب إكرام من يشك في كونه من أفراد العلماء ، فان الشبهة فيه موضوعية.

فظهر : أن تردد نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية أمر بمكان من الامكان ، وأمثلته في الفقه كثيرة :

منها : ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره ، فان مانعية غير المأكول تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الافراد خارجا ويكون كل فرد منه مانعا برأسه ، فان الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي الانحلالية ، فكما أن النواهي النفسية كقوله : « لا تشرب الخمر » ينحل إلى النواهي المتعددة بعدد ما للخمر من الافراد خارجا ، كذلك النواهي الغيرية كقوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الافراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة فتتكثر القيود العدمية بمقدار ما للغير المأكول من الافراد ، ويكون قوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » بمنزلة قوله : « لا تصل في هذا الفرد ولا تصل في ذلك الفرد » وهكذا.

فلو شك في اتخاذ اللباس من غير المأكول يرجع الشك إلى الشك في مانعية ذلك اللباس وأخذ عدمه قيدا في الصلاة ، فيؤول الامر إلى الشك بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، للعلم بمانعية ما علم اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه والشك في مانعية ما يشك في اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه.

والكلام فيه عين الكلام في الاجزاء والشرائط ، من حيث جريان البراءة الشرعية في القيدية الزائدة المشكوكة وعدم جريان البراءة العقلية فيها ، إذ لا فرق بين الاجزاء والشرائط والموانع في مناط جريان البراءة.

نعم : في الاجزاء لا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية ، لان التكليف بها

ص: 203

ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، وفي الشرائط وإن كان يمكن تحقق الشبهة الموضوعية فيها ، إلا أنه لا يرجع الشك فيها إلى الشك بين الأقل والأكثر ، لان الشرطية لا تنحل إلى شروط متعددة بمقدار ما للموضوع من الافراد خارجا ، فان التكليف في باب الشروط إنما يتعلق بالوجود ، ولا يمكن التكليف بايجاد المتعلق في كل ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فلو فرض أن كون اللباس من مأكول اللحم شرط في الصلاة لا أن غير المأكول مانع ، فلا يمكن التكليف بايجاد الصلاة في كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، بل ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإيجاد الصلاة في فرد ما من اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولابد من إحراز وقوع الصلاة في ذلك - كما هو الشأن في كل شرط حيث إنه يلزم إحرازه - فلا تجوز الصلاة فيما شك في كونه من مأكول اللحم بناء على شرطية اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولا تجري في ذلك البراءة ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد يجب الخروج عن عهدته ، فالشبهة الموضوعية في باب الشروط لا ترجع إلى الأقل والأكثر.

وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية في باب الموانع فإنها ترجع إلى الأقل والأكثر ، لان التكليف فيها إنما يتعلق بالعدم ، ويمكن أن يكون عدم كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من غير المأكول قيدا في الصلاة وأخذ وجوده مانعا عنها ، فتجوز الصلاة في ما شك في أخذه من غير المأكول.

وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في رسالة مفردة ، ولهذا طوينا البحث في هذا المقام اعتمادا عليها ، ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إليها ، فإنها قد تضمنت من التحقيقات مالا تصل إليها ذوي الافهام السامية ، فشكر اللّه مساعي شيخنا الأستاذ - مد ظله - فلقد أودع في أذهاننا من نفائس الآراء ما تحير في دركه الأفكار! وتقف دونه الأنظار.

* * *

ص: 204

الفصل السابع: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية
اشارة

والمراد من المركب التحليلي : هو ما إذا لم يتوقف اعتبار الخصوصية الزائدة المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا واثباتا. ويقابله المركب الخارجي : وهو ما إذا توقف اعتبار الخصوصية المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا وإثباتا.

وتوضيح ذلك : هو أن الخصوصية الزائدة المشكوكة

تارة : تحتاج في مقام اعتبارها وأخذها في متعلق التكليف أو في موضوعه إلى لحاظ يخصها في عالم الجعل والثبوت ، وإلى بيان زائد في عالم الايصال والاثبات ، سواء كان اعتبارها على وجه الجزئية أو الشرطية ، وسواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط خارجا غير متحد معه وجودا - كاشتراط الطهارة في الصلاة - أو كان منشأ الانتزاع أمرا داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود - كاشتراط الايمان في الرقبة - ففي جميع هذه الوجوه تحتاج الخصوصية الزائدة إلى لحاظها ثبوتا وإلى بيان زائد يخصها إثباتا.

بداهة أن أخذ السورة جزء في الصلاة والطهارة شرطا لها والايمان قيدا في الرقبة يتوقف على تصور السورة والطهارة والايمان في مقام الامر بالمركب وتأليف أجزائه ، ولا يمكن أن تكون السورة والطهارة والايمان جزء أو قيدا للمركب بلا لحاظها مستقلا ، هذا في عالم الجعل والثبوت. وكذا في عالم الاثبات يتوقف بيان اعتبارها في المأمور به على تأديتها بمؤنة زائدة ، ولو بمثل قوله : « صل مع السورة » أو « مع الطهارة » أو « أعتق رقبة مؤمنة ».

ص: 205

وأخرى : لا تحتاج الخصوصية المشكوكة في مقام اعتبارها وأخذها في المتعلق أو الموضوع إلى لحاظ يختص بها ثبوتا ، وإلى بيان زائد إثباتا ، وذلك كما لو تردد متعلق التكليف أو موضوعه بين الجنس والنوع - كالحيوان والانسان - فان النوع وإن اشتمل على خصوصية زائدة يكون الجنس فاقدا لها وهي الصورة النوعية التي تقوم بها حقيقة الشيء ، إلا أنه في عالم الثبوت لا يحتاج إلى لحاظين : لحاظ الجنس ولحاظ الصورة النوعية بلحاظ مستقل مغاير ، بل يكفي لحاظ النوع بماله من المعنى البسيط ، وكذا في مقام الاثبات لا يحتاج إلى بيان كل من الجنس والصورة ببيان على حدة ، بمثل قوله : « أكرم حيوانا ناطقا » بل يمكن تأدية المأمور به ببيان واحد ، بقوله : « أكرم إنسانا » (1) وتركب الانسان من

ص: 206


1- أقول : لازم ما أفيد أنه لو فرض كون لسان الدليل وجوب إكرام حيوان الناطق مع احتمال كون ذكر الناطقية من باب كونه أكمل أفراده بلا خصوصية فيه أو أنه من باب دخل الناطقية في مطلوبيته ، لابد وأن يلحق مثل هذه الصورة أيضا بالشرط والمشروط ، غاية الامر كان المقيد متحدا مع قيده في الوجود ، ومجرد التمكن من أداء غرضه بعنوان آخر لا يخرج المثال عن الأقل والأكثر ، بل لابد وأن يفصل بين صورة كون لسان الدليل عنوانا مركبا كما ذكرنا ، أو عنوانا بسيطا مثل الانسان والحيوان ، ولا أظن أحدا يفصل بين الصورتين ، وذلك يكشف عن أن وجه الاحتياط ليس مجرد تباين العنوانين عرفا ، كيف؟ والعرف لا يرى بين الحيوان والحيوان الناطق إلا من باب الأقل والأكثر بل عمدة النكتة في وجه الاحتياط في الفرضين هو أن من المعلوم : أن النوع سواء كان بعنوانه البسيط أو بعنوانه المركب التحليلي ليس نسبته من الجنس المطلق القابل للانطباق على فرد آخر من قبيل الأقل والأكثر ، إذ ميزان الأقل والأكثر كون الأقل بجميع حدوده غير حد القلة في ضمن الأكثر ، ومن البديهي أن ما هو في ضمن النوع ليس الحيوان على الاطلاق ، بل ليس في ضمنه إلا حصة منه المبائن مع الحصة في ضمن فرد آخر ، وما هو من قبيل الأقل والأكثر هو النوع مع هذه الحصة لا مع الطبيعة القابلة للانطباق على حصص متباينة ، فلا جرم ينتهي الامر في مثل المقام بحسب الدقة العقلية إلى العلم الاجمالي بين حرمة ترك الفرد الآخر مقرونا بترك النوع أو حرمة تفويت خصوصية النوع ، ومثله يكون العلم بالدقة من العلم بين المتبائنين ، لا الأقل والأكثر ، وحينئذ لا يلزم على مثل الشيخ القائل بالبرائة العقلية أن يقول بالبرائة في المقام. ثمّ إنّ ما أفيد في وجه عدم جريان البراءة النقليّة بحكم العرف بالتباين بين العنوانين أن يلزم علاوة عمّا أوردنا: من أن لازمه المصير في المقام بين كون لسان الدليل إنسانا أو حيوانا ناطقا- إذ العرف لا يرى بين الحيوان و الحيوان الناطق فرقا- يرد عليه أيضا ان لازمه التفصيل بين كون العنوان الآخر في قبال الرقبة «الرقبة المؤمنة» أو «المؤمنة» محضا، فانّ العرف بين الرقبة و المؤمنة يرى مثل ما يرى بين الحيوان و الإنسان، فتدبّر.

الجنس والفصل إنما يكون عقليا من باب أن كل ما به الاشتراك يحتاج إلى ما به الامتياز ، وليس الانسان مركبا خارجيا نظير التركب من العرض والمعروض.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه كان الأنسب في مقام تحرير الأقسام هو أن يبحث عن الشرط والمشروط في ضمن البحث عن الجزء والكل ، ويعمم المركب الخارجي إلى ما يشمل الشرط والمشروط لاتحادهما في الحكم ، ويختص البحث في المركب التحليلي بما إذا كان من قبيل الجنس والنوع ، ولكن الشيخ قدس سره حيث أهمل هذا القسم ولم يتعرض لحكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع جعل المركب الخارجي مختصا بما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأما الشرط والمشروط فقد جعله من المركب التحليلي ، وقد أطال الكلام في كون الشرط والمشروط ملحقا بالجزء والكل في الحكم وأنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك فيه ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط في الوجود أو متحدا معه وإن كان جريان البراءة في الأول أوضح.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا حاجة إلى تطويل الكلام في إلحاق الشرط بالجزء ، فإنه لا موجب لتوهم الفرق بينهما بعدما كان نسبة حديث الرفع إلى كل منهما على حد سواء ، لان كلا من الشرط والجزء مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، على ما تقدم توضيحه.

ص: 207

فالأولى : عطف عنان الكلام إلى بيان حكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع. والأقوى : أنه يجب فيه الاحتياط ولا تجري البراءة عن الأكثر ، فان الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر ، إلا أنه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين ، لان الانسان بماله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا ، فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الانسان أو الحيوان ، فاللازم هو الاحتياط باطعام خصوص الانسان ، لان نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الانسان والحيوان على حد سواء ، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى ، فيبقى العلم الاجمالي على حاله ولابد من العلم بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بإطعام خصوص الانسان ، لأنه جمع بين الأمرين ، فان إطعام الانسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا.

نعم : بناء على مختار الشيخ قدس سره من جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر وانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، ينبغي أن لا يفرق في ذلك بين ما كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل أو من قبيل الجنس والنوع ، لان النوع في التحليل العقلي مركب من الجنس والفصل فينحل العلم الاجمالي في نظر العقل ، لان نظره هو المتبع في الانحلال ، فتأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث الأقل والأكثر.

بقي التنبيه على أمور :
- الأول -
اشارة

لو شك في ركنية جزء للعمل ، فهل الأصل يقتضي الركنية؟ فيبطل العمل بالاخلال به أو بزيادته ولو نسيانا ، أو لا؟.

ص: 208

وتحقيق ذلك يستدعي تمهيد مقدمة وهي : أنه قد اختلفت كلمات الأصحاب في معنى الجزء الركني وما هو المايز بينه وبين غيره.

فقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب الاخلال به سهوا بطلان العمل من دون أن توجب زيادته ذلك.

وقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب كل من الاخلال به وزيادته سهوا بطلان العمل.

فعلى التفسير الأول : يختص الفرق بين الجزء الركني وغيره في طرف النقيصة فقط ، فان نقص الجزء الركني ولو سهوا يقتضي البطلان ونقص غيره سهوا لا يقتضي البطلان. وأما في طرف الزيادة فلا فرق يبنهما ، لان زيادة كل من الجزء الركني وغيره لا يوجب البطلان.

وعلى التفسير الثاني : يحصل الفرق بينهما في كل من طرف الزيادة والنقيصة ، كما لا يخفى.

وهذا بعد الاتفاق منهم على أن الاخلال بالجزء عمدا يوجب البطلان ، وليس ذلك من لوازم ركنية الجزء ، بل هو من لوازم نفس الجزئية ، فان الاخلال العمدي بالجزء لو لم يقتض البطلان يلزم عدم كونه جزء ، فبطلان العمل بالاخلال العمدي بالجزء لا يلازم ركنيته.

وأما بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا فهو مما لا تقتضيه الجزئية ، بل الزيادة العمدية كالزيادة السهوية تجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، إلا إذا اعتبر الجزء بشرط لا ، فزيادته أيضا تقتضي البطلان ، إلا أن ذلك في الحقيقة يرجع إلى الاخلال بالجزء ، لا إلى الزيادة ، كما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) بيانه.

فتحصل مما ذكرنا : أن نقصان الجزء عمدا لا يجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، وأما نقصان الجزء سهوا فهو يجتمع مع الصحة. كما أن زيادة الجزء عمدا أو سهوا تجتمع مع الصحة.

ص: 209

فالكلام يقع في مقامين :
اشارة

المقام الأول : في اقتضاء نقص الجزء سهوا للبطلان وعدمه.

المقام الثاني : في اقتضاء زيادة الجزء عمدا أو سهوا للبطلان وعدمه.

أما المقام الأول
فالكلام فيه يقع من جهات ثلاث :
اشارة

الأولى : في أنه هل يمكن ثبوتا التكليف بما عدا الجزء المنسي من سائر الأجزاء؟ أو لا يمكن؟.

الثانية : في أنه لو فرض إمكان ذلك في مقام الثبوت ، فهل يكون في مقام الاثبات ما يقتضي التكليف بالمأتي به في حال نسيان الجزء : من دليل اجتهادي أو أصل عملي؟ أو أنه ليس في مقام الاثبات ما يقتضي ذلك؟.

الثالثة : في أنه لو فرض عدم صحة التكليف بما عدا الجزء المنسي ثبوتا أو عدم قيام الدليل على ذلك إثباتا ، فهل هناك دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي الاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان وكونه مجزيا عن الواقع وإن لم يكن مأمورا به؟ أو أنه ليس في البين ما يدل على ذلك؟.

أما الجهة الأولى :

فمجمل الكلام فيها : هو أنه لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسي في حال النسيان ، لعدم القدرة عليه في ذلك الحال ، فلا يعقل التكليف به ، كما لا يعقل التكليف بما عدا الجزء المنسي على وجه يؤخذ « الناسي » عنوانا للمكلف ويخاطب بذلك العنوان ، بداهة أن الناسي لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه ، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان

ص: 210

الناسي ويدخل في عنوان الذاكر ، فلا يمكن أن يكون هذا الخاطب محركا لعضلات المكلف ، لان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف مما لابد منه في الانبعاث وانقداح الإرادة ، فالمستطيع لو لم يجد نفسه مستطيعا لا يكاد يمكن أن يكون الخطاب بالحج محركا لإرادته نحوه ، وحينئذ يقع البحث في أنه كيف يتصور ثبوتا تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي؟.

وما قيل أو يمكن أن يقال في تصوير ذلك أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ما حكاه شيخنا الأستاذ - مد ظله - عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره في مسائل الخلل ، وهو إلى الآن لم يطبع ، وحاصله : يرجع إلى إمكان أخذ الناسي عنوانا للمكلف وتكليفه بما عدا الجزء المنسي ، بتقريب : أن المانع من ذلك ليس إلا توهم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في ذلك الحال فلا يمكنه امتثال الامر المتوجه إليه ، لان امتثال الامر فرع الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف. ولكن يضعف ذلك : بأن امتثال الامر لا يتوقف على أن يكون المكلف ملتفتا إلى ما اخذ عنوانا له بخصوصه ، بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان من باب الخطأ في التطبيق ، فيقصد الامر المتوجه إليه بالعنوان الذي يعتقد أنه واجد له وإن أخطأ في اعتقاده ، والناسي للجزء حيث لم يلتفت إلى نسيانه بل يرى نفسه ذاكرا فيقصد الامر المتوجه إليه بتخيل أنه أمر الذاكر ، فيؤول إلى الخطأ في التطبيق ، نظير قصد الامر بالأداء والقضاء في مكان الآخر ، فأخذ « الناسي » عنوانا للمكلف أمر بمكان من الامكان ولا مانع عنه لا في عالم الجعل والثبوت ولا في عالم الطاعة والامتثال.

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه (1) فإنه يعتبر في صحة البعث والطلب أن يكون

ص: 211


1- 1 - أقول : ما أفيد تمام لو كان عنوان « الناسي » من شرائط توجيه التكليف إلى نفسه بأن يكون بنفسه موضوع الخطاب المستقل ، كما هو ظاهر مقالته. و لنا بيان آخر، و هو أنّ موضوع الخطاب يمكن كونه هو المكلّف و أنّ النسيان مأخوذ في خصوصيّة فرده المتقوّم به فرديّة صلاته بالناقص و أنّ الأمر متعلّق بالجامع بين الزائد و الناقص، غايته كلّ طائفة مختص بصدور فرد خاصّ من الزائد في الذاكر و الناقص في الساهي، ففي مثل هذه الصورة كلّ من الذاكر و الناسي لا يقصد إلّا الأمر بالجامع، فلا قصور حينئذ لدعوة الأمر بالجامع للناسي مع غفلته عن نسيانه المأخوذ في لسان الخطاب لبيان أفراد المكلّفين بالأمر بالطبيعة، كما لا يخفى.

قابلا للانبعاث عنه بحيث يمكن أن يصير داعيا لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو المأمور به ولو في الجملة ، وأما التكليف الذي لا يصلح لان يصير داعيا ومحركا للإرادة في وقت من الأوقات ، فهو قبيح مستهجن.

ومن المعلوم : أن التكليف بعنوان « الناسي » غير قابل لان يصير داعيا لانقداح الإرادة ، لان الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد ، فيلزم أن يكون التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق ، وهو كما لا ترى مما لا يمكن الالتزام به ، وهذا بخلاف الامر بالأداء والقضاء ، فان الامر بهما قابل لان يصير داعيا ومحركا للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء ، لامكان الالتفات إلى كون الامر أداء أو قضاء ويمكن امتثالهما بما لهما من العنوان.

نعم : قد يتفق الخطأ في التطبيق فيهما ، وأين هذا من التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق؟ كما فما نحن فيه ، فقياس المقام بالامر بالأداء أو القضاء ليس على ما ينبغي.

الوجه الثاني : هو ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن اختصاص الناسي بخطاب يخصه بالنسبة إلى ما عدا الجزء المنسي لا يلازم ثبوتا أخذ « الناسي » عنوانا للمكلف حتى يرد عليه المحذور المتقدم ، بل يمكن أن يؤخذ عنوانا آخر يلازم عنوان الناسي مما يمكن الالتفات إليه ، كما لو فرض أن « بلغمي المزاج » يلازم في الواقع نسيان السورة في الصلاة ، فيؤخذ « بلغمي المزاج » عنوانا

ص: 212

للمكلف ويخاطب بهذا العنوان ، والمفروض : أن المكلف يمكن أن يلتفت إلى كونه بلغمي المزاج وإن لم يلتفت إلى ما يلازمه من نسيان السورة ، فان التفكيك في الالتفات بين المتلازمين بمكان من الامكان. فيقصد الناسي للسورة الامر المتوجه إلى ما يلازم نسيان السورة من العنوان الذي يرى نفسه واجدا له.

هذا ، ولكن يرد عليه :

أولا : أن ذلك مجرد فرض لا واقع له ، بداهة أنه ليس في البين عنوان يلازم نسيان الجزء دائما بحيث لا يقع التفكيك بينهما ، خصوصا مع تبادل النسيان في الاجزاء (1) فتارة : يعرض للمكلف نسيان السورة ، وأخرى : يعرض له نسيان التشهد ، وثالثة : يعرض له نسيان الذكر الواجب ، وهكذا بقية الاجزاء ، فدعوى : أن هناك عنوان يلازم نسيان الجزء بما له من التبدل بعيدة جدا. وأبعد من ذلك دعوى : أن هناك عناوين متعددة كل عنوان منها يلازم نسيان جزء خاص.

وثانيا : أن العنوان الملازم للنسيان إنما اخذ معرفا لما هو العنوان حقيقة فالعنوان الحقيقي إنما هو عنوان « الناسي » والذي لابد منه في صحة التكليف هو إمكان الالتفات إلى ما هو العنوان حقيقة ، ولا يكفي الالتفات إلى المعرف ، فيعود الاشكال المتقدم : من عدم إمكان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف واقعا ، فتأمل.

الوجه الثالث : هو ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره أيضا ، وارتضاه

ص: 213


1- أقول : كون « بلغمي المزاج » ملازما مع نسيان الجزء الواحد أو أكثر ثم لا يلزم أخذ عنوان ملازم ، بل من الممكن اخذ عنوان ملائم مع النسيان ، بجعل العنوان « المتذكر لمقدار من الاجزاء الجامع بين البعض والتمام » ولا بأس أيضا بجعل مثل هذا العنوان مرآة إلى الناسي ، ولا يحتاج حينئذ إلى الالتفات بكونه ناسيا ، بل يحتاج إلى الالتفات إلى أن المرئي بهذا العنوان كان « الناسي » أيضا ، وهذا بمكان من الامكان.

شيخنا الأستاذ - مد ظله - وحاصله : أنه يمكن أن يكون المكلف به في الواقع أولا في حق الذاكر والناسي هو خصوص بقية الاجزاء ما عدا الجزء المنسي (1) ثم يختص الذاكر بتكليف يخصه بالنسبة إلى الجزء الذاكر له ، ويكون المكلف به في حقه هو العمل المشتمل على الجزء الزائد المتذكر له ، ولا محذور في تخصيص الذاكر بخطاب يخصه ، وإنما المحذور كان في تخصيص الناسي بخطاب يخصه - كما في الوجهين الأولين - فلا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على الوجهين المتقدمين.

نعم : يختص هذا الوجه باشكال ، وهو أن التكليف بالجزء الزائد لو كان بخطاب يخصه ، فأقصى ما يقتضيه الخطاب المختص بالذاكر هو وجوب ذلك الجزء في حقه ، وأما كونه مرتبطا ببقية الاجزاء بحيث يوجب الاخلال به عمدا بطلان سائر الأجزاء فهو مما لا يقتضيه ذلك الخطاب ، فليكن التكليف بالجزء الزائد من قبيل الواجب في ضمن واجب آخر ، بمعنى أن يكون ظرف امتثاله ظرف امتثال سائر الأجزاء من دون أن يكون بينه وبينها ما يقتضي الارتباطية.

ص: 214


1- أقول : ما المراد من الامر ببقية الاجزاء بعد اختلافها حسب اختلاف نسيانه؟ فان كان عنوان المأمور به عنوان « بقية الاجزاء » فالناسي غير ملتفت إلى هذا العنوان ، وإن كان المراد الامر بأجزاء معينة بمقدار منه للجميع بأي جزء يوجد فالمأمور به يمكن ان يكون هو المنسي ، فتدبر. ثمّ إنّ هذا الإشكال لا يرد على أستاذنا الأعظم، فانّه ما جعل عنوان المأمور به المشترك بين العامد و الناسي كما أفيد في المتن، بل جعل المأمور به الأجزاء الّتي يكون لدليله إطلاق لحال النسيان أيضا، و أنّ الأمر متعلّق بالخالي عمّا شكّ بحسب دليله للشمول لحال النسيان، فان الالتفات إلى مثل هذا العنوان لا يحتاج إلى الالتفات إلى نسيان نفسه، بخلاف ما ذكر من العنوان، و أظنّ أنّ الاختلاف نشأ من سوء التعبير. نعم: الّذي يرد على أستاذنا هو أنّ تصحيح الأمر بالناسي لا يكون مخصوصا بما شكّ في إطلاق دليله لحال النسيان، بل ربّما يجي ء في صورة إطلاق دليله أيضا، غاية الأمر بمثل هذا الدليل يخصّص الإطلاق أيضا بحال الذّكر، فتدبّر.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان وحدة الخطاب وتعدده لا دخل له بالارتباطية وعدمها ، بل الارتباطية بين الاجزاء إنما تنشأ من وحدة الملاك القائم بمجموع الاجزاء ، فرب ملاك لا يمكن أن يستوفى بخطاب واحد ، بل يحتاج إلى خطابين.

بل الذي يظهر من جملة من الروايات : أن التكليف بالصلاة إنما كان بخطابين : خطاب من اللّه ( تعالى ) وخطاب من النبي صلی اللّه علیه و آله (1) ويعبر عن الأول بفرض اللّه ( تعالى ) وعن الثاني بفرض النبي صلی اللّه علیه و آله أو سنته ، والمراد من فرض اللّه ( تعالى ) هو الأركان التي لا تدخلها النسيان ، ومن فرض النبي صلی اللّه علیه و آله هو سائر الأجزاء التي تدخلها النسيان ، فتعدد الخطاب لا يوجب تعدد التكليف والاستقلالية ، بل لابد من ملاحظة منشأ الخطابين ، فان كان هو ملاكا واحدا قائما بمجموع المتعلقين فلا محالة تقع الارتباطية بين المتعلقين ويكون المكلف به هو المجموع من حيث المجموع ، وإن تعدد الملاك واختص كل خطاب بملاك يخصه فيتعدد المكلف به ويستقل كل من المتعلقين بالتكليف ، واستفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج : من إجماع ونحوه.

نعم : لا يبعد أن يكون الأصل في تعدد الخطاب هو تعدد المكلف به على وجه الاستقلالية ، ولكن هذا في غير الخطابات الواردة في باب المركبات ، فان الظاهر منها أن تكون الخطابات المتعددة مسوقة لبيان أجزاء المركب وشرائطه.

فدعوى : أن التكليف بالجزء الزائد لو كان بخطاب يختص بالذاكر يلزم أن يكون الجزء الزائد واجبا مستقلا غير مرتبط بسائر الاجزاء ، ضعيفة لا تقبل الالتفات إليها.

ص: 215


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 1 و 2.

فظهر : أن الوجه الثالث هو أسلم ما قيل في وجه إمكان تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي ، فهو الذي ينبغي المصير إليه. هذا كله في الجهة الأولى.

الجهة الثانية :

في قيام الدليل على كون الناسي مكلفا ببقية الاجزاء وسقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي.

ونخبة الكلام فيها : هو أنه إن كان لدليل الجزء المنسي إطلاق يشمل صوره النسيان فمقتضى إطلاقه هو عدم التكليف ببقية الاجزاء ، فإنه ليس في البين إلا تكليف واحد تعلق بجملة الاجزاء ومنها الجزء المنسي ، وهذا التكليف الواحد سقط بنسيان بعض الاجزاء ، لأنه لا يمكن بقاء ذلك التكليف بالنسبة إلى جملة الاجزاء مع نسيان بعضها ، فلابد من سقوط التكليف المتعلق بجملة العمل ، فلو ثبت التكليف ببقية الاجزاء فهو تكليف آخر غير التكليف الذي كان متعلقا بجملة الاجزاء ، ولابد من قيام دليل بالخصوص على ذلك ، فالتكليف بما عدا الجزء المنسي يحتاج إلى دليل أخر غير الأدلة المتكفلة لبيان الاجزاء ، هذا إذا كان لدليل الجزء إطلاق يعم حال النسيان.

وإن لم يكن لدليل الجزء إطلاق واحتمل أن تكون جزئيته مقصورة بحال الذكر ، فالمرجع عند الشك في الجزئية وعدمها في حال النسيان هو أصالة البراءة أو الاشتغال ، على الخلاف في باب دوران الامر بين الأقل والأكثر ، لأن الشك في ذلك يندرج في الشك بين الأقل والأكثر ، كما لا يخفى.

ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس سره بقوله : إن قلت : عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت الجزئية بمثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الخ ».

وحاصل ما أفاده المستشكل هو : أن دليل اعتبار الجزء تارة : يكون هو قوله

ص: 216

علیه السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وأخرى : يكون هو الاجماع ، وثالثة : يكون هو الحكم التكليفي المتعلق بالجزء ، كقوله : « اركع في الصلاة » أو « تشهد فيها » ونحو ذلك من الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب.

والقول بثبوت الجزئية وعدم سقوطها في حال النسيان إنما يستقيم لو كان دليل الجزء هو قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ونحو ذلك مما يفيد نفي الصلاة عن الفاقد للجزء.

وأما لو كان دليل الجزء هو الاجماع أو الحكم التكليفي ، فلا يتم القول بثبوت الجزئية في حال النسيان ، لان المتيقن من الاجماع هو حال الذكر ، والحكم التكليفي لا يمكن أن يعم حال النسيان والغفلة ، بل يختص بحال الذكر ، فالجزئية المنتزعة منه تتبعه وتختص بحال الذكر أيضا ، وفي حال النسيان يختص التكليف ببقية الاجزاء وتجري البراءة في الجزء المنسي على تقدير الشك في جزئيته حال النسيان.

ثم لا يخفى عليك : أن المراد من الحكم التكليفي في كلام المستشكل ليس هو الحكم التكليفي النفسي وإن كان يوهمه ظاهر العبارة ، لوضوح أن التكليف الاستقلالي لا يمكن أن ينتزع منه الجزئية والشرطية ، فان أقصى ما يقتضيه التكليف النفسي هو وجوب المتعلق ، وأما كونه جزءا أو شرطا فهو مما لا يكاد أن يدل عليه الحكم النفسي.

نعم : قد تنتزع المانعية من النهي النفسي ، كما في باب النهي عن العبادة ، وفي باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي وأما الجزئية والشرطية فلا يمكن انتزاعهما من الامر النفسي.

وتصريح الشيخ قدس سره في المقام بصحة انتزاع الشرطية من التكليف النفسي ليس على ما ينبغي ، ولا يبعد أن يكون مراده من الشرطية عدم المانع ، كما ربما يشهد لذلك التمثيل بالحرير ، وإلا فالشرطية الوجودية مما لا مجال لتوهم

ص: 217

صحة انتزاعها من التكليف النفسي.

وبالجملة : ظاهر كلام المستشكل وإن كان يعطي أن يكون المراد من التكليف المنتزع عنه الجزئية هو التكليفي النفسي ، إلا أنه لابد من توجيهه بإرادة التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها (1) فيكون مبنى الاشكال على اختصاص التكاليف الغيرية بالذاكر كاختصاص التكاليف النفسية به ، فالجزئية المنتزعة من التكليف الغيري لا تعم حال النسيان ، كما أن القدر المتيقن من الاجماع القائم على جزئية الشيء الفلاني هو اختصاص الجزئية بحال الذكر.

وكأن المستشكل في ما نحن فيه اقتبس كلامه من المحكي عن الوحيد البهبهاني قدس سره من التفصيل بين الاجزاء والشرائط المستفادة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » و « لا صلاة إلا بطهور » وبين الاجزاء والشرائط المستفادة من الأوامر الغيرية ، كالأمر بالركوع والاستقبال.

ففي الأول : لا تختص الجزئية والشرطية بصورة التمكن من الجزء والشرط ، بل تعم صورة العجز عنهما ، ويلزمه سقوط التكليف بالصلاة عند العجز وعدم القدرة عليهما.

وفي الثاني : تختص الجزئية والشرطية بصورة التمكن منهما ، ويلزمه سقوط خصوص التكليف المتعلق بالجزء أو الشرط الغير المتمكن منه ، ولا يسقط

ص: 218


1- أقول : منشأ انتزاع الشرطية والجزئية يستحيل أن يكون هو التكليف الغيري ، كيف! وهو متعلق بما هو فارغ جزئيته وشرطيته ، فكيف يكون هو منشأ انتزاعه؟ بل لا يكون منشأ انتزاع جزئية الشيء أو شرطيته إلا الامر المتعلق بالمجموع أو المقيد مع تقيده ، وهذا ليس إلا الامر النفسي القائم بالمجموع ، غاية الامر قد يستقل هذا الامر في مقام البيان قائما بموضوعه ، ولكنه ليس أمرا مقدميا ، بل هو إما قطعة من الامر النفسي القائم بالجميع أو أمر إرشادي ، وعلى فرض المقدمية فلا يكون هو المنشأ ، بل كاشف عن وجود المنشأ ، كما لا يخفى.

التكليف ببقية الاجزاء المتمكن منها.

هذا ، وقد حكي عن المحقق القمي رحمه اللّه التعدي في هذا التفصيل عن باب القدرة والعجز إلى باب العلم والجهل ، وقال باختصاص الشرطية المنتزعة من الأوامر الغيرية بصورة العلم بالموضوع تفصيلا ولا تعم حال الجهل به ، بخلاف الشرطية المنتزعة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بطهور » فإنها لا تختص بصورة العلم بموضوع الشرط ، بل تعم حال الجهل به أيضا.

وكلام المستشكل فيما نحن فيه يعطي التعدي في هذا التفصيل عن باب القدرة والعجز وباب العلم والجهل إلى باب الذكر والنسيان.

هذا ، ولكن التحقيق : فساد هذا التفصيل في الأبواب الثلاثة ، خصوصا في باب العلم والجهل ، فان التكاليف النفسية لا تختص بصورة العلم ، فضلا عن التكاليف الغيرية ، وسيأتي توضيح ذلك في رد مقالة الوحيد البهبهاني رحمه اللّه .

فالأقوى : أنه لا فرق في الجزئية المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ، والجزئية المستفادة من مثل قوله : « اركع في الصلاة » ونحو ذلك من الأوامر الغيرية ، فإنه لا موجب لتوهم اختصاص الأوامر الغيرية بالمتمكن من الجزء أو الذاكر له (1) بل تعم العاجز والناسي وتثبت الجزئية في حقهما إذا كان لدليل الجزء إطلاق يشمل حال العجز

ص: 219


1- أقول : لو كان المراد من الامر الغيري الامر المقدمي أي موجب للتقييد أعظم من فتح توجيه الايجاب ولو غيريا إلى مالا يطاق؟ نعم : لو كان الامر إرشاديا لا بأس بإطلاقه وشمول الامر لما لا يطاق ، فالأولى أن يقال : بان تقيد الخطاب بما يطاق من قبيل التقيد بقرينة عقلية منفصلة ، ولازمه بقاء ظهوره على إطلاقه في دخله في الغرض برفع اليد عن فعلية أمره ، ولئن اغمض عن انفصال مثل هذا الحكم العقلي عن الخطاب ، فلنا التمسك باطلاق المادة في الدخل في المصلحة ، حتى في حال العجز ، غاية الامر ظهور الامر مختص بصورة القدرة.

والنسيان ، ومع عدم الاطلاق يرجع إلى الأصول العملية ، وهي تقتضي اختصاص الجزئية بحال القدرة والذكر ، لأن الشك في ثبوت الجزئية في حال العجز والنسيان يرجع إلى الشك في أن المكلف به في حق الناسي هل هو الطبيعة الواجدة للجزء المنسي؟ أو الطبيعة الخالية عنه؟ فيكون من صغريات الشك بين الأقل والأكثر ، وقد تقدم أن الأقوى : جريان البراءة من الخصوصية الزائدة المشكوكة ، وهي فيما نحن فيه جزئية المنسي في حال النسيان ، فالأصل يقتضي عدم جزئية المنسي ، ويلزمه أن يكون الجزء من الاجزاء الغير الركنية ، لاختصاص جزئيته بحال الذكر ، فلا يلزم من الاخلال به نسيانا بطلان العمل ، وذلك من خواص الجزء الغير الركني ، كما تقدم.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك : أن أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسي هو رفع الجزئية في حال النسيان فقط (1) ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت ، فلو تذكر المكلف في أثناء الوقت بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام مالها من الاجزاء ، فأصالة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التام في ظرف التذكر ، بل مقتضى إطلاق الأدلة وجوبه ، لان المأمور به هو صرف وجود الطبيعة التامة الاجزاء والشرائط في مجموع الوقت ، ويكفي في وجوب ذلك التمكن من إيجادها

ص: 220


1- أقول : معنى رفع جزئية المشكوكة بعنوان المشكوكية بقاء رفعه ما دام مشكوكا ، فإذا شك في جزئية المنسي لفرض عدم إطلاق دليله ، فلازمه أنه مهما اتى المأمور به بدون هذا الجزء نسيانا يشك في جزئيته في حال النسيان ، فلا شبهة في أن هذا الشك باق حتى في حال الالتفات إليه ، فحديث رفع الجزء المشكوك لا قصور في جريانه بالنسبة إلى المأتي به الفاقد لها ، لبقاء الشك في جزئيته حتى في حال تذكره ، فكأن المقرر اشتبه عليه المقام بمسألة رفع جزئية المنسي بعنوان النسيان مع العلم بجزئيته واقعا ، فان في هذه الصورة كان لتخصيص حديث الرفع بحال النسيان وجه ، وأين هذا من مسألتنا؟ وليس هذا الذهول إلا من شدة الغرور ، فتدبر.

كذلك ولو في جزء من الوقت ، ولا يعتبر التمكن من ذلك في جميع آنات الوقت ، كما هو الحال في غير الناسي من سائر ذوي الأعذار ، فإنه لا يجوز الاعتداد بالمأتي به في حال العذر مع عدم استيعاب العذر لتمام الوقت.

والحاصل : أن رفع الجزئية بأدلة البراءة في حال النسيان لا يلازم رفعها في ظرف التذكر (1) لأن الشك في الأول يرجع إلى ثبوت الجزئية في حال النسيان ، وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر ، والأول مجرى البراءة ، والثاني مجرى الاشتغال.

هذا إذا لم يكن المكلف ذاكرا في أول الوقت ثم عرض له النسيان في الأثناء ، وإلا فيجري استصحاب التكليف الثابت عليه في أول الوقت ، للشك في سقوطه بسبب النسيان الطاري الزائل في الوقت.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن التكليف بالفاقد للجزء المنسي وإن كان في عالم الثبوت بمكان من الامكان ، إلا أنه في عالم الاثبات لم يقم عليه دليل اجتهادي ولا أصل عملي مع عدم استيعاب النسيان لتمام الوقت ، بل مقتضى إطلاق الأدلة خلاف ذلك (2).

وهم ودفع :

أما الوهم : فهو أنه قد يقال : إن مقتضى إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط وإن كان ثبوت الجزئية في حال النسيان ، إلا أن مقتضى حديث الرفع الحاكم على الأدلة الأولية هو عدم الجزئية في حال النسيان واختصاصها بحال

ص: 221


1- أقول : وذلك هو الفارق بين ما نحن فيه وبين رفع المنسي مع الجزم بالجزئية الواقعية ، وقد خلط المقرر أحدهما بالآخر.
2- أقول : تمام الكلام في صورة عدم إطلاق الدليل ، وذلك أيضا من تبعات الغفلة السابقة ، فتدبر.

الذكر.

وأما الدفع : فقد تقدم في مبحث البراءة عند التعرض لمفاد الحديث المبارك شطر من الكلام في عدم صحة التمسك بالحديث لرفع الجزئية في حال النسيان ، وإجماله : هو أنه يعتبر في جواز التمسك بحديث الرفع أمور :

الأول : أن يكون المرفوع شاغلا لصفحة الوجود ، بحيث يكون له نحو تقرر في الوعاء المناسب له : من وعاء التكوين أو وعاء التشريع (1) فإنه بذلك يمتاز الرفع عن الدفع ، حيث إن الدفع إنما يمنع عن تقرر الشيء خارجا وتأثير المقتضي في الوجود ، فهو يساوق المانع ، وأما الرفع فهو يمنع عن بقاء الوجود ويقتضي إعدام الشيء الموجود عن وعائه. نعم : قد يستعمل الرفع في مكان الدفع وبالعكس ، إلا أن ذلك بضرب من العناية والتجوز ، والذي تقتضيه الحقيقة : هو استعمال الدفع في مقام المنع عن تأثير المقتضي في الوجود ، واستعمال الرفع في مقام المنع عن بقاء الشيء الموجود.

الامر الثاني : أن يكون المرفوع مما تناله يد الرفع التشريعي ، إما بنفسه إذا كان المرفوع من الأحكام الشرعية ، وإما بأثره إذا كان من الموضوعات الخارجية التي رتب عليها آثار شرعية ، كحياة زيد وموت عمرو.

الامر الثالث : أن يكون في رفعه منة وتوسعة على المكلفين ، فان الحديث المبارك ورد مورد الامتنان ، فلابد من اقتضاء الرفع التوسعة والتسهيل ، لا الكلفة والتضييق.

إذا عرفت ذلك : فاعلم أن الظاهر الأولي من قوله - صلى اللّه عليه وآله

ص: 222


1- أقول : بعد الجزم بشمول الخبر الشريف للعناوين المتصلة بالبلوغ يقطع بعدم كون المراد من « الرفع » معناه الحقيقي ، فلابد وأن يحمل على الأعم من الدفع ، ولو بعناية اعتبار الوجود للشئ بلحاظ وجود مقتضيه ، نظير شرط السقوط في متن العقد ، فإنه أيضا بهذه العناية ، وحينئذ لا يبقى مجال لهذه المقدمة أصلا. وإلى ما ذكرنا أيضا أشار شيخنا العلامة في رسائله ، فراجع.

وسلم - « رفع النسيان » وإن كان هو رفع نفس صفة النسيان وهي الحالة المنقدحة في النفس ، إلا أنه لا يمكن الاخذ بظاهره ، فإنه - مضافا إلى أن النسيان مما لا تناله يد الرفع التشريعي لأنه من الأمور التكوينية الخارجية وليس هناك أثر اخذ النسيان موضوعا له شرعا لكي يكون رفعه بلحاظ رفع أثره - يلزم من ذلك ترتيب آثار الصدور العمدي على الفعل الصادر عن نسيان ، فان معنى رفع النسيان هو كون ما صدر عن المكلف نسيانا كأن لم يصدر عنه عن نسيان ويفرض النسيان كالعدم ، وهذا يقتضي ترتيب آثار الفعل الصادر عن عمد على الفعل الصادر عن نسيان ، فيجب إقامة الحد على من شرب الخمر نسيانا ، وهو كما ترى ينافي الامتنان والتوسعة.

فلا محيص من رفع اليد عما يقتضيه الظاهر الأولي ، بتأويل المصدر بمعنى المفعول وجعل النسيان بمعنى المنسي (1) فيكون المرفوع نفس الفعل الصادر عن

ص: 223


1- أقول : ينبغي أن يجعل من مقدمات المقصد اختصاص حديث الرفع برفع شيء - شخصيا أم أثرا قابل للوجود لولاه ، ولازمه عدم شمول الحديث التكاليف المتعلقة بالمنسي تكليفا أو وضعا منتزعا عن التكليف ، لاستحالة وجود مثل هذا التكليف بمحض تحقق النسيان حذرا عن التكليف بما لا يطاق ، من دون فرق بين التكاليف الانحلالية وغيرها ، ومن هذه الجهة لا محيص من كون المرفوع في أمثال هذه الفقرات إيجاب التحفظ وإيجاب الاحتياط ، ومن البديهي أن إيجاب التحفظ في الجزء المنسي لا يقتضي الاجزاء. و لو أغمض عن هذه الجهة و قلنا بشمول الحديث للتكاليف الانحلاليّة- كما زعم- فلا قصور في دعوى شمول الحديث رفع الفعل المنسيّ بلحاظ أثره من الجزئيّة المنتزعة عن تعلّق الطلب به بعد فرض وجود المقتضي للوجود فيه الكافي لصدق الرفع في موعده، كيف! و لو لا كفاية هذا المقدار في صدق الرفع يلزم عدم شموله للأحكام الانحلاليّة أيضا، لأنّ الفعل المنسيّ إذا فرض عدم سبقه بالوجود فرفع هذا عين إعدامه، و في هذا الاعتبار لا يرى وجودا، و لازمه صدق رفع المعدوم، و بعبارة أخرى: قلب أوّل وجود المنسيّ بالعدم لا يصدق عليه الرفع، لأنّ الرفع عبارة عن إعدام الموجود، و حيث يستحيل جمعهما في زمان واحد فلا محيص من أنّ ظرف الإعدام الّذي هو ظرف الرفع غير ظرف الوجود، و إذا تعلّق الرفع بأوّل وجود شي ء فهذا الوجود بمنزلة المعدوم، فيصير المقام من باب إعدام المعدوم، لا الموجود. و لذا نقول: إنّه كما يستحيل صدق رفع أوّل وجود الشي ء حقيقة، فكذلك تنزيلا، لأنّ الرفع التنزيلي تقوم مقام الرفع الحقيقي، فلا جرم لا يصحّ الرفع التنزيلي إلّا بالنسبة إلى بقاء الوجود لا حدوثه، و العجب من المقرّر! كيف خلط في احتياج الرفع إلى الوجود بين الوجود الواقع في موطن الرفع و بين الوجود السابق عن موطنه و تخيّل أنّ في الوجود المصحّح لصدق الرفع يكفي الوجود الواقع في موطن الرفع الّذي بعناية عين العدم، و ليس كذلك، بل الوجود المحتاج إليه في صدقه هو الوجود السابق عن موطن الرفع، و حينئذ لا فرق بين التكاليف الوجوديّة و العدميّة.

المكلف نسيانا ، بأن يفرض عدم وقوع الفعل منه وخلو صفحة الوجود عنه ، فالمرفوع في حق من شرب الخمر نسيانا هو نفس الشرب ، لا وصف صدوره عن نسيان ، ورفع الشرب إنما يكون بلحاظ رفع الآثار المترتبة شرعا على شرب الخمر : من الحرمة وإقامة الحد ، ورفع الشرب بهذا الوجه يكون موافقا للامتنان ويوجب التوسعة والتسهيل.

وعلى هذا يختص الحديث الشريف بالأحكام الانحلالية العدمية التي لها تعلق بالموضوعات الخارجية ، كحرمة شرب الخمر وإكرام الفاسق وغيبة المؤمن ، فإنه في مثل ذلك يصح رفع أثر الاكرام والشرب والغيبة الصادرة عن نسيان.

وأما التكاليف الوجودية التي يكون المطلوب فيها صرف الوجود - كوجوب إكرام العالم وإقامة الصلاة - فلا يمكن أن يعمها حديث الرفع ، لان رفع الاكرام والصلاة الصادرين عن نسيان يساوق إعدامهما في عالم التشريع وفرض عدم صدورهما عن المكلف ، وذلك يقتضي إيجابهما ثانيا ، وهو ينافي الامتنان ، فلابد من خروج الاحكام الوجودية عن مدلول الحديث.

وبذلك يظهر : فساد توهم دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » على سقوط جزئية الجزء المنسي ووقوع الطلب فيما عداه ، فإنه يرد عليه :

ص: 224

أولا : أن المنسي ليس هو جزئية الجزء وإلا رجع إلى نسيان الحكم وهو من أقسام الجهل به ، فيندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » لا في قوله : « رفع النسيان » بل المنسي هو نفس الجزء أي الاتيان به قولا أو فعلا ومعنى نسيان الجزء هو خلو صفحة الوجود عنه وعدم تحققه في الخارج ، ولا يعقل تعلق الرفع بالمعدوم ، لما عرفت : من أن المرفوع لابد وأن يكون شاغلا لصفحة الوجود ليكون رفعه باعدامه وإخلاء الصفحة عند (1) فنسيان الجزء مما لا يتعلق به الرفع فلا يعمه قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان ».

وثانيا : أن محل البحث ليس هو النسيان المستوعب لتمام الوقت في الموقتات ، أو لتمام العمر في غيرها (2) بل هو النسيان في بعض الوقت ، وسقوط الجزئية في

ص: 225


1- أقول : قد تقدم دفع هذه الشبهة آنفا.
2- أقول : بعد فرض شمول حديث الرفع للجزء المنسي وصلاحيته لرفعه - كما فرض - يصير نتيجته أن المأتي به فاقدا عن الجزء المزبور تمام الصلاة ، ولازمه امتثال الطبيعة به ، فلا يبقى مجال لبقاء الوجوب على الطبيعة كي يجب الاتيان به وقت ذكره ، وكم فرق! بين نسيان الكل في بعض الوقت وبين نسيان الجزء مع إتيانه بالبقية. و توهّم: أنّ رفع الجزء المنسيّ لا يقتضي الأمر بالبقيّة، كيف! و فيه ضيق على الأمّة، كما هو الشأن في الجزء المضطر إليه مدفوع: بأنّ بقيّة الأجزاء بعد ما كان ملزما بإتيانها و لو تخييرا بحكم العقل، فلا يحتاج الناسي في الإتيان بالبقيّة إلى إلزام شرعي، و حينئذ في رفع الجزئيّة الموجبة لرفع وجوب الإعادة كمال المنّة في حقّه، و بذلك يمتاز عن المضطر إليه في ترك الجزء. فان قلت: سلّمنا أنّ البقيّة غير محتاج إلى الأمر الشرعي، و لكن نفي وجوب الإعادة فرع كون المأتيّ به فردا واقعيّا، لا اعتقاديّا. قلت: يكفي في رفع فعليّة الجزئيّة كون المأتيّ به تماما، إذ يعلم منه اتكال الشارع في ذلك إلى حكم عقله بتخصيص رفعه بخصوص الجزء المنسيّ، إذ ذلك كاشف عن قناعة الشارع من الصلاة بالمقدار المأتيّ به. نعم: الأولى أن يقال- كما قلنا- إنّ المرفوع في هذه الفقرة وجوب التحفّظ لا الوجوب أو الجزئية الفعلية الواقعية ، كيف! وهما مرتفعان بقبح التكليف بالناسي ، فصح حينئذ نفي الاجزاء ، إذ لا يقتضي حينئذ كون المأتي به تماما ، كما لا يخفى.

زمان النسيان لا يقتضي سقوطها في تمام الوقت أو في تمام العمر حتى في زمان الذكر وزوال صفة النسيان ، لما عرفت : أن المأمور به هو صرف الوجود في مجموع الوقت أو العمر ، ونسيان الجزء في بعض الوقت كنسيان جملة المركب بجميع ماله من الاجزاء في بعض الوقت لا يقتضي سقوط التكليف عن الطبيعة المأمور بها رأسا ، بل مقتضى تعلق الطلب بصرف الوجود - مع كون الوقت المضروب له أوسع مما يحتاج إليه الفعل من الزمان - هو بقاء الطلب عند القدرة على إيجاد المتعلق ولو في جزء من الوقت الذي يسع لايجاد المأمور به ، ولا يعتبر القدرة في جميع الوقت ، فرفع الجزئية في حال النسيان لا يوجب عدم وجوب الإعادة عند التذكر كما لا يوجب نسيان الكل في بعض الوقت سقوط الطلب عنه رأسا حتى مع التذكر في الوقت ، فإنه لا فرق بين نسيان الجزء ونسيان الكل فيما هو المبحوث عنه في المقام.

وثالثا : أنه ليس في المركبات الارتباطية إلا طلب واحد تعلق بعدة أمور متباينة يجمعها وحدة اعتبارية ، وتنتزع جزئية كل واحد من تلك الأمور المتباينة من انبساط الطلب عليها وتعلقه به بتبع تعلقه بالكل ، وليست جزئية كل واحد منها مستقلة بالجعل ، فالذي يلزم من نسيان أحد الاجزاء هو سقوط الطلب عن الكل ، لا عن خصوص الجزء المنسي ، فإنه ليس في البين إلا طلب واحد ، ولا معنى لتبعيض الطلب وتقطيعه وجعل الساقط هو خصوص القطعة التي يختص بها الجزء المنسي ، فان ذلك يتوقف على قيام الدليل عليه بالخصوص. ولا يمكن الاستدلال له بمثل قول صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » فان أقصى ما يقتضيه نسيان الجزء في بعض الوقت هو خروج زمان النسيان عن سعة

ص: 226

دائرة التكليف الذي كان منبسطا على مجموع الوقت ، كما إذا خرج جزء من الزمان المضروب للعمل عن سعة دائرة التكليف بغير النسيان : من اضطرار أو إكراه أو نحو ذلك.

فكما أن تعذر جزء المركب في بعض الوقت بغير النسيان من سائر الاعذار الاخر لا يقتضي رفع التكليف عن خصوص الجزء المتعذر ، بل يسقط التكليف عن الكل رأسا في خصوص وقت العذر ، ويخرج ذلك الوقت عن صلاحية وقوع المأمور به فيه ، ويلزمه قهرا وقوع الطلب فيما عداه من سائر الأوقات الاخر التي يمكن إيقاع المركب فيها بما له من الاجزاء

كذلك تعذر جزء المركب في بعض الوقت بالنسيان لا يقتضي إلا سقوط التكليف عن الكل رأسا ، لا عن خصوص الجزء المنسي.

فان قلت : ما الفرق بين قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان »؟ حيث كان مفاد الأول رفع التكليف عن خصوص الجزء الذي تعلق الشك به ، مع أن التكليف لم يتعلق بالجزء المشكوك على حدة ، بل كان التكليف به بتبع تعلق التكليف بالكل ووجوبه بعين الوجوب المتعلق بجملة العمل ، فكيف كان مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » تقطيع الطلب وتبعيض الوجوب وكان المرفوع خصوص القطعة التي يختص بها الجزء المشكوك مع اتحاد سياق الحديث في الجملتين؟.

قلت : الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فان تقطيع الطلب في قوله - صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » ورفع التكليف عن خصوص الجزء المشكوك إنما هو لمكان العلم بتعلق الطلب بما عدا الجزء المشكوك ، فلا يمكن رفع التكليف عن الكل ، لأنه يلزم التناقض.

وهذا بخلاف قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » فان

ص: 227

تقطيع الطلب ورفع التكليف عن خصوص الجزء المنسي بلا (1) موجب لأنه لا مانع من رفع الطلب عن الكل في حال النسيان.

نعم : لو استوعب النسيان لتمام الوقت أمكن أن يقال بكون المرفوع خصوص القطعة من الطلب المتعلقة بالجزء المنسي ، فتأمل ، فإنه للمنع عن دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » على سقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي مجال ، حتى في النسيان المستوعب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا دليل على كون المكلف به هو ما عدا الجزء المنسي ، خصوصا في النسيان الغير المستوعب ، بل مقتضى إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط خلاف ذلك (2).

الجهة الثالثة :

في الاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان وإجزائه عن الواقع وإن لم يكن مأمورا به.

وخلاصة الكلام في ذلك : هي أن مقتضى القاعدة الأولية عدم الاجتزاء بالمأتي به في حال العذر في جميع المقامات ، فان إجزاء الناقص عن التام يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص ، فإنه خلاف ما يقتضيه الامر بالتام ، فالقاعدة تقتضي بطلان المركب عند الاخلال بجزئه سهوا ووجوب الاتيان به ثانيا تام الاجزاء والشرائط ، فيكون الأصل في الجزء من طرف النقيصة هي الركنية ،

ص: 228


1- أقول : بعد التأمل فيما ذكرنا في الحاشية السابقة يظهر فساد هذه الكلمات طرا ، حيث لا مفهوم محصل لها.
2- أقول : قد تقدم أنه لو فرض صلاحية الخبر لرفع الحكم المنسي - كما أفاده في الأحكام الانحلالية - لا قصور في استفادة نفي الإعادة عن مثله ، وإنما الاشكال فيه من هذه الجهة التي نحن أشرنا في ذيل الحاشية السابقة ، فراجع ، وتدبر.

فان اقتضاء الاخلال بالجزء سهوا بطلان العمل إنما هو من خواص ركنية الجزء - كما تقدم - إلا إذا قام الدليل على عدم الركنية.

والظاهر : أنه لم يقم دليل على ذلك في غير الصلاة من سائر المركبات الاخر ، وأما في باب الصلاة فقد قام الدليل على عدم بطلانها عند الاخلال بجزئها سهوا ، وهو قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » (1) وفي مقدار دلالة حديث « لا تعاد » وكيفية استفادة قواعد الخلل الواقع في الصلاة منه بحث طويل ، تفصيله موكول إلى محله.

المقام الثاني: في بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا أو سهوا
اشارة

والكلام فيه أيضا يقع من جهات ثلاث :

الأولى : في تصوير وقوع الزيادة في الاجزاء والشرائط وما هو المحقق لها.

الثانية : في حكم الزيادة العمدية والسهوية من حيث الصحة والبطلان بحسب ما تقتضيه القاعدة الأولية.

الثالثة : في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة من الصحة والفساد.

أما الكلام في الجهة الأولى :

فإجماله : أنه قد يستشكل في إمكان تحقق الزيادة ثبوتا ، فان الجزء أو الشرط ، إما أن يؤخذ بشرط لا ، وإما أن يؤخذ لا بشرط ، ولا ثالث لهما.

وعلى الأول : ترجع زيادته إلى النقيصة ، لأنه يلزم الاخلال بقيد الجزء وهو أن لا يكون معه شيء آخر.

ص: 229


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب الوضوء الحديث 8.

وعلى الثاني : لا يكاد تحقق الزيادة ، لان الضمايم لا تنافي الماهية لا بشرط ولا تكون زيادة فيها (1).

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن مقام الامكان الثبوتي غير مقام الصدق العرفي ، ولا إشكال في صدق الزيادة عرفا على الوجود الثاني فيما إذا كان الواجب صرف الوجود (2) كما لا إشكال أيضا في صدق الزيادة عرفا على العدد المضاف إلى عدد الواجب كما في باب الركعات ، فان الركعة الثالثة زيادة في ركعتي الصبح ، والركعة الرابعة زيادة في ثلاث المغرب ، والخامسة زيادة في أربع العشاء. وهكذا (3) كل عدد إذا أضيف إلى عدد آخر كان ذلك زيادة في العدد فلو كان الواجب عددا مخصوصا كالركوع الواحد والسجدتين في كل ركعة من ركعات الصلاة فالركوع الثاني والسجدة الثالثة تكون زيادة في عدد الواجب ، كما أن الوجود الثاني للركوع إذا لم يقيد بقيد

ص: 230


1- أقول : ما أفيد صحيح لو اعتبر في جعل ماهية الصلاة الركوع الواحد ، وإلا فلو اعتبر فيها طبيعة الركوع الجامع بين الواحد والاثنين فتصوير الزياد الحقيقية فيها في غاية الامكان ، لان المراد من زيادة الشيء في الشيء كون الزائد من سنخ المزيد عليه وموجبا لقلب حده إلى حد آخر ، وعلى ما ذكرنا يكون الامر كذلك. نعم : لو اعتبر الركوع واحدا يستحيل اتصاف الركوع الثاني بالصلاتية ، فلا يكون حينئذ من سنخ الصلاة فلا يعقل صدق الزيادة عليه ، بل تكون ضمه إلى الأولى من قبيل ضم الدبس إلى الدهن. نعم : على هذا لا باس بالبناء على كونه صلاتا تشريعا ، فيصير صدق الزيادة عليه ادعائيا : ولكن لم نلتزم بهذا المعنى كي نلتزم بهذا المحذور ، بل التحقيق الالتزام بالمعنى الأول فيكون صدق الزيادة عليه حقيقيا ، كما لا يخفى.
2- أقول : صدق الزيادة ولو عرفا على الوجود الثاني مطلقا أول شيء ينكر ، بل يحتاج لا أقل إلى تشريع جزئيته ، ولا يكون ذلك إلا إذا أتى بقصد الجزئية ، كما لا يخفى. وتوهم : إطلاق الزيادة على سجدة الغرائم مع أنه ليس بهذا القصد ، مدفوع بمنع صدق الزيادة على هذا أيضا ، وإنما هو من باب ضرب من العناية ، بشهادة جوازها في النافلة ، مع أنه لا يجوز تكرار ركوعه أو سجدتيه بقصد الجزئية فيها ، وحينئذ فلا يتعدى.
3- كذا في النسخة والأصح « فكما أن » مع تبديل « كما أن » في السطر الاخر ب « وهكذا » ( المصحح ).

الوحدة وكان الامر به يقتضي صرف الوجود كقوله : « اركع في الصلاة » يكون زيادة في الركوع الواجب.

فلا فرق في صدق الزيادة بين أخذ العدد في متعلق التكليف وبين أخذ صرف الوجود ، غايته أن الزيادة في الأول إنما تتحقق بإضافة عدد آخر إلى عدد الواجب ولو عرضا فيما إذا أمكن ذلك ، كما إذا أوجب إعطاء درهم واحد فأعطى المكلف درهمين دفعة واحدة ، فان الدرهم الثاني يكون زيادة في الواجب. وأما الزيادة في الثاني فهي لا تتحقق إلا بالوجود الثاني ، وذلك إنما يكون بتعاقب الوجودات في الافراد الطولية ، ولا يمكن أن تحصل الزيادة في الافراد الدفعية فيما إذا أمكن ذلك ، فإن صرف الوجود إنما يتحقق بالجامع بين الافراد العرضية ، كما لا يخفى.

وعلى كل حال : عدم إمكان تحقق زيادة الجزء أو الشرط ثبوتا لا ينافي صدق الزيادة عرفا ، والموضوع في أدلة الزيادة إنما هو الزيادة العرفية ، فتأمل جيدا.

الجهة الثانية :

في بطلان العمل بالزيادة العمدية أو السهوية.

وقد تقدم أن الزيادة العمدية ليست على حد النقيصة العمدية ، فان النقيصة العمدية لا تجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، وأما الزيادة العمدية فهي تجتمع مع الصحة ثبوتا ، لأنه يمكن ثبوتا أخذ الجزء لا بشرط عن الزيادة (1) فلا

ص: 231


1- 1 - أقول : في ظرف الشك في أخذ الجزء لا بشرط أو بشرط لا ، مرجع الشك إلى الشك في مانعية الزيادة لجزئية الامر المزبور ، لا للزيادة في أصل الصلاة ، وحينئذ فوجود الزيادة على تقدير المانعية مفن لأصل جزئية المزيد عليه ، وحينئذ لازم هذا الشك الشك في صحة المزيد عليه تأهليا أيضا ، وإنما لا يكون الصحة التأهلية مشكوكا له في فرض أخذ الجزء لا بشرط واستفيد مانعية الزيادة في الصلاة من أدلة الزيادة ، وحينئذ قد خلط المقرر بين المقامين بقرينة ذيل كلامه ، فتدبر. ثمّ إنّ في المقام تقريرا آخر لاستصحاب الصحّة، خصوصا على مبناه: من كون الأجزاء التدريجيّة الأمر الفعلي بها تدريجيّا، فانّه لنا أن نقول: إنّ الصحّة الفعليّة بمعنى موافقة المأتيّ به لأمره تدريجيّ أيضا، و لا بأس باستصحاب بقاء هذا الأمر التدريجي عند الشكّ في طروّ ما يوجب عدم بقائه أو انقطاعه، و عمدة النكتة فيه هو أنّ الصحّة المنتزعة من الأوامر التدريجيّة تدريجية، و بعد ذا لا بأس باستصحاب الأمر التدريجي على مختاره، على فرض عدم جريان هذا الاستصحاب و لا حديث الرفع، و لا مجال لجريان استصحاب الهيئة الاتّصاليّة، لأنّ مصبّ هذا الاستصحاب هي الهيئة القائمة بالأجزاء، فما لم يحرز الجزء على ما هو عليه لا ينتهي النوبة إلى استصحاب الهيئة، فلا محيص في مورد هذا الاستصحاب من إحراز ما به قوام الهيئة كي ينتهي الشكّ فيها إلى الشكّ في بقائها من قاطع خارجي، لا في أصل حدوثها من جهة الشكّ في أصل الجزء، كما لا يخفى على النّظر الدّقيق. و لعمري! إنّ هذا الإشكال على جريان استصحاب بقاء الهيئة في خصوص المقام أولى ممّا أورده على كلّيّة هذا الاستصحاب، كما سيأتي منّا توضيح فساد إشكالاته.

تضر بصحته الزيادة العمدية ، ويكفي في الصحة احتمال أخذ الجزء لا بشرط فان الشك في ذلك يرجع إلى الشك في مانعية الزيادة ويكون من صغريات دوران الامر بين الأقل والأكثر ، فتجري البراءة الشرعية في مانعية الأكثر كالشك في الجزئية والشرطية. هذا في الزيادة العمدية

وأما الزيادة السهوية : فالامر فيها أوضح.

وربما يتمسك لعدم مانعية الزيادة باستصحاب الصحة الثابتة قبل فعل الزيادة ، فلا تجري أصالة البراءة ، لحكومة الاستصحاب عليها.

ولا يخفى ما فيه : فإنه إن أريد من الصحة الأثر المترتب على الاتيان بالمأمور به ، فهذا المعنى من الصحة لا يكاد تثبت إلا بعد الفراغ عن المأمور به بما له من الاجزاء والشرائط ، فلا معنى لاستصحابها في أثناء العمل.

وإن أريد من الصحة الصحة القائمة بالاجزاء السابقة على فعل الزيادة ، ففيه : أن الصحة القائمة بالاجزاء السابقة إنما هي الصحة التأهلية ، وهي عبارة

ص: 232

عن صلاحية تلك الأجزاء لانضمام البقية إليها ، فان الصحة المتصورة في كل جزء من العمل ليست إلا بهذا المعنى ، واستصحاب الصحة التأهلية مع أنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي الباطل من أصله - كما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) بيانه في محله - مما لا مجال لجريانه ، للقطع ببقاء الصحة التأهلية في الاجزاء السابقة حتى بعد وقوع الزيادة التي يشك في مانعيتها ، فان الزيادة لو كانت مانعة فإنما هي تمنع عن صلاحية لحوق الاجزاء الباقية إلى الاجزاء السابقة ولا تضر بصحة الاجزاء السابقة ، فان الاجزاء السابقة بعد باقية على ما وقعت عليه من الصحة التأهلية ، لان الصحة التأهلية ليست إلا عبارة عن وقوع الاجزاء على وجه تصلح للحوق الاجزاء الاخر إليها ، وهذا المعنى يدور مدار كون الجزء حال صدوره واجدا للشرائط المعتبرة فيه ، فان كان واجدا لها فلا محالة يقع صحيحا ولو مع تعقبه بما يقطع كونه مانعا ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، فالشك في مانعية الزيادة الواقعة في الأثناء لا يوجب الشك في بقاء الصحة التأهلية للاجزاء السابقة لكي يجري فيها الاستصحاب.

نعم : هناك استصحاب آخر قد قيل بجريانه في بعض المركبات ، وهو استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية عند الشك في وجود القاطع.

وتوضيح ذلك : هو أنه قد يكون للمركب من الاجزاء المتباينة التي يجمعها وحدة الأثر هيئة وصورة إتصالية تقوم بمواد الاجزاء عند اجتماعها وتأليف المركب منها ، ويعبر عن ذلك بالجزء الصوري ، وهو أمر وجودي يحدث بأول جزء من المركب ويستمر إلى آخر الاجزاء ، وربما يكون منشأ للآثار الخاصة.

وقد لا يكون للمركب هيئة وصورة إتصالية ، بل ليس في البين إلا نفس مواد الاجزاء المجتمعة من دون أن يكون لها جزء صوري ، ولا إشكال في وجود هذين القسمين في المركبات الخارجية ، ولكل منهما أمثلة خاصة.

وأما المركبات الاعتبارية : فيمكن فيها أيضا ثبوتا هذان القسمان ، فإنه

ص: 233

يمكن أن يكون الملاك الذي اقتضى الامر بالمركب قائما بنفس مواد الاجزاء المجتمعة ، ويمكن أيضا أن يكون هناك جزء صوري له دخل في حصول الملاك.

ولكن وجود الجزء الصوري في المركبات الاعتبارية يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإلا فنفس الامر بالمركب لا يقتضي أزيد من اجتماع مواد الاجزاء في الوجود ، كما في الامر بالحج والوضوء وغير ذلك من المركبات الاعتبارية ، فان الحج ليس هو إلا عبارة عن اجتماع عدة من الأمور المتباينة التي يقوم بها ملاك واحد ، وكذا الوضوء ليس هو إلا عبارة عن الغسلات والمسحات الثلاث المتعاقبة من دون أن يكون لها هيئة إتصالية.

نعم : في خصوص الصلاة يمكن أن يقال : إن لها وراء الاجزاء الخارجية جزء صوري يقوم بمواد الاجزاء ويحدث بالتكبيرة ويستمر إلى التسليمة ، بحيث لا يضر ببقائه تبادل الاجزاء وتصرمها في الوجود. ويدل على ذلك الأدلة الواردة في باب القواطع ، فان شأن القاطع إنما هو قطع الهيئة الاتصالية ورفع الجزء الصوري ، فلو لم تكن للصلاة وراء مواد الاجزاء هيئة إتصالية لم يصح استعمال « القاطع » على مثل الالتفات إلى الخلف واليمين واليسار ، فقول الشارع : « الالتفات إلى الخلف قاطع » معناه أن الالتفات رافع للهيئة الاتصالية والصورة القائمة بالاجزاء ، فلابد وأن تكون لتلك الصورة نحو تقرر ووجود في أثناء الصلاة ليصح إطلاق القطع والرفع على مثل الالتفات.

والذي يدل على ذلك ، هو أنه يعتبر في الصلاة عدم وقوع القواطع حتى في السكونات المتخللة بين الاجزاء ، فان الالتفات إلى الوراء مبطل للصلاة ولو وقع في حال عدم الاشتغال بالاجزاء.

وبذلك يفترق القاطع عن المانع ، فان المانع إنما يمنع عن صحة الصلاة إذا وقع في حال الاشتغال بالاجزاء ولا يضر وجوده بين السكونات ، كما إذا لبس المصلي الحرير أو تنجس لباسه أو بدنه في حال عدم الاشتغال بالجزء وعند

ص: 234

الاشتغال به نزع الحرير أو طهر لباسه وبدنه ، فان ذلك لا يضر بصحة الصلاة.

وهذا بخلاف القاطع ، فإنه يضر بصحة الصلاة ولو وقع في حال عدم الاشتغال بالجزء ، وهذا يدل على أن للصلاة وراء الاجزاء المتبادلة جزء صوري وهيئة إتصالية مستمرة من أول الصلاة إلى آخرها تكون القواطع رافعة لها.

فإذا شك في قاطعية شيء لها من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فالشك في ذلك يرجع إلى الشك في بقاء الهيئة الاتصالية ويجري فيها الاستصحاب

لا يقال : إن الهيئة الاتصالية إنما تقوم بالاجزاء والاجزاء متدرجة في الوجود فتكون الهيئة أيضا متدرجة في الوجود ، إذ لا يعقل دفعية وجود الهيئة مع تدريجية وجود معروضها ، فلا مجال لاستصحاب بقاء الهيئة ، لأنها بين ما هي متصرمة بتصرم الاجزاء السابقة وبين ما هي بعدم لم تحدث لعدم حدوث معروضها من الاجزاء الباقية ، فليس للهيئة نحو تقرر ليستصحب بقائها.

فإنه يقال : لا مانع من استصحاب الأمور التدريجية الزمانية ، فإنه ليس بأعظم من تدريجية نفس الزمان ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن الاستصحاب يجري في نفس الزمان فضلا عن الزماني ، فان استصحاب الأمور التدريجية إنما يكون باعتبار لحاظها بين المبدء والمنتهى ، وهي بهذا الاعتبار لها نحو تقرر وثبات ، وسيأتي توضيح ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ).

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه جريان استصحاب الهيئة الاتصالية عند الشك في وجود القاطع ، وقد ارتضاه وبنى عليه.

ولكن مع ذلك كله ، للنظر فيه مجال.

أما أولا : فلان مجرد تعلق النواهي الغيرية بمثل الالتفات ونحوه لا يدل على أن ما وراء الاجزاء الخارجية أمر وجودي آخر يسمى بالجزء الصوري ، بحيث

ص: 235

يكون فعلا للمكلف أو مسببا توليديا له (1) فان مجال المنع عن ذلك واسع ، بل لقائل أن يقول : إنه ليست الصلاة إلا عبارة عن عده من الاجزاء والشروط مقيدة بعدم تخلل القواطع في الأثناء من دون أن يكون لها هيئة إتصالية.

وأما ثانيا : فعلى فرض تسليم دلالة النهي الغيري على أن للصلاة هيئة إتصالية وجزء صوري ، إلا أن دعوى تعلق الطلب به على حد ساير الاجزاء مما لا سبيل إليها ، بل لمانع أن يمنع عن ذلك ويدعي أن الجزء الصوري المستكشف من أدلة القواطع مما لم يتعلق به الطلب والبعث ، بل الطلب إنما تعلق بنفس عدم تخلل الالتفات ونحوه - كما هو ظاهر الأدلة - فلا مجال لاستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية ، من جهة أنه لا أثر لبقائها بعد فرض عدم تعلق الطلب بها.

وأما ثالثا (2) : فعلى فرض تسليم تعلق الطلب بالجزء الصوري أيضا ، إلا

ص: 236


1- أقول : استفادة الهيئة من هذه النواهي بملاحظة تعنونها بعنوان القاطعية ، وبديهي أن هذا العنوان ملازم مع اعتبار جهة اتصال بين الاجزاء نعبر عنه بالهيئة الاتصالية ، وحينئذ فالنهي عن إيجاد القاطع ملازم مع النهي عن قطع الجهة الاتصالية ، وهذا النهي عين النهي عن نقيض الاتصال ، ولئن شئت فعبر عنه بنقيض الهيئة الاتصالية ، لان الهيئة منتزعة من الاتصال المزبور ويكون من اللوازم الأعمة من الواقع والظاهر ، كما هو الشأن في كل أمر انتزاعي من جهة خارجية ، فإنه تابع منشأه واقعا وظاهرا ، نظير الجزئية والصحة والمانعية وأمثالها من المنتزعات العقلية عن أمور خارجية ، وحيث عرفت ما تلونا ترى عدم المجال لا يراد الأول ، ولا الثاني كما هو واضح ، ولا الثالث ، لأنه فرع كون النهي عن القطع غير النهي عن نقيض اتصال الاجزاء بالاجزاء ، أو عدم كفاية النهي عن النقيض في استصحاب وجوده أو عدم كفاية استصحاب وجود الاتصال التدريجي بين الاجزاء التدريجية لاثبات الهيئة المنتزعة منها ، وكل ذلك تحت المنع للناظر البصير جدا ، فتدبر فيما قلت واغتنم!. و من التأمّل فيما ذكرنا ترى أيضا فساد كلام المقرّر في تصحيحه الاستصحاب، لأنّه تخيّل أنّ الهيئة الاتّصاليّة يجتمع مع القواطع و محلّ له و أنّه اعتبر عدم القاطع في هذا المحلّ، نظير النهي عن الضحك في السجدة الّتي هي محلّ الضحك المنهيّ عنه، و هذا الكلام كما ترى لا يستأهل ردّا، كما لا يخفى.
2- في إمكان تعلق الطلب بكل من الجزء الصوري والقواطع نوع خفاء ، فتأمل ( منه ).

أنه لا إشكال في تعلق الطلب بعدم وقوع القواطع وثبوت النهي عنها ، فإنه لا مجال للمنع عن ذلك بعد إطباق ظواهر الأدلة على تعلق النهي بالقواطع ، وحينئذ فلابد من علاج الشبهة عند وقوع ما يشك في قاطعيته من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، ولا ترتفع الشبهة في ذلك باستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية ، بداهة أن الشك في بقاء الجزء الصوري مسبب عن الشك في قاطعية الموجود ، والأصل الجاري في الشك المسبي غير قابل لرفع الشك السببي ، بل الامر بالعكس.

وعلى فرض التنزل والمنع عن السببية والمسببية فلا أقل من كونهما متلازمين في الوجود ، بحيث يكون الجزء الصوري ملازما في الوجود لعدم تحقق القواطع وبالعكس ، ومن الواضح : أن استصحاب أحد المتلازمين لا يثبت وجود الآخر إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.

فاستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية على تقدير جريانه في نفسه لا ينفع في إثبات عدم قاطعية الزيادة العمدية أو السهوية ، بل لابد من علاج الشك في إبطال الزيادة الواقعة في الأثناء ، وطريق علاجه ينحصر بأصالة البراءة ، لرجوع الشك إلى تقيد الصلاة بعدم وقوع الزيادة ، فيكون من صغريات دوران الامر بين الأقل والأكثر (1).

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن الزيادة العمدية والسهوية لا تقتضي بطلان العمل ، فيكون الأصل في طرف زيادة الجزء عدم الركنية ، إلا أن يقوم دليل على الخلاف ، على عكس طرف النقيصة ، حيث تقدم أن الأصل فيه

ص: 237


1- اللّهم إلا أن يقال : إن الجزء الصوري وإن لم يتعلق به الطلب ، إلا أنه يكون محلا لما هو متعلق الطلب ، فان المنهي عنه هو وقوع القواطع في الهيئة الاتصالية ، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى نفس عدم وقوع القاطع في المحل الذي اعتبر عدم وقوعه فيه ، ولا يحتاج إلى جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصالية ليرد عليه ذلك ، وقد أوضحنا الكلام فيه في رسالة المشكوك ( منه ).

يقتضي الركنية.

الجهة الثالثة :
اشارة

في قيام الدليل على خما اقتضته القاعدة. والظاهر : أنه لم يقم دليل على بطلان المركب بالزيادة السهوية أو العمدية (1) إلا في باب الصلاة حيث إنه تظافرت الأدلة على بطلانها بالزيادة كقوله علیه السلام « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » (2) وقوله علیه السلام « وإذا استيقن أنه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته » (3) وما ورد في النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله علیه السلام « لان السجود زيادة في المكتوبة » (4) وغير ذلك من الروايات الواردة في بطلان الصلاة بالزيادة.

ومقتضى إطلاق الروايات هو عدم الفرق بين الزيادة العمدية والسهوية ، ولكن مقتضى حديث « لا تعاد » هو أن الزيادة السهوية لا توجب البطلان ، والنسبة بينه وبين بعض الروايات المتقدمة هي العموم من وجه ، فان الحديث يختص بصورة النسيان ويعم صورة الزيادة والنقيصة ، والروايات المتقدمة تختص بصورة الزيادة وتعم صورة العمد والنسيان ، فيقع التعارض بينهما في الزيادة السهوية ، فان مقتضى إطلاق حديث « لا تعاد » هو عدم البطلان بالزيادة السهوية ، ومقتضى إطلاق بعض الروايات المتقدمة هو البطلان.

هذا ، ولكن لابد من تقديم إطلاق حديث « لا تعاد » وترجيحه على

ص: 238


1- أقول : لولا شبهة القرينية ، كما أشرنا إليها.
2- الوسائل : الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 2.
3- الوسائل : الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 1 ، مع اختلاف في بعض العبارات.
4- الوسائل : الباب 40 من أبواب القراءة الحديث 1 ، وفيه « فان السجود ».

إطلاقات الروايات ، لحكومة الحديث على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع التي منها هذه الأخبار الدالة على مانعية الزيادة ، فان لسان الحديث هو قصر الجزئية والشرطية والمانعية بغير صورة النسيان ، ومن المعلوم : أنه لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل يقدم الحاكم على المحكوم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه ، فلابد من تقييد الأخبار المتقدمة بغير صورة الزيادة السهوية.

نعم : النسبة بين حديث « لا تعاد » وبين بعض الأخبار المتقدمة ، كقوله علیه السلام « وإذا استيقن أنه زاد في المكتوبة الخ » هي العموم المطلق ، لان قوله علیه السلام « إذا استيقن » يختص بصورة الزيادة السهوية ولا يعم النقيصة ولا الزيادة العمدية. وأما الحديث فهو وإن كان يختص بصورة النسيان ، إلا أنه أعم من الزيادة والنقيصة ، فيكون قوله علیه السلام « إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة » أخص مطلقا من قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » ومقتضى تحكيم الخاص على العام هو تخصيص حديث « لا تعاد » بالنقيصة السهوية ، فتكون الزيادة السهوية موجبة للبطلان بمقتضى قوله علیه السلام « إذا استيقن الخ ».

ولكن هذا بالنسبة إلى غير الاجزاء الركنية ، وأما بالنسبة إليها فالنسبة بينهما أيضا تكون بالعموم من وجه ، فان قوله علیه السلام « إذا استيقن » وإن كان يختص بالزيادة السهوية إلا أنه أعم من زيادة الركن وغيره ، وحديث « لا تعاد » وإن كان يعم الزيادة والنقيصة إلا أنه يختص بغير الركن ، فيقع التعارض بينهما في الزيادة السهوية في غير الركن ، فان إطلاق قوله : « إذا استيقن » يقتضي البطلان ، وإطلاق حديث « لا تعاد » يقتضي الصحة.

هذا ، ولكن الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة ، هو أن يكون قوله علیه السلام « إذا استيقن الخ » مخصوصا بالزيادة السهوية في الأركان ، لان النسبة بين قوله : « إذا استيقن » مع ما ورد من عدم إعادة الصلاة بزيادة السجدة

ص: 239

الواحدة سهوا هي العموم المطلق (1) فان قوله : « إذا استيقن » وإن اختص بالزيادة السهوية ، إلا أنه أعم من الركن وغيره ، وما دل على صحة الصلاة بزيادة السجدة الواحدة سهوا يختص بالزيادة السهوية في غير الركن ، فيكون هذا أخص مطلقا من قوله : « إذا استيقن » فلابد من تخصيصه بالزيادة السهوية في الأركان بعد القطع بعدم الفرق في الاجزاء الغير الركنية بين السجدة الواحدة وغيرها ، فيتحد مفاده مع عقد المستثنى في حديث « لا تعاد ».

ويكون المتحصل من مجموع الأدلة بعد تحكيم الخاص على العام وتقديم الحاكم على المحكوم ، هو أن الزيادة العمدية توجب البطلان في الأركان وغيرها ، وكذا الزيادة السهوية في الأركان ، وأما الزيادة السهوية في غير الأركان فهي لا تقتضي البطلان ، فتأمل فيما ذكرناه جيدا.

تكملة :

لا إشكال في عدم تحقق معنى الزيادة بفعل ما لايكون من سنخ أجزاء المركب قولا وفعلا ، كحركة اليد في الصلاة إذا لم يأت بها بقصد الجزئية. وأما لو قصد بها الجزئية ، سواء كان ذلك للجهل بالحكم أو للتشريع ، ففي بطلان الصلاة وعدمه وجهان (2) أقواهما البطلان ، لصدق الزيادة على ذلك ، فيندرج

ص: 240


1- أقول : والأولى أن يقال : إن المراد من المكتوبة ما أخذ من الكتاب ، فيكون بقرينة قوله في ذيل لا تعاد : « أن القراءة سنة والركوع فريضة » أن الركوع وما يلحق به من الأركان مأخوذات من الكتاب دون غيرها فيتخصص البطلان الحاصل بزيادة في المكتوبة بالأركان ، ولا يشمل غيرها ، كما لا يخفى. ثم إن ما أفيد من الجمع المزبور متين ، ولكن بعدما لا يوجب المخصص المنفصل انقلاب النسبة لازمه سقوط « لا تعاد » عن الحجية بالنسبة إلى زيادة السهوية في غير الركن الذي هو مورد تعارضهما ، ولا أظن التزامه من أحد ، وذلك يكشف عن عدم نظر القوم إلى الجمع المزبور ، فلا محيص حينئذ إلا مما ذكرنا في وجه الجمع، فتدبر.
2- 2 - أقول : قد تقدم أن قوام الزيادة بالتشريع الغير المنفك عن قصد الجزئية ، وإلا فلا مجال لان يرتبط بالصلاة كي يصدق أنه زاد فيه بحيث تكون الصلاة مزيدا فيه. نعم : مع قصد الجزئية ربما ينصرف أخبار الزيادة حينئذ إلى ما اعتبرت جزء للصلاة ، فلا يصدق الزيادة حينئذ بالنسبة إلى جزء الجزء ، فضلا عما ليس من سنخ الاجزاء. و من هنا نقول: إنّه لو قصد سورة و قرأ مقدارا منها فله أن يبدّله بسورة أخرى، بل له تكرار السورة، بل الحمد، لو كان المعتبر في جزئيّة الصلاة مجموع الحمد و السورة، كما لا يخفى. و ممّا ذكرنا أيضا ظهر فساد ما أفيد: من عدم احتياج زيادة الأفعال إلى قصد الجزئيّة، لما تقدّم أنّه ما لم يقصد الجزئيّة لا يرتبط بالصلاة كي يصدق زيادة فيه. و توهّم: صدق الزيادة على العدد المعتبر في الصلاة، مدفوع بأنّه مضافا إلى صدق هذا المعنى على القراءة المأتيّة لا بقصد الجزئيّة لأنّه زيادة على العدد المعتبر في الصلاة أيضا- و لم يقل به أحد- أنّ الزيادة على العدد في صلاته غير الزيادة في نفس الصلاة، إذا الصلاة في الأوّل ظرف للزيادة على العدد لا أنّها مزيد فيها، و في الثانية تكون الصلاة مزيدا فيها، و المنصرف من أدلة الزيادة هو الثاني لا الأوّل، و من المعلوم: أنّ هذا المعنى من الزيادة يحتاج إلى قصد الجزئيّة، كما هو ظاهر، فتدبّر.

فيما تقدم من أدلة الزيادة.

فما في بعض الكلمات : من أن الزيادة التشريعية لا تقتضي البطلان واضح الفساد ، لصدق الزيادة على الزيادة التشريعية ، فيعمها قوله علیه السلام « من زاد في المكتوبة فعلية الإعادة ».

هذا إذا لم يقصد الامتثال بمجموع الزائد والمزيد فيه ، وإلا فلا إشكال في البطلان ، لعدم قصد امتثال الامر. هذا إذا لم تكن الزيادة من سنخ الاجزاء.

وإن كانت من سنخها ، فان كانت من سنخ الأقوال - كالقراءة والتسبيح - فيعتبر في صدق الزيادة عليها قصد الجزئية بها ، وإلا كان ذلك من الذكر والقرآن الغير المبطل. وإن كان من سنخ الافعال - كالقيام والسجود - فالظاهر أنه لا يعتبر في صدق الزيادة عليها يقصد الجزئية ، فان السجود الثالث يكون زيادة في العدد المعتبر من السجود في الصلاة في كل ركعة ولو لم يقصد بالسجود الثالث الجزئية.

ص: 241

نعم : لا يبعد عدم صدق الزيادة مع قصد الخلاف ، كما إذا قصد بالسجود الثالث سجدة العزيمة أو سجدة الشكر ، فإنه لا يقال : « إن المكلف زاد في صلاته سجدة الشكر » بل يقال : « إنه سجد سجدة الشكر أو العزيمة في أثناء صلاته ».

هذا ، ولكن يظهر من التعليل الوارد في بعض الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في الصلاة : من أن السجود زيادة في المكتوبة ، أنه لا يعتبر في صدق الزيادة عدم قصد الخلاف ، بل الاتيان بمطلق ما كان من سنخ أفعال الصلاة يكون زيادة في المكتوبة ، فيكون المنهي عنه في باب الزيادة معنى أعم من الزيادة العرفية.

ولكن يمكن أن يقال : إن المقدار الذي يستفاد من التعليل هو صدق الزيادة على الفعل الذي لا يكون له حافظ وحدة ولم يكن بنفسه من العناوين المستقلة ، وأما إذا كان المأتي به في أثناء الصلاة من العناوين المستقلة بنفسه - كما إذا أتى المكلف بصلاة أخرى في أثناء صلاة الظهر - فالظاهر أنه لا يندرج في التعليل ، لان السجود والركوع المأتي بهما لصلاة أخرى لا دخل لهما بصلاة الظهر ولا يصدق على ذلك أنه زيادة في صلاة الظهر ، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد في بعض الاخبار : من أنه لو ضاق وقت صلاة الآيات وخاف المكلف أنه لو أخرها إلى أن يفرغ من الصلاة اليومية يفوت وقتها صلى الآيات في أثناء صلاة اليومية ولا يجب عليه استينافها بعد الفراغ من صلاة الآيات بل يبني عليها ويتمها (1) وليس ذلك إلا من جهة عدم كون ذلك زيادة في الصلاة اليومية.

وحينئذ يمكن التعدي عن مورد النص إلى عكس المسألة ، وهو ما إذا

ص: 242


1- راجع الوسائل الباب 5 من أبواب صلاة الكسوف والآيات الحديث 3 و 4. لكن مفاد أحاديث الباب هو إتيان صلاة اليومية أثناء الآيات ، لا العكس، فتأمل ( المصحح ).

تضيق وقت صلاة اليومية في أثناء صلاة الآيات ، فيمكن أن يقال : إنه يأتي باليومية في أثناء صلاة الآيات ولا تبطل بذلك ، فان بطلان صلاة الآيات إما أن يكون لأجل الزيادة وإما لأجل فوات الموالاة ، أما الزيادة : فالمفروض عدم صدقها على ما كان له عنوان مستقل ، وأما فوات الموالاة : فلا ضير فيه إذا كان ذلك لأجل تحصيل واجب أهم.

وعلى هذا يبتنى جواز الاتيان بسجدتي السهو من صلاة في أثناء صلاة أخرى إذا سهى المكلف عنهما في محلهما وتذكر بعدما شرع في صلاة أخرى ، بناء على وجوب سجود السهو فورا ، والمسألة فقهية لا ينبغي تطويل الكلام فيها في المقام ، وقد استقصينا البحث عن ذلك في كتاب الصلاة.

- الامر الثاني -
اشارة

لو تعذر أحد القيود الوجودية أو العدمية للمأمور به باضطرار ونحوه ، ففي سقوط التكليف عن المقيد وعدمه وجهان ، بل قولان : مبنيان على ثبوت القيدية في حال التعذر ، أو اختصاصها بحال التمكن ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي تحرير محل النزاع.

فنقول : قد تقدم في الامر السابق أنه لا يمكن انتزاع الجزئية والشرطية من الأوامر النفسية ، فان أقصى ما يقتضيه الامر النفسي هو وجوب ما تعلق به ، وأما كونه جزء أو شرطا للمأمور به فلا يمكن أن يفيده الامر النفسي ، فالجزئية والشرطية لا ينتزعان إلا من الأوامر الغيرية (1).

وأما المانعية : فيمكن انتزاعها من النهي الغيري والنهي النفسي ، كما في

ص: 243


1- أقول : قد تقدم سابقا بأن الأوامر الغيرية أيضا لا يصلح أن يكون منشأ انتزاع الجزئية أو الشرطية ، بل المنشأ ليس إلا الامر النفسي المتعلق بالمركب أو المقيد ، وربما يكشف عنه الأوامر الغيرية أو الارشادية ، كما لا يخفى.

باب النهي عن العبادة وكما في باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي ، فإنه يكون من صغريات النهي عن العبادة على أحد الوجهين في تحرير المسألة - كما سيأتي الإشارة إليهما - ولا إشكال في دخول المانعية المنتزعة من النواهي الغيرية في محل النزاع ، كدخول الجزئية والشرطية فيه.

وأما المانعية المنتزعة من النواهي النفسية : ففي دخولها في محل النزاع إشكال ، ينشأ من أن السبب الموجب لمانعية متعلق النهي هل هو نفس النهي؟ أو ملاكه؟ فعلى الأول : تخرج المانعية المنتزعة من النهي النفسي عن حريم النزاع في المقام ، وعلى الثاني تدخل فيه.

وتوضيح ذلك : هو أن النهي النفسي الذي يقتضي المانعية إما أن يكون هو النهي في باب النهي عن العبادة كالنهي عن الصلاة في الحرير - بناء على أن تكون مانعية الحرير لمكان حرمة لبسه - وإما أن يكون هو النهي في باب اجتماع الأمر والنهي.

فان كان الأول ، فتارة : تكون المانعية مسببة عن نفس النهي المتعلق بالحرير ومعلولة لحرمة لبسه. وأخرى : تكون مسببة عن ملاك النهي ومعلولة للمفسدة التي أوجبت حرمة لبس الحرير ، فيكون النهي والمانعية معلولي علة ثالثة.

فعلى الأول : تدور المانعية مدار وجود النهي وتسقط بسقوطه لا محال ، لأنه لا يعقل بقاء المعلول مع زوال علته ، فلو اضطر إلى لبس الحرير أو أكره عليه أو نحو ذلك من الأسباب التي توجب رفع النهي عن لبس الحرير ، فالمانعية أيضا ترتفع بتبع رفعه وتصح الصلاة فيه ، وعلى هذا تخرج المانعية المنتزعة من النهي عن العبادة عن حريم النزاع ، فان المانعية إنما كانت لأجل أن النهي عن الشيء لا يجتمع مع الامر به ، لما بينهما من المضادة ، فلابد من تقييد الامر بالصلاة مثلا بما عدا مورد النهي ، فإذا ارتفع النهي بأحد موجباته يبقى إطلاق الامر بالصلاة على حاله كأن لم يكن في البين نهي من أول الامر ، فلا موجب لتوهم سقوط

ص: 244

الامر بالصلاة عند تعذر القيد والاضطرار إلى لبس الحرير مثلا ، وذلك واضح.

وعلى الثاني : لا تدور المانعية مدار وجود النهي ، فان المانعية إنما كانت معلولة لملاك النهي ، وسقوط النهي بالاضطرار أو الاكراه لا يوجب ارتفاع الملاك الذي اقتضى النهي عن لبس الحرير ، فإنه ليس للقدرة دخل في الملاك ، فلا موجب لارتفاع المانعية بارتفاع النهي ، بل لابد من بقائها لبقاء علتها وهي ملاك النهي ، وعلى هذا تكون المانعية المنتزعة من النهي عن العبادة كالمانعية المنتزعة من النهي الغيري داخلة في حريم النزاع في المقام ، فإنه يصح البحث عن أن الاضطرار إلى لبس الحرير في الصلاة هل يوجب سقوط الامر الصلاتي رأسا؟ على تقدير أن تكون المانعية مطلقة تعم صورة التعذر ، أو أنه لا يوجب سقوط الامر الصلاتي؟ على تقدير اختصاصها بصورة التمكن ، وهذا كله مما لا إشكال فيه.

إنما الاشكال فيما فهو الصحيح من الوجهين ، فالمحكي عن المشهور : أن سقوط النهي يوجب سقوط المانعية ، وعلى بنوا جواز الصلاة في الحرير عند الاضطرار إلى لبسه ، وهذا لا يستقيم إلا بجعل المانعية مسببة عن نفس النهي لا عن ملاكه.

ولكن الانصاف : أنه لا يمكن المساعدة على ذلك (1) بل الوجه الصحيح

ص: 245


1- أقول : من التزم بمانعية النهي لوجود الامر بالصلاة بمناط المضادة له أن لا يلتزم بالمقدمية ، بل يدعي الملازمة بينهما ، وتعبيره بالمانعية بنحو من العناية ، فلا بأس حينئذ أن يلتزم بمجئ الامر بمحض سقوط النهي ، كما أنه لو التزم بالتقيد بعدم النهي لا يكون لازما الالتزام بالتقيد بالملاك ، بل كان نفس النهي الفعلي كافيا في القيدية ، وحينئذ لا يكون منشأ تقيد الامر الصلاتي به صرف مضادة الامر مع النهي ، بل الدليل الشرعي أوجب مثل هذا التقيد المستلزم لتأخر رتبة الامر عن النهي ، بل وتقيد مناط الامر بعدم النهي الفعلي ، لا بعدم ملاك النهي ، كما لا يخفى. ولعمري! انه أری من هذه الكلمات إلا مصادرات محضة.

هو أن تكون المانعية معلولة للملاك لا للنهي ، فإنه لو كان وجود النهي سببا للمانعية وكان تقييد الامر الصلاتي بما عدا الحرير من لوازم وجود النهي يلزم أن يكون ارتفاع أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر وبالعكس ، فإنه لا وجه لتقيد الامر الصلاتي بما عدا مورد النهي إلا لما بين الأمر والنهي من المضادة ، فلو كان ارتفاع النهي باضطرار ونحوه يقتضي زوال المانعية وعود إطلاق الامر وشموله لمورد النهي ، كان ذلك عين القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ومقدمية وجود أحدهما لعدم الآخر ، لان ارتفاع النهي يصير مقدمة لوجود الامر ، ووجود النهي يصير مقدمة لعدم الامر ، وهذا ينافي ما بنوا عليه في مبحث الضد : من إنكار المقدمية في الضدين من الجانبين ، وكأن المشهور غفلوا عما يترتب على مقالتهم : من كون المانعية معلولة لوجود النهي.

فاللازم بناء على إنكار المقدمية في الضدين هو أن تكون المانعية معلولة لملاك النهي ، فلا يكون زوال النهي سببا لزوال المانعية وعود الامر ، بل المانعية تبقى ببقاء علتها. هذا كله في المانعية المنتزعة من النهي عن العبادة.

وأما المانعية المنتزعة من النهي في باب اجتماع الأمر والنهي ، فخلاصة الكلام فيها هي : أن البحث عن اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين :

الأول : في أنه هل يلزم من تصادق عنوان المأمور به والمنهي عنه في مورد أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي وبالعكس؟ أو أنه لا يلزم من تصادق العنوانين تعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فيكون النزاع في هذا المقام صغرويا راجعا إلى أصل اجتماع الأمر والنهي وعدمه بعد الفراغ عن امتناع اجتماعهما لما بينهما من المضادة.

المقام الثاني : في أنه عند وجود المندوحة والقدرة على إيجاد متعلق الامر في مورد لا يجتمع معه متعلق النهي وبالعكس هل يجب تخصيص إطلاق الامر بما عدا الفرد المجامع لمتعلق النهي؟ أو تخصيص إطلاق النهي بما عدا الفرد المجامع

ص: 246

لمتعلق الامر؟ أو أنه لا يجب ذلك بل يبقى إطلاق كل من الأمر والنهي على حاله؟ ولا يخفى أن البحث عن المقام الثاني إنما يصح بعد البناء على أن تصادق العنوانين لا يقتضي أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي فلا يلزم اجتماع الضدين ، وإلا سقط البحث عن المقام الثاني بالمرة ، بداهة أنه لو بنينا في المقام الأول على الامتناع وأنه يلزم من تصادق العنوانين اجتماع الضدين ، فلا يبقى مجال للبحث عن أن وجود المندوحة يقتضي تقييد الاطلاق أو لا يقتضيه ، فان وجود المندوحة وعدمه لا دخل له باجتماع الضدين وعدمه ، لاستحالة الامر بالضدين ولو فرض محالا قدرة المكلف على الجمع بينهما ، لأنه لا يمكن ثبوتا تعلق الإرادة والكراهة والحب والبغض في شيء واحد ، وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث اجتماع الأمر والنهي.

فلو بنينا على عدم كفاية تعدد الجهة وأنه يلزم من تصادق العنوانين أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي ، فلا محيص عن القول بتخصيص إطلاق الامر أو النهي بما عدا الفرد المجامع لمتعلق الآخر ، لكي لا يلزم اجتماع الضدين.

وحينئذ لو قدمنا جانب النهي - إما لكون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، وإما لكون الاطلاق فيه شموليا وإطلاق الامر بدليل والاطلاق الشمولي مقدم على الاطلاق البدلي ، أو غير ذلك من الوجوه التي ذكروها لتقديم إطلاق النهي وتخصيص إطلاق الامر بما عدا الفرد المجامع للمنهي عنه - فيكون النهي في باب اجتماع الأمر والنهي من صغريات النهي عن العبادة (1)

ص: 247


1- أقول : لو كان موضوع البحث في النهي في العبادة اقتضاء النهي بوجوده الواقعي للفساد ، لا يكون ذلك إلا بتقيد مناط الامر بمورد النهي ، وحينئذ لا يكاد دخول النهي بمناط استحالة الاجتماع مع الامر في هذا الباب ، لبداهة عدم اقتضاء البرهان في هذا الباب تقيد المصلحة بغير مورد النهي ، ولذا نقول : إن النهي في باب الاجتماع - على القول بالاستحالة - بوجوده الواقعي لا يقتضي الفساد ، بل الفساد من لوازم تنجزه ، وبذلك يمتاز المسألتين عن الآخر ، ولا ربط لأحدهما بغيره ، فتدبر.

فإنه لا فرق بين أن يتعلق النهي بالعبادة أولا وبالذات وبين أن يتعلق بشيء آخر يتحد مع العبادة وجودا ، فيسري النهي منه إلى العبادة ، وعلى هذا يكون حكم المانعية المنتزعة من النهي في باب اجتماع الأمر والنهي حكم المانعية المنتزعة من النهي في باب النهي عن العبادة ، ويأتي فيها الكلام السابق : من أن المانعية معلولة للنهي أو لملاكه؟ فعلى الأول : لا تدخل في محل النزاع في المقام ، وعلى الثاني : تدخل ، بالبيان المتقدم. هذا إذا كان البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي عن المقام الأول.

وإن كان البحث فيها عن المقام الثاني ، وهو أن وجود المندوحة هل يقتضي بقاء الاطلاق في كل من طرف الأمر والنهي؟ كما ذهب إليه بعض الاعلام ، أو أن وجود المندوحة لا يقتضي ذلك؟ بل لابد من تقييد أحد الاطلاقين كما هو المختار ، فان غائلة التكليف بما لا يطاق لا ترتفع بوجود المندوحة ، كما أوضحناه في محله.

فعلى الأول : يخرج عن موضوع البحث في المقام ، فان النهي لا يستتبع المانعية حتى يبحث عن أنها مقصورة بصورة التمكن أو تعم صورة التعذر أيضا؟.

وعلى الثاني : فان قلنا بتخصيص إطلاق النهي فلا كلام أيضا ، لأنه في مورد الاجتماع لا نهي حتى يبحث عما يستتبعه من المانعية. وإن قلنا بتخصيص إطلاق الامر - كما هو الحق - فالنهي في مورد الاجتماع وإن كان يستتبع المانعية ، إلا أن المانعية حينئذ تدور مدار وجود النهي وترتفع بارتفاعه باضطرار أو إكراه أو نحوها (1) ولا يتمشى فيها الكلام السابق : من أن المانعية

ص: 248


1- 1 - أقول : بناء على عدم سراية الامر إلى مورد النهي - كما هو مبنى الكلام - فيصير المورد من قبيل المتضادين ، فنتيجة تخصيص الامر بالنهي يقتضي سقوط الامر الفعلي ، وأما مقام محبوبية العبادة فلا يكاد يسقط بالنهي عن عنوان آخر مجامع معه ، وحينئذ فعلى التحقيق : من كفاية صرف محبوبية الشيء في التقريب العبادي ، لا يوجب مثل هذا النهي الفعلي بطلان عبادته ، فمن أين حينئذ مجال انتزاع المانعية عن مثل هذا النهي؟ كي يدور مدار وجوده.

معلولة للنهي أو للملاك؟ بل هي تتبع تنجز النهي فضلا عن وجوده ، فان تقديم النهي على هذا الوجه ليس لأجل تخصيص إطلاق الامر واقعا بما عدا الفرد المجامع للمنهي عنه ، بحيث لا يكون في الفرد المجامع ملاك الامر - كما هو الشأن في باب النهي عن العبادة - بل تقديم النهي إنما كان لأجل وقوع المزاحمة بينه وبين النهي ، فإذا سقط النهي يبقى الاطلاق في طرف الامر بلا مزاحم - كما هو الشأن في جميع موارد التزاحم - وحينئذ تخرج المانعية المنتزعة من النهي في باب اجتماع الأمر والنهي عن حريم النزاع في المقام ، لان تعذر القيد لا يوجب سقوط الامر عن المقيد قطعا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن النهي النفسي المستتبع للمانعية إن كان هو النهي في باب النهي عن العبادة أو في باب اجتماع الأمر والنهي على الوجه الأول ، كان اللازم بقاء المانعية عند سقوط النهي لاضطرار ونحو. وإن كان هو النهي في باب اجتماع الأمر والنهي على الوجه الثاني ، فالمانعية تدور مدار وجود النهي وتسقط بسقوطه.

إذا عرفت ذلك : فلنرجع إلى محل البحث من أن تعذر القيد هل يقتضي سقوط المقيد رأسا أو لا؟.

والكلام في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : فيما تقتضيه القاعدة الأولية في باب القيود.

المقام الثاني : في قيام الدليل على خلاف القاعدة.

أما المقام الأول :

فحاصل الكلام فيه : هو أن القيدية تارة : تستفاد من نفسا الامر بالمركب

ص: 249

بما له من القيود والشرائط من دون أن يكون للقيد أمر يخصه ، بل كان هناك أمر واحد تعلق بعدة أمور على اختلاف في كيفية التعلق : من جزئية بعض وشرطية آخر ومانعية ثالث. وأخرى : تستفاد القيدية من أمر آخر تعلق بنفس القيد غير الامر الذي تعلق بالمركب ، كما إذا ورد عقيب الامر بالصلاة الامر بالسجود أو الطهارة فيها أو النهي عن لبس غير المأكول.

أما القسم الأول : فلا إشكال في سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد ، إذ المفروض أنه ليس هناك إلا أمر واحد تعلق بالمجموع من القيد والمقيد ، وسقوط الامر الواحد بسقوط بعض قيود متعلقه بديهي لا يحتاج إلى البيان. نعم : يمكن أن يتعلق بالباقي أمر آخر بعد سقوط الامر الأول ، وسيأتي البحث فيه في المقام الثاني.

وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان للقيد أمر يخصه ، فتارة : يكون للامر المتعلق به إطلاق شامل لصورة التمكن منه وعدمه. وأخرى : لا يكون للامر إطلاق ، بل كان الامر المتعلق بالمقيد مطلقا شاملا لصورة التمكن من القيد وعدمه. وثالثة : لا يكون لكل من الامر بالقيد والمقيد إطلاق ، بل كان كل منهما مجملا بالنسبة إلى حالة التمكن من القيد وعدمه.

فان كان لدليل القيد إطلاق لصورة التمكن منه وعدمه ، فلا إشكال في اقتضاء الاطلاق ثبوت القيدية حتى في صورة تعذر القيد ، ويلزمه سقوط الامر بالمقيد عند تعذره ، فلا يجب فعل المقيد خاليا عن القيد ، إلا أن يثبت وجوبه بأمر آخر : من أصل أو قاعدة - على ما سيأتي بيانه - وهذا من غير فرق بين أن يكون للامر المتعلق بالمقيد إطلاق أو لم يكن ، فإن إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاق دليل المقيد ، كحكومة إطلاق القرينة على ذيها.

وإن كان للامر المتعلق بالمقيد إطلاق يعم صورة التمكن من القيد وعدمه من دون أن يكون لدليل القيد إطلاق لذلك ، كما إذا قام الاجماع على اعتبار

ص: 250

شئ في الصلاة وكان المتيقن منه اختصاصه بصورة التمكن من ذلك الشيء ، فالمرجع عند تعذر القيد هو الرجوع إلى إطلاق الامر بالمقيد ، فيجب فعله خاليا عن القيد.

وإن لم يكن لكل من الامر بالقيد والمقيد إطلاق ، فالمرجع عند تعذر القيد هي الأصول العملية ، وهي تقتضي عدم وجوب الفاقد للقيد ، لأصالة البراءة عن وجوبه ، إلا إذا قلنا بجريان الاستصحاب ، وسيأتي البحث عنه.

ثم إن ما ذكرنا : من الرجوع إلى إطلاق دليل المقيد في صورة إجمال دليل القيد إنما يستقيم لو قلنا بوضع الألفاظ للأعم. وأما لو قلنا بوضعها للصحيح الجامع للشرائط والاجزاء ، فلا يصح الرجوع إلى إطلاق دليل المقيد ، لاحتمال أن يكون للقيد المتعذر دخل في الصحة ، فيكون اللفظ مجملا لا يصح الاخذ بإطلاقه ، وهذا هو الفارق بين الصحيح والأعم ، كما ذكر في محله.

وكيف كان : فقد عرفت أن مقتضى إطلاق دليل القيد سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد مطلقا ، من غير فرق بين القيود المستفادة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » و « لا صلاة إلا بطهور » وبين القيود المستفادة من مثل قوله : « اسجد في الصلاة » أو « لا تلبس الحرير فيها » وأمثال ذلك من الأوامر والنواهي الغيرية.

وقد نسب التفصيل بين ذلك إلى الوحيد البهبهاني قدس سره فذهب إلى سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد في الأول دون الثاني.

ويمكن توجيهه بأن الامر الغيري المتعلق بالجزء أو الشرط مقصور بصورة التمكن من ذلك الجزء أو الشرط ، لاشتراط كل خطاب بالقدرة على متعلقه ، فلابد من سقوط الامر بالقيد عند عدم التمكن منه ويبقى الامر بالباقي الفاقد للقيد على حاله ، كما إذا لم يرد أمر بالقيد من أو الامر.

وهذا بخلاف القيدية المستفادة من متل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة

ص: 251

الكتاب » ونحوه ، فإنه لم يتعلق أمر بالفاتحة والطهور حتى يشترط فيه القدرة عليهما ، بل إنما أفيد قيدية الطهور والفاتحة بلسان الوضع لا التكليف ، فان معنى قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » هو أنه لا تصح الصلاة إلا بالفاتحة ، ولازم ذلك سقوط الامر بالصلاة عند تعذر الفاتحة ، لعدم تمكن المكلف من إيجاد الصلاة الصحيحة عند عدم تمكنه من الفاتحة أو الطهور ، هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلام الوحيد رحمه اللّه من التفصيل بين القيود.

ولا يخفى ما فيه ، فان القدرة إنما تعتبر في متعلقات التكاليف النفسية لكونها طلبا مولويا وبعثا فعليا نحو المتعلق ، والعقل يستقل بقبح تكليف العاجز ، بل لو فرض عدم استقلال العقل بذلك وقلنا بمقالة الأشاعرة : من جواز التكليف بما لا يطاق ، كان نفس الخطاب يقتضي القدرة على متعلقه في التكاليف النفسية ، لان التكليف النفسي يكون تحريكا وبعثا لإرادة المكلف نحو أحد طرفي المقدور : من الفعل أو الترك ، فكل خاطب يتضمن البعث والتحريك يتضمن القدرة لا محالة.

وهذا بخلاف الخطابات الغيرية المتعلقة بالاجزاء والشرائط (1) فإنه يمكن أن يقال : إن مفادها ليس إلا الارشاد وبيان دخل متعلق الخطاب الغيري في متعلق الخطاب النفسي - كما هو الشأن في الخطابات الغيرية في باب الوضع والأسباب والمسببات - حيث إن مفادها ليس إلا الارشاد إلى دخل المتعلق في حصول المسبب ، ففي الحقيقة الخطابات الغيرية في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلة الاخبار ، من دون أن يكون فيها بعث وتحريك للإرادة حتى تقتضي القدرة على المتعلق.

ص: 252


1- أقول : في اشتراط القدرة بحكم العقل لا يفرق بين الامر الغيري والنفسي. نعم : في الأوامر الارشادية لا يشترط القدرة ، وإرجاع أحدهما إلى الآخر غير وجيه ، بل لابد لهذا المجيب أن ينكر الغيرية ويثبت الارشادية ، لا أن يخلط أحدهما بالآخر.

ثم إنه لو سلم الفرق بين الخطابات الغيرية في باب متعلقات التكاليف وفي باب الوضعيات وأنها في التكاليف تتضمن البعث والتحريك ، فلا إشكال في أنه ليس في آحاد الخطابات الغيرية ملاك البعث المولوي (1) وإلا خرجت عن كونها غيرية ، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع ، فالقدرة إنما تعتبر أيضا في المجموع لا في الآحاد ، وتعذر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع ، ولازم ذلك سقوط الامر من المجموع لا من خصوص ذلك البعض ، لان تعذر البعض يقتضي تعذر استيفاء الملاك القائم بالمجموع ، فلا فرق بين القيدية المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » والقيدية المستفادة من الامر أو النهي الغيري.

فظهر : أن مقتضى القاعدة الأولية سقوط الامر بالمقيد عند تعذر بعض قيوده إن لم يكن لدليل المقيد إطلاق يمكن التمسك به ، من غير فرق بين أن يكون لدليل القيد إطلاق أو لم يكن.

المقام الثاني :
اشارة

في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة الأولية.

ومجمل الكلام فيه : هو أنه ربما يتمسك لوجوب ما عدا القيد المتعذر بالاستصحاب وبقاعدة الميسور.

ص: 253


1- أقول : إنه ليس في هذا الكلام إلا مصادرة محضة! بل كل أمر مستقل مولوي نفسيا كان أم غيريا يقتضي بعثا مستقلا محتاجا إلى قدرة على متعلقه محضا ، لان نتيجة الامر بكل مقدمة ليس إلا سد باب عدم ذيها من قبله ، وحينئذ بعدم القدرة عليه يسقط هذ الامر. نعم : لولا ظهور الخطاب في دخل المأمور به بالامر الغيري بنحو الاطلاق في المأمور به بأمر آخر نفسي ، كان لاطلاق الامر النفسي بالمقيد مجال. ولكن الذي يسهل الخطب ظهور الخطابات الغيرية ولو بمادتها في دخل المتعلق بنحو الاطلاق في المقيد ، فلا يفي حينئذ سقوط الامر الغيري لاثبات الامر بالبقية بتوسيط خطابه ، كما لا يخفى.

أما الاستصحاب : فسيأتي الكلام فيه.

وأما القاعدة : فالمدرك فيها هو قوله صلی اللّه علیه و آله « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » (1) وقوله علیه السلام « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) وقوله علیه السلام « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (3). واشتهار هذه الروايات بين الأصحاب يغني عن التكلم في سندها ، فالمهم هو بيان مقدار دلالتها.

أما قوله صلی اللّه علیه و آله « إذا أمرتكم بشيء » الخبر ، فيشكل دلالته على ما نحن فيه : من وجوب الباقي عند تعذر بعض الاجزاء أو الشرائط ، فان المراد من الشيء المأمور به بقرينة المورد هو الكلي الذي له أفراد طولية لا الكل المركب من الاجزاء ، فإنه ورد في الحج عند سؤال بعض الصحابة عن وجوبه في كل عام وإعراضه صلی اللّه علیه و آله عن الجواب حتى كرر السائل سؤال مرتين أو ثلاث ، فقال صلی اللّه علیه و آله « ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم ، واللّه! لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم » إلى أن قال صلی اللّه علیه و آله « فإذا أمرتكم بشيء فأتوا من ما استطعتم » الخبر. والمعنى « إذا أمرتكم بشيء كلي تحته أفراد فاتوا من تلك الافراد بقدر استطاعتكم » فيدل على استحباب الافراد الممكنة أو وجوبها ، ولا دلالة على وجوب الاجزاء الممكنة من المركب ، فان ذلك لا يناسب المورد وجهة السؤال.

وتوهم : أنه يمكن أن يكون المراد من « الشيء » الأعم من الكل والكلي ، والمعنى « إذا أمرتكم بشيء ذي أجزاء أو ذي أفراد فأتوا من تلك الأجزاء أو الافراد بقدر ما استطعتم » فاسد ، إذ لا جامع بينهما ، فان لحاظ الافراد يباين لحاظ

ص: 254


1- عوالي اللئالي : ج 4 ص 58 مع اختلاف يسير.
2- عوالي اللئالي : ج 4 ص 58 مع تفاوت يسير.
3- عوالي اللئالي : ج 4 ص 58.

الاجزاء ولا يصح استعمال كلمة « من » في الأعم من الاجزاء والافراد ، وإن صح استعمال « الشيء » في الأعم من الكل والكلي (1).

فالانصاف : أن مورد الرواية يوجب وهن دلالتها على ما نحن فيه وإن كان لها ظهور في ذلك مع قطع النظر عن المورد ، فان كلمة « من » ظاهرة في التبعيض ، واحتمال أن تكون بيانية أو بمعنى الباء بعيد ، إلا أنه يقرب هذا الاحتمال مورد الرواية.

وأما قوله علیه السلام « الميسور لا يسقط بالمعسور » فظهوره فيما نحن فيه مما لا يكاد يخفى ، إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الافراد ، بل ظاهره أن ميسور كل شيء لا يسقط بمعسوره ، والمراد من عدم سقوط الميسور عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي أو الاستحبابي ، نظير قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » فان معناه عدم نقض المتيقن بما له من الحكم بالشك ، ومن هنا يجري الاستصحاب في التكاليف الوجوبية والاستحبابية ، فالقاعدة تعم كلا من ميسور الواجب والمستحب.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من عدم عموم القاعدة للتكاليف الوجوبية والاستحبابية ، فإنه إن أريد من النفي خصوص الاستحباب أو مطلق الرجحان فرجحان الميسور لا يلازم وجوبه ، وإن أريد من النفي خصوص الوجوب خرجت التكاليف الاستحبابية عن عموم القاعدة.

وأما قوله علیه السلام « مالا يدرك كله لا يترك كله » فلا يبعد أيضا أن يكون المراد من الموصول الأعم من الكل والكلي ، بل ربما يقال بظهوره في

ص: 255


1- أقول : تصور الجامع بلحاظ تبعض حصص الطبيعي في أفراده ، فإذا أريد من الشيء الأعم من الكل والكلي ، فلا بأس بإرادة التبعيض من الكلي بلحاظ حصصه الموجودة في ضمن أفراده والتبعيض من الكل من الاجزاء المندرجة في ضمنه ، وتطبيق العام على مورد خاص أيضا لا يوجب تخصيص العام به ، فتأمل.

خصوص الكل المركب من الاجزاء ولا يشمل الكلي. ولكنه ضعيف ، فإنه لا موجب لاختصاص الموصول بالكل ، بل يعم الكلي أيضا.

فدلالة الخبرين على وجوب ما عدا القيد المتعذر مما لا ينبغي الاشكال فيها ، وهما المدرك لقاعدة الميسور.

إيقاظ :

يعتبر في القاعدة أن يكون الباقي المتمكن منه مما يعد عرفا ميسور المتعذر ، بأن يكون الباقي ركن المركب وما به قوامه (1) وكان المتعذر من الخصوصيات الخارجة عن الحقيقة وإن كانت معتبرة فيه شرعا أو عرفا ، إذ لولا ذلك لم يصدق على الباقي أنه ميسور المتعذر ، بل كان أمرا مباينا له ، فكل ما صدق على المتمكن منه أنه ميسور المتعذر يندرج في القاعدة ، ولابد من إحراز ذلك ولا يكفي الشك فيه ، وهذا مما لا إشكال فيه.

إنما الاشكال في تشخيص كون الباقي ميسور المتعذر في الموضوعات الشرعية ، فإنه في الموضوعات العرفية يمكن تشخيص ذلك ، فان القيام مثلا الذي اخذ جزء للصلاة له معنى عرفي وهي الهيئة المقابلة لهيئة الجلوس والمشي والاضطراب الفاحش ، وله خصوصيات اخر اعتبره الشارع فيه : من الاستقرار

ص: 256


1- أقول : لا يبعد أن يكون المراد من ميسور الشيء ما يعد عرفا من سنخ الشيء وغير مبائن معه ، وفي تشخيص السنخية المزبورة لدى العرف لا يفرق بين الموضوعات الشرعية والعرفية ، فان كون الموضوع شرعيا لا ينافي كون تشخيص ما هو من سنخه وغير مبائن معه - ولو صورة - بيد العرف. نعم : حسب الوفاء بسنخ المصلحة القائمة بالمجموع غير مرتبط بفهم العرف ، من غير فرق في ذلك بين الموضوعات الشرعية والعرفية ، وحينئذ ربما يجعل السنخية الصورية التي كان تشخيصه بيد العرف طريقا إلى سنخية المصلحة ، وحينئذ فمهم لم يكن للشارع تخطئة لهم فيؤخذ بفهمهم ، ومهما كان في النص مثل هذه التخطئة فلا يؤخذ بفهمهم ، وأما كون المدار في صدق ميسور الشيء على الركنية الواقعية بحيث يقصر فهم العرف عن تشخيصه في الشرعيات ، فهو أيضا ليس إلا مصادرة محضة.

والاعتماد على الأرض والانتصاب وغير ذلك ، فلو تعذر الاعتماد على الأرض أو الاستقرار يصدق على الباقي المتمكن منه أنه ميسور المتعذر ، فلا ينتقل الفرض إلى الجلوس أو المشي للتمكن من تلك الهيئة التي يتقوم بها حقيقة القيام عرفا.

وأما لو فرض تعذر تلك الهيئة ودار الامر بين الجلوس والمشي ، ففي تقديم المشي على الجلوس بدعوى : أنه أقرب إلى القيام ، إشكال ، إذ لا أثر للأقربية ما لم يصدق على المشي أنه ميسور المتعذر ، ولا يصدق ذلك ، لان العرف يعد المشي مباينا للقيام ، وكذا الكلام في الركوع والسجود ونحو ذلك من الموضوعات العرفية ، فإنه يمكن فيها تشخيص كون الباقي ميسور المتعذر بالنسبة إلى بعض المراتب ، وبالنسبة إلى بعضها الآخر يقطع بعدم الصدق ، وقد يشك أيضا ، إذ الشك في الموضوعات العرفية ليس بعزيز الوجود ، فلابد في ذلك من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصول العملية ، هذا في الموضوعات العرفية.

وأما الموضوعات الشرعية : فتشخيص الركن عن غيره والميسور عن المباين في غاية الاشكال ، فان كون الركعتين أو الثلاث ميسور الأربع عند تعذر الأربع مما لا طريق إلى إحرازه ، إذ من المحتمل أن تكون خصوصية الأربع ركنا لصلاة الظهر ومقومة لحقيقتها ، وكذا كون الغسلات الثلاث بلا مسح عند تعذر المسح ميسور الوضوء مما لا يكاد يعلم ، إذ من المحتمل أن يكون للمسح دخل في حقيقة الوضوء

ولذا اختلف الأصحاب عند تعذر المسح ببلل الماسح على أقوال ثلاث : فقيل : إنه ينتقل إلى التيمم ، وقيل : إنه يمسح من غير بلة ، وقيل إنه يأخذ من بلل سائر الأعضاء أو من ماء آخر ، وليس هذا الاختلاف إلا لأجل عدم تشخيص الركن في قوله علیه السلام « امسح ببلة يمناك » (1) فإنه يحتمل أن

ص: 257


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب الوضوء ، الحديث 2 وفيه : « وتمسح ببلة يمناك ».

يكون الركن هو السمح باليمنى وكون المسح بالبلة من الخصوصيات الخارجة المعتبرة فيه ، ويحتمل أيضا أن يكون الركن هو المسح بالبلة وكون البلة من اليمنى من الخصوصيات المعتبرة ، ويحتمل أيضا أن يكون الركن مجموع الأمرين ، وهذه الاحتمالات صارت منشأ للأقوال الثلاثة.

وبالجملة : معرفة الميسور في الموضوعات الشرعية في غاية الاشكال ، ولأجل ذلك قيل : « إن التمسك بقاعدة الميسور في العبادات يتوقف على عمل الصحابة » فان الحاجة إلى عمل الأصحاب ليس لجبر السند أو الدلالة ، فان السند لا يحتاج جبره إلى العمل بالرواية في جميع الموارد ، بل يكفي في الجبر العمل بالرواية في الجملة ولو في مورد واحد ، وأما الدلالة فالعمل غير جابر لها - كما حققناه في محله - فالحاجة إلى العمل في المقام إنما هو لأجل تشخيص الركن في العبادة ليكون الباقي ميسور المتعذر ، فان من عمل الصحابة بالقاعدة في مورد يستكشف أن الباقي كان عندهم ركنا وأنهم أخذوا ذلك من أئمتهم علیهم السلام فتأمل جيدا.

ثم إنه لا فرق في القاعدة بين الاجزاء والشرائط ، إذ رب شرط يكون ركنا للمركب كالطهارة للصلاة ، ورب شرط لا يكون ركنا كالاستقبال ، فالتفصيل بين الاجزاء والشرائط بدخول الاجزاء في القاعدة دون الشرائط مما لا وجه له ، هذا كله في التمسك بالقاعدة على وجوب الباقي المتمكن منه.

وأما التمسك بالاستصحاب على وجوبه ، فيعتبر في جريانه كل ما يعتبر في القاعدة ، لأنه يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا ، وبقاء الموضوع إنما يكون ببقاء أركانه المقومة لحقيقته وكان منشأ الشك انتفاء بعض الخصوصيات الخارجة عن الحقيقة التي لا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا ، وسيأتي تفصيل ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في مبحث الاستصحاب.

ص: 258

وإجماله : أن الوصف العنواني الذي اخذ موضوعا في ظاهر الدليل تارة : يكون تمام الموضوع للأثر الذي رتب عليه. وأخرى : يكون معرفا لما هو الموضوع من دون أن يكون له دخل في حقيقة الموضوع ، واستظهار أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من مناسبة الحكم والموضوع ، فان مناسبة الحكم والموضوع في مثل « قلد المجتهد الحي » أو « أعط الزكاة للفقير » تقتضي أن يكون لوصف الاجتهاد والفقر دخل في جواز التقليد وإعطاء الزكاة ويكون هو الموضوع لذلك ، بحيث يدور بقاء الموضوع وارتفاعه ببقاء الوصف العنواني وارتفاعه ، كما أن مناسبة الحكم والموضوع في مثل نجاسة الماء المتغير تقتضي أن يكون الموضوع هو ذات الماء لا وصف التغير بل يكون الغير علة لعروض النجاسة على الماء ، فلا يدور بقاء الموضوع مدار بقاء وصف التغير ، بل الموضوع باق عرفا ولو زال التغير.

وقد يشك في دخل الوصف العنواني وعدمه ، والاستصحاب إنما يجري فيما علم عدم مدخلية الوصف في الموضوع وكان منشأ الشك احتمال أن يكون التغير علة للحدوث والبقاء فيرتفع الحكم بارتفاع علته لا بارتفاع موضوعه ، وأما إذا علم بأن للوصف العنواني دخلا في الموضوع أو شك في ذلك ، فالاستصحاب لا يجري ، للعلم بارتفاع الموضوع في الأول والشك في بقائه في الثاني ، فلم يحرز اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة. هذا إجماله وتفصيله موكول إلى محله.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه يصح التمسك بالقاعدة لما نحن فيه : من وجوب الباقي المتمكن منه عند تعذر بعض الشرائط والاجزاء التي لا تعد من الأركان ، من غير فرق بين أن يكون لدليل القيد إطلاق أو لم يكن ، إذ إطلاق دليل القيد لا يقتضي أزيد من ثبوت القيد حتى عند العجز عنه ، وهذا لا ينافي قيام دليل آخر على وجوب الخالي عن القيد عند تعذره ، إذ ليس لدليل القيد مفهوم ينفي الحكم عما عداه حتى يقع التعارض بينه وبين ما يدل على وجوب الباقي ،

ص: 259

فقاعدة الميسور تقتضي وجوب الفاقد للقيد المتعذر ، ولا مجال للبراءة مع القاعدة ، وذلك واضح.

وأما التمسك بالاستصحاب : فالأقوى فيه التفصيل بين إجمال دليل القيد وإطلاقه ، فإنه لا مجال للاستصحاب مع إطلاق دليل القيد ، لان إطلاقه يقتضي بقاء القيدية عند تعذر القيد ، ولازم ذلك هو ارتفاع ذلك الشخص من الوجوب المتعلق بالكل عند تعذر بعض أجزائه ، فلا معنى لاستصحابه ، للقطع بارتفاعه ، إلا بناء على اعتبار القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، وسيأتي عدم اعتبار هذا القسم من الاستصحاب إلا على بعض الوجوه. هذا إذا كان لدليل القيد إطلاق.

وأما إذا لم يكن له إطلاق يعم صورة التعذر ، فالاستصحاب يجري - لولا حكومة القاعدة عليه - للشك في ارتفاع ذلك الشخص من الوجوب ، لاحتمال أن تكون القيدية مقصورة بصورة التمكن من القيد ، فيبقى وجوب الباقي على حاله.

هذا ، ولكن شيخنا الأستاذ - مد ظله - كان يميل إلى عدم التفصيل بين إطلاق دليل القيد وعدمه وأن الاستصحاب يجري في كلا الصورتين - لولا حكومة القاعدة عليه - ولم يذكر لذلك وجه يمكن الاعتماد عليه ، فتأمل جيدا.

فرعان :

الأول : إذ دار الامر بين سقوط الجزء أو الشرط بأن تعذر جمعهما في الامتثال ، ففي وجوب صرف القدرة في الجزء وفعل المركب فاقدا للشرط ، أو التخيير في صرف القدرة في أحدهما إن لم يكن في البين أحد مرجحات باب التزاحم وإلا تعين صرف القدرة في الراجح منهما ، وجهان بل قولان : أقواهما الثاني

ص: 260

وربما يقال : إنه يتعين صرف القدرة في الجزء ، بتوهم : أن تقدم رتبة الجزء على الشرط في مقام تأليف الماهية - حيث إن نسبة الجزء إلى الأثر المقصود نسبة المقتضي المقدم طبعا على الشرط - يقتضي تقدم الجزء على الشرط في مقام الامتثال أيضا.

وفيه : منع الملازمة ، فان تقدم لحاظ الجزء في مقام التأليف لا يقتضي ترجيحه على الشرط عند وقوع التزاحم بينهم ، بل لابد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فربما يقدم الشرط على الجزء إذا كان في الشرط أحد موجبات التقديم من الأهمية وغيرها. ويظهر من الشيخ قدس سره تقديم الجزء مطلقا ، ولا وجه له.

الفرع الثاني : إذا كان للمركب بدل اضطراري - كالوضوء - وتعذر بعض الاجزاء أو الشرائط التي لا تكون من الأركان ، ففي وجوب الناقص وعدم الانتقال إلى البدل الاضطراري وعدمه وجهان : أقواهما الأول ، إذ لا موجب للانتقال إلى البدل الاضطراري (1) لان الانتقال إليه يتوقف على عدم التمكن من المركب الذي هو الواجب بالأصالة ، وقاعدة الميسور تقتضي تعين الباقي المتمكن منه ، ويصير الواجب هو الخالي عن المتعذر ، فيكون بمنزلة الواجب الأصلي ، فلا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري ، فتأمل جيدا.

- الامر الثالث -
اشارة

لو دار الامر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، فالأقوى فيه الاحتياط بتكرار العبادة ، لأنه يكون من دوران الامر بين المتباينين مع التمكن من الموافقة

ص: 261


1- أقول : بعدما لم يكن مفاد القاعدة تنزيل الباقي منزلة الكل ، فتقديمه على البدل الاضطراري فرع نظر دليل البدل إلى صورة الاضطرار عن الشيء بجميع مراتبه ، وإلا فلو كان نظره إلى الاضطرار عن المرتبة الكاملة ، فتقديم القاعدة عليه ممنوع أشد المنع.

القطعية ، وليس من الأقل والأكثر - كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره أخيرا - لأن الشك في المقام يرجع إلى حقيقة المأمور به وأنه متشخص بقيد وجودي أو بقيد عدمي ، ولا جامع بينهما.

وبعبارة أخرى : يرجع الشك إلى أن المأمور به « بشرط شيء » أو « بشرط لا » هذا لا ربط له بباب الأقل والأكثر ، لأن الشك فيه يرجع إلى كون المأمور به « لا بشرط » أو « بشرط شيء » فتوهم اندراج المقام في مسألة الأقل والأكثر ضعيف غايته.

وأضعف من ذلك توهم اندراج المقام في باب دوران الامر بين المحذورين ، بتخيل عدم التمكن من المخالفة القطعية بالنسبة إلى المشكوك فيه ، لان الفعل إما أن يكون واجدا للمشكوك وإما أن يكون فاقدا له ، وعلى كلا التقديرين لا يعلم بالمخالفة ، فلا مانع من جريان البراءة عن كل من الشرطية والمانعية ، لأنه لا يلزم من ذلك مخالفة عملية ، فيكون المكلف مخيرا بين الفعل الواجد للمشكوك والفاقد له ، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الامر بين المحذورين.

وجه الضعف : هو أن التخيير عند دوران الامر بين المحذورين إنما هو لأجل عدم التمكن من الموافقة القطعية لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك بحسب الخلقة ، ولذا كان التخيير فيه من التخيير العقلي التكويني وليس من التخيير الشرعي ، وأين هذا مما نحن فيه؟ فان المكلف يتمكن من الموافقة القطعية ولو بتكرار العبادة ، واجدة للمشكوك تارة وفاقده له أخرى ، واعتبار الامتثال التفصيلي والجزم بالنية إنما هو فيما إذا تمكن المكلف منه ، لا فيما إذا تعذر عليه ، فان العقل يستقل حينئذ بحسن الامتثال الاجمالي.

فظهر : أنه لا محيص في المقام من الاحتياط بتكرار العبادة ، من غير فرق بين أن يكون الشك في الشرطية والمانعية لأجل الشك في المكلف به وتردده بين القصر والاتمام ، أو لأجل الشك في كون الشيء شرطا للصلاة أو مانعا ، أو

ص: 262

لأجل الشك في كونه شرطا للجزء أو مانعا ، ففي جميع الأقسام المتصورة في دوران الامر بين الشرط والمانع يجب الاحتياط بتكرار العمل.

هذا تمام الكلام في مباحث الشك في المكلف به بأقسامه.

تتمة :

بقي من أقسام الشك في المكلف به ما إذا اشتبه الواجب بالحرام ، كما إذا علم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر واشتبه الواجب بالحرام ، وقد أطلق الشيخ قدس سره الحكم بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ، وذكر في وجهه : ان الموافقة الاحتمالية لكل من التكليفين أولى من الموافقة القطعية لأحدهما والمخالفة القطعية للآخر بعد عدم تمكن المكلف من الموافقة القطعية لكل منهما.

هذا ، ولكن الحكم بالتخيير بقول مطلق لا يخلو عن إشكال ، بل ينبغي ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فيقدم الموافقة القطعية للأهم منهما وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر ، فان المقام يندرج في صغرى التزاحم ، وإن كان بين التزاحم في المقام وبين غيره فرق ، لان التزاحم في غير المقام يرجع إلى ناحية القدرة التي هي شرط الخطاب ، لعدم القدرة على الجمع بين المتعلقين ، والتزاحم في المقام يرجع إلى ناحية تأثير العلم الاجمالي ، لان العلم الاجمالي بكل من الواجب والحرام يقتضي تنجيز التكليف بمتعلقه وتأثيره في الخروج عن عهدته والقطع بامتثاله ، وحيث لا يتمكن المكلف من الجري على ما يقتضيه كل من العلمين والخروج عن عهدة الامتثال القطعي لكل من التكليفين لجهله بمتعلق الوجوب والحرمة ، فلا محالة يقع التزاحم في تأثير العلم للامتثال القطعي لكل منهما ، وينبغي تأثير ما هو الأقوى منهما بحسب أقوائية الملاك القائم بمتعلقه ، فيقتضي الموافقة القطعية له ويسقط الآخر عن التأثير ، فلو

ص: 263

كان الحرام أقوى ملاكا قدم امتثاله القطعي وإن استلزم مخالفة الواجب ، وإن كان الواجب أقوى ملاكا قدم امتثاله القطعي وإن استلزم مخالفة الحرام.

فظهر الفساد القول بالتخيير بقول مطلق. نعم : لو لم يكن أحدهما أقوى ملاكا من الآخر صح القول بالتخيير ، على الوجه الذي أفاده فتأمل (1)

* * *

خاتمة

في بيان ما يعتبر في الاخذ بالبراءة والاحتياط

والبحث عن ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول: في ما يعتبر في العمل بالاحتياط
اشارة

والأقوى : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا أزيد من تحقق موضوعه : سواء كان الاحتياط حقيقيا محرزا للواقع على ما هو عليه ، أو إضافيا أقرب إلى الواقع ، كالاخذ بأحوط القولين أو الأقوال بين المجتهدين الاحياء ، وسواء كان على خلافه حجة معتبرة شرعية من أمارة أو أصل أو لم يكن.

ص: 264


1- وجهه : هو أنه لو جعلنا المقام من باب التزاحم في تأثير العلم الاجمالي في الموافقة القطعية لكل من التكليفين لكان ينبغي أن يكون الحكم فيه التخيير في الامتثال القطعي لأحدهما والمخالفة القطعية للآخر عند فقد المرجح ، وهذا غير التخيير الذي أفاده الشيخ قدس سره فتأمل ( منه ).

نعم : يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجة شرعية أن يعمل المكلف أولا بمؤدى الحجة ثم يعقبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة إحرازا للواقع ، وليس للمكلف العمل بما يخالف الحجة أولا ثم العمل بمؤدى الحجة ، إلا إذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفة الحجة للواقع استيناف جملة العمل وتكراره ، كما إذا كان مفاد الحجة عدم وجوب السورة في الصلاة ، فان رعاية احتمال مخالفتها للواقع يحصل بالصلاة مع السورة ولا يتوقف على تكرار الصلاة وإن كان يحصل بالتكرار أيضا.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الحجة وجوب خصوص صلاة الجمعة مع احتمال أن يكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر ، فان رعاية احتمال مخالفة الحجة للواقع لا يحصل إلا بتكرار العمل ، وفي هذا القسم لا يحسن الاحتياط إلا بعد العمل بما يوافق الحجة ولا يجوز العكس.

والسر في ذلك : هو أن معنى اعتبار الطريق : إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا وعدم الاعتناء به ، والعمل أولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال الخلاف (1) فان ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما إذا قدم العمل بمؤدى الطريق ، فإنه حيث قد أدى المكلف ما هو الوظيفة وعمل بما يقتضيه الطريق ، فالعقل يستقل بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع ، هذا مضافا إلى أنه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الطاعة التفصيلية - كما سيأتي بيانه - وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلف متمكنا من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدى الطريق ، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر (2).

ص: 265


1- أقول : معنى إلغاء احتمال الخلاف إلغائه في مقام التعبد بالعمل ، لا في مقام تحصيل الواقع رجاء كما هو واضح.
2- 2 - في النفس من كلا الوجهين شيء ، خصوصا في الوجه الأخير ، فان اعتبار الامتثال التفصيلي إنما هو في صورة التمكن منه في العمل الذي يأتي به بداعي الاحتمال ، وأما العمل الذي لا يمكن أن يأتي به إلا بداعي الاحتمال ، فلا ينبغي الاشكال في حسن الاتيان بداعي الاحتمال ، وفي المثال بعد قيام الطريق على وجوب صلاة الجمعة لا يمكن فعل الظهر إلا بداعي الاحتمال ، قدمها على صلاة الجمعة أو أخرها ، وتمكنه من الامتثال التفصيلي في صلاة الجمعة لا يوجب التمكن من ذلك في صلاة الظهر ، فالمقام أجنبي عن مسألة اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاحتمالي ، فتأمل جيدا ( منه ).

ثم إن وجوب تقديم العمل بمؤدى الحجة على الاحتياط إنما هو فيما إذا كانت الحجة محرزة للواقع : من امارة أو أصل تنزيلي.

وأما إذا كانت غير محرزة - كالأصول الغير التنزيلية - فلا يجب تقديم العمل بمؤداها على الاحتياط : إذ ليس مفاد الأصل الغير المحرز ثبوت المؤدى واقعا ولا إلقاء احتمال الخلاف ، بل مفاد اعتباره مجرد تطبيق العمل على مؤداه والجري على ما يقتضيه ، وتطبيق العمل على المؤدى لا ينافي رعاية احتمال الخلاف والعمل بما يوجب إحراز الواقع ، قدمه على العمل بمؤدى الأصل أو أخره.

هذا كله في الحجة التي قام الدليل على اعتبارها بالخصوص. وأما إذا كان اعتبارها بدليل الانسداد المستنتج منه حجية مطلق الظن ، فان قلنا بالكشف فحكمه حكم الامارة والأصل المحرز : من وجوب تقديم العمل بمؤدى الظن على العمل بالاحتياط ، وإن قلنا بالحكومة فحكمه حكم الأصل الغير المحرز : من عدم وجوب ذلك ، ولا يخفى وجهه.

إزاحة شبهة :

قد خالف في حسن الاحتياط في العبادات جملة من الفقهاء تبعا لقاطبة المتكلمين ، بتوهم : أن الاحتياط فيها يستلزم الاخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل

ص: 266

بالاحتياط مع التمكن منهما ، وقد حكي عن بعض : عدم كفاية قصد الوجه ، بل لابد مع ذلك من قصد الجهة التي اقتضت وجوب العبادة أو استحبابها. وفي المسألة أقوال اخر : من وجوب قصد التمييز والعلم بواجبات الاجزاء ومستحباتها ، وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع.

والتحقيق : أنه لا يعتبر شيء من ذلك في صحة العبادة ، بل القدر اللازم هو قصد امتثال أمرها الواقعي ، ولا يعتبر العلم بوجوبه أو استحبابه ، ولا العلم بواجبات الاجزاء ومستحباتها ، فضلا عن قصد ذلك ، فضلا عن قصد الجهة ، فان اعتبار هذه الأمور في العبادة ، إما لأجل توقف صدق الطاعة عقلا وتحقق الامتثال عرفا عليها ، وإما لأجل قيام الدليل بالخصوص على اعتبارها ، ولا سبيل إلى دعوى أحدهما في المقام.

أما الأول : فللقطع بحصول الطاعة والامتثال بقصد الامر الواقعي وإن لم يعلم بوجوبه واستحبابه ، بل يكفي مجرد العلم بتعلق الطلب بالعبادة ، ولا يتوقف قصد الامر على قصد وجهه : من الوجوب أو الاستحباب.

وتوهم : أنه لا وجود للقدر المشترك بين الوجوب والاستحباب واقعا بل الامر الواقعي لابد وأن يكون واجدا لاحد الوصفين فلو لم يقصد المكلف خصوصية الوجوب أو الاستحباب وقصد الامر المشترك بينهما فقد قصد أمرا لا وجود له واقعا ، فاسد ، فان عدم وجود القدر المشترك واقعا لا دخل له في ذلك ، فان المدعى كفاية قصد الامر الواقعي بما له من الوصف إجمالا وإن لم يعلم به تفصيلا. فدعوى : توقف صدق الطاعة وقصد الامر على قصد الوجه ، ضعيف غايته.

وأضعف منه اعتبار قصد الجهة : من المصلحة التي اقتضت وجوب العبادة ، فإنه لم يتعلق الطلب بالمصلحة ، كما أوضحناه سابقا. مع أنه لا وجه لتخصيص ذلك بالعبادات ، بل ينبغي التعميم للتوصليات أيضا ، لابتناء جميع الأوامر على

ص: 267

المصالح بناء على أصول العدلية.

وأما الثاني : فلانه لم نعثر فيما بأيدينا من الاخبار على ما يدل على اعتبار شيء من ذلك في العبادة ، مع أن المسألة مما تعم به البلوى ويتكرر الحاجة إليها ليلا ونهارا ، وليست من المرتكزات في أذهان العامة حتى يصح للشارع الاتكال على ذلك ، بل هي من المسائل المغفول عنها غالبا ، وما هذا شأنه يلزم على الشارع التأكيد في بيانه ، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم. ويصح لنا دعوى القطع بعدم اعتبار هذه الأمور في العبارة.

ثم إنه لو سلم عدم حصول القطع من ذلك فلا أقل من الشك فيه ، فتجري فيه أصالة البراءة - كالشك في أصل التعبدية والتوصلية - خلافا للشيخ قدس سره حيث منع عن جريان البراءة في المقام جريا على مبناه : من أصالة الاشتغال في كل ما شك في دخله في العبادة مما لا يمكن أخذه في متعلق الامر. ولكن هذا خلاف التحقيق عندنا ، فان قصد القربة بفروعها - من قصد الوجه ونحوه - وإن لم يكن أخذه في المتعلق ، إلا أنه لابد من أن ينتهي اعتباره إلى الشارع ولو بنتيجة التقييد ، وبالآخرة يرجع الشك في التعبدية والتوصلية بفروعها إلى الأقل والأكثر.

وتوهم : الفرق بين قصد القربة وبين فروعها برجوع الشك فيها إلى الشك في المحصل لاحتمال أن يكون لقصد الوجه مثلا دخل في حصول القربة عقلا فلا تتحقق الطاعة والامتثال بدونه ، فاسد ، فان أقصى ما يمكن أن يدعى هو أن يكون قصد الوجه قد اعتبر قيدا في حصول القربة وتحقق الامتثال ، إلا أن اعتباره على هذا الوجه إنما يكون بجعل من الشارع ، وليس من المجعولات العقلية بحيث يستقل العقل باعتبار قد الوجه في حصول الطاعة ، إذ ليس من وظيفة العقل اعتبار شيء قيدا أو جزء في المأمور به بل ذلك من وظيفة الشرع ، فيرجع الشك بالآخرة إلى أخذ الشارع قصد الوجه قيدا في المأمور به وتجري فيه

ص: 268

البراءة.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم قصد الوجه والتمييز ونحو ذلك.

نعم : يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم التمكن من إزالة الشبهة ، فان مراتب الامتثال عقلا أربعة : الأول : الامتثال التفصيلي. الثاني : الامتثال الاجمالي. الثالث : الامتثال الظني. الرابع : الامتثال الاحتمالي. ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلا بعد تعذر المرتبة السابقة ، فإنه فيما عدا المرتبة الأولى لا يمكن قصد امتثال الامر التفصيلي حال العمل ، ويعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم القدرة على الطاعة التفصيلية ، ولا يحسن من المكلف في مقام الطاعة قصد الامر الاحتمالي مع التمكن من قصد الامر القطعي التفصيلي ، لان حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه وتحركه عن تحريكه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق البعث والتحريك نحو العم ، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلف ، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثا (1) فلا يكاد يتحقق حقيقة الطاعة والامتثال إلا بعد العلم بتعلق البعث نحو العمل ليكون الانبعاث عن البعث.

نعم : الانبعاث عن البعث المحتمل أيضا مرتبة من العبودية ونحو من الطاعة

ص: 269


1- أقول : هذا البرهان يقتضي عدم صحة الامتثال والإطاعة الاحتمالية مطلقا ، لان الانبعاث عن الامر المحتمل ليس حقيقة انبعاثا ، مع أنه لم يلتزم به ، فلا محيص من أن يقال : إنه لا قصور في صدق الانبعاث من قبل الامر ، تارة جزما وأخرى رجاء ، ومرجع الأخير إلى جعل أمره المحتمل داعيا له في الحقيقة لان يتحرك الشخص من قبل أمره ، غاية الامر تحريك أمره إياه بواسطة مجرد احتماله ، كما هو الشأن في أمره الجزمي. وبعبارة أخرى : شرط محركية الامر إياه التفاته إليه بنحو التعين أو بنحو الاحتمال ، فالتعين والاحتمال واسطتان لتحريك الامر ، ففي الصورتين لا يكون انبعاثه إلا من قبل بعثه ، وعليه فلا يصلح هذا البرهان للترتب المزبور ، ولا وجه آخر غير المصادرة ، فتدبر.

والامتثال ، إلا أنه يتوقف حسن ذلك على عدم التمكن من الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة ، فمع التمكن من الامتثال التفصيلي لا يحسن من العبد الامتثال الاحتمالي ، والمفروض : أن الامتثال في جميع موارد الاحتياط لا يكون إلا احتماليا حتى في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، لعدم العلم بتعلق العبث في كل طرف من أطرافه وإن كان يعلم بتعلق البعث في أحد الأطراف على سبيل الاجمال. والعبرة في الامتثال التفصيلي هو العلم بتعلق البعث بالعمل حال صدوره من العامل ، وكل طرف من أطراف المعلوم بالاجمال مما لا يعلم تعلق البعث به حال الصدور ، فلا يكون الامتثال فيه تفصيليا ، وقد عرفت : أنه مع التمكن من الامتثال التفصيلي لا يحسن الامتثال الاحتمالي ، فيتوقف حسن الاحتياط مطلقا على عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة ، وعلى ذلك جرت طريقة العقلاء في مقام الطاعة ، ولا يكاد يشك في تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي عندهم.

وعلى فرض التشكيك في ذلك وانتهاء الامر إلى الأصول العملية ، فالمرجع هي قاعدة الاشتغال لا البراءة لان الامر يدور بين التخيير والتعيين ، إذ يحتمل أن يكون الامتثال التفصيلي مع التمكن منه هو المتعين على المكلف ولا يكون مخيرا بينه وبين الامتثال الاحتمالي ، وقد تقدم في مبحث البراءة : أنه مهما دار الامر بين التخيير والتعيين فالأصل يقتضي التعيينية.

وليس الشك في المقام كالشك في اعتبار قصد الوجه ، حيث قلنا : إنه تجري فيه البراءة لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر ، فإنه لا جامع بين الامتثال التفصيلي والامتثال الاحتمالي ، فلا يجري عليه حكم الشك بين الأقل والأكثر بل يجري عليه حكم الشك بين المتباينين ، فتأمل.

ص: 270

تذييل :

الاحتياط ، إما أن يكون في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، وإما أن يكون في الشبهات البدوية.

وعلى الثاني : فتارة : تكون الشبهة من الشبهات الحكمية الالزامية ، كما إذا احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. أخرى : تكون من الشبهات الحكمية الغير الالزامية ، كما إذا احتمل استحباب الدعاء في المثال. وثالثة : تكون من الشبهات الموضوعية.

وما تقدم : من عدم حسن الاحتياط مع التمكن من إزالة الشبهة إنما كان في الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية.

وأما الشبهات البدوية : فلا ينبغي الاشكال في حسن الاحتياط إذا كانت الشبهة موضوعية أو حكمية غير إلزامية ولو مع التمكن من إزالة الشبهة ، لعدم وجوب الفحص فيهما وجواز الاقتحام فيها اعتمادا على الأصل ، فلا مجال لتوهم عدم حسن الاحتياط فيها ، فان الوجدان يأبى عن المنع عن حسن الطاعة الاحتمالية مع جواز ترك الطاعة رأسا ، فلا إشكال في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية الموضوعية والحكمية الغير الالزامية ، بل لا ينبغي الاشكال في حسن الاحتياط في الشبهة الحكمية الغير الالزامية مطلقا ولو كانت مقرونة بالعلم الاجمالي ، لعين ما ذكرناه في الشبهة البدوية.

وأما الشبهة الحكمية الالزامية : ففي جواز الاحتياط فيها وترك الفحص إشكال ، والأقوى : عدم جواز الاحتياط إلا بعد الفحص واليأس عن زوال الشبهة لكي يتعذر الامتثال التفصيلي (1) فإنه بعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في

ص: 271


1- 1 - أقول : قد تقدم عدم تمامية البرهان على هذا الترتيب ، كما أن العقل الوجداني أيضا قاصر عن الحكم بالترتيب المزبور.

صحة العبادة وأخذه قيدا في المأمور به ولو بنتيجة التقييد يكون حكمه حكم سائر الأجزاء والشرائط المعتبرة في المركب ، فكما أنه لو شك في وجوب ما يكون مركبا من عدة من الاجزاء والشرائط لا يجوز الاتيان بذلك المركب فاقدا لبعض أجزائه وشرائطه ولا يكون الفاعل معذورا لو كان المركب واجبا واقعا ، كذلك لا يجوز الاتيان بما يشك في وجوبه فاقدا للامتثال التفصيلي إلا بعد الفحص واليأس عما يوجب زوال الشك ، فإنه يسقط حينئذ وجوب الامتثال التفصيلي وتصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، فوجوب الامتثال التفصيلي لا يختص بصورة ما إذا لزم من الامتثال الاحتمالي تكرار العبادة - كما كان ذلك مختار شيخنا الأستاذ مد ظله قبل هذا - بل يجب الامتثال التفصيلي حتى فيما لم يلزم فيه التكرار ، كما في الشبهة الحكمية الالزامية البدوية.

نعم : لايجب الامتثال التفصيلي في خصوص اجزاء العبادة ، يل يجوز العمل بالاحتياط فيها بفعل كل ما احتمل جزئيته ولو مع التمكن من رفع الشك ، لان الامتثال التفصيلي انما يجب بالنسبة الي جملة العمل لا كل جزء منه. وكذلك لايجب الامتثال التفصيلي في التوصليات ، بل يجوز فيها الاحتياط ولو لزم منه التكرار ، فتامنل في اطراف ما ذكرناه جيدا.

وينبغي التنبيه علي امرين :

الاول : لو دار الامر بين سقوط جزء او شرط من العبادة والاتيان بها بداعي الامتثال التفصيلي والاتيان بها بداعي الامتثال الاحتمالي واجدة للشرط او الجزء ، ففي سقوط الجزء والشرط او سقوط الامتثال التفصيلي او التخيير بينهما ، وجوه.

ويظهر من المحكي عن الحلي رحمه اللّه في مسألة اشتباه الثوب الطاهر

ص: 272

بالنجس تقديم الامتثال التفصيلي على الشرط ، حيث ذهب إلى وجوب الصلاة عاريا وعدم جواز تكرارها في الثوبين المشتبهين.

ولا يخفى ما فيه ، فان اعتبار الامتثال التفصيلي مشروط بالتمكن منه ، ومع عدم التمكن يسقط ، فلا يزاحم الشرط أو الجزء المتمكن منه ، كالمثال ، لتمكن المكلف من الساتر الطاهر ولو بتكرار الصلاة ، ولا ينتقض ذلك بالتمكن من الامتثال التفصيلي بالصلاة عاريا ، لان التمكن من الامتثال التفصيلي يتوقف على سقوط الشرط ، وسقوطه يتوقف على اعتبار الامتثال التفصيلي ، واعتباره يتوقف على التمكن منه ، والتمكن منه يتوقف على سقوط الشرط ، فيلزم الدور (1) فتأمل.

فالأقوى : سقوط الامتثال التفصيلي عند دوران الامر بينه وبين سقوط الجزء أو الشرط.

الامر الثاني : لو عرض في الأثناء ما يوجب الترديد وإتمام العبادة بداعي الاحتمال ، فلو كان ذلك في ضيق الوقت ، فلا إشكال في وجوب الاتمام بداعي الاحتمال وسقوط الامتثال التفصيلي ، لعدم التمكن منه مع ضيق الوقت. ولو عرض ذلك في سعة الوقت ، ففيه وجوه.

وينبغي فرض الكلام في غير ما إذا كان الترديد لطرو ما يحتمل المانعية أو القاطعية ، فإنه لا إشكال في عدم جواز إتمام الصلاة بداعي الاحتمال بناء على اعتبار الامتثال التفصيلي ، ولا موقع للتمسك باستصحاب الصحة ، لعدم جريان استصحاب الصحة التأهلية (2) ولا بقوله تعالى : « وَلَا تُبْطِلُوا

ص: 273


1- أقول : لنا تشكيل دور آخر ، وهو أن سقوط الامتثال التفصيلي فرع الشرط على شرطيته ، وهو منوط بسقوط الامتثال التفصيلي. والتحقيق في أمثال المقام أنه من باب التزاحم وملازمة وجود كل واحد مع عدم الآخر ، فيكون الدور من الطرفين معيا ، فلا يضر ، وحينئذ ففي قوة سقوط الامتثال التفصيلي على فرض اعتباره نظر ، ولكن عمدة الكلام فيه ، فتدبر.
2- 2 - أقول : لو كانت الشبهة حكمية تحتاج الاستصحاب المزبور أيضا إلى الفحص ، فلا يجري من هذه الجهة لو تمكن منه ، وإلا فقد تقدم بأنه لا بأس باستصحاب الصحة الفعلية التدريجية.

أَعْمَالَكُمْ » (1) لان الشبهة في المقام مصداقية ، ولا يجوز التمسك فيها بالعموم. فلابد من فرض الكلام فيما إذا كانت العبادة قبل عروض الترديد مقطوعة الصحة مطابقة للواقع ، ثم عرض ما يوجب الشك في كيفية الاتمام ، كما إذا شك في فعل من أفعال الصلاة في الأثناء وتردد بين كونه قبل تجاوز المحل حتى يجب فعل المشكوك أو بعده حتى يمضي في الصلاة ، فان الصلاة قبل عروض الشك كانت مقطوعة الصحة ، بل هي كذلك حتى في حال الشك ، غايته أنه عرض في الأثناء ما يوجب الترديد والاتمام بداعي الاحتمال إن لم يتمكن المكلف من السؤال ومعرفة حكم الشك في الأثناء.

وبالجملة : محل الكلام إنما هو فيما إذا لم تكن الشبهة مصداقية وكان العمل مفروض الصحة حتى في حال عروض ما أوجب الترديد. والوجوه المحتملة في ذلك أربعة :

الأول : وجوب إتمام العبادة بداعي الاحتمال وعدم جواز القطع الاستيناف ، لحرمة إبطال العمل المفروض صحته إلى حال الشك ، واعتبار الامتثال التفصيلي إنما يكون مشروطا بالتمكن منه ، والمفروض عدم التمكن منه في الأثناء.

فان قلت : نعم ، وإن كانت المكلف لا يتمكن من الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى ما بيده من الفرد ، إلا أنه متمكن منه بالنسبة إلى أصل الطبيعة المأمور بها بقطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي بعد معرفة حكم الواقعة.

قلت : حرمة قطع العمل توجب تعيين المأمور به بالفرد الذي بيده على تقدير مصادفته للواقع ، فلا يتمكن من الامتثال التفصيلي. وبعبارة أخرى : محل

ص: 274


1- سورة محمد صلی اللّه علیه و آله الآية : 33.

حرمة القطع هو الفرد المأتي به على وجه الصحة ، ومحل اعتبار الامتثال التفصيلي هي الطبيعة المأمور بها ، وبعد فرض حرمة قطع الفرد الذي بيده يتعذر عليه الامتثال التفصيلي وينتقل إلى بدله : من الامتثال الاحتمالي.

الوجه الثاني : وجوب قطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي ، للتمكن من ذلك ، وحرمة قطع العمل مشروطة بالتمكن من إتمامه صحيحا ، وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي لا يمكن إتمام العمل صحيحا ، فان حكم الامتثال التفصيلي حكم الاجزاء والشرائط المأخوذة في متعلق الامر : فكما يجب قطع الصلاة لو عرض للمصلي في الأثناء ما يوجب تعذر التشهد عليه مثلا ولا يجوز له إتمام الصلاة بلا تشهد ، كذلك يجب قطع العمل لو عرض له في الأثناء ما يوجب تعذر الاتمام بداعي الامتثال التفصيلي ، وليس له الاتمام بداعي الاحتمال. ومجرد كون التشهد مما يمكن أخذه في متعلق الامر والامتثال التفصيلي لا يمكن لكونه من الانقسامات اللاحقة للامر ، لا يصلح فارقا فيما نحن فيه بعدما كان الامتثال التفصيلي قيدا لصحة العمل ولو بنتيجة التقييد ، فلا يبقى موضوع لحرمة الابطال.

الوجه الثالث : التخيير بين القطع والاستيناف بداعي الامتثال التفصيلي وبين الاتمام بداعي الاحتمال بالبناء على أحد طرفي الشك وبعد الاتمام إن صادف المأتي به للواقع فهو وإلا استأنف العمل ، لوقوع المزاحمة بين حرمة الابطال وبين شرطية الامتثال التفصيلي ، لعدم قدرة المكلف على الجمع بين التكليفين في هذه الصلاة ولم يحرز أهمية أحد التكليفين ، فلا محيص عن التخيير في امتثال أحدهما ، كما في موارد تزاحم الحكمين الاستقلاليين ، وقد حكي اختيار هذا الوجه عن الميرزا الرشتي رحمه اللّه .

الوجه الرابع : وجوب الجمع بين الاتمام بداعي الاحتمال والإعادة ولو في صورة المصادفة ، للعلم الاجمالي بأحد التكليفين : من حرمة الابطال ومن وجوب

ص: 275

الامتثال التفصيلي ، ولم يعلم تفصيل ما هو الوظيفة في هذا الحال ، ولازم ذلك هو الجمع بين الوظيفتين.

هذا ، وأقوى الوجوه هو الوجه الثاني : من وجوب قطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي ، لما عرفت : من أن حرمة قطع العمل مشروط بالتمكن من إتمامه بوجه شرعي ، واشتراط الامتثال التفصيلي يقتضي عدم التمكن من إتمام العمل كذلك (1) ولا يعقل إثبات التمكن من إتمامه بحرمة قطع العمل ، لان إمكان الاتمام على الوجه الشرعي اخذ قيدا في موضوع حرمة القطع والحكم لا يتكفل وجود موضوعه ، فلا يمكن إثبات التمكن من الاتمام بنفس الحكم بحرمة قطع العمل ، وذلك واضح.

هذا ، مع ما في الوجهين الأخيرين من الضعف مالا يخفى. أما في وجه التخيير : فلان الحكم في باب التزاحم وإن كان هو التخيير مع عدم المرجح لأحدهما ، إلا أن ذلك مقصور بالتكاليف الاستقلالية ، وأما القيود والتكاليف الغيرية فلا تصل النوبة فيها إلى التخيير ، لامكان الجمع بين القيدين المتزاحمين ولو بتكرار العمل ، فتأمل.

وأما الوجه الرابع : فلان الجمع بين الاتمام والإعادة لا أثر له ، بل هو كر على ما فر منه ، إذ لا يمكن الإعادة بداعي الامتثال التفصيلي خصوصا مع تبين مصادفة المأتي به للواقع ، بل غاية ما يمكن هو الإعادة بداعي الاحتمال ،

ص: 276


1- أقول : كما أن حرمة القطع فرع التمكن من الاتمام والحكم لا يحرز موضوعه ، كذلك وجوب الامتثال التفصيلي فرع التمكن من الفحص ، ولا يحصل ذلك إلا بسقوط حرمة القطع ، ولا يسقط ذلك إلا بعدم تمكنه المنوط ببقاء شرطية الامتثال التفصيلي بحاله ، وهو لا يكون إلا بسقوط حرمة القطع ، وحينئذ فوجوب الامتثال التفصيلي أيضا لا يصلح لاحراز شرطه من التمكن على الفحص ، وحينئذ لا محيص من جعل المقام أيضا من باب التزاحم المنتهي إلى التخيير ، كما أفاده آية اللّه الرشتي - أعلى اللّه مقامه -.

فلا يمكن الجمع بين الوظيفتين.

ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه من الوجوه الأربعة بين كون المسألة التي ابتلي بها في الأثناء مما تعم بها البلوى أولا ، لان تلك الوجوه إنما كانت في الحكم الوضعي : من الصحة والفساد ، ولا أثر لعموم البلوى وعدمه في ذلك ، لأن المفروض أن المكلف قد ابتلي بالمسألة في الأثناء ، فلابد له من علاج الشبهة على كل حال ، كانت المسألة مما تعم به البلوى أو لم تكن.

نعم : تظهر الثمرة بين عموم البلوى وعدمه في الحكم التكليفي والعقاب ، فإنه يجب تعلم ما تعم به البلوى ، فلو لم يتعلم وخالف عمله الواقع استحق العقاب ، لتنجز الواقع عليه بمجرد الالتفات في المسائل التي تعم بها البلوى ، دون مالا تعم ، كما سيأتي بيانه.

فما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام : من الميل إلى التفصيل بين ما تعم به البلوى ومالا تعم لا يخلو عن مناقشة. هذا كله فيما يعتبر في العمل بالاحتياط.

المقام الثاني: فيما يعتبر في الاخذ بالبراءة
اشارة

واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي البحث عن جهات ثلاث : الأولى : في اعتبار الفحص وعدمه. الثانية : في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه. الثالثة : في صحة العمل المأتي به قبل الفحص وفساده.

أما البحث عن الجهة الأولى :

فحاصله : أنه في الشبهات الموضوعية يجوز الاخذ بالبراءة والعمل على طبقها

ص: 277

بلا فحص ، وقد ادعي الاجماع على ذلك مضافا إلى إطلاق الأدلة ، وسيأتي أن ذلك على إطلاقه ممنوع.

وأما في الشبهات الحكمية : فلا يجوز العمل بالبراءة فيها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها. وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة : من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، وهو العمدة ، لاستقلال العقل باستحقاق عقاب من ترك التعلم مع القدرة عليه بعد الالتفات إلى الشريعة وأن بنائها على تبليغ الاحكام على النحو المتعارف بين العقلاء في تبليغ مقاصدهم ، فمن ترك التعلم والحال هذه كان عند العقل كتارك التكاليف عن عمد وعلم في استحقاق العقاب ، بل وجوب الفحص عن الأحكام الشرعية يكون من صغريات وجوب الفحص عن معجزة من يدعي النبوة بعد التفاته إلى المبدأ الاعلى ، ولا إشكال في استقلال العقل بذلك ، وإلا لزم إفحام الأنبياء ، كما لا يخفى وجهه.

فما يظهر من بعض الأعاظم : من أن وجوب الفحص عن الاحكام ليس من صغريات وجوب النظر في معجزة من يدعي النبوة ، لا يخلو عن مناقشة. وقد يقرر حكم العقل في المقام بوجه آخر ، وحاصله : أن كل من التفت إلى المبدأ والشريعة يعلم إجمالا بثبوت أحكام فيها ، ومقتضى العلم الاجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.

وقد نوقش في هذا الوجه :

أولا : بأنه أخص من المدعى ، فان المدعى هو وجوب الاستعلام عن حكم كل مسألة تعم بها البلوى ، وهذا الوجه إنما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من الاحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، لانحلال العلم الاجمالي بذلك.

وثانيا : بأنه أعم من المدعى ، لان المدعى هو الفحص عن الاحكام في

ص: 278

خصوص ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم بالاجمال معنى أعم من ذلك ، لان متعلق العلم هي الاحكام الثابتة في الشريعة واقعا ، لا خصوص ما بأيدينا ، والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الاجمالي ، بل العلم باق على حاله ولو بعد الفحص التام عما بأيدينا.

هذا ، ولا يخفى ما في كلا وجهي المناقشة من الضعف.

أما في الأول : فلان استعلام مقدار من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، إذ متعلق العلم تارة : يتردد من أول الامر بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بأن في هذا القطيع من الغنم موطوء وتردد بين كونه عشرة أو عشرين. وأخرى : يكون المتعلق عنوانا ليس بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر من أول الامر ، بل المعلوم بالاجمال هو العنوان بما له في الواقع من الافراد ، كما لو علم بموطوئية البيض من هذا القطيع وترددت البيض بين كونها عشرا أو عشرين. ففي الأول ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، كما لو علم تفصيلا بموطوئية هذه العشرة من القطيع. وفي الثاني لا ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه (1) بل لابد من الفحص التام عن كل ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالاجمال عليه ، لان العلم الاجمالي يوجب تنجيز متعلقه بما له من العنوان ، ففي المثال العلم الاجمالي تعلق بعنوان البيض بما له من الافراد

ص: 279


1- أقول : لو قيل بحرمة شرب الماء من كأس زيد وتردد بين الأقل والأكثر وكذا لو ورد في الخطاب حرمة إكرام العالم السني وتردد السني بين الأقل والأكثر ، فأنشدك باللّه! بأنه مع فرض انحلالية التكليف وتردده بين الأقل والأكثر من يقول بالاحتياط؟ فما أدري من أين جئ بهذه المصادرات؟ أما مسألة الطومار في الذهن فإنما هو من جهة أن إطلاق أدلة البراءة بل وحكم العقل بالقبح إنما ينظر إلى صورة كون الجهل من جهة قصور في المحل من حيث عدم تهيئة أسباب العلم قبل الفحص ، فلا يشمل ما كان أسباب العلم موجودا وإنما الجهل من جهة عدم نظره إلى الأسباب باختياره.

في الواقع ، فكل ما كان من أفراد البيض واقعا قد تنجز التكليف به ، ولازم ذلك هو الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه من أفراد البيض ، والعلم التفصيلي بموطوئية عدة من البيض يحتمل انحصار البيض فيه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، لان المعلوم بالاجمال في المقام هي الاحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ، فقد تنجزت جميع الأحكام المثبتة في الكتب ، ولازم ذلك هو الفحص التام عن جميع الكتب التي بأيدينا (1) ولا ينحل العلم الاجمالي باستعلام جملة من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها ، ألا ترى أنه ليس للمكلف الاخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمته لزيد بما في الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر ، بل لابد له من الفحص التام في جميع صفحات الطومار ، كما عليه بناء العرف والعقلاء ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل.

وأما في الوجه الثاني : فلانه وإن علم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة أعم مما بأيدينا من الكتب ، إلا أنه يعلم إجمالا أيضا بأن فيما بأيدينا من الكتب أدلة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحل العلم الاجمالي العام بالعلم الاجمالي الخاص ويرتفع الاشكال بحذافيره ويتم الاستدلال بالعلم الاجمالي لوجوب الفحص ، فتأمل جيدا. هذا كله في أصل اعتبار الفحص.

الجهة الثانية :

في استحقاق التارك للفحص العقاب وعدمه. والأقوال في ذلك ثلاثة :

ص: 280


1- أقول : لازم ما أفيد وجوب الفحص التام إلى أن يحصل القطع بالعدم ، وإلا مجرد الفحص عن الحكم بمقدار يوجب الاطمينان بالعدم وخروج المورد عن معرضية الوجود لا يكفي لنفي العقوبة عن المحتمل الضعيف ولو في غاية الضعف ، مع أنه ليس بنائهم في وجوب الفحص بأزيد من هذا المقدار ، كما لا يخفى.

أحدها - ما نسب إلى المدارك : من استحقاقه للعقاب مطلقا ، سواء صادف عمله للواقع أو لم يصادف.

ثانيها - ما نسب إلى المشهور : من عدم استحقاقه للعقاب ، وإنما العقاب على مخالفة الواقع.

ثالثها - ما اختاره شيخنا الأستاذ - مد ظله - من استحقاقه للعقاب ، لكن لا مطلقا ، بل عند أدائه إلى مخالفة الواقع.

والفرق بين هذا وسابقه ، هو أن في الأخير يكون العقاب على نفس ترك التعلم عند مخالفة العمل للواقع ، وفي سابقه يكون على نفس مخالفة الواقع لا على ترك التعلم. والظاهر أن البحث بين أرباب القولين الأخيرين علمي لا يترتب عليه أثر عملي.

ثم إن هذه الأقوال الثلاثة تأتي أيضا في التارك للاحتياط في موارد وجوبه. ومبنى الأقوال ، هو أن وجوب التعلم والاحتياط نفسي أو طريقي؟ فعلى الأول : يكون العقاب على نفس ترك التعلم والاحتياط. وعلى الثاني : يكون على ترك الواقع أو ترك التعلم والاحتياط المؤدي إلى ترك الواقع.

وينبغي أولا أن يعلم : أن مناط وجوب التعلم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ، ولا يقاس أحدهما بالآخر ، وإن كان يظهر من كلام الشيخ قدس سره في المقام الخلط بين البابين ، حيث قاس وجوب التعلم على وجوب السير إلى الحج عند توجيه كلام المدارك.

ولكن الظاهر : أن بين البابين فرق (1) فان القدرة مما يتوقف عليها فعل

ص: 281


1- 1 - أقول : في كثير من المقامات يوجب ترك الفحص الغفلة عن العمل في مورد ابتلائه ، ففي هذه المقامات يكون من باب تفويت القدرة ، كما أنه لو أوجب ترك فحصه الابتلاء بين المحذورين ، فحين الابتلاء أيضا يصدق عدم قدرته على تحصيل الجزم بالامتثال ، بل وعلى مختاره في العبادات : من اعتبار الامتثال التفصيلي ، فهو منوط بالفحص ، بحيث تركه يوجب تفويت قدرته على تحصيل القيد المزبور ، وحينئذ كيف لا يكون وجوب الفحص في هذه المقامات بمناط آخر؟ وأما في غير هذه المقامات مع التمكن من الاحتياط في الواجبات التوصلية لا دليل على وجوب الفحص ، بل العقل مستقل بجواز تركه والاخذ بالاحتياط ، وحينئذ صح لنا دعوى أن مناط تفويت القدرة جار في موارد وجوب الفحص ، كما لا يخفى. نعم : لنا أن نقول : إن وجوب الفحص في الأخذ بأدلة الاحكام أو أصولها النافية شرطي لا نفسي ولا مقدمي ولا طريقي ، كما سيجيء ( إن شاء اللّه تعالى ).

المأمور به خارجا ومن المقدمات الوجودية له ، ولا يتمكن المكلف من فعل الواجب عند تفويت القدرة ، فان ترك الغسل للصوم قبل الفجر أو السير للحج عند خروج الرفقة أو الطهارة للصلاة قبل الوقت يوجب عدم التمكن من إيجاد الصوم والحج والصلاة المأمور بها ويتحقق عصيان خطاب ذي المقدمة بمجرد ترك هذه المقدمات الوجودية ويستحق التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدمة ، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة ويمتنع عليه بالاختيار ويصدق أنه فات منه الواجب ، وإن كان بعد لم يتحقق زمانه لكونه مشروطا بزمان متأخر ، ولا يكون وجوب المقدمات المفوتة مقدميا مترشحا من وجوب ذي المقدمة حتى يتوقف ذلك على الالتزام بالواجب المعلق - كما يظهر من بعض - بل وجوب المقدمات المفوتة قبل مجيء زمان الواجب إنما يكون بخطاب مستقل ، ولكن لا عن ملاك يخصه ، بل من متممات الخطاب بذي المقدمة ، على ما بين المقدمات من الاختلاف.

فان إيجاب الغسل للصوم قبل الفجر إنما هو لأجل عدم إمكان تطبيق الخطاب بالصوم على الواجد للملاك إلا بايجابه قبل الفجر ، إذ المفروض : أن للطهارة من الحدث الأكبر دخل في صحة الصوم والملاك الذي اقتضى إيجابه ، وليس الصوم إلا عبارة عن الامساك من الطلوع إلى الغروب واجدا للشرائط ، فلابد من إيجاب الغسل قبل الفجر ، ليكون الخطاب بالصوم بضميمة الخطاب بالغسل منطبقا على الواجد للملاك ، فوزان الخطاب المتعلق بالغسل قبل الفجر

ص: 282

وزان الخطابات بأجزاء العبادة وشرائطها ليس خطابا طريقيا بل متمم للخطاب بذي المقدمة ، وحاله - من هذه الجهة - حال الخطاب المتعلق بقصد التقرب والامتثال ونحو ذلك من الانقسامات اللاحقة للامر التي لا يمكن أخذها في متعلق الامر.

وأما إيجاب السير للحج قبل الموسم : فإنما هو لأجل عدم إمكان استيفاء الملاك إلا بايجاب السير قبل الموسم ، من دون أن يكون للسير دخل في الملاك أصلا ، بل الخطاب بالحج بلا ضميمة إيجاب السير يكون منطبقا على الواجد للملاك ، إلا أن استيفاء الملاك يتوقف على إيجاب السير قبل الموسم ، لاستحالة فعل الحج في موسمه للبعيد بدون إيجاب السير ، والمفروض : أن نفس خطاب الحج لا يقتضي إيجابه ، لكونه مشروطا ، فلابد من إيجاب السير بخطاب مستقل ليمكن استيفاء الملاك من خطاب الحج بضميمة هذا الخطاب.

وأما وجوب حفظ الطهارة للصلاة قبل الوقت : فهو تابع لقيام الدليل عليه من عقل أو شرع ، ونفس الخطاب بالصلاة في الوقت لا يقتضي ذلك. والتقريب الذي ذكرناه في إيجاب السير للحج لا يتمشى هنا ، لأن المفروض في باب الحج وجوبه على النائي مع استحالة إيجاده في الموسم بدون السير ، وفي باب الصلاة ليس كذلك ، لامكان القول بعدم وجوب الصلاة مع الطهارة على من لم يتمكن من فعل الطهارة في الوقت ، ولا موجب لوجوب حفظ الطهارة قبل الوقت بعد ما كان للوقت دخل في الملاك ، فايجاب الطهارة قبل الوقت يحتاج إلى قيام الدليل ، وبعد قيام الدليل عليه يكون حاله حال وحوب السير ، والغسل ليس خطابه طريقيا ، بل لمكان توقف الواجب خارجا عليه.

وهذا بخلاف التعلم والاحتياط ، فإنه لا يتوقف فعل الواجبات وترك المحرمات عليهما ، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدمات المفوتة ، وليس لهما دخل في الملاك أيضا ، فلا يكون لايجاب التعلم والاحتياط

ص: 283

شائبة النفسية والاستقلالية ، بل الغرض من إيجاب التعلم مجرد الوصول إلى الاحكام والعمل على طبقها ، ومن إيجاب الاحتياط التحرز عن مخالفة الواقع ، من دون أن يكون للتعلم والاحتياط جهة موجبة لحسنهما الذاتي المستتبع للخطاب المولوي النفسي ، بل الخطاب المتعلق بهما يكون لمحض الطريقية ، ووجوبهما يكون للغير لا نفسيا ولا بالغير (1).

فان قلت : الوجوب للغير لا ينافي الوجوب النفسي ، فان غالب الواجبات النفسية يكون وجوبها للغير بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

قلت : الغير الذي يجب الشيء لأجله يختلف ، فتارة : يكون هو ملاكات الاحكام التي اقتضت وجوب الشيء ، وأخرى : يكون هو الخطابات الواقعية. ففي الأول : لا يدور وجوب الشيء مدار وجود الملاك ، بل الملاك يكون حكمة لتشريع وجوب الشيء ، كاختلاط المياه في وجوب العدة على النساء.

وفي الثاني : يدور وجوب الشيء مدار وجود الخطاب الواقعي ويكون علة للحكم لا حكمة للتشريع ، كوجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى وجوب المقدمة ، فان وجوبها يدور مدار وجوب ذيها.

والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلم والاحتياط تكون كوجوب

ص: 284


1- أقول : إذا لم يكن العلم المزبور إلا دخيلا في تحصيل الجزم بالامتثال لا نفسه ، فلا يكون إلا واجبا عقليا محضا ، وذلك أيضا كان تخييريا بينه وبين الاحتياط ، كما في التوصليات بمختاره ، ومرجعه إلى حكم العقل بالبرائة اليقينية عند الاشتغال بحكم ، وهو لا يحصل إلا بالاحتياط أو الفحص ، بل ولئن دققت النظر ترى حكم العقل بتحصيل الجزم المزبور أيضا إرشاديا إلى الفرار عن العقوبة المحتملة مهما أمكن ، لا نفسيا ولا طريقيا. نعم : بالنسبة إلى العمل بأدلة الاحكام أو أصولها النافية شرطي من جهة عدم حجيتها قبل الفحص ، فالفحص شرط لحجية الأدلة ، كما لا يخفى. ومن هنا ظهر أن العقاب أيضا لا يترتب إلا على نفس الواقع بلا دخل للعلم فيه ، ولعمري! ان ما اختاره أردء المذاهب. نعم : في مورد كان للعلم دخل في القدرة - كما أشرنا إليه سابقا - كان حال التعلم حال المقدمات المفوتة ، كما أشرنا ، فتدبر.

ذي المقدمة علة للحكم لا حكمة للتشريع ، فوجوب التعلم والاحتياط يكون من هذه الجهة كوجوب المقدمة ، وإن كان يفترق من جهة أخرى وهي : أن وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذيها ، بخلاف وجوب التعلم والاحتياط ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في مبحث الظن.

وبما ذكرنا ظهر ضعف ما ينسب إلى المدارك : من كون العقاب على نفس ترك التعلم ، فان المستتبع للعقاب إنما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي. ويتلو ذلك في الضعف ما ينسب إلى المشهور : من كون العقاب على ترك الواقع لا على ترك التعلم ، فان العقاب على الواقع المجهول قبيح وإيجاب التعلم لا يخرجه عن الجهالة.

فالأقوى : أن يكون العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع ، لا على ترك التعلم وإن لم يؤد إلى ذلك لينافي وجوبه الطريقي ، ولا على ترك الواقع لينافي جهالته ، فتأمل جيدا.

الجهة الثالثة :

في صحة العمل المأتي به في حال الجهل وفساده.

ومقتضى أصول المخطئة أن يكون المدار في الصحة والفساد على موافقة العمل للواقع ومخالفته ، لا على موافقته للطريق المنصوب ومخالفته.

وعلى هذا لو وافق عمل الجاهل التارك للفحص للواقع كان مجزيا ، ويترتب عليه الأثر المقصود منه ، سواء في ذلك العبادات والمعاملات وإن خالف الطريق المنصوب.

ولو خالف عمله للواقع لم يجز ولا يترتب عليه الأثر المقصود منه وإن وافق الطريق المنصوب ، غايته أنه لو أوقع العمل عن استناد إلى الطريق كان معذورا ما دام الطريق قائما عنده ، ولا يكفي في المعذورية مجرد

ص: 285

الموافقة للطريق بلا استناد إليه إذا كان الجهل عن تقصير (1).

ويترتب على ما ذكرنا : أنه لو عمل الجاهل عملا ثم بنى على التقليد أو الاجتهاد ، فان وافق عمله رأي من يجب عليه تقليده فعلا أو وافق اجتهاده الفعلي كان عمله مجزيا وتبرء ذمته ولو خالف رأي من كان يجب عليه تقليده حال العمل ، وإن انعكس الفرض وكان عمله مخالفا لرأي من يجب تقليده فعلا وموافقا لرأي من كان يجب تقليده حال العمل لم يجز ولزمه الإعادة والقضاء ، لان اعتبار الظن الاجتهادي أو قول المقلد إنما هو لمحض الطريقية والكاشفية من دون أن يكون فيه شائبة السببية والموضوعية. ومن المعلوم : أن الطريق إنما هو يقتضي المعذورية إذا وقع العمل عن استناد واعتماد إليه ، ولا يكفي مجرد موافقة العمل للطريق وإن لم يكن عن استناد إليه. فلا عبرة بموافقة العمل الصادر حال الجهل لفتوى من كان يجب عليه تقليده في ذلك الحال بعد عدم وقوعه عن استناد واعتماد على ذلك ، وكما لا عبرة بموافقته لذلك لا عبرة بمخالفته أيضا ، بل العبرة بالموافقة والمخالفة إنما هو على الطريق الذي يستند إليه فعلا ، سواء في ذلك الظن الاجتهادي أو فتوى الغير ، فتأمل جيدا.

هذا حكم الجاهل العامل قبل التقليد والاجتهاد. وكذا الكلام في حكم المقلد أو المجتهد الذي تبدل تقليده أو اجتهاده إلى الخلاف ، فان القاعدة الأولية

ص: 286


1- أقول : بل ومع الاستناد إليه قبل الفحص عن معارضاته وسائر جهاته تقصيرا. نعم : في مقام الاجزاء وعدم الإعادة يكفي موافقة عمله للطريق المعلوم حجيته في حقه حين العمل وإن لم يكن عن استناد إليه ، إذ يكفي في عدم الإعادة وصول الطريق إليه بعد عمله ، لمكان الامر بالمعاملة معه معاملة الواقع بلحاظ الأثر الفعلي من حيث الإعادة والقضاء ، كما أنه لو انكشف الخلاف ولو لقيام طريق أقوى عن الطريق السابق يجب إعادة ما عمل على طبق الطريق الفعلي وإن كان عمله السابق عن استناد على الطريق السابق حين عمله ، وحينئذ فقضية الاستناد بالطريق حين العمل في مقام الاجتزاء به وعدمه ملقى بالمرة.

تقتضي إعادة كل عمل خالف تقليده اللاحق أو اجتهاده ، لان التقليد والاجتهاد السابق كان طريقا وقد انكشف خلافه حسب ما أدى إليه تقليده اللاحق أو اجتهاده ، غايته أنه كان معذورا قبل انكشاف الخلاف ، فلابد من العمل على ما يقتضيه التقليد والاجتهاد اللاحق.

هذا ، ولكن قد حكي الاجماع (1) على الاجزاء وعدم الإعادة والقضاء في خصوص العبادات. وأما المعاملات بالمعنى الأعم فلم ينقل الاجماع فيها على الاجزاء والصحة ، وقد عرفت : أن القاعدة تقتضي الفساد.

ويترتب على ذلك وجوب تجديد العقد على المرأة المعقودة بالفارسية باعتقاد الصحة تقليدا أو اجتهادا ثم قلد من يقول بفساد العقد بالفارسية أو تبدل اجتهاده إلى ذلك. وكذا الكلام فيمن كان اعتقاده تقليدا أو اجتهادا حلية الذبيحة بفري الودجين ثم تبدل تقليده أو اجتهاده إلى وجوب فري الأربع ، فإنه يجب مع بقاء الذبيحة ترتيب آثار الميتة عليها : من النجاسة وحرمة الاكل والبيع ووجوب الاجتناب عن ملاقيها ورد ثمنها إلى المشتري ، لأنه ثمن ميتة فلا يحل له أكله ، وهكذا ما يترتب على الميتة من الاحكام. وقد توقف شيخنا الأستاذ - مد ظله - في بعض الفروع والاحكام. ولكن القاعدة تقتضي ما ذكرناه ، إلا أن يقوم دليل على الخلاف.

بقي التنبيه على أمور :
- الأول -

لا إشكال في أن التارك للفحص يستحق العقوبة إن خالف عمله لكل

ص: 287


1- لم أعثر على حكاية الاجماع ولابد من التتبع التام ( منه ).

من الواقع والطريق المنصوب إليه الموجود فيما بأيدينا من الكتب بحيث لو تفحص لعثر عليه ، كما لا إشكال في عدم استحقاقه للعقوبة إن وافق عمله لكل من الواقع والطريق المنصوب إليه كذلك. وأما لو خالف العمل لأحدهما ووافق الآخر ، ففي استحقاقه للعقوبة وجهان : أقواهما استحقاقه للعقوبة لو خالف الواقع وإن وافق الطريق ، وعدم استحقاقه لها لو وافق الواقع وإن خالف الطريق.

أما في الصورة الأولى : فلانه قد ارتكب الحرام الواقعي بلا مؤمن عقلي أو شرعي ، ولا أثر لموافقة العمل للطريق مع عدم العلم به والاستناد إليه والاعتماد عليه ، لما تقدم : من أن مجرد مطابقة العمل للطريق لا يوجب العذر ، بل الموجب له هو الاخذ به والاستناد إليه.

وأما في الصورة الثانية : فلانه لم يرتكب الحرام الواقعي ، ولا أثر لمخالفة العمل للطريق بعد ما كان اعتبار الطريق لمحض الكاشفية من دون أن يوجب تقييد الواقع وصرفه إلى مؤداه ، فلا موجب لاستحقاقه العقوبة.

فان قلت : أليس قد فاتت منه المصلحة السلوكية القائمة بالطريق؟ إذ لو تفحص لعثر على الطريق وكان في سلوكه مصلحة لازمة الاستيفاء ، فبتركه للفحص فاتت منه تلك المصلحة ويستحق العقوبة لذلك.

قلت : قوام المصلحة السلوكية بالسلوك الموقوف على العلم بالطريق والعمل على طبقه ، إذ ليس في نفس جعل الطريق مصلحة لازمة الاستيفاء ، بل المصلحة في سلوك الطريق ، ومع عدم العلم بالطريق والعمل به لا سلوك ولا مصلحة حتى يلزم من ترك الفحص تفويتها (1) وذلك واضح. هذا كله إذا

ص: 288


1- 1 - أقول : والأولى أن يقال : إن المصلحة السلوكية منوطة بوصول الطريق ، وقبل وصوله لا مصلحة في السلوك ، كيف! ويستحيل أن يكون هذه المصلحة أيضا في اقتضائه الامر به منوطا بالعمل وبوجوده ، كما هو الشأن في سائر المصالح ، بل الأولى منع المصلحة حتى في سلوك الطريق ، بل المصلحة في أوامر الطرق ليس إلا في نفس الامر الكاشف عن الترخيص على خلاف المرام عند المخالفة وموجب لايصال المرام إليه عند الموافقة.

كان فيما بأيدينا من الكتب طريق موافق أو مخالف.

وأما لو ترك الفحص وخالف عمله الواقع ولم يكن عليه طريق منصوب يمكن العثور عليه بالفحص لا موافق ولا مخالف ، في استحقاقه للعقاب إشكال ، من مخالفة العمل للواقع ، ومن قبح العقاب على ما لايمكن الوصول إليه ولا إلى طريقه. والأقوى استحقاقه للعقاب ، لان العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة يوجب تنجز تلك الأحكام على ما هي عليها ، إلا أن ينحل العلم الاجمالي بالفحص والعلم بمقدار من الاحكام يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، ومع الفحص يلزمه الاحتياط بفعل كل ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ، فلا قبح في عقاب التارك للاحتياط والفحص معا ، فتأمل.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن العقاب وعدمه يدور مدار مخالفة الواقع وموافقته ، لا مخالفة الطريق وموافقته ، ولا مخالفة أحد ما وموافقته ، وبذلك يظهر ضعف الوجوه التي ذكرها الشيخ قدس سره في المقام ، فراجع.

- الامر الثاني -
اشارة

قد تبين مما سبق الملازمة بين استحقاق العقاب وبطلان العمل ، وكذا الملازمة بين صحة العمل وعدم استحقاق العقاب ، بناء على ما هو المشهور والمختار : من أن ترك التعلم بما هو لا يوجب العقوبة. وقد استثنى الأصحاب من هذه الملازمة موردين ، وأجمعوا فيهما على صحة العمل المأتي به حال الجهل مع استحقاق الجاهل للعقاب.

أحدهما : الجهر بالقراء في موضوع وجوب الاخفات وبالعكس جهلا بالحكم.

ص: 289

ثانيهما : الاتمام في موضع وجوب القصر ولا عكس ، إلا عن بعض في بعض الفروض ، وهو ما إذا قصر المقيم بتخيل أن حكمه حكم المسافر لجهله بالحكم. فقد أفتى بعض الأصحاب بصحة الصلاة تمسكا برواية صحيحة دلت على ذلك (1). ولكن المحكي عن المشهور عدم العمل بالرواية والاعراض عنها ، وذهبوا إلى بطلان الصلاة في الفرض كسائر صور القصر في موضع التمام. والمتسالم عليه بينهم في الصحة هو الاتمام في موضع القصر. فالمتيقن خروجه عن الملازمة المذكورة هو الجهر في موضع الاخفات وبالعكس والاتمام في موضع القصر دون العكس ، وقد تظافرت الأدلة على الصحة في الموردين وأجمع الأصحاب على ذلك مع استحقاق العقوبة إذا كان الجهل عن تقصير.

ولأجل ذلك وقع الاشكال في تصوير الجمع بين الصحة واستحقاق العقاب ، لان لازم الصحة هو أن يكون العمل المأتي به في حال الجهل مأمورا به ، إذ معنى الصحة هي موافقة الامر ، ولازم استحقاق العقاب هو عدم الامر به وكون المأمور به هو العمل الذي تركه المكلف في حال الجهل ، فيلزم الامر بالضدين في ذلك الحال.

هذا ، وقد تفصي عن الاشكال بوجوه :

منها : ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره وحاصله : منع الملازمة بين صحة العمل والامر به ، بل القدر اللازم في صحة العمل هو أن يكون العمل واجدا لمقدار من المصلحة لازمة الاستيفاء في حال الجهل ، ولا يلزم من ذلك الامر بالعمل المأتي به في ذلك الحال ، لان ضد المأتي به - من الاخفات أو الجهر أو القصر - واجد للمصلحة الأكمل والغرض الأهم ، ولازم ذلك هو صحة

ص: 290


1- الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر الحديث 3.

الجهر في موضع الاخفات عند الجهل بالحكم واستحقاق العقاب على ترك الاخفات. أما الصحة : فلاشتمال الجهر في ذلك الحال على مقدار من المصلحة لازمة الاستيفاء في حد نفسها. وأما استحقاق العقاب : فلتفويته المصلحة الأكمل والغرض الأهم القائم بالاخفات ، ولا يلزم أن يكون العمل المأتي به في حال الجهل واجدا للمصلحة في غير ذلك الحال ليلزم صحة العمل عند العلم بالحكم أيضا ، لامكان أن تكون لصفة الجهل بالحكم دخل في المصلحة ، كما لا يلزم وجوب العمل الواجد للمصلحة الأكمل عند زوال صفة الجهل ، لامكان عدم اجتماعها مع تلك المصلحة المستوفاة في حال الجهل.

هذا ، ولا يخفى عليك ما في هذا الوجه من الضعف (1) فان الخصوصية

ص: 291


1- أقول : ملخص توضيح ما أفاده : هو أنه من الممكن قيام المصلحة التامة بما هو واجب واقعا وقيام مرتبة منها في ظرف المخالفة عن جهل بالفاقد عن الخصوصية الواقعية من حيث الجهرية والاخفاتية ، وكانت هذه المرتبة بنحو لو استوفت لا يبقى المجال لتحصيل المرتبة الكاملة اللازمة تحصيلها ، وحينئذ يصح المأتي به لوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة الموجب لتوجه مرتبة من الامر بالجامع بين الفردين ، وحينئذ فصح كون المأتي به في حال الجهل مأمورا به أيضا ، ويستحق العقوبة أيضا من جهة تفويته المرتبة الأخرى اللازمة تحصيلها. و توهّم: أنّ الجهريّة مثلا إن كان دخيلا في المصلحة فلا معنى لحصولها بالفاقد و إن لم يكن دخيلا فيها فلا معنى للعقوبة، مدفوع بأنه له دخل في كمال المصلحة لا في نفسها و لو بمرتبة منها و لذا يحصل بالفاقد و يستحقّ العقوبة على تفويت الزائد. و لئن قلت: لازم عدم دخله في هذه المرتبة حصولها بالفاقد حتّى في حال العلم أيضا، لاستحالة صيرورة العلم بالشي ء موجبا لانقلابه عمّا هو عليه، كما سيجي ء توضيحه أيضا. قلت: ما أفيد صحيح لو كانت فرديّة الفاقد غير مختصّ بحال الجهل، و إلّا فيستحيل تحقّق المصلحة و لو بمرتبة منه بغير الواجد، لانحصار الفرد في حال العلم به. و من المتأمّل فيما ذكرنا ترى فيما أفيد مواقع النّظر: منها: قوله «إنّ الخصوصيّة الزائدة إلخ» إذ لنا دعوى دخلها، و مع ذلك استيفاء مرتبة منه مفوّت لها. و منها: قوله «فانّ القدرة على الصلاة إلخ» فانّ الملازمة بين القدرة على صورة الصلاة و القدرة على استيفاء مصلحته ليس إلا المصادرة. ومنها : قوله « إلا إذا كان مصلحته الخ » فان المشروط بعدم السبق القدرة على استيفائها ، لا أصل اتصافها بكونها مصلحة ، ولزوم التالي الفاسد على الثاني لا الأول ، وكان المقام من قبيل تفويت شرط الواجب ، لا الوجوب ، فتدبر.

الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب ، فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية ، خصوصا مع إمكان استيفاء تلك الخصوصية في الوقت ، كما لو علم بالحكم في الوقت.

ودعوى : عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء لان استيفاء إحداهما يوجب سلب القدرة عن استيفاء الأخرى ، واضحة الفساد ، فان القدرة على الصلاة المقصورة القائمة بها المصلحة الكاملة حاصلة ، ولا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها ، إلا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف ، وهذا خلف ، إذ يلزم من ذلك خلو الصلاة المقصورة عن المصلحة في حال الجهل ، فلا موجب لاستحقاق العقاب.

هذا إذا كان للخصوصية الزائدة دخل في الواجب وبها قوامه. وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام ، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصية الزائدة ، ولا وجه لاستحقاق العقاب. هذا كله ، مضافا إلى أن الظاهر من أدلة الباب كون المأتي به في حال الجهل مأمورا به ، فراجع أدلة الباب.

ومنها : ما أفاده الشيخ قدس سره من الالتزام تارة : بعدم تعلق الامر بالصلاة المقصورة عند الجهل بالحكم والعقاب إنما يكون على ترك التعلم. وأخرى : بعدم تعلق الامر بالمأتي به في حال الجهل ، بل هو مسقط للواجب ، والمأمور به إنما هو الصلاة المقصورة ، والعقاب يكون على ترك المأمور به.

وهذا الوجه يتلو سابقه في الضعف ، بل الوجه الأخير منه يرجع إلى الوجه

ص: 292

السابق الذي تقدم الجواب عنه. وقد اعترف قدس سره بأن ذلك خلاف ظاهر الأدلة وكلمات الأصحاب.

ومنها : ما أفاده الشيخ الكبير قدس سره في مقدمات كتابه : من الالتزام بالامر الترتبي وكون الواجب على المكلف أولا هو القصر ، وعند العصيان وترك الصلاة المقصورة ولو لجهله بالحكم يجب عليه الاتمام ، كما هو الشأن في جميع موارد الامر الترتبي في الضدين ، حيث يكون الامر بأحدهما مشروطا بعصيان الآخر.

هذا ، وفيه : أن المقام أجنبي عن الخطاب الترتبي ولا يندرج في ذلك الباب ، لأنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون كل من متعلق الخطابين واجدا لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك ، ويكون المانع عن تعلق الامر بكل منهما هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال لما بين المتعلقين من التضاد ، والمقام لا يكون من هذا القبيل ، لعدم ثبوت الملاك في كل من القصر والتمام ، وإلا لتعلق الامر بكل منهما لامكان الجمع بينهما ، وليسا كالضدين اللذين لا يمكن الجمع بينهما ، فعدم تعلق الامر بكل منهما يكون كاشفا قطعيا عن عدم قيام الملاك فيهما. هذا مع أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا بعصيان خطاب الأهم ، وفي المقام لا يمكن ذلك ، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان « العاصي » فإنه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم ، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ولا تصح منه الصلاة التامة ، فلا يندرج المقام في صغرى الترتب. والشيخ قدس سره كأنه سلم اندراج المقام في صغرى الترتب ومنع عن الكبرى ، حيث قال : « وفيه إنا لا نعقل الترتب » ولكن الحق منع الصغرى وتسليم الكبرى (1) كما أوضحناه في محله.

ص: 293


1- 1 - أقول : لا نعني من الترتب الذي هو معركة الآراء إلا اجتماع الامر المطلق بشيء والمشروط بمخالفة شيء آخر في زمان واحد ، من دون فرق بين أن يكون طولية الأمرين من جهة طولية المصلحتين - كما في المقام - أو من جهة طولية القدرة على الاستيفاء بلا طولية مصلحتها ، وتخصيص البحث بالثانية غير وجيه ، وليس إلا مجرد المصادرة ، وحينئذ عمدة الكلام في المقام أيضا في كبرى الترتب لا في صغراه. ومن الممكن دعوى آخر في المقام : من جعل المقام من باب طولية الفردين لا المصلحتين أيضا وأن المصلحة بمرتبة منها قائمة بالجامع وبمرتبة أخرى قائمة بالخصوصية وأن المقام من باب تعدد المطلوب ، غاية الامر الاتيان بالفاقد مفوت للزائد ، وانحصار الفرد لهذه المرتبة الجامعة أيضا في حال العلم ، لا اختصاص فردية الفاقد بحال الجهل ، وفي هذه الصورة أيضا ربما يتشكل الأمران الطوليان : مطلقا بالفرد الواقعي ومقيدا بتركه بالفرد حين الجهل. ولا يعقل في هذه الصورة أيضا تشكيل أمرين عرضيين متعلق بالفرد وبالجامع الساري في غيره فعلا ، كي يكون من باب تعدد المطلوب الخارج عن حريم النزاع، فتأمل.

ومنها : ما أفاده شيخنا الأستاذ - مد ظله - بما حاصله : أن الاشكال إنما وقع في مسائل ثلاث :

الأولى : الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس. الثانية : القصر في موضع وجوب التمام ، بناء على القول بالصحة فيه وإن كان خلاف المشهور والمختار ، كما تقدم. الثالثة : الاتمام في موضع وجوب القصر.

وينبغي إفراد كل مسألة من هذه المسائل الثلاث بالجواب عن الاشكال ، إذ لعله يختلف طريق التخلص عن الاشكال حسب اختلاف المسائل. وليعلم أولا : أن الاشكال إنما كان مبنيا على تسليم مقدمتين :

الأولى : أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأمورا به ، كما يستكشف ذلك من أدلة صحة العمل والاجتزاء به ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.

الثانية : استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأن استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجبا عليه في حال الجهل.

ومع المنع عن إحدى المقدمتين يرتفع الاشكال من البين - كما لا يخفى - والمقدمة الأولى مسلمة لا سبيل للمنع عنها ، إذ لا ينبغي الاشكال في استكشاف

ص: 294

تعلق الامر بالعمل من أدلة الصحة.

وأما المقدمة الثانية : فللمنع عنها مجال ، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهية الشرعية التي ينعقد عليها الاجماع ، وليس في أدلة الباب ما يدل على العقاب ، مع أنه لو سلم انعقاد الاجماع على استحقاق العقاب ، ففي اعتبار مثل هذا الاجماع إشكال ، خصوصا إذا كان من المجمعين من يرى العقاب على نفس ترك التعلم لا على مخالفة الواقع ويذهب إلى استحقاق المتجري للعقاب.

وبالجملة : مجال المنع عن المقدمة الثانية واسع ، ومعه لا يبقى إشكال في المقام حتى نحتاج إلى التخلص عنه ، ولكن حيث كان مبنى الاشكال على تسليم المقدمتين ، فينبغي التخلص عن الاشكال بعد فرض صحتهما.

فنقول :

أما في مسألة الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس : فيمكن أن يكون الواجب على عامة المكلفين هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات ، سواء في ذلك العالم والجاهل ، ويكون الجهر والاخفات بالقراءة في موارد وجوبهما واجبان مستقلا نفسيان في الصلاة ، فيكون المجعول جزء للصلاة أولا وبالذات هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات ، من دون أن يكون لأحدهما دخل في حصول الجزء الصلاتي ، بل الصلاة تكون ظرفا لامتثالهما - كسائر موارد وجوب الشيء في ظرف واجب آخر - ولكن وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى وجوب الغيري ويصير قيدا للصلاة ، ولا مانع من أن تكون صفة العلم موجبة لتبدل صفة الوجوب من النفسية إلى الغيرية ومن الاستقلالية إلى القيدية ، فيرتفع الاشكال بحذافيره ، لان العقاب إنما يكون على ترك الواجب النفسي في حال الجهل مع كون المأتي به هو المأمور به في ذلك الحال ، لأن المفروض : أن المأمور به هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات وقد اتي به ،

ص: 295

ولا يلزم من ذلك صحة العمل عند زوال صفة الجهل ، لما عرفت : من أنه بالعلم يتبدل الاستقلالي النفسي إلى الغيري القيدي ، فيصح العمل من الجاهل ولا يصح من العالم.

وتوهم : أنه كيف يمكن تبدل وصف الاستقلالية إلى الغيرية مع وضوح التنافي بين الوصفين فاسد ، فان التنافي بينهما يمنع عن اجتماعهما في محل واحد ، وليس المدعى هذا ، بل المدعى أن زوال صفة الجهل بالحكم يوجب زوال وصف الاستقلالية عن وجوب الجهر أو الاخفات والتلبس بوصف الغيرية ، هذا مع بقاء ملاك الاستقلالية ، لان التنافي إنما هو بين وصف الاستقلالية والغيرية ، لا بين الملاكين.

والحاصل : أن وصف الاستقلالية والغيرية كوصف الوجوب والاستحباب مما لا يمكن أن يجتمعا ، لتنافيهما ذاتا ، إلا أنه يمكن أن يطرء على الاستقلالية ملاك الغيرية ، فيكون الشيء واجبا بالغير بعدما كان واجبا بالاستقلال ، وتندك جهة الاستقلالية في الجهة الغيرية (1) كما تندك جهة الاستحباب في جهة الوجوب.

ص: 296


1- أقول : الوجوب الذي تعلق به العلم قهرا يكون في الرتبة السابقة عن العلم ، فكيف يعقل اندكاكه بما يتحصل في الرتبة اللاحقة؟ بل لا محيص من وجود كل منهما في رتبة نفسه ، ويستحيل صيرورة العلم بالشئ للانقلاب عما هو عليه في مرتبة وجوده ، غاية الامر أمكن أن يحدث العلم وجودا آخر في الرتبة المتأخرة عن نفسه ، فلا جرم يبقى المعلوم في رتبة معلوميته بحاله ، ولازمه عند ترك الجهر في الصلاة الجهرية مع العلم بوجوب جهره العقابين : عقاب بترك الجهر المعلوم وجوبه نفسيا ، وعقاب لترك الصلاة المقيد به في الرتبة المتأخرة. و لئن قيل: بأنّ الوجوب النفسيّ ظرفه الصلاة الصحيح و لو أتى به في الرتبة المتأخّرة. و نقول: إن أريد من الظرف ما هو من قبيل الشرط لوجوبه، فيلزم أن يكون وجوبه النفسيّ المعلوم مشروطا بوجوده، و هو أفحش فسادا! و إن أريد مجرّد الظرفيّة لامتثاله مع إطلاق وجوبه، فيلزم التالي المزبور: من تعدّد العقوبة، و لو ترى بالنظر الإنصافي تجد أنّ هذا الوجه غير قابل للتفوّه به.

فان كان نظر المتوهم راجعا إلى عدم إمكان انقلاب الواجب الاستقلالي إلى الواجب الغيري ، فهو مما لا محذور فيه.

وإن كان راجعا إلى أن الواجب الاستقلالي لا يكون واجبا غيريا مع بقائه على الواجب الاستقلالي ، فهو حق ، إلا أنه ليس المدعى ذلك.

وإن كان راجعا إلى أن وصف العلم وزوال صفة الجهل لا يوجب الانقلاب المذكور ، فهو مما لا شاهد عليه (1) وأي محذور في أن تكون صفة العلم موجبة للانقلاب المذكور؟ وكم له من نظير! فان أخذ العلم في موضوع حكم آخر بمكان من الامكان (2).

فالانصاف : أن هذا الوجه سالم عن الاشكال (3) ولا يرد عليه شيء سوى أنه يلزم أن يكون العقاب على ترك وصف الجهر أو الاخفات الذي كان واجبا نفسيا لا على ترك الصلاة الجهرية أو الصلاة الاخفاتية ، وهذا بعيد عن كلام الأصحاب (4) إلا أن ذلك مجرد استبعاد لا يضر بالمدعى ، فتأمل جيدا. هذا كله في المسألة الأولى من المسائل الثلاث التي صارت محلا للاشكال.

وأما المسألة الثانية : وهي القصر في موضع وجوب الاتمام - على القول بالصحة فيها - فيمكن التقصي عن الاشكال فيها بما ذكرناه في المسألة السابقة ،

ص: 297


1- أقول : أي شاهد أعظم من اختلاف الرتبة بين معروض العلم ومعلوله! فهل اتحادهما في الوجود معقول؟ كلا إلا بانقلاب العلم إلى علم آخر ، ولازمه دخل حدوث العلم في الانقلاب بلا دخل بقائه في بقائه ، ويتلوه حينئذ عدم صحة الصلاة الفاقدة حين الجهل الطاري ، لأنه بحدوث العلم نقطع بالانقلاب أبدا ولو طرء الجهل بعده ، وذلك أفحش فسادا!.
2- أقول : وذلك في غاية البداهة ، ولكن هل في مورد صار العلم بحكم منشأ لانقلاب معلومه؟ كلا وحاشا.
3- أقول : هذا عند من لم يكن له نظر قويم وفكر مستقيم!.
4- أقول : لو التزمت بما شرحنا كلام الأستاذ لا يلزم عليك هذا المحذور.

بتقريب أن يقال : إن وجوب الركعتين الأخيرتين اللتين تركهما الجاهل بوجوب التام عليه إنما يكون نفسيا استقلاليا (1) وبالعلم بالحكم ينقلب الوجوب من النفسية إلى الغيرية على حذو ما سمعته في الجهر والاخفات ، ولا بعد في أن تكون الركعتان الأخيرتان واجبتين بالوجوب النفسي ، بل ربما يدعى ظهور الأدلة في ذلك ، فان الركعتين الأخيرتين مما فرضهما النبي صلی اللّه علیه و آله والأولتين مما فرضهما اللّه ( تعالى ) كما ورد بذلك عدة من الروايات (2).

وغاية ما يقتضيه فرض النبي صلی اللّه علیه و آله هو الوجوب النفسي ، وأما الارتباطية وكونهما قيدا لما فرضه اللّه ( تعالى ) من الركعتين الأولتين فلا يقتضيه ذلك ، بل لولا الاجماع على بطلان الصلاة المقصورة في موضع وجوب الاتمام مع العلم بالحكم لكان القول بالوجوب النفسي للركعتين الأخيرتين قريبا جدا حتى في صورة العلم بالحكم ، إلا أن الاجماع انعقد على البطلان في صورة العلم بالحكم ، وتبقى صورة الجهل بالحكم على ما تقتضيه ظاهر الأدلة : من الوجوب النفسي الاستقلالي (3).

وأما المسألة الثالثة : وهي الاتمام في موضع وجوب القصر ، فيمكن أن يقال في مقام التفصي عن الاشكال فيها : بأن الواجب على المسافر الجاهل بالحكم

ص: 298


1- أقول : ولازمه فساد الصلاة لو أتى الجاهل تماما بقصد التقرب بالامر بالصلاة وحدانيا ارتباطيا مقتصدا في قصده ، بحيث لا يدعوه غير ذلك الامر ، ولا أظن التزامه من أحد وكذا عكسه ، ولقد أجاد المقرر حيث تعرض هذا الاشكال.
2- الوسائل الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 1 و 2 و 9.
3- أقول : وإن التزم بما ذكرنا : من اقتضاء الجهل بوفاء غير الواجب بمرتبة من المصلحة بلا وفاء الواجب لهذه المرتبة مستقلا ، يرتفع الاشكال بحذافيره ، بلا احتياج إلى الالتزام بوجوب نفسي لشيء في الواجب الواقعي ، كي يصير العلم به موجبا لانقلابه ، كي يرد عليه ما ذكرناه.

خصوص الركعتين الأولتين ، لكن لا بشرط عدم الزيادة ، بل لا بشرط عن الزيادة ، فلا تكون الركعتان الأخيرتان مانعتين عن صحة الصلاة ، إلا أن العلم بالحكم يوجب الانقلاب ويصير الواجب على المسافر خصوص الركعتين الأولتين بشرط عدم الزيادة ، فتصح الصلاة التامة عند الجهل بالحكم وتفسد عند العلم به.

ويبقى إشكال العقاب ، ويمكن أن يكون العقاب لأجل ترك السلام بعد التشهد الثاني ، بأن يكون أصل التسليم في الصلاة جزء لها ، ولكن وقوعه عقيب التشهد الثاني واجب نفسي ، فيكون المتمم في موضع القصر قد أخل بهذا الواجب النفسي ، فيعاقب عليه مع صحة صلاته.

وهذا الوجه وإن كان في حد نفسه لا محذور فيه ، إلا أنه لا يساعد عليه كلمات الأصحاب ، بل لا ينطبق عليه بعض الفروع المتسالم عليها بينهم ، فان الظاهر : تسالمهم على أن الجاهل لو نوى التمام وأتم صلاته بهذا العنوان صحت صلاته بعنوان ما نواها ، وهذا لا يمكن إلا أن يكون المأمور به في هذا الحال هو الاتمام ، إذ لو كان المأمور به في هذا الحال هو خصوص الركعتين الأولتين - ولولا بشرط عن الزيادة - كان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام ، لعدم نية المأمور به. وكذا الظاهر : تسالمهم على أن الجاهل لو نوى القصر من باب الاتفاق وتمشى منه قصد التقرب وأتم الصلاة قصرا صحت صلاته ، وهذا لا يستقيم إلا إذا كانت الصلاة المقصورة مأمورا بها ولو في حال الجهل بالحكم ، فيلزم تعلق الامر بكل من الصلاة التامة والمقصورة مع استحقاق العقاب على ترك القصر.

هذا ، ولكن مع الالتزام بذلك كله يمكن أيضا التفصي عن الاشكال ، بأن يقال : إن الواجب على المسافر أحد الأمرين من القصر والتمام تخييرا ، ولكن في القصر خصوصية تقتضي تعينه لا على وجه القيدية بل على وجه الوجوب النفسي ، وبالعلم بالحكم تصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة ومما لها دخل في

ص: 299

الصحة ، وتلك الخصوصية وإن لم يعلم بها تفصيلا ، إلا أنه من ترتب العقاب على ترك القصر في حال الجهل يستكشف إنا أن هناك واجبا نفسيا فات من المكلف ، كما أنه من صحة كل من القصر والاتمام في حال الجهل يستكشف أن الواجب عليه أحد الأمرين تخييرا ، ومن بطلان القصر في حال العلم يستكشف القيدية والارتباطية ، ولا بعد في ذلك كله ، إذ من الممكن أن تلحق خصوصية لاحد فردي الواجب تقتضي تعينه لا على وجه القيدية ، كما لو نذر الصلاة في المسجد ، فان خصوصية النذر تقتضي تعين وقوع الصلاة في المسجد ، ومع ذلك لو خالف وأوقع الصلاة في غير المسجد صحت صلاته واستحق العقاب على مخالفة النذر ، كما أنه من الممكن أن تنضم خصوصية لاحد فردي الواجب تقتضي تعينه على وجه القيدية بحيث لا يصح من المكلف غيره ، كما لو عقد صلاة الجمعة من له الولاية على عقدها ، فإنه لا تصح من المكلف غير صلاة الجمعة ، مع أن الواجب في عصر الحضور إحدى الصلاتين تخييرا حسب ما يستفاد من مجموع الأدلة.

فليكن المقام من هذا القبيل ، بأن يكون الواجب هو القصر أو التمام تخييرا ، وخصوصية العلم بالحكم توجب تعين القصر وعدم صحة التمام ، ويرتفع الاشكال بحذافيره.

أما صحة التمام في حال الجهل : فلانه أحد فردي الواجب التخييري. وأما العقاب : فلان المكلف ترك ما هو واجب عليه من الخصوصية. وأما بطلان التمام في حال العلم : فلانه بالعلم تصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة.

هذا حاصل ما أفاده شيخنا الأستاذ - مد ظله - في هذا المقام ، ولكن عدل عن ذلك كله في مبحث الفقه (1) والتزم بأن الواجب على المسافر الجاهل إنما

ص: 300


1- 1 - أقول : فياليت لم يرجع عما أفاده القوم : من إطلاق كلماتهم على استحقاق الجاهل المقصر للعقاب على ترك واجبه الواقعي الشامل للمقام بعد اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، كما هو لازم إطلاق كلماتهم أيضا.

هو التمام ، ولا يصح منه القصر ولو تمشى منه قصد القربة ، واستظهر تسالم الفقهاء على ذلك بعدما استظهر خلافه سابقا ، ومنع عن أصل العقاب - كما تقدم - وعلى هذا يرتفع الاشكال في جميع المسائل الثلاث ، وعليك بالمراجعة في كلمات الأصحاب والتأمل فيها.

- الامر الثالث -
اشارة

قد تقدم أن وجوب الفحص إنما يختص بالشبهات الحكمية. وأما الشبهات الموضوعية : ففي التحريمية منها لا يجب الفحص إجماعا - على ما حكاه الشيخ قدس سره - وإن كان يمكن منع إطلاق معقد الاجماع ، فان في بعض فروع النكاح يجب فيه الفحص مع كون الشبهة تحريمية.

وأما الشبهات الوجوبية : فالظاهر عدم وجوب الفحص فيها أيضا ، إلا إذا توقف امتثال التكليف غالبا على الفحص ، كما إذا كان موضوع التكليف من الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلا بالفحص عنه ، كالاستطاعة في الحج والنصاب في الزكاة ، فان العلم بحصول أول مرتبة الاستطاعة لمن كان فاقدا لها أو العلم ببلوغ المال حد النصاب يتوقف غالبا بل دائما على الفحص والحساب ، وفي مثل هذا يبعد القول بعدم وجوب الفحص ، إذ لولا الفحص يلزم الوقع في مخالفة التكليف كثيرا ومن البعيد تشريع الحكم على هذا الوجه ، فيمكن دعوى الملازمة العرفية بين تشريع مثل هذا الحكم وبين إيجاب الفحص عن موضوعه ، فاطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لا يستقيم ، بل الأقوى : وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالبا على الفحص.

ص: 301

ثم لا يخفى : أن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر في تلك المقدمات ، فان في مثل هذا يجب النظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة - وجوبية كانت أو تحريمية - إلا بعد النظر في المقدمات الحاصلة ، لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها (1) إذ الفحص إنما يكون بتمهيد مقدمات العلم التي هي غير حاصلة ، فلا يجوز الأكل والشرب اعتمادا على استصحاب الليل إذا توقف العلم بطلوع الفجر على مجرد النظر إلى الأفق ، وكذا لا يجوز الاقتحام في المايع المردد بين كونه خلا أو خمرا إذا توقف العلم به على مجرد النظر في الاناء أو السؤال عن الذي في جنبه.

نعم : لا يبعد القول بعدم وجوب ذلك أيضا في خصوص باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيها. هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص واحكامه.

وأما مقدار الفحص : فالظاهر أن حده اليأس عن الظفر بالدليل فيما بأيدينا من الكتب المعتبرة ، إذ لا خصوصية للفحص عن الاحكام ، بل حاله حال الفحص عن الموضوعات الخارجية ، والمقدار اللازم من الفحص فيها هو حصول اليأس عن الظفر بها ، فإن العطشان يتفحص عن الماء حتى يحصل اليأس عنه ، والخائف يتفحص عما يخاف عنه إلى أن يحصل اليأس ، وهكذا سائر الموضوعات.

تذييل :

قد ذكر لأصل البراءة شرطان آخران :

ص: 302


1- أقول : ولقد أجاد فيما أفاد ، وأشرنا إليه أيضا سابقا في مسألة الطومار.

أحدهما : أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر.

ثانيهما : أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير.

أما الشرط الأول : فيحتاج إلى توضيح المراد منه ، فإنه إن كان المراد منه : أن أصالة البراءة لا تثبت اللوازم والاحكام المترتبة على نفي الحكم بالبراءة العقلية والشرعية ، فهذا يرجع إلى عدم اعتبار الأصل المثبت ، ولا اختصاص لذلك بأصل البراءة ، بل يعتبر ذلك في كل أصل ، حتى الاستصحاب الذي هو أقوى الأصول ، فما ظنك بالبراءة التي هي أضعف الأصول!.

وإن كان المراد منه أن الحكم الشرعي المترتب على عدم الحكم لا يترتب بمجرد نفي الحكم بالبراءة ، فهذا في الجملة حق ، ولكن ليس على إطلاقه ، فان ترتب حكم على عدم حكم آخر تارة : يكون لأجل المزاحمة بين الحكمين من حيث عدم القدرة على الجمع بين الحكمين في الامتثال ، كترتب وجوب الإزالة على عدم وجوب الصلاة وبالعكس في صورة وقوع المزاحمة بينهما ، ففي مثل هذا لا ينبغي الاشكال في كفاية نفي أحد الحكمين بالبراءة لاثبات الحكم الآخر ، فان المزاحمة إنما يقع بين الاحكام في مرتبة تنجزها ، والتنجيز يتوقف على الاحراز والوجود العلمي أو ما يقوم مقامه ، وأصالة البراءة تمنع عن تنجز الحكم الثابت في موردها ، فيترتب الحكم الآخر لا محالة ، فيكفي في وجوب الصلاة نفي وجوب الإزالة بأصالة البراءة ، لأن المفروض : أنه لا مانع من وجوب الصلاة إلا تنجز وجوب الإزالة ، وأصالة البراءة تمنع عن تنجزه ، فيثبت وجوب الصلاة لا محالة.

وأخرى : يكون لأجل أخذ عدم أحد الحكمين قيدا في ثبوت الحكم الآخر ، وهذا أيضا يختلف

فإنه تارة : يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع أن القيد هو عدم الحكم المنجز لا عدم الحكم النفس الأمري وإن كان ظاهر الدليل ذلك ، كما لو

ص: 303

قلنا بحرمة التطوع لمن عليه فريضة ، فان استحباب التطوع وإن رتب في ظاهر الأدلة على أن لا تكون في ذمة المكلف صلاة واجبة في نفس الامر ، إلا أن مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ترتب استحباب التطوع على من لم يتنجز في حقه وجوب الصلاة ، إذ من المستبعد جدا عدم استحباب التطوع لمن لم يتنجز عليه وجوب الصلاة ، بحيث يجوز له الأكل والشرب والنوم ولا يجوز له التطوع في الصلاة ، فلو شك في وجوب الصلاة عليه فبأصالة البراءة يثبت استحباب التطوع ، وإن فرض مخالفة البراءة للواقع.

وأخرى : لا يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع ذلك ، بل رتب أحد الحكمين على عدم الآخر واقعا ، كترتب وجوب الحج على عدم اشتغال ذمة المكلف بمال الناس (1) فان الظاهر : عدم وجوب الحج على من كانت ذمته مشغولة بحق الناس واقعا وإن لم يعلم به ، وفي مثل ذلك يستقيم مقالة الفاضل التوني رحمه اللّه من أنه لا يثبت أحد الحكمين بمجرد نفي الحكم الآخر بالبراءة ، إذ أصالة البراءة لا تقتضي نفي الحكم واقعا ولا يثبت عدمه النفس الأمري ، والمفروض : أن أحد الحكمين إنما رتب على عدم الآخر واقعا.

نعم : لو كان عدم أحد الحكمين الذي اخذ قيدا لوجود الآخر مجرى للاستصحاب كان استصحاب عدمه مثبتا للحكم الآخر ، لان الاستصحاب ينفي الحكم الواقعي ، فإنه من الأصول المحرزة ، فلا مانع من ترتب أحد الحكمين على عدم الآخر المحرز بالاستصحاب ، فتأمل جيدا. هذا كله في الشرط الأول.

وأما الشرط الثاني : فهو من أصله فاسد ، لان المورد الذي تجري فيه البراءة إن كان مما يندرج في قاعدة « لا ضرر » فلا محل لجريان البراءة ولا غيرها من الأصول ، بل ولا الأدلة الاجتهادية ، لحكومة القاعدة على جميع ذلك. وإن لم

ص: 304


1- أقول : ما أفيد جيد إلا أن في كون الحج مترتبا على عدم الاشتغال واقعا بلا لزوم أدائه ظاهرا نظر جد ، وتوضيحه في قوله.

يكن المورد مندرجا في القاعدة فلا وجه لهذا الاشتراط.

وللتكلم فيما يندرج في القاعدة ومقدار دلالتها محل آخر ، أفردناه في رسالة مستقلة. هذا تمام الكلام في قاعدة الاشتغال.

والحمد لله أولا وآخرا

والصلاة والسلام على أشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة السبت ، سابع شوال المكرم 1343.

* * *

ص: 305

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الفصل الثالث من المقام الثالث: في الاستصحاب

اشارة

وتحقيق الكلام فيه يستدعي تقديم أمور :

- الأول -

في حقيقة الاستصحاب. وأسد ما قيل في تعريفه : « هو الحكم ببقاء ما كان » ولا يخفى ما فيه ، فان الاستصحاب ليس معناه « الحكم ببقاء ما كان » لان ذلك عبارة أخرى عن « الحكم بدوام ما ثبت » وهذا ليس من الاستصحاب قطعا ، فإنه لا إشكال في أن لليقين والاحراز السابق دخل في حقيقة الاستصحاب ولو لكونه طريقا إلى المتيقن ، كما أن للشك بالبقاء دخل

ص: 306

فيه ، فليس الاستصحاب عبارة عن « الحكم بدوام ما ثبت » بل لو كان حقيقة الاستصحاب ذلك لكان الاستصحاب من الاحكام الواقعية ، وعلى فرض أن يكون من الاحكام الظاهرية باعتبار أخذ الشك في الحكم بالبقاء فيه - مع أنه لم يذكر في التعريف - فليس مفاد الأخبار الواردة في الباب ذلك.

فالأولى في تعريفه هو أن يقال : إن الاستصحاب عبارة عن عدم (1) انتقاض اليقين السابق المتعلق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشك في بقاء متعلق اليقين (2) وهذا المعنى ينطبق على ما هو مفاد الاخبار ، وليس حقيقة الاستصحاب إلا ذلك ، وسيتضح أن الوجه في أخذ بعض القيود في التعريف إنما هو لاخراج « قاعدة اليقين » و « قاعدة المقتضي والمانع » بل ولاخراج « الشك في المقتضي » أيضا الذي لا نقول باعتبار الاستصحاب فيه ، وسيظهر أيضا انطباق التعريف على ما يستفاد من الأخبار الواردة في الاستصحاب.

- الامر الثاني -

يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره أن الاستصحاب إنما يكون من القواعد الفقهية وليس من المسائل الأصولية. ويظهر من بعض آخر : أنه من المسائل الأصولية. والحق هو التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات

ص: 307


1- لا يخفى : أن الاستصحاب لو كان عبارة عن حكم الشارع بعدم انتقاض اليقين السابق بالشك اللاحق لكان حمل الحجية عليه من قبيل حمل الحجية على المفهوم ، وليس كحمل الحجية على الخبر الواحد ، فتأمل جيدا ( منه ).
2- أقول : الأولى أن يقال : إن حقيقة الاستصحاب عند القوم برمتهم التصديق ببقاء ما كان ظنا أم يقينا تعبدا ، إذ ربما أمكن إرجاع تعريف الشيخ إليه ، لان المستفاد من هيئة « الابقاء » هو الحكم به الراجع إلى التصديق به بأحد الوجهين ، بقرينة إشعار وصف « ما كان » بالعلية ، فيخرج الابقاء للدليل ، فتأمل.

الحكمية والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية ، ففي الأول : يكون الاستصحاب من المسائل الأصولية ، وفي الثاني : يكون من القواعد الفقهية.

وتوضيح ذلك : هو أن المسائل الأصولية عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الاحكام الكلية الشرعية وبذلك تمتاز عن مسائل سائر العلوم وعن القواعد الفقهية ، فبقولنا : « الكبريات » تخرج مسائل سائر العلوم ، وبقولنا : « الاحكام الكلية » تخرج القواعد الفقهية.

أما الأول : فلان مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط أيضا ، إلا أنها لا تقع في كبرى القياس ، بل إنما تلتئم منها صغرى القياس ، حتى « علم الرجال » الذي هو أقرب العلوم إلى الاستنباط بعد علم الأصول ، فان « علم الرجال » إنما يتكفل تشخيص الخبر الثقة عن غيره ، والواقع في صغرى قياس الاستنباط هو خصوص الخبر الثقة لا مطلق الخبر ، فان نتيجة المسألة الأصولية هي حجية الخبر الثقة ، كما يقال : وجوب صلاة الظهر مما أخبر به الثقة وكلما أخبر به الثقة حجة أو يجب اتباعه ، فينتج وجوب صلاة الظهر ، وكذا مسائل سائر العلوم ، فان علم اللغة والصرف والنحو إنما يتكفل تشخيص الظاهر عن غيره ، والمبحوث عنه في المسألة الأصولية هو حجية الظواهر.

وبذلك يظهر : أن البحث عن ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة لا يرجع إلى علم الأصول ، بل هو من المبادي ، كالبحث عن أن « الصعيد » ظاهر في مطلق وجه الأرض ، وإنما ذكر في علم الأصول استطرادا ، حيث لم يبحث عنه في علم آخر.

وبالجملة : المايز بين علم الأصول وسائر العلوم ، هو أن مسائل سائر العلوم إنما تكون من المبادي والمعدات لاستنتاج الأحكام الشرعية ، ولا تقع إلا في صغرى قياس الاستنباط. وأما المسألة الأصولية فهي تكون الجزء الأخير لعلة الاستنباط وتصلح لان تقع كبرى القياس.

ص: 308

وبما ذكرنا ظهر : أنه لا موجب لقصر المسائل الأصولية بخصوص ما كان البحث فيه عن أحوال الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ، لكي يلزم الاستطراد في جملة من مهمات المسائل المبحوث عنها في علم الأصول أو يتكلف في دخولها فيه بما لا يخلو عن تعسف ، بل ينبغي تعميم المسائل الأصولية إلى كل ما يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الشرعي الكلي ، سواء كان واقعيا أو ظاهريا ، على ما أوضحناه في أول الكتاب.

وأما الثاني : فلان القاعدة الفقهية وإن كانت تقع كبرى لقياس الاستنباط ، إلا أن النتيجة فيها إنما تكون حكما جزئيا يتعلق بعمل آحاد المكلفين بلا واسطة ، أي لا يحتاج في تعلقه بالعمل إلى مؤنة أخرى كما هو الشأن في نتيجة المسألة الأصولية ، فإنها لا تعلق لها بعمل الآحاد ابتداء إلا بعد تطبيق النتيجة على الموارد الخاصة الجزئية ، فان الحكم الكلي بما هو كلي لا يرتبط بكل مكلف ولا يتعلق بعمله إلا بتوسط انطباقه عليه خارجا.

والحاصل : أن النتيجة في المسألة الأصولية إنما تكون كلية ولا يمكن أن تكون جزئية ، وهذا بخلاف النتيجة في القاعدة الفقهية فإنها تكون جزئية ، ولو فرض أنه في مورد كانت النتيجة كلية ففي مورد آخر تكون جزئية. فالمايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية ، هو أن النتيجة في المسألة الأصولية دائما تكون حكما كليا لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلا بعد التطبيق الخارجي ، وأما النتيجة في القاعدة الفقهية فقد تكون جزئية لا تحتاج في تعلقها بعمل الآحاد إلى التطبيق ، بل غالبا تكون كذلك.

وبتقريب آخر : نتيجة المسألة الأصولية إنما تنفع المجتهد ولا حظ للمقلد فيها ، ومن هنا ليس للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة ، ولا يجوز له أن يفتي في الرسائل العملية بحجية الخبر الواحد القائم على الأحكام الشرعية مثلا ، لان تطبيق النتيجة على الخارجيات ليس بيد المقلد بل هو من وظيفة المجتهد. وأما النتيجة

ص: 309

في القاعدة الفقهية فهي تنفع المقلد ، ويجوز للمجتهد الفتوى بها ، ويكون أمر تطبيقها بيد المقلد ، كما يفتي بقاعدة التجاوز والفراغ والضرر والحرج ومالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وبالعكس ، وغير ذلك من القواعد الفقهية.

فالقاعدة الفقهية تشترك مع المسألة الفقهية في كون النتيجة فيها حكما جزئيا عمليا يتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، غايته أنه جرى الاصطلاح على اختصاص المسألة الفقهية بما إذا كان المحمول فيها حكما أوليا كان له تعلق بفعل أو بموضوع خاص - كمسألة وجوب الصلاة أو حرمة شرب الخمر - واختصاص القاعدة الفقهية بما إذا لم يكن للمحمول تعلق بفعل أو موضوع خاص ، بل كان حاويا لعدة من الافعال والموضوعات المتفرقة التي يجمعها عنوان الحكم الحاوي لها ، من غير فرق بين أن يكون المحمول فيها حكما واقعيا أوليا كقاعدة مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده الشاملة لجميع أنواع المعاوضات المتفرقة ، أو حكما واقعيا ثانويا كقاعدة لا ضرر ولا حرج الجارية في جميع أبواب الفقه ، أو حكما ظاهريا كقاعدة التجاوز والفراغ.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك : أن البحث عن حجية الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية يكون بحثا عن مسألة أصولية (1) فان النتيجة فيه حكم كلي لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلا بعد تطبيقها على الافعال أو الموضوعات الخارجية الجزئية ، ولا عبرة بيقين المقلد وشكه في ذلك ، بل العبرة بيقين المجتهد وشكه ، وهو الذي يجري الاستصحاب ويكون بوحدته بمنزلة كل المكلفين ، ولا يتوقف إعمال الاستصحاب على تحقق الموضوع خارجا ، بل يكفي فيه فرض

ص: 310


1- أقول : لازم كلامه إدخال قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية وكذا غيرها من القواعد الجارية في الشبهة الحكمية في المسائل الأصولية ، مع أنه ليس كذلك ، بل ظاهرهم جعلها من القواعد الفقهية ، فتدبر. ولئن قيل : بأن القواعد ربما تنتج حكما جزئيا وأخرى كليا ، نقول : فالاستصحاب أيضا منها.

الوجود ، كما إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، فإنه يجري استصحاب النجاسة فيه ولو لم يوجد في العالم ماء متغير.

والسر في ذلك : هو أن متعلق الشك في الاستصحابات الحكمية إنما هو الحكم الكلي المترتب على موضوعه المقدر وجوده مع تبدل بعض حالات الموضوع ، وبذلك يمتاز عن استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه ، فإنه في استصحاب عدم النسخ لا يحتاج إلى فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، وأما استصحاب الحكم الكلي في الشبهات الحكمية فيحتاج إلى فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، ولا يحتاج إلى تحقق الموضوع خارجا ، كما هو الشأن في الاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية ، ومن هنا كان إعمال الاستصحاب في الشبهات الحكمية من وظيفة المجتهد ولا حظ للمقلد فيه ، ولا يجوز للمجتهد الفتوى بحجية الاستصحاب في الشبهة الحكمية لان تطبيقها ليس بيد المقلد ، بل لابد للمجتهد من الفتوى بالحكم المستخرج من إعمال الاستصحاب ، فينطبق على ما تقدم من ضابط المسألة الأصولية ، فان حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الكلي ، وذلك واضح.

وأما البحث عن حجية الاستصحاب في الشبهات الموضوعية : فهو إنما يكون بحثا عن قاعدة فقهية ، لان النتيجة فيه حكم عملي له تعلق بعمل الآحاد ابتداء ، فان اليقين والشك من كل مكلف - مقلدا كان أو مجتهدا - يكون موضوعا مستقلا لجريان الاستصحاب ، كالشك المعتبر في قاعدة التجاوز والفراغ ، فالذي يجري الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما هو آحاد المكلفين على حسب ما يعرض لهم من الشك واليقين ، وليس للمجتهد إلا الفتوى بحجية الاستصحاب في الموضوعات ، وأما إعماله فهو يدور مدار شك المقلد ويقينه ، والنتيجة لا تكون إلا الحكم الجزئي المتعلق بعمله الخاص الذي

ص: 311

لا يتعداه ، كطهارة ثوبه ونجاسة بدنه وغير ذلك ، فالبحث عن حجية الاستصحاب في الموضوعات الخارجية كالبحث عن حجية قاعدة الفراغ والتجاوز يرجع إلى البحث عن قاعدة فقهية.

فظهر : أنه لابد من القول بالتفصيل بين حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية وبين حجيته في الشبهات الموضوعية ، فالأول يكون من المسائل الأصولية ، والثاني من القواعد الفقهية.

وتوهم : أنه لا يمكن ذلك مع وحدة الدليل الدال على حجية الاستصحاب وهو قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فان نتيجة الدليل الواحد لا يمكن أن تختلف وتكون تارة مسألة أصولية وأخرى قاعدة فقهية.

فاسد ، فان قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين والشك ، فلا محذور في اختلاف النتيجة حسب اختلاف مقامات الشك واليقين ، وأنه في مقام الشبهة الحكمية تكون النتيجة مسألة أصولية وفي مقام الشبهة الموضوعية تكون النتيجة قاعدة فقهية ، ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في معنيين.

وهذا من غير فرق بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن النوعي وبناء العقلاء ، فان اليقين السابق والشك اللاحق المفيد للظن في نوعه إن تعلق بالأحكام يكون من المسائل الأصولية وإن تعلق بالموضوعات يكون من القواعد الفقهية.

بل ما ذكرناه من اختلاف النتيجة لا يختص بالاستصحاب ، بل يطرد في جميع الامارات والأصول ، فالبحث عن حجية الظواهر في باب الأوقاف والأقارير والوصايا يرجع إلى البحث وعن قاعدة فقهية ، والبحث عن حجيتها في باب الاحكام يرجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، وقس على ذلك سائر الطرق والأصول.

ص: 312

ومما ذكرنا ظهر : موقع النظر في كلام الشيخ قدس سره من أن الاستصحاب في الاحكام عبارة عن نفس الحكم ، والدليل عليه قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فيكون الاستصحاب قاعدة فقهية.

وجه النظر : هو أن الاستصحاب إنما يكون مدركا للحكم الشرعي ، لا أنه بنفسه حكم شرعي ، فان عدم نقض اليقين بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب يكون دليلا على نجاسة الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، فتأمل جيدا.

- الامر الثالث -

اشارة

لا إشكال في مباينة الاستصحاب لكل من « قاعدة اليقين » و « قاعدة المقتضي والمانع » كما أن كلا من القاعدتين تباين الأخرى ، وليس ما يكون بمفهومه جامعا بين العناوين الثلاث.

وتوضيح ذلك : هو أنه يعتبر اختلاف متعلق الشك واليقين في « قاعدة المقتضي والمانع » ولا يمكن أن يتحد ، فان اليقين فيها إنما يتعلق بوجود المقتضي والشك يتعلق بوجود المانع ، فيختلف متعلق الشك واليقين ، ولا يمكن أن يتعلق أحدهما بعين ما تعلق به الآخر ، وهذا بخلاف الشك واليقين في باب الاستصحاب و « قاعدة اليقين » فان الشك في كل منهما يتعلق بعين ما يتعلق به اليقين ولا يختلف مورد الشك واليقين فيهما ، كما سيأتي بيانه.

وبقريب آخر : مورد « قاعدة المقتضي والمانع » هو ما إذا اجتمع كل من الشك واليقين والمشكوك والمتيقن في الزمان ، فإنه في ظرف اليقين بوجود المقتضي يشك في وجود المانع ، فلا يختلف زمان الشك واليقين بمالهما من المتعلق.

وأما « قاعدة اليقين » فيعتبر فيها اختلاف زمان الشك واليقين مع اتحاد زمان المشكوك والمتيقن ، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك

ص: 313

يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة ، فيختلف زمان اليقين مع زمان الشك ، فان ظرف حصول اليقين كان هو يوم الجمعة وظرف حصول الشك كان هو يوم السبت ، ويتحد زمان المتيقن والمشكوك ، فان المتيقن والمشكوك فيه هو عدالة زيد في يوم الجمعة ، ولذلك يعبر عن « قاعدة اليقين » بالشك الساري ، لأن الشك الحاصل في الزمان المتأخر عن زمان اليقين يسري ويرجع بطريق القهقرى إلى زمان اليقين ، ويوجب تبدل اليقين وانقلابه إلى الشك.

وأما الاستصحاب : فيعتبر فيه اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، سواء اختلف زمان الشك واليقين أيضا ( كما إذا حصل اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة بحيث كان يوم الجمعة ظرفا لكل من العدالة واليقين وشك في يوم السبت بعدالته فيه ) أو اتحد زمان الشك واليقين ( كما إذا حصل اليقين في يوم السبت بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك في يوم السبت أيضا بعدالة زيد فيه ) فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، ولا يعتبر فيه اختلاف زمان الشك واليقين ، على عكس « قاعدة اليقين »

فظهر : انه لا يمكن ان يجتمع الاستصحاب مع « قلعدة المقتضي والمانع » و « قاعدة اليقين » كما لايجتمع احدي القاعدتين مع الاخري ، بل لكل من هذه العناوين الثلاثة قيد يوجب التبانين بينها ، فلا يمكن ان يتفكل لاعتبارها دليل واحد ، بل لابد من ان يكون اعتبار كل واحد منها بدليل يخصه.

ومن ذلك يظهر : انه لو كان المراد من اليقين والشك في قوله علیه السلام « لا تنقص اليقين بالشك » هو اليقين والشك الاستصحابي ، فلا يمكن ان يشمل اليقين والشك في « قاعدة اليقين » او « قاعدة المقتضي والمانع ».

إيقاظ :

ما سيأتي من الشيخ قدس سره من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك

ص: 314

في المقتضي لا يراد به « المقتضي » في باب « قاعدة المقتضي والمانع » فان المراد من المقتضي والمانع في القاعدة لا يخلو عن أحد وجوه ثلاث :

الأول : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي وجود الأثر التكويني في عالم التكوين كاقتضاء النار للاحراق ، ومن المانع ما يمنع عن تأثير المقتضي كمانعية الرطوبة الغالبة عن تأثير النار في الثوب المجاور لها. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق المقتضى ( بالفتح ) عند العلم بوجود المقتضي ( بالكسر ) مع الشك في وجود المانع.

الثاني : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي الأثر الشرعي بحسب جعل الشارع ، ومن المانع ما يمنع عن ترتب الأثر الشرعي بجعل من الشارع ، فيكون كل من المقتضي والمانع شرعيا ، كما يقال : إن المستفاد من أدلة النجاسات أن الشارع جعل ملاقاة الماء للنجاسة مقتضية لنجاسته وكرية الماء مانعة عنها. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق الأثر الشرعي كنجاسة الماء عند العلم بوجود ما جعله الشارع مقتضيا له - كالملاقاة في المثال - إلى أن يثبت المانع وهو كرية الماء.

الثالث : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي تشريع الحكم من الملاكات التي تبتني عليها الاحكام كما يقال : إن العلم مقتض لوجوب الاكرام ، ومن المانع ما يمنع عن تأثير المقتضي في الجعل كمانعية الفسق عن تشريع وجوب الاكرام. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق الحكم الشرعي عند العلم بوجود الملاك والشك في وجود المانع.

ولم يعلم : أن من يدعي حجية « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أي من هذه الوجوه الثلاثة ترجع دعواه؟ ويمكن أن يقول بحجية القاعدة في الجميع ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أنه لا دليل على اعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » مطلقا ،

ص: 315

سواء أريد من « المقتضي » المقتضي التكويني أو الشرعي أو الملاكي ، خصوصا لو أريد منه الأخير ، فإنه لا طريق إلى إحراز المقتضي الملاكي.

وعلى كل حال : المراد من « المقتضي » الذي ذهب الشيخ قدس سره إلى عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه معنى آخر أجنبي عن هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في القاعدة ، وسيتضح المراد منه ( إن شاء اللّه تعالى ).

- الامر الرابع -

يعتبر في الاستصحاب أمور ثلاثة :

أحدها : اجتماع اليقين والشك في الزمان ، سواء كان مبدء حدوث اليقين قبل حدوث الشك ، أو تقارن حدوثهما في الزمان ، أو تأخر حدوث اليقين عن حدوث الشك ، كما لو شك في عدالة زيد في يوم السبت واستمر الشك إلى يوم الأحد وفي يوم الأحد حدث اليقين بعدالته في يوم الجمعة ، فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اجتماع اليقين والشك في الزمان ، من غير فرق بين تقارن حدوثهما زمانا أو سبق حدوث أحدهما على الآخر ، فإنه مع عدم اجتماع اليقين والشك يلزم تبدل اليقين وسراية الشك إليه ، فيخرج عن موضوع الاستصحاب ، لأنه يعتبر فيه استقرار اليقين بوجود المتيقن في وقت ما ، وبذلك يمتاز الاستصحاب عن « قاعدة اليقين » كما تقدم.

ثانيها : سبق زمان المتيقن على زمان الشك ، بأن يتعلق الشك ببقاء ما هو متيقن الوجود سابقا ، فلو انعكس الامر وكان زمان المتيقن متأخرا عن زمان الشك - كما إذا شك في مبدء حدوث ما هو متيقن الوجود في الزمان الحاضر - يرجع ذلك إلى الاستصحاب القهقرى الذي لا دليل على اعتباره ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو عدم نقض المتيقن بما له من الآثار بالشك في بقائه ، وهذا المعنى يتوقف على سبق زمان المتيقن ، إذ مع

ص: 316

سبق زمان الشك لا يرتبط الشك في مبدء حدوثه باليقين الحاصل في الزمان الحاضر ، فان عدم البناء على حدوث المتيقن في الزمان السابق على زمان اليقين بوجوده لا يعد نقضا لليقين بالشك ، بل الامر في الاستصحاب القهقرى بالعكس يكون من نقض الشك باليقين ، لا نقض اليقين بالشك.

وبالجملة : لا إشكال في أن لمفاد الأخبار الواردة في الباب يقتضي سبق زمان المتيقن والشك في بقائه ، وهذا المعنى أجنبي عن استصحاب القهقرى ، فالقائل بحجيته لابد له من أن يلتمس دليلا آخر غير روايات الباب.

ثالثها : فعلية الشك واليقين ، ولا يكفي الشك واليقين التقديري ، فإنه مضافا إلى ظهور لفظ الشك واليقين بل مطلق الألفاظ في فعلية الوصف العنواني وقيام مبدأ الاشتقاق الحقيقي أو الجعلي بالذات فعلا وتلبسها به حال الاطلاق - ولذا وقع الاتفاق على عدم حصة إطلاق الانسان والحجر وغير ذلك من الجوامد على ما انقضى عنه الانسانية والحجرية أو لم يتلبس بعد وإن وقع الخلاف في خصوص المشتقات في صحة إطلاقها على وجه الحقيقة بالنسبة إلى من انقضى عنه المبدء - أن الحكم المجعول في الاستصحاب بل في مطلق الأصول لا يكاد يتحقق إلا مع فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيها ، بداهة أن الجري العملي على أحد طرفي الشك أو البناء على بقاء الحالة السابقة وترتب آثار ثبوت المتيقن لا يمكن إلا مع فعلية الشك ، بل قد تقدم منا في مبحث الظن أن نتيجة الحكم الظاهري لا يكاد أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الطرق والامارات وبين الأصول العملية. وبذلك تمتاز الاحكام الواقعية عن الاحكام الظاهرية بعد اشتراكهما في عدم توقف الجعل والانشاء على العلم به ، لأنه يلزم الدور ، إلا أن فعلية الاحكام الواقعية لا تتوقف على العلم بالحكم أو الموضوع ، بل فعليتها تدور مدار وجود الموضوع خارجا ولو مع جهل المكلف به ، وربما تكون بوجوداتها الواقعية منشأ للآثار الخاصة وإن لم يكن

ص: 317

لها وجود علمي. وهذا بخلاف الاحكام الظاهرية ، فإنها بوجوداتها الواقعية لا أثر لها ولا يترتب عليها الآثار المرغوبة منها - من كونها منجزة للواقع عند الإصابة والمعذورية عند المخالفة - إلا بعد الالتفات إليها والعلم بها حكما وموضوعا ، لوضوح أن مجرد جعل حجية الخبر الثقة أو الاستصحاب لا يقتضي التنجيز والمعذورية إلا بعد العلم بقيام الخبر أو الاستصحاب على وجوب الشيء ومقدار دلالته وما يستفاد منه.

وبالجملة : لا إشكال في أن نتيجة جعل الطرق والامارات والأصول العملية لا يمكن أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، لا معنى للمؤاخذة على ترك العمل بخبر لم يعلم به. وكذا الاستصحاب ، فيتوقف جريان الاستصحاب على الالتفات إليه حكما وموضوعا ، وذلك يتوقف على فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيه ، فلا ينبغي التأمل في اعتبار فعلية الشك في الاستصحاب. ويترتب على ذلك فروع مهمة :

منها : ما إذا تيقن المكلف بالحدث ثم غفل عن حاله وصلى غافلا وبعد الفراغ من الصلاة شك في تطهره قبل الصلاة (1) فبناء على اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب ينبغي القول بصحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها ، لأنه يكون من الشك بعد الفراغ ، فتجري في الصلاة « قاعدة الفراغ » ولا أثر لاستصحاب بقاء الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله ، لان قاعدة الفراغ حاكمة عليه. نعم : استصحاب بقاء الحدث إنما ينفع بالنسبة

ص: 318


1- أقول : لا إشكال في أن الطرق المنجزة للواقع والمعذرة لها أو أصولها تكون منجزة ومعذرة ما دام موجودا لا بعد انعدامها ، وحينئذ ففي الزمان السابق لو فرض استصحاب الحدث فلا يقتضي ذلك إلا بطلان الصلاة سابقا. وأما في الحال : فلا مرجع فعلا إلا قاعدة التجاوز أو الفراغ الحاكم بالصحة ، فمن هذا الحين لا معنى للحكم ببطلان الصلاة السابقة ، وإنما يحكم به سابقا ، ولا أثر له عملي فعلا ، فما أفيد من الأساس لا نتيجة له عملا في المقام ، كما لا يخفى.

إلى الصلوات المستقبلة. هذا بناء على اعتبار فعلية الشك.

وأما بناء على كفاية الشك التقديري ، فينبغي القول ببطلان الصلاة في الفرض المذكور ، لأنه بمجرد تيقن الحدث كان الحكم المجعول في حقه هو البناء على بقاء الحدث إلى أن يعلم بالرافع ولا أثر لغفلته بعد ذلك ، لأنه يكون بمنزلة من صلى محدثا بحكم الاستصحاب ، فهو كمن دخل في الصلاة مع الشك في الطهارة ، فتأمل جيدا.

- الامر الخامس -

الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه كثيرة.

أما أقسامه باعتبار المستصحب : فهي أن المستصحب إما أن يكون أمرا وجوديا وإما أن يكون عدميا. وعلى كلا التقديرين : فاما أن يكون حكما شرعيا وإما أن يكون موضوعا ذا حكم. وعلى الأول : فاما أن يكون حكما كليا وإما ان يكون حكما جزئيا. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون من الأحكام التكليفية وإما أن يكون من الأحكام الوضعية.

وأما أقسامه باعتبار الدليل : فهي أن الدليل الدال على ثبوت المستصحب إما أن يكون هو الكتاب والسنة ، وإما أن يكون هو الاجماع ، وإما أن يكون هو العقل.

وأما أقسامه باعتبار منشأ الشك : فهي أن الشك في بقاء المستصحب إما أن يكون لأجل الشك في المقتضي بالبيان الآتي ، وإما أن يكون لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية - على ما سيأتي من الفرق بينهما - وإما أن يكون لأجل الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

فهذا جملة الأقسام المتصورة في الاستصحاب بالاعتبارات الثلاثة. وقد وقع

ص: 319

الخلاف في حجية الاستصحاب في كل واحد من هذه الأقسام. والأقوى : حجية الاستصحاب في جميع الأقسام اللاحقة له باعتبار المستصحب والدليل الدال على ثبوته. وأما أقسامه اللاحقة له باعتبار منشأ الشك : فسيأتي الكلام فيه.

ويظهر من الشيخ قدس سره عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك هو : أن الاحكام العقلية لا يكاد يتطرق الاهمال والاجمال فيها ، فان العقل لا يستقل بقبح شيء أو حسنه إلا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود والخصوصيات ، فكل قيد اعتبره العقل في حكمه فلابد وأن يكون له دخل في الموضوع ، ومعه لا يمكن الشك في بقاء الحكم العقلي وما يستتبعه من الحكم الشرعي - بقاعدة الملازمة - مع بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة الذي لابد منه في الاستصحاب - كما سيأتي بيانه - فإنه لا يمكن الشك في بقاء الشيء إلا بعد انتفاء بعض الخصوصيات والعوارض المكتنفة به ، بداهة أنه مع بقاء الموضوع على ما هو عليه يقطع ببقاء الحكم ولا يتطرق إليه الشك ، فالشك في بقاء الحكم العقلي لا يكون إلا بعد انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ومعه يقطع بارتفاع الحكم ، لأن المفروض أن للخصوصية الزائلة دخلا في موضوع حكم العقل.

وبتقريب آخر : العقل لا يستقل بحسن الشيء أو قبحه إلا بعد الإحاطة بجميع ما له دخل في الحسن والقبح ، فلابد وأن يكون لكل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه مما لها دخل في مناط حكمه ، فعند انتقاء بعض الخصوصيات لا يجري استصحاب بقاء الحكم العقلي ، للعلم بارتفاع المناط. فالحكم العقلي إما أن يكون مقطوع البقاء وإما أن يكون مقطوع الارتفاع ، ولا يتطرق فيه الشك لكي يجري فيه الاستصحاب.

ص: 320

وأما الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل بقاعدة الملازمة ، فلا يمكن استصحابه أيضا ، لان المناط للحكم الشرعي هو المناط في الحكم العقلي ، فلا يمكن أن يكون دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي أوسع من دائرة ما يقوم به مناط الحكم العقلي ، فان الحكم الشرعي إنما استفيد من حكم العقل ، فلابد من أن يكون للخصوصية الزائلة دخل في مناط حكم الشرع أيضا ، لاتحاد ما يقوم به المناط فيهما ، فالعلم بارتفاع مناط الحكم العقلي يلازم العلم بارتفاع مناط الحكم الشرعي ، فكما لا يمكن استصحاب الحكم العقلي عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم الشرعي المستفاد منه ، فالحكم الشرعي أيضا إما أن يكون مقطوع الارتفاع وإما أن يكون مقطوع البقاء ، ولا يتطرق الشك فيه أبدا. هذا حاصل ما أفاده الشيخ ، بتحرير منا.

ولكن للنظر فيه مجال.

أما أولا : فلان دعوى : كون كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ، ممنوعة ، بداهة أنه ربما لا يدرك العقل دخل الخصوصية في مناط الحسن والقبح واقعا ، وإنما أخذها في الموضوع لمكان أن الموضوع الواجد لتلك الخصوصية هو المتيقن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه ، مع أنه يحتمل واقعا أن لا يكون لها دخل في المناط ، مثلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الذي لا يترتب عليه نفع للكاذب ولا لغيره إنما هو لأجل أن الكذب المشتمل على هذه الخصوصيات هو القدر المتيقن في قيام مناط القبح فيه ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية عدم ترتب النفع دخل في القبح ، بل يكفي في القبح مجرد ترتب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره ، والحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل إنما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا ، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض الخصوصيات التي أخذها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقن ،

ص: 321

لاحتمال أن لا تكون لتلك الخصوصية دخل فيما يقوم به الملاك واقعا ، فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنة يصح استصحابه عند الشك في بقائه لأجل زوال بعض خصوصيات الموضوع التي لا تضر بصدق بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا.

وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل ويكون بها قوام الموضوع ، إلا أنه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعم من الواجد لبعض الخصوصيات والفاقد لها ، فان حكم العقل بقبح الواجد لجميع الخصوصيات لا ينحل إلى حكمين : حكم إيجابي وهو قبح الكذب الضار الغير النافع ، وحكم سلبي وهو عدم قبح الكذب الفاقد لوصف الضرر ، فإنه ليس للحكم العقلي مفهوم ينفي الملاك عما عدا ما استقل به ، فيمكن أن تكون لخصوصية الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ، إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي. ودعوى : أنه لا يمكن ذلك ، مما لا شاهد عليها بعد البناء على أن المتبع في بقاء الموضوع وارتفاعه في باب الاستصحاب إنما هو نظر العرف ولا عبرة بالموضوع العقلي.

والحاصل : أن القيد الذي اخذ في موضوع حكم العقل لا يزيد عن القيد الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كالكتاب والسنة ، فكما أن اخذ القيد في الدليل كاشف عن دخله في ملاك الحكم الشرعي ومع ذلك يجري الاستصحاب عند انتفاء القيد إذا لم يكن من المقومات للموضوع عرفا ولا يضر بوحدة القضية المتيقنة للمشكوكة بحسب ما يراه العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) كذلك أخذ القيد في حكم

ص: 322

العقل إنما يكون كاشفا عن دخله في الملاك ثبوتا. ولكن هذا لا يضر بجريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل عند انتفاء القيد إذا لم يكن القيد من مقومات الموضوع عرفا.

نعم : انتفاء بعض القيود التي اعتبرها العقل في موضوع حكمه يوجب رفع الحكم العقلي ، وليس المقصود استصحاب بقاء الحكم العقلي ، بل المقصود استصحاب بقاء الحكم الشرعي المستكشف منه ، وهو بمكان من الامكان. وبالجملة : الموضوع في حكم العقل وإن كان مقيدا بالخصوصية المنتفية ، إلا أن تقييد الموضوع العقلي بالخصوصية كتقييد الموضوع الشرعي في الكتاب والسنة بها ، كقوله : « الماء المتغير نجس » فان وصف التغير الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كوصف الضرر الذي اخذ في موضوع الحكم العقلي ، فكما أن زوال وصف التغير عن الماء لا يضر بصدق بقاء موضوع النجاسة عرفا ، لان العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرى أن موضوع النجاسة هو الماء ووصف التغير علة لعروض النجاسة على الماء غايته أنه يشك في كونه علة لها حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، وهو الموجب لجريان الاستصحاب - على ما سيأتي بيانه - كذلك عدم ترتب وصف الضرر على الكذب لا يضر بصدق بقاء موضوع الحرمة عرفا ، فان موضوع الحرمة بنظر العرف هو نفس الكذب لا بوصف كونه مضرا.

نعم : لو كان المدار في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة على نظر العقل واعتبرنا في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع عقلا ، لكان للمنع عن جريان الاستصحاب عند انتفاء بعض القيود مجال ، إلا أن ذلك لا يختص بالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، بل يطرد في جميع الأحكام الشرعية ، كما سيأتي توضيحه. فظهر : أنه لا مجال للفرق بين كون الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة ، فتأمل جيدا. وسيأتي لذلك مزيد توضيح.

ص: 323

- الامر السادس -

اشارة

قد عرفت في الامر السابق : أن الشك في بقاء المستصحب تارة : يكون لأجل الشك في المقتضي ، وأخرى : يكون لأجل الشك في الرافع أو الغاية. وقد اختار الشيخ قدس سره عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي ، وحكي ذلك أيضا عن المحقق الخونساري رحمه اللّه . فقد يتوهم : أن المراد من المقتضي هو الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها (1) ويقابله الرافع وهو ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بأن فيه ملاك التشريع ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية دخل في الملاك. والشك في الرافع عبارة عن الشك في وجود ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية المنتفية دخل في تأثير الملاك ، فيكون الشك في بقاء علم زيد مثلا من الشك في

ص: 324


1- أقول : ما أظن أحدا يريد من المقتضي في المقام ما هو الملاك لاحداث تشريع الحكم ولو لم يكن مقتضيا لبقائه ، بل عمدة نظره إلى المقتضي لبقائه ، وحينئذ ففي الأحكام التكليفية ليس المقتضي لبقائها إلا ما هو المقتضى لثبوتها من المصالح وبذلك أيضا يحرز استعداد الحكم للبقاء ، إذ يستحيل استعداد للتكاليف بقاء بدون بقاء المصلحة في متعلقه ، وطريق إحرازه ربما يكون بكيفية لسان الدليل : من كونه في مقام إثبات حكم لموضوعه مطلقا ، بلا نظر إلى فعلية الحكم من سائر الجهات. وبعبارة أخرى : كان الخطاب بمادتها الكاشفة عن مصلحة الحكم مطلقا وإن لم يكن من حيث الفعلية مثل هذا الاطلاق - كما هو الشأن في الاحكام الاقتضائية كحلية الغنم وحرمة الخمر - بل ومع فرض إطلاقنا من حيث الفعلية أيضا ، ولكن خصص مرتبة فعليته بما يشك في مصداقه ، هذا كله في التكليفيات. وأما في الأحكام الوضعية : فلا شبهة في أن المقتضي لاحداثها من أسبابها لا يكون مقتضيا لبقائها ، فهي من هذه الجهة نظير كثير من الأمور الخارجية في أن العلية المحدثة كالبناء والبناء لا يكون علة مبقية ، بل بقائه مستند إلى اقتضاء في ذاته المعبر عنه بالاستعداد ، وحينئذ مرجع الشك في المقتضى بقاء إلى الاستعداد المزبور في جميع المقامات ، ولا أظن من أحد يريد غير هذا المعنى ، كما لا يخفى.

المقتضي ، وفي فسقه من الشك في الرافع.

وقد يتوهم أيضا : أن المراد من المقتضي هو المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي تأسيسا أو إمضاء ، والمراد من الرافع هو ما يرفع المسبب شرعا ، كما يقال : إن الوضوء مقتض للطهارة والبول ورافع لها ، والنكاح مقتض للزوجية والطلاق رافع لها ، والبيع مقتض للملكية والفسخ رافع لها ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في بقاء اقتضاء السبب للمسبب عند انتفاء بعض الخصوصيات. ويقابله الشك في الرافع ، وهو ما إذا شك في بقاء المسبب بعد العلم ببقاء اقتضاء السبب ، ولكن يحتمل أن يكون في البين ما يرفع اقتضائه ويدفع تأثيره. مثلا تارة : يشك في بقاء اقتضاء النكاح أو الوضوء عند قول الزوج للزوجة : أنت خلية أو برية أو عند خروج المذي أو الوذي عقيب الطهارة. وأخرى : لا يشك في بقاء اقتضاء النكاح والوضوء عقيب قول الزوجة : أنت خلية أو برية أو عقيب خروج المذي والوذي ، بل يقطع ببقاء المقتضى ، إلا أنه يحتمل أن يكون ذلك رافعا لتأثير المقتضي لمكان تدافع المقتضيين ، فالأول يكون من الشك في المقتضي ، والثاني يكون من الشك في الرافع.

هذا ، ولكن التأمل في كلام المحقق والشيخ قدس سرهما يعطي عدم إرادة ذلك من المقتضي ، فان القول بعدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين يساوق القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإنه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في باب الأسباب والمسببات عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع أو طرو بعض ما يشك معه في بقاء الأثر ، إذ العلم ببقاء الملاك أو الأثر يستحيل عادة لمن لا يوحى إليه إلا من طريق الأدلة الشرعية ، فإنه لا يمكن إثبات كون الوضوء أو النكاح المتعقب بالمذي أو بقول الزوج : « أنت خلية » مقتضيا لبقاء

ص: 325

الطهارة وعلقة الزوجية

وبالجملة : لو بنينا على عدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين يلزم سد باب جريان الاستصحاب في جميع المقامات ، إذا ما من مورد إلا ويشك في تحقق المقتضي بمعنى الملاك أو بمعنى اقتضاء السبب.

فالظاهر : أنه ليس مراد الشيخ والمحقق 0 من المقتضي أحد الوجهين ، بل مرادهما من المقتضي في تقسيم الاستصحاب إلى الشك في المقتضي والشك في الرافع هو مقدار قابلية المستصحب للبقاء في الزمان.

وتوضيح ذلك : هو أن كل موجود وحادث في العالم لابد وأن يكون له بحسب طبعه مقدار من القابلية والاستعداد لبقائه في سلسلة الزمان ، بحيث لو خلي الشيء وطبعه ولم تلحقه عارضة زمانية لكان يبقى في عمود الزمان بمقدار ما يقتضيه استعداده بحسب ما جرت عليه مشية اللّه ( تعالى ) ولا إشكال في اختلاف الموجودات في مقدار القابلية والاستعداد ، كما يشاهد بالوجدان اختلاف استعداد ذوات النفوس في بقائها في سلسلة الزمان ، فان منها ما تبقى مأة سنة ومنها ما يزيد عن ذلك ومنها ما ينقص عنه ، حتى أن بين ذوات النفوس ما يبقى ألف سنة ، كما يقال : إن بعض أقسام الحيتان والطيور يعيش ألف سنة ، وبينها أيضا مالا يعيش إلا ساعة ، وكذا الحال في غير ذوات النفوس من الموضوعات الخارجية ، فان الفواكه والحبوبات لها مقدار من استعداد البقاء على ما بينها من الاختلاف ، وكذا الأبنية ، فان البناء الواقع في ساحل البحر أقل بقاء من البناء الواقع في مكان آخر ولو لأجل ما يلحقه من خصوصية المكان والزمان وغير ذلك ، هذا في الموضوعات الخارجية.

وأما الأحكام الشرعية : فكذلك أيضا ، فان لكل حكم شرعي أمدا وغاية يبقى الحكم إليها مع قطع النظر عن اللواحق والعوارض الطارية ، فيكون مقدار قابلية بقاء الحكم في الزمان على حسب ما ضرب له من الغاية شرعا ، غايته :

ص: 326

أن الفرق بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية هو أن تشخيص مقدار استعداد بقاء الموضوع في الزمان إنما يكون بالامتحان والتجربة ونحو ذلك من الأسباب المشخصة لاستعداد بقاء الموجودات في عمود الزمان ، وأما الأحكام الشرعية فطريق تشخيص مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان إنما يكون من قبل الشارع.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن المستصحب إما أن يكون موضوعا خارجيا وإما أن يكون حكما شرعيا. فان كان موضوعا خارجيا فتارة : يعلم مقدار استعداد بقائه في الزمان ويشك في حدوث زماني أوجب رفع الموضوع وإعدامه عن صفحة الوجود في أثناء عمره واستعداد بقائه ، وأخرى : لا يعلم مقدار عمره واستعداد بقائه ، كما لو شك في أن البق يعيش ثلاثة أيام أو أربعة. فالأول يكون من الشك في الرافع ، والثاني يكون من الشك في المقتضي.

فضابط الشك في المقتضي : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في مقدار قابليته للوجود واستعداده للبقاء في عمود الزمان.

وضابط الشك في الرافع : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في حدوث زماني أوجب إعدام الموجود في أثناء استعداده للبقاء ، كما إذا احتمل طرو مرض أو قتل أو تخريب أو نحو ذلك من الأسباب الموجبة لرفع الموضوعات الخارجية.

والظاهر : أن القائل بعدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أراد من المقتضي هذا المعنى ، كما يشهد له التمثيل بالشك في بقاء البلد المبني على ساحل البحر ، فان الشك في بقاء البلد إنما هو لأجل الشك في مقدار استعداده للبقاء ، وهذا المعنى من الشك في المقتضي هو الذي ينبغي النزاع في اعتبار الاستصحاب فيه وعدمه ، فإنه لا يلزم من القول بالتفصيل سد باب الاستصحاب مطلقا ، كما يلزم منه ذلك إن أريد من المقتضي أحد الوجهين

ص: 327

المتقدمين ، هذا إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية.

وإن كان المستصحب من الأحكام الشرعية : فقد عرفت أن الشك في المقتضي فها بالمعنى المتقدم إنما يكون لأجل الشك في الغاية على بعض التقادير

وتفصيل ذلك : هو أن الحكم الشرعي إما أن يكون قد ضرب له غاية كقوله تعالى : « أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ » بناء على كون الغاية غاية للحكم لا للصيام ، وإما أن لا يكون له غاية. وعلى الثاني : فاما أن يعلم إرسال الحكم في الزمان بحيث يعم جميع الأزمنة ولو بمعونة مقدمات الحكمة ، وإما أن لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون امتداد الحكم إلى زمان خاص وينقطع بعده.

فان لم يعلم إرسال الحكم في الزمان : فالشك في بقائه بالنسبة إلى ما عدا القدر المتيقن من امتداده في الزمان يرجع إلى الشك في المقتضي ، لأنه يحتمل أن يكون زمان الشك هو آخر زمان الحكم بحسب ما جعل له من الغاية ، بحيث لا يكون له استعداد البقاء بعد ذلك ، فيكون بعينه كالشك في مقدار استعداد بقاء الموضوع الخارجي في سلسلة الزمان.

وإن علم إرسال الحكم في جميع الأزمنة : فالشك في بقائه دائما يكون من الشك في الرافع ، فان الشك في بقاء الحكم المرسل لا يمكن إلا من جهة الشك في حدوث امر زماني يقتضي رفع الحكم مع اقتضائه للبقاء ، كما لو شك في طرو أحد العناوين الموجبة لرفع الحكم تفضلا وامتنانا ، فتأمل. هذا إذا لم يضرب للحكم غاية في لسان الدليل.

وإن كان له غاية ، فتارة : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية كما إذا شك في أن غاية وجوب صلاة المغرب هل هي ذهاب الحمرة المغربية؟ أو أن غايته انتصاف الليل؟ وأخرى : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة المفهومية كما إذا شك في أن الغروب الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الظهرين هل هو استتار القرص؟ أو ذهاب الحرمة المشرقية؟ وثالثة : يشك في الغاية من

ص: 328

جهة الشبهة الموضوعية كما إذا شك في طلوع الشمس الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الصبح.

فان شك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية : فالشك في بقاء الحكم فيما وراء القدر المتيقن من الغاية يكون من الشك في المقتضي ، وكذا إذا كان الشك في مقدارها من جهة الشبهة المفهومية ، فان الشك في بقاء وجوب صلاة الظهرين إلى ما بعد استتار القرص يرجع إلى الشك في أمد الحكم ومقدار استعداد بقائه في الزمان ، لاحتمال أن يكون الغروب هو استتار القرص ، فيكون قد انتهى عمر الحكم.

وإن كان الشك في حصول الغاية من جهة الشبهة الموضوعية : فالشك في ذلك يرجع إلى الشك في الرافع حكما لا موضوعا ، لأن الشك في الرافع هو ما إذا شك في حدوث أمر زماني ، والشك في المقام يرجع إلى حدوث نفس الزمان الذي جعل غاية للحكم ، فالشك في حصول الغاية ليس من الشك في الرافع حقيقة ، إلا أنه ملحق به حكما (1) فان الشك في طلوع الشمس لا يرجع إلى الشك في مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان ، للعلم بأنه يبقى إلى الطلوع ، وإنما الشك في تحقق الطلوع ، فيكون كالشك في حدوث ما يرفع الحكم ، فتأمل.

فتحصل : أن الشك في المقتضي يباين الشك في الرافع دائما. وأما الشك في الغاية : فقد يلحق بالشك في المقتضي ، وقد يلحق بالشك في الرافع ، بالبيان المتقدم.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الرافع والغاية ، فان الرافع عبارة عن الامر الزماني الموجب لاعدام الموضوع أو الحكم عن وعائه من دون أن يؤخذ عدمه

ص: 329


1- أقول : لا يخلو ذلك عن مصادرة ، لان لسان الغاية في الأدلة كاشفة عن تحديد الاستعداد ، ومع الشك فيه بأي نحو يشك في استعداد الحكم ، ولعل المشار إليه بأمره بالتأمل ذلك.

قيدا للحكم أو الموضوع ، والغاية عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الشيء ، فتكون النسبة بين الرافع والغاية نسبة التباين. ولو كانت الغاية أعم من الزمان والزماني تكون النسبة بينهما بالعموم من وجه ، فقد يجمعان كما إذا كان الحكم مغيى بغاية زمانية ، فان الامر الزماني الذي اخذ غاية للحكم كما يكون غاية له يكون رافعا أيضا ، وقد يفترقان ، فيكون الشيء غاية من دون أن يكون وجوده رافعا كما إذا اخذ الزمان غاية للحكم كالليل والنهار ، وقد يكون الشيء رافعا للحكم من دون أن يكون غاية له كالحدث الرافع للطهارة ، فان الحدث ليس غاية للطهارة لعدم أخذ عدمه قيدا للطهارة وإنما كان وجوده رافعا لها.

وإن ناقشت في بعض ما ذكرناه ، فلا يضر بما هو المدعى في المقام : من أن مراد الشيخ قدس سره من المقتضي في قوله : « إن الاستصحاب لا يجري عند الشك فيه » ليس هو المقتضي بمعنى الملاك ، ولا المقتضي الذي يترشح منه وجود المعلول ، بل المراد منه هو مقدار استعداد بقاء الشيء في سلسلة الزمان ، فكلما رجع الشك في بقاء الشيء إلى الشك في مقدار بقائه في الزمان يكون من الشك في المقتضي ، وفيما عدا ذلك يكون من الشك في الرافع ، حتى أن الشك في انتقاض التيمم (1)أقول: بناء على ما سلكتم من إرجاع شرائط التكليف إلى الموضوع يلزمكم في المقام أن تجعلوا عدم الوجدان قيدا لموضوع الخطاب بالتيمّم بنصّ الآية الشريفة من قوله سبحانه: «و إن لم تجدوا إلخ».(2) بزوال العذر أو بوجدان الماء في أثناء الصلاة يرجع إلى

ص: 330


1- ظاهر كلام الشيخ قدس سره في ذيل استدلال المنكرين لحجية الاستصحاب مطلقا يعطي أن الشك في انتقاض التيمم بوجدان الماء ليس من الشك في الرافع ، بل هو من الشك في الموضوع بتقريب : أن المكلف بالطهارة الترابية هو الفاقد للماء ، فعند وجدان الماء في أثناء الصلاة يشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال أن يكون الموضوع هو الفاقد للماء قبل الصلاة لا مطلقا. هذا، و لكن التحقيق: أنّ مثال التيمّم ليس من الشكّ في المقتضي، و لا من الشكّ في الموضوع. أمّا الأوّل: فلأنّ الشكّ في الانتقاض لا يرجع إلى الشكّ في مقدار استعداد بقاء أثر التيمّم في عمود الزمان. و أمّا الثاني: فأنّ الموضوع هو ذات المكلّف لا بوصف كونه فاقدا للماء، بل فقدان الماء علّة لوجوب التيمّم على المكلّف، كما هو ظاهر قوله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ » الآية، فانّ الخطاب إنما هو لذوات المكلفين لا للفاقدين
2- فالموضوع باق على ما هو عليه ولو بعد وجدان الماء وإنما الشك لأجل احتمال أن يكون فقدان الماء علة لوجوب التيمم حدوثا وبقاء فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فتأمل جيدا ( منه ).

الشك في الرافع ، لأن الشك في بقاء اثر التيمم إنما هو لأجل حدوث أمر زماني ، فيندرج في ضابط الشك في الرافع ، مع أنه من أوضح مصاديق الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين.

وبما ذكرنا يندفع ما يورد على الشيخ قدس سره في جملة من الموارد التي بنى على جريان الاستصحاب فيها ، بان الشك فيها يرجع إلى الشك في المقتضي فينبغي أن لا يقول بجريان الاستصحاب فيها (1) فان الايراد عليه بذلك مبني على ما توهم من أن مراد الشيخ من المقتضي هو أحد الوجهين المتقدمين ، وقد عرفت أن ذلك بمراحل عن الواقع.

إذا عرفت ما تلوناه عليك من الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه ، فالأقوى عندنا : اعتبار الاستصحاب في جميع أقسام المستصحب والدليل الدال عليه وأقسام الشك في الرافع وما يلحق به من الشك في الغاية ، وعدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية ، ويتضح وجه ذلك بذكر الأدلة التي استدلوا بها على حجية الاستصحاب.

فمنها :

دعوى بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة والعمل على طبقها وعدم

ص: 331


1- أقول : ليس بنظري مورد الاشكال حتى الاحظ وأميز الحق من الباطل.

الاعتناء بالشك في انتقاضها.

وهذه الدعوى في الجملة مما لا إشكال فيها ولا سبيل إلى إنكارها ، لأنه قد استقرت الطريقة العقلائية على العمل بالحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها ، كما يشاهد ذلك في مراسلاتهم ومعاملاتهم ومحاوراتهم ، بل لولا ذلك يلزم اختلال النظام ، فان النيل إلى المقاصد والوصول إلى الاغراض يتوقف غالبا على البناء على بقاء الحالة السابقة ، ضرورة أن الشك في بقاء الحياة لو أوجب التوقف في ترتيب آثار بقاء الحياة لانسدت أبواب المراسلات والمواصلات والتجارات ، بل لم يقم للعقلاء سوق.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن الطريقة العقلائية قد استقرت على ترتيب آثار البقاء عند الشك في الارتفاع (1) وليس عملهم على ذلك لأجل حصول الاطمينان لهم بالبقاء ، أو لمحض الرجاء ، بداهة أنه لا وجه لحصول الاطمينان مع فرض الشك في البقاء ، والعمل برجاء البقاء إنما يصح فيما إذا لم يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة ، وإلا لا يكاد يمكن ترتيب آثار البقاء رجاء ، مع أنه يحتمل فوات المنافع أو الوقوع في المضار المهمة ، فعمل العقلاء على الحالة السابقة ليس لأجل الرجاء ولا لحصول الاطمينان ، بل لكون فطرتهم جرت على ذلك فصار البناء على بقاء المتيقن من المرتكزات في أذهان العقلاء.

فظهر : أنه لا مجال لانكار قيام السيرة العقلائية والطريقة العرفية على الاخذ بالحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها ، ولم يردع عنها الشارع.

ص: 332


1- أقول : ولعمري! أن جميع ذلك من باب الوثوق النوعي الحاصل في نظائره من ظواهر الألفاظ وسائر الموارد التي يجري على طبق الغالب ، لا أنه من باب التعبد والاخذ بأحد طرفي الشك تعبدا ، ولو فرض تماميته وعدم ثبوت الردع عن مثل هذا الوثوق النوعي في الموضوعات للزم حجية الاستصحاب من باب الظن وكان من الامارات ، ولا أظن يلتزم به المستدل ، فتدبر.

والآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تصلح لان تكون رادعة عنها ، لما تقدم في حجية الظواهر وخبر الواحد : من أن جميع موارد السيرة العقلائية خارجة عن العمل بما وراء العلم بالتخصص.

فما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في المقام : من أن الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم تصلح لكونها رادعة عن السيرة العقلائية فيما نحن فيه ، ينافي ما تقدم منه في حجية الخبر الواحد : من أن تلك الآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن الطريقة العقلائية ، مع أن بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة لو لم يكن أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد فلا أقل من التساوي بين المقامين ، فكيف كانت الآيات رادعة عن بناء العقلاء في المقام ولم تكن رادعة عنه في ذلك المقام؟! فالأقوى : أنه لا فرق في اعتبار السيرة العقلائية في كلا المقامين.

ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو الاخذ بالحالة السابقة عند الشك في الرافع ، ولم يظهر أن بناء العقلاء على ترتيب آثار وجود المتيقن حتى مع الشك في المقتضي ، بل الظاهر أن بنائهم عند الشك في المقتضي على التوقف والفحص إلى أن يتبين الحال.

ولعل منشأ القول بحجية « قاعدة المقتضي والمانع » هو ما يشاهد من بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة عند إحراز المقتضي ، وقد استدل بعض من قال باعتبار القاعدة بذلك. ولكنه ضعيف ، لان بناء العقلاء على ذلك إنما هو بعد إحراز تأثير المقتضي ووجود المقتضي ( بالفتح ) في الخارج ، وهذا أجنبي عن « قاعدة المقتضي والمانع » فان مورد القاعدة هو مجرد العلم بوجود المقتضي مع عدم العلم بتأثيره في وجود المعلول ، كما عرفت.

فتحصل : أن المقدر الذي يمكن أن يدعى في المقام ، هو قيام السيرة العقلائية على عدم الاعتناء بالشك في ارتفاع الشيء بعد العلم بوجوده خارجا

ص: 333

واقتضائه للبقاء. ودعوى : قيام السيرة على أزيد من ذلك مما لا شاهد عليها ، وعهدتها على مدعيها.

ومنها :

الاجماع المحكي في جملة من الكلمات.

ولا يخفى وهنه ، فإنه لا يمكن الركون إلى الاجماع المحكي ، خصوصا في مثل المقام الذي كثر الاختلاف والأقوال فيه.

نعم : يمكن دعوى قيام الشهرة أو ما يقرب من الاجماع على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع ، فان السيد رحمه اللّه وإن نسب إليه القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا إلا أن صاحب المعالم اعترف بأن كلام السيد رحمه اللّه يرجع إلى مقالة المحقق صاحب المعارج ، مع أن المحقق رحمه اللّه من القائلين بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، كما يشهد له التمثيل بالنكاح والألفاظ التي يشك في وقوع الطلاق بها ، وإن كان يظهر من ذيل كلامه : أن القول ببقاء عقدة النكاح عقيب ما يشك في وقوع الطلاق بها إنما هو لأجل إطلاق ما دل على حلية النكاح للوطي ، لا لأجل الاستصحاب ، فراجع وتأمل.

ومنها :

الاخبار ، وهي العمدة ، وقد بلغت ما يقرب من الاستفاضة.

فمنها : مضمرة زرارة ، ولا يضر إضمارها بعدما كان الراوي « زرارة » الذي لا يروي إلا عن الامام علیه السلام « قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال علیه السلام يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ،

ص: 334

قلت : فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال علیه السلام لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر » (1).

والاستدلال بالرواية على اعتبار الاستصحاب مطلقا في جميع المسائل يتوقف على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء ، وأن إضافة اليقين إلى الوضوء في قوله : « وإلا فإنه على يقين من وضوئه » ليس لبيان تقييد اليقين بالوضوء ، بل لمجرد بيان أحد مصاديق ما يتعلق به اليقين (2) واختيار هذا المصداق بالذكر لكونه مورد السؤال لا لخصوصية فيه ، وعلى هذا يكون المحمول في الصغرى مطلق اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء ، وينطبق على ما هو الموضوع في الكبرى ، وهي قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » فيكون « الألف واللام » في اليقين للجنس ، لا للعهد (3) ليختص الموضوع في الكبرى باليقين المتعلق بالوضوء ، ويتألف من مجموع الجملتين قياس بصورة الشكل الأول ، فتكون النتيجة هي عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشك ، سواء تعلق اليقين بالوضوء أو بغيره من الاحكام والموضوعات ، كما لو فرض أنه قدم

ص: 335


1- الوسائل الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء الحديث 1.
2- أقول : والأولى أن يقال : إن تطبيق مثل هذا الكبرى على صغريات متعددة : من الوضوء تارة والطهارة الخبثية أخرى والركعات ثالثة يكشف كشفا جزميا بعدم خصوصية في هذه الموارد ، بل كل مورد من باب تطبيق الكبرى الكلية على صغرياتها.
3- أقول : بعد كون المقدمة كونه على يقين من وضوئه ، فلو كان « اللام » للعهد فلا يقتضي إلا عدم نقض اليقين بشخص وضوئه لا اليقين بمطلق الوضوء ، فإرادة اليقين بمطلق الوضوء من لوازم كون « اللام » للجنس بضميمة عدم تجريد إضافة اليقين الثاني إلى الوضوء الكلي بملاحظة حفظ كلية الكبرى ، بقرينة استتباع إرادة شخص وضوئه في عدم نقض اليقين الظاهر في كونه بمنزلة كبرى القياس ، وحينئذ عمدة وجه استفادة المدعى تجريد اليقين عن طبيعة الوضوء في المقدم وعدمه ، من دون فرق بين كون « اللام » في اليقين الثاني للعهد أو الجنس ، فتدبر.

الوضوء على اليقين وكان الكلام هكذا « فإنه من وضوئه على يقين ، ولا ينقض اليقين بالشك » إذ لا إشكال حينئذ في أن المحمول في الصغرى والموضوع في الكبرى هو نفس اليقين بلا قيد.

والحاصل : أن المهم هو بيان كون إضافة اليقين إلى الوضوء في قول علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » ليست لأجل كونها دخيلة في الحكم لتكون « الألف واللام » للعهد فيختص الحكم باليقين والشك المتعلق بباب الوضوء بعد إلغاء خصوصية المورد : من كون منشأ الشك في بقاء الوضوء هو خصوص النوم.

ومما ذكرنا ظهر : أن الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب في غير باب الوضوء لا يتوقف على تعيين جزاء الشرط : من أنه نفس قوله علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » أو أن ذلك علة للجزاء المقدر وهو « فلا يجب عليه الوضوء » أو أن الجزاء هو قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » والتعليل ذكر توطئة للجزاء.

فما أتعب الشيخ قدس سره نفسه في تعيين الجزاء لا دخل له في الاستدلال بالرواية لما نحن فيه. مع أنه لا ينبغي الاشكال في كون الجزاء هو نفس قوله : « فإنه على يقين من وضوئه » بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية ، فمعنى قوله علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » هو أنه يجب البناء والعمل على طبق اليقين بالوضوء.

وأما احتمال أن يكون ذلك علة للجزاء المقدر وهو « فلا يجب عليه الوضوء » فهو ضعيف غايته وإن قواه الشيخ قدس سره بداهة أنه على هذا يلزم التكرار في الجواب وبيان حكم المسؤول عنه مرتين بلا فائدة ، فان معنى قوله علیه السلام « لا ، حتى يستيقن » عقيب قول السائل : « فان حرك في جنبه شيء » هو أنه لا يجب عليه الوضوء ، فلو قدر جزاء قوله : « وإلا » بمثل « فلا

ص: 336

يجب عليه الوضوء » يلزم التكرار في الجواب ، من دون أن يتكرر السؤال ، وهو لا يخلو عن حزازة. فاحتمال أن يكون الجزاء محذوفا ضعيف غايته.

وأضعف منه : احتمال أن يكون الجزاء قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » فإنه بعيد عن سوق الكلام ، مع أنه يلزم منه اختصاص قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » بخصوص باب الوضوء ويتعين أن يكون « الألف واللام » فيه للعهد ، ولا يصلح لان يكون كبرى كلية في جميع المقامات ، كما لا يخفى وجهه ، فيتعين أن يكون قوله علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » هو الجزاء ، بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية.

وعلى كل حال : قد عرفت : أن الاستدلال بالرواية لا يتوقف على تشخيص الجزاء ، بل يتوقف على إلغاء خصوصية إضافة اليقين إلى الوضوء.

والظاهر : أنه لا ينبغي التأمل والتوقف في عدم دخل الإضافة في الحكم ، بل ذكر متعلق اليقين في الرواية إنما هو لكون اليقين من الصفات الحقيقية ذات إضافة ، فلابد وأن يكون له إضافة إلى شيء ، وإنما أضيف إلى خصوص الوضوء ، لان الإضافة الخارجية في مورد السؤال كانت في خصوص الوضوء ، فتأخير قوله علیه السلام « من وضوئه » عن « اليقين » كتقديمه عليه لا يستفاد منه أزيد من كونه طرف الإضافة ، من دون أن يكون له دخل في الحكم ، فيكون الموضوع في قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين » هو مطلق اليقين ، و « اللام » للجنس ، كما هو الأصل فيها إذا كان المدخول من أسماء الأجناس.

فالانصاف : أنه لا يحتمل أن يكون لذكر متعلق اليقين في الرواية دخل في الحكم ، فلا يقال : إنه يكفي في سقوط الاستدلال بالرواية احتمال أن يكون لتعلق اليقين بالوضوء دخل في الكبرى ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيوجب إجماله.

هذا ، مضافا إلى أن مناسبة الحكم والموضوع والتعبير بلفظ « النقض »

ص: 337

يقتضي أن لا تكون لخصوصية إضافة اليقين إلى الوضوء دخل في الحكم ، فان القابل للنقض وعدمه هو اليقين من دون دخل لتعلقه بالوضوء ، مع أن الظاهر من قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » هو أنه ورد لتقرير ما هو المرتكز في أذهان العقلاء واستقرت عليه طريقتهم : من عدم الاعتناء بالشك في بقاء ما هو متيقن الوجود مطلقا في كل ما كان الشك في البقاء لأجل احتمال وجود الرافع.

فظهر : أنه لا ينبغي احتمال اختصاص الرواية بخصوص باب الوضوء ، بل تعم جميع الأبواب ، لكن في خصوص الشك في الرافع ، كما سيأتي بيانه.

دفع وهم :

ربما يتوهم : أن غاية ما تدل عليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب ، فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين بالشك ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك ، وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الافراد.

وفيه مالا يخفى ، فان سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنى اسميا ليصح سلبه ، وهذا إنما يمكن فيما إذا كان العموم مستفادا من مثل لفظة « كل » و « أجمع » ونحو ذلك مما يكون له معنى اسمي ، وأما العموم المستفاد من مثل النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي والمفرد المحلى باللام بل الجمع المحلى بها فلا يمكن فيه سلب العموم.

أما في النكرة : فواضح ، فان العموم فيها إنما يستفاد من النفي والنهي الوارد على الطبيعة ، حيث إن عدم الطبيعة يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها ، فالعموم فيها متأخر رتبة عن ورود النهي أو النفي ، فإنه لولا ورود النفي على الطبيعة لا يكاد يتحقق العموم ، فلا يعقل فيها سلب العموم ، لان سلب العموم

ص: 338

يتوقف على أن يكون العموم سابقا في الرتبة على السلب ليصح سلبه.

وكذا الكلام في المفرد المحلى باللام ، فان العموم فيه أيضا متأخر رتبة عن ورود الحكم ، لأنه إنما يستفاد من مقدمات الحكمة بعد ورود الحكم على المفرد سلبا أو إيجابا ، لان المفرد المحلى باللام ليس موضوعا للعموم حتى يمكن ورود الحكم عليه ، فهي مثل « لا تكرم رجلا » أو « لا تكرم الرجل » و « لا تنقض اليقين » ونحو ذلك لا يمكن فيه سلب العموم ، بل لابد وأن يكون المراد منه عموم السلب.

وأما الجمع المحلى باللام : فهو وإن كان موضوعا للعموم مع قطع النظر عن كونه موضوعا لحكم من الاحكام ، إلا أن أداة العموم فيه إنما تكون مرآة لملاحظة المصاديق والافراد المقدرة وجودها ، فلا يمكن لحاظ العموم فيه معنى اسميا ليصح سلبه ، لما عرفت : من أن سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنى اسميا ، ولا يمكن ذلك في العموم المستفاد من الأدوات الحرفية ، لان المعنى الحرفي لا يعقل لحاظه معنى اسميا.

نعم : لو كان الجمع المحلى باللام بهيئته التركيبية موضوعا للعموم - كما هو أحد الوجهين أو القولين فيه - لكان لدعوى سلب العموم فيه مجال وإن كان خلاف الظاهر. فالتحقيق : أنه لا سبيل إلى القول بسلب العموم في كل من النكرة والمفرد المحلى باللام والجمع المحلى بها.

نعم : لو كان العموم مستفادا من لفظة « كل » ونحوها من الأدوات الاسمية ، لكان للقول بسلب العموم فيه مجال ، بل قد يدعى ظهوره في سلب العموم ، كما لا يبعد ذلك في مثل قوله : « لا تأكل كل رمانة في البستان » و « لا تضرب كل أحد » و « لا تكرم كل فاسق » فاستفادة عموم السلب في مثل ذلك يحتاج إلى قرينة تدل عليه ، وإلا فظاهره الأولي يدل على سلب العموم.

فتحصل : أنه لا مجال لتوهم سلب العموم في مثل قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لأنه من المفرد المحلى باللام الذي قد عرفت أنه

ص: 339

لا يمكن فيه إلا عموم السلب ، فتأمل جيدا.

ومنها :

مضمرة أخرى لزرارة أيضا : « قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت أثره إلى أن أصب عليه الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال علیه السلام تعيد الصلاة وتغسله ، فلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال علیه السلام تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن فنظرت ولم أر شيئا فصليت فيه؟ قال علیه السلام تغسله ولا تعيد ، قلت : لم ذلك؟ قال علیه السلام لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ، قلت : فاني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال علیه السلام تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علي إن شككت أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال علیه السلام لا ولكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال علیه السلام تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » الخبر (1).

وهذه الرواية الشريفة التي عليها آثار الصدق قد تضمنت لجملة من الاحكام ، منها : حجية الاستصحاب بناء على أن يكون المراد من « اليقين » في قوله علیه السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك » هو اليقين بالطهارة

ص: 340


1- 1 - أورد قطعات منها في الوسائل في الباب 37 ح 1 والباب 41 ح 1 والباب 42 ح 2 مع اختلاف في بعض الكلمات

قبل ظن الإصابة ، لا اليقين بها الحاصل من الفحص عن النجاسة بعد الظن بالإصابة ، وإلا كانت الرواية منطبقة على « قاعدة اليقين » لا الاستصحاب ، ولكن حمل « اليقين » على الحاصل بعد الفحص خلاف الظاهر ، خصوصا مع عدم فرض الراوي حصول اليقين بالطهارة من الفحص بعد ظن الإصابة ، بل المذكورة في الرواية هو أنه لم ير شيئا بعد النظر في الثوب والفحص عن النجاسة المظنونة ، وعدم الرؤية أعم من حصول اليقين بالعدم ، كما هو واضح ، فدلالة الرواية على حجية الاستصحاب مما لا يكاد تخفى.

إزاحة شبهة :

قد أورد على الرواية بما حاصله : أنه كيف يصح أن يعطل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد الالتفات والعلم بوقوعها في الثوب النجس بقوله علیه السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك الخ »؟ مع أن الإعادة حينئذ لا تكون من نقض اليقين بالشك ، بل من نقض اليقين باليقين (1).

ص: 341


1- أقول : عمدة وجه الاشكال مبني على الاستظهار من الرواية بأن [ في ] الإعادة نقضا لليقين بالشك ، ولا يرفع هذا الاشكال كفاية العلم بالطهارة حين الدخول إلى آخرها ، كي يقوم الاستصحاب السابق حين العمل مقامه ، إذ عدم الإعادة حينئذ من لوازم نفس الاستصحاب ، لا من لوازم المستصحب كي يكون نقيضه نقضا لليقين بالشك. و لئن شئت قلت: إنّ معنى حرمة النقض حرمة رفع اليد عن آثار المتيقّن المترتّب عليه ببركة اليقين و وجوب ترتيبها، و إمّا ترتّب آثار الاستصحاب فلا يكون معنونا بعنوان النقض المزبور، و حينئذ فالإعادة بمقتضى ظهور الرواية إنّما يكون معنونا بعنوان النقض في صورة كونه من آثار المتيقّن الواجب ترتّبها عليه ببركة اليقين، و بعد ذا لا محيص من كونه نقضا باليقين لا بالشكّ، و حينئذ فما أفيد بطوله المملّ أجنبيّ عن جهة الإشكال، فالعمدة حينئذ منع هذا الاستظهار، و هو أيضا خلاف الانطباق. و من هنا ظهر أيضا فساد جعل مصحّح التعليل اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء. و الأولى: تسليم الإشكال و عدم إضراره بصحّة الاستدلال، أو حمله على رؤيته المحتمل وقوعه حينه، كما هو الشأن في الفرع الآتي، بل ربما يؤيد ذلك قوله : « لعله شيء أوقع عليك » فإنه في مقام تصحيح أن الإعادة نقض ، فظهور السياق يقتضي أن يكون المقام أيضا كذلك ، وحينئذ فلو كان هنالك أيضا عدم الإعادة من جهة شرطية عدم العلم بالنجاسة أو العلم بالطهارة لا يحتاج صحة الصلاة في الفرع الأولى على إبداء الاحتمال المزبور ، فذلك كاشف جزمي بأن الإعادة فيه نقض يقين بالشك ، فكذلك في المقام. ولا ينافي ما ذكرنا أيضا الاخبار الآتية ، لامكان استفادة إجزاء الامر الظاهري في المورد للواقع مع فرض شرطية الطهارة الواقعية. نعم : لا بأس بعدم الشرطية المزبورة للغافل محضا إلا مع سبقه بالعلم بها ، كما لا يخفى ، فتدبر فيما ذكرنا ، لعله يرجع إليه أيضا ما اختاره فيما سيأتي : من الجمع بين طائفتي الاخبار ، واللّه العالم.

نعم : يصح تعليل جواز الدخول في الصلاة بذلك ، لان الظن بالنجاسة مع عدم حصول اليقين بها لو اقتضى عدم جواز الدخول في الصلاة لكان ذلك من نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها ، وأما إعادة الصلاة بعد إتمامها وتبين وقوعها في النجاسة فلا تكون من نقض اليقين بالشك ، للعلم بوقوع الصلاة مع نجاسة الثوب ، فالإعادة تكون من نقض اليقين باليقين ، مع أن الامام علیه السلام علل عدم وجوب الإعادة بأنه يلزم من الإعادة نقض اليقين بالشك.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك أن هذا الاشكال لا يضر بصحة الاستدلال بالرواية على اعتبار الاستصحاب ، فعلى فرض العجز عن تطبيق التعليل على مورد الرواية لا يوجب سقوط الرواية عن صحة الاستدلال بها ، كما لا يخفى. مع أنه يمكن دفع الاشكال وتطبيق التعليل على المورد بلا تكلف. وقبل بيان ذلك ينبغي الإشارة إلى كيفية شرطية الطهارة واعتبار عدم وقوع الصلاة مع النجاسة الخبثية.

فنقول : إنه قد استفاضت الروايات على فساد الصلاة مع نجاسة الثوب أو البدن إذا علم بالنجاسة قبل الصلاة ولو مع نسيانها حين الدخول في الصلاة ، فتجب الإعادة والقضاء بعد التذكر ، بخلاف ما إذا لم يعلم بالنجاسة قبل الصلاة ، فإنه لا تجب الإعادة والقضاء ولو انكشف وقوع الصلاة مع نجاسة البدن أو الثوب ، وقد عمل الأصحاب بمضمون الروايات وتطابقت عليه

ص: 342

الكلمات إلا ما شذ.

فمن ذلك يظهر : أن الطهارة الواقعية ليست شرطا للصلاة ولا النجاسة الواقعية مانعة عنها ، بل للعلم بالنجاسة والطهارة دخل في الصحة والفساد ، وقد تقدم في مبحث القطع : أن أخذ العلم في موضوع حكم يتصور على وجهين : أحدهما - أخذ العلم في الموضوع بما أنه صفة قائمة في نفس العالم. ثانيهما - أخذه في الموضوع لما أنه طريق وكاشف عن الواقع. ونزيد في المقام وجها ثالثا ينبغي أن يجعل ذلك استدراكا لما فات منا في مبحث القطع ، وهو أخذه في الموضوع بما أنه منجز للأحكام ويوجب استحقاق العقوبة عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة.

فان هذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم ، فيمكن لحاظه وأخذه في الموضوع بكل واحد منها ، ويترتب على ذلك قيام الطرق والأصول المحرزة وغيرها مقامه ، فإنه على الوجه الأول لا يقوم شيء من الطرق والأصول مقامة ، وعلى الوجه الثاني تقوم الطرق وخصوص الأصول المحرزة مقامه ولا تقوم الأصول الغير المحرزة مقامه - كما تقدم تفصيل ذلك في مبحث القطع - وعلى الوجه الثالث تقوم الطرق ومطلق الأصول مقامه سواء كانت محرزة للواقع أو لم تكن (1) فكل أصل كان منجزا للواقع يقوم مقامه ولو كان مثل أصالة الحرمة

ص: 343


1- أقول : لو كان المراد من قيام المقام ترتيب الآثار المترتبة على العلم الموضوعي بهذا المعنى على الأصول الغير المحرزة ، فتصور ذلك لا يخلو عن خفاء ، مثلا لو قيل : يجب الحد على من شرب ما هو معلوم الخمرية من حيث منجزيته لآثار الخمر ، فإذا فرض إيجاب احتياط في مشكوك الخمرية من جهة سائر آثاره ، ففي وجوب الحد عليه إشكال ، لعدم إحراز الخمرية به ، غايته يدل على أنه لو كان خمرا كان منجزا. وهذا المقدار لا يكفي لترتيب وجوب الحد الثابت للخمر المنجز حرمته على الفرض ، إذ يقال : أين خمريته؟ وإن كان حرمته منجزة على فرض وجوده ، ولذا نقول : إن مثل هذه الأصول لا يقوم العلم الطريقي المحض أيضا ، وإنما يقوم مقامه بمعنى أن الواقع يتنجز بمثلها كتنجزه بالعلم ، لا أن ما يترتب على الواقع المقيد بوجود المنجز له يرتب على مثل هذه الأصول ، كما لا يخفى. نعم : يثمر هذا القيام في صورة كشف الواقع بعد شربه ، فإنه على فرض يحد حينئذ ، وعلى فرض عدم القيام يجعل موضوع الحد العلم بلحاظ محرزيته فلا يفيد في وجوب الحد ، كما لا يخفى.

المجعولة في باب الدماء والفروج والأموال ، بل ولو كان مثل أصالة الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن أخذ العلم في باب الطهارة والنجاسة الخبثية يتصور على وجوه :

أحدها : أن يكون العلم بالطهارة شرطا لصحة الصلاة.

ثانيها : أن يكون العلم بالنجاسة مانعا عنها.

وعلى التقدير الثاني فيمكن أن يكون قد اعتبر العلم من حيث كونه طريقا إلى النجاسة ، ويمكن أيضا أن يكون اعتباره من حيث كونه منجزا لاحكام النجاسة. وأما اعتباره من حيث الصفتية : فهو مما لا يحتمل في المقام ، بل قد تقدم في مبحث القطع : أن أخذ العلم على وجه الصفتية مجرد فرض لم نعثر على مورد له في الفقه ، فالذي يحتمل في أخذ العلم في باب الطهارة والنجاسة الخبثية موضوعا لصحة الصلاة وفسادها أحد وجوه ثلاثة :

الأول : أخذ العلم بالطهارة شرطا لصحة الصلاة.

الثاني (1) أخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه طريقا مانعا عن صحة

ص: 344


1- ومن الفروع المترتبة على الوجهين الأخيرين : هو أنه لو علم إجمالا بنجاسة أحد الثوبين ثم غفل المكلف عن ذلك وصلى في كل ثوب صلاتا ، وبعد الصلاتين تبين نجاسة كل من الثوبين لا خصوص أحدهما ، فبناء على أخذ العلم بالنجاسة مانعا من حيث كونه منجزا لأحكامها تجب إعادة كل من الصلاتين ، لان العلم الاجمالي بنجاسة أحد الثوبين الذي كان حاصلا قبل الصلاة أوجب تنجز أحكام النجاسة في كل من الثوبين ، فيجب إعادة كل من الصلاتين لتحقق موضوع وجوب الإعادة في كل منهما. وأما بناء على أخذ العلم بالنجاسة مانعا من حيث كونه طريقا فلا تجب إعادة كل من الصلاتين ، لان العلم الاجمالي إنما كان طريقا إلى نجاسة أحد الثوبين ، فلم يتحقق موضوع وجوب الإعادة إلا بالنسبة إلى إحدى الصلاتين ، فيقع الاشكال حينئذ في تعيين ما تجب إعادتها ، لان العلم بالنجاسة لم يتعلق بواحد معين ، فلا وجه لوجوب إعادة أحدهما المعين ، والتخيير في إعادة إحدى الصلاتين لا يخلو عن إشكال : فالمسألة لا تخلو عن غموض وتحتاج إلى مزيد تأمل ، فتأمل ( منه ).

الصلاة.

الثالث : أخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه منجزا لأحكامها مانعا عنها. وعلى التقادير الثلاثة يصح التعليل الوارد في الرواية وينطبق على المورد.

أما على الوجه الأول : وهو كون العلم بالطهارة شرطا لصحة الصلاة ، فالتعليل بالاستصحاب إنما هو لبيان أن المكلف كان واجدا للشرط لأنه محرز للطهارة بمقتضى الاستصحاب فلا تجب عليه إعادة الصلاة (1) فيستفاد من التعليل كبرى كلية ، وهي « أن كل من كان محرزا للطهارة لا تجب عليه الإعادة » نظير التعليل بالاسكار لحرمة شرب الخمر ، فيكون حاصل التعليل هو « انك أيها السائل لما كنت متيقن الطهارة قبل الدخول في الصلاة وشككت وكان حكمك الاستصحابي هو البناء على طهارتك فأنت محرز للطهارة فلا تجب عليك الإعادة » لان الشرط لصحة الصلاة حاصل وهو إحراز الطهارة ، فيكون الشرط هو الأعم من الطهارة المستصحبة والطهارة الواقعية.

ص: 345


1- أقول : بعدما لا يكفي مجرد الاستصحاب لعدم وجوب الإعادة حيث إنه من الاحكام الطريقية بحسب الانغراس في الأذهان وأن مثل هذه الأحكام أيضا لا يقتضي الاجزاء ، فلا محيص من أن يكون المنشأ أحد الأمرين : إما موضوعية الاستصحاب في صحة الفعل ، أو إفادة الامر الطريقي للاجزاء ، وكلاهما خلاف ما هو المغروس في الأذهان ، حتى ذهن زرارة أيضا ، وحينئذ الاكتفاء بالتعليل في عدم الإعادة بصرف الاستصحاب المغروس في ذهنه وعدم التنبيه على خلاف ما هو المرتكز في ذهنه من الموضوعية أو الاجزاء للامر الطريقي كاشف عن أن تمام العلة هو الاستصحاب لا الغير ، وذلك لا يكون إلا على تقدير احتمال نجاسة جديدة أيضا كالفرع الثاني ، فتكون الرواية حينئذ بقرينته متكفلا لبيان الحكم الظاهري بلا نظر منه إلى صحة العمل واقعا ، فلا ينافي حينئذ مع بقية الروايات في الباب المتكفلة لاثبات الاجزاء وعدم الإعادة ، وحينئذ فما أفيد في المقام بطوله لا يغني من جوع!.

نعم : حسن التعليل بالاستصحاب بناء على شرطية إحراز الطهارة يتوقف على أن يكون التعليل لبيان كبرى كلية وهي : عدم وجوب الإعادة على كل من كان محرزا للطهارة ، وهذا لا يختص بالمقام بل يطرد في جميع موارد منصوص العلة ، فان تعليل حرمة شرب الخمر بالاسكار لا يحسن إلا بعد أن تكون العلة وردت لإفادة كبرى كلية ، وهي : حرمة كل مسكر ، وذلك واضح.

وأما على الوجه الثاني : وهو كون العلم بالنجاسة مانعا عن صحة الصلاة ، فيستقيم التعليل أيضا ، سواء كان اعتبار العلم لكونه منجزا أو لكونه طريقا ، وسواء كانت العلة المجموع المركب من المورد والاستصحاب وهو قوله علیه السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » أو كانت العلة خصوص الاستصحاب وإنما ذكر المورد توطئة لذكر العلة ، فان التعليل بذلك إنما يكون لإفادة أن النجاسة في مفروض السؤال ليس لها منجز ، لعدم العلم بها تفصيلا أو إجمالا ، والشك فيها ملغى بحكم الاستصحاب (1) فلا موجب لإعادة الصلاة ، لأنه لم يتحقق ما اخذ موضوعا لوجوب الإعادة ، فإنه لم يحصل ما يوجب تنجيز أحكام النجاسة ، والمفروض : أن الموضوع لوجوب الإعادة هي النجاسة المنجزة بوجه.

فالتعرض لذكر المورد في الرواية إنما هو لبيان عدم حصول العلم بالنجاسة ليتحقق الطريق أو المنجز لها ، والتعرض لذكر الاستصحاب لبيان أن الشك في النجاسة ملغى بحكم الشارع.

ص: 346


1- أقول : بناء على مانعية العلم بالنجاسة فكل واحد من وجهيه لا يبقى مجال لتعليل عدم الإعادة بالاستصحاب ، لأنه حينئذ مسبوق بعلة أخرى : من عدم العلم بالنجاسة أو منجزيته ، فالتعليل بالاستصحاب حينئذ مستدرك ، فلا يصح التعليل مع الغمض عما ذكرنا إلا بناء على شرطية العلم بالطهارة بأحد وجهيه ، مع أنه على هذا لا أثر للطهارة ، فأين صحة التعبد بوجودها؟ كما هو ظاهر واضح.

وحاصل الكلام : هو أنه يصح التعليل الوارد في الرواية ، سواء قلنا : بأن الشرط لعدم وجوب الإعادة هو عدم العلم بالنجاسة ، أو قلنا : بأن الشرط هو إحراز الطهارة ، فعلى كلا التقديرين : لا إشكال في التعليل ، لان منشأ الاشكال إنما كان هو التعليل بالاستصحاب لعدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الخلاف وظهور وقوع الصلاة مع نجاسة الثوب ، فيتخيل أن ذلك يوجب أن يكون المورد من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك.

ولكن بعد البناء على أن المانع من صحة الصلاة هو العلم بالنجاسة إما من حيث كونه طريقا إليها وإما حيث كونه منجزا لأحكامها أو أن الشرط لصحة الصلاة هو إحراز الطهارة ، يندفع الاشكال ، ويكون التعليل بذلك في محله ، بل لا يصح التعليل بغير ذلك ، فان مرجع التعليل بالمجموع من المورد والاستصحاب مع كون العلم بالنجاسة مانعا إلى أن نجاسة الثوب لم يكن لها منجز ، فالصلاة تكون صحيحة واقعا ولا تجب الإعادة ، لان وجوب الإعادة ينافي عدم جواز نقض اليقين بالشك.

وكذا لو كان الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة المحرزة ، فان التعليل بذلك يرجع إلى كون المكلف في مفروض السؤال محرزا للطهارة بمقتضى الاستصحاب ، فلا تجب عليه الإعادة ، ويستفاد من التعليل كبرى كلية ، وهي : عدم وجوب الإعادة على كل من كان محرزا للطهارة.

نعم : بناء على كون الشرط هو إحراز الطهارة ربما يقع التعارض بين ذلك وبين ما دل على كفاية عدم العلم بالنجاسة في عدم وجوب الإعادة - كما استفاضت به الروايات - فان لازم ذلك هو عدم الحاجة إلى إحراز الطهارة ، بل يكفي عدم العلم بالنجاسة ، سواء كان العلم بالنجاسة مانعا من حيث الطريقية أو من حيث المنجزية ، وعلى كل تقدير : لا يصح تعليل عدم وجوب الإعادة بكون المكلف محرزا للطهارة ، إلا أن يكون التعليل بذلك من جهة أنه من

ص: 347

مصاديق عدم العلم بالنجاسة.

وبالجملة : لازم كفاية عدم العلم بالنجاسة هو صحة صلاة الغافل ، كما ورد في الخبر : من صحة صلاة من كان على ثوبه عذرة إنسان أو سنور أو كلب وهو لا يعلم (1) ولازم شرطية إحراز الطهارة هو عدم صحة صلاة الغافل ، إلا أن يقال : إن إحراز الطهارة شرط عند الالتفات إلى الطهارة والنجاسة - كما هو مفروض السؤال في الرواية - وأما مع عدم الالتفات فيكفي عدم العلم بالنجاسة ، وهذا إنما يستقيم بعد تعميم الطهارة إلى الطهارة الواقعية التي تؤدي إليها الاستصحاب والطهارة الظاهرية التي تؤدي إليها قاعدة الطهارة.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا حاجة إلى هذه التكلفات ، بل يبنى على كفاية عدم العلم بالنجاسة وكون العلم بها مانعا عن صحة الصلاة من حيث كونه منجزا لاحكام النجاسة ، ويصح التعليل الوارد في الرواية على هذا المبنى بلا تكلف ، وأخذ العلم من حيث التنجيز موضوعا لحكم مما لا محذور فيه ، بل يمكن أن تكون نفس الرواية دليلا على ذلك بعدما كان ظاهرها التعليل بالمجموع من المورد والاستصحاب ، فان التعليل بالمجموع لا يستقيم إلا على أخذ العلم موضوعا من حيث كونه منجزا لاحكام النجاسة.

نعم : ربما ينافي ذلك ما ورد في بعض الروايات عن ميسر قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ قال علیه السلام أعد صلاتك ، أما إنك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء » (2) وجه المنافاة : هو أنه لو كان الموضوع لوجوب الإعادة هو العلم بالنجاسة من حيث كونه منجزا لأحكامها لكان الحكم في مفروض السؤال هو الصحة وعدم وجوب الإعادة ، إذ لا تكون

ص: 348


1- الوسائل الباب 40 من أبواب النجاسات الحديث 5.
2- الوسائل الباب 18 من أبواب النجاسات الحديث 1.

النجاسة الموجودة في الثوب منجزة بعد غسل الجارية ، إما لأصالة الصحة في فعلها ، وإما لاعتبار قول ذي اليد ، والعلم السابق على غسل الجارية لا أثر له بعد قيام الحجة على طهارة الثوب ، مع أنه لو كان المقتضي لوجوب الإعادة هو العلم بالنجاسة السابق على الغسل لكان ينبغي إطلاق القول بوجوب الإعادة ولو كان المكلف بنفسه مباشرا للغسل ، ولم يكن وجه للتفصيل بين مباشرة الجارية للغسل وبين مباشرة نفسه.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك أن هذه الرواية تنافي أخذ العلم موضوعا لوجوب الإعادة مطلقا ولو كان العلم مأخوذا على وجه الطريقية ، لسقوط طريقية إخبار الجارية بالتطهير ، مع أن أخذ العلم موضوعا لا يخلو عن أخذ الوجهين ، إما لكونه منجزا ، وإما لكونه طريقا. بل هذه الرواية تنافي حتى لو قلنا بأن إحراز الطهارة شرط ، لاحراز الطهارة بإخبار الجارية ، فعلى جميع التقادير يحصل المنافاة.

مع أنه يمكن أن يقال : إن العلم السابق على تطهير الجارية كان موجبا لتنجز أحكام النجاسة ، وغاية ما يقتضيه إخبار الجارية بالتطهير هو جواز الدخول في الصلاة لقيام الحجة على الخلاف ، فان إخبار الجارية لا يقتضي أزيد من المعذورية ، وأما وجوب الإعادة : فيكفي فيه العلم بالنجاسة وتنجز أحكامها قبل الصلاة ، فالموضوع لوجوب الإعادة قد تحقق ، وأصالة الصحة في تطهير الجارية لا توجب رفع الموضوع ، لعدم العلم بزوال النجاسة. وهذا بخلاف ما لو كان المكلف هو المباشر للتطهير ، فإنه بمباشرته يعلم بزوال النجاسة فيرتفع وجوب الإعادة ، فتأمل (1).

ص: 349


1- 1 - وقد يختلج في البال : أن الوجه في حكم الامام علیه السلام بالإعادة عند إخبار الجارية بالتطهير وعدم الإعادة عند مباشرة المكلف للتطهير ، هو أن الجارية لم تبالغ في التطهير - كما هو المفروض في الرواية - والمكلف كان ملتفتا إلى عدم مبالغة الجارية في التطهير فلم يحصل للمكلف ما يجوز له الدخول في الصلاة ، ولا تجري أصالة الصحة في تطهير الجارية مع التفات المكلف إلى تقصيرها في الغسل ، فلم يحصل ما يوجب رفع أثر العلم بنجاسة الثوب. وهذا بخلاف ما إذا كان المكلف هو المباشر للتطهير ، فإنه بمباشرته لا يرفع اليد عن التطهير إلا بعد أن يحصل له العلم بزوال النجاسة فيرتفع أثر العلم بالنجاسة. والانصاف : أن الرواية لو لم تكن ظاهرة في هذا المعنى فلا أقل من احتمال ذلك ، فلا تصلح الرواية للمعارضة ، فتأمل ( منه ).

هذا ، مع أن منافاة هذه الرواية لكون المأخوذ في موضوع وجوب الإعادة هو العلم من حيث التنجيز لا يضر بصحة التعليل ، غايته أن تكون هذه الرواية معارضة لما يستفاد من التعليل : من كون العلم بالنجاسة من حيث التنجيز اخذ موضوعا لوجوب الإعادة.

وعلى كل حال : فلا إشكال في حسن التعليل وانطباقه على المورد بعدما كان العلم بالنجاسة من حيث التنجيز موضوعا لوجوب الإعادة.

فقد ظهر مما ذكرنا : أن حسن التعليل في الرواية لا يتوقف على اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليكون ما تضمنته الرواية من التعليل دليلا على اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء - كما قيل به - لكي يتوجه عليه إشكال الشيخ قدس سره وغيره : من أن الظاهر من الرواية هو أن تكون العلة لعدم وجوب الإعادة كون الإعادة من نقض اليقين بالشك ، ولو كان التعليل بلحاظ اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء لكان الأنسب بل المتعين هو التعليل بذلك لا بعدم نقض اليقين بالشك.

وإن كان الانصاف : أن هذا الاشكال لا يتوجه لا على ذلك ، فإنه بعد البناء على أن العلة هي قوله علیه السلام « ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » لا المجموع المركب من ذلك ومن المورد - كما استظهرناه - لابد في حسن التعليل وانطباقه على مفروض السؤال من ضم كبرى أخرى إليه ، وإلا فالتعليل بنفسه لا ينطبق على المورد ، لان الإعادة بعد انكشاف الخلاف ليست من نقض اليقين بالك ، فلابد وأن يكون التعليل بذلك لبيان خصوصية

ص: 350

اخرى - ولو بدلالة الاقتضاء - لتكون العلة بضم تلك الخصوصية منطبقة على المورد ، وتلك الخصوصية التي تستفاد من التعليل يمكن أن تكون هي شرطية إحراز الطهارة ويترتب عليها عدم الإعادة - كما تقدم تحريره - ويمكن أيضا أن تكون تلك الخصوصية هي اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ويترتب عليه أيضا عدم وجوب الإعادة.

والحاصل : أن صحة التعليل في مفروض السؤال يتوقف لا محالة على ضم كبرى أخرى إليه تكون العلة في الحقيقة هي تلك الكبرى ، على وجه يندرج المورد فيها ويكون من صغرياتها ، فالتعليل بالاستصحاب بعد انكشاف الخلاف لا يخلو : إما لأجل كون الشرط هو إحراز الطهارة ، وإما لأجل اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فيكون التعليل بالاستصحاب تعليلا بما هو المحقق للعلة ، وهي إحراز الطهارة أو اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فالتعليل بالاستصحاب لا يضر بدلالة الرواية على اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، بل لو انحصر حسن التعليل الوارد في الرواية على ضم خصوصية اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء لكان لا محيص عن الالتزام به ، إلا أنه قد عرفت : أن حسن التعليل وانطباقه على المورد لا ينحصر وجهه في ذلك ، بل له وجه آخر ، وهو كون الشرط إحراز الطهارة ، فلا موجب لتعين ضم خصوص اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء حتى تكون الرواية دليلا على ذلك.

ودعوى : أن الاجزاء وعدم الإعادة إنما هو من اللوازم الشرعية للطهارة السابقة المستصحبة حال الصلاة فلا يتوقف حسن التعليل على ضم كبرى اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء بل لازم الطهارة المستصحبة هو جواز الدخول في الصلاة وعدم الإعادة بعدها ، ضعيفة ، فان الاجزاء ليس من المجعولات الشرعية ، بل هو من اللوازم العقلية لفعل متعلق الامر على أقسامه : من الامر الواقعي الأولي ، والواقعي الاضطراري ، والامر الظاهري ، غايته أن الاجزاء في

ص: 351

القسمين الأولين من اللوازم العقلية لنفس المجعول ، بداهة أنه من لوازم الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري أو الاضطراري هو سقوط الامر قهرا ، وأما الاجزاء في الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري فإنما هو من لوازم نفس الجعل الظاهري عقلا ، فان دلالة الاقتضاء تقتضي اكتفاء الشارع بالصلاة مع استصحاب الطهارة ما لم ينكشف الخلاف ، وإلا كان جعل الاستصحاب لغوا ، فالعقل يستقل بأن من لوازم جعل الشارع حجية الاستصحاب هو القناعة بالطهارة المستصحبة ، ولكن حكم العقل بالاجزاء في ذلك يدور مدار بقاء الجعل الشرعي ، فما دام الاستصحاب جاريا يكون الحكم العقلي بالاجزاء محفوظا ، فإذا انكشف الخلاف وتبين مخالفة الاستصحاب للواقع - كما هو مورد الرواية - فلا يمكن بقاء حكم العقل بالاجزاء ، لما عرفت : من أن الحكم العقلي بالاجزاء تابع لبقاء الجعل الشرعي ، فالطهارة المستصحبة بنفسها لا تقتضي الاجزاء بعد انكشاف الخلاف حتى يقال : إن عدم وجوب الإعادة في مورد الرواية مما يقتضيه استصحاب الطهارة ولا يحتاج إلى ضم كبرى اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، بل تطبيق التعليل على المورد لا يمكن إلا بعد أن يستفاد من التعليل - بدلالة الاقتضاء - كبرى أخرى : إما كون الشرط إحراز الطهارة ، وإما اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فبناء على كون العلة في الرواية نفس قوله علیه السلام « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » لابد من ضم أحد الأمرين ليستقيم التعليل ، ولا معين لأحدهما بالخصوص ، فالرواية تكون من هذه الجهة مجملة.

هذا ، ولكن قد عرفت : أن هذه الأبحاث كلها إتعاب للنفس بلا ملزم ، فان التعليل يستقيم وينطبق على المورد بأخذ العلم بالنجاسة من حيث التنجيز موضوعا لوجوب الإعادة ، بل يتعين هذا الوجه ، لان الظاهر من الرواية هو كون العلة المجموع المركب من المورد والاستصحاب ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

ص: 352

ثم إن الرواية قد تضمنت لحكم جملة من صور وقوع الصلاة مع النجاسة :

أحدها : ما إذا علم المكلف بالنجاسة وموضعها تفضيلا ، فنسي وصلى.

ثانيها : ما إذا علم بالنجاسة وشك في موضعها. وفي هاتين الصورتين تجب إعادة الصلاة.

ثالثها : ما إذا لم يعلم بالنجاسة بل ظن بها. وفي هذه الصورة لا تجب الإعادة.

رابعها : ما إذا رأى المكلف النجاسة في أثناء الصلاة ، فتارة : يكون المكلف عالما بالنجاسة قبل الصلاة وشك في موضعها ثم رآها في الأثناء وأخرى : لم يعلم بها قبل الصلاة بل علم بها في الأثناء. وعلى الثاني : فتارة : يحتمل حدوث النجاسة في الأثناء حين العلم بها ، وأخرى : لا يحتمل ذلك بل يعلم حين العلم بها أنها كانت قبل الصلاة. فعلى الأول : يجب نقض الصلاة وإعادتها. وعلى الثاني : لا يجب عليه نقض الصلاة ، بل يزيل النجاسة في الأثناء ويبني على الصلاة بلا استيناف. وعلى الثالث : يجب نقض الصلاة أيضا واستينافها بعد إزالة النجاسة. وهذا الفرض وإن لم يكن مذكورا في الرواية صريحا ، إلا أنه يستفاد منها ذلك ، لان ما حكم فيها بعدم نقض الصلاة هو ما إذا احتمل حدوث النجاسة في الأثناء ، كما يدل عليه قوله علیه السلام « لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك الخ » فيستفاد منه أنه لو لم يحتمل وقوعها في الأثناء يجب قطع الصلاة واستينافها بعد إزالة النجاسة.

وبمضمون هذه الرواية قد أفتى الأصحاب ، وفي الباب أخبار أخر معارضة لها في بعض الصور ، وللجمع بينها محل آخر.

تذييل :

قد اختلفت كلمات الأصحاب في وجه الجمع بين ما دل على عدم

ص: 353

وجوب إعادة الصلاة عند انكشاف وقوعها في نجاسة الثوب أو البدن وبين ما دل على اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن الظاهر في الطهارة الواقعية ، والمسألة وإن كانت فقهية ، إلا أنه حيث تعرض لها شيخنا الأستاذ - مد ظله - في هذا المقام ، فلابد من أن نقتفي إثره ، لان كتابنا مبني على ذلك. وينبغي أن يكون البحث في هذا المقام كليا ، لأنه لا خصوصية لباب الطهارة والنجاسة في ذلك ، بل يطرد الاشكال في كل مورد قام الدليل على عدم وجود الإعادة عند تخلف بعض أجزاء المأمور به أو شرائطه ، كالصلاة فيما لا يؤكل ، حيث قام الدليل على عدم وجوب الإعادة عند الجهل بكون اللباس متخذا من غير المأكول ، وللقول في الجمع بين الأدلة في هذه الموارد مشارب.

الأول : هو أن يكون العلم بموضوع الشرط له دخل في الاشتراط واقعا ، فالشرطية الواقعية تدور مدار العلم بالموضوع ، فلو لم يعلم بنجاسة الثوب أو البدن أو لم يعلم بكون اللباس من غير المأكول ، لا تكون النجاسة وغير المأكول مانعا عن صحة الصلاة واقعا ولا الطهارة والمأكولية شرطا للصحة.

الثاني : هو أن يكون الشرط في مثل هذه الموارد هو الوجود العلمي أو الأعم منه ومن الوجود الواقعي ، فلا فرق بين الطهارة الواقعية والطهارة المحرزة ولو بالاستصحاب أو قاعدة الطهارة ، وكذا لا فرق بين كون اللباس متخذا من المأكول واقعا وبين إحراز كونه من المأكول ولو بأصل عملي ، والفرق بين هذا الوجه وسابقه هو أنه على هذا الوجه لابد من إحراز الطهارة بوجه ولا يكفي الشك فيها من دون أن يكون له مزيل ، بخلاف الوجه الأول فإنه يكفي فيه عدم العلم بالنجاسة ولا يحتاج إلى إحراز الطهارة. وربما تظهر الثمرة بين الوجهين فيما إذا صلى المكلف في بعض أطراف العلم الاجمالي غفلة ، فبناء على كفاية عدم العلم بالنجاسة ينبغي أن يقال بصحة الصلاة ، لأنه حين الصلاة لم يعلم بنجاسة ذلك البعض والعلم السابق لم يتعلق به بخصوصه فلم يحصل المانع ،

ص: 354

وبناء على لزوم إحراز الطهارة بوجه لابد من القول ببطلان الصلاة ، لعدم إحراز الطهارة حين الصلاة ، فتأمل.

الثالث : أو أن يكون الاجزاء وعدم وجوب الإعادة في هذه الموارد لأجل القناعة عن المأمور به بما يقع امتثالا له (1) فيكون الفعل المأتي به بعنوان امتثال الواقع بدلا عن الواقع المأمور به ومما يقوم به الغرض من الامر الواقعي في هذا الحال. وهذا الوجه أمتن الوجوه وأسلمها عن الاشكال ، فان الوجهين الأولين مما لا يمكن الالتزام بهما ولا ينطبقان على فتاوى الأصحاب.

أما الوجه الأول : فالظاهر تسالم الفقهاء على أنه لابد من إحراز الطهارة بوجه ، ولا يجوز الدخول في الصلاة مع الشك في الطهارة من دون أن يكون له مزيل ، ولذا تمسك بعض من قال بالصحة في المثال السابق - وهو الصلاة في بعض أطراف العلم الاجمالي غفلة - بقاعدة الفراغ.

وأما الوجه الثاني : فلمنافاته لظواهر الأدلة ، فان الأخبار الواردة في المقام منها : ما ظاهرها اعتبار الطهارة الواقعية ، ومنها : ما ظاهرها اعتبار عدم العلم بالنجاسة ، كالرواية المتقدمة ، فالقول بأن الشرط إحراز الطهارة خال عن الدليل.

ص: 355


1- أقول: بعد فرض دخل الأمر الظاهري في المصلحة المزبورة، فما أفيد من الاحتمال الثالث إنّما يتمّ على أحد الوجهين: إمّا الالتزام بكون المأتيّ مفوّتا للواقع بمناط المضادّة، أو الالتزام بإمكان قيام غرض واحد سنخا بشيئين متباينين، و التالي لا مجال عقلا، و الأوّل ينافي جهة البدليّة الظاهرة في كونه وافيا بالغرض الواقعي سنخا، و حينئذ فلا محيص من الالتزام بكون المأتي به وافيا بما يفي به الطهارة الواقعيّة و لازمه كون الوافي به الجامع بينهما لا خصوص كلّ واحد، فمرجعه إلى شرطيّة الأعمّ من الطهارة الواقعيّة و الإحرازيّة، و هو عين الوجه الثاني: و لا يبقى لوجه آخر مجال، كما لا يخفى. و مجرّد طوليّة فردي الجامع لا ينافي مع كون الجامع وافيا بغرضه، غاية الأمر الجامع المزبور في كلّ مرتبة يكون منحصرا لفرد، و مجرّد ذلك أيضا لا يقتضي أن يكون الطلب المتعلّق تامّا نفسيّا، إذ الناقص بالذات بواسطة انحصاره لا يصير تامّا. نعم: لا يصح توجيه الأمر التخييري نحوه، لأنّه من تبعات عرضيّة الفردين، كما لا يخفى، فتدبّر.

وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فان فيه جمعا بين الأدلة وينطبق على ظواهرها بلا تكلف ، فان لازم هذا الوجه هو أن يكون الشرط بحسب الجعل الأولي نفس الطهارة الواقعية - كما هو ظاهر أدلة الشرائط - وأنه لابد من إحراز الطهارة بوجه حال الاشتغال بالعمل عند الالتفات إليها ، فإنه مع عدم إحراز الطهارة لا يمكن الاتيان بالعمل امتثالا للامر الواقعي ، فيوافق ما عليه فتوى الأصحاب : من اعتبار إحراز الطهارة بوجه ، ولا يكفي الشك فيها من دون أن يكون له مزيل شرعي ، وينطبق أيضا على ظاهر الاخبار : من عدم وجوب الإعادة عند عدم العلم بالنجاسة ، فان عدم العلم بالنجاسة لا يخلو : إما لكون المكلف غافلا عن نجاسة ثوبه أو بدنه وإما لكونه شاكا في ذلك ، وعلى كلا التقديرين : يمكن للمكلف الاتيان بالعمل امتثالا للامر الواقعي ، أما في صورة الغفلة فواضح ، وأما في صورة الشك فلجريان استصحاب الطهارة وقاعدتها ، فيكون المكلف محرزا للطهارة. ولا ينافي ذلك وجوب الإعادة عند نسيان النجاسة بعد العلم بها ، فان القناعة عن الواقع بما يقع امتثالا له يختص بحكم الشارع بما إذا لم يسبق العلم بالنجاسة.

وبالجملة : الانصاف أن في الوجه الثالث جمعا بين جميع الأدلة وفتاوى الأصحاب ، فهو الذي ينبغي البناء عليه. وحاصله : هو أن الاجزاء في موارد تخلف بعض الاجزاء والشروط إنما هو لأجل قناعة الشارع بما يقع امتثالا عن الواقع ، لكون العمل في هذا الحال مشتملا على الغرض من الامر.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أن العمل المأتي به في حال الجهل إن كان واجدا للمصلحة فلابد وأن يتعلق به الطلب والامر في عرض الواقع ويكون المكلف به في الواقع أحد الأمرين ولو في صورة الجهل ولا وجه لان يكون المكلف به الواقعي هو خصوص الواجد للشرط بعدما كان الفاقد له مشتملا على المصلحة ، غايته أنه يكون من قبيل التخيير بين الأقل والأكثر كالتخيير بين

ص: 356

القصر والاتمام في المواطن الأربعة. وإن لم يكن المأتي به واجدا للمصلحة فلا وجه لقناعة الشارع به.

توضيح الدفع : هو أن المأتي به في حال الجهل لابد وأن يكون واجدا للمصلحة ، لكشف دليل الاجزاء عن ذلك ، ولكن مصلحته إنما تكون في طول مصلحة الواقع ، لان المصلحة إنما تقوم به بشرط أن يكون الاتيان به على وجه الامتثال للواقع ، فلا يمكن الامر به تخييرا.

والحاصل : أن المأمور به الواقعي لا يمكن أن يكون واجدا للمصلحة في حال الاتيان بالعمل المجزي عنه ، فان قيام المصلحة به في هذا الحال يستلزم إطلاق الامر به ، ومعه لا يمكن أن يكون غيره مجزيا عنه ، فلابد وأن تكون المصلحة القائمة بالمأمور به الواقعي مقصورة بغير هذا الحال ، ويلزمه أن يكون الامر به مقيدا بغير هذا الحال ، لكن لا بالتقييد اللحاظي بل بنتيجة التقييد ، فان القيود اللاحقة للامر في مرحلة الامتثال لا يمكن فيها التقييد اللحاظي ، كقصد التقرب وكالعلم والجهل بالحكم لا الموضوع ، فان تقييد الامر بالعلم والجهل بالموضوع بمكان من الامكان ، فلا مانع من أخذ العلم بالنجاسة أو غير المأكول قيدا في الامر بالصلاة ، إلا أن ذلك يرجع إلى الوجه الأول ، وقد عرفت ضعفه.

وأما على الوجه الثالث : وهو القناعة بما يقع امتثالا عن الواقع ، فلا يمكن فيه التقييد اللحاظي ، فان رتبة هذا القيد متأخرة عن وجود الامر ، فهو من الانقسامات اللاحقة للامر بعد وجوده ، وفي هذا الطائفة من القيود لابد من نتيجة التقييد ، ونعني بنتيجة التقييد اختصاص الملاك والمصلحة الواقعية بتقدير دون تقدير - كما في المقام - حيث إن مصلحة الامر الواقعي مقصورة بغير صوره الاتيان بالعمل المجزي عن الواقع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الموارد التي قام الدليل فيها على الاجزاء وسقوط الإعادة والقضاء - كموارد تبدل الاجتهاد أو التقليد حيث ادعي الاجماع

ص: 357

على الاجزاء في خصوص العبادات ، وكموارد الصلاة مع نجاسة البدن أو الثوب جهلا ، وكالصلاة في غير المأكول كذلك - كلها تكون من باب القناعة عن الواقع بما وقع امتثالا له ، وليس في شيء منها ما يكون مأمورا به في عرض الواقع ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

ومنها :

صحيحة ثالثة لزرارة أيضا ، وهي قوله علیه السلام « إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقص الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » (1) ومحل الاستدلال قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » الظاهر في حجية الاستصحاب.

وقد أورد على الاستدلال بها بما حاصله : أن المراد من الركعة في قوله علیه السلام « قام فأضاف إليها أخرى » إما الركعة الموصولة بالركعات الثلاث السابقة ، وإما الركعة المفصولة عنها بتكبير وسلام.

فعلى الأول : ينطبق قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » على الاستصحاب ، فيكون المعنى : أن اليقين بعدم فعل الركعة الرابعة لا ينقض بالشك في فعلها ، بل يبني على عدمها ويأتي بها متصلة بالركعات السابقة. ولكن هذا المعنى ينافي ما عليه إجماع الإمامية : من عدم جواز الاتيان بركعة الاحتياط متصلة ببقية الركعات. فلابد وأن يكون المراد من « الركعة » الركعة المنفصلة بتكبير وسلام ، فيكون المراد من « اليقين » في قوله علیه السلام

ص: 358


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 3.

« ولا ينقض اليقين بالشك » هو اليقين بتحصيل البراءة من البناء على الأكثر والآتيان بركعة الاحتياط مفصولة ، وقد جرى اصطلاح الأئمة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - على تسمية الوظيفة المقررة في الشك في عدد الركعات من البناء على الأكثر والآتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بالبناء على اليقين ، فإنه قد ورد التعبير بذلك في عدة من الاخبار ، كقوله علیه السلام « إذا شككت فابن على اليقين » (1) فان المراد من البناء على اليقين هو البناء على الأكثر والآتيان بركعات الاحتياط مفصولة ، وعلى هذا لا تنطبق الرواية على الاستصحاب ولا يصح الاستدلال بها (2) بل لو سلم ظهور الرواية في كون المراد

ص: 359


1- الوسائل الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 2.
2- أقول : لا يخفى أن تطبيق الاستصحاب في الرواية على الركعة إنما يتم على مذهب العامة من جعلهم الاستصحاب من قبيل القياس والاستحسانات من الأمارات الظنية المثبت للوازمه ، وإلا فبناء على جعلها من الأصول التعبدية وأخذها من الاخبار الغير الصالحة لاثبات غير اللوازم الشرعية ، ففي تطبيق الاستصحاب على الركعة المشكوكة مجال إشكال ، نظرا إلى أن الركعة الرابعة إذا كان مرددا بين الركعتين فالعلم بعدمها لا يحصل إلا قبل الشروع بما في يده ، وهو الركعة المرددة بين كونه ثانية أو ثالثة ، ففي هذا الظرف يقطع إجمالا بعدم وجود الركعة الرابعة ، فإذا شرع في أحد طرفي المعلوم بالاجمال وهو الذي بيده فعلا المردد بين الثالثة والرابعة ، فيشك في تحقق الرابعة المعلومة إجمالا المردد بين كونه ما في يده الفعلي أو كونه عبارة عن غيره الذي عبارة عما أفاده بالقيام إليه ، كما هو الشأن في كل ما هو معلوم إجمالا ، وجودا أم عدما. وحينئذ نقول : إن المستصحب الذي تعلق به اليقين والشك هو عنوان الرابعة المرددة بين الشخصين ، فهذا المردد بما هو معلوم إجمالا لا أثر له ، وماله الأثر ليس إلا شخص المعين الواقعي الدائر أمره بين ما هو معلوم البقاء أو معلوم الارتفاع. وحينئذ فما هو متعلق اليقين والشك هو الرابعة المرددة بين الشخصين ، وهو بهذا العنوان لا أثر له ، إذ الأثر للشخص ، لا للجامع العرضي الذي عبارة عن مسمى الرابعة أو شخصه أو مصداقه وأمثالها ، وإنما الأثر لواقع ما هو رابعة من أحد الشخصين المعلوم ارتفاعه أو بقائه. و بهذا البيان نلتزم بعدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد نفيا و إثباتا، مضافا إلى عدم صلاحية الأصل في المقام- الّذي هو مفاد كان التامّة- لإثبات رابعيّة الموجود، كي يترتّب عليه جواز التشهّد و السلام فيه الّذي هو من آثار رابعيّة الموجود، فكان المقام نظير استصحاب وجود الكرّ الغير المثبت لكرية الموجود. و من هذا البيان ظهر: عدم تماميّة تطبيق الاستصحاب على ذات الركعة الرابعة و لو بنينا على تقيّد الاستصحاب بإثباته منفصلا، إذ ذات الركعة الرابعة بما هي رابعة متعلّق اليقين و الشّك، لا بما هو شي ء في حيال ذاته و لو لم يكن رابعة، و المفروض أنّه بهذا العنوان طرف الترديد، فيدخل في استصحاب الفرد المردّد بين كونه معلوم البقاء أو الارتفاع، بلا وجود جامع بينهما يكون هو موضوع الأثر كي يرجع إلى استصحاب الكلّي. فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ تطبيق الاستصحاب على الركعة المشكوكة دونه خرط القتاد! فما أفيد في المقام بطوله لا محصّل له. و الأولى أن يقال: إنّ مورد الاستصحاب في المقام هو الاشتغال بالصلاة على فرض الاكتفاء بالأقلّ و أنّ بقيّة الفقرات أيضا تأكيد لذلك و أنّ الغرض من هذا البيانات ردع السائل عما هو المغروس فيه ذهنه: من البناء على الأقلّ و إتيان الركعة متّصلا، خصوصا بعد قول الإمام عليه السلام «قام فأضاف إليها أخرى» الظاهر بنفسه إلى الركعة متّصلا، و أنّ همّ الإمام عليه السلام تنبيه على عدم مفرّغيّة هذه الركعة المتّصلة كعدم مفرّغيّة الاكتفاء بما في يده، لاحتمال التنقيص فيه و الزيادة في الأوّل، و عمدة غرضه من هذه التنبيه أيضا التشكيك على السائل، كي لا يأخذ بظاهر الفتوى و ينتظر بيان الواقع لمجلس آخر حذرا عن المخالفين في المجلس، و اللّه العالم.

من « الركعة » هي الركعة المتصلة - على طبق مفاد الاستصحاب - فلا يمكن الاخذ بظاهرها ، لان ذلك يخالف ما عليه المذهب ، فلابد إما من حمل « الركعة » على الركعة المفصولة وإما من الحمل على التقية ، والثاني مخالف للأصل ، فيتعين الأول.

إلا أن يقال : إن التقية إنما هي في تطبيق الاستصحاب على المورد ، فيحمل قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » على بيان الحكم الواقعي : من وجوب الاخذ بالمتيقن والعمل بالاستصحاب ، ولكن تطبيق العمل بالاستصحاب على المورد كان للتقية ، فالتقية إنما تكون في التطبيق لا في نفس الحكم الاستصحابي. ولكن هذا أيضا خلاف الظاهر ، فيتعين حمل « اليقين » في الرواية على اليقين بالبراءة والآتيان بالوظيفة المقررة في الشريعة للشك في عدد الركعات.

ص: 360

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه عدم صحة الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب. ثم ذكر تقريبا آخر للتمسك بالرواية ، ولعله ينطبق على ما سيأتي من المختار في تقريب الاستدلال. ثم قال بعد ذلك ما حاصله : أن الرواية لابد إما من حملها على التقية وهو مخالف للأصل ، وإما من حملها على الاخذ باليقين والاحتياط ، وهو وإن كان بعيدا إلا أنه لا محيص عنه.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلامه من النظر

أما أولا : فان المصطلح عليه في الاخبار هو التعبير عن الوظيفة المقررة للشك في عدد الركعات بالبناء على اليقين أو العمل على اليقين ، وأين هذا من قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك »؟ فإنه ليس في الوظيفة نقض لليقين بالشك ، بل العناية المصححة لاستعمال كلمة « النقض » تنحصر في باب الاستصحاب وفي باب الشك الساري ، فحمل قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » على البناء على الأكثر والعمل بالاحتياط في غاية البعد ، بل كاد أن لا يصح إطلاق « النقض » على ذلك.

وأما ثانيا : فلان حمل الرواية على التقية من حيث تطبيق المورد على الاستصحاب ليس بأبعد من حملها على الوظيفة في الشك في عدد الركعات ، بل حملها على التقية أقرب فإنه ليس فيه تصرف فيما يقتضيه ظاهر قوله علیه السلام « الا تنقض اليقين بالشك » بل التصرف إنما يكون في جهة التطبيق ، فان الامام علیه السلام استشهد لحكم المورد بالاستصحاب ، حيث كان مذهب العامة على الاتيان بالركعة المشكوكة متصلة ببقية الركعات عملا بالاستصحاب ، فالتقية إنما تكون في الاستشهاد لا في الاستصحاب ، وقد ورد نظير ذلك في بعض الروايات كقوله علیه السلام بعد سؤال اللعين عن الافطار في اليوم الذي شهد بعض بأنه يوم العيد : « ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه وإن أفطر

ص: 361

أفطرنا معه » (1) فان الامام علیه السلام إنما قال ذلك تقية مخافة ضرب عنقه كما بين علیه السلام ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين ، ومع هذا يكون قوله علیه السلام « ذلك إلى إمام المسلمين » لبيان حكم اللّه الواقعي. وقد استدل الفقهاء بقوله : « ذلك إلى إمام المسلمين الخ » على اعتبار حكم الحاكم في الهلال ، مع أن الامام علیه السلام قال ذلك تقية ، وليس ذلك إلا لأجل كون تطبيق القول على المورد للتقية لا ينافي صدور القول لبيان حكم اللّه الواقعي ، فلتكن الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل.

وهذا كله كان مماشاة منا للشيخ قدس سره وإلا فالذي يقتضيه التدبر في مدلول الرواية هو أن مفادها ليس إلا الاستصحاب بلا مؤنة الحمل على التقية حتى في تطبيق الاستصحاب على المورد.

بيان ذلك : هو أن الموجب لتوهم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب ليس إلا تخيل أن الاستصحاب في مورد الرواية يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، وذلك ينافي ما عليه المذهب. ولكن هذا اشتباه ، فان اتصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنما يقتضيه إطلاق الاستصحاب ، لا أن مدلول الاستصحاب ذلك ، بل مدلول الاستصحاب إنما هو البناء العملي على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، فان نقض اليقين بالشك إنما يلزم من البناء على الاتيان بالركعة المشكوكة ، فعدم نقضه بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب إنما يكون بالبناء على عدم الاتيان بها ، وأما الوظيفة بعد ذلك : من الاتيان بها موصولة ، فهو مما لا يقتضيه عدم نقض اليقين بالشك.

نعم : إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بها موصولة ، لان الحكم الأولي

ص: 362


1- الوسائل الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث 5. ولفظ الحديث « ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا ».

المجعول في الشريعة هو الاتيان بركعات الصلاة موصولة ، فغاية ما يلزم في الرواية هو تقييد قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » بفعل ركعة الاحتياط مفصولة عن سائر الركعات ، وقد أشار الامام علیه السلام في الرواية إلى هذا التقييد بقوله : « ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر » فان المراد من عدم إدخال الشك في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر هو عدم وصل الركعة المشكوكة بالركعات المتيقنة ، فان إدخال المشكوك في المتيقن وخلط أحدهما بالآخر إنما يكون بوصل المشكوك في المتيقن وعدم الفصل بينهما ، فالامام علیه السلام أراد أن يبين حكم المسألة لزرارة بنحو الكناية والإشارة حتى لا ينافي ذلك التقية منه ، فعبر - صلوات اللّه عليه - أولا بما يكون ظاهرا في الركعة الموصولة ليوافق مذهب العامة ، فقال : « ولا ينقض اليقين بالشك » الذي يقتضي إطلاقه الاتيان بالركعة الموصولة ، ثم عقبه - صلوت اللّه عليه - ببيان آخر يستفاد منه الركعة المفصولة على طبق مذهب الخاصة ، فقال : « ولا يدخل الشك في اليقين الخ » ولذا قنع زرارة بما أفاده الامام علیه السلام ولم يسئل عن كون الركعة موصولة أو مفصولة.

فظهر : أنه لا يلزم في الرواية أزيد من تقيد الاطلاق. بل يمكن أن يقال : إن هذا أيضا لا يلزم ، فإنه لا نسلم أن إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة.

وأما الوظيفة بعد ذلك ما هي؟ فهي تتبع الجعل الشرعي ، والمفروض : أن الوظيفة التي قررها الشارع للشاك في عدد الركعات هي الاتيان بالركعة المفصولة ، فان الحكم يتبدل في حق الشاك واقعا ويكون تكليفه الواقعي هو عدم وصل الركعة.

والحاصل : أن مقتضى الاستصحاب عند الشك في فعل بعض الركعات هو

ص: 363

الاتيان بالركعة المشكوكة (1) وأما تعيين كيفية الاتيان وأنها موصولة أو مفصولة فهو يدور مدار تعيين الشارع ، والذي عينه الشارع في باب الشك في عدد الركعات هو الاتيان بركعات الاحتياط مفصولة بتكبير وتسليم ، فتأمل.

فتحصل : أن منشأ توهم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب هو تخيل أن الشارع أسقط الاستصحاب في باب الشك في عدد الركعات ، وقد ظهر فساده.

فالأقوى : أن الرواية لا تقصر عن بقية الروايات في ظهورها في حجية الاستصحاب ، فتأمل جيدا.

ومنها :

رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين (2).

وقد أورد على الاستدلال بها بما حاصله : أن الظاهر من الرواية هو اختلاف زمان الشك واليقين وسبق زمان اليقين على زمان الشك بقرينة قوله علیه السلام « من كان فشك » الظاهر في انقضاء زمان اليقين وتراخي زمان الشك ، فالرواية تكون أظهر في الشك الساري ، ولا تنطبق على الاستصحاب ،

ص: 364


1- أقول : اليقين السابق إنما تعلق بعدم الاتيان بركعة متصلة ، ولابد وأن يكون الشك أيضا متعلقا بما تعلق به اليقين ، فالمشكوك أيضا هو الاتيان بركعة متصلة ، فقضية عدم نقض اليقين بالشك يقتضي الاتيان بالمشكوك بنحو يكون متيقنا ومشكوكا ، وهو لا يكون إلا باتيانه متصلا لا مطلقا ، وحينئذ إتيان ذات الركعة في ضمن خصوصية أخرى فرع تطبيق الاستصحاب على الذات لا بخصوصيته ، ومرجعه إلى رفع اليد عن تطبيق عموم « لا تنقض » على الخصوصية ، ولا نعني من تقييد الاستصحاب إلا هذا.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث 6.

لأنه لا يعتبر في الاستصحاب اختلاف زمان الشك واليقين وسبق أحدهما على الآخر ، بل الذي يعتبر فيه سبق زمان المتيقن على زمان الشك وإن قارن زمان اليقين لزمان الشك ، بل ولو تأخر زمان اليقين عن زمان الشك ، كما تقدم تفصيله.

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الضابط في « قاعدة اليقين » هو اختلاف زمان الشك واليقين مع وحدة متعلقهما ، بأن يتعلق الشك بوجود ما تعلق به اليقين في الزمان الذي تعلق به اليقين ، كما إذا علم بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك في يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة على وجه يسري الشك من يوم السبت إلى يوم الجمعة ، من غير فرق في ذلك بين أخذ زمان اليقين قيدا للعدالة أو أخذ الزمان ظرفا لها ، فإنه لا يعتبر في « قاعدة اليقين » لحاظ الزمان على وجه القيدية - كما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام - بل الذي يعتبر في القاعدة هو وحدة زمان متعلق الشك واليقين مع اختلاف زمان نفس الشك واليقين. وأما الاستصحاب : فيعتبر فيه اختلاف زمان متعلق الشك واليقين ، سواء اختلف زمان الشك واليقين أولم يختلف.

وبعبارة أخرى : متعلق الشك واليقين في القاعدة هو حدوث الشيء ، وفي الاستصحاب متعلق اليقين هو الحدوث ومتعلق الشك هو البقاء.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر : أن الرواية لا ظهور لها في القاعدة ، فإنه ليس في الرواية ما يستفاد منه وحدة زمان متعلق الشك واليقين ، وظهورها في سبق زمان اليقين على زمان الشك وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أن ذلك لمكان كون الغالب في موارد الاستصحاب هو سبق زمان اليقين ، بل يمكن أن يقال بظهور الرواية في خصوص الاستصحاب ، فان قوله علیه السلام « فليمض على يقينه » ظاهر في المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل ، وهذا لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، فان الذي يكون اليقين بالحدوث فيه محفوظا في زمان العمل هو الاستصحاب. وأما القاعدة : فاليقين فيها ينعدم ، ولذا

ص: 365

تسمى بالشك الساري.

ومنها :

مكاتبة علي بن محمد القاساني ، قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب علیه السلام اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (1).

وهذه الرواية قد جعلها الشيخ قدس سره أظهر الروايات في دلالتها على حجية الاستصحاب. ولكن يمكن المنع عن ظهورها فضلا عن كونها أظهر ، فان دلالتها على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من « اليقين » هو اليقين بأن اليوم الماضي كان من شعبان أو اليقين بعدم دخول رمضان ، إلا أنه يمكن أن يكون المراد منه اليقين بدخول رمضان ، فيكون المعنى : إن اليقين بدخول رمضان الذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك في دخوله ، ومعنى أنه لا يدخله الشك : هو أنه لا يجوز صوم يوم الشك من رمضان ، وقد تواترت الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ، وعلى هذا تكون الرواية أجنبية عن باب الاستصحاب ، فتأمل.

هذه جملة ما وقفنا عليه من الاخبار الوارد في الباب ، وفيها الكفاية.

دفع وهم :

ربما يتوهم : دلالة قوله علیه السلام كل شيء لك حلال وكل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه حرام أو قذر (2) على اعتبار الاستصحاب ، بل استدل

ص: 366


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 13.
2- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 4 المستدرك الباب 29 من أبواب النجاسات الحديث 4.

به جملة من الاعلام ، كصاحب الفصول والمحقق الخراساني ، بل يظهر ذلك من الشيخ قدس سره لكن في خصوص قوله علیه السلام « الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس » (1) مع ما بينهم من الاختلاف في مقدار دلالة هذه الأخبار.

فمنهم من قال بدلالتها على اعتبار قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما معا وهو المحكي عن صاحب الفصول رحمه اللّه . ومنهم من قال بدلالة الصدر على الحكم الواقعي والقاعدة معا ودلالة الغاية على حجية استصحاب الطهارة والحلية ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس سره .

والأقوى : أن أخبار أصالة الحل والطهارة لا دلالة لها على اعتبار الاستصحاب ، بل ليس مفادها إلا قاعدة الحل والطهارة ، ولا مساس لها بالطهارة والحلية الواقعية ، فضلا عن استصحابهما ، فضلا عن الجمع بين القاعدة والاستصحاب ، أو الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب.

وبالجملة : قوله علیه السلام كل شيء لك حلال أو طاهر حتى تعلم أنه حرام أو قذر ، إنما يتكفل من المحتملات السبعة خصوص قاعدة الطهارة والحلية ، ولا يتحمل مجموع الصدور الذيل معنى آخر.

بيان ذلك : هو أن المراد من « الشيء » في قوله علیه السلام « كل شيء الخ » أما أن يكون هو ذات الشيء المعروض للحكم الواقعي الأولي سواء كان من الافعال أو من الموضوعات الخارجية كالقيام والقعود والانسان والحيوان والنبات وغير ذلك من متعلقات التكاليف وموضوعاتها ، وإما أن يكون هو الشيء بوصف كونه مشكوك الحلية أو الطهارة.

فان كان المراد منه ذات الشيء بعنوانه الأولي ، فحمل قوله علیه السلام « حلال » أو « طاهر » عليه إنما هو لبيان حكمه الواقعي ، فيكون مفاده حينئذ : أن

ص: 367


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الماء المطلق الحديث 5 ، لفظ الحديث « .... حتى يعلم أنه قذر ».

كل موجود في العالم يكون محكوما بالحلية والطهارة واقعا ، غايته أنه يكون من العمومات المخصصة ، كقوله تعالى : « و أحلّ لكم ما في الأرض جميعا » (1).

وإن كان المراد منه الذات بوصف كونها مشكوكة الطهارة والحلية ، فحمل قوله علیه السلام « حلال » أو « طاهر » عليه إنما هو لبيان حكمه الظاهري ، ولا يمكن حينئذ أن يكون المراد من المحمول الحلية والطهارة الواقعية ، فان موضوعات الاحكام الواقعية إنما هي ذوات الأشياء المرسلة ، ولا يعقل تقييد موضوع الحكم الواقعي بكونه مشكوك الحكم ، فالشئ المقيد بكونه مشكوك الطهارة والحلية لا يمكن أن يحمل عليه إلا الطهارة والحلية الظاهرية ، كما أن الشيء المرسل الغير المقيد بذلك لا يمكن أن يحمل عليه إلا الطهارة والحلية الواقعية ، فان للشك دخلا في موضوع الحكم الظاهري مطلقا. فالموضوع في قوله علیه السلام « كل شيء لكل طاهر » أو « حلال » إما أن يكون هو الشيء المرسل ويلزمه أن يكون المحمول حكما واقعيا ، وإما أن يكون هو الشيء المشكوك حليته أو طهارته ويلزمه أن يكون المحمول حكما ظاهريا. ولا يمكن أن يكون المراد منه الأعم من المرسل والمشكوك ، كما لا يمكن أن يكون المراد من المحمول الأعم من الواقعي والظاهري ، فان الشيء المشكوك متأخر في الرتبة عن الشيء المرسل ، كما أن الحكم الظاهري متأخر في الرتبة عن الحكم الواقعي ، فكل من موضوع الحكم الظاهري وحكمه في طول موضوع الحكم الواقعي وحكمه ، ولا يمكن جمعهما في اللحاظ والاستعمال. وذلك كله واضح مما لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

وبعد ذلك نقول : إن ظاهر صدر الروايات مع قطع النظر عن الغاية يعطي أن يكون المحمول فيه حكما واقعيا (2) فيكون مساقه مساق الأدلة المتكفلة لبيان

ص: 368


1- لا توجد مثل هذه العبارة في القرآن المجيد.
2- 2 - أقول : الأولى أن يقال في وجه استفادة قاعدة واحدة من هذه الأخبار : هو أن ظاهر الغاية نظير ظاهر أداة الشرط يكون القيد في المقام راجعا إلى النسبة الحكمية ، لا الموضوع ولا المحمول ، فكان مثل هذه القيود مبينة لايقاع نسبة خاصة بين ذات الموضوع والمحمول ، ومثل هذه النسبة حيث إنه في ظرف الجهل كانت نسبة ظاهرية ، فقهرا يصير المحمول أيضا حكما ظاهريا ثابتا للذات المحفوظة في هذه المرتبة ، فيدل اللفظ على أن الطهارة ثابتة للذات بثبوت مستمر في ظرف الشك بالحكم إلى ظرف العلم بخلافه ، ولا يكاد حينئذ إلا استفادة القاعدة ، وإلا ففي الاستصحاب لابد وأن يكون ثبوت الحكم في مرتبة والاستمرار في مرتبة أخرى ، وهو خلاف ظهور الرواية في اتحاد رتبة ثبوت الحكم واستمراره حقيقة ، كما لا يخفى. ولئن اغمض عن ذلك ، فلا قصور في إرادة الجامع مع بين الذاتين في رتبتين موضوعا ومحمولا بنحو الدالين والمدلولين ثم إرادة استمرار هذا المحمول في الرتبة المتأخرة عناية الملازم مع الفراغ عن الثبوت في الرتبة السابقة ، فيستفاد حينئذ منها القواعد الثلاث من الخبر بلا محذور اجتماع اللحاظين في استعمال واحد ، كما أفاده شيخنا الأعظم ، فتدبر. و من التأمّل فيما ذكرنا ترى في بيان المقرّر مع تطويله مواقع النّظر: منها: خيال لزوم تقيّد الموضوع بعنوان المشكوكيّة في الحكم الظاهري. و هو كما ترى! لإمكان كون الشّك المزبور جهة تعليليّة غير موجبة لتقيّد الذات بالوصف المزبور. و منها: خيال أنّ لازم استفادة الاستصحاب جعل مفاد الغاية جملة مستقلّة و قطعها عمّا قبله. مع أنّه ليس كذلك، إذ يكفي فيه كون لسان استمرار الثابت في الرتبة المتأخّرة عن ثبوته و لو بالعناية. و بعبارة أخرى: للمتكلّم نظران: نظر إلى ثبوت الطهارة للذات في قوله: «طاهر» و نظر إلى استمراره إلى زمان العلم في قوله: «حتّى» مع كون نظره الثاني من تبعات النّظر الأوّل حسب تبعيّة استمرار الشي ء لثبوته، بلا كونه في مقام استعمال «حتّى» إلى استقلال مفاده عن سابقه كي يخرج عن الحرفيّة إلى الاسميّة، فتدبّر. و منها: قوله: عدم إمكان إرادة الأعمّ من الموضوع و المحمول من الحكم الواقعي و الظاهري. إذ ذلك إنّما يصحّ في فرض كون الرواية في مقام إنشاء الحكمين بهذا الكلام لموضوع واحد و محمول فارد، و أمّا لو كان الكلام بنحو الدالّين حاكيا عن إنشاءات متعدّدة فلا بأس فيه، مع أنّه لو كان منشأ بهذا لا بأس بأن ينشأ الفردين من الطبيعة لفردين من الذات بلحاظ الرتبتين بنحو الدالّين و المدلولين، و حينئذ فلا قصور في إطلاق الذات في الموضوع و المحمول للفردين بنحو الدالّين و المدلولين، فتدبّر.

الاحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية ، كقوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » ولكن الغاية المذكورة في الذيل توجب هدم ظهور الصدر في ذلك ، فان الحكم الواقعي لا يكون مغيى بالعلم بالخلاف ، بل غاية الحكم الواقعي إنما

ص: 369

هي انتهاء زمانه بحسب الجعل الشرعي كالغروب الذي اخذ غاية لوجوب الصوم والصلاة ، أو تبدل موضوعه وانقلابه عما كان عليه كغليان العصير الموجب لارتفاع الحلية.

وأما العلم بضد الحكم أو الموضوع فليس غاية للحكم الواقعي ، فقوله علیه السلام حتى تعلم أنه قذر أو حرام لا يصلح أن يجعل غاية للحكم الواقعي إلا بنحو من التكلف والتأويل بجعل العلم في الغاية كاشفا وطريقا إلى ما هو الغاية في الحقيقة وجعل القذارة والحرمة أيضا كناية عن انقلاب الموضوع ، فيكون المعنى : كل شيء لك طاهر أو حلال حتى يتنجس أو يصير حراما بالغليان ، فان انقلاب الطاهر والحلال الواقعي إلى النجاسة والحرمة إنما يكون بحدوث النجاسة فيه وانقلاب موضوعه إلى موضوع آخر بغليان العصير أو بصيرورة الخل خمرا أو نحو ذلك مما يطرء على الموضوع عنوان آخر يقتضي حرمته ، وهذا كما ترى تصرف في الروايات بلا موجب.

وهذا بخلاف ما إذا كانت الغاية غاية للحكم الظاهري ، فإنه يستقيم المعنى بلا تصرف فيها ، بداهة أن غاية الحكم الظاهري إنما هي انكشاف الخلاف وتبدل الشك علما ، فيكون مفاد الروايات هو : أن كل مشكوك الطهارة والنجاسة أو كل مشكوك الحلية والحرمة فهو محكوم بالطهارة والحلية ظاهرا إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالنجاسة والحرمة. وهذا المعني لا ينطبق إلا على قاعدة الطهارة والحل ، ولا مساس له بالحكم الواقعي ، فضلا عن أن يكون له مساس بالاستصحاب.

وحاصل الكلام : أن قوله علیه السلام كل شيء لك طاهر أو حلال حتى تعلم أنه قذر أو حرام لا يتحمل إلا معنى واحد ، وذلك المعنى بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ من غير تأويل هو قاعدة الطهارة والحل ، ولو أغمضنا عن ظاهر اللفظ وارتكبنا التأويل فلابد من حمله على بيان الحكم الواقعي ، وأما حمله

ص: 370

على الاستصحاب فهو مما لا سبيل إليه ، فان مفاد الاستصحاب هو الحكم باستمرار ما علم بحدوثه وشك في بقائه ، وأين هذا من مفاد الروايات؟.

ودعوى : أن كلمة « حتى » تدل على استمرار حكم ما قبلها إلى ما بعدها ، فيكون مفاد الروايات هو أن كل شيء طاهر أو حلال واقعا أو ظاهرا وتستمر طهارته وحليته ظاهرا إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالقذارة والحرمة ، فيدل صدر الروايات على الحكم الواقعي والظاهري للأشياء بعناوينها الأولية وبما أنها مشكوكة الطهارة والحلية ، والغاية تدل على استمرار الحكم السابق إلى أن يعلم بالخلاف ، فيكون مفاد الغاية مفاد قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر » فان معنى عدم نقض اليقين بالشك هو الحكم باستمرار المتيقن إلى زمان العلم بالخلاف ، وكلمة « حتى » في الروايات تدل على هذا المعنى ، فيستفاد من الروايات صدرا وذيلا كل من الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب

واضحة الفساد ، فان قطع الغاية عما قبلها وجعلها جملة مستقلة وتقدير كلمة « ويستمر طهارته أو حرمته ظاهرا » مما لا شاهد عليه ، وكلمة « حتى » لا تدل على ذلك ، فان غاية ما يمكن تسليمه هو دلالة كلمة « حتى » على استمرار تلك الطهارة والحلية المذكورة في الصدر إلى أن يعلم بالخلاف.

وأما جعل تلك الطهارة مفروضة الوجود والحكم باستمرارها إلى زمان العلم بالخلاف - كما هو مفاد الاستصحاب - فهو ممالا يمكن أن يستفاد من كلمة « حتى » هذا مضافا إلى ما عرفت : من أن الموضوع والمحمول في الصدر لا يمكن أن يكون المراد منه الأعم من الموضوع والحكم الواقعي والظاهري.

فالانصاف : أن الروايات لا تدل إلا على قاعدة الطهارة والحل ، ولا يصح الاستدلال بها على حجية الاستصحاب ، بل روايات الاستصحاب هي

ص: 371

ما تقدمت ، وعمدتها روايات زرارة ودلالتها على حجية الاستصحاب في غاية الوضوح. ولا يمكن حمل قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » على « قاعدة اليقين » فان موردها ينافي ذلك ، كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك

فالكلام يقع في مقدار دلالتها وعمومها للأقسام اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب : من حيث كونه وجوديا أو عدميا موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا جزئيا أو كليا تكليفيا أو وضعيا ، وباعتبار اختلاف الدليل الدال على ثبوت المستصحب : من حيث كونه إجماعا أو عقلا أو كتابا وسنة ، وباعتبار اختلاف منشأ الشك في بقائه : من حيث رجوع الشك إلى الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود وما يلحق به من الشك في الغاية ، أو رجوع الشك إلى الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية أيضا ، بالبيان المتقدم. ولأجل هذه الاختلافات كثرت الأقوال في المسألة حتى زادت على العشرة ، فذهب إلى حجية الاستصحاب في كل قسم من هذه الأقسام فريق ، وأنكرها فريق آخر. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في الأقوال وبيان أدلتها وردها.

ولكن الانصاف : أن جملة منها لا تستحق البحث عنها وإطالة الكلام فيها ، فإنه لا منشأ لها إلا بعض الوهميات ، فالأولى : الاعراض عنها وعطف عنان الكلام إلى بيان وجه المختار : من حجية الاستصحاب في جميع الأقسام إلا في الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية.

أما حجيته في سائر الأقسام : فلعموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وشموله لجميع أقسام المستصحب والدليل الدال على ثبوته ومنشأ الشك في بقائه ، لأنه في جميع ذلك يكون رفع اليد عن المتيقن عند الشك في بقائه من نقض اليقين بالشك ، فلا موجب لتوهم اختصاصه بقسم دون قسم.

ص: 372

وأما عدم حجيته في الشك في المقتضي - بالمعنى المتقدم - فلعدم صدق النقض عليه ، فلا يعمه قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وتوضيح ذلك : هو أن إضافة النقض إلى اليقين إنما تكون باعتبار ما يستتبع اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل على وفقه (1) وليست إضافة النقض إلى اليقين باعتبار صفة اليقين والحالة المنقدحة في النفس بما هي هي ، بداهة أن اليقين من الأمور التكوينية الخارجية وقد انتقض بنفس الشك ، فلا معنى للنهي عن نقضه. وليس المراد من عدم نقض اليقين عدم نقض الآثار والأحكام الشرعية المترتبة على وصف اليقين ، فإنه لم يترتب حكم شرعي على وصف

ص: 373


1- أقول : لو كان معنى عدم نقض اليقين عبارة عن ترتيب آثر الواقع المترتبة عليه ببركة اليقين بحيث يكون اليقين سببا للجري على وفق الواقع - كما هو الشأن في اليقين الطريقي - فكيف يقوم الاستصحاب مقام العلم الجزء الموضوعي؟ كما أن المعرفة المأخوذة غاية للحلية تمام الموضوع في القضية بلا دخل للحرمة الواقعية في النجاسة أبدا ، وفي مثله لا معنى لترتيب آثار الواقع على العلم به. ومع هذا لا مجال لثبوت العلم التنزيلي إلا بترتيب آثار نفس العلم ، لا آثار الواقع المترتب عليه ببركة العلم ، كيف وهذا المقدار لا يفي لقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي رأسا ، إذ هذا القيام فرع تنزيل العلم وهو فرع كون نظر دليل التنزيل إلى آثار نفس العلم لا آثار الواقع المترتب عليه ببركة العلم ، وحينئذ لا محيص من أن يرجع النهي عن النقض إلى الامر بالمعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي بلا دخل لاقتضاء الواقع فيه أبدا ، كما هو الشأن في العلم الموضوعي ، خصوصا ما كان تمام الموضوع، كما لا يخفى. وحينئذ لا محيص من كون المصحح لإضافة النقض إلى اليقين هو نفس استحكام اليقين وكونه بنحو لا يزول بتشكيك المشكك ولا ينقضه الشك. فكان السر أيضا في تبديل القطع والعلم في المقام باليقين بملاحظة ما فيه من نحو استحكام وإبرام ليس فيهما ، لا من جهة غلبة استعمال اليقين في مورد ترتيب آثار الواقع دون العلم والقطع، كما توهم ، وحينئذ مآل [ عدم ] نقض [ اليقين ] عدم صلاحية اليقين للتشكيك وأن العلم في باب الاحكام يقين لا يزول بالتشكيك ولا ينقضه الشك وأن المكلف مأمور بالمعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي ، من دون فرق بين كون ذلك بلحاظ آثار نفس اليقين أو الآثار المترتبة على الواقع بواسطة اليقين ، كما أن عدم نقضه من جهة أن يقينه غير قابل للتشكيك من دون فرق بين كون وجه التشكيك من ناحية المقتضي أو المانع ، فتدبر واغتنم.

اليقين بما هو هو ، وعلى فرض أن يكون لليقين أثر شرعي ، فليس المراد من قوله علیه السلام في أخبار الباب : « لا تنقض اليقين بالشك » نقض أثر اليقين ، فان ذلك أجنبي عن معنى الاستصحاب ، فإضافة النقض إلى اليقين لا يمكن أن تكون بلحاظ نفس وصف اليقين ، بل إنما تكون بلحاظ ما يستتبع اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقن حكما كان أو موضوعا.

لا أقول : إن المراد من اليقين المتيقن ، بحيث استعير للمتيقن لفظ اليقين ويكون قد أطلق اليقين وأريد منه المتيقن مجازا ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة أنه لا علاقة بين اليقين والمتيقن ، فاستعمال أحدهما في مكان آخر كاد أن يلحق بالأغلاط.

فما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام : من أن المراد من اليقين نفس المتيقن مما لا يمكن المساعدة عليه ، ولابد من توجيه كلامه بما يرجع إلى ما ذكرنا : من أن المراد من نقض اليقين نقضه بما أنه يستتبع الحركة على وفق المتيقن ، فأخذ اليقين في الاخبار إنما يكون باعتبار كونه كاشفا وطريقا إلى المتيقن لا بما أنه صفة قائمة في النفس ، فعناية النقض إنما تلحق اليقين من ناحية المتيقن. بل يمكن أن يقال : إن شيوع إضافة النقض إلى اليقين دون العلم والقطع إنما يكون بهذا الاعتبار ، فإنه لم يعهد استعمال النقض في العلم والقطع ، فلا يقال : « لا تنقض العلم والقطع » وليس ذلك إلا لأجل أن العلم والقطع غالبا يكون إطلاقهما في مقابل الظن والشك ، وهذا بخلاف اليقين ، فان إطلاقه غالبا يكون بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل على طبقه ، فالنظر إلى اليقين غالبا يكون طريقا إلى ملاحظة المتيقن ، بخلاف النظر إلى العلم والقطع.

وبالجملة : لا إشكال في أن العناية المصححة لورود النقض على اليقين إنما هي باعتبار استتباع اليقين الجري العملي على المتيقن والحركة على ما يقتضيه ،

ص: 374

فيكون مفاد قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو أن الجري العملي الذي كان يقتضيه الاحزار واليقين لا ينقض بالشك في بقاء المتيقن.

وليس مفاد أخبار الاستصحاب هو « بقاء ما كان ودوام ما ثبت » لما عرفت في أول مبحث الاستصحاب : من أن للاحراز والشك دخلا في الحكم المجعول في باب الاستصحاب ، وبذلك يكون الاستصحاب من الاحكام الظاهرية ، ولو كان مفاد الاخبار « دوام ما ثبت » لكان ذلك حكما واقعيا نظير قوله علیه السلام « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة الخ » (1) كما أنه ليس مفاد أخبار الاستصحاب هو حرمة نقض اليقين بالشك بحيث يكون المجعول فيه حكما تكليفيا ، بداهة أن الحكم الاستصحابي يعم التكاليف الغير الالزامية والوضعيات وغير ذلك ، مع أنه لا يحرم فيها نقض اليقين بالشك ، فلا يمكن أن يكون المراد من النهي في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » النهي التكليفي ، بل المراد منه عدم الانتقاض ، بمعنى : أن الشارع حكم بعد الانتقاض وبقاء الجري العملي على وفق المتيقن ، ولذلك يجري الاستصحاب في الوضعيات وفي التكاليف الغير الالزامية.

إذا عرفت ذلك ، فقد ظهر لك : أن أخبار الباب إنما تختص بما إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري العملي على طبقه ، بحيث لو خلي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقن ، وهذا المعنى يتوقف على أن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقق الجري العملي على طبقه ، فإنه في مثل ذلك يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن ويصدق عليه نقض اليقين بالشك وعدم نقضه به ، بخلاف ما إذا لم يكن للمتيقن اقتضاء البقاء في سلسلة الزمان فان الجري العملي بنفسة ينتقض ولا يصح ورود

ص: 375


1- أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس الحديث 19.

النقض على اليقين بعناية المتيقن ، لان المتيقن لا يقتضي الجري العملي حتى يكون رفع اليد عنه نقضا لليقين بالشك ، والشك في اقتضاء المتيقن للبقاء يوجب الشك في صدق النقض عليه ، فلا يندرج في عموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

وبتقريب آخر : يتوقف صدق نض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك مما فد تعلق اليقين به في زمان حدوثه ، بمعنى : أن الزمان اللاحق الذي يشك في بقاء المتيقن فيه كان متعلق اليقين عند حدوثه ، وهذا إنما يكون إذا كان المتيقن مرسلا بحسب الزمان لكي لا يكون اليقين بوجوده من أول الامر محدودا بزمان خاص ومقيدا بوقت مخصوص ، وإلا ففيما بعد ذلك الحد والوقت يكون المتيقن مشكوك الوجود من أول الامر ، فلا يكون رفع اليد عن آثار وجود المتيقن من نقض اليقين بالشك ، لان اليقين ما كان يقتضي ترتيب أثار وجود المتيقن بعد ذلك الحد ، فكيف يكون رفع اليد عن الآثار من نقض اليقين بالشك؟ ألا ترى : أنه لو علم أن المتيقن لا يبقى أزيد من ثلاثة أيام ففي اليوم الرابع لا يقال : انتقض اليقين بالوجود بيقين آخر بالعدم ، فان اليوم الرابع ما كان متعلق اليقين بالوجود من أول الامر حتى يقال : انتقض اليقين بيقين آخر ، وهذا بخلاف ما إذا حدث في اليوم الثالث أمر زماني - من مرض وقتل ونحو ذلك - أوجب رفع المتيقن ، فإنه يصح أن يقال : إنه انتقض اليقين بالوجود بيقين العدم.

وبالجملة : لا إشكال في أن العناية المصححة لإضافة النقض إلى اليقين إنما هي لكون اليقين يقتضي الجري والحركة نحو المتيقن ، وهذا إنما يكون إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري والحركة على ما يستتبعه من الآثار الشرعية والعقلية ، فلابد وأن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء في الزمان الذي يشك في وجوده ليقتضي ذلك ، ولابد من إحراز اقتضائه للبقاء ، فالشك في وجود المتيقن لأجل الشك في

ص: 376

المقتضي لا يندرج في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

فان قلت : نعم وإن كانت إضافة النقض إلى اليقين تقتضي اختصاص حجية الاستصحاب بما إذا علم اقتضاء المتيقن للبقاء فلا يشمل الشك في المقتضي ، إلا أن عموم لفظ اليقين لما إذا كان لمتعلقه اقتضاء البقاء أو لم يكن يقتضي عدم اختصاص الاستصحاب بما إذا كان الشك في الرافع بل يعم الشك في المقتضي أيضا ، فلا موجب لتقديم ظهور النقض في خصوص الشك في الرافع على ظهور اليقين في العموم.

قلت : إضافة النقض إلى اليقين تقتضي اختصاص اليقين بما إذا كان لمتعلقه اقتضاء البقاء ، فلا يبقى لليقين إطلاق لما إذا لم يكن لمتعلقه اقتضاء البقاء ليعارض ظهور النقض في ذلك ، وعلى فرض التسليم : فلا أقل من تعارض الظهورين ، فيبقى الاستصحاب عند الشك في المقتضي بلا دليل ، فتأمل (1).

وأما الشك في الرافع فهو بجميع أقسامه يندرج في الاخبار ويكون رفع اليد عن وجود المتيقن فيه من نقض اليقين بالشك ، من غير فرق في ذلك بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود لأجل الشبهة الحكمية أو المفهومية أو الموضوعية.

ص: 377


1- لا يخفى أنّ روايات الباب منها: ما ذكر فيها إضافة النقض إلى اليقين كروايات زرارة. و منها: لم يذكر فيها لفظ النقض كقوله عليه السلام في رواية محمّد بن مسلم «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه» بناء على ما تقدّم: من أنّه ينبغي عدّها من أخبار الاستصحاب و لا ظهور فيها لقاعدة اليقين. فقد يختلج في البال أنّه يصحّ التمسّك بهذه الرواية على حجّيّة الاستصحاب عند الشّك في المقتضي. إلّا أن يقال: إنّ ظهور الرواية في سبق زمان اليقين يقتضي اختصاصها بالشّك في الرافع، فانّه في الشّك في المقتضي غالبا يكون زمان الشّك متّحدا مع زمان اليقين، لأنّ زمان الشّك في الشّك في المقتضي لم يتعلّق به اليقين في آن حدوثه. أو يقال: إنّ المضيّ على اليقين إنّما هو فيما إذا كان لليقين اقتضاء المضيّ و اقتضاء اليقين لذلك إنّما يكون باعتبار اقتضاء المتيقّن للمضيّ على طبقه، فلا يشمل الشّك في المقتضي، فتأمّل (منه).

فما ينسب إلى المحقق السبزواري رحمه اللّه من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في رافعية الموجود بتوهم أن اليقين بوجود ما يشك في رافعيته يكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك ، ضعيف غايته ، فان نقض اليقين باليقين إنما يكون إذا كان اليقين الثاني تعلق بضد ما تعلق به الأول أو بنقيضه ، كما إذا حصل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة ، وأما اليقين بوجود ما يشك في رافعيته فليس هذا من نقض اليقين باليقين ، بل هو من نقض اليقين بالشك ، لأن الشك في رافعية الموجود يوجب الشك في ارتفاع المتيقن به ، فيكون كالشك في وجود الرافع ، وذلك واضح.

فالتفصيل بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود مما لا وجه له ، كما لا وجه للتفصيل بين ما إذا كان المستصحب من الأحكام التكليفية أو من الأحكام الوضعية ففي الأول لا يجري الاستصحاب وفي الثاني يجري ، كما هو المحكي عن الفاضل التوني رحمه اللّه .

تذييل :
اشارة

لم يمر علينا في كتابنا هذا مقام يناسب بيان الأحكام الوضعية وتفصيل أقسامها ، وأردنا أن لا يخلو الكتاب عن ذلك ، فأحببنا التعرض لها في هذ المقام بمناسبة المحكي عن الفاضل التوني رحمه اللّه من التفصيل في حجية الاستصحاب بين الأحكام التكليفية والوضعية.

فنقول : ( وعلى اللّه الاتكال ) إن استقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :

- الأول -

تقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية إنما يستقيم بعد البناء على أن

ص: 378

للشارع جعل وإنشاء يتعلق بأفعال العباد يتضمن البعث والتحريك والإرادة والكراهة (1) وأما لو قلنا : بأنه ليس الحكم الشرعي إلا عبارة عن العلم باشتمال الافعال على المصالح والمفاسد من دون أن يكون في البين جعل يقتضي الإرادة والكراهة لا في المبدأ الاعلى ولا في المبادي العالية - كما حكي عن بعض احتماله بل الالتزام به - فلا يبقى موقع لتقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية ، كما لا يخفى.

ولكن احتمال أن لا يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط ، لأنه يلزم على هذا

ص: 379


1- أقول : حقيقة الإرادة إذا كانت عبارة عن الشوق الأكيد فهو من الكيفيات القائمة بالنفس ولم يكن من الايجاديات بالاختيار بلا واسطة فلا يكون هذه المرتبة نظير المصلحة والعلم بها من الانشائيات أيضا ، كما أن مدار حكم العقل بوجوب الامتثال أيضا ليس إلا العلم بهذه المرتبة من اشتياق المولى ولو لم يحمل نفسه إلى العمل من جهة علمه بعدم امتثاله ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا إبراز إرادته لمحض إتمام الحجة على عبده ، وفي هذا الابراز لا يلزم أن ينشأ بكلامه مفهوم الطلب أو الإرادة - كما هو الشأن في كلية الانشاء الذي هو مقابل الاخبار من شؤون المفاهيم - بل يكفي لتحريك العقل نحو الامتثال إبراز شوقه بإخباره به بقوله : أريد أو أشتاق. نعم : من نفس الابراز ينتزع العقل بعناية عنوان البعث والتحريك وبعناية أخرى عنوان الالزام واللزوم والايجاب والوجوب ، فهذه العناوين ايجادية بايجاد الابراز، وليس دخلها في حكم العقل دخلا موضوعيا بل طريقيا صرفا. وحينئذ إن أريد من جعلية التكليف جهة الاعلام باشتياقه ، فليس ذلك من الاعتبارات الجعلية ، بل من التكوينيات الخارجية كاحداث سائر الكيفيات الأخرى. وإن أريد به جهة الاعتبارات الأخرى الطارية على الاعلام فهي أجنبية عن جعل الجاعل. و بعبارة أخرى نقول: إنّ الجعل في الأحكام الوضعيّة في الحقيقة راجع إلى إحداث أمر اعتباري في عالم الاعتبار بنفس الجعل، و في الأحكام التكليفيّة راجع إلى تكوين الوصول الخارجي الّذي هو أجنبيّ عن الاعتباريّات، و إنّما هو موضوع اعتباريّات أخرى قهريّة مترتّبة على هذا الاعلام و الإيصال من دون أن يكون قوامها بجعل جاعل، و حينئذ تقسيم الأحكام الجعليّة إلى التكليفيّة و الوضعيّة ليس بمساق واحد، كما لا يخفى.

أن تكون الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة كلها أخبارا عن الصلاح والفساد من دون أن يكون فيها شائبة الانشاء ، وهذا مما لا يرضى به المنصف ، وكيف يرضى أن يكون قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة » الخ إخبارا عن اشتمال الصلاة والزكاة على المصلحة؟.

هذا مع أنه لم يظهر لنا وجه الالتزام بذلك ، فإنه إن كان الوجه هو عدم إمكان قيام الإرادة والكراهة في المبدأ الاعلى وإلا يلزم أن يكون محلا للحوادث - تعالى عن ذلك - فهذا مع فساده في نفسه لا يلزم منه عدم الجعل والتشريع وإنكار أصل الإرادة والكراهة ، فإنه لا أقل من قيام الإرادة والكراهة في النفس النبوية صلی اللّه علیه و آله بعدما يوحى أو يلهم إليه اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ، فتنقدح في نفس الشريفة إرادة الفعل أو كراهته فيأمر به أو ينهى عنه ، وقد التزم به المحقق الخراساني قدس سره فأنكر قيام الإرادة والكراهة في المبدأ الاعلى وقال : إن الإرادة والكراهة إنما تكون في بعض المبادئ العالية ، والالتزام بذلك وإن كان أهون من إنكار الإرادة والكراهة مطلقا والقول بعدم الجعل والتشريع أصلا ، إلا أنه لا داعي إلى الالتزام به أيضا.

وعلى كل حال : تقسيم الاحكام إلى الوضعية والتكليفية يتوقف على القول بثبوت الجعل الشرعي ، ليكون من مقولة التكليف تارة ، ومن مقولة الوضع أخرى ، فتأمل جيدا.

- الامر الثاني -

قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين الأمور الاعتبارية والأمور الانتزاعية ، حتى أن الشيخ قدس سره قد عبر عن الأمور الاعتبارية بالانتزاعية وجعل الانتزاعيات مرادفة للاعتباريات.

ص: 380

ولكن التحقيق : أن الأمور الاعتبارية مباينة للأمور الانتزاعية ، فان وعاء الاعتبار يباين وعاء الانتزاع.

وتوضيح ذلك : هو أن الشيء تارة : يكون تقرره ووجوده في وعاء العين بحيث يكون بنفسه من الثابتات في الأعيان الخارجية سواء كان من المجردات أو من الماديات.

وأخرى : يكون تقرره ووجوده في وعاء الاعتبار ، فيكون تقرره وثباته بيد من ينفذ اعتباره ، فهو متأصل في عالم الاعتبار ، كما أن الأول كان متأصلا في عالم الأعيان ، غايته أن تأصل الأول ووجوده إنما يكون بتعلق الإرادة التكوينية الإلهية به ، وتأصل الثاني إنما يكون باعتباره ، فهو يوجد بنفس اعتبار من بيده الاعتبار ، كاعتبار السلطان سكة الدراهم والدنانير ، فان السكة المضروبة على الدراهم والدنانير لا مالية لها في حد ذاتها وإنما تكون ماليتها بنفس اعتبار السلطان لها ، ولمكان نفوذ اعتباره يثبت للسكة مالية.

وثالثة : لا يكون للشئ نحو تقرر ووجود لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، بل يكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع ، فهو بنفسه لا تقرر له ، وإنما التقرر لمنشأ الانتزاع ، سواء كان منشأ الانتزاع من الأمور التي لها تقرر في وعاء العين أو كان لها تقرر في وعاء الاعتبار ، فان يصح الانتزاع عن كل من الموجود في عالم الأعيان والموجود في عالم الاعتبار. فالأول : كانتزاع العلية والمعلولية من العلة والمعلول الخارجي التكويني ، والثاني : كانتزاع السببية من العقد الذي صار سببا للملكية والزوجية في عالم الاعتبار ، إذ ليس العقد سببا للملكية تكوينا ، فان الملكية لا وجود لها إلا في وعاء الاعتبار ، فسببها أيضا يكون من الأمور الاعتبارية لا محالة.

وحاصل الكلام : أن الأمور الانتزاعية إنما تكون من خارج المحمول ليس لها ما بحذاء في الخارج ، سواء كان انتزاعها من مقام الذات كالعلية والامكان

ص: 381

والوجوب والامتناع المنتزعة من ذات العلة والممكن والواجب والممتنع بالذات ، أو كان انتزاعها من قيام أحد المقولات التسع بمحله كالفوقية والتحتية والقبلية والبعدية الزمانية والمكانية ، فان الفوقية ليست من مقتضيات ذات الفوق ، بل لأجل قيام خصوصية في الفوق أوجب انتزاع الفوقية منه ، وكذا التحتية والقبلية والبعدية ونحوها.

وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية ، فان لها في نفس الامر نحو تقرر وثبات ويكون لها وجود في الخارج (1) غايته أن تقررها النفس الأمري يتحقق بعين

ص: 382


1- أقول: إنّ الوجودات الاعتباريّة بعد ما كانت قوامها بالاعتبار فينبغي شرح حقيقة الاعتبار، فنقول: إنّه لا يكون إلّا ما يكون قوام وجوده باللحاظ بحيث لو لم يكن في البين لحاظ لا يكون في البين اعتبار أصلا، ثمّ بعد لحاظ شي ء مطلقا أو منوطا بوجود شي ء ما لم يقصد ثبوته مطلقا أو منوطا بشي ء بإنشاء مفهومه المسمّى بجعله لا يكاد يتحقّق وجوده في عالمه، فإذا تحقّق مثل هذا الجعل يعتبر العقل وجوده، و لكن ليس هذا الوجود موطنه إلّا الذهن، لأنّ متعلّق اللحاظ و الجعل ليس إلّا ما يرى في ذهنه، غاية الأمر لا بوصف ذهنيّته، بل في لحاظه يرى خارجيّا، و لكن مجرّد ملاحظته كذلك لا يخرجه عن الذهنيّة إلى الخارجيّة، و حينئذ جميع الأمور الاعتباريّة لا يكون الخارج موطن نفسها، بل إنّما موطن مصحّح اعتباره من الإنشاء اللفظي أو القولي، و لذا نقول: لا واقعيّة للاعتباريّات إلّا بواقع مصحّح اختراعه: من الإنشاء المتقوّم باللحاظ، كيف! و ربما يكون الأمر الاعتباري مثل الملكيّة قائمة بنفس الكلّي بوصف كلّيته الّتي لا موطن له إلّا الذهن، كما أنّه لو فرض في مورد قيامه بأمر خارجيّ يحصل به إحداث خصوصيّة خارجيّة غير متقوّم باللحاظ في هذا الشي ء. و عليه فما أفيد: من أنّ الأمور الاعتباريّة بنفسها لها وجود خارجي لا نفهم معناه، كيف! و لا يكون الموجود الخارجي إلّا ما هو موجود في خارج الذهن و اللحاظ بحيث لو لم يكن في العالم لاحظ كان الخارج ظرفا لنفسه، مع أنّه ليس كذلك جزما، كيف! و لو لم يكن لاحظ أين وجود كلّي بوصف كلّيّته معروض ملكيّة شخص؟ و حينئذ فما أفاد من الفرق بين الأمور الاعتباريّة و الانتزاعيّة من هذه الجهة لا معنى له، و إنّما الفرق بينهما من جهة أنّ الاعتباريّات تابع جعل و إنشاء و أنّ الجعل مصحّح اعتبارها، و في الأمور الانتزاعيّة ليس مصحّح الانتزاع جعله، بل هو قهريّ حاصل في موطنه، و ربما يكون الأمر الاعتباري منشأ انتزاع مفهومه، كمفهوم الملكيّة بالنسبة إلى حقيقته، ففي مثله يكون منشأ الانتزاع و المنتزع كلاهما في موطن الذهن، غاية الأمر يفترقان بخصوصيّة المنشأ و المصحّح و التعقّل الأوّلي و الثانوي، كما لا يخفى. ثم من التأمل فيما ذكرنا أيضا ظهر لك : أن الملكية ليس من مقولة الجدة الموجبة لاحداث هيئة فيما يحيط بشيء خارجا ولا من الإضافات المقولية الموجبة لاحداث هيئة أخرى لما يناسب به خارجا ، كيف! ونرى بالوجدان عدم تغير خصوصية خارجية في عين بحدوث ملكية ، بل تمامها نحو خصوصية ذهنية شبيهة بالخارجيات وإن لم يلتفت إلى ذهنيتها ، كما لا يخفى.

اعتبارها ، ففرق بين الملكية والفوقية فإنه ليس للفوقية وجود إلا بوجود منشأ انتزاعها ، وأما الملكية فلها وجود اعتباري ، بل يمكن أن يقال : إن الملكية الاعتبارية إنما تكون من سنخ الملكية الحقيقية التي هي إحدى المقولات التسع المعبر عنها بالجدة ، فان حقيقة الملكية هي الواجدية والسلطنة والإحاطة على الشيء ، وهي ذات مراتب أقواها وأتمها ملكية السماوات والأرضين وما فوقهما وما بينهما وما تحتهما لله ( تعالى ) فان إحاطة الباري ( تعالى ) وواجديته للسماوات والأرضين أقوى مراتب الواجدية وأعلى درجات الإحاطة وأي واجدية تكون أقوى من واجدية العلة لمعلولها الذي وجوده يكون من مراتب وجودها!؟ نظير واجدية النفس للصور المخلوقة لها.

وبالجملة : لا إشكال في أن واجدية اللّه ( تعالى ) لما سواه أقوى مراتب الواجدية ، ثم دون ذلك واجدية اولي الامر الذين هم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فان واجديتهم - صلوات اللّه عليهم - إنما تكون من مراتب واجدية الباري - عز اسمه - ثم دون ذلك واجدية الشخص لما يملكه من أمواله ، فان الشخص واجد لما يملك ومحيط عليه وإن لم يكن تحت يده وكان بعيدا عنه ، ثم دون ذلك الواجدية الحاصلة من إحاطة شيء بشيء ، كالقميص المحيط للبدن عند التقمص والعمامة المحيطة بالرأس عند التعمم.

فظهر : أنه لا وجه لجعل الجدة خصوص المرتبة الأخيرة من الواجدية التي هي أضعف المراتب ، وهي الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالتعمم والتقمص ، بل ينبغي تعميم مقولة الجدة لجميع مراتب الواجدية ، غايته أنه تارة :

ص: 383

تكون حقيقة وهي التي تكون من المقولات التسع بمراتبها الثلاث. وأخرى : تكون اعتبارية وهي الملكية التي يعتبرها العرف والعقلاء عند حصول أحد أسبابها. وإن أبيت إلا عن كون الجدة التي هي من المقولات التسع عبارة عن خصوص المرتبة الأخيرة من الواجدية جريا على الاصطلاح ، فلا يضر ذلك بالمقصود في المقام : من أنه ليست الملكية من الأمور الانتزاعية ، وكذا غيرها من سائر الاعتبارات كالحرية والرقية والزوجية ونحو ذلك. وليس المقصود في المقام استقصاء الأمور الاعتبارية ، بل المقصود أن الأمور الاعتبارية متأصلة بالجعل وأن وعاء الاعتبار غير وعاء الانتزاع ، فاستعمال أحدهما في مكان الآخر ليس على ما ينبغي ، وسيأتي أن المجعولات الشرعية كلها تكون من الأمور الاعتبارية ، سواء في ذلك الأحكام التكليفية والوضعية.

- الامر الثالث -

المراد من الأحكام التكليفية هي المجعولات الشرعية التي تتعلق بأفعال البعاد أولا وبالذات بلا واسطة ، وهي تنحصر بالخمسة ، أربعة منها تقتضي البعث والزجر ، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، وواحدة منها تقتضي التخيير وهي الإباحة.

وأما الأحكام الوضعية : فهي المجعولات الشرعية التي لا تتضمن البعث والزجر ولا تتعلق بالافعال ابتداء أولا وبالذات ، وإن كان لها نحو تعلق بها ولو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية ، سواء تعلق الجعل الشرعي بها ابتداء تأسيسا أو امضاء ، أو تعلق الجعل الشرعي بمنشأ انتزاعها ، على ما سيأتي توضيحه.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب في تعدادها ، فقيل : إنها ثلاثة ، وهي السببية والشرطية والمانعية. وقيل : إنها خمسة ، بزيادة العلة والعلامة. وقيل :

ص: 384

تسعة ، بإضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة. وقيل : إنها غير محصورة ، بل كل ما لايكون من الحكم التكليفي فهو من الحكم الوضعي ، سواء كان له دخل في التكليف أو في متعلقه أو في موضوعه ، حتى عد من الأحكام الوضعية مثل القضاوة والولاية. بل قيل : إن الماهيات المخترعة الشرعية كلها من الأحكام الوضعية ، كالصوم والصلاة والحج ونحو ذلك.

وقد شنع على القائل بذلك بأن الصوم والصلاة والحج ليست من مقولة الحكم ، فكيف تكون من الأحكام الوضعية؟. ولكن يمكن توجيهه بأن عد الماهيات المخترعة الشرعية من الأحكام الوضعية إنما هو باعتبار كونها مركبة من الاجزاء والشرائط والموانع ، وحيث كانت الجزئية والشرطية والمانعية من الأحكام الوضعية فيصح عد جملة المركب من الأحكام الوضعية ، وليس مراد القائل بأن الماهيات المخترعة من الأحكام الوضعية كون الصلاة مثلا بما هي هي حكما وضعيا ، فان ذلك واضح الفساد لا يرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم.

نعم : عد الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية لا يخلو عن تعسف (1) خصوصا الولاية والقضاوة الخاصة التي كان يتفضل بهما الامام علیه السلام لبعض الصحابة ، كولاية مالك الأشتر ، فان الولاية والقضاوة الخاصة حكمها حكم النيابة والوكالة لا ينبغي عدها من الأحكام الوضعية ، وإلا فبناء على هذا التعميم كان ينبغي عد الإمامة والنبوة أيضا من الأحكام الوضعية ، وهو كما ترى.

ص: 385


1- أقول: بعد ما كانت النيابة و الولاية الجعليّة، و الوكالة من الأمور الاعتباريّة الجعليّة، لا يرى فرقا فيها مع الملكيّة الشخصيّة مثلا في كونها من الأحكام الوضعيّة دونها، اللّهمّ إلّا أن يعتبر في الحكميّة جهة الكلّيّة الثابتة لموضوعات كلّيّة، و فيه أيضا نظر. و على أيّ حال: لا يقاس الولاية الجعليّة بالنبوّة و الإمامة الثابتة للأشخاص لما فيهم من كمال النّفس الآبي عن كونها جعليّة، كما لا يخفى.

فالتحقيق : أن الأحكام الوضعية ليست بتلك المثابة من الاقتصار ، بحيث تختص بالثلاثة أو الخمسة أو التسعة المتقدمة ، ولا هي بهذه المثابة من التعميم بحيث تشمل الماهيات المخترعة والولاية والقضاوة ، بل ينبغي أن يقال : إن المجعولات الشرعية التي هي من القضايا الكلية الحقيقية على أنحاء ثلاثة : منها ما يكون من الحكم التكليفي ، ومنها ما يكون من الحكم الوضعي ، ومنها ما يكون من الماهيات المخترعة ، فتأمل جيدا.

- الامر الرابع -

المجعولات الشرعية : إما أن تكون تأسيسية وهي التي لا تكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء ، كالأحكام الخمسة التكليفية ، وإما أن تكون إمضائية وهي الأمور الاعتبارية العرفية التي يعتبرها العرف والعقلاء ، كالملكية والزوجية والرقية والحرية ونحو ذلك من منشآت العقود والايقاعات ، فان هذه الأمور الاعتبارية كلها ثابتة عند عامة الناس قبل الشرع والشريعة ، وعليها يدور نظامهم ومعاشهم ، والشارع قد أمضاها بمثل قوله - تعالى - « وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ » و « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » و « الصلح جايز بين المسلمين » ونحو ذلك من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة ، وليست الملكية المنشأة بالبيع والزوجية المنشأة بالنكاح والتسالم المنشأ بالصلح من المخترعات الشرعية ، بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع بزيادة بعض القيود والخصوصيات ، وليست من الأمور الانتزاعية.

وقد خالف الشيخ قدس سره في ذلك والتزم بأن هذه الأمور كلها منتزعة عن التكاليف التي في موردها ، فالملكية تنتزع من حرمة تصرف الغير في المال ، والزوجية تنتزع من جواز وطي الزوج وحرمة نكاح الغير لها ، والرقية تنتزع من وجوب إطاعة الرق للمولى ، وهكذا سائر الأمور العرفية الاعتبارية التي لها آثار

ص: 386

خاصة. وقد أتعب نفسه الزكية في كثير من الموارد في تعيين ما هو المنشأ لانتزاع بعض الوضعيات ، كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد والحجية ونحو ذلك ، لأنه ليس في هذه الموارد حكم تكليفي قابل لان يكون منشأ لانتزاعها ، إذ ما من حكم تكليفي إلا ويشترك فيه مورد آخر : فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع لزوم العقد منه؟ فان حرمة التصرف فيما انتقل عنه يشترك فيها الغصب أيضا ، فلا يمكن أن تكون حرمة التصرف فيما انتقل عنه منشأ لانتزاع لزوم العقد ، إلا بأن يقيد عدم جواز التصرف بما بعد الفسخ.

وبالجملة : ليس من الأحكام الوضعية ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه غيره فيه ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى أن الحكم الوضعي ينتزع من جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به كما ترى! مع أن هذا أيضا في بعض المقامات لا يمكن ، فان الحجية والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه (1) كما أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن ، ولذلك التزم في بعض الوضعيات بأنها من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، كالطهارة والنجاسة.

وليت شعري! أنه ما الداعي إلى تبعيد هذه المسافة وإتعاب النفس بتلك المثابة؟ وما المانع من أن تكون هذه الأمور متأصلة بالجعل في وعاء الاعتبار ويكون وجودها التكويني بعين وجودها الاعتباري؟ والذي يدل على ذلك هو أن مثل هذه الاعتباريات متداولة عند من لم يلتزم بشرع وشريعة كالدهري والطبيعي مع أنه ليس عنده إلزام وتكليف يصح انتزاع هذه الأمور منه.

ص: 387


1- أقول: ما أفيد كذلك في الحجّيّة بمعنى الوسطيّة للإثبات، و إلّا فبمعنى المنجّزيّة و المعذّريّة فلا محيص من انتزاعها من التكليف، كما حقّقناه في جعل الطرق بعد توضيح فساد مجرّد جعل الوسطيّة تنزيلا للمنجّزيّة، و توضيحه موكول إلى محلّه.

فالتحقيق : أن الاعتباريات العرفية ليست من المنتزعات ، بل هي متأصلة بالجعل قد أمضاها الشارع ، والتكليف إنما ينتزع منها ، وقد استقصينا الكلام في ذلك في باب الامارات.

- الامر الخامس -

قد تقدم منا مرارا : أن المجعولات الشرعية ليست من القضايا الشخصية الخارجية ، بل هي من القضايا الكلية الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها (1) وهذا من غير فرق بين الأحكام التكليفية التأسيسية وبين الأحكام الوضعية الامضائية ، غايته أن موضوعات التكاليف إنما تكون من المخترعات الشرعية كنفس التكاليف ، فان العاقل البالغ المستطيع لا يكاد يكون موضوعا لوجوب الحج ما لم يجعله الشارع موضوعا ليترتب عليه وجوب الحج.

وأما موضوعات الأحكام الوضعية : فقد تكون تأسيسية ، وقد تكون إمضائية كنفس الحكم الوضعي.

فالأول : كأخذ السيادة والفقر موضوعا لتملك السادات والفقراء الخمس والزكاة ، فإنه لو لم يعتبر الشارع ذلك لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعا للتملك.

والثاني : كالعقد والسبق والرماية وحيازة المباحات ونحو ذلك من الموضوعات والأسباب العرفية للملكية ونحوها من الاعتباريات ، فان السبب الشرعي للملكية في هذه الأمور هو السبب العرفي ، غايته أن الشارع تصرف فيه بزيادة قيد أو نقصانه ، وليست ماهية السبب من المخترعات الشرعية. وعلى

ص: 388


1- أقول : قد مر منا مرارا أيضا أن إدخال القضايا الطلبية والتكليفية في القضايا الحقيقية لا يخلو عن تعسف ، وربما نشير إليه بعد ذلك أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ).

جميع التقادير : المجعول الشرعي تأسيسا أو إمضاء إنما هو معنى كلي مترتب على موضوعه ، نحو ترتب المعلول على علته والعرض على معروضه ،

ثم لا يخفى عليك : أن مرجع الموضوع والسبب والشرط في باب التكاليف وفي باب الوضعيات إلى معنى واحد ، وهو الامر الذي رتب الحكم الشرعي عليه ، فقد يعبر عنه بالموضوع وأخرى يعبر عنه بالسبب ، كما أنه قد يعبر عنه بالشرط ، فيصح أن يقال : إن العقد الكذائي موضوع للملكية أو سبب أو شرط لها ، وكذا يصح أن يقال : إن الدلوك مثلا موضوع لوجوب الصلاة أو شرط لها أو سبب ، فان مرجع الجميع إلى أن الشارع رتب الملكية ووجوب الصلاة على العقد ودلوك الشمس.

نعم : جرى الاصطلاح على التعبير عن الامر الذي رتب الحكم الوضعي عليه بالسبب فيقال : إن العقد سبب للملكية والزوجية ، والتعبير عن الامر الذي رتب الحكم التكليفي عليه بالموضوع أو الشرط فيقال : إن العاقل البالغ المستطيع موضوع لوجوب الحج أو إن الدلوك شرط لوجوب الصلاة ، وهذا مجرد اصطلاح ، وإلا فبحسب النتيجة كل من الموضوع والشرط والسبب يرجع إلى الآخر ، وذلك واضح.

- الامر السادس -

قد تقدم منا أيضا في مبحث الأوامر : أن شرائط الجعل غير شرائط المجعول (1) فان شرائط المجعول - على ما عرفت - عبارة عن موضوعات التكاليف

ص: 389


1- أقول: ما أفيد في الفرق إنّما يتمّ في الأحكام الوضعيّة الّتي قوام حقيقتها بالجعل و أنّ الجعل واسطة في ثبوتها، و أمّا الأحكام التكليفيّة الّتي روحها إرادة المولى المبرزة بإنشاء أو إخبار فهي آبية عن مرحلة الجعليّة الاعتباريّة، لما تقدّم سابقا بأنّ لبّ الإرادة و إبرازها ليس من الجعليات، بل أحدهما من مقولة الكيف و الآخر من مقولة الفعل، و هما خارجا عن عالم الاعتبارات الجعليّة، و لم يبق في البين إلّا مقام البعث و التحريك و الإلزام، وهذه اعتبارات منتزعة عن مقام إبراز الإرادة الخارجية غير مربوط بعالم الجعل. نعم: لا بأس بدعوى الجعل بمعنى التكوين و الإيجاد، و لو بلحاظ إيجاد المنشأ القهري لا القصدي للاعتبارات المزبورة، و هذا المقدار غير مرتبط بعالم الجعليّة الّتي عبارة عن إيقاع نفس المعنى بقصد ثبوتها بإنشائها اللفظي أو الفعلي، كما هو الشأن في الأحكام الوضعيّة، و حينئذ فكلّ ما هو يدعوه على إرادته مطلقا أو منوطا هو الداعي على إبراز إرادته، من دون فرق فيها بين دواعي الجعل و المجعول، كما لا يخفى، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ترى أيضا بطلان إناطة لبّ الإرادة و إبرازها على وجود موضوع خطابه خارجا، بل في ظرف لحاظ الموضوع خارجيّا يكون إرادته فعليّا، ففرض وجود الموضوع في التكليفيّات لا يوجب فرض وجود الإرادة و لا فرض إبرازه. نعم: مرتبة محرّكيّته و فاعليّته خارجا ينوط بوجود الموضوع خارجا، و هذه المرتبة مرتبة تأثير الخطاب بوجوده لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه، و لذا نقول: بأنّه ينوط بالعلم بالخطاب أيضا مع حفظ مضمون الخطاب في ظرف الجهل جزما، و حينئذ كيف يمكن دعوى فرضيّة مضمون الخطاب الحاكي عن لبّ الإرادة بفرضيّة موضوعه، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة، فتدبّر. ثم إنّ مرتبة المحرّكيّة لمّا كان ناشئا عن مقام انطباق المراد مع المأتيّ به خارجا، فهذا الانطباق تابع كيفيّة دخل فرض وجوده في إرادته تبعا لدخله في الاحتياج إلى مرامه، فتارة: يكون الشي ء بوجوده السابق أو المقارن دخيلا في الاحتياج إليه، و أخرى: بوجوده لاحقا و في موطنه كان دخيلا في الاحتياج إلى الشي ء فعلا، نظير دخل مجي ء الضيف في يوم الجمعة في الاحتياج إلى شراء اللحم في يوم الخميس، و في هذه الصورة ربما يختلف مقام محرّكية الخطاب من حيث إناطته بوجود الشي ء فعلا أم متأخّرا. و توهّم: أنّ كلّ ما هو دخيل في الحكم فلا بدّ من الأخذ في موضوعه و حينئذ يستحيل مجي ء الحكم بلا موضوع و كلّما يرى من هذا القبيل لا بدّ من إرجاعه إلى التعقّب، مدفوع بأنّه على فرض التسليم لهذه الكلّيّة نقول: بعد ما كان الموضوع للإرادة الفعليّة هو فرض وجوده و لو في موطنه فهذا المعنى لا قصور فيه بالنسبة إلى الوجودات المتأخّرة، و إنّما الكلام في مقام محرّكيّته، ففي هذا المقام بعد ما كانت المحرّكيّة من لوازم تطبيقه من البديهي أنّ تطبيق كلّ موضوع يكفيه أخذه و لو لاحقا، كما هو ظاهر، فتدبّر في المقام، فانّه من مزالّ الأقدام من حيث رميهم الشرائط المتأخّرة إلى بداهة البطلان، مع أنّهم لا يأتون فيه إلّا رعدا و برقا!!.

والوضعيات ، كالعاقل البالغ المستطيع الذي اخذ موضوعا لوجوب الحج وكالعقد المركب من الايجاب والقبول الذي جعل موضوعا للملكية والزوجية.

وأما شرائط الجعل : فهي عبارة عن الدواعي والملاكات النفس الأمرية

ص: 390

التي تقتضي الجعل والتشريع ، والفرق بينهما مما لا يكاد يخفى ، فان شرائط الجعل إنما تكون من الأمور الخارجية التكوينية التي لا تكاد تنالها يد الجعل والتشريع ، وهي إنما تؤثر في الجعل بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، لان وجودها الواقعي متأخر عن الجعل والمجعول ، فان الدواعي عبارة عن العلل الغائية المترتبة على وجود الشيء خارجا ، فلا يمكن أن يكون وجودها الخارجي علة للجعل ، بل العلة للجعل هي وجودها العلمي ، ومن غير فرق بين إرادة الآمر وإرادة الفاعل ، فان انقداح إرادة الامر أو الفعل تتوقف علين العلم بترتب الغاية على المأمور به وعلى الفعل ، سواء وافق العلم للواقع أولا ، بداهة أن العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار عنه ، كان في الطريق أسد أو لم يكن ، هذا حال شرائط الجعل.

وأما شرائط المجعول : فهي بوجودها الخارجي تؤثر في تحقق المجعول وترتبه عليه ، ولا أثر لوجودها العلمي ، فان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، وإن لم تكن من العلة والمعلول حقيقة ، وإلا أنه من حيث عدم تخلف الحكم عن موضوعه يلحق بباب العلة والمعلول ، فإنه بعدما رتب الحكم على شيء واخذ مفروض الوجود في ثبوت الحكم وتحققه لا يحاد يمكن تخلف الحكم عن ذلك الشيء ، بأن يوجد الحكم قبل وجوده أو بعد وجوده بزمان ، وإلا يلزم الخلف وأن ما فرض كونه موضوعا لم يكن موضوعا.

ومن هنا يظهر : أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في باب الشرط المتأخر : من أن الشرط هو اللحاظ والوجود العلمي المتقدم على المشروط فلا يلزم انخرام قاعدة تقدم الشرط على المشروط ، إنما هو خلط بين شرائط الجعل وبين شرائط المجعول ، فان اللحاظ والوجود العلمي إنما ينفع في شرط الجعل ، والمبحوث عنه في باب الشرط المتأخر إنما هو تأخر شرط المجعول الذي اخذ شرطا بوجوده الخارجي. وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين شرائط الجعل

ص: 391

وشرائط المجعول ، وقد أشرنا في مبحث الأوامر إلى جملة منها ، وسيأتي في المقام أيضا الإشارة إلى بعضها.

إذا تمهدت هذه الأمور ، فاعلم :

أن الأحكام الوضعية ، منها : ما تكون متأصلة بالجعل ، ومنها : ما تكون منتزعة عن الوضع أو التكليف الشرعي.

أما الأولى : فكالأمور الاعتبارية العرفية ، كالملكية والرقية والزوجية والضمان وغير ذلك منشآت العقود والايقاعات وما يلحق بها ، فإنها - على ما تقدمت - متأصلة في وعاء الاعتبار وليست منتزعة عن الأحكام التكليفية ، بل في بعضها لا يتصور ما يصلح لان يكون منشأ الانتزاع ، كالحجية والطريقية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في جعل الطرق والامارات.

وأما الثانية : فكالجزئية والشرطية والمانعية والسببية (1) فان هذه الأمور

ص: 392


1- 1 - أقول : بعدما كان المراد من انتزاع الوضع عن التكليف كون الوضع بحقيقته نحو خصوصية مترتبة على التكليف بحيث لولا التكليف لا يكون هذه الخصوصية موجودة لا أن المراد من الانتزاع مجرد إضافة شيء إلى التكليف ، كيف! والمكان والزمان والمكلف كلها في إضافتها إلى التكليف منوطة بوجوده ، وحيث عرفت ذلك فنقول : إنّ جزئيّة الشي ء عبارة عن نحو ارتباط بين الوجودات الغير الحاصلة حقيقة إلّا بالتكليف الحاوي لجميعها. و أمّا الشرطيّة و المانعيّة للمكلّف به: فلا ينتزع إلّا عن مرحلة التقيّد المأخوذ في الموضوع القائمة به التكليف، و حينئذ فجهة القيديّة للشي ء إنّما هو محفوظ في الرتبة السابقة عن التكليف و أنّ التكليف قائم به كنفس الذات، و إنّما التكليف منشأ لإضافة القيد إلى الواجب، فالتكليف في مثله مقوّم إضافة القيد إليه بملاحظة تعلّق التكليف بتقيّده، و لقد عرفت: أنّ هذه الإضافة أجنبيّة عن مقام انتزاعيّة الشي ء بحقيقته عن التكليف، و إنّما هو موجب لصدق إضافة الشي ء المحفوظ في نفسه إلى التكليف، كإضافة الزمان و المكان إليه، و لذا نقول: إنّ الشرطيّة و المانعيّة ليس إلّا كذات المقيّد من الأمور الواقعيّة المضافة إلى التكليف، لا أنّها بحقائقها منتزعة عن التكليف، فتدبّر. نعم: في السببيّة لنفس الحكم فانّما هو منتزع عن إناطة شي ء بشي ء، و حينئذ فان كان المنوط به من الأمور الواقعية المضافة إلى التكليف ، لا أنها بحقايقها منتزعة عن التكليف ، فتدبر. نعم : في السببية لنفس الحكم فإنما هو منتزع عن إناطة شيء بشيء ، وحينئذ فان كان المنوط به من الأمور الواقعية كالحرارة بالنسبة إلى النار ، فالسببية أيضا من الأمور الواقعية ، وإن كان من الأمور الجعلية ، فالإناطة المزبورة أيضا مجعولة تبع جعل المنوط ، لا أنه مجعول مستقل ولا أنه منتزع عن نفس التكليف ، إذ مع عدم جعل الشيء منوطا يستحيل انتزاع السببية لشيء له ، كما هو ظاهر. و حيث عرفت أنّ الإناطة تبع اعتباريّة المنوط، فكما أمكن تعلّق الجعل بدوا بالمنوط و كان النّظر في مقام الجعل إلى الإناطة تبعا، كذلك يكون النّظر إلى جعل المنوط تبعا، و بهذه العناية أمكن دعوى جعليّة السبب في الاعتباريّات، و في هذا المقام لا معنى لدعوى واقعيّة السببيّة و عدم قابليّته للجعل و أنّ السببيّة إنّما هو من لوازم الذات، إذ هو أجنبيّ عن السببيّة للأمور الاعتباريّة، كما هو ظاهر.

كلها انتزاعية لا تنالها يد الجعل التأسيسي والامضائي ، لا استقلالا كجعل وجوب ذي المقدمة ، ولا تبعا كجعل وجوب المقدمة.

أما الجزئية والشرطية والمانعية : فواضح أنها من الانتزاعيات ، سواء كان منشأ الانتزاع تكليفا أو وضعا.

فالأول : كالتكليف بعدة من الأمور المتباينة التي يجمعها وحدة الغرض ، فإنه من تعلق التكليف بكل واحد منها وانبساطه عليها تنتزع الجزئية والشرطية والمانعية حسب اختلاف كيفية تعلق التكليف بها ، وبعد انبساط التكليف عليها تنتزع الشرطية والجزئية والمانعية قهرا ، ولا يعقل بعد ذلك جعل شيء آخر جزء أو شرطا للمأمور به أو مانعا عنه ، إلا بنسخ التكليف الأول وإنشاء تكليف آخر يتعلق بما يعم ذلك الشئ.

والثاني : كالملكية المترتبة على العقد المركب من الايجاب والقبول بما له من الشرائط والموانع فإنه بعد ترتب الملكية عليه تنتزع جزئية الايجاب والقبول ، وشرطية القبض في المجلس في بيع الصرف والسلم ، ومانعية زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع المكيل والموزون ، وذلك كله واضح مما لا إشكال فيه ولا خلاف.

وإنما الخلاف وقع في جعل السببية ، فعن بعض : أن السببية بنفسها مما

ص: 393

تنالها يد الجعل ، بل هي المجعولة في باب الوضع والتكاليف وإنما الوضع والتكليف ينتزع عنها ، والمجعول الشرعي تأسيسا أو إمضاء إنما هو سببية العقد للملكية وسببية الدلوك لوجوب الصلاة والاستطاعة لوجوب الحج وغير ذلك من أسباب الوضع وموضوعات التكاليف.

وحكي عن بعض : استقلال كل من السبب والمسبب بالجعل ، فللشارع جعلان : جعل تعلق بسببية العقد والدلوك للملكية ووجوب الصلاة ، وجعل آخر تعلق بالملكية والوجوب عقيب العقد والدلوك. ولا يخفى استحالة ذلك ، فان أحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر ، فيلزم لغوية أحدهما.

بل التحقيق استحالة جعل السببية مطلقا سواء قلنا بجعل المسبب معها أو لم نقل ، وإنما المجعول الشرعي هو نفس المسبب وترتبه على سببه سواء كان المجعول من مقولة الوضع أو التكليف ، وإلا يلزم أن لا يكون الوجوب فعلا اختياريا للشارع بل كان الوجوب وغيره من التكاليف والوضعيات يحصل قهرا بلا إنشاء من الشارع ، فان ترتب المسبب على سببه وحصول المعلول عقيب علته أمر قهري لا يعقل فيه التخلف ولا يمكن أن يدخله الاختيار والإرادة ، فلو كان المجعول هو سببية الدلوك للوجوب لزم عدم كون الوجوب من المنشآت الشرعية ، وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به.

هذا ، مضافا إلى أن السببية لا تقبل الجعل لا تكوينا ولا تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، بل الذي يقبل الجعل هو ذات السبب ووجوده العيني ، وأما السببية فهي من لوازم ذاته ، كزوجية الأربعة ، فان السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب ، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني فضلا عن الجعل التشريعي ، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنما يكون بتكوين الماهية وإفاضة الوجود إلى الذات ، فعلية العلة وسببية السبب - كوجوب الواجب

ص: 394

وإمكان الممكن وامتناع - الممتنع إنما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، فالعلية لا تقبل الايجاد التكويني ، فضلا عن الانشاء التشريعي.

ودعوى : أن الانشاء خفيف المؤنة يمكن إنشاء الممتنعات ، واضحة الفساد ، فإنه ليس الكلام في الانشاء بمعنى حركة اللسان ، بل الكلام في الانشاء الذي يتعقبه وجود المنشأ خارجا في وعاء الاعتبار والتشريع.

وحاصل الكلام : أن السببية لا يمكن أن تكون مجعولة لا تكوينا ولا تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، وإنما هي تنتزع من ذات العلة التكوينية في التكوينات ، ومن ترتب المسبب الشرعي على سببه في التشريعيات ، فمن قول الشارع : « تجب الصلاة عند الدلوك » و « تتحقق الملكية عند العقد » تنتزع سببية الدلوك والعقد للوجوب والملكية.

إزاحة شبهة :

للمحقق الخراساني قدس سره كلام في المقام يظهر منه الخلط بين علل التشريع وموضوعات الاحكام ، فإنه قال قدس سره ما حاصله : إن السببية لا يمكن انتزاعها عن التكليف أو الوضع ، فإنهما متأخران عن وجود السبب بما له من الاجزاء والشرائط والموانع ، بداهة أنه لولا العقد أو الدلوك لا يكاد يتحقق وجوب الصلاة أو الملكية ، لأن المفروض : أن العقد والدلوك سبب لهما ولا يمكن تقدم المسبب على السبب ، فالتكليف أو الوضع المتأخر عن وجوب السبب لا يعقل أن يكون منشأ لانتزاع السببية ، فسببية العقد للملك والدلوك لوجوب الصلاة إنما تنتزع من ذات العقد والدلوك لخصوصية تكوينية في الذات تقتضي السببية ، لما بين السبب والمسبب من ارتباط خاص وعلقة مخصوصة ، وإلا لزم أن يؤثر كل شيء في كل شيء ، فليست السببية مما تنالها يد التشريع

ص: 395

لا استقلالا ولا تبعا ، أي لا تكون بنفسها من المجعولات الشرعية ولا منتزعة عن المجعول الشرعي ، بل هي مجعولة تكوينا بتبع جعل الذات ، وكذا جزء السبب وشرطه ومانعه ، فان جزئية شيء للسبب أو شرطيته أو مانعيته تتبع نفس المركب. نعم : جزئية شيء لمتعلق التكليف أو شرطيته أو مانعيته إنما تنتزع من تعلق التكليف بعدة أمور متباينة بالذات يقوم بها غرض واحد ، ففرق بين الجزئية والشرطية والمانعية في باب متعلقات التكاليف وفي باب الأسباب بعد اشتراك الجميع في كونها غير مجعولة بالأصالة ، إلا أنها في الأول تنتزع من تشريع التكليف بالمركب ، وفي الثاني تنتزع من تكوين السبب المركب. هذا حاصل ما أفاده قدس سره في المقام.

ولا يخفى ضعفه ، فإنه لا ننكر أن في الدلوك والعقد خصوصية ذاتية تكوينية اقتضت تشريع الوجوب وإمضاء الملكية ، إلا أن تلك الخصوصية إنما تكون سببا لنفس التشريع والامضاء لان لا يخلو التشريع والامضاء عن الداعي الذي يتوقف عليه كل فعل اختياري ، ولكن هذا ليس محل الكلام في المقام (1) بل

ص: 396


1- أقول : لو ترى عبارة الكفاية ترى صريحا في أن همه إنكار جعل السببية بمعنى التأثير والتأثر لشيء وأن عنوان الدلوك وعدم جعلية شرطيته بنحو الفرض وأنه لو كان شرطا حقيقيا يستحيل الجعل ، لأنه إما واجد لملاك الشرطية الواقعية أو فاقد وعلى أي تقدير : لا معنى لجعل سببيته ، كما أنه لو كان الغرض من انتزاع السببية بملاحظة إناطة الوجوب به في الخطاب فهو ليس بسبب حقيقي ، فحينئذ من أين استفاد الخلط المزبور من كلامه؟ نعم : لو جعل محط البحث مثل العلم بالمصلحة للإرادة أو لجعل الوجوب صح حينئذ دعوى خلط البحث في شرطية شيء للوجوب الواقع في حيز الخطاب وشرطية شيء لأصل الجعل الذي هو أمر واقعي محض ، بلا تصور جعل أو انتزاع عن المجعول في مثله. ولكن صريح كلامه جعل محط البحث مثل دلوك الشمس الواقع في حيز الخطاب ، غاية الامر أنكر في حقه حقيقة الشرطية والسببية حسب مختاره بأن حقيقة السببية لابد وأن يكون لخصوصية واقعية ، وأتم مدعاه بأنه لو كان كذا لكان كذا ، كما بينا ، وادعى صريحا بأن السببية المنتزعة له من إناطة الوجوب به في حيز الخطاب ادعائي لا حقيقي ، وهذا المقدار أيضا مما التزمت به في الورق السابق ، فراجع. وليست شعري! على م هذا الرد والايراد ، بحيث جعل له عنوان مخصوص مع لسان الجسارة عليه ، وكم له من نظير! اللّهم احفظنا!.

محل الكلام إنما هو في سبب المجعول والممضى وهو نفس الوجوب والملكية ، ومن المعلوم : أن سببية الدلوك والعقد للوجوب والملكية إنما تنتزع من ترتب الوجوب والملكية على الدلوك والعقد ، إذ لولا أخذ الدلوك والعقد موضوعا للوجوب والملكية لم يكن الدلوك والعقد سببا لهما.

وبالجملة : دواعي الجعل غير موضوعات التكاليف ، فان دواعي الجعل متأخرة في الوجود عن المجعول متقدمة عنه في اللحاظ.

وأما موضوعات التكاليف : فهي متقدمة عنها في الوجود ، لان نسبة الموضوع إلى التكليف نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يمكن أن يتقدم الحكم عما اخذ موضوعا له ، وإلا يلزم الخلف والمناقضة ، فالخصوصية التي تكون في موضوع التكليف والوضع إنما تكون من علل التشريع ودواعي الجعل ، وهي كما أفاده من الأمور الواقعية التكوينية التي لا تنالها يد الجعل التشريعي لا استقلالا ولا إمضاء ، لا أصالة ولا تبعا ، ولا يمكن انتزاعها عن التكليف الذي كان انشائه بلحاظها ، إلا أن ذلك كله خارج عن محل الكلام ، لما عرفت : من أن محل الكلام إنما هو في موضوع التكليف والوضع ، وسببيته إنما تنتزع من ترتب التكليف والوضع عليه.

وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين علل التشريع وموضوعات التكاليف وبين كون المجعولات الشرعية من القضايا الخارجية الجزئية أو كونها من القضايا الحقيقة الكلية ، فإنه بناء على أن تكون الاحكام من القضايا الشخصية تخرج عن حريم النزاع في المقام ، فإنه ليس في البين سببية ولا مسببية ، بل المجعول الشرعي إنما يكون حكما خاصا لشخص خاص ، فليس هناك موضوع اخذ مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه حتى ينازع في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم أو سببية الموضوع له؟ وقد استقصينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في الجزء الأول من الكتاب عند البحث عن

ص: 397

الواجب المشروط ، فراجع وتأمل جيدا.

تتمة :
اشارة

قد عد من الأحكام الوضعية الصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، والرخصة والعزيمة.

أما الصحة والفساد : فعدهما من الأحكام الوضعية إنما يستقيم على أحد المعنيين للصحة والفساد لا مطلقا. وتوضيح ذلك : هو أنه

تارة : يراد من الصحيح كون الشيء واجدا للخصوصية التي ينبغي أن يكون واجدا لها بحسب طبعه (1) كما يقال : إن هذا البطيخ أو الخل صحيح ، أي كون واجدا للخصوصية التي يقتضيها طبع البطيخ والخل ، ويقابله الفاسد وهو الفاقد لتلك الخصوصية. وكذا يقال : إن هذه الصلاة صحيحة ، أي كونها واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون الصلاة واجدة لها : من الملاك والمصلحة القائمة بها ، ويقابلها الفاسدة وهي كون الصلاة فاقدة لتلك الخصوصية.

والصحة والفساد بهذا المعنى إنما ينتزعان عن مقام الذات قبل تعلق الامر بها ، وتكون تلك الخصوصية منشأ لتعلق الامر بالذات ، كالخصوصية القائمة

ص: 398


1- أقول : لا نعني من الصحة إلا تمامية الشيء بلحاظ الجهة المرغوبة الشيء ، فهذه الجهة المرغوبة تارة من الأمور الواقعية ، وأخرى من الأمور الجعلية ، فالتمامية بلحاظ الجهة الأولى ليس إلا من الأمور الواقعية. وأما التمامية بلحاظ الجهة الثانية فلا يكون منتزعا إلا من هذه الجهة ، لأنه لو لم يكن تلك لا مجال لانتزاع تمامية الشيء من هذه الجهة. ثمّ إنّ هذه الجهة تارة يراد منه التكليف أو الوضع في أبواب المعاملات، و أخرى يراد منه جهة مسقطيّة القضاء و الإعادة الّذي هو يلازم الاجزاء، و هذه الجهة أيضا لمّا كان دائر مدار الوفاء بالغرض في الجملة أو تفويته، فلا يكون إلّا من الأمور الواقعيّة، كما لا يخفى. و بالجملة نقول: إنّ انتزاعيّة الصحّة و واقعيّته تابع جعليّة الجهة الملحوظة في التماميّة و عدمه، كما هو ظاهر، و حينئذ فمنع انتزاعيّة الصحّة مطلقا لا وجه له، كما هو واضح، فتدبّر.

بذات السبب ، وعلى هذا تكون الصحة من الدواعي وعلل التشريع غير منتزعة عن التكليف المتأخر عنها. ولعل المراد من الفاسد في قوله علیه السلام في صحيحة ابن بكير « فالصلاة في شعره ووبره وصوفه وروثه وألبانه وكل شيء منه فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة » الخبر (1) هو هذا المعنى ، فيكون المراد من فساد الصلاة : هو أن الصلاة في الوبر والصوف ونحوه لا تكون واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون عليها وفاقدة للملاك والمصلحة التي اقتضت الامر بالصلاة. وعلى كل حال : الصحة والفساد بهذا المعنى ليسا من الأحكام الوضعية الشرعية ، بل هما من الأمور المجعولة بتبع جعل الذات تكوينا.

وأخرى : يراد من الصحيح كون الشيء موافقا لما تعلق به التكليف أو الاعتبار ، فيقال : إن هذه الصلاة صحيحة أي كونها موافقة للمأمور به ، وهذا العقد صحيح أي كونه موافقا لما اعتبر في موضوع الملكية ، ويقابله الفاسد وهو عدم كونه موافقا للمأمور به أو لموضوع الامر الاعتباري. وهذا المعنى من الصحة والفساد هو الذي ينبغي البحث عنه في كونه من الأحكام الوضعية الشرعية أولا.

وعلى تقدير أن يكون من الأحكام الوضعية ، فهل هو متأصل بالجعل تأسيسا أو إمضاء؟ أو أنه منتزع عن الوضع والتكليف؟ فقد يقال بل قيل : بالتفصيل بين الصحة والفساد في باب المعاملات وفي باب العبادات ، ففي الأول : تكون الصحة والفساد حكمين مجعولين شرعيين ، وفي الثاني : يكونان منتزعين. بل قد قيل : بالتفصيل في خصوص العبادات أيضا ، فالصحة والفساد اللاحقان للعبادة باعتبار الامر الواقعي - أي كونها موافقة للامر الواقعي ومخالفة له - يكونان انتزاعيين ، والصحة والفساد اللاحقان لها باعتبار الامر الظاهري

ص: 399


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب لباس المصلي الحديث 1.

- من حيث كونه مجزيا عن الواقع أو غير مجز - يكونان متأصلين في الجعل.

وهذا التفصيل إنما نشأ من توهم أن إجزاء الامر الظاهري وعدمه عبارة عن الصحة والفساد ، كما أن التفصيل بين العبادات والمعاملات إنما نشأ من توهم أن إمضاء المعاملة عبارة عن الحكم بصحتها.

هذا ، ولكن التحقيق : أن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بل في بعض الموارد يمكن منع كونهما منتزعين عن المجعول الشرعي ، فضلا عن تأصلهما بالجعل.

وتوضيح ذلك : هو أن الصحة والفساد - بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي أو الظاهري - إنما ينتزعان من نفس فعل المكلف ، فان كان مطابقا للمأمور به ينتزع عنه الصحة ، وإن كان مخالفا ينتزع عنه الفساد ، ولا ينتزعان من نفس التكليف بالفعل حتى يكون منشأ الانتزاع مجعولا شرعيا ، وكذا الكلام في الصحة والفساد بمعنى مطابقة المأتي به خارجا لما هو سبب الحكم الوضعي : من العقد والايقاع وما يلحق بهما.

نعم : يصح بنحو من العناية والتوسعة القول بكونهما منتزعين عن المجعول الشرعي ، باعتبار أن المطابقة وعدمها إنما تلاحظان بالنسبة إلى متعلق التكليف والوضع.

وأما الصحة والفساد في الامر الظاهري باعتبار الاجزاء وعدمه : فليس الاجزاء وعدمه عبارة عن الصحة والفساد ، بل قد عرفت في بعض الأمور السابقة : أن الاجزاء في الموارد التي قام الدليل عليه يرجع إما إلى التصرف في الواقع بوجه وإما إلى الاكتفاء بما يقع امتثالا للواقع ، وعلى كلا التقديرين : يلزمه الصحة ، وليست هي عين المجعول الشرعي ، فالصحة والفساد ليسا من المجعولات بالأصالة ، بل إما أن يكونا منتزعين عن المجعول الشرعي ، وإما أن يكونا منتزعين عن غيره ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في مبحث النهي عن

ص: 400

العبادة في الجزء الثاني من الكتاب.

وأما الطهارة والنجاسة : فقد جعلهما الشيخ قدس سره من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع جريا على مبناه : من أن الأحكام الوضعية لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فهي بين ما تكون منتزعة عن التكليف كالملكية والزوجية ونحو ذلك ، وبين ما تكون من الأمور الواقعية كالطهارة والنجاسة.

ويا ليت! بين مراده من ذلك ، فإنه إن كان المقصود أن حكم الشارع بطهارة بعض الأشياء ونجاسة آخر إنما هو لأجل اشتمال الطاهر والنجس على النظافة والقذارة المعنوية ، فهذا لا يختص بباب الطهارة والنجاسة ، بل جميع موضوعات التكاليف ومتعلقات الأحكام الشرعية تشتمل على خصوصية واقعية حكم الشارع على طبقها ، فان الواجبات الشرعية كلها ألطاف في الواجبات العقلية. وإن كان المقصود أن أصل الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية الخارجية ، فهذا مما لا سبيل إلى دعواه ، بداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الأمور الاعتبارية العرفية (1) لا يخفى ما في العبارة من الخلط، و الصحيح «بادّعاء ما يراه العرف طاهرا في مورد نجسا» (المصحّح).(2) كما يشاهد أن العرف والعقلاء يستقذرون عن بعض الأشياء ولا يستقذرون عن بعضها ، غايته أن

ص: 401


1- أقول : لا إشكال ظاهرا في أن النظافة والقذارة العرفية المحسوسة من الواقعيات وغير مرتبط بعالم الجعل والاعتبار ، وإنما الكلام فيهما شرعا بحيث لم يكن في البين جهة محسوسة عرفية ، بل ربما تكون الحكم الشرعي. عكس ما هو محكوم عند العرف بالطهارة والنجاسة ، ولا يبعد دعوى كونهما من الاعتباريات الجعلية بادعاء ما يراه العرف طاهرا في مورد وما يراه العرف نجسا في مورد
2- وإن لم يكن كذلك في نظرهم خارجا ، إذ من الممكن دعوى أن حكم الشارع بالنجاسة بمناط لو يرى العرف هذا المناط ليجرون أحكام نجسهم عليه ، وهكذا بالعكس. فتدبر فيه ترى هذا المناط مصحح هذا الادعاء والجعل لا عين الطهارة الشرعية ونجاستها كي يكونا من الواقعيات التي كشف عنها الشارع ، كما توهم ، فافهم.

الشارع قد أضاف إلى ما بيد العرف بعض المصاديق - كنجاسة الخمر - مع أنه مما لا يستقذر منه العرف ، إلا أن هذا لا يقتضي عدم كون الطهارة والنجاسة من الأمور الاعتبارية العرفية ، فان الشارع كثيرا ما يخطئ العرف في المصداق مع كون المفهوم عرفيا.

وبالجملة : بعد لم يظهر لنا فرق بين الطهارة والنجاسة وبين الملكية والزوجية ، فان في باب الطهارة والنجاسة أمور ثلاثة : الأول : مفهوم الطهارة والنجاسة. الثاني : ما ينطبق عليه المفهوم وما هو المعروض للطهارة والنجاسة ، كالمؤمن والكافر والبول والماء. الثالث : حكم الشارع بجواز استعمال الطاهر وحرمة استعمال النجس (1).

أما الأول : فهو كسائر المفاهيم العرفية والاعتبارات العقلائية ، كالملكية والزوجية والرقية.

وأما الثاني : فهو عبارة عن المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم ، كمصاديق الملكية والزوجية ، غايته أن تطبيق المفهوم على المصداق تارة : مما يدركه العرف ، وأخرى لا يدركه إلا العالم بالواقعيات ، كما إذا لم يدرك العرف أن العقد الكذائي يكون سببا للملكية ، إلا أن الشارع يرى تحقق الملكية عقيب العقد ، فتكون الملكية الحاصلة عقيب ذلك العقد من مصاديق الملكية الاعتبارية العرفية.

وأما الثالث : فحكم الشارع بجواز استعمال الطاهر وحرمة استعمال النجس ليس إلا كحكمه بجواز التصرف في الملك وحرمة أكل المال بالباطل.

فظهر : أنه لا فرق بين الطهارة والنجاسة وبين سائر الاعتبارات العرفية. فالأقوى : أن الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعية وليسا من الأمور

ص: 402


1- أقول : ينبغي أن يتصور معنى رابعا ، وهو ما ينتزع عنه هذا المفهوم ويعبر عنه بحقيقته الموجودة في ضمن أفراده وما ينطبق عليه ، وأظن خلط المقرر أحدهما بالآخر ، كما يظهر من بياناته ، فتدبر.

الواقعية (1).

وأما الرخصة والعزيمة : فعدهما من الأحكام الوضعية لا يخلو عن خفاء ، فان الرخصة والعزيمة - بمعنى السقوط على وجه التسهيل والسقوط على وجه الحتم والالزام كما هو الشايع في الاستعمال ، أو بمعنى المشروعية وعدم المشروعية كما حكي استعمال الرخصة والعزيمة في ذلك نادرا - ليسا من الأحكام الوضعية ، بل هما أمس إلى الأحكام التكليفية من الأحكام الوضعية.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالأحكام الوضعية. وينبغي عطف عنان الكلام إلى البحث عن تنبيهات الاستصحاب. وقدت ذكر الشيخ قدس سره من التنبيهات اثنى عشر فأضاف إليها المحقق الخراساني رحمه اللّه تنبيهين آخرين ، فصارت التنبيهات أربعة عشر.

- التنبيه الأول -

هو أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك ، وقد تقدم الكلام في ذلك فيما سبق ، فلا موجب لإعادته.

- التنبيه الثاني -
اشارة

لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب محرزا باليقين الوجداني أو بغيره من الطرق والامارات والأصول المحرزة ، فان المراد من « اليقين » في أخبار الاستصحاب ليس هو اليقين الوجداني ، بل كل ما يكون محرزا للمستصحب بأحد وجوه الاحراز : من اليقين الوجداني أو ما هو

ص: 403


1- إلا أن يقال : إن قول الشارع : « الخمر نجس » كقوله : « الخمر مسكر والسم قاتل » إنما يكون إخبارا عن نجاسة الخمر كإخباره عن إسكاره ، وليس قوله ذلك تشريعا لنجاسته تأسيسا أو إمضاء ، فتأمل ( منه ).

بمنزلته (1) بناء على ما هو الحق عندنا : من قيام الطرق والأصول المحرزة مقام القطع الطريقي.

ولا ينبغي أن يتوهم أن اليقين في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لوحظ من حيث كونه صفة قائمة في النفس ، بل إما أن يكون ملحوظا من حيث كونه طريقا وكاشفا عن المتيقن ، وإما من حيث كونه موجبا لتنجيز الاحكام عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة - على ما تقدم سابقا من أنه يمكن أخذ العلم موضوعا من حيث اقتضائه التنجيز والمعذورية - فعلى الأول : تقوم الطرق والأصول المحرزة مقامه ، وعلى الثاني : تقوم مطلق الأصول ولو كانت غير محرزة مقامه (2) بالبيان المتقدم في بعض الأمور السابقة.

فلو قام طريق أو أمارة على ثبوت حكم أو موضوع ذي حكم ثم شك في بقاء الحكم أو الموضوع الذي أدت إليه الامارة والطريق ، فلا مانع من استصحاب بقاء مؤدى الامارة والطريق ، لان المستصحب قد أحرز بقيام الامارة عليه ، خصوصا بناء على ما هو الحق عندنا : من أن المجعول في باب الطرق والامارات هو نفس الطريقية والاحراز والوسطية في الاثبات - على ما تقدم بيانه في مبحث الظن - فيكون المستصحب محرزا بأدلة حجية الامارات ، وهذا مما لا ينبغي الاشكال فيه.

نعم : ربما يستشكل في استصحاب مؤدى الاستصحاب ( أي استصحاب

ص: 404


1- أقول : الأولى أن يقال : إن المراد من اليقين المنقوض والناقض في باب الاستصحاب هو اليقين الوجداني ، كحيوة زيد في كبرى دخلها في حرمة زوجته وتقسيم أمواله ، وإنما يوسع هذا اليقين بعناية التنزيل وتتميم الكشف في باب الامارات بلسان الحكومة ، كما يوسع دائرة الحياة بالامارة أو الأصل المحرز لها ، وإلا فلو كان المراد من اليقين في المقام مطلق الاحراز يلزم ورود الامارة عليه لا حكومته ، ولا أظن التزامه به ، فتدبر.
2- أقول : قد تقدم منا الاشكال في هذه الصورة سابقا ، فراجع.

ما كان محرزا بالاستصحاب ) إذا شك في بقاء المستصحب ، كما إذا كان الشيء مستصحب الطهارة أو النجاسة ثم شك في بقاء الطهارة أو النجاسة ، ففي جريان استصحاب الطهارة أو النجاسة المستصحبة إشكال.

وأشكل من ذلك استصحاب مؤدى الأصول الغير المحرزة ، بناء على كون « اليقين » مأخوذا على وجه التنجيز والمعذورية ، لكي تقوم الأصول الغير المحرزة مقامه ، كما إذا كانت طهارة الشيء أو حليته أو حرمته مؤدى أصالة الطهارة والحل والحرمة ثم شك في بقاء مؤدى هذه الأصول لاحتمال طرو ما يوجب النجاسة والحرمة والحلية ، فاستصحاب بقاء مؤدى هذه الأصول أشكل من استصحاب بقاء مؤدى الاستصحاب.

ومنشأ الإشكال : هو أن المجعول في الأصول المحرزة وغير المحرزة بنفسه يستمر إلى انكشاف الخلاف والعلم بضد المؤدى أو نقيضه ، فان العلم بالخلاف إنما اخذ غاية لمطلق الأصول ، فالشك في بقاء مؤدى الأصل قد ألغاه الشارع بنفس التعبد بالأصل ولا معنى لاستصحابه.

وبعبارة أوضح : استصحاب الحكم أو الموضوع يقتضي الجري العملي وترتيب آثار بقاء الحكم أو الموضوع إلى زمان العلم بالخلاف ، فإذا استصحب الحكم أو الموضوع في زمان ثم شك في بقاء الحكم أو الموضوع المستصحب ، فالتعبد ببقاء المستصحب في زمان الشك قد ثبت من الزمان السابق وهو زمان جريان الاستصحاب ، لان الحكم الاستصحابي كان غايته العلم بانتقاض الحالة السابقة ، فلا معنى للتعبد باستصحاب بقاء المستصحب ثانيا.

وإن شئت قلت : إنه في كل آن يشك في بقاء الحكم أو الموضوع يجري استصحاب بقاء نفس الحكم أو الموضوع ، وهذا غير استصحاب المستصحب. هذا في استصحاب مؤدى الاستصحاب.

وأما استصحاب مؤدى الأصول الغير المحرزة : فعدم جريان الاستصحاب فيه

ص: 405

أوضح ، فان مؤدى أصالة الطهارة والحل والحرمة ليس إلا البناء على طهارة الشيء وحليته وحرمته مع الشك فيها ، وهذا المعنى لا يمكن استصحابه ، فإنه إن أريد استصحاب الطهارة والحلية والحرمة الواقعية فهي ليست مؤدى هذه الأصول ، لأنها لا تثبت المؤدى واقعا. وإن أريد استصحاب الطهارة الظاهرية فموضوعها نفس الشك في الطهارة ولا يمكن استصحاب الأثر المترتب على نفس الشك ، فإنه لا معنى لاحراز ما هو محرز بالوجدان أو بالتعبد. وإن شئت قلت أيضا : إنه في كل زمان يشك في الطهارة والحلية والحرمة فأصالة الطهارة والحل والحرمة تجري ولا تصل النوبة إلى استصحابها ، وهذا لا ينافي حكومة الاستصحاب على هذه الأصول ، فان حكومة الاستصحاب فرع جريانه ، والمدعى في المقام أنه لا يجري لأنه لا أثر له.

هذا ، ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : بجريان الاستصحاب في مؤديات الأصول كجريانه في مؤديات الطرق والامارات ، بتقريب : أن الاستصحاب إنما هو الحكم بعدم انتقاض ما ثبت بالشك في بقائه ، سواء كان ثبوته بالعلم أو بالامارة أو بالأصل.

وعلى كل حال : لو فرض أنه منعنا عن جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول ، فليس ذلك لأجل عدم اليقين بثبوت المستصحب ، لما عرفت : من أن المراد من « اليقين » هو مطلق الاحراز ، بل مطلق ما يوجب التنجيز والمعذورية ، سواء كان الموجب لذلك هو العلم الوجداني أو الامارة أو الأصل ، لاشتراك الجميع في أنها توجب الاحراز وتقتضي التنجيز والمعذورية ، فالمنع عن جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول إنما هو لجهة أخرى غير جهة عدم اليقين بثبوت المستصحب ، فلو استشكل في جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول ، فلا ينبغي الاشكال في جريانه في مؤديات الطرق والامارات ، لان ثبوت الشيء بالامارة كثبوته بالعلم قابل للتعبد ببقائه عند الشك ، فيندرج في قوله

ص: 406

علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وذلك واضح لا مجال للتأمل فيه.

دفع وهم :

للمحقق الخراساني قدس سره كلام في هذا المقام ، هو بمكان من الغرابة!! فإنه قال قدس سره « الثاني : أنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء الشيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته فيما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال ، من عدم إحراز الثبوت فلا يقين ولابد منه بل ولا شك فإنه على تقدير لم يثبت ، ومن أن اعتبار » إلى أن قال : « وهذا هو الأظهر وبه يمكن أن يذب عما في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات المعتبرة على مجرد ثبوتها وقد شك في بقاءها على تقدير ثبوتها من الاشكال » إلى آخر ما أفاده.

وغرضه من عقد النبيه الثاني هو دفع ما تخيله من الاشكال في استصحاب مؤديات الطرق والامارات : من أن قيام الامارة على شيء لا يوجب اليقين بثبوته ، فكيف يجري الاستصحاب عند الشك في بقائه؟ مع أنه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالثبوت ، بل يمكن أن يقال : إن الشك في البقاء أيضا لا يتحقق في مؤديات الطرق والامارات ، فان الشك في البقاء فرع العلم بالثبوت ، فالشك في البقاء يكون تقديريا لا فعليا ، فيختل كلا ركني الاستصحاب : من اليقين السابق والشك اللاحق. وقد بنى هذا الاشكال على ما هو التحقيق عنده : من أن المجعول في باب الطرق والامارات نفس التنجيز والعذر بلا إنشاء حكم على طبق المؤدى.

هذا حاصل ما أفاده في الكفاية ، وله قدس سره حاشية في هذا المقام يوجه بها جريان الاستصحاب إذا قلنا بانشاء أحكام فعلية ظاهرية على طبق مؤديات الطرق والامارات ، وقد نسب ذلك إلى المشهور ، واستظهره من قولهم : « إن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم » فراجع ما ذكره في الحاشية.

ص: 407

ثم إنه دفع الاشكال بما حاصله ( بتحرير منا ) أن الاستصحاب لا يتوقف على ثبوت المستصحب ، بل يكفي في الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، بمعنى أن الاستصحاب إنما هو حكم مجعول في مرحلة بقاء الشيء لا في مرحلة الثبوت ، ولذا لو لم يكن لثبوت الشيء أثر شرعي وكان لبقائه أثر شرعي فالاستصحاب يجري ويترتب عليه آثار البقاء ، فحقيقة الاستصحاب إنما هو التعبد بالبقاء على تقدير الثبوت ، أي جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه ، وجعل الملازمة لا يتوقف على ثبوت المتلازمين ، فلا مانع من التعبد ببقاء الشيء على تقدير الثبوت ، وحينئذ قيام الامارة على ثبوت شيء وإن لم يلازم الثبوت ولا إحرازه - لاحتمال مخالفة الامارة للواقع - إلا أن بقاء مؤدى الامارة على تقدير الثبوت ومصادفتها للواقع قابل للتعبد به (1) فيجب

ص: 408


1- أقول : بعد فرض تعلق حرمة النقض بالمتيقن تصير هذه الحرمة من آثار وجو الشيء واقعا ، فمع الشك به يشك في هذه الحرمة أيضا ، فكيف يصح تطبيق الاستصحاب في المورد بل الدليل على وجوده المشكوك هو البينة مثلا أو مثل إيجاب الاحتياط ، ولذا أفاد استاذنا بأن الحجة على الملزوم حجة على اللازم ، فالمحرك الفعلي هو البينة على حرمة النقض لا نفس الحرمة. وحينئذ الأولى أن يرد عليه بأن في مورد « قاعدة التجاوز » إذا أحرز الحالة السابقة بالبينة فمن حيث الشك ببقاء الحالة السابقة - باحتمال تطهير جديد - كان قاعدة التجاوز في عرض الاستصحاب ومخصص له أو حاكم عليه ، وأما من حيث عدم طرو النجاسة من الأول فالقاعدة لا يكون معارضا للاستصحاب ، لعدم نظر منه إليه ، بل المعارض لها نفس البينة على النجاسة ، وحيث فرضنا أن دليل البينة غير ناظر إلى رفع الشك بل كان مفاده جعل الحجية في ظرف الشك بالواقع بلا تتميم كشف ، فقهرا يعارض القاعدة مع البينة فيتساقطان ، فضلا عما لو قلنا بحكومة البينة بتتميم كشفه ولو من حيث المنجزية لا من سائر الآثار ، وفي مثله لا مجال لدعوى تقديم القاعدة لعدم المورد ، إذ المورد ، إذ يبقى موارد الاستصحاب المحرز للحالة السابقة باليقين تحته ، لو لم نقل بحكومتها على مثل هذا الاستصحاب ، وإلا فالامر أظهر ، ولازمه حينئذ عدم جريان قاعدة التجاوز أو الفراغ في مورد أحرزت الحالة السابقة بالبينة وغيرها من سائر الطرق ، ودون التزامه خرط القتاد! فذلك يكشف عن بطلان أساس جعل الحجية في البينة بلا لسان تنزيل في البين. ثم لو اغمض عن هذا الاشكال لا يبقى مجال لما أورد عليه من الاشكال ، كما هو واضح.

ترتيب آثار البقاء بمقتضى الاستصحاب ، كما وجب ترتيب آثار الثبوت بقيام الامارة عليه.

هذا حاصل ما أفاده في الذب عن الاشكال المتوهم في استصحاب مؤديات الطرق والامارات.

ولكن قد عرفت : أنه لا إشكال حتى نحتاج إلى الذب عنه (1) فان منشأ الاشكال هو تخيل عدم قيام الطرق والامارات مقام القطع الطريقي ، بتوهم : أن المجعول فيها نفس المنجزية والمعذورية لا الاحراز والوسطية في الاثبات ، وقد أثبتنا في محله : أنه لا يعقل جعل التنجيز والمعذورية ، بل التنجيز والمعذورية تدور مدار وصول التكاليف وعدمها ، فإذا كان التكليف واصلا إلى المكلف إما بنفسه وإما بطريقه فلا يمكن أن لا يكون منجزا ، وإن لم يكن واصلا فلا يمكن أن لا يكون المكلف معذورا ، فالتنجيز والمعذورية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، بل هي من اللوازم والخواص العقلية المترتبة على وصول التكليف وعدمه ، فالطرق والامارات إنما توجب التنجيز والمعذورية لمكان أنها توجب وصول التكاليف ، فان المجعول فيها هو الاحراز والوسطية في الاثبات - على ما أوضحناه بمالا مزيد عليه في محله - فتكون حال الامارات حال العلم في صورة المصادفة والمخالفة ، وحينئذ يكون المؤدى محرزا ويجري فيه الاستصحاب عند الشك في بقائه كما لو كان محرزا بالعلم الوجداني ، بلا إشكال فيه أصلا.

ص: 409


1- أقول : التنجيز والمعذرية وإن لم يقعا تحت الجعل بلا واسطة ولا يقول به أيضا استاذنا ، وإنما نظره إلى كون الحجية أيضا كالملكية من الأمور الاعتبارية الجعلية. ومع الغمض عن إشكال هذه الجهة من حيث أخرى نقول : لا مجال لدعوى تبعية التنجز والمعذرية للوصول ، إذ الغرض من الوصول بالطريق وصول حجية الشيء ، فهو حاصل في الحجج الجعلية ، وإن كان المراد وصول الواقع. ولو بالوصول التعبدي - فيلزمه عدم منجزية غير الامارات والأصول المحرزة ، وحينئذ فأين أصل غير محرز يوجب التنجز أو العذر؟ كي تقوم مقام العلم بهذا الاعتبار ، كما اعترف في أول التنبيه ، فراجع.

نعم : بناء على مسلكه : من عدم قيام الطرق والامارات مقام القطع الطريقي يتوجه إشكال جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والامارات ، فان المؤدى لا يكون محرزا ، فكيف يجري فيه الاستصحاب؟.

ولا يخفى : أنه على هذا لا يمكن الذب عن الاشكال ، بل لا محيص عن القول بعدم جريان الاستصحاب فيما إذا لم يكن المستصحب محرزا بالوجدان ، وما دفع به الاشكال لا يحسم مادته ، بداهة أن حقيقة الاستصحاب وإن كان هو التعبد بالبقاء ، إلا أن التعبد إنما هو ببقاء ما ثبت عند الشك فيه ، ولا معنى للتعبد بالبقاء على تقدير الثبوت (1) فان الملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، بل الذي يقبل الجعل الشرعي هو التعبد بوجود شيء على تقدير آخر ، فينتزع من ذلك السببية والملازمة.

وبالجملة : يتوقف الاستصحاب على إحراز الحدوث ليصح التعبد ببقاء الحادث عند الشك في بقائه ، ولا معنى للتعبد ببقاء ما شك في حدوثه ، إلا أن

ص: 410


1- أقول : مع الغض عن ألف إشكال عليه قدس سره لا يكاد يرد عليه هذا الاشكال ، إذ الاستصحاب بعدما كان شأنه إثبات البقاء التعبدي للواقع وأن توجه النقض إلى اليقين بملاحظة مرآتيته للمتيقن وأنه عبرة لايصال النقض إلى الواقع ، كما هو مرام من عرفه بابقاء ما كان ، فقهرا يصير البقاء التعبدي من آثرا الواقع ، وأن الملازمة بينهما كملازمة كل حكم لموضوعه مجعولة بعين جعل الحكم لموضوعه ، وحينئذ فالامارة على الموضوع أمارة على لازمه الشرعي من الابقاء التعبدي ، فأستاذنا على مبناه أجاد فيما أفاد وأتى بما فوق المراد! وما قيل : من توقف الاستصحاب على إحراز المستصحب صحيح ، كيف؟ ومع عدم الاحراز رأسا لا ينتهي للأحكام التعبدية الجارية في مقام العمل ، ولكن إنما يصح لو لم ينته أمره إلى الاحراز ، وإلا مع انتهاء أمره إلى إحراز صغراه أحيانا فلا قصور في صحة هذا التعبد ، كما هو الشأن في التعبد بجميع الطرق المنوط صحتها على إحراز الطريق لدى المكلف فالقضية بأن البينة حجة وخبر الواحد حجة - بنحو القضية الحقيقية - لا يقتضي إلا إناطة فعلية التعبد بوجود البينة والخبر واقعا الغير المنفك كثيرا ما مع عدم العلم بوجودهما أحيانا ، غاية الامر عند العلم بالصغرى يصير التعبد المزبور محركا للعمل وخارجا عن اللغوية ، فما هو لغو التعبد بشيء لا ينتهي إلى إحراز صغراه أصلا ، وأين هذا ومقامنا؟ كما لا يخفى.

يرد التعبد أولا بالحدوث ليكون الحدوث محرزا بوجه ثم يرد التعبد بالبقاء.

وفي كلامه قدس سره في المقام متنا وهامشا مواقع للنظر ، خصوصا فيما نسبه إلى المشهور : من التزامهم بانشاء أحكام ظاهرية في مؤديات الطرق والامارات ، واستظهر ذلك من قولهم : « ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم » فان الالتزام بذلك يرجع إلى السببية في الطرق والامارات (1) وهو قدس سره سلم في مبحث الاجتهاد والتقليد أن هذا من فروع السببية والطريقية ، فكيف ينسب إلى المشهور؟ مع أن القول بالسببية شاذ نادر.

فالانصاف : أن التنبيه الثاني الذي عقده في الكفاية مع ما علق عليه في الهامش صدرا وذيلا مما لا يمكن المساعدة عليه (2) فتأمل جيدا.

- التنبيه الثالث -
اشارة

المستصحب ، إما أن يكون كليا ، وإما أن يكون شخصيا. والشخصي ، إما أن يكون معينا ، وإما أن يكون مرددا بين فردين أو أفراد من طبيعة واحدة أو من طبيعتين أو طبايع. ولا إشكال في صحة استصحاب الشخصي المعين ، كما لا إشكال في استصحاب الفرد المردد عند الشك في بقائه إذا لم يكن منشأ الشك في البقاء ارتفاع أحد فردي الترديد وخروجه عن مورد الابتلاء ، وإلا فلا يجري استصحاب الفرد المردد ، فان استصحاب الفرد المردد معناه بقاء الفرد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو ترتيب آثار بقاء كل من الفردين ، وهذا ينافي العلم بارتفاع أحد الفردين ، وقدم تقدم تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه

ص: 411


1- أقول : مراده من إنشاء الاحكام إنشاء أحكام طرقية لا نفسية حقيقية ، والتصويب من تبعات الثاني ، لا الأول.
2- أقول : كل على مبناه ، وهو على مبناه في غاية المتانة.

في مبحث الاشتغال (1) هذا كله في استصحاب الفرد الشخصي.

وأما استصحاب الكلي : فهو على أقسام ثلاثة :
الأول :

استصحاب الكلي المتحقق في ضمن الفرد المعين أو الفرد المردد ، فان العلم بوجود الفرد يلازم العلم بوجود الكلي في ضمنه ، كما أن الشك في بقاء الفرد يلازم الشك في بقاء الكلي ، فيصح استصحاب كل من الفرد والكلي ، ويترتب عليه آثار كل منهما إن كان لكل منهما أثر خاص ، فلو علم بوجود زيد في الدار وشك في بقائه فها ، فكما يجوز استصحاب بقاء زيد في الدار كذلك يجوز استصحاب بقاء الانسان فيها ، وهذا مما لا إشكال فيه.

القسم الثاني :

استصحاب الكلي المتيقن وجوده في ضمن أحد الفردين عند العلم بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر ، كما في جميع موارد العلم الاجمالي بوجود أحد الشيئين مع خروج أحدهما عن مورد الابتلاء بتلف ونحوه ، كما إذا علم المكلف بوجوب إحدى الصلاتين من الظهر أو الجمعة وقد صلى الظهر ، أو علم بصدور أحد الحدثين من الأصغر أو الأكبر وقد فعل ما يوجب رفع الأصغر ، وكما لو علم بوجود أحد الحيوانين من الفيل أو البق وقد انقضى زمان عمر البق ، ففي جميع هذه الأمثلة يشك في بقاء الكلي بسبب ارتفاع أحد الفردين اللذين علم بتحقق الكلي في ضمن أحدهما ، ولا يجري الاستصحاب الشخصي والفرد المردد ، للعلم بارتفاع أحد فردي الترديد ، كما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 412


1- أقول : قد تقدم منا أيضا ما يناسب المقام والإشارة إلى بطلان إفادته من البرهان ، فراجع.

وأما استصحاب الكلي : فلا ينبغي الاشكال في جريانه ، لوجود المقتضي وفقد المانع.

أما وجود المقتضي : فلانه لا يعتبر في الاستصحاب أزيد من تحقق ركنيه : من وجود المتيقن والشك في بقائه ، وقد تقدم أن العلم بوجود الفرد يلازم العلم بوجود الكلي ، فاليقين بحدوث أحد الفردين لا على التعيين يلازم اليقين بحدوث القدر المشترك بينهما ، والعلم بارتفاع أحد فردي الترديد يوجب الشك في بقاء القدر المشترك ، لاحتمال أن يكون الحادث هو الفرد الباقي الذي يلازم بقائه بقاء الكلي في ضمنه ، فقد تحقق ركنا الاستصحاب.

وتوهم : أن اليقين لم يتعلق بحدوث الكلي من حيث هو وإنما تعلق اليقين بحدوث حصة من الكلي متخصصة بخصوصية خاصة ، وتلك الحصة أمرها يدور بين ما هي مقطوعة الارتفاع إن كانت متخصصة بخصوصية الفرد الزائل وبين ما هي مقطوعة البقاء إن كانت متخصصة بخصوصية الفرد الباقي ، وحيث إنه يشك في حدوث الفرد الباقي فيشك في حدوث الحصة المتخصصة به ، فيكون حال الكلي الموجود في ضمن الفرد المردد حال نفس الفرد ، وكما لا يجري استصحاب الفرد المردد لأنه بين ما هو مقطوع الارتفاع وبين ما هو مشكوك الحدوث ، كذلك لا يجري استصحاب الكلي الموجود في ضمنه ، لتردده أيضا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مشكوك الحدوث

فاسد ، فان وجود الكلي وإن كان بوجود الفرد وزواله بزواله ، إلا أنه ليس الكلي مما ينتزع عن الفرد ، بل هو متأصل في الوجود ، على ما هو الحق : من وجود الكلي الطبيعي (1) من غير فرق في ذلك بين الأمور العينية التكوينية

ص: 413


1- 1 - أقول : عدم انتزاع الكلي عن الخصوصية الفردية متين ، وإنما الكلام فيما أفيد : من كون الطبيعي متأصلا في الوجود ، فان أريد بكونه موجودا في ضمن الفرد بوجود وحداني شخصي قبال الخصوصيات الفردية ، فهو غلط ، إذ يلزم حينئذ اتحاد جميع الافراد المتحدة مع الطبيعي في وجود واحد شخصي ، وهو كما ترى! وإن أريد وجوده في ضمن الفرد بوجود نوعي أو جنسي ، فهو أغلط ، إذ لا وجود للكلي بوصف كليته الصادقة على الكثيرين في الخارج ، بل لا صقع لهذا النحو من الموجود إلا الذهن ، ولذا اشتهر بأن الكلي ما لم يتشخص لم يوجد ، فلا محيص لك إلا أن تقول : بأن الطبيعي بعروض التشخصات عليه يتكثر بحيث يصير مع كل شخص حصة من الطبيعي غير الحصة الأخرى مع شخص آخر ، غاية الامر هذه الحصص بواسطة وحدتها السنخية مع الآخر يصير منشأ انتزاع مفهوم واحد ، ويجئ في الذهن بنحو الكلية الصادقة على الكثيرين ، وإلى هذا المعنى يشار بقولهم : إن الطبيعي مع الافراد كنسبة الآباء للأولاد ، لا كالأب الواحد. فان قلت: إنّ الوحدة السنخيّة بين الأبين الّذي هو منشأ انتزاع مفهوم واحد منهما بعد ما كانت حصّة زائدة عن الحصّتين فلا محيص من وجودها خارجا، و إلّا فلا سنخيّة بينهما خارجا، و مع عدمها كيف ينتزع مفهوم واحد عنهما فيعبّر عنه بالجامع بينهما؟. قلت: لا نسلّم كونها جهة زائدة بنحو يكون لها وجود زائد عن وجود الحصّتين خارجا بل جهة ذاتيّة لهما و أنّ وجودها عين وجود الحصّتين لا بوجود زائد عنهما، و حينئذ صحّ لنا أن نقول: إنّ ما هو منشأ انتزاع مفهوم واحد ليس إلّا هذه الحيثيّة الّتي لا وجود لها في الخارج علاوة عن وجودات الحصص الضمنيّة، بل كان موجودا في الخارج بعين وجودات الحصص بلا وجود مستقلّ لها خارجا، و لعلّه إلى ذلك نظر من قال: بأنّ وجوده بمعنى وجود أشخاصه، و أنّ غرضه من أشخاص الحصص الموجود في ضمن الأفراد، لا نفسها، و إلّا فبالنسبة إليها كان وجود الكلّي ضمنيّا لا عينيّا، كما لا يخفى. كما أنّ القائل بالانتزاع عن الفرد لا بدّ و أن يريد ذلك، و إلّا كيف يعقل انتزاع مفهوم واحد عن خصوصيّات متباينة؟ و حينئذ مرجع القولين من الأصالة و الانتزاع في الكلّي إلى شي ء واحد. و على أيّ تقدير: لا يكون متعلّق العلم الإجمالي إلّا الجامع المردّد وجوده في الخارج في أحد الحصّتين، فيجي ء ما أفيد من الإشكال في الفرد المردّد، و إلّا منع جريان هذا الإشكال في المقامين، بتوضيح: أنّ «اليقين» في المقامين إنّما تعلّق بعنوان إجمالي محتمل الانطباق على كلّ واحد من العناوين التفصيليّة، بلا سرايته إلى تلك العناوين، كما أنّ الشكّ في الأوّل متعلّق بتلك العناوين التفصيليّة بلا سرايته إلى العنوان الإجمالي. و حينئذ نقول: إنّ المعلوم في المقامين هو نفس الجامع المردّد انطباقه على أحد الأطراف، ففي الآن الثاني و لو من جهة الشكّ في انطباقه على الباقي و الزائل أيضا يشكّ ببقاء العنوان الإجمالي المردّد انطباقه على العنوان التفصيليّ المعلوم الارتفاع، فمعنى الشكّ في بقاء فرد مردّد مرجعه إلى الشكّ ببقاء عنوان الفرد المردّد انطباقه على المعلومين كالعلم به سابقا، لا أنّ معنى الفرد المردّد كون المشكوك بجميع عناوينه ولو تفصيلا مرددا في بقائه. وحينئذ الأولى في الفرق بينهما أن يقال : إن شأن دليل التعبد أن يشمل موردا يتعلق الشك فيه بما له الأثر في لسان الكبرى ، وهذا المعنى في استصحاب الكلي متحقق دون غيره من الفرد المردد ، كما لا يخفى.

ص: 414

وبين الأمور الاعتبارية العرفية أو الشرعية ، فالعلم بوجود الفرد المردد يكون منشأ للعلم بوجود الكلي والقدر المشترك خارجا ، وارتفاع أحد فردي الترديد يصير منشأ للشك في بقاء الكلي ، فيثبت كلا ركني الاستصحاب.

نعم : بناء على انتزاعية الكلي يتوجه الاشكال المذكور ، فإنه لم يتعلق العلم بوجود الكلي إذ لا وجود له ، وإنما تعلق العلم بوجود منشأ الانتزاع وهو الفرد ، ولكن القول بانتزاعية الكلي بمراحل عن الواقع ، فلا إشكال في أن العلم بوجوب إحدى الصلاتين يستتبع العلم بوجود الوجوب في عالم التشريع والاعتبار ، وكذا العلم بوجود أحد الحيوانين أو صدور أحد الحدثين يستتبع العلم بوجود الحيوان والحدث في عالم العين والتكوين ، والعلم بخروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء بامتثال أو تلف ونحوه يوجب الشك في بقائه ، فيجري فيه الاستصحاب.

وأما عدم المانع : فلان المانع الذي يمكن توهمه ليس إلا أن وجود القدر المشترك إنما يكون مسببا عن حدوث الفرد الباقي ، إذ لولا حدوث الفرد الباقي لكان يعلم بارتفاع القدر المشترك ، فبقاء الكلي إنما يكون معلولا لحدوث الفرد الباقي ، فيجري فيه استصحاب عدم الحدوث ويرتفع بذلك الشك في بقاء الكلي ، لان الأصل الجاري في السبب رافع لموضوع الأصل المسببي ، فلا يبقى مجال الاستصحاب بقاء القدر المشترك.

هذا غاية ما يمكن أن يتوهم في المنع عن جريان استصحاب الكلي ، وقد توهمه بعض ، ولكنه ضعيف لما فيه :

أولا : أن ارتفاع القدر المشترك ليس مسببا عن عدم حدوث الفرد الباقي ،

ص: 415

بل هو مسبب عن ارتفاع الفرد الزائل ، فتأمل.

وثانيا : أنه ليس كل أصل جار في الشك السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي وحاكما عليه ، بل يعتبر في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي - مضافا إلى ما بين الشكين من السببية والمسببية - أمران آخران :

أحدهما : أن يكون الترتب بينهما شرعيا ، بمعنى أن الشارع حكم بترتب المسبب على سببه ، كما حكم بترتب طهارة الثوب النجس على طهارة الماء المغسول به الثوب ، فان الترتب بين طهارة الثوب وطهارة الماء إنما يكون شرعيا ، من دون أن يكون بينهما ترتب عقلي أو عادي.

ثانيهما : أن يكون الأصل الجاري في الشك السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي ومزيلا للشك فيه ، كالمثال المتقدم ، فان أصالة الطهارة أو استصحابها الجارية في الماء المغسول به الثوب النجس عند الشك في طهارة يكون مزيلا للشك في بقاء نجاسة الثوب ورافعا لموضوع استصحاب النجاسة فيه ، لان التعبد بطهارة الماء يقتضي التعبد بطهارة ما غسل به ، فان من الآثار الشرعية المترتبة على طهارة الماء هو طهارة المغسول به ، ولا عكس ، أي التعبد ببقاء نجاسة الثوب لا يقتضي التعبد بنجاسة الماء إلا على القول باعتبار الأصل المثبت ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) تفصيل ذلك. والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى أن الأصل السببي إنما يكون حاكما على الأصل المسببي إذا كان مزيلا للشك المسببي ، فإذا لم يكن مزيلا له فالأصل المسببي يجري ولا يزاحمه الأصل السببي ، كما لو شك في كون اللباس متخذا من مأكول اللحم أو من غيره ، فان جريان أصالة الحل في الحيوان المتخذ منه اللباس لا يرفع الشك في جواز الصلاة فيه وعدمه ، مع أن الشك في جواز الصلاة في اللباس وعدمه مسبب عن حلية الحيوان المتخذ منه وعدمها ، والترتب بينهما شرعي ، ومع ذلك أصالة الحل في الحيوان لا تزيل الشك في جواز الصلاة في اللباس.

ص: 416

والسر في ذلك : هو أن أصالة الحل لا تثبت كون الحيوان المتخذ منه اللباس من الأنواع التي خلقها اللّه ( تعالى ) مأكولة اللحم ، بل غاية ما تثبته أصالة الحل هو حلية أكله ، ومجرد حلية الاكل لا ينفع في جواز الصلاة في أجزائه ما لم يحرز كونه من الأنواع المحللة ، وقد استقصينا الكلام في ذلك في رسالة المشكوك (1).

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنه لو سلم كون الشك في بقاء القدر المشترك فيما نحن فيه مسببا عن الشك في حدوث الفرد الباقي وعدمه ، إلا أن الترتب في الوجود بين الكلي والفرد إنما هو عقلي ، وليس من المجعولات الشرعية ، بداهة أن وجود الكلي بوجود الفرد وارتفاعه بارتفاعه إنما يكون عقليا.

ص: 417


1- أقول : هنا اشكال آخر أمتن من الشبهات السابقة لم يتعرضه أستاذ المقرر ظاهرا ، وهو أن وجود الطبيعي إذا كان عين وجود الافراد ، فعدم الطبيعي أيضا لابد وأن يكون عين عدمها ، غاية الامر في طرف الوجود يتحقق الطبيعي بوجود واحد ، ولكن في طرف العدم لابد وأن يتحقق في ضمن عدم جميع الافراد ، فعدم الطبيعي حينئذ قهرا له نحو انبساط في ضمن أعدام أفراده على حسب قلة أفراده وكثرتها. وعليه نقول : إن لعدم الطبيعي إذا كان مراتب متفاوتة على حسب تكثر أعدام الافراد ، فلا جرم يصير بمنزلة أمر بسيط يكون ذات مراتب ، وإذا شك في تحقق مرتبة منه مع العلم ببقية المراتب فحكمه حكم المركب المحرز بعضه بالأصل وبعضه بالوجدان ، وفي مثله لا بأس باستصحاب هذا العدم وإحراز بعضه بالأصل وبعضه بالوجدان ، وحينئذ فباستصحاب عدم حدوث الباقي في ظرف الجزم بانتفاء الزائل يحرز عدم الجامع، وإن لم يثبت عدم حدوث الجامع من قبل هذا الحادث المشكوك ، ولذا يبقى شكه بحاله وكان منشأ لجريان استصحاب بقاء الجامع ، ولكن هذا الأصل بضم الوجدان يثبت عدم الجامع قبال استصحابه ، فيتعارضان. و التحقيق حينئذ في دفع هذه الشبهة أن يقال: إنّ ما أفيد صحيح بالنسبة إلى الطبيعة القابلة للانطباق على الأفراد عرضا، و أمّا في صرف الوجود فهو لا يكاد ينطبق إلّا على أوّل وجود الطبيعي لا ثانيه، فلا جرم وجود الطبيعي بهذا المعنى يلازم للسبق بالعدم، فنقيضه أيضا كذلك، و لازمه كون نقيض الطبيعي المزبور مرتبة من الطبيعي الملازم للسبق بنفسه الأعدام لا عينها، و حينئذ لا يجري فيه حكم إحراز بعض المركّب بالأصل و بعضه بالوجدان، مع أنّ هذا المعنى مع تعدّد الوجود في الخارج كالمركّبات في غاية المتانة، و أمّا مع بساطة الشي ء على حسب مراتبه: فتصوير إحرازه بالتقريب المزبور يحتاج إلى مزيد تأمّل، فتدبّر.

ثم لو سلم الترتب الشرعي بين وجود الكلي ووجود الفرد في بعض المقامات ، كترتب الحدث على الجنابة ، ولكن سقوط الأصل المسببي فرع جريان الأصل السببي ، وفيما نحن فيه لا يجري الأصل في ناحية السبب ، لان أصالة عدم حدوث الفرد الباقي معارضة بأصالة عدم حدوث الفرد الزائل ، فيبقى استصحاب بقاء الكلي والقدر المشترك بلا مزاحم.

وتوهم : عدم جريان الأصل في الفرد الزائل لخروجه عن مورد الابتلاء بامتثال أو تلف أو نحو ذلك فلا معارض لأصالة عدم حدوث الفرد الباقي

فاسد (1) فإنه بمجرد العلم بحدوث أحد الفردين والشك فيما هو الحادث تجري أصالة عدم حدوث كل منهما وتسقط بالمعارضة ، وخروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء بعد ذلك لا يوجب رجوع الأصل في الفرد الباقي (2).

نعم : لو اختص أحد الفردين بأثر زائد كان استصحاب عدم حدوث ذلك الفرد لنفي ما اختص به من الأثر جاريا بلا معارض - كما تقدم تفصيل ذلك في تنبيهات الاشتغال - ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فان أثر وجود الكلي والقدر المشترك مما يشترك فيه كل من الفردين ، فأصالة عدم حدوث كل من الفردين تجري لنفي وجود القدر المشترك وتسقط بالمعارضة ، فتصل النوبة إلى الأصل المسبى ، وهو أصالة بقاء القدر المشترك.

ص: 418


1- أقول : قي المقام يحتاج إلى شرعية ترتب عدم الطبيعي على عدم الفرد ، وهو مطلقا حتى في الحدث والجنابة عقلي ، والنكتة فيه أن ما هو مترتب على الجنابة هو طبيعة الحدث مهملة لا المطلقة ، وما هو من لوازم عدمها هو الطبيعة المطلقة وترتبه عقلي. ثم لو اغمض عما ذكرنا لا مجال للمعارضة المزبورة ، إذ ثمرة استصحاب الكلي إنما هو في صورة حدوث العلم بعد تلف أحد الفردين ، وإلا فقبل التلف قاعدة الاشتغال كاف لاثبات المقصود ، ومن المعلوم : أن في هذه الصورة لا معنى لجريان أصالة العدم في الطرف المعدوم ، لخروجه عن محل الابتلاء ، كما هو واضح.
2- لا يخفى : أنه على هذا ينبغي أن يفصل بين ما إذا كان خروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء قبل العلم الاجمالي أو بعده ، على ما تقدم بيانه في تنبيهات الاشتغال ( منه ).

فظهر : أنه لا مانع من استصحاب بقاء الكلي عند ارتفاع أحد فردي الترديد.

ثم لا يخفى عليك : أن استصحاب بقاء الكلي إنما يقتضي ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس الكلي لو فرض أنه كان للكلي أثر شرعي ، كما في مثال الحدث ، فان حرمة مس المصحف قد رتب شرعا على نفس الحدث الأعم من الأصغر والأكبر ، كما يدل عليه قوله تعالى : « لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » (1) والظاهر أنه ليس للحدث الأعم من الأصغر والأكبر أثر آخر رتب عليه شرعا.

وقد يتوهم : أن عدم جواز الدخول في الصلاة أثر للأعم من الأصغر والأكبر ، فاستصحاب بقاء الحدث عند العلم بوقوع أحدهما وفعل ما يوجب رفع أحدهما يقتضي عدم جواز الدخول في الصلاة.

وفيه : أن عدم جواز الدخول في الصلاة في الفرض إنما هو لعدم إحراز الطهارة التي هي شرط للصلاة ، لا لوجود المانع ، فان الحدث لم يؤخذ مانعا عن الصلاة ، بل الطهارة اخذت شرطا لها.

وعلى كل حال : كل أثر اخذ الكلي موضوعا له شرعا فباستصحاب بقاء الكلي يثبت ذلك الأثر ، ولا يثبت به الآثار المترتبة على حدوث الفرد الباقي وإن كان وجود الكلي يلازم كون الحادث هو الفرد الباقي ، إلا على القول بالأصل المثبت.

فكما يجري استصحاب بقاء الكلي ، كذلك يجري استصحاب عدم حدوث الفرد الباقي ، وينفي بذلك الآثار المترتبة على وجود الفرد ، إلا إذا كانت الآثار طرفا للعلم الاجمالي ، بأن كان للفرد الزائل أيضا آثار شرعية ، فيقع التعارض بين الأصول من الجانبين ، ويبقى العلم الاجمالي على حاله يقتضي الاحتياط

ص: 419


1- سورة الواقعة : الآية 79.

في الآثار المترتبة على كل من الفردين ، إلا إذا كان لاحد الفردين أثر زائد (1) فلا يجب الاحتياط فيه ، لأنه منفي بالأصل ، للشك في وجود موضوعه.

ففي مثال الحدث يحرم مس المصحف لاستصحاب بقاء الحدث ويجب الغسل للعلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو الغسل ، والمفروض : أن المكلف قد توضأ ، فيبقى عليه الغسل مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، ويجوز دخول المساجد وقراءة العزائم بلا غسل ، لان حرمة دخول المساجد وقراءة العزائم من الآثار المختصة بالحدث الأكبر ، وحيث لم يعلم به المكلف فتجري أصالة العدم لنفي هذه الآثار الخاصة ، وليس للحدث الأصغر أثر يختص به لتكون تلك الآثار المختصة بالحدث الأكبر طرفا للعلم الاجمالي ، بل الحدث الأكبر يشارك الحدث الأصغر في جميع الآثار ، ويختص هو بأثر زائد : من حرمة الدخول في المساجد وقراءة العزائم ، هذا كله في مثال الحدث المردد بين الأصغر والأكبر.

وأما مثال وجوب صلاة الظهر أو الجمعة فيما إذا علم المكلف بوجوب إحديهما وقد صلى الجمعة : فاستصحاب بقاء الكلي والقدر المشترك بين الوجوبين - وهو أصل الوجوب والالزام - وإن كان في حد نفسه لا مانع عنه ، إلا أنه لا أثر لبقاء القدر المشترك في المثال ، وأثر بقاء الاشتغال ولزوم تحصيل العلم بفراغ الذمة ليس من الآثار الشرعية ، بل هو من الآثار العقلية ، وموضوعه نفس الشك بالفراغ بعد العلم بالاشتغال ، فهو محرز بالوجدان ولا معنى للتعبد به ، وقد تقدم ذلك مشروحا في مبحث الاشتغال (2).

وأما مثال الفيل والبق : فلا يجري فيه استصحاب بقاء القدر المشترك عند

ص: 420


1- أقول : يعني في طول الأثر الآخر ، وإلا فالأصل في طرف من جهة أثر واحد يعارض الأصل في الطرف الآخر ولو كان فيه ألف أثر ، وذلك ظاهر. نعم : لو لم يكن الأثر إلا للجامع وكان الأثر للفرد ، فهو منفي بالأصل ، كما هو ظاهر.
2- أقول : قد تقدم منا الكلام فيه أيضا ، فراجع.

العلم بانقضاء عمر البقّ ، لأنه من الشك في المقتضي ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه.

وعليك بالتأمل التام فيما تمر عليك من الأمثلة ، وتمييز الآثار الشرعية المترتبة على نفس القدر المشترك عن الآثار المترتبة على الخصوصية الفردية ، وتشخيص موارد رجوع الشك فيها إلى الشك في المقتضي أو الشك في الرافع.

ثم لا يخفى عليك : أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كالأمثلة المتقدمة ، وأما إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته فهذا لا يكون من الاستصحاب الكلي (1)

ص: 421


1- أقول : أولا : ما أفاده من الأساس إنما ينطبق على المثال الأول دون الأخيرين ، إذ في الأول منهما يكون الترديد في الوجودين الملازم للترديد في الهوية ظاهرا ، وهكذا الأخير بعد الجزم بعدم إمكان انتقال العرض من محل إلى محل ، إذ حينئذ كل عرض قائم بمحل متقوم بشخص المحل ، ولازمه كون الترديد في عرض المحلين من باب الترديد بين الوجودين الراجع إلى الترديد في الهوية. و ثانيا: على فرض تسليم كون الأمثلة بأجمعها من قبيل المثال الأوّل الغير الراجع إلى الترديد في الهويّة، و نقول: إنّ الشكّ في المحلّ موجب للشكّ في وجود ما هو معلوم الهويّة، فلا قصور في استصحاب شخصه، بلا احتياج إلى استصحاب الفرد المردّد. و ثالثا: على فرض عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام لازمه عدم إثبات مانعيّته عن الصلاة في صورة حصول العلم بعد التلف كما هو مورد الكلام، و هو كما ترى! و كيف كان: الّذي يقتضيه التحقيق في المقام هو أنّ يقال: أوّلا: إنّ صرف وجود الشي ء القابل للانطباق على أوّل وجود الشي ء محضا و إن كان قابلا لتعلّق الحكم التكليفي و بعض الأحكام الوضعيّة الأخرى كالملكيّة. و أمّا بالنسبة إلى الطهارة و النجاسة: فحالها حال الأعراض الخارجيّة الغير القابل تعلّقها بالطبيعة الصرفة، بل لا بدّ في عروضها عليها من ملاحظة الطبيعة في ظرف وجودها خارجا و انطباقها على الفرد، لأنّها من سنخ القذارات الخارجيّة المحسوبة من الأعراض الطارية على الموجودات الخارجيّة. و ثانيا: أنّ الأثر الشرعي المصحّح لاستصحاب الشي ء تارة من لوازم وجود الشي ء بنحو مفاد كان التامّة، و أخرى من لوازم وجوده بنحو مفاد كان الناقصة، فمن الأوّل مانعيّة الحدث للصلاة أو النجاسة لها القائمة بصرف وجودها ، ومن الثاني نجاسة الملاقي ، فإنه من آثار كون الملاقى نجسا بحكم سراية النجاسة من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ، وحينئذ بالنسبة إلى المانعية لا بأس باستصحاب جامع النجاسة المرددة في تطبيقه على القطعة الزائلة أو الباقية. وأما بالنسبة إلى نجاسة الملاقي ( بالكسر ) فلا مجال لاستصحاب جامع محكوم بالنجاسة بنحو مفاد كان الناقصة ، لان النجاسة ليست من آثار جامع القطعتين ، كما تقدم ، واستصحاب نجاسة هذه القطعية الشخصية المرددة داخل في استصحاب الفرد المردد ، ووجود نجاسة القطعتين بنحو مفاد كان التامة ليس من آثار نجاسة الملاقي ، كما أشرنا كما لا يخفى ، فتدبر فيه تعرف قدره.

بل يكون كاستصحاب الفرد المردد الذي قد تقدم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، فلو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه أو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون هو درهم زيد أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة وتردد محلها بين كونها في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم طهر طرفها الأسفل ، ففي جميع هذه الأمثلة استصحاب بقاء المتيقن لا يجري ، ولا يكون من الاستصحاب الكلي ، لان المتيقن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنما الترديد في المحل والموضوع (1) فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، وليس من الاستصحاب الكلي. ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة (2).

ص: 422


1- أقول : لا إشكال في المثال الأول في عدم الترديد في هويته ، ولكن لا شبهة في الترديد في وجوده ، وهو يكفي في استصحابه. وأما المثالين الأخيرين فلا محيص من الترديد في هويته الفاقد لا محله ، كما أشرنا إليه آنفا ، فتدبر.
2- وهي أنه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباء من الأسفل أو الاعلى ثم طهر الطرف الأسفل ، فطهارة الطرف الأسفل يوجب الشك في بقاء النجاسة في العباء ، لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرف الأسفل ، فيجري استصحاب بقاء النجاسة في العباء ، ويلزمه القول بنجاسة الملاقي لجميع أطراف العباء ، لان ملاقي مستصحب النجاسة في حكم النجس، مع أن اللازم باطل بالضرورة ، بداهة أنه لا أثر لملاقاة الطرف الأسفل ، للعلم بطهارته ، وملاقاة الطرف الأعلى لا تقتضي النجاسة ، للشك في إصابة النجاسة للطرف الأعلى ، فهو مشكوك النجاسة من أول الامر ، فبناء على نجاسة ملاقي مستصحب النجاسة يلزم في المثال القول بنجاسة ملاقي مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة ، وهو كما ترى!. هذا والتحقيق في جواب الشبهة: هو المنع عن جريان استصحاب النجاسة في العباء ، فتأمل جيدا (منه).
القسم الثالث :
اشارة

من أقسام استصحاب الكلي

هو ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال قيام فرد آخر مقام الفرد الذي كان الكلي في ضمنه مع القطع بارتفاعه ، كما إذا علم بوجود الانسان في الدار في ضمن وجود زيد وعلم بخروج زيد عن الدار ولكن احتمل قيام عمرو مقامه ، فيشك في بقاء الانسان في الدار ، وهذا القسم من استصحاب الكلي يتصور على وجوه :

الأول : ما إذا كان الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم ، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار في حال وجود زيد فيها بحيث اجتمعا في الدار.

الثاني : ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم ، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد منها ، بحيث لم يجتمع وجودهما في الدار ، وهذا أيضا يتصور على وجهين :

الأول : أن يكون الحادث المحتمل فردا آخر مباينا في الوجود للفرد المعلوم وإن اشتركا في النوع أو الجنس ، كالمثال المتقدم.

الثاني : أن يكون الحادث المحتمل مرتبة أخرى من مراتب المعلوم الذي

ص: 423

ارتفع ، كما إذا احتمل قيام السواد الضعيف مقام السواد الشديد عند ارتفاع السواد الشديد ، وكما إذا احتمل قيام مرتبة أخرى من الشك الكثير مقام المرتبة التي كان المكلف واجدا لها وزالت عنه.

فهذه جملة الوجوه المتصورة في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

وفي جريان الاستصحاب في الجميع ، أو عدم جريانه في الجميع ، أو التفصيل بين الوجه الأخير والوجهين الأولين - ففي الأخير يجري الاستصحاب وفي الأولين لا يجري - وجوه ، أقواها التفصيل.

أما عدم جريانه في الوجه الأول : فلانه لا منشأ لتوهم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل أن العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج يلازم العلم بحدوث الكلي خارجا ، فبارتفاع الفرد الخاص يشك في ارتفاع الكلي ، لاحتمال قيام الكلي في فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، فلم يختل ركنا الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق بالنسبة إلى الكلي ، كالقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

هذا ، ولكن الانصاف : أن فساد التوهم بمكان يغني تصوره عن رده ، بداهة أن العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج إنما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن الفرد الخاص (1) لا أنه يلازم العلم بوجود الكلي بما هو هو ، بل للفرد

ص: 424


1- أقول : لو تم ذلك يلزمه الالتزام في القسم الأول بعين ما التزم في رد استصحاب الفرد المردد ، لان تغاير إحدى الحصتين للآخر موجب لتردد المعلوم بين الحصتين ، فلا يكون شاكا إلا في بقاء أحد الحصتين المردد بين ما هو مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع. والأولى أن يقال : إن المراد من الكلي ما هو منشأ لانتزاع مفهومه ، وهو ليس إلا الجامع بين الحصص المحفوظ في الخارج بعين وجودها ، كيف! وبعد مغايرة أحد الحصتين للآخر يستحيل انتزاع مفهوم واحد من المتغايرين ، فلابد من لحاظ الجهة المتحدة بينهما ، وبعد ذلك لابد وأن يكون مركز الشك واليقين هذه الجهة المشتركة ، لأن المفروض أن الأثر مترتب على الجامع بين الحصص لا نفسها ، وحينئذ فتوهم أن العلم بوجود الفرد الخاص يلازم العلم بالحصة مسلم ، وأما عدم ملازمته مع العلم بوجود الطبيعي غلط ، إذ الطبيعي موجود في الخارج بعين وجود أفراده وحصصه ، فلو لم يعلم الطبيعي فلم يعلم ما هو منشأ انتزاع عنوان مأخوذ في موضوع الأثر ، فلا محيص من الالتزام بأن للفرد كان له دخل في وجود الجامع بين الحصتين الذي هو متعلق العلم بلا ترديد في متعلق العلم ، وإنما الترديد في الحصة الموجودة منه ، وحينئذ فليس لك الجواب عن التوهم المزبور بما ذكرت ، بل الأولى أن يقال : إن الطبيعي الجامع بين الحصص بعدما كانت موجودة في الخارج بعين وجود الحصص لا بوجود مغاير معها ، فقهرا يكون وجود الكلي في صمن كل فرد يغاير وجودها في ضمن الآخر ، فكما أن حدوث الكلي في ضمن الفرد ملازم لحدوث الفرد ، كذلك بقائها يلازم لبقاء هذا الفرد ، لان بقاء الشيء عين حدوثه ، ولا يعقل تحققه بوجود فرد آخر ، كما هو ظاهر. ولو أنه قنع المقرر بما أشار إليه أخيرا : من تغاير وجود الكلي بتغاير الافراد ، لكان أولى مما أفاد في صدر كلامه.

الخاص دخل في وجود الحصة حدوثا وبقاء ، والحصة من الكلي الموجودة في ضمن الفرد الخاص تغاير الحصة الموجودة في ضمن فرد آخر ، ولذا قيل : إن نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء المتعددة ، فلكل فرد حصة تغاير حصة الآخر ، والحصة التي تعلق بها اليقين سابقا إنما هي الحصة التي كانت في ضمن الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، ويلزمه العلم بارتفاع الحصة التي تخصه أيضا ، ولا علم بحدوث حصة أخرى في ضمن فرد آخر ، فأين المتيقن الذي يشك في بقائه ليستصحب؟ وقياس المقام بالقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي في غير محله ، بداهة أنه في القسم الثاني يشك في بقاء نفس الحصة من الكلي التي علم بحدوثها في ضمن الفرد المردد ، لاحتمال أن يكون الحادث هو الفرد الباقي فتبقى الحصة بعينها ببقائه ، وأين هذا من العلم بارتفاع الحصة المتيقن حدوثها والشك في حدوث حصة أخرى؟ كما في القسم الثالث ، فما بينهما أبعد مما بين المغرب والمشرق!! فإنه في القسم الثاني نفس المتيقن الحادث مشكوك البقاء ، وفي القسم الثالث المتيقن الحادث مقطوع الارتفاع وإنما الشك في حدوث حصة أخرى مغايرة للحصة الزائلة ، وهذا بعد البناء على تغاير وجود الكلي بتغاير أفراده واضح مما لا ينبغي التأمل فيه.

ص: 425

ثم إنه لو فرض محالا عدم تغاير وجود الكلي بتغاير الافراد وأن الموجود من الكلي في ضمن جميع الافراد أمر واحد لا تعدد فيه ، فلا إشكال في أن ذلك على فرض إمكانه إنما هو بالنظر الدقي العقلي الذي لا عبرة به في باب الاستصحاب ، وإنما العبرة بنظر العرف ، فان نظره هو المتبع في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة - كما سيأتي بيانه - فلو فرض التشكيك في تغاير الحصص وتباين وجود الكلي بتباين الافراد عقلا فلا يمكن التشكيك في ذلك عرفا ، بداهة أن العرف يرى التباين بين ما هو الموجود في ضمن زيد وما هو الموجود في ضمن عمرو ، فتختلف القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عرفا ، فيختل شرط الاستصحاب : من اتحاد القضيتين عرفا ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه أزيد من ذلك.

ومن الغريب! ما اختاره الشيخ قدس سره من جريان استصحاب الكلي في هذا القسم ، فإنه مضافا إلى اختلاف أركان الاستصحاب فيه يكون الشك في بقاء الكلي دائما من الشك في المقتضي الذي لا يقول بجريان الاستصحاب فيه؟ فالانصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس سره اختيار ذلك.

ثم : إنه قد يقال : إنه تظهر الثمرة فيما إذا احتمل المكلف الجنابة في حال النوم وبعد الانتباه توضأ ، فإنه لو قلنا بجريان استصحاب الحدث في حقه كان اللازم عدم جواز مس كتابة القرآن ما لم يغتسل ، وإن قلنا بعدم جريان الاستصحاب جاز له فعل كل مشروط بالطهارة ولا يجب عليه الغسل.

هذا ، ولكن الظاهر : أنه يجوز للمكلف في المثال فعل كل مشروط بالطهارة وإن لم يغتسل ، سواء قلنا بجريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلي أو لم نقل ، لا لان الاستصحاب في المثال ليس من القسم الثالث ، بل لان في المثال خصوصية تقتضي عدم وجوب الغسل وجواز فعل كل مشروط بالطهارة.

ص: 426

وذلك : لان قوله تعالى : « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » إلى قوله تعالى : « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا » يدل على وجوب الوضوء على من كان نائما ولم يكن جنبا ، فقد اخذ في موضوع وجوب الوضوء قيد وجودي وهو النوم وقيد عدمي وهو عدم الجنابة. وهذا القيد العدمي وإن لم يذكر في الآية الشريفة صريحا ، إلا أنه من مقابلة الوضوء للغسل والنوم للجنابة يستفاد منها ذلك ، فان التفصيل بين النوم والجنابة والوضوء والغسل قاطع للشركة ، بمعنى أنه لا يشارك الغسل للوضوء ولا الوضوء للغسل ، كما يستفاد نظير ذلك من آية الوضوء والتيمم ، فان قوله تعالى : « فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا » يدل على أن وجدان الماء قيد في موضوع وجوب الوضوء ، وإن لم يذكر في آية الوضوء صريحا إلا أنه من مقابلة الوضوء للتيمم يستفاد ذلك ، لان التفصيل قاطع للشركة ، ومن هنا نقول : إن القدرة على الماء في باب الوضوء تكون شرعية ، لأنها اخذت في موضوع الدليل ، فكأن الآية نزلت هكذا : « إذا قمتم من النوم وكنتم واجدين للماء ولم تكونوا جنبا فاغسلوا وجوهكم الخ ».

والحاصل : أنه يستفاد من الآية الشريفة كون الموضوع لوجوب الوضوء مركبا من النوم وعدم الجنابة ، فيكون المثال المتقدم من صغريات الموضوعات المركبة التي قد أحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها لآخر بالأصل ، فان النائم الذي احتمل الجنابة قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء وهو النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، فيجب عليه الوضوء ، وإذا وجب عليه الوضوء لا يجب عليه الغسل ، لما عرفت : من أنه لا يجتمع على المكلف وجوب الوضوء والغسل معا ، لان سبب وجوب الوضوء لا يمكن أن يجتمع مع سبب وجوب الغسل ، فان من أجزاء سبب وجوب الوضوء عدم الجنابة ، فلا يعقل أن يجتمع مع الجنابة التي هي سبب وجوب الغسل ، فإنه يلزم اجتماع النقيضين ، ففي المثال لا يجب على المكلف إلا الوضوء ، فإذا توضأ جاز له فعل كل مشروط بالطهارة حتى مس

ص: 427

المصحف ، فتأمل جيدا.

هذا كله في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وأما الوجه الثاني : وهو ما إذا احتمل حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، فعدم جريان الاستصحاب فيه أوضح ، فان الوجه الذي تخيل لجريان الاستصحاب في الوجه الأول لا يتمشى في الوجه الثاني ، بداهة أنه لو قلنا محالا بعدم تغاير نحو وجود الكلي بتغاير وجود الافراد فإنما هو في الافراد المجتمعة في الوجود ، كما في الوجه الأول ، وأما الافراد المتعاقبة في الوجود - كما في الوجه الثاني - فلا يكاد يشك في تغاير نحو وجود الكلي بتغاير وجود الافراد المتعاقبة ، فالقضية المشكوكة تغاير القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، فلا مجال لتوهم جريان الاستصحاب فيه.

وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا احتمل تبدل الفرد المتيقن حدوثا وارتفاعا إلى فرد آخر وكان محتمل الحدوث من مراتب متيقن الحدوث ، فالأقوى : جريان الاستصحاب فيه ، وهذا إنما يكون إذا كان الحادث المتيقن ذا مراتب متعددة تختلف شدة وضعفا ، كالكيفيات النفسية والخارجية ، فان الظن والشك بل العلم ذو مراتب ، وكذا السواد والبياض ونحو ذلك من الألوان الخارجية ، فإذا كان الحادث مرتبة خاصة من السواد كالشديد ثم زالت تلك المرتبة ولكن احتمل أن تكون قد خلفتها مرتبة أخرى من السواد ، فلا مانع من جريان استصحاب الكلي والقدر المشترك بين المرتبة المتيقنة الحدوث والارتفاع والمرتبة المشكوكة الحدوث ، فان تبادل المراتب لا يوجب اختلاف الوجود والماهية ، لانحفاظ الوحدة النوعية ماهية ووجودا في جميع المراتب ، والتبادل إنما يكون في الحد الذي يوجب تشخص المرتبة وتميزها عما عداها ، وإلا فالمرتبة القوية واجدة للمرتبة الضعيفة مسلوبة الحد والتشخص ، فإذا علم بتبدل المرتبة

ص: 428

الشديدة إلى المرتبة الضعيفة فيكون المتيقن بهويته وحقيقته محفوظا ، غايته أنه سلب عنه حد وتلبس بحد آخر ، هذا إذا علم بالتبدل.

وأما إذا احتمل التبدل إلى مرتبة أخرى بعد العلم بزوال المرتبة السابقة ، فيحتمل بقاء المتيقن بهويته وحقيقته ، فيجري فيه الاستصحاب ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، لانحفاظ وجود الكلي في جميع المراتب حقيقة ، لان نحو وجود السواد في السواد الشديد وفي السواد الضعيف واحد لا يختلف ، وليس السواد الشديد والضعيف كزيد وعمرو ، بحيث يكون وجود الانسان في ضمن زيد نحوا يغاير وجوده في ضمن عمرو عقلا وعرفا ، فاستصحاب بقاء الكلي في الوجه الثالث من القسم الثالث يكون كاستصحاب بقاء الكلي في القسم الثاني من حيث وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، وان أبيت عن الاتحاد العقلي فيما نحن فيه مع أنه لا سبيل إليه ، فلا أقل من الاتحاد العرفي وهو يكفي في صحة الاستصحاب.

ويتفرع على ذلك استصحاب بقاء كون الشخص كثير الشك عند العلم بزوال ما كان واجدا له من المرتبة والشك في زوال وصف الكثرة بالمرة أو تبدلها إلى مرتبة أخرى أضعف أو أقوى من المرتبة الزائلة ، فيجري استصحاب بقاء الكثرة ويترتب عليه أحكام كثير الشك : من عدم بطلان الصلاة إذا كان الشك في الصلاة الثنائية أو الثلاثية أو الأوليين من الرباعية ومن البناء على الأكثر إن كان في الأخيرتين من الرباعية ، وغير ذلك من الاحكام المترتبة على الشك ، وربما يقف المتتبع على فروع اخر ، فتأمل جيدا.

ثم : إنه يلحق بالوجه الثالث من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي الاستصحابات الجارية في الزمان والزمانيات المبنية على التقضي والتصرم ، كالتكلم والحركة ونحو ذلك ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه ( إن شاء اللّه تعالى ).

ص: 429

تذييل :

للفاضل التوني رحمه اللّه كلام في مسألة الشك في تذكية الحيوان ، قد تعرض له الشيخ قدس سره في المقام بمناسبة. ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيه في رسالة المشكوك ، إلا أنه لا بأس بالإشارة إليه في المقام تبعا للشيخ قدس سره .

فنقول : بناء المشهور على جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ويثبت بها نجاسة الحيوان وحرمة لحمه ، وقد خالف في ذلك جماعة منهم الفاضل التوني رحمه اللّه وقد استدلوا على ذلك بوجهين يمكن تطبيق كلام الفاضل على كل منهما.

الأول : أن الموضوع لحرمة لحم الحيوان ونجاسته إنما هو الميتة ، لقوله تعالى : « إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ » وهي عبارة عن الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أن المذكى عبارة عن الحيوان الذي وردت عليه التذكية ، وهو الموضوع للطهارة وحلية اللحم ، فكل من موضوع النجاسة والحرمة والطهارة والحلية أمر وجودي لابد من إحرازه ، فأصالة عدم التذكية لا تثبت كون الحيوان مات حتف أنفه ، لان نفي أحد الضدين بالأصل لا يثبت به وجود الضد الآخر إلا على القول بالأصل المثبت ، بل الأصل من الطرفين يتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى الأصل الثالث ، فأصالة عدم التذكية تعارض أصالة عدم الموت حتف الانف لان كلا منهما مسبوق بالعدم ، وبعد تساقط الأصلين يرجع إلى أصالة الحل والطهارة.

الوجه الثاني : أنه لو سلم كون الموضوع للحرمة والنجاسة هو نفس عدم التذكية لا الموت حتف الانف ، إلا أنه لا إشكال في أنه ليس الموضوع مطلق عدم التذكية ، بل هو عدم التذكية في حال زهوق الروح ، لان عدم التذكية في

ص: 430

حال الحياة ليس موضوعا للحكم ، بل الذي رتب عليه أثر النجاسة والحرمة هو عدم التذكية في حال خروج الروح ، وعدم التذكية في ذلك الحال ليس له حالة سابقة لكي يستصحب ، بداهة أن خروج الروح إما أن يكون عن تذكية وإما أن لا يكون ، فلم يتحقق في الخارج زمان كان في زهوق الروح ولم يكن معه التذكية ليجري استصحاب عدم التذكية في ذلك الحال.

والحاصل : أن عدم التذكية لازم أعم يتصف بها الحيوان في حالين : حال الحياة وحال خروج الروح ، واستصحاب عدم التذكية في حال الحياة لا يثبت عدمها في حال زهوق الروح ، فإنه يكون من قبيل استصحاب بقاء الكلي لاثبات الفرد ، كما إذا أريد إثبات وجود عمرو في الدار من استصحاب بقاء الضاحك الذي كان في ضمن زيد بعد القطع بخروج زيد عن الدار ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل ، فإنه بعدما كان عدم التذكية يعم العدم في حال الحياة والعدم في حال زهوق الروح ، فباستصحاب عدم التذكية يراد إثبات خصوص العدم في حال خروج الروح بعد العلم بارتفاع عدم التذكية في حال الحياة ، لان عدم التذكية في حال الحياة متقوم بحياة الحيوان والمفروض أنه مات ، فوصف عدم التذكية في حال الحياة ارتفع قطعا والمشكوك فيه هو وصف عدم الحياة في حال خروج الروح ، واستصحاب عدم التذكية على الوجه الكلي لا يثبت العدم في حال زهوق الروح الذي هو الموضوع للنجاسة والحرمة.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر.

أما في الوجه الأول : فلان الموضوع للحرمة والنجاسة ليس هو الموت حتف الانف ، بل الموت حتف الانف من مصاديق الموضوع ، لا أنه هو الموضوع ، بداهة أنه لم يؤخذ في آية ولا رواية « الموت حتف الانف » موضوعا ، بل الموضوع للحرمة والنجاسة هو الميتة ، وليس معنى الميتة « الموت حتف الانف » لوضوح

ص: 431

أنه لو لم يجتمع في الحيوان شرائط التذكية : من فري الأوداج الأربعة بالحديد مع التسمية مواجها للقبلة مع كون الذابح مسلما ، كان الحيوان ميتة وإن لم يصدق عليه « الموت حتف الانف » كما إذا اجتمع فيه الشرائط ما عدا التسمية ، فان الحيوان ميتة مع أن موته ليس بحتف الانف ، فالميتة عبارة عن « غير المذكى » لا « الموت حتف الانف » فاستصحاب عدم التذكية يكون محرزا لموضوع الحرمة والنجاسة ، لان الموضوع لهما هو الامر العدمي لا الامر الوجودي حتى يتوهم التعارض بين أصالة عدم التذكية وأصالة عدم الموت حتف الانف ، ليرجع إلى أصالة الطهارة والحل ، بل عدم الموت حتف الانف لم يكن موضوعا لحكم حتى يجري الأصل فيه ، فأصالة عدم التذكية لا معارض لها.

وأما في الوجه الثاني : فلان دعوى التغاير بين عدم التذكية في حال حياة الحيوان وبين عدم التذكية في حال زهوق روحه واضحة الفساد ، بداهة أن نفس عدم التذكية في حال الحياة مستمر إلى حال خروج الروح ، وليس حال الحياة وحال زهوق الروح قيدا للعدم لينقلب العدم في حال الحياة إلى عدم آخر ، بل الحياة وخروج الروح من حالات الموضوع لا القيود المقومة له ، فمعروض عدم التذكية إنما هو الجسم والجسم باق في كلا الحالين.

وبالجملة : تذكية الحيوان من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم الأزلي ، وهو مستمر إلى زمان خروج الروح ، غايته أن عدم التذكية قبل وجود الحيوان إنما هو العدم المحمولي المفارق بمفاد ليس التامة ، وهذا ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، بل الموضوع لهما هو العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فان معروض الحلية والطهارة والحرمة والنجاسة هو الحيوان المذكى والحيوان الغير المذكى ، فالعدم الأزلي السابق على وجود الحيوان ليس موضوعا للحكم فلا أثر لاستصحابه ، ولكن استمرار العدم الأزلي إلى زمان وجود الحيوان يوجب انقلاب العدم من المحمولية إلى النعتية ومن مفاد ليس التامة إلى مفاد ليس الناقصة.

ص: 432

لا أقول : إن العدم الأزلي يتبدل إلى عدم آخر ، فان ذلك واضح البطلان ، بل العدم في حال حياة الحيوان والعدم الأزلي قبل حياته ، غايته أنه قبل الحياة كان محموليا لعدم وجود معروضه وبعد الحياة صار نعتيا لوجود موضوعه ، ويستمر العدم النعتي في الحيوان من مبدء وجوده إلى انتهاء عمره ، من دون أن يصحل تغيير في ناحية العدم وينقلب عما هو عليه من النعتية ، ومن دون أن يحصل اختلاف في ناحية المنعوت وهو الحيوان ، بل العدم النعتي يستمر باستمرار وجود الحيوان.

فدعوى : أن عدم التذكية في حال الحياة يغاير عدم التذكية في حال خروج الروح والذي يترتب عليه أثر النجاسة والحرمة هو الثاني وهو مشكوك الحدوث

واضحه الفساد ، لما عرفت : من أن الأثر رتب على استمرار عدم التذكية إلى زمان زهوق الروح ، فعند الشك في التذكية يجري استصحاب عدمها الثابت في حال الحياة.

وتوهم : أن لحكاية الحال دخلا في ترتب الأثر ، فان الموضوع للأثر ليس هو العدم المطلق بل العدم في حال خروج الروح ، فكان لعنوان الحالية دخل في الموضوع ، واستصحاب عدم التذكية إلى حال خروج الروح لا يثبت عنوان الحالية فاسد ، فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي اعتبار قضية الحال (1) بل المستفاد

ص: 433


1- أقول : الأولى أن يقال : إن المراد من « الحال » المعبر به في هذه المقامات : من مثل الصلاة في حال الطهارة وأمثال ذلك في ساير المقيدات بشرط ، هو إضافة المشروط بشرط المنتزع لدى العقل من الأعم من الواقع والظاهر ، فلا بأس حينئذ بإحرازها باستصحاب الشرط إلى حين وجود المشروط أو بالعكس ، وإلا ففي المشروطات لا يكون الموضوع مركبا ، بل التركيب من شؤون الجزئية لا الشرطية ، كما لا يخفى.

من الأدلة هو كون الموضوع للحرمة والنجاسة مركبا من جزئين : زهوق روح الحيوان وعدم تذكيته. ويكفي في تحقق الموضوع اجتماع الجزئين في الزمان ، لأنهما عرضيان لمحل واحد ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) في بعض المباحث : أن الموضوع المركب من عرضين لمحل واحد أو من جوهريين أو من جوهر وعرض لمحل آخر - كوجود زيد وقيام عمرو - لا يعتبر فيه أزيد من الاجتماع في الزمان ، إلا إذا استفيد من الدليل كون الإضافة الحاصلة من اجتماعهما في الزمان لها دخل في الحكم ، كعنوان الحالية والتقارن والسبق واللحوق ونحو ذلك من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإلا فالموضوع المركب من جزئين لا رابط بينهما إلا الوجود في الزمان لا يقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان ، بخلاف ما إذا كان التركيب من العرض ومحله ، كقيام زيد وقرشية المرأة ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من العرض ومحله ، فإنه لا يكفي فيه مجرد اجتماع العرض والمحل في الزمان ما لم يثبت قيام الوصف بالمحل ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في رسالة المشكوك ، وسيأتي الإشارة إليه ( إن شاء اللّه تعالى ).

ففيما نحن فيه بعدما كان الموضوع مركبا من خروج الروح وعدم التذكية وهما عرضيان للحيوان ، فيكفي إحراز أحدهما بالأصل وهو عدم التذكية والآخر بالوجدان وهو خروج الروح ، فمن ضم الوجدان إلى الأصل يلتئم كلا جزئي المركب ويتحقق موضوع حرمة لحم الحيوان ونجاسته.

فالأقوى : ما عليه المشهور : من جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها.

- التنبيه الرابع -
اشارة

ربما يستشكل في جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات المبنية على التقضي والتصرم ، بتوهم : عدم قابلية المتيقن للبقاء والاستمراء ، فكيف يمكن

ص: 434

استصحاب بقائه؟ هذا ، ولكن التحقيق أنه يصح استصحاب الزمان فضلا عن الزماني ، وينبغي عقد الكلام في مقامين :

المقام الأول :

في استصحاب بقاء نفس الزمان. وتحقيق الكلام في ذلك ، هو أن الشك في الزمان كالليل والنهار يمكن فرضه بوجهين :

الأول : الشك في وجود الليل والنهار حدوثا وبقاء بمفاد كان وليس التامتين ، أي الشك في أن النهار وجد أو لم يوجد أو الشك في أنه ارتفع أو لم يرتفع.

الثاني : الشك في الزمان بمفاد كان وليس الناقصتين ، أي الشك في أن الزمان الحاضر والآن الفعلي هل هو من الليل أو من النهار.

ولا إشكال في عدم جريان الاستصحاب إذا كان الشك في الزمان على الوجه الثاني ، فان الزمان الحاضر حدث إما من الليل وإما من النهار ، فلا يقين بكونه من الليل أو النهار حتى يستصحب حاله السابق (1)

وإن كان الشك فيه على الوجه الأول : فالاستصحاب يجري فيه ، فان الليل والنهار وإن كان اسما لمجموع ما بين الحدين ، فالليل من الغروب إلى الطلوع والنهار من الطلوع إلى الغروب ، فكان الليل والنهار عبارة عن مجموع الآنات

ص: 435


1- أقول : أمكن أن يقال : إن ذات الشيء إذا كانت تدريجية فالوصف الطاري عليه أيضا تدريجي ، وبعد ذا لا بأس بدعوى : أن اتصاف الآنات التدريجية بالليلية أو النهارية أيضا تدريجي ، وحينئذ لا بأس لبقاء الليلية الثابتة لكل آن تدريجا لمثل هذا الآن المشكوك ليليته مثلا ، وبعبارة أخرى : الليلية التدريجية الثابتة للآنات حادثة بحدوث الآنات وباقية ببقائها ، بملاحظة أن صدق البقاء في الآنات كما أنه بتلاحق بقية الآنات بالآنات السابقة ، كذلك صدق بقاء وصف ليليتها بتلاحق هذه القطعة من الوصف الثابت للبقية ببقية قطعاتها الثابتة سابقا ، فتدبر.

المتصلة المتبادلة ويكون كل آن جزء من الليل أو النهار لا جزئي ، إلا أنه لكل من الليل والنهار وحدة عرفية محفوظة بتبادل الآنات وتصرمها ، ويكون وجود الليل والنهار عرفا بوجود أول جزء منهما ويبقى مستمرا إلى آخر جزء منهما ، فبلحاظ هذه الوحدة الاتصالية العرفية التي تكون لليل والنهار يصح استصحابهما عند الشك في الارتفاع ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

بل ربما يقال : باتحاد القضيتين حقيقة ، لاتصال آنات الليل وكذا آنات النهار وعدم تخلل العدم بينهما. وعلى كل حال : المنع عن الاتحاد الحقيقي لا يضر بصحة الاستصحاب بعد الاتحاد العرفي الذي عليه المدار في باب الاستصحاب ، فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث الزمان أو بقائه بمفاد كان وليس التامتين ، ويترتب عليه كل أثر شرعي مترتب على وجود الليل أو النهار ، فعند الشك في الحدوث يجري استصحاب العدم ، وعند الشك في البقاء يجري استصحاب الوجود.

نعم : يبقى الاشكال في أن استصحاب وجود الليل أو النهار هل يثبت وقوع متعلق التكليف أو موضوعه في الليل والنهار؟ أو أنه لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت؟.

وتوضيح الاشكال : هو أنه يعتبر في الموقتات إحراز وقوعها في الزمان الذي اخذ ظرفا لامتثالها ، فإنه لا يحصل العلم بالفراغ مع عدم إحراز ذلك ، فيعتبر في الصلاة اليومية وقوعها في اليوم وفي الصلاة الليلية وقوعها في الليل ، ويعتبر في الصوم وقوعه في رمضان ، وهكذا في سائر الموقتات ، فإنه يعتبر إحراز وقوعها فيما اخذ ظرفا لها من الزمان ، وباستصحاب وجود الليل والنهار لا يمكن إثبات الظرفية ، فإنها كحكاية الحال من العناوين التي لا يثبتها الاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت ، بل غاية ما يمكن إثباته بالاستصحاب بضم الوجدان إليه هو وجود الفعل أو الموضوع عند وجود الليل أو النهار ، وأما كونهما واقعين في

ص: 436

الليل والنهار فلا يكاد يثبته الاستصحاب.

وحاصل الكلام : أن استصحاب الزمان لا يقتضي أزيد من وجود الزمان ليلا كان أو نهارا رمضانا كان أو شعبانا ، وأما كون هذا الزمان الحاضر من الليل أو النهار فلا يثبته الاستصحاب ، ومع عدم إثبات ذلك لا يصدق على الفعل كونه واقعا في الليل أو النهار الذي اخذ ظرفا لوقوعه ، كما هو ظاهر أدلة التوقيت.

اللّهم إلا أن يدعى : أن أدلة التوقيت لا تقتضي أزيد من اعتبار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقق معنى الظرفية ولم يصدق على الفعل كونه واقعا في الزمان الذي اخذ ظرفا له شرعا ، بل يكفي مجرد صدق وقوع الفعل عند وجود وقته.

هذا ، ولكن الظاهر أنه لا سبيل إلى هذه الدعوى ، فإنه لا يمكن إنكار دلالة أدلة التوقيت على اعتبار الظرفية ووقوع الفعل في الزمان المضروب له ، وعلى هذا تقل فائدة استصحاب الزمان ، فان الأثر المهم إنما يظهر في باب الموقتات ، والمفروض : أن استصحاب بقاء الوقت لا يثبت وقوع الفعل في الوقت ، فلا يظهر لاستصحاب بقاء الوقت أثر إلا إذا كان الزمان شرطا للتكليف ، فان الظرفية لا تعتبر فيه بل يكفي إحراز وجود الوقت ولو بالأصل ، ويترتب عليه الوجوب ، كما في وجوب الامساك والافطار وغير ذلك من الاحكام المشروطة بأوقات خاصة ، فلو شك في بقاء رمضان يجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه وجوب الامساك وإن لم يثبت كون الامساك في رمضان ، بل يكفي في وجوب الامساك مجرد العلم بوجود رمضان ، فإنه متى تحقق رمضان وجب الامساك ولا يحتاج إلى إحراز معنى الظرفية ، وهذا بخلاف ما إذا كان الزمان شرطا للواجب ، فان الظاهر من أخذ الزمان قيدا للامتثال هو اعتبار الظرفية ، فلا يعلم بالخروج عن عهدة التكليف إلا بعد إحراز وقوع الفعل المأمور به في الزمان

ص: 437

الذي اخذ ظرفا له ، وقد عرفت أنه باستصحاب وجود الزمان لا يمكن إثبات الظرفية.

ففي مثل الصلاة الذي اخذ ما بين الزوال والغروب ظرفا لايقاعها لا يكفي مجرد استصحاب بقاء الوقت في إثبات وقوعها فيما بين الحدين ، وكذلك غير الصلاة مما اعتبر الزمان ظرفا لامتثاله.

ومن ذلك يتولد إشكال ، وهو أنه لو شك في بقاء وقت وجوب الصلاة فالاستصحاب يجري فيه ويترتب عليه بقاء الوجوب ، ومع هذا لا يتحقق الامتثال لو أوقع المكلف الصلاة في الوقت المستصحب ، لعدم إحراز الظرفية وكون الصلاة واقعة في الوقت المضروب لها ، لما عرفت : من أن استصحاب بقاء الوقت لا يثبت الظرفية ، فيلزم التفكيك بين استصحاب وقت الوجوب واستصحاب وقت الواجب.

ولا يندفع الاشكال باستصحاب نفس الحكم - كما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام - فإنه إن أريد من الاستصحاب الحكمي إثبات بقاء بنفس الحكم ، فالاستصحاب الموضوعي - وهو استصحاب بقاء وقت الحكم - يجري ويترتب عليه بقاء الحكم ولا يكون من الأصل المثبت ، وإن أريد من استصحاب الحكم إثبات وقوع الفعل المأمور به في وقته ، فهذا مما لا يثبته استصحاب بقاء وقت الوجوب ، فضلا عن استصحاب بقاء نفس الوجوب ، فالاستصحاب الحكمي لا أثر له ، فان الأثر الذي يمكن إثباته فبالاستصحاب الموضوعي يثبت ، والأثر الذي لا يمكن إثباته فبالاستصحاب الحكمي لا يثبت ، فلا فائدة في الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي.

فالعمدة في المقام : هو دفع الاشكال الذي يلزم من جريان استصحاب بقاء وقت الوجوب المثبت لوجوب الصلاة مع أنه لا يتحقق الامتثال عند إيقاع الصلاة في الوقت المستصحب ، فتأمل. وليكن هذا الاشكال على ذكر منك

ص: 438

لعله يأتي بعد ذلك ما يمكن الذب عنه (1) فان شيخنا الأستاذ - مد ظله - تعرض للاشكال في المقام وأوعد الجواب عنه.

المقام الثاني :
اشارة

في استصحاب الزمانيات التدريجية المبنية على التقضي والتصرم ، كالحركة والتكلم وجريان الماء وسيلان الدم الماء ونحو ذلك.

وخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الزماني

تارة : يكون لأجل الشك في بقاء المبدأ الذي اقتضى وجود الزماني بعد إحراز مقدار استعداد بقائه ، كما إذا أحرز انقداح الداعي في نفس المتكلم للتكلم مقدار ساعة وشك في بقاء التكلم لاحتمال وجود صارف زماني عن الداعي أوجب قطع الكلام ، وكما لو أحرز مقدار استعداد عروق الأرض أو باطن الرحم لنبع الماء وسيلان الدم وشك في بقاء النبع والسيلان لاحتمال وجود مانع عن ذلك.

وأخرى : يكون الشك في بقاء الزماني لأجل الشك في مقدار اقتضاء استعداد المبدأ لوجود الزماني ، كما إذا شك في مقدار انقداح الداعي للتكلم

ص: 439


1- أقول : في لسان أدلة الموقتات التي أعظمها الصلاة ليس إلا قوله : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » وقوله : « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل » ومثل هذه الألسنة لا تقتضي كون عنوان « الوقوع في الوقت المضروب » شرطا شرعا ، بل إنما هو من لوازمه عقلا المترتب على الأعم من الواقع والظاهر ، نظير بقية الروابط في المشروطات بشروطها. وعلى فرض كونه من اللوازم الواقعية فليس شأن الاستصحاب إلا تطبيق ما هو مأخوذ في لسان الدليل شرعا ، كما هو واضح. مع أنه على فرض أخذ الوقوع في الزمان الخاص شرطا شرعيا ، فلا يعنى من وقوعه فيه إلا اعتبار إضافة إلى زمان اتصف بالليلية أو النهارية ، ولو بنينا على استصحاب الليلية والنهارية للآنات التدريجية بنحو التدرج صدق حينئذ وقوع صلاته في زمان وجدانا ، وهذا الزمان ليل أو نهار بالأصل ، ولقد مر منا أنه لا قصور في استصحاب الليلية والنهارية التدريجية للآنات التدريجية ، كما أسلفناه في الحاشية السابقة ، فتدبر.

ومقدار استعداد عروق الأرض وباطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم ، بحيث احتمل أن يكون انقطاع التكلم والماء والدم لأجل عدم اقتضاء المبدأ لبقاء ذلك ، لا لوجود صارف أو مانع زماني.

وثالثة : يكون الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول بعد العلم بارتفاعه ، كما إذا شك في بقاء التكلم والماء والدم لأجل احتمال انقداح داع آخر في نفس المتكلم يقتضي التكلم بعد القطع بارتفاع الداعي الأول أو احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول يقتضي جريان الماء أو احتمال عروض أمر في باطن الرحم يقتضي سيلان الدم بعد القطع بارتفاع ما كان في باطن الرحم أولا ، فهذه جملة ما يتصور من الوجوه التي يمكن أن يقع عليها الشك في بقاء الزمانيات المتدرجة في الوجود.

أما الوجه الأول : فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب فيه ، فان ما يتحقق من الكلام خارجا عند اشتغال المتكلم به وإن كان ذا أفراد متعاقبة ولا يتحقق فرد إلا بعد انعدام الفرد السابق ويكون كل كلمة بل كل حرف فرد مستقلا من الكلام ، إلا أنه عرفا يعد فردا واحدا من الكلام وإن طال مجلس التكلم وأن ما يوجد منه في الخارج بمنزلة الاجزاء لكلام واحد ، فيكون للكلام حافظ وحدة عرفية ، ووجوده عرفا إنما يكون بأول جزء منه ويبقى مستمرا إلى انقطاع الكلام وانتهاء مجلس التكلم ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

وبالجملة : الشك في بقاء التكلم وإن كان حقيقة يرجع إلى الشك في وجود فرد آخر مقارن لانعدام الفرد السابق فيندرج في الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي - الذي قد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه - إلا أنه لما كان جميع ما يوجد من الكلام في الخارج مع وحدة الداعي ومجلس التكلم يعد عرفا كلاما واحدا ، فالشك في بقائه يرجع

ص: 440

بتقريب إلى القسم الأول أو الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وبتقريب آخر إلى الوجه الثالث من القسم الثالث من تلك الأقسام ، وهو ما إذا كان الشك في بقاء القدر المشترك لأجل احتمال تبدل الحادث إلى مرتبة أخرى من مراتبه بعد القطع بارتفاع المرتبة السابقة ، وقد تقدم : أن الأقوى جريان الاستصحاب فيه.

فالأقوى : جريان الاستصحاب في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في الشك في بقاء الزمانيات المتصرمة.

ويلحق به الوجه الثاني ، وهو ما إذا كان الشك في بقائها لأجل الشك في مقدار استعداد بقاء المبدء ، فان الشك في بقاء الزماني فيه أيضا يرجع إلى الشك في بقاء ما وجد ، فإنه لا فرق في صدق وحدة الكلام والماء والدم بين أن يكون المبدء يقتضي وجودها ساعة من الزمان أو ساعتين ، فيجري الاستصحاب في الساعة الثانية عند الشك في اقتضاء المبدء للوجود فيها ، مع قطع النظر عن كونه من الشك في المقتضي إلي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه.

وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا كان الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر يقتضي وجوده مقام المبدء الأول الذي علم بارتفاعه ، فالأقوى : عدم جريان الاستصحاب فيه ، لأنه يرجع إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، فان وحدة الكلام عرفا إنما يكون بوحدة الداعي ، فيتعدد الكلام بتعدد الداعي ، فيشك في حدوث فرد آخر للكلام مقارن لارتفاع الأول عند احتمال قيام داع آخر في النفس بعد القطع بارتفاع ما كان منقدحا في النفس أولا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وكذا الحال في الماء والدم ونحو ذلك من الأمور التدريجية (1) فتأمل.

ص: 441


1- 1 - أقول : على فرض تسليم ما أفيد في التكلم : من مساعدة العرف على تغير التكلم من فرد إلى فرد آخر حسب اختلاف الدواعي في الكلام - مع أنه لا كلية فيه أيضا وإنما العرف يساعد في صورة تغير عنوان الكلام من مثل القرآن والدعاء على اختلاف الأدعية والسور أيضا - لا مجال لتسليمه في جريان الماء والدم إلا بتغير خصوصيتها المتقومة عرفا ، وإلا فمثل اختلاف المبدء في هذه الأمور كمثل اختلاف عمود الخيمة بالنسبة إلى بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لو شك في بقاء عمود آخر مقام العمود السابق المنتفي قطعا ، فإنه لا قصور في استصحاب بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لا يخفى.
تذييل :

قد ذكر الشيخ قدس سره للشك المتعلق بالزمان والزماني أقساما ثلاثة :

الأول : الشك في بقاء الزمان. واختار فيه جريان الاستصحاب بالبيان المتقدم.

الثاني : الشك في بقاء الزماني المتصرم ، كالتكلم والحركة. وقد أطلق جريان الاستصحاب فيه ، ولكن كان الأنسب أن يذكر فيه التفصيل المتقدم.

الثالث : الشك في بقاء الزماني المقيد بالزمان الخاص ، كما إذا وجب الجلوس إلى الزوال ثم شك في وجوب الجلوس بعد الزوال. وقد جزم بعدم جريان الاستصحاب فيه.

والحق فيه أيضا التفصيل بين كون الزمان قيدا للجلوس مكثرا للموضوع بحيث كان الجلوس بعد الزوال مغايرا للجلوس قبله وبين كون الزمان ظرفا له ، ففي الأول لا يجري الاستصحاب ، وفي الثاني يجري. ومجرد أخذ الزمان الخاص في دليل الحكم لا يقتضي القيدية الموجبة لتكثر الموضوع ، بل يمكن فيه الظرفية أيضا.

ومن الغريب! ما حكاه الشيخ قدس سره عن الفاضل النراقي رحمه اللّه من القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الاحكام ، كما لو علم بوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فاستصحاب بقاء الوجوب الثابت قبل الزوال يعارض استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي للجلوس بعد الزوال ، فان المتيقن من

ص: 442

انتقاض العدم الأزلي هو وجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، فكما يصح استصحاب بقاء الوجوب إلى ما بعد الزوال ، كذلك يصح استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي إلى ما بعد الزوال ، وليس الحكم ببقاء أحد المستصحبين أولى من الحكم ببقاء الآخر.

ثم أورد على نفسه بما حاصله : أن الشك في بقاء العدم الأزلي بعد الزوال ليس متصلا باليقين لفصل اليقين بالوجوب الثابت قبل الزوال بين اليقين بالعدم الأزلي وبين الشك في بقائه بعد الزوال ، وهذا بخلاف الشك في بقاء الوجوب بعد الزوال ، فإنه متصل بيقينه.

وأجاب عن ذلك : بأنه يمكن فرض حصول الشك في يوم الخميس ببقاء عدم الوجوب بعد زوال يوم الجمعة ، فيتصل زمان الشك بزمان اليقين ، فإنه في يوم الخميس يعلم بعدم وجوب الجلوس ويشك في وجوبه بعد الزوال من يوم الجمعة ، فيجتمع زمان اليقين والشك في يوم الخميس ويتصل أحدهما بالآخر.

ثم ذكر أمثلة اخر لتعارض الاستصحابين :

منها : ما إذا حصل الشك في بقاء وجوب الصوم والامساك في أثناء النهار ، كما إذا عرض للمكلف مرض أوجب الشك في وجوب الامساك عليه ، فيعارض استصحاب بقاء وجوب الصوم الثابت قبل عروض المرض مع استصحاب بقاء عدم وجوب الصوم الأزلي في الزمان الذي يشك في وجوب الصوم فيه.

ومنها : ما إذا شك في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو بقاء النجاسة بعد الغسل بالماء مرة واحدة ، فيعارض استصحاب بقاء الطهارة الحدثية والخبثية مع استصحاب عدم إيجاب الشارع الوضوء عقيب المذي (1) وتشريع النجاسة

ص: 443


1- 1 - لا يخفى عليك ما في هذه العبارة من الخلط ، والصحيح أن يقال : « مع استصحاب عدم جعل الوضوء المتعقب للمذي موجبا للطهارة » ( المصحح )

عقيب الغسل مرة واحدة.

ففي جميع هذه الأمثلة يقع التعارض بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم الأزلي. نعم : في خصوص مثال الوضوء والمذي يكون استصحاب عدم جعل الشارع المذي رافعا للطهارة حاكما على استصحاب عدم جعل الوضوء المتعقب بالمذي موجبا للطهارة. هذا حاصل ما حكاه الشيخ قدس سره عن الفاضل النراقي.

وقد أورد عليه بقوله : وفيه أولا وثانيا وثالثا. وحاصل ما ذكره في الامر الأول : هو أن الزمان في مثال وجوب الجلوس إلى الزوال ، إما أن يؤخذ قيدا للحكم أو الموضوع ، واما أن يؤخذ ظرفا له ، فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب الوجود لارتفاع الوجود قطعا بعد الزوال ، فلو ثبت وجوب الجلوس بعده فهو فرد آخر للوجوب والجلوس مباين لما كان قبل الزوال ، فان التقييد بالزمان يقتضي تعدد الموضوع وكون الموجود بعده غير الموجود قبله ، فأخذ الزمان قيدا يقتضي عدم جريان استصحاب الوجود ، بل يجري فيه استصحاب العدم الأزلي فقط ، لان العدم الأزلي وإن انتقض بالوجود ، إلا أنه انتقض بالوجود المقيد بزمان خاص ، وانتقاضه إلى المقيد لا يلازم انتقاضه المطلق ، فيستصحب عدمه المطلق فيما بعد الزوال.

هذا إذا اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع. وإن اخذ ظرفا له : فلا يجري فيه استصحاب العدم الأزلي ، لانتقاض العدم إلى الوجود المطلق الغير المقيد بزمان خاص ، والشيء المنتقض لا يمكن استصحابه ، بل لابد من استصحاب الوجود ، ففي المورد الذي يجري فيه استصحاب العدم لا يجري فيه استصحاب الوجود ، وفي المورد الذي يجري فيه استصحاب الوجود لا يجري فيه استصحاب

ص: 444

العدم ، فكيف يعقل وقوع التعارض بينهما مع كون التعارض فرع الاجتماع؟.

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : « أما أولا ».

ولكن للنظر فيما أفاده مجال ، فان الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا ، وإن اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع ، لان العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوقا به ، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كل حادث إنما يكون بحدوث الحادث وشاغليته لصفحة الوجود ، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده فهذا العدم غير العدم الأزلي ، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشئ.

وبعبارة أوضح : العدم المقيد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنما يكون متقوما بوجود القيد ، كما أن الوجود المقيد بقيد خاص إنما يكون متقوما بوجود القيد ، ولا يعقل أن يتقدم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عنه ، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقق في يوم الجمعة.

وحينئذ نقول : إنه إذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا (1) فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لاخذ الزوال قيدا

ص: 445


1- أقول : مرجع أخذ الزمان قيدا ومفردا للموضوع كون الوجوب الثابت له وجوبا آخر غير ما يثبت للفرد الآخر ، فقهرا يصير المجعول في المقام فردين من الوجوب ، غاية الامر يكون الفردان تدريجيان حسب تدريجية موضوعاته المقيدات بالزمان. فعند ذلك نقول : إن كل واحد من هذه الافراد هل من الحوادث الملازم لسبقه بالعدم أم لا؟ لا سبيل إلى الثاني. كما أن مرجع حدوث الشيء إلى سبقه بعدم نفسه ، لا بعدم الطبيعة الجامعة بينه وبين غيره ، فإذا كان الفرد الثاني أيضا حادثا فلا محيص من أن يكون وجوده مسبوقا بعدم نفسه ، ومرجعه إلى سبقه بالعدم المضاف إلى المقيد لا بالعدم المقيد ، إذ العدم المقيد لا يكون نقيض الوجود المقيد ، كيف! وبارتفاع القيد يلزم ارتفاع النقيضين ، وهو كما ترى! بل الوجود والعدم طاريان على الماهية المقيدة بنحو يكون القيد في مثلها مأخوذا في مرتبة ذاتها السابقة في اللحاظ عن مرتبة طرو الوجود والعدم عليه ، فالوجود والعدم في عالم طروهما على المقيد مرسلتان عن القيد ، كيف! والقيد مأخوذ في معروض الوجود فكيف يرجع هذا القيد إلى نفسه؟ نعم : هو مانع عن إطلاق الوجود ، لا أنه موجب لتقيده ، كما هو الشأن في كل قيد مأخوذ في الموضوع أو الحكم بالقياس إلى غيره من حكمه أو موضوعه ، وحينئذ فقهرا العدم المضاف إلى هذا الفرد المقوم لحدوثه لا محيص من كونه أزليا ، وما ليس أزلي هو العدم المقيد ، بحيث يكون القيد راجعا إلى العدم لا إلى المعدوم ، ولإن تأملت ترى هذه المغالطة دعاه إلى انكار الاستصحاب في كلية الاعدام الأزلية في موارد الشك في مقارنة الموجود الخاص بوصف ، كقرشية المرأة وأمثاله ، كما شرحه في رسالة مستقلة ، ونحن أيضا كتبنا شرح مغالطته في رسالة مستقلة ، فراجع الرسالتين ، ولا تنظر إلى الرعد والبرق منه ومن أصحابه المتعبدين بمسلك أستاذهم!!!.

للوجوب ، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون هو العدم الأزلي ، لأنه مقيد بكونه بعد الزوال ، والعدم المقيد غير العدم المطلق المعبر عنه بالعدم الأزلي ، فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق ، بل هو العدم المقيد بما بعد الزوال ، فإنه لو قطعنا النظر عن قيد كونه بعد الزوال ولاحظنا العدم المطلق فهو مقطوع الانتقاض لوجوب الجلوس قبل الزوال ، فلابد وأن يكون المستصحب هو العدم بعد الزوال ، والعدم المقيد بما بعد الزوال كالوجود المقيد به قوامه وتحققه إنما يكون بما بعد الزوال ولا يكون له تحقق قبل الزوال ، فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلا إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم.

وأما إذا فرض أنه في أول الزوال شك في الوجود والعدم - كما هو مفروض الكلام - فلا مجال لاستصحاب العدم ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة والاشتغال.

وحاصل الكلام : وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان حادثا مسبوقا بالعدم ، إلا أن العدم المسبوق به ليس هو العدم الأزلي ، لانتقاض العدم الأزلي بوجوب الجلوس قبل الزوال (1) فلابد وأن يكون العدم المسبوق به هو العدم آن الزوال أو بعد الزوال لو فرض أن آن الزوال كما قبل الزوال يجب الجلوس فيه ،

ص: 446


1- أقول : بعد الاعتراف بأنه حادث مسبوق بالعدم ، فأين عدم سبقه الوجوب من حين الزوال؟ فان لم يكن له عدم فكيف يكون حادثا؟ وإن كان حادثا فعليك بتعيين عدمه! وليس لك أن تقول بأن عدم الحكم بعدم موضوعه ، إذ الوجوب لابد وأن يكون في ظرف عدم الموضوع، إذ بوجوده يسقط الوجوب ، وحينئذ لا محيص إلا من الاعتراف بما ذكرناه ، فتدبر.

فقبل الزوال ليس الوجب المقيد بما بعد الزوال متحققا ولا عدم الوجوب المقيد بذلك متحققا ، إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

نعم : جعل الوجوب بعد الزوال وإنشائه إنما يكون أزليا كعدم الجعل والانشاء ، فإنه لا مانع من إنشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس أو قبله ، بل إنشاء الأحكام الشرعية كلها أزلية ، فإذا شك في جعل وجوب الجلوس بعد الزوال أزلا فالأصل عدم الجعل ، لان كل جعل شرعي مسبوق بالعدم ، من غير فرق بين أخذ الزمان قيدا أو ظرفا ، غايته أنه إن أخذ الزمان قيدا لوجوب الجلوس لم يعلم انتقاض عدم الجعل بالنسبة إلى ما بعد الزوال ، لأنه بناء على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال ، وحيث إنه يشك في جعل الوجوب بعد الزوال فالأصل عدمه.

ولعل مراد الشيخ قدس سره من استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال إذا كان الزمان قيدا هو عدم الجعل ، لا عدم المجعول ، لما عرفت : من أن عدم المجعول بعد الزوال لا يكون أزليا ، بخلاف عدم الجعل ، ولكن قد تقدم بما لا مزيد عليه في مباحث الأقل والأكثر أنه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلا باعتبار ما يلزمه : من عدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت.

هذا ، مضافا إلى ما عرفت أيضا في مباحث الأقل والأكثر : من أن استصحاب البراءة الأصلية - المعبر عنه باستصحاب حال العقل - لا يجري مطلقا ، لان العدم الأزلي ليس هو إلا عبارة عن اللاحكمية واللاحرجية ، وهذا المعنى بعد وجود المكلف واجتماع شرائط التكليف فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة ، فان اللاحرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير

ص: 447

اللا حرجية قبل وجود المكلف ، إذا الأول يستند إلى الشارع والثاني لا يستند إليه ، فراجع ما سبق منا في بعض مباحث الأقل والأكثر.

فتحصل مما ذكرنا : أنه لا مجال لما أفاده الشيخ قدس سره من استصحاب العدم الأزلي إذا كان الزمان قيدا لوجوب الجلوس قبل الزوال (1) بل لابد في ذلك من الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال. نعم : لا إشكال فيما افاده : من استصحاب الوجوب الثابت قبل الزوال إذا كان الزمان ظرفا للموضوع أو الحكم.

وعلى كل تقدير : لا يستقيم ما ذكره الفاضل المتقدم : من تعارض استصحاب الوجود والعدم في مثال وجوب الجلوس قبل الزوال مع الشك في وجوبه بعده ، فإنه إن اخذ الزمان ظرفا فلا يجري إلا استصحاب الوجوب ، وإن أخذ قيدا فلا يجري استصحاب الوجوب ولا استصحاب عدم الوجوب ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال.

وأما ما ذكره من مثال الصوم : ففيه أولا : أنه لابد من فرض الصحة والمرض من حالات الموضوع والمكلف الذي يجب عليه الصوم لا من القيود المأخوذة فيه ، بداهة أنه لو كان المريض والصحيح موضوعين مستقلين يجب على أحدهما الافطار وعلى الآخر الامساك كالمسافر والحاضر ، فالشك في عروض المرض المسوغ للافطار يوجب الشك في بقاء الموضوع ، فلا مجال لاستصحاب الحكم ، لعدم اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

ودعوى : كون المرض والصحة من الحالات لا القيود المقومة للموضوع واضحة الفساد (2).

ص: 448


1- أقول : ولعمري! إنك بعد الاعتراف بكون كل فرد من الوجوبات الثابتة للمقيدات بالأزمنة أفرادا حادثة تدريجية لطبيعة الوجوب ، لا محيص لك من الالتزام بسبق كل فرد حادث بعدم نفسه ، فيستصحب حينئذ هذا العدم ، وإلا فلابد وأن ننكر حدوث كل فرد وحادثيته بشخصه ، وهو كما ترى.
2- أقول : لا نرى وضوح فساده إذا كان المدار على العرف.

وثانيا : ما تقدم من أنه لا يجرى استصحاب عدم الوجوب ، بالتقريب المتقدم.

وأما ما ذكره من مثال الوضوء والمذي والنجاسة والغسل مرة واحدة : ففيه مضافا إلى ما تقدم أن رتبة جعل المذي رافعا لاثر الطهارة أو غير رافع له إنما تكون متأخرة عن رتبة جعل الوضوء سببا للطهارة ، فلا يعقل أخذ عدم رافعية المذي قيدا في سببية الوضوء للطهارة ، فتأمل جيدا.

- التنبيه الخامس -
اشارة

قد تقدم : أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون الدليل المثبت للمستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة. وقد خالف في ذلك الشيخ قدس سره فذهب إلى عدم جريان الاستصحاب إذا كان الدليل هو العقل ، وقد عرفت ضعفه. ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن البحث عن جريان الاستصحاب في باب المستقلات العقلية يقع في مقامات ثلاث :

الأول : في استصحاب نفس الحسن والقبح العقلي عند الشك في بقائه لأجل حصول الغاية أو وجود الرافع.

الثاني : في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة.

الثالث : في استصحاب الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته.

أما المقام الأول : فلا أثر للبحث عنه ، إذ لا يترتب على استصحاب الحسن والقبح العقلي أثر إلا إذا أريد من استصحابه إثبات الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة (1) ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بحجية الأصل

ص: 449


1- 1 - أقول : الأولى أن يقال : إن الحسن والقبح بعدما كان من الاحكام العقلية الوجدانية بحيث يكون دركه إياه مقوم وجوده وليس من الاحكام العقلية الاستكشافية التي يكون دركه لها طريقا عليها - كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدين - فلا يتصور فيها الشك ، إذ بمجرد عروض ما يوجب زوال دركه يقطع بعدم دركه الحسن. نعم : ما هو مشكوك حينئذ هو ملاك حسنه من المصالح الواقعية الغير المرتبطة بعالم الاحكام العقلية ، وحينئذ فلا ينتهي النوبة إلى ابتناء المسألة بالأصول المثبتة ، كما لا يخفى. ثم إن المقرر خلط بين نحوي الحكمين فيما يأتي ، وننتظر لسان خلطه في محله.

المثبت ، فان جريان الأصل في أحد المتلازمين لاثبات اللازم الآخر يكون من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، وذلك واضح.

وأما المقام الثاني : فالحق جريان الاستصحاب فيه ، سواء كان الشك في الغاية أو الرافع ، وسواء كان الرافع والغاية شرعيين أو عقليين ، فإنه لا موجب لتوهم عدم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل كون الاحكام العقلية مما لا يعرضها الاجمال والاهمال فلا يمكن أن يدخلها الشك ، فان الشك في بقاء الحكم أو الموضوع لابد وأن يكون لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يكون الحكم أو الموضوع واجدا لها ، فإنه مع بقاء الشيء على ما هو عليه لا يمكن أن يدخله الشك. ومن المعلوم : أن العقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد تشخيص الموضوع وتبينه لديه بتمام ما له دخل في الموضوع ، فكل خصوصية أخذها العقل في الموضوع فلابد وأن يكون لها دخل في ملاك حكمه ، فلا يمكن الشك في بقاء حكم العقل ، فإنه إن كان واجدا للخصوصية التي اعتبرها العقل فيه فلا محالة يقطع ببقاء الحكم ، وإن كان فاقدا لها فيقطع بارتفاع الحكم ، ولا يعقل الشك من نفس الحاكم خصوصا مثل العقل الذي لا يستقل بشيء إلا بعد الالتفات إليه بجميع ما يعتبر فيه ، فإذا كان كان الحكم العقلي مما لا يتطرق إليه الشك فالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أيضا لا يتطرق إليه الشك ، لان الحكم الشرعي تابع للحكم العقلي في الموضوع والملاك ، فلا يمكن أن يدخله الشك ، فالاستصحاب لا يجري ، لا في الحكم العقلي ولا في الحكم الشرعي المستكشف منه بقاعدة الملازمة.

ص: 450

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية.

ولكنه ضعيف ، لما فيه :

أولا : المنع عن كون كل خصوصية اعتبرها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكم العقل ، إذ من الممكن أن لا تكون للخصوصية دخل في المناط واقعا ، وإنما أخذها العقل في موضوع حكمه لمكان أن الموضوع الواجد لها هو المتيقن في اشتماله على الملاك بنظر العقل ، مع أن العقل يحتمل أن لا يكون لها دخل في الملاك واقعا ، فيكون حكم العقل بحسن الواجد لها أو قبحه من باب الاخذ بالقدر المتيقن.

ودعوى : أن الاحكام العقلية كلها مبينة مفصلة مما لا شاهد عليها ، إذ من المحتمل أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الغير النافع من جهة أن الكذب الواجد لهذه الخصوصيات هو المتيقن في قبحه وقيام المفسدة به ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية الضرر أو عدم النفع دخل فيما هو مناط القبح ، بل يكون نفس العقل شاكا في قبح الكذب الغير الضار.

وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه فلابد وأن يكون لها دخل في المناط بنظر العقل ، إلا أن ذلك يمنع عن استصحاب حكم العقل ، وليس المقصود ذلك ، لما عرفت : من أن استصحاب حكم العقل لا أثر له ، بل المقصود استصحاب حكم الشرع ، فيمكن أن لا يكون لبعض الخصوصيات التي أخذها العقل في موضوع حكمه دخل في الموضوع عرفا ، فلا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا (1) والمناط في جريان الاستصحاب هو بقاء

ص: 451


1- 1 - أقول : بل الأولى أن يقال : ليس كل ما هو دخيل في حكمه العقلي دخيلا في مناطه ولو عقلا ، والحكم الشرعي تابع مناطه ، وإلا فلو كان دخيلا في مناطه عقلا فعدمه يوجب القطع بعدم المناط ، ومع القطع بعدمه يقطع بعدم الحكم الشرعي التابع له ، إلا إذا فرض احتمال أو سعية مناط الحكم الشرعي عن الحكم العقلي عقلا. وعلى أي حال : حكم العرف في المقام ببقاء الموضوع أجنبي عن مرحلة الشك في بقائه ، إذ هو تابع احتمال عدم الدخل عقلا ، كما هو ظاهر.

الموضوع عرفا لا عقلا. فالانصاف : أنه لا مجال للاشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا.

وأما المقام الثالث : وهو استصحاب بقاء الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته ، فخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الموضوع إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في موضوعية الموضوع (1) فلا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الموضوع إن لم تكن تلك الخصوصية من أركان الموضوع عرفا ولا يضر انتفائها ببقائه في نظر العرف وإن كانت عند العقل من مقومات الموضوع وأركانه ، فان كونها عند العقل كذلك إنما يضر بالاستصحاب إذا بنينا على أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العقل ، وأما إذا بنينا على أخذه من العرف - على ما سيأتي بيانه - فكونها من مقومات الموضوع عقلا لا يمنع عن الاستصحاب. هذا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنه يحتمل أن لا يكون لها دخل في الموضوع عقلا ، بل إنما كان حكم العقل على الواجد لها من باب الاخذ بالقدر المتيقن ، فمنع الشيخ قدس سره عن جريان الاستصحاب في هذا القسم من الشك في الموضوع في غير محله.

ص: 452


1- أقول : إن كان الغرض من استصحاب الموضوع في مثل المقام من الشبهات الحكمية استصحاب الموضوع بوصف موضوعيته ، فهو يرجع إلى استصحاب حكمه ، لان وصف الموضوعية منتزع عن حكمه ، فيغني استصحاب الاحكام عن مثله. وإن كان الغرض استصحاب ما هو معروض صفة الموضوعية الذي هو نفس الذات التي عرض عليها الحكم - كما هو الظاهر من كلامه - فمثل هذا الاستصحاب غير جار في كلية موضوعات الحكم في الشبهات الحكمية ، لان مرجع الشك فيه إلى الشك في أن الأعم من الواجد موضوع أم خصوص الواجد ، ومن البديهي أن ما هو المعروض أمره دائر بين مقطوع البقاء وبين مقطوع الارتفاع وأن الشك إنما تعلق ببقاء ما هو معروض الحكم بنحو الاجمال ، وهو بهذا العنوان لا أثر له ، فيكون حكم استصحابه حكم استصحاب الفرد المردد ، فتدبر.

وإن كان الشك في بقاء الموضوع لبعض الأمور الخارجية كالشك في بقاء وصف الاضرار في السم لاحتمال أن يكون قد تصرف الهواء فيه بحيث زال عنه وصف الاضرار ، فظاهر الشيخ قدس سره جريان الاستصحاب فيه إذا بنينا على حجية الاستصحاب من باب إفادته الظن بالبقاء لا من باب التعبد.

وهذا الكلام من الشيخ قدس سره بمكان من الغرابة! بداهية أن الظن المعتبر في باب الاستصحاب على القول بإفادته الظن إنما هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، فإنه لم يحتمل أحد اعتبار الظن الفعلي في جريان الاستصحاب ، والظن المعتبر في باب الظن بالضرر إنما هو الضرر الشخصي الفعلي ، فان العقل إنما يستقل بقبح الاقدام على الضرر المظنون فعلا ، واستصحاب بقاء الضرر في السم لا يوجب حصول الظن الفعلي ، وذلك واضح.

وعلى كل حال : ينبغي في المقام من تحرير الكلام في جميع موارد الشك في موضوعات الاحكام العقلية ، وإن كان قد سبق منا الكلام فيه.

وقبل ذلك ينبغي التنبيه على أمر :

وهو أنه ليس في الاحكام العقلية ما يستقل العقل بالبراءة فيها عند الشك في الموضوع الذي يحكم العقل بقبحه (1) بل للعقل حكم طريقي في صورة الشك

ص: 453


1- أقول : قد تقدم منا الإشارة إلى أن الاحكام العقلية سنخان : سنخ منها تابع وجدان العقل ، بحيث يكون دركه مقوم حكمه ، وهذا كحسن شيء لديه أو قبحه ، فان حقيقة الحسن ليس إلا عبارة عن ملائمة الشيء لدى القوة العاقلة - كسائر ملايمات الشيء لدى سائر قواه من السامعة والذائقة وغيرهما - قبال ما ينافر لدى القوة العاقلة ، فيسمى بالقبح - نظير سائر المنافرات لدى سائر القوى - وجميع هذه القوى في الحقيقة من آلات درك النفس وجنوده ، فالمدرك هو النفس بتوسيط هذه القوى. وعلى أي حال : بعدما كان قوام حسن الشيء أو قبحه بالدرك المزبور يستحيل تصور الشك في بقائه عند طرو ما يزيل مقدمات دركه. نعم : ما هو قابل للشك هو مناط حكم العقل : من المصالح والمفاسد ، وهو أيضا أجنبي عن الاحكام العقلية ، بل هو مناط أحكامه ، كما أنه ربما يكون مناطا للأحكام الشرعية أيضا ، وهذا بخلاف الاحكام الاستكشافية : من مثل استحالة اجتماع الضدين والنقيضين لديه ، فان دركه طريق إلى الاستحالة الواقعية ولا يكون مقوم استحالته ، نعم : تصديقه بالاستحالة طريق فهمه إياه ، وفي مثله ربما يطرء الشك في استحالة الشيء ، ومنه حكمه باستحالة التكليف بما لا يطاق واعتبار القدرة واقعا مع إمكان الشك فيه من جهة احتمال عدم قدرته. وحيث عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أنه في صورة احتمال فقدان ما له دخل في حكمه الواجداني يستحيل حينئذ أن يحتمل حكمه المتقوم بدركه ووجد انه بل في هذه الصورة يجزم بعدم الدرك ، إذ يستحيل خفاء الوجدانيات على الوجدان ، إذ مرجعه إلى الشك في تصديق نفسه بشيء ، وهو كما ترى! ومع الجزم بعدم دركه الحسن التكليف بما لا يطاق واعتبار القدرة واقعا مع إمكان الشك فيه من جهة احتمال عدم قدرته. وحيث عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أنه في صورة احتمال فقدان ما له دخل في حكمه الواجداني يستحيل حينئذ أن يحتمل حكمه المتقوم بدركه ووجد انه بل في هذه الصورة يجزم بعدم الدرك ، إذ يستحيل خفاء الوجدانيات على الوجدان ، إذ مرجعه إلى الشك في تصديق نفسه بشيء ، وهو كما ترى! ومع الجزم بعدم دركه الحسن المساوي لعدم حسنه لديه أين شك فيه كي يبقى مجال حكمه بايجاب الاحتياط في رتبة شكه؟ غاية ما في الباب ليس إلا احتمال المصلحة المقتضية لحكمه بحسن الشيء عند دركها ، وهذا الاحتمال لو كان موضوع حكم العقل بايجاب الاحتياط ، فيلزم حكمه به في كل شبهة حكمية أو موضوعية بدوية ، لاحتمال وجود ملاكه فيه ، ومرجع هذا الكلام إلى أن الأصل في الأشياء لدى العقل الحذر. و لعمري! إنّ ذلك مسلك سخيف لا يعتنى به، إذ العقل مستقلّ بالرخصة في صورة عدم البيان على الحكم الشرعي و لو مع احتمال ملاك حكمه. نعم: ما أفيد من الشكّ صحيح في الأحكام الاستكشافيّة: من مثل استحالة التكليف بغير المقدور و لا يطاق، و لكن الشكّ في الاستحالة لا يوجب أيضا حكم العقل ظاهرا على وفقه، و إلّا فيلزم حكمه بعدم التكليف مع الشكّ في القدرة، مع أنّه ليس كذلك، بل العقل مستقلّ بوجوب الاحتياط عند الشك به بملاحظة أنّ موضوع حكمه بالترخيص إنّما هو في صورة الشكّ في أصل الغرض، و أمّا مع العلم به أو الشكّ في قابليّة المحل لاستيفائه فهو داخل في حكم العقل بالاحتياط، و عمدة النكتة فيه: هو أنّ همّ العقل في باب الامتثال على تحصيل غرض المولى الكاشف عن تماميّة المصلحة في عالم القضيّة فعليّة خطابه، و لذا لو علم من الخارج تماميّة غرضه لما يحتاج إلى خطابه في وجوب تحصيله عقلا، بل لو فرض صدور خطاب عن مولاه اشتباها على خلافه لا يجب اتّباعه، و ذلك أقوى شاهد على أنّ تكاليف المولى طرّا طرق إلى ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الإتيان بلا موضوعيّة لفعليّة إرادة المولى فيه، و حيث كان الأمر كذلك، فمع دلالة الخطاب على تماميّة الغرض و عدم قصور في ناحية الملاك في وفائه بغرض مولاه و شكّ في قصور المورد عن توجيه التكليف، فقد تمّ ما على المولى بيانه، فيخرج المورد عن باب العقاب بلا بيان، إذ المفروض: أنّ المصلحة لا قصور في تماميّته في عالم الغرضيّة للمولى، و إنّما القصور لو كان فانّما هو في تمكّن العبد على تحصيله، فمع العلم بعدم القدرة لا يبقى لحكم العقل مجال بتحصيله، و مع عدم علمه به و احتمال القدرة في حقه يحكم حكما طريقيا بالاقدام علي الامتثال ، لتمامية البيان وان المانع عنه هو العجز الواصل لامجرد الشك فيه ومن هذا الباب ايضا الشك في وجود المزاحم الاهم او المساوي ، اذ مرجع الشك فيه الي الشك في القدرة علي اتيانه ، بل الامر فيه اوضح ، لان الشك في القدرة فرع كون المقتضي للقدرة التكليف بالاهم بوجوده واقعا ، والا فلو كان المقتضي له تنجزه. فيقطع بعدم تنجز الاهم الملازم للقطع بقدرته علي المهم وان كان التكليف به مشكوكا. و من هذا الباب: الشكّ في كلّ مزاحم و لو كان وجوده مانعا عن محبوبيّته، كما هو الشأن في باب اجتماع الأمر و النهي، إذ المصلحة في اقتضاء التكليف تامّ بلا قصور فيه، و إنّما القصور في المحلّ من جهة عدم قابليّته للتكليف لوجود المزاحم، و لذا نقول: إنّه مع الجهل بنهي المولى تكليفا أو موضوعا يجب الحركة على وفق المصلحة ما لم يكن ذلك أيضا من جهة في قدرته، و إلّا فالعقل أيضا يحكم على طبق المزاحم الأهمّ. و العجب كلّ العجب عن المقرّر!! حيث التزم بسراية هذه الجهة إلى كلّ حكم عقلي، بخيال أنّ المناط في حكم العقل بالاحتياط عند الشكّ في القدرة لمحض الشكّ في حكم العقل بضميمة تصوّر الشك في مطلق الأحكام العقليّة، فتدبّر نرى في كلام المقرّر من الخلط العظيم!!.

ص: 454

في الموضوع على طبق حكمه الواقعي ، ولا يمكن أن لا يكون للعقل حكم في موارد الشك في الموضوع أو يكون له حكم على خلاف حكمه على الموضوع الواقعي ، بل إذا استقل العقل بقبح الاقدام على شيء فلابد وأن يكون له حكم طريقي آخر بقبح الاقدام على مالا يؤمن أن يكون هو الموضوع للقبح ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان للشارع أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما مخالفا للحكم الذي رتبه على الموضوع أولا ، وله أيضا أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما موافقا لما حكم به أولا ، كما جعل أصالة الاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال وأصالة البراءة فيما عدا هذه الموارد الثلاثة.

ومنشأ الفرق بين الأحكام الشرعية والاحكام العقلية ، هو أن الأحكام الشرعية إنما تتبع المصالح والمفاسد النفس الأمرية ، وهي تختلف ، فقد تكون المفسدة بمرتبة من الأهمية بحيث لا يرضى الشارع بالاقتحام فيها مهما أمكن ، وقد لا تكون المفسدة بتلك المثابة ، فلو كانت المفسدة على الوجه الأول فعلى

ص: 455

الشارع سد باب الوقوع فيها ولو بإيجاب الاحتياط في موارد الشك - كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال - وإن كانت المفسدة على الوجه الثاني فللشارع الترخيص في الاقتحام في موارد الشك بجعل أصالة البراءة والحل. وطريق إحراز كون المفسدة على أي من الوجهين إنما يكون بقيام الدليل عليه ، فان قام الدليل على وجوب الاحتياط في موارد الشك فهو ، وإلا كان المتبع عمومات أدلة البراءة والحل.

وأما الاحكام العقلية : فحكم العقل بقبح شيء إنما يكون على وجه الاطلاق وفي جميع التقادير ، من غير فرق بين العلم والظن والشك ، فإذا استقل العقل بقبح شيء فيستقل أيضا بقبح الاقدام على مالا يؤمن معه من الوقوع في القبيح العقلي ، فالأصل في جميع المستقلات العقلية هو الاشتغال ، ولا مجال للاخذ بالبراءة فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن العقل إذا استقل بحسن شيء أو قبحه ، فتارة : يكون له حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم بتحقق الموضوع والظن به والشك فيه بل الوهم أيضا ، كحكمه بقبح التشريع ، فان موضوع التشريع وإن كان عبارة عن إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إلا أن الذي يستقل العقل بقبحه هو التدين بما لا يعلم أنه من الدين وإسناد شيء إلى الشارع من دون علم بأنه منه ، سواء علم بأنه ليس منه أو ظن أو شك ، فيكفي في القبيح العقلي مجرد احتمال عدم ورود التدين به ، وليس حكم العقل بقبح التشريع في صورة العلم بعدم ورود التدين به في الشريعة بمناط غير مناط حكمه بقبح التشريع في صورة الظن والشك ، بل بمناط واحد يستقل بقبح التدين بما لا يعلم أنه من الدين.

وأخرى : يكون للعقل حكمان : حكم واقعي مترتب على الموضوع الواقعي عند انكشافه والعلم به ، وحكم آخر طريقي في صورة الظن والشك في تحقق الموضوع ، كحكمه بقبح التصرف في أموال الناس ، فان القبيح العقلي هو

ص: 456

التصرف فيما كان مال الناس واقعا ، وأما عند الشك في كون المال مال الناس فله حكم طريقي بقبح التصرف في المشكوك مخافة أن يكون مال الناس واقعا ، فحكم العقل بقبح التصرف في المشكوك إنما يكون لمحض الاحتياط والطريقية ، نظير حكم الشارع بالاحتياط في باب الفروج والدماء.

إذا تبين ذلك ، فنقول : إنه في القسم الأول من الاحكام العقلية لا تجري الأصول العملية في موارد الشك في الموضوع ولا مجال للتعبد بها. لأن الشك بنفسه موضوع لحكم العقل بالقبح ، فيكون الحكم العقلي محرزا بالوجدان ، وذلك واضح.

وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان للعقل في مورد الشك حكم طريقي ، فالأصول المحرزة كالاستصحاب تجري ويرتفع بها موضوع الحكم العقلي الطريقي ، سواء كان موافقا لمؤدى الأصل الشرعي أو مخالفا له ، فان حكم العقل بقبح التصرف في المال المشكوك كونه مال الناس إنما هو لمجرد الاحتياط وعدم الامن من الوقوع في مخالفة الواقع - نظير حكمه بالاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة - فيرتفع موضوعه بالاستصحاب المثبت كونه مال الناس أو مال الشخص ، لحصول المؤمن في الثاني واندراج المشكوك في الموضوع الواقعي في الأول ، فلا يبقى مجال للحكم العقلي الطريقي.

هذا إذا كان في المشكوك أصل موضوعي محرز ومثبت لاحد طرفي الشك. وأما إذا لم يكن في المشكوك أصل موضوعي محرز ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة والحل ، فالحكم العقلي الطريقي يكون حاكما ومقدما في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، لان موردهما أعم من المستقلات العقلية ، فلو قدم أصالة البراءة والحل يبقى الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ، وقد تقدم البحث عن ذلك في مباحث البراءة والاشتغال.

ص: 457

- التنبيه السادس -

قد اصطلح على بعض أقسام الاستصحاب بالاستصحاب التعليقي ، وقيل بحجيته. والأقوى : ان الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له إلا على بعض الوجوه المتصورة فيه ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :

الأول : يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له : من وعاء العين أو وعاء الاعتبار ، إذ لا يعقل التعبد ببقاء وجود مالا وجود له ، وكذا يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي حتى يصح التبعد ببقائه باعتبار حكمه ، وأما الموضوعات التي لا يترتب على بقائها أثر شرعي فلا معنى للتعبد بها ، وذلك كله واضح.

الامر الثاني : الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام - كالحنطة والعنب والحطب ونحو ذلك من العناوين - تارة : يستفاد من نفس الدليل أو من الخارج أن لها دخلا في موضوع الحكم ، بحيث يدور الحكم مدار بقاء العنوان ويرتفع الحكم بارتفاعه ولو مع بقاء الحقيقة ، كما إذا علم أن لعنوان الحنطة دخلا في الحكم بالإباحة والطهارة ، فيرتفع الحكم بهما بصيرورة الحنطة دقيقا أو عجينا أو خبزا.

وأخرى : يستفاد من الدليل أو من الخارج أنه ليس للوصف العنواني دخل في الحكم ، بل الحكم مترتب على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيرات والتقلبات الواردة على الحقيقة التي توجب تبدل ما كان لها من العنوان والاسم إلى عنوان واسم آخر مع انحفاظ الحقيقة.

وثالثة : لا يستفاد أحد الوجهين من الخارج أو من دليل الحكم ، بل يشك في مدخلية العنوان والاسم في ترتب الحكم عليه.

ص: 458

ولا إشكال في حكم الوجهين الأولين ، فإنه في الأول منهما يجب الاقتصار في ترتب الحكم على بقاء العنوان ، ولا يجوز ترتيب آثار بقاء الحكم مع زوال الوصف العنواني عن الحقيقة ، وفي الثاني يجوز التعدي إلى غير ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع ، بل يجب ترتيب آثار بقاء الحكم في جميع التغيرات والتبدلات الواردة على الحقيقة وإن سلب عنها العنوان والاسم الذي كان لها أولا.

وبهذين الوجهين يجمع بين قولهم : « الاحكام لا تدور مدار الأسماء » وبين قولهم : « إنها تدور مدار الأسماء » فان المراد من كونها « لا تدور مدار الأسماء » هو ما إذا كان الحكم واردا على نفس الحقيقة والذات بلا دخل للاسم والعنوان فيه ، والمراد من كونها « تدور مدار الأسماء » هو أنه لو كان للعنوان والاسم دخل في الحكم ، فلا يتوهم المناقضة بين القولين. وقد عرفت : أن استفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من الدليل ، ولا مجال للاستصحاب في كل من الوجهين ، لأنه لا موقع للاستصحاب مع قيام الدليل على أحدهما.

وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحصل العلم بأحد الوجهين وشك في كون الوصف العنواني له دخل في الحكم أولا

فان كانت المراتب المتبادلة والحالات الواردة على الحقيقة متباينة عرفا - بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاص تباين الذات الفاقدة له وكان الوصف العنواني بنظر العرف مقوما للحقيقة والذات - كان ارتفاع الوصف عن الذات موجبا لانعدام الحقيقة عرفا ، فلا إشكال أيضا في وجوب الاقتصار على ما اخذ في الدليل عنوانا للموضع ولا يجوز التعدي عنه ، لان الذات الفاقدة للوصف موضوع آخر يباين ما اخذ في الدليل موضوعا للحكم ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ص: 459

وأما إذا لم تكن المراتب المتبادلة موجبة لتغير الحقيقة والذات عرفا ، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضر تبادلها في صدق بقاء الحقيقة وكانت الذات عرفا باقية ومحفوظة في جميع التبدلات والتقلبات الواردة عليها أو في بعضها ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم ويثبت بقائه في الحالات المتبادلة ، ولا يضر في جريان الاستصحاب عدم صدق العنوان والاسم عند ارتفاع ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع بعد بقاء الحقيقة على ما هي عليها.

فمورد الاستصحاب هو ما إذا كان دليل الحكم غير متكفل لحكم المشكوك فيه ولكن كان المشكوك فيه بنظر العرف عين المتيقن ، سواء صدق على المشكوك اسم المتيقن أو لم يصدق عليه اسم المتيقن.

ولا يتوهم : أنه مع صدق اسم المتيقن على المشكوك لا يحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتب الحكم فيه على المسمى بالاسم الكذائي. فإنه يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعم صورة تبدل الحالة التي لا تضر ببقاء الاسم والعنوان ، فنحتاج فني إثبات الحكم مع تبدل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.

الامر الثالث : المستصحب إذا كان حكما شرعيا ، فإما أن يكون حكما جزئيا وإما أن يكون حكما كليا ، ونعني بالحكم الجزئي هو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقق الموضوع خارجا الموجب لفعلية الحكم - على ما تكرر منا من أن فعلية الحكم إنما يكون بوجود موضوعه في الخارج - فعند وجود زيد المستطيع خارجا يكون وجوب الحج في حقه فعليا ، وهو المراد من الحكم الجزئي في مقابل الحكم الكلي ، وهو الحكم المنشأ على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية ، كوجوب الحج المنشأ أزلا على البالغ العاقل المستطيع.

ثم إن الشك في بقاء الحكم الجزئي لا يتصور إلا إذا عرض لموضوعه

ص: 460

الخارجي ما يشك في بقاء الحكم معه ، ولا إشكال في استصحابه.

وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فهو يتصور على أحد وجوه ثلاث :

الأول : الشك في بقائه من جهة احتمال النسخ ، كما إذا شك في نسخ الحكم الكلي المجعول على موضوعه المقدر وجوده ، فيستصحب بقاء الحكم الكلي المترتب على الموضوع أو بقاء سببية الموضوع للحكم ، على القولين في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم الشرعي؟ أو سببية الموضوع للحكم؟ وقد تقدم تفصيل ذلك في الأحكام الوضعية ، وعلى كلا الوجهين المستصحب إنما هو المجعول الشرعي والمنشأ الأزلي قبل وجود الموضوع خارجا إذا فرض الشك في بقائه وارتفاعه لأجل الشك في النسخ وعدمه ، ولا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الحكم على موضوعه وعدم نسخه عنه.

ونظير استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ استصحاب الملكية المنشأة في العقود العهدية التعليقية ، كعقد الجعالة والسبق والرماية ، فان ملكية العوض المنشأة في هذه العقود غير الملكية المنشأة في عقد البيع والصلح ، إذ العاقد في عقد البيع والصلح إنما ينشأ الملكية المنجزة ، وأما في العقود التعليقية : فالعقد ينشأ الملكية على تقدير خاص ، كرد الضالة في عقد الجعالة وتحقق السبق وإصابة الرمي في عقد السبق والرماية ، فكانت الملكية المنشأة في هذه العقود تشبه الاحكام المنشأة على موضوعاتها المقدرة وجودها ، فلو شك في كون عقد السبق والرماية من العقود اللازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجايزة التي تنفسخ بفسخ أحدهما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقق السبق وإصابة الرمي ، كما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة في العقود التنجيزية إذا شك في لزومها وجوازها.

وقد منع الشيخ قدس سره - في مبحث الخيارات من المكاسب - عن

ص: 461

جريان الاستصحاب في العقود التعليقية ، مع أنه من القائلين بصحة الاستصحاب التعليقي في مثل العنب والزبيب ، ويا ليته! عكس الامر واختار المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مثال العنب والزبيب والصحة في استصحاب الملكية المنشأة في العقود التعليقية.

أما وجه المنع عن جريان الاستصحاب في مثال العنب والزبيب : فلما سيأتي بيانه. واما وجه الصحة في الملكية المنشأة في العقود التعليقية : فلان حال الملكية المنشأة فيها حال الاحكام المنشأة على موضوعاتها ، وكما يصح استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخه ولو قبل فعليته بوجود الموضوع خارجا ، كذلك يصح استصحاب بقاء الملكية المعلقة عند الشك في بقائها ولو قبل فعليتها بتحقق السبق وإصابة الرمي خارجا.

الوجه الثاني : الشك في بقاء الحكم الكلي على موضوعه المقدر وجوده عند فرض تغير بعض حالات الموضوع ، كما لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، ولا إشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضا ، وهذا القسم من استصحاب الحكم الكلي هو الذي تعم به البلوى ويحتاج إليه المجتهد في الشبهات الحكمية ولا حظ للمقلد فيها.

والفرق بين هذا الوجه من الاستصحاب الكلي والوجه الأول ، هو أنه في الوجه الأول لا يتوقف حصول الشك في بقاء الحكم الكلي على فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، لأن الشك في الوجه الأول إنما كان في نسخ الحكم وعدمه ، ونسخ الحكم عن موضوعه لا يتوقف على فرض وجود الموضوع. وأما الشك في بقاء الحكم الكلي في الوجه الثاني : فهو لا يمكن إلا بعد فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، بداهة أنه لولا فرض وجود الماء المتغير بالنجاسة والزائل عنه الغير لا يعقل الشك في بقاء نجاسته ، فلابد من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشك في بقاء حكمه عند فرض تبدل

ص: 462

بعض حالاته.

نعم : لا يتوقف الشك فيه على فعلية وجود الموضوع خارجا ، فان فعلية وجود الموضوع إنما يتوقف عليه حصول الشك في بقاء الحكم الجزئي ، وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فيكفي فيه فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فهذا الوجه يشارك الوجه الأول من جهة وهي كون المستصحب فيه حكما كليا ، ويفارقه من جهة أخرى وهي توقف حصول الشك فيه على فرض وجود الموضوع ، بخلاف الوجه الأول.

نعم : المستصحب في كل منهما لا يخلو عن نحو من التقدير والتعليق ، فان المستصحب عند الشك في النسخ هو الحكم الكلي المعلق على موضوعه المقدر وجوده عند إنشائه وإن كان لا يحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند نسخه واستصحابه ، والمستصحب في غير الشك في النسخ هو الحكم الفعلي على فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فيحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند استصحابه. وعلى كل حال : لا مجال للتأمل في صحة الاستصحاب عند الشك في بقاء الحكم الكلي في كل من الوجهين.

الوجه الثالث : من الوجه المتصورة في الشك في بقاء الحكم الكلي ، هو الشك في بقاء الحكم المرتب على موضوع مركب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر (1) كما إذا شك

ص: 463


1- أقول : قد تقدم منا أن حقيقة الأحكام التكليفية التي هي مستفاد من الخطابات الشرعية ليس إلا إبراز الاشتياق نحو المرام بانشاء أو إخبار ، وأن مرتبة تحريك المكلفين خارجا هو مرتبة تأثير الاحكام في حكم العقل بلزوم الامتثال ، ومن المعلوم : أن هذه المرتبة منوط بالعلم وقيام الطرق ، وإلا ففي ظرف الجهل لا محركية في البين ، مع أن مفاد الخطابات مشتركة بين العالم والجاهل ، فما هو موجود في حال الجهل ليس إلا الاشتياق المبرز ، ولا نتصور في هذه الصورة أمرا جعليا اعتباريا كسائر الجعليات ، ولذا لو أبرز المولى إرادته بكلامه لا محيص من حكم العقل بوجوب امتثاله ولو لم يخطر ببال المولى جعل شيء مقدر بفرض وجود موضوعه. نعم: تأثير هذا الاشتياق المبرز كما أنّه منوط بوجود الموضوع مقدّمة لتطبيق خطابه، كذلك منوط بالعلم به، فلو كان مفاد الخطابات هذا الأمر المنوط يلزم اختصاص مضمون الخطاب بالعالم به، و ليس كذلك، فلا محيص من الالتزام بأنّ مضامين الخطاب ليس إلّا نفس الإرادة أو الطلب المبرز بإنشائه الكلامي، و أنّ مرتبة تأثيرها متأخّر عنها رتبة، و هو المساوق لرتبة امتثالها، مع أنّه على فرض تخصيص فعليّة الحكم بهذه المرتبة لا يكون هذه المرتبة أيضا جعليّا، كيف! و العقل بمجرّد الالتفات إلى اشتياق المولى- و لو بإعلامه إيّاه بخطابه- يحكم بتأثير مثل هذا الخطاب في حكم العقل بلزوم الامتثال، فيا ليت شعري! أنّ القائل بجعليّة الأحكام التكليفيّة أيّ مرتبة يريد؟ و نحن لا نتعقّل إلّا تكوين الاعلام بكلامه، و هذا المعنى آب عن جعليّة الحكم في عالم التشريع و في مقام الحقيقة، كما هو الشأن في الأحكام الوضعيّة، فانّه لا محيص من جعليّته فيها. ثمّ إنّ المبرز بخطاب المولى تارة: إرادة فعليّة غير منوط بوجود الشي ء في لحاظ الآمر، و أخرى: منوط بوجوده، و مرجع إناطة الإرادة إلى اشتياق فعلي في ظرف لحاظ الشي ء، لا أنّ الاشتياق تقديري، كما هو الشأن في سائر الوجدانيّات: من العلم و التمنّي و أمثالهما، و السرّ في ذلك: هو أنّ هذه الصفات في فعليّتها بأيّ نحو من التعلّق لا يحتاج إلى وجود المتعلّق خارجا، و أنّها ممّا كان ظرف عروضها الذهن و أنّ الخارج ظرف اتّصافها، نعم: لا بدّ و أن يكون الملحوظات الذهنيّة بنحو يرى خارجيّة على وجه لا يلتفت إلى ذهنيّتها، كما هو الشأن في تعلّق القطع و الظنّ بها عند تخلّفها عن الواقع، و هكذا بالنسبة إلى ما أنيط بها. و لذا في القضايا التعليقيّة ترى الجزم بوجود شي ء منوطا بوجوده في لحاظه متحقّقا على وجود المنوط في ظرف ملحوظه. و لا يتوهّم: بأنّ مركز جزمه الملازمة بينهما، إذ هما مفهومان متغايران متلازمان، و الجزم بأحد المفهومين غير الجزم بالآخر، لأنّ قوام أنحاء التصديق بأنحاء تصوّره. فإذا عرفت ذلك ترى أنّ لبّ الإرادة المشروطة يرجع إلى فعليّة الاشتياق التامّ القائم بالنفس في ظرف لحاظ الشي ء خارجا، قبال الإرادة المطلقة الراجعة إلى الاشتياق بالشي ء لا في ظرف وجود شي ء آخر في لحاظه، و ربّما يفترقان في عالم التأثير، حيث إنّ تأثير الإرادة في ظرف الشي ء لا يكون إلّا بوجوده خارجا، و من هذا الباب كلّيّة إناطة الإرادة بموضوعه. و حينئذ فمفاد الخطاب المشروط ليس إلّا هذه الإرادة في ظرف الشي ء لحاظا، ففي الحقيقة الاشتياق الفعلي قائم بفرض وجود الموضوع أو الشرط، فصحّ لنا أن نقول: إنّ المبرز بالخطابات الّتي هي روح الحكم المتجسّم بإبرازه بخطابه في جميع المقامات فعلي قائم على الوجودات الفرضيّة و اللحاظيّة، لا أنّ مفاد الخطاب مجعول فرضي بفرض وجود موضوعه، نظير الملكيّة الفرضيّة في العقود التعليقيّة. و حينئذ لنا دعوى أجنبيّة القضايا الطلبيّة عن القضايا الحقيقيّة المصطلحة ، بل هي إنما يصح في الاحكام المجعولة أو العوارض الخارجية التي كان فرض وجود الموضوع موجبا لفرض محموله ، وفي الاحكام الطلبية - كما عرفت - ليس الامر كذلك ، فجعلها من سنخ القضايا الحقيقية مبنية على كون الأحكام التكليفية بحقايقها مجعولة ، نظير الأحكام الوضعية في المعاملات ، ولقد عرفت ما فيه بأوضح بيان. وحينئذ ففي مورد إذا ثبت وجوب المشروط ففرض الشرط فيه لم يكن إلا ظرفا لمفاد الخطاب الثابت للذات فعلا ، ومن المعلوم : أن هذا المعنى غير راجع إلى قيدية شيء لموضوع الخطاب أو للمخاطب ، وإن كان قابلا لارجاع أحدهما بالآخر بنحو من الاعتبار والعناية ، وإلا فبحسب الحقيقة أحد الاعتبارين غير الآخر. وحينئذ فتوهم أن الموضوع مركب من ذات ووصف غلط ، إلا بتمحل خارج عن كيفية الخطاب. وحينئذ بعدما كان مفاد الخطاب ثبوت حكم فعلي للذات العاري عن القيد - غاية الامر كان هذا الحكم موجودا فعليا في ظرف فرض الموضوع لا في ظرف وجوده خارجا ، بل هو ظرف تطبيق الخطاب وتأثيره الخارج عن مفاده - فلا قصور في شمول دليل التنزيل لمثله ولو قبل حصول شرطه ، غاية الامر لا أثر له أصلا إلا بعد حصول الشرط ، والمفروض : أن في الاستصحاب أيضا لا يحتاج إلا إلى كون المنزل وما هو مفاد الخطاب موجودا حين يقينه ومشكوكا بقائه مع ترتب عمل حين الشك. ثم إنه لو بنينا على جعلية الاحكام ، فلم لا يقول بأن المجعول ما هو على وفق إرادته؟ إذ حينئذ لابد وأن يلتزم بان الوجوب المجعول فعلي على وفق فعلية إرادته ومنوط بوجود الشيء في لحاظه وفرضه ، لا أنه منوط بوجود الشيء خارجا ، إذ حينئذ لا بأس بالاستصحاب التعليقي أيضا ، لان المستصحب أيضا وجوب فعلي في ظرف لحاظ الشيء الحاصل قبل وجود الشرط خارجا ، كما هو شأن إرادته واشتياقه. إنّه لا شبهة في أنّ مفاد الخطاب قبل وجودات الموضوع لا يكون إلّا فرضا، كما أنّ قبل قيوده الحكم أيضا لا يكون ثبوته للذات المجرّد عن القيد أيضا إلّا فرضا، و حينئذ فان أريد في الاستصحاب اليقين بالوجود الفعلي فلازمه عدم جريانه في الأحكام الكلّيّة قبل وجود موضوعاتها، و المفروض: أنّه يلتزم بجريانه فيها، و لازمه الاكتفاء بوجود الحكم فرضا في زمان يقينه، فلم لا يلتزم بكفاية فرضيّة هذا الحكم لمثل هذا الذات المجرّد قبل حصول شرطه؟. و توهّم: أنّ موضوع الحكم في الواجبات المشروطة هو الذات المقيّد لا المجرّد، قد عرفت فساده، لأنّ شأن شرائط الحكم إخراج الذات عن الإطلاق كنفس الحكم، لا تقيّد الذات بالحكم أو بما أنيط به الحكم، فالذات في القضايا المشروطة تمام الموضوع نحو لا إطلاق فيه و لا تقيّد، فيصدق على هذا الذات المجرد تمام الموضوع للوجوب الفرضي ، فيصير نسبة الوجوب في فرضه وتعقله بالإضافة إلى هذا القيد ووجود الموضوع على السوية ، فلم يجر الاستصحاب في الأول دون الثاني. و لئن أغمض عما ذكرنا أيضا و قلنا برجوع قيود الحكم إلى الموضوع، فنقول: إنّ فرضيّة الحكم تبع فرضيّة وجود الموضوع إمّا بتمامه أو ببعض أجزائه و قيوده، و أيّ عقل يفرق في فرضيّة الحكم بين فرضيّة تمام الموضوع أو بعضه؟ و ليس مفاد الخطاب إلّا حكم فرض تبع فرضيّة وجود الموضوع عقلا، و في هذه العرصة هل العقل يفرق بين فرضيّة تمام الموضوع أو بعضه؟ حاشا! و على فرض كون هذه الإناطة شرعيّة، بمعنى أنّ الشارع جعل حكما فرضيّا منوطا بفرضيّة موضوعه بتمامه، نقول: إنّ الحكم الثابت للمركّب إذا كان منبسطا على أجزائه فكلّ جزء يتلقّى من هذا الخطاب حظّا من الحكم الملازم مع حكم سائر أجزائه فعليّة و فرضيّة، و حينئذ كلّ جزء مشمول حكم فرضي تبع فرض حكم غيره بعدم وجوده، فأين قصور في شمول «لا تنقض» حكم هذا الجزء الفرضي المختصّ به؟. و توهّم: أنّه كالصحّة التأهّليّة، غلط واضح، إذ المتيقّن هو الحكم للذات في حال العنبيّة لا مطلقا، و نحن نستصحب هذا الحكم الضمني الفرضي في حال الزبيبيّة. و لئن تأمّلت فيما ذكرنا ترى أنّه ليس في كلماته إلّا رعدا و برقا خاليا عن المطر! و مصادرة محضة! فتأمّل جدّاً.

ص: 464

ص: 465

في بقاء الحرمة والنجاسة المترتبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدله إلى الزبيب قبل غليانه ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان ، ويترتب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أن وصف العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا أركانه ، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليه بالاستصحاب التعليقي.

وبعبارة أوضح : نعني بالاستصحاب التعليقي « استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير » فيستصحب الحكم بعد فرض وجود المشروط وتبدل بعض حالاته قبل وجود الشرط ، كاستصحاب بقاء حرمة العنب عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه. وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان :

أقواهما : عدم الجريان ، لان الحكم المترتب على الموضوع المركب إنما يكون وجوده وتقرره بوجود الموضوع بما له من الاجزاء والشرائط ، لان نسبة الموضوع

ص: 466

إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل أن يتقدم الحكم على موضوعه ، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنما يكون مركبا من جزئين : العنب والغليان من غير فرق بين أخذ الغليان وصفا للعنب ، كقوله : « العنب المغلي يحرم وينجس » أو أخذه شرطا له ، كقوله : « العنب إذا غلى يحرم وينجس » لان الشرط يرجع إلى الموضوع (1) ويكون من قيوده لا محالة ، فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه ، لما تقدم : من أنه يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرر في الوعاء المناسب له ، فوجود أحد جزئي الموضوع المركب كعدمه لا يترتب عليه الحكم الشرعي ما لم ينضم إليه الجزء الآخر.

نعم : الأثر المترتب على أحد جزئي المركب هو أنه لو انضم إليه الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنه عقلي مقطوع البقاء في كل مركب وجد أحد جزئيه ، فلا معنى لاستصحابه ، وقد تقدم في مبحث الأقل والأكثر : أنه لا يمكن استصحاب الصحة التأهلية لجزء المركب عند احتمال طرو القاطع أو المانع ، لان الصحة التأهلية مما لا شك في بقائها ، فإنها عبارة عن كون الجزء على وجه لو انضم إله الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، ففي ما نحن فيه ليس للعنب المجرد من الغليان أثر إلا كونه لو انضم إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النجاسة ، وهذا المعنى مما لا شك في بقائه ، فلا معنى

ص: 467


1- لا يخفى : أن المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي لا يتوقف على رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه من قيوده - كما لا محيص عنه - بل يكفي كون الشرط علة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب ، فإنه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا حرمة أيضا ، لانتفاء المعلول بانتفاء علته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، غايته أنه في الموضوع يدور بقاء الحكم أيضا مدار بقاء الموضوع ، وفي العلة يمكن أن تكون علة للحدوث فقط ، فالاستصحاب التعليقي لا يجري على كل حال ( منه ).

لاستصحابه.

وحاصل الكلام : أن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين على العنب المغلي إنما يمكن بوجهين - أحدهما : الشك في رفع الحرمة والنجاسة عنه بالنسخ. ثانيهما : الشك في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدل بعض الحالات بعد فرض وجود العنب المغلي بكلا جزئيه ، كما إذا شك في بقائهما عند ذهاب ثلثه. ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كل من الوجهين ، كما تقدم.

وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي ، ونحن لا نتصور للشك في بقاء النجاسة والحرمة للعنب المغلي وجها آخر غير الوجهين المتقدمين ، فالاستصحاب التعليقي بمعنى لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيوده وتبدل بعض حالاته ، مما لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصل.

وما يقال : من أنه يمكن فرض بقاء النجاسة والحرمة في المثال بوجه آخر لا يرجع إلى الوجهين السابقين ، بتقريب : أن العنب قبل غليانه وإن لم يكن معروضا للحرمة والنجاسة الفعلية لعدم تحقق شرط الموضوع ، إلا أنه معروض للحرمة والنجاسة التقديرية ، لأنه يصدق على العنب عند وجوده قبل غليانه أنه حرام ونجس على تقدير الغليان ، فالحرمة والنجاسة التقديرية ثابتتان للعنب قبل غليانه ، فيشك في بقاء النجاسة والحرمة التقديرية عند صيرورة العنب زبيبا - بعدما كان عنوان العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته - فعدم حصول الغليان إنما يمنع عن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة الفعلية واستصحابهما ، لا عن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة التقديرية واستصحابهما

فهو واضح الفساد ، فان الحرمة والنجاسة الفرضية التقديرية لا معنى لاستصحابهما ، إذ ليست الحرمة والنجاسة الفرضية في العنب الغير المغلي إلا

ص: 468

عبارة عن « أن العنب لو انضم إليه الغليان لترتبت عليه النجاسة والحرمة » وهذه القضية التعليقية - مضافا إلى أنها عقلية لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع المركب الذي وجد أحد جزئيه - مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابها ، كما تقدم.

وأما حديث كون عنوان العنب والزبيب من حالات الموضوع لا مقوماته فهو أجنبي عما نحن بصدده ، فإن اعتبار كون الخصوصية المنتفية من الحالات لا المقومات إنما هو في مرحلة الحكم ببقاء المتيقن بعد الفراغ عن ثبوته وحدوثه ، والكلام في المقام إنما هو في مرحلة الثبوت والحدوث ، لما عرفت : من أنه لم يحدث الحكم المترتب على الموضوع المركب إلا بعد وجود جميع أجزائه ، والعنب قبل الغليان جزء الموضوع فلم تحدث فيه النجاسة والحرمة حتى يقال : إن خصوصية العنبية والزبيبية من الحالات لا المقومات.

وبعبارة أوضح : حديث أخذ الموضوع من العرف واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة إنما هو باعتبار مفاد أخبار الاستصحاب ، يعني أن المشكوك فيه في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لابد وأن يكون متحدا مع المتيقن السابق اتحادا عرفيا ، لا عقليا. وليس معنى أخذ الموضوع من العرف أخذ موضوع الدليل الذي رتب الحكم فيه على الموضوع من العرف ، فإنه لو كان المراد منه ذلك لكان ثبوت الحكم على الموضوع الذي تبدل بعض حالاته مما يفيده نفس دليل الحكم ، ولا يبقى موقع لاثباته بالاستصحاب.

والحاصل : أن أخذ موضوع الدليل المثبت للحكم من العرف غير أخذ موضوع الاستصحاب من العرف ، فان معنى أخذ موضوع الدليل من العرف هو أنه لو قام الدليل على طهارة الحطب مثلا فالمرجع في تعيين معنى الحطب ومقدار سعة مفهومه وضيقه إلى العرف ، فلو شك في أن القصب من الحطب أو لا ، فيرجع إلى العرف ، فان كان العرف يرى القصب من أفراد الحطب

ص: 469

بحسب ما ارتكز في ذهنه من معنى الحطب ، فيكون حكم القصب حكم سائر أفراد الحطب ويشمله دليل طهارة الحطب ، وإن لم يكن القصب من أفراد الحطب عرفا أو توقف العرف في كونه من أفراده ، فلا يشمله دليل طهارة الحطب ، بل لابد في الحكم بطهارته ونجاسته من الرجوع إلى دليل آخر لو كان ، وإلا فإلى الأصول العملية ، فهذا معنى أخذ موضوع الدليل من العرف.

وأما معنى أخذ موضوع الاستصحاب من العرف : فهو إنما يكون بعد الفراغ عن أن موضوع الدليل لا يعم المشكوك فيه عرفا بل للمشكوك فيه معنى يباين ما لموضوع الدليل من المعنى بحسب المرتكز العرفي ، كما إذا شك في بقاء طهارة الحطب بعدما صار فحما ، فان للحطب مفهوما يباين مفهوم الفحم عرفا ، ولا يكاد يشك العرف في عدم صدق الحطب على الفحم ، ومع هذا يجري استصحاب بقاء طهارة الحطب عند صيرورته فحما ، لان مفهوم الحطب وإن كان يباين مفهوم الفحم عرفا ، إلا أن العرف بحسب مناسبة الحكم والموضوع يرى أن معروض الطهارة ذات الحطب المحفوظة في الفحم أيضا وأن عنوان الحطب كان علة لعروض الطهارة على الذات ، فيشك في أنه علة حدوثا وبقاء فتزول الطهارة عن الذات عند انعدام عنوان الحطب بتبدله فحما لزوال علتها ، أو أن عنوان الحطب علة لحدوث الطهارة على الذات فقط من دون أن يكون علة للبقاء أيضا فتبقى الطهارة ما دامت الذات محفوظة عرفا ، ومعنى انحفاظ الذات عرفا ، هو أن العرف يرى اتحاد ذات الفحم لذات الحطب ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عرفا ويجري فيها الاستصحاب لو فرض الشك في بقاء الطهارة في الفحم.

بخلاف الرماد ، فان ذات الرماد وإن كانت هي ذات الحطب عقلا ، إلا أن العرف يرى التباين بين ذات الرماد وذات الحطب ، فتختلف القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة لو فرض الشك في بقاء الطهارة في الرماد ، فلا

ص: 470

يجري فيه استصحاب الطهارة.

فظهر : أن حديث أخذ الموضوع من العرف في باب الاستصحاب وكون وصف العنبية والزبيبية من الخصوصيات التي لا تضر تبادلها ببقاء الموضوع عرفا أجنبي عن المقام ، فإن أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العرف إنما هو بعد الفراغ عن تشخيص مفهوم الموضوع الذي رتب عليه الحكم في لسان الدليل وتعيين ما ينطبق عليه المفهوم وبعد ثبوت الحكم على موضوعه ، وأين هذا مما نحن فيه : من استصحاب نجاسة العنب وحرمته عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه؟ مع أن النجاسة والحرمة إنما يعرضان للعنب المغلي ، فقبل غليان العنب لا نجاسة ولا حرمة ، والحرمة والنجاسة التقديرية قد عرفت أنه لا معنى لاستصحابها ، فأين المتيقن وما المستصحب؟ فيبقى نجاسة الزبيب المغلي وحرمته مشكوكة الحدوث ، فان الزبيب المغلي غير العنب المغلي كمغايرة الفحم للحطب ، فلا يعمه أدلة نجاسة العنب المغلي وحرمته.

هذا كله إذا أراد القائل بالاستصحاب التعليقي استصحاب نفس الحرمة والنجاسة العارضتين على العنب المغلي. وإن أراد به استصحاب الملازمة بين الغليان والنجاسة والحرمة وسببيته لهما ، كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره ففيه :

أولا : أن الملازمة بين غليان العنب ونجاسته وحرمته وإن كانت أزلية تنتزع من جعل الشارع وانشائه النجاسة والحرمة على العنب المغلي أزلا ويكون انقلاب العنب إلى الزبيب منشأ للشك في بقاء الملازمة ، إلا أنه قد عرفت في الأحكام الوضعية : أن الملازمة والسببية لا يعقل أن تنالها يد الجعل الشرعي ، فلا يجري استصحاب بقاء الملازمة والسببية في شيء من الموارد ، لان المستصحب لابد وأن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي (1). والعجب

ص: 471


1- 1 - أقول : المراد من الحكم الشرعي في باب الاستصحاب ما كان أمر رفعه ووضعه بيد الشارع ، وحينئذ فبعدما كانت هذه الملازمة ناشئة من جعل الشارع الحكم للمقيد بحيث لولاه لما كان العقل يعتبر هذه الملازمة أصلا ، وحينئذ فأين قصور في شمول دليل التنزيل لمثله؟ ونظيره السببية في الأمور الجعلية ، كما تقدم ، وما لا يكون جعليا هو السببية في الأمور الواقعية ، كما شرحناه سابقا. وحينئذ لا منافاة بين كلام الشيخ ، ولا مجال للتعجب بأن هذا منه شيء عجاب ، كما لا يخفى.

من الشيخ قدس سره ! حيث إنه شدد النكير على من قال بجعل السببية والملازمة ، ومع ذلك ذهب إلى جريان استصحاب الملازمة في الاستصحاب التعليقي.

وثانيا : إن الملازمة على تقدير تسليم كونها من المجعولات الشرعية فإنما هي مجعولة بين تمام الموضوع والحكم ، بمعنى أن الشارع جعل الملازمة بين العنب المغلي وبين نجاسته وحرمته ، والشك في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم لا يعقل إلا بالشك في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إشكال فيه ، وهو غير الاستصحاب التعليقي المصطلح عليه. فالانصاف : أن الاستصحاب التعليقي مما لا أسا له ، ولا يرجع إلى معنى محصل (1).

مع أن القائل به لا أظن أن يلتزم بجريانه في جميع الموارد ، فإنه لو شك في كون اللباس متخذا من مأكول اللحم أو من غيره ، فالحكم بصحة الصلاة فيه تمسكا بالاستصحاب التعليقي بدعوى « أن المكلف لو صلى قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحيحة فتستصحب الصحة التعليقية إلى ما بعد لبس المشكوك والصلاة فيه » مما لا أظن أن يلتزم به القائل بالاستصحاب التعليقي ، ولو فرض أنه التزم به فهو بمكان من الغرابة!!.

هذا كله مضافا إلى ما في خصوص مثال العنب والزبيب من المناقشة في الموضوع ، فان الذي ينجس بالغليان إنما هو ماء العنب لا جرمه إلا تبعا ،

ص: 472


1- أقول : حاشا من المنصف لو تأمل فيما ذكرنا ان ينكر الاستصحاب التعليقي بهذا المقدار من البيان!!.

فالموضوع للنجاسة هو الماء وقد انعدم بصيرورة العنب زبيبا ، والباقي في الحالين إنما هو الجرم وهو ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، والزبيب لا يغلي إلا إذا اكتسب ماء جديدا من الخارج ، وغليان الماء المكتسب من الخارج ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، فالموضوع لهما قد ارتفع قطعا ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا. تتمة :

لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي وكونه مثبتا لنجاسة الزبيب وحرمته عند غليانه ، ففي حكومته على استصحاب الطهارة والحلية الفعلية الثابتة للزبيب قبل غليانه وعدمه وجهان (1) أقواهما : الأول ، فإنه لا موجب

ص: 473


1- أقول : والتحقيق أن يقال : إن الشرط في الحرمة المجعولة مثلا تارة : اخذ شرعا غاية للحلية أو حكم آخر مضاد له ، وأخرى : لا يكون غاية كذلك للحكم المضاد وإنما هو غاية له عقلا ، بملاحظة أهمية الحرمة المشروطة حين شرطه وسقوط الوجوب الغير المغيا بالمضادة وحكم العقل بعدم اجتماع الضدين. فان كان المورد من قبيل الأول : فلا محيص من الحكومة إجمالا ، لان مرجع استصحاب الحرمة المشروطة إلى بقاء الشرطية للحرمة ولعدم الحكم الآخر المضاد له المعبر عنه بالغاية ، فيرتفع الحكم المزبور في ظرف الشك أيضا ، لثبوت غايته ، ففي الحقيقة الحاكم على استصحاب الحكم ليس إلا هذا الاستصحاب الحاصل في ضمن الاستصحاب الحكم التعليقي الآخر ، وإلا فأحد الحكمين في عرض الآخر وأن ما هو في طولهما هو جهة بقاء الشرطية والغائية التوئمين في الثبوت للقيد المزبور ، كما هو ظاهر. وإن كان المورد من قبيل الثاني : فلا مجال للحكومة أصلا ، لان الحكمين عرضيين والشرطية والغائية أيضا عرضيان ، وما هو في طول الحرمة هو وجود الشرط والغاية. والأول وإن كان شرعيا فيترتب عليه أثره ، بخلاف الثاني ، فلا مجال لرفع اليد عن الاستصحاب في الحكم الآخر باستصحاب المشروط بشرطه ، كما هو واضح. و حينئذ فما أفيد: من تعريف السببيّة و المسببيّة بين نفس الحلّيّة في الزبيب و إطلاق الحرمة المشروطة بالغليان لحال الزبيبيّة بحيث يكون أحد الشكّين مسبّبا عن الشكّ في الآخر، غلط واضح، إذ إطلاق حرمة لحال و ثبوت ضدّه لهذه الحالة من المتضادّين، فلا يكون أحدهما مقدّمة لعدم الآخر أو عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر ، بل هما متلازمان ، وحينئذ أين شك سببي والآخر مسببي؟ في هذا * التقرير للسببية والمسببية ينادي بأعلى صوته باشتباهه في تعيين مركز السببية والمسببية ، ولو دقق النظر وفتح البصر! لا محيص له من التفصيل المتقدم وأن هذا التقرير من قوله : إن إلى آخره ، إنما يجري في القسم الثاني لا الأول. و أعجب منه!! أنّه صار بصدد دفع الإشكال بخيال جريان دفع هذه الشبهة في الموردين، و ملخّص كلامه: أنّ شرطيّة ترتّب المسبّب على السبب شرعا إنّما هو في الاستصحابات الموضوعيّة، و أمّا في الحكميّة: فعدم ترتّب الحكم الآخر على ثبوت حكم آخر من لوازم نفس استصحابه، و في مثله يترتّب جميع الآثار حتّى العقليّة بلا خصوصيّة في شرعيّة الأثر فيه، و حينئذ فاستصحاب الحرمة التعليقيّة في حال الزبيبيّة و التعبّد ببقائه في هذا الحال يلازم عقلا للتعبّد بارتفاع الحلّيّة في هذا الحال. و توضيح فساده: أنّ التعبّد بوجود الحكم الآخر أيضا عين التعبّد بارتفاع الحرمة التعليقيّة، فلم لا تنعكس الأمر في المقام؟ لأنّ لازم تضادّ الحكمين ملازمة وجود كلّ منهما لعدم الآخر واقعا و ظاهرا من دون تقدّم رتبة أحدهما على الآخر، و مع وحدة الرتبة لا يبقى لك مجال إجراء الأصل في طرف و ترتّب لازمه ظاهرا، بل لنا أن نعكس الأمر. و لا يخفى أيضا أنّ هذا البيان إنّما يجري في الصورة الثانية، و إلّا ففي الصورة الأولى تقريب الحكومة في غاية الوضوح و به يبقى الأساس لاستصحاب الأحكام التعليقيّة، إذ في موردها غالبا الحلّيّة اللااقتضائيّة الموجب لكون ما هو شرط للحرمة شرعا غاية للحلّيّة كذلك، كما هو ظاهر، فتدبّر فيما ذكرنا فانّه دقيق. كذا في النسخة، و الصحيح «فهذا التقرير» (المصحّح).

لتعارض الاستصحابين إلا توهم : أن الاستصحاب التعليقي كما يقتضي نجاسة الزبيب وحرمته بعد الغليان كذلك استصحاب حلية الزبيب وطهارته الثابتة له قبل الغليان يقتضي حليته وطهارته بعد الغليان ، وليس الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، فان الشك في بقاء الطهارة والحلية يلازم الشك في بقاء النجاسة والحرمة وبالعكس ، فهما في رتبة واحدة ، والاستصحابان يجريان في عرض واحد ، فيتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى أصالة الطهارة والحلية.

هذا ، ولكن فيه : أن الشك في حلية الزبيب وطهارته الفعلية بعد الغليان وإن لم يكن مسببا عن الشك في نجاسته وحرمته الفعلية بعد الغليان وإنما كان

ص: 474

الشك في أحدهما ملازما للشك في الآخر - بل الشك في أحدهما عين الشك في الآخر - إلا أن الشك في الطهارة والحلية الفعلية في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كون المجعول الشرعي هل هو نجاسة العنب المغلي وحرمته مطلقا حتى في حال كونه زبيبا؟ أو أن المجعول الشرعي خصوص نجاسة العنب المغلي وحرمته ولا يعم الزبيب المغلي؟ فإذا حكم الشارع بالنجاسة والحرمة المطلقة بمقتضى الاستصحاب التعليقي يرتفع الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته.

والحاصل : أن الشك في الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي وأن الشارع هل رتب النجاسة والحرمة على العنب المغلي مطلقا في جميع مراتبه المتبادلة؟ أو أن الشارع رتب النجاسة والحرمة على خصوص العنب ولا يعم الزبيب؟ فالاستصحاب التعليقي يقتضي كون النجاسة والحرمة مترتبين على الأعم ، ويثبت به نجاسة الزبيب المغلي ، فلا يبقى مجال للشك في الطهارة والحلية.

فان قلت : الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي إذا كان أحد طرفي المشكوك فيه في الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي ، كما في طهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة ، فان نجاسة الثوب وإن لم تكن من آثار نجاسة الماء بل هي من آثار بقاء علتها : من الدم أو البول الذي أصاب الثوب ، إلا أن طهارة الثوب من الآثار الشرعية المترتبة على طهارة الماء ، فان معنى حكم الشارع بطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به ، ولأجل ذلك كان استصحاب طهارة الماء أو قاعدة الطهارة رافعا للشك في نجاسة الثوب ، فما لم يكن أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الاحكام والآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي لا يمكن أن يكون الأصل الجاري في السبب رافعا

ص: 475

لموضوع الأصل الجاري في المسبب ، وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك ، فان الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته وإن كان مسببا عن الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي ، إلا أن عدم حلية الزبيب وطهارته ليس من الآثار الشرعية المترتبة على حرمة العنب المغلي ونجاسته ، بل لازم جعل حرمة العنب ونجاسته مطلقا حتى مع تبدله إلى الزبيب هو عدم الحلية والطهارة عقلا ، وإلا لزم اجتماع الضدين ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية لا يثبت عدم حلية الزبيب المغلي وطهارته ، لان إثبات أحد الضدين بالأصل لا يوجب رفع الضد الآخر إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.

قلت : هذا الاشكال إنما نشأ من الخلط بين الأصول السببية والمسببية الجارية في الشبهات الحكمية والجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنه في الشبهات الموضوعية لابد وأن يكون أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي مع قطع النظر عن التعبد بالأصل الجاري في السبب ، فعند ذلك يكون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي. وأما الشبهات الحكمية : فلا يعتبر فيها أن يكون أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالأصل السببي مع قطع النظر عن التعبد بالأصل الجاري في السبب ، بل نفس التعبد بالأصل السببي يقتضي رفع الشك المسببي شرعا ، لان المسبب يصير أثرا شرعيا للسبب بالتعبد بالأصل الجاري فيه.

والسر في ذلك : هو أنه في الشبهات الموضوعية يكون أحد طرفي الشك المسببي أثرا شرعيا لمؤدى الأصل السببي بدليل آخر غير أدلة الأصول ، فتكون الكبرى الكلية الشرعية في طرف كل من السبب والمسبب معلومة من الخارج ، وإنما يراد بالاستصحاب تطبيق الكبرى الكلية على المورد المشكوك فيه ، كما في مثال الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة ، فان الكبرى الكلية

ص: 476

- وهي طهارة كل ما يغسل بالماء الطاهر - إنما تكون معلومة من دليل اجتهادي آخر غير أدلة الاستصحاب ، وإنما يراد من استصحاب طهارة الماء اثبات كون الثوب مغسولا بالماء الطاهر وانطباق الكبرى الكلية على الثوب النجس المغسول بالماء ، فيرتفع الشك في نجاسة الثوب من ضم الوجدان بالأصل ، أي الغسل بالوجدان وطهارة الماء بالأصل.

وهذا بخلاف الشبهات الحكمية ، فان كون أحد طرفي الشك المسببي أثرا شرعيا لمؤدى الأصل السببي وجعل الكبرى الكلية الشرعية في طرف المسبب إنما يكون بنفس أدلة الاستصحاب ، بحيث لو لم يكن الاستصحاب حجة شرعية لم تكن تلك الكبرى مجعولة في طرف المسبب ، كما في مثال العنب والزبيب المغلي ، فإنه لم يقم دليل على حكم الزبيب المغلي وإنما يراد إثبات حكمه بالاستصحاب ، فيكون استصحاب نجاسة العنب إذا غلى مثبتا لنجاسة الزبيب المغلي وحرمته ورافعا للشك في حليته وطهارته ، فان التعبد بنجاسة الشيء وحرمته يقتضي عدم الحلية والطهارة ، فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلية الزبيب وطهارته كان التعبد به لغوا ويلزم بطلان استصحاب التعليقي أساسا.

وحاصل الكلام : هو أن عدم أحد الضدين وإن كان من اللوازم العقلية لوجود الآخر والأصول العملية لا تثبت اللوازم العقلية ، إلا أن هذا فيما إذا لم يكن التعبد بعدم أحد الضدين مما يقتضيه التعبد بوجود الضد الآخر ، كما فيما نحن فيه ، فان التعبد بنجاسة العنب المغلي وحرمته بما له من المراتب التي منها مرتبة كونه زبيبا - كما هو مفاد الاستصحاب التعليقي - يقتضي التعبد بعدم طهارته وحليته ، إذ لا معنى للتعبد بالنجاسة والحرمة إلا إلغاء احتمال الحلية والطهارة ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية يكون حاكما على استصحاب الحلية والطهارة الفعلية ورافعا لموضوعه ، فتأمل جيدا.

ص: 477

- التنبيه السابع -

قد تقدم أنه لا مجال للاشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ ، من غير فرق بين أحكام هذه الشريعة المطهرة وبين أحكام الشرايع السابقة ، فكما يجري استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخ حكم من أحكام هذه الشريعة ، كذلك يجري استصحاب بقاء حكم الشرايع السابقة عند الشك في نسخه ، وقد يمنع عن جريان استصحاب بقاء أحكام الشرايع السابقة لوجهين :

الأول : دعوى اختلاف الموضوع ، فان المكلف بأحكام كل شريعة إنما هو المدرك لتلك الشريعة ، والذين أدركوا الشرايع السابقة قد انقرضوا ، فلا يجري الاستصحاب في حق من أدرك هذه الشريعة ولم يدرك الشرايع السابقة.

الوجه الثاني : دعوى العلم الاجمالي بطرو النسخ لاحكام الشرايع السابقة ، فإنه لو لم نقل أن هذه الشريعة المطهرة قد نسخت جميع أحكام الشرايع السابقة فلا أقل من كونها ناسخة لبعضها ، والعلم الاجمالي يمنع عن جريان الأصول في الأطراف. هذا ، ولكن لا يخفى ما في كلا الوجهين من النظر.

أما الوجه الأول : ففيه أن توهم اختلاف الموضوع مبني على أن تكون المنشآت الشرعية أحكاما جزئية بنحو القضايا الخارجية ، فيكون كل فرد من أفراد المكلفين موضوعا مستقلا قد أنشأ في حقه حكم يختص به ولا يتعداه ، فتستقيم حينئذ دعوى كون الموضوع لاحكام الشرايع السابقة هو خصوص آحاد المكلفين الذين أدركوا تلك الشرايع. ولكن كون المنشآت الشرعية أحكاما جزئية بمراحل عن الواقع ولا يمكن الالتزام به ، فإنه يلزم أن تكون الأدلة الواردة في الكتاب والسنة كلها أخبارا عن إنشاءات لاحقة عند وجود آحاد المكلفين بعدد أفرادهم ، وهو كما ترى!.

ص: 478

بل التحقيق : أن المنشآت الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوع في ترتب المحمول عليه ويؤخذ للموضوع عنوان كلي مرآة لما ينطبق عليه من الافراد عند وجودها ، كالبالغ العاقل المستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج ، وكالحي المجتهد العادل الذي اخذ عنوانا لمن يجوز تقليده ، ونحو ذلك من العناوين الكلية ، فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكلي يتوهم اختلاف الموضوع باختلاف الأشخاص الموجودين في زمان هذه الشريعة والموجودين في زمان الشرايع السابقة ، فإذا كان الموضوع لوجوب الحج هو عنوان البالغ العاقل المستطيع ، فكل من ينطبق عليه هذا العنوان من مبدء إنشاء الحكم إلى انقضاء الدهر يجب عليه الحج ، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك ، فإذا فرض أنه أنشأ حكم كلي لموضوع كلي ثم شك المكلف في بقاء الحكم ونسخه فيجري استصحاب بقائه ، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك إلا هذه الشريعة المطهرة ، إلا إذا كان الحكم من أول الامر مقيدا بزمان خاص.

فالانصاف : أنه لا فرق في جريان استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه بين أحكام هذه الشرعية وبين أحكام الشرايع السابقة ، وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين كون الأحكام الشرعية على نحو القضايا الخارجية أو على نحو القضايا الحقيقية ، فمن منع عن جريان استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى احكام الشرايع السابقة بدعوى اختلاف الموضوع تخيل : أن الأحكام الشرعية تكون من القضايا الخارجية ، وقد عرفت فساده.

وما أجاب به الشيخ قدس سره عن دعوى اختلاف الموضوع : بأنا نفرض كون الشخص مدركا للشريعتين فيجري في حقه استصحاب عدم النسخ ، لا يحسم مادة الاشكال ، فإنه لا أثر له بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة. ولا يجوز التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف ، بداهة أن الاشتراك إنما

ص: 479

يكون في التكاليف الواقعية ، وأما التكاليف الظاهرية التي تؤدي إليها الأصول العملية : فليس محل لتوهم الاشتراك فيها ، فان مؤديات الأصول إنما تختص بمن يجري في حقه الأصل ، فقد يجري في حق شخص لوجود شرائطه فيه ، ولا يجري في حق شخص آخر لعدم وجود شرائطه فيه ، وذلك واضح.

وأما الوجه الثاني : ففيه أن العلم الاجمالي بنسخ جملة من الاحكام التي كانت في الشرايع السابقة ينحل بالظفر بمقدار من الاحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها (1) فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدوية ويجري فيها الأصل بلا مزاحم.

فالأقوى : أنه لا مانع من جريان الأصل بالنسبة إلى أحكام الشرايع السابقة عند الشك في نسخها.

نعم : يمكن أن يقال. إنه لا جدوى لاستصحاب حكم الشريعة السابقة ، فإنه على فرض بقاء الحكم في هذه الشريعة فإنما يكون بقائه بإمضاء من الصادع بها ، كما يدل عليه قوله صلی اللّه علیه و آله « ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به » (2) الخبر ، فمع عدم العلم بالامضاء لا جدوى لاستصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة (3) فتأمل.

ص: 480


1- أقول : بناء على كون العلم الاجمالي تعلق بالنسخ الوارد فيما بأيدينا من الكتب لا مجال لانحلاله على مبناه السابق في مسألة الفحص في الاحكام. ولكن قد عرفت ما فيه.
2- الوسائل الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة الحديث 2.
3- أقول : بعد كون حكم كل شريعة حكما إلهيا ناشئا عن مصلحة ثابتة في حق المحكوم عليه ، فعلى تقدير بقاء هذا الحكم في زمان الشريعة اللاحقة يستحيل عدم إمضائه له ، لان عدم إمضائه مساوق عدم تمامية مبادي حكمه في حقهم ، والمفروض : أن بقائه في حقهم يكشف عن تمامية الملاك والمبادئ ، وإلا يلزم الجهل في المبدء الباري جلت عظمته ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) وحينئذ الشك في بقائه مساوق الشك في بقاء ما هو ممضاة في الشريعة السابقة ، والاستصحاب يثبت بقائه ، كما لا يخفى.
- التنبيه الثامن -
اشارة

قد اشتهر بين المتأخرين القول باعتبار مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول ، خلافا لما يظهر من بعض كلمات المتقدمين ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي بيان ما تمتاز به الامارات عن الأصول موضوعا وحكما.

أما امتيازها من حيث الموضوع فبأمور :

الأول : عدم أخذ الشك في موضوع الامارة وأخذه في موضوع الأصل ، فان التبعد بالأصول العملية إنما يكون في مقام الحيرة والشك في الحكم الواقعي ، فقد اخذ الشك في موضوع أدلة الأصول مطلقا محرزة كانت أو غير محرزة ، بخلاف الامارات ، فان أدلة اعتبارها مطلقة لم يؤخذ الشك قيدا فيها ، كقول علیه السلام « العمري ثقة فما أدى إليك عني فعني يؤدي ».

نعم : الشك في باب الامارات إنما يكون موردا للتعبد بها ، لأنه لا يعقل التعبد بالامارة وجعلها طريقا محرزة للواقع مع انكشاف الواقع والعلم به ، فلابد وأن يكون التعبد بالامارة في مورد الجهل بالواقع وعدم انكشافه لدى من قامت عنده الامارة ، ولكن كون الشك موردا غير أخذ الشك موضوعا ، كما لا يخفى.

الامر الثاني : الامارة إنما تكون كاشفة عن الواقع مع قطع النظر عن التعبد بها ، بخلاف الأصول العملية ، غايته أن كشفها ليس تاما كالعلم ، بل كشفا ناقصا يجامعه احتمال الخلاف ، فكل أمارة ظنية تشارك العلم من حيث الاحراز والكشف عما تحكي عنه ، والفرق بينهما إنما يكون بالنقص والكمال ، فان كاشفية العلم وإحرازه تام لا يجتمع معه احتمال الخلاف ، وأما كاشفية الامارة وإحرازها فهو ناقص يجتمع معه احتمال الخلاف ، فالأمارات الظنية تقتضي الكشف والاحراز بذاتها مع قطع النظر عن التعبد بها ، وإنما التعبد

ص: 481

يوجب تتميم كشفها وتكميل إحرازها بإلغاء احتمال الخلاف. وأما أصل الكشف والاحراز الناقص : فليس ذلك بالتعبد ، ولا يمكن إعطاء صفة الكاشفية والاحراز لما لا يكون فيه جهة كشف وإحراز ، فالكشف الناقص في الامارة كالكشف التام في العلم لا يمكن أن تناله يد الجعل ، وإنما الذي يمكن أن تناله يد الجعل هو تتميم الكشف بإلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به.

الامر الثالث : الامارة إنما يكون اعتبارها من حيث كشفها وحكايتها عما تؤدي إليه ، بمعنى أن الشارع لاحظ جهة كشفها في مقام اعتبارها ، فإن ألغى الشارع جهة كشفها واعتبرها أصلا عمليا فلا يترتب عليها ما يترتب على الامارات ، بل يكون حكمها حكم الأصول العملية ، كما لا يبعد أن تكون قاعدة التجاوز وأصالة الصحة بل الاستصحاب في وجه من هذا القبيل ، فان في هذه الأصول جهة الكاشفية والأمارية ، ولكن الشارع اعتبرها أصولا عملية ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) في الخاتمة ، فتأمل (1). فبهذه الأمور الثلاثة تمتاز الامارة عن الأصل موضوعا.

وأما امتيازها عنه حكما :

فهو أن المجعول في الامارات إنما هو الجهة الثانية من الجهات الثلاث التي يقتضيها العلم الطريقي ، وهي : كونه صفة قائمة في النفس ، وكونه كاشفا وطريقا إلى المعلوم ، وكونه محركا عملا نحو المتعلق. فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم الطريقي. والمجعول في باب الامارات إنما هو الجهة الثانية من هذه الجهات ، وفي باب

ص: 482


1- وجهه : هو أنه يمكن أن يكون هذا راجعا إلى الاختلاف بين الامارة والأصل في ناحية المحمول والحكم المجعول فيها ، لا إلى ناحية الموضوع ، فيكون امتياز الامارة عن الأصل موضوعا بالأمرين الأولين ( منه ).

الأصول العملية المحرزة إنما هو الجهة الثالثة.

وأما الجهة الأولى : فهي من اللوازم التكوينية للعلم الوجداني غير قابلة لان تنالها يد الجعل التشريعي ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الجزء الثالث من الكتاب عند البحث عن قيام الطرق والأصول مقام القطع الطريقي ، وإجماله : هو أن العلم عبارة عن الصورة الحاصلة في نفس العالم وبتوسط تلك الصورة ينكشف ذو الصورة ويكون محرزا لدى العالم ، فالعالم إنما يرى ذا الصورة بتوسط الصورة المرتسمة في النفس ، ومن هنا يكون المعلوم أولا وبالذات نفس الصورة (1) ولأجل كونها مطابقة لذي الصورة يكون ذو الصورة معلوما ثانيا وبالتبع ، وهذا من غير فرق بين أن يكون العلم من مقولة الكيف أو الفعل أو الانفعال أو غير ذلك ، فإنه على جميع التقادير لا يتعلق العلم بالذوات الخارجية إلا بتوسط ما يكون بمنزلة المرآت والقنطرة لها ، فكاشفية العلم عن المتعلق إنما تكون بعد قيام الصورة في النفس فيتعقبها الكاشفية والاحراز ، ثم يتعقب الكاشفية والاحراز الحركة والجري العملي نحو المتعلق ، فالعطشان العالم بوجود الماء في المكان الكذائي يطلبه ويتحرك نحوه ، والخائف العالم بوجود الأسد في الطريق يفر منه ويترك سلوكه ، فالجري العملي وحركة العضلات إنما يكون بعد إحراز المتعلق.

فهذه الجهات الثلاث مترتبة في الوجود ، بمعنى أن الجهة الأولى متقدمة

ص: 483


1- أقول : الأولى أن يقال : إن الصور بملاحظة لحاظها خارجية بلا التفات إلى ذهنيتها صار منشأ لاتصاف الخارج بالمعلومية ، ولا يكون المتصف بالمعلومية إلا هو ، وإلا فالصور الذهنية آبية عن هذا الاتصاف ، وإنما هي معروضات للعلم ، فيكون العلم في عالم العروض قائمة بالصور وفي عالم الاتصاف محمولة للخارجيات ، فاطلاق المعلومية لا يصح إلا بالنسبة إلى الخارجيات ، غاية الامر بتوسيط عروضها للصور ، لا أن معلومية الخارجيات تبع لمعلومية الصور ، فان نسبة العلم إلى الصور الذهنية غير نسبته إلى الخارجيات ، كما هو الشأن في كل ما كان من الوجدانيات كالإرادة وغيرها ، كما لا يخفى.

على الجهة الثانية رتبة والجهة الثانية متقدمة على الجهة الثالثة كذلك.

نعم : للعلم جهة رابعة ، وهي : كونه مقتضيا للتنجز عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، وهذه الجهة إنما تكون في عرض اقتضائه الحركة والجري العملي (1) فالجهة الثالثة والرابعة مما يقتضيهما العلم من الجهة الثانية ، وهي : الاحراز والكاشفية.

إذا تبين ذلك ، فنقول : إن المجعول في باب الطرق والامارات إنما هو الطريقية والكاشفية والوسطية في الاثبات ، بمعنى : أن الشارع جعل الامارة محرزة للمؤدى وطريقا إليه ومثبتة له ، بناء على ما هو التحقيق عندنا : من أن الطريقية بنفسها تنالها يد الجعل كسائر الأحكام الوضعية ، بل الطريقية أيضا كالملكية والزوجية من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع (2) فان

ص: 484


1- أقول : وربما يكون في باب امتثال الاحكام جهة التحريك في طول المحركية ، حيث إن العقل لا يحكم بالحركة على وفقه إلا من جهة تنجيز الحكم به ، كما هو ظاهر.
2- أقول : الطريقية بمعنى تتميم الكشف وتمامية الانكشاف المساوق لالقاء الاحتمال بحقيقته يستحيل أن تناله يد الجعل تشريعا ، كيف! وحصر الكشف في طرف وجود الشيء ونفي احتمال عدمه الذي هو معنى تتميم كشفه يستحيل أن يكون بحقيقته جعليا ، وإنما الجعل فيه بمعنى تنزيل احتمال خلافه منزلة العدم ، وهذا المعنى من الجعل قابل لان يتعلق بجميع موجودات العالم ، ولا يكون مختصا بشيء دون شيء ، وهذا بخلاف الحقائق الجعلية ، إذ هي بحقائقها أمور مخصوصة متقومة بالجعل ، كالملكية وأمثالها ، وميزان جعلية الشيء كون منشأ انتزاع مفهومه الذي هو عبارة عن حقيقته اعتباريا منوطا بجعله ، كما هو الشأن في الملكية ، وهذا المعنى أجنبي عن مقام تمامية الكشف وعدم احتمال الخلاف ، فان منشأ انتزاع هذا المفهوم - كمفهوم الحجر والمدر - ليس إلا من الأمور الواقعية ، وإنما الجعل المتصور فيها ليس إلا في وجوداتها التنزيلية لا الحقيقية ، ولذا نقول : إن الحجية بمعنى الكاشفية لا يكون من الجعليات إلا بنحو من العناية والتنزيل. نعم: قد يتوهّم أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة و القاطعيّة للعذر من الحقائق الجعليّة، كما هو مسلك أستاذنا، و هذا المعنى عنده لا يلازم عناية تتميم الكشف، و لذا لم يلتزم به حتّى في الأمارات فضلا عن الأصول، و لذا لا يلتزم قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي مطلقا، و لا يلتزم بحكومة الأمارات على الأصول. والاشكال عليه : بأن هذه المرتبة من الحجية أيضا غير قابلة للجعل له مقام آخر ولكن لا إشكال في اعتبارية الحجية حقيقة ، وإنما الاشكال في جعليته أو انتزاعيته من جعل آخر. و على أيّ حال: فرق بين الحجّيّة و الطريقيّة بمعنى الكاشفيّة التّامّة بنفي احتمال الخلاف. و مجرّد إمضائيّة هذه الجهة للطريقيّة العرفيّة لا يقتضي جعليّة هذا المعنى بحقيقته لدى العرف، بل المرتكز في أذهانهم أيضا إلقاء احتمال الخلاف في طرقهم عناية و تنزيلا لا حقيقة، فحركتهم على طبق طرقهم ناش عن بنائهم على انكشاف الواقع، لا على انكشافه حقيقة، و لا نعني من البناء المزبور إلا العناية و التنزيل، و الشارع أمضى أيضا هذه العناية. و من هذه الجهة قلنا: بأنّ هذا البناء شرعا و التنزيل يحتاج إلى أثر كي يكون البناء و التنزيل بلحاظه، و إلا فبدونه لا اعتبار للتنزيل. فلا محيص حينئذ من الالتزام بوجود أمر طريقي هو المصحّح للعقوبة، و إلّا فنفس التنزيل المزبور بلا مصحّح له شرعا لا اعتبار له، كي يصلح للمنجّزيّة، و لقد شرحنا هذه المقالة في مسألة جعل الطرق. و بالجملة: فالمقرّر خلط بين مسلك جعل الحجّيّة بمعنى القاطعيّة للعذر- الّذي أفاد أستاذنا بأنّها من الأمور الاعتباريّة و من الأحكام الوضعيّة كالملكيّة و الجزئيّة- و بين جعل الكاشف و الطريقيّة الملازم للوسطيّة في إثبات الحكم الّذي بهذه العناية يقوم مقام العلم و حاكم على الأصول، و ذلك يتخيّل أنّ الكاشفيّة أيضا من سنخ الملكيّة الّتي يكون بحقيقته جعليّا، و لعمري! انّه وقع من السماء إلى الأرض بلا التفات إلى اختلاف المسالك بحقيقته و نتيجته، فتدبّر بعين الإنصاف.

الظاهر أنه ليس فيما بأيدينا من الطرق والامارات ما يكون مخترعا شرعيا ، بل جميع الطرق والامارات مما يتعاطاها يد العرف في إثبات مقاصدهم ، كالاخذ بالظواهر والعمل بالخبر الواحد ونحو ذلك من الطرق والامارات ، فهي عندهم محرزة للمؤدى وكاشفة عنه وواسطة لاثبات مقاصدهم كالعلم ، والشارع قد أبقاها على حالها وأمضى ما عليه العرف ، فالأمارات تكون كالعلم من حيث الاحراز والكاشفية وإثبات المؤدى ، وليس أخذ العقلاء بالامارات لمجرد تطبيق العمل على مؤدياتها بلا توسط الاحراز ، فإنه ليس في بناء العقلاء تعبد في مقام العمل ، فتطبيق عملهم على ذلك إنما هو لكونها محرزة للمؤدى.

فظهر : أن المجعول في الامارات ليس هو مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، بل تطبيق العمل على المؤدى من لوازم المجعول فيها ، وإنما المجعول أولا وبالذات

ص: 485

نفس الاحراز والوسطية في الاثبات ، وبتوسطه يلزم تطبيق العمل على المؤدى.

نعم : المجعول في باب الأصول العملية مطلقا هو مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إذ ليس في الأصول العملية ما يقتضي الكشف والاحراز ، وليست هي طريقا إلى المؤدى ، بل إنما تكون وظائف تعبدية للمتحير والشاك لا تقتضي أزيد من تطبيق العمل على المؤدى ، سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو كان من الأصول الغير المحرزة ، فإنه ليس معنى الأصل المحرز كونه طريقا إلى المؤدى ، بل معناه هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر (1) فالمجعول في الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطريقي ، وهي الحركة والجري العملي نحو المعلوم ، فالاحراز في باب الأصول المحرزة غير الاحراز في باب الامارات ، فان الاحراز في باب الامارات هو إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل ، وأما الاحراز في باب الأصول المحرزة : فهو الاحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدى ، فالفرق بين الاحرازين مما لا يكاد يخفى.

وأما الأصول الغير المحرزة : فالمجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون البناء على أنه هو الواقع ، فهو لا يقتضي أزيد من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، وهو الذي كان يقتضيه العلم من الجهة الرابعة.

لا أقول : إن المجعول في باب الأصول الغير المحرزة نفس التنجيز والمعذورية ، فان ذلك واضح الفاسد كما تقدم ، بل المجعول فيها معنى لا يقتضي أزيد من التنجيز والمعذورية ، بالبيان المتقدم في باب جعل الطرق والامارات.

فتحصل : أن الأصول العملية كلها وظايف للمتحير في مقام العمل ، والتعبد

ص: 486


1- أقول : وليكن هذا في ذكر منك بأنه على هذا يستحيل حكومة الاستصحاب على سائر الأصول ، كما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ).

بها لمحض الجري العملي على طبق المؤدى بلا توسط الاحراز.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك السر فيما اشتهر بين المتأخرين : من اعتبار مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول ، فان الوجه في ذلك إنما هو لمكان أن المجعول في باب الامارات معنى يقتضي اعتبار مثبتاتها ولو بألف واسطة عقلية أو عادية ، بخلاف المجعول في باب الأصول العملية ، فإنه لا يقتضي أزيد من اعتبار نفس مؤدى الأصل ، أو ما يترتب عليه من الأحكام الشرعية بلا واسطة عقلية وعادية.

بيان ذلك : هو أن الامارة إنما تحكي عن نفس المؤدى ولا تحكي عن لوازم المؤدى وملزوماته الشرعية بما لها من الوسائط العقلية أو العادية (1) فان البينة أو الخبر الواحد إنما يقوم على حياة زيد أو موت عمرو ، فهو إنما يحكي عن نفس بفرض الأثر من آثار كشف الحياة تعبدا أو بفرض التعبد بكشفها من لوازم التعبد بكشف الملزوم ، وكلاهما غلط ، إذ الأول فظاهر ، وكذا الأخير ، لمنع الملازمة بين التعبدين ، كما هو ظاهر. فالأولى حينئذ أن يقال : إن الظن باللوازم في عرض الظن بالملزوم تحت التعبد عرفا ، لا أن ترتيبها من لوازم التعبد بمجرد الملزوم والمؤدى ، كما لا يخفى. الحياة والموت ، ولا يحكي عن نبات اللحية وما يستتبعه : من الآثار الشرعية أو العقلية والعادية ، بداهة أن المخبر بالحياة ربما لا يلتفت إلى نبات اللحية فضلا عما يستتبعه ، والحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه ، فليس الوجه في اعتبار مثبتات الامارة كونها حاكية عن لوازم المؤدى وملزوماته ، بل الوجه فيه هو أن الامارة إنما تكون محرزة للمؤدى وكاشفة عنه كشفا ناقصا والشارع بأدلة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها ، فصارت الامارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم ، وبعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات (2) ولا يحتاج

ص: 487


1- أقول : وذلك لان حكاية الخبر فرع دلالته التصديقية ، وذلك لا يتحقق إلا مع التفات المخبر بالملازمة ، وإلا لا معنى للتصديق بمراده من كلامه. ولقد أجاد المقرر فيما أفاد ولكنه أخطأ في خياله بأن مجرد التعبد بالظن بالملزوم يستلزم ترتيب اللوازم بلا احتياج إلى التعبد بالظن باللازم أيضا ، فتدبر.
2- 2 - أقول : كيف يترتب الآثار بلا علم بها لا حقيقة ولا تعبدا؟ ومجرد العلم بالملزوم تعبدا لا يقتضي إلا بتطبيقه تعبدا ، وهو غير ملازم لتطبيق الآثار مع الشك فيها وجدانا ، فلا مجال حينئذ لترتيب الأثر إلا بفرض الأثر من آثار كشف الحياة تعبدا أو بفرض التعبد بكشفها من لوازم التعبد بكشف الملزوم ، وكلاهما غلط ، إذ الأول فظاهر ، وكذا الأخير ، لمنع الملازمة بين التعبدين ، كما هو ظاهر. فالأولى حينئذ أن يقال : إن الظن باللوازم في عرض الظن بالملزوم تحت التعبد عرفا ، لا أن ترتيبها من لوازم التعبد بمجرد الملزوم والمؤدى ، كما لا يخفى.

في إثبات اللوازم إلى كون الامارة حاكية عنها ، بل إثباتها إنما يكون من جهة إحراز الملزوم ، كما لو أحرز الملزوم بالعلم الوجداني ، فإنه لا يكاد يشك في إثبات العلم لجميع ما يقتضيه المعلوم بوجوده الواقعي : من اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات ، والامارة الظنية بعد اعتبارها يكون حالها حال العلم.

نعم : بين الامارة والعلم فرق ، وهو أن العلم لما كان لا تناله يد التعبد الشرعي ، فلا يتوقف إثباته للوازم والملزومات على أن يكون في سلسلتها أثر شرعي ، بخلاف الامارة ، فإنه لابد فيها من أن ينتهي الامر - ولو بألف واسطة - إلى أثر شرعي ، حتى لا يلزم لغوية التعبد بها.

والحاصل : أنه كما أن الشيء بوجوده الواقعي يلازم وجود اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات ، كذلك إحراز الشيء يلازم إحراز اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات عند الالتفات إليها ، وبعدما كانت الامارة الظنية محرزة للمؤدى فيترتب عليه جميع ما يترتب عليه من الآثار الشرعية ولو بألف واسطة عقلية أو عادية ، فظهر : أن السر في اعتبار مثبتات الامارات هو أن المجعول فيها معنى يقتضي ذلك.

وأما الأصول العملية : فلما كان المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على المؤدى بلا توسيط الاحراز ، فهو لا يقتضي أزيد من إثبات نفس المؤدى أو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي بلا واسطة عقلية أو عادية ، فإنه لابد من الاقتصار على ما هو المتعبد به ، والمتعبد به في الأصول العملية مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، والمؤدى إن كان حكما شرعيا فهو المتعبد به ،

ص: 488

وإن كان موضوعا خارجيا فالمتعبد به إنما هو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي ، فان الموضوع الخارجي بما هو غير قابل للتعبد به.

وأما الأثر الشرعي المترتب عل المؤدى بواسطة عقلية أو عادية - كما لو فرض أن لنبات اللحية أثرا شرعيا في المثال المتقدم - فهو غير متعبد به ، فان مؤدى الأصل نفس الحياة لانبات اللحية ، والمفروض : أن الأثر الشرعي لم يترتب على الحياة ليكون التعبد بالحياة بلحاظ ذلك الأثر ، بل الأثر مترتب على بنات اللحية ، فالأصل الجاري في الحياة لا يمكن أن يثبت الحكم الشرعي المترتب على نبات اللحية ، لان الحكم الشرعي لا بنفسه مؤدى الأصل ولا موضوعه ، إذ المفروض : أن موضوعه إنما هو نبات اللحية والأصل لم يؤد إليه ، بل أدى إلى الحياة ، فكيف يمكن إثبات حكم لموضوع بقيام الأصل على موضوع آخر؟.

ودعوى : أن الحكم الشرعي أثر لنبات اللحية ونبات اللحية أثر للحياة فيكون الحكم الشرعي أثرا للحياة أيضا - فان أثر الأثر أثر بقياس المساواة - فهي في غاية الوهن والسقوط ، فان قياس المساواة إنما يكون في العلل والمعلولات التكوينية أو في العلل والمعلولات الشرعية بحيث تكون سلسلة الوسائط والعلل والمعلولات كلها شرعية (1) كما سيأتي بيانه. وأما إذا تخلل بين سلسلة الآثار الشرعية واسطة عقلية أو عادية : فلا يأتي فيها قياس المساواة ، فان الآثار الشرعية تدور مدار مقدار التعبد بها ، فقد يكون التعبد بالنسبة إلى خصوص الأثر الذي لا يتوسط بينه وبين موضوعه واسطة عقلية أو عادية ، فكون أثر الأثر أثرا لا ربط له بباب التعبديات. وقد عرفت : أن المتعبد به في باب الأصول العملية هو خصوص مؤدى الأصل أو ما يترتب عليه من

ص: 489


1- أقول : مصب تشكيل قياس المساواة إنما هو في سلسلة الآثار الواقعية توطئة لاجراء قاعدة « التعبد بالشئ تعبد بأثره » فجوابه حينئذ ليس إلا منع شمول الدليل لاثبات التعبد بالأثر مع الواسطة ، لا منع قياس المساواة.

الحكم الشرعي بلا واسطة عقلية وعادية.

نعم : إذا ورد في مورد بالخصوص التعبد بأصل مع أنه ليس لمؤداه أثر شرعي إلا بواسطة عقلية أو عادية ، فلابد من ثبوت الأثر الشرعي وإلا يلزم لغوية التعبد بالأصل ، وأين هذا من الأصول العملية التي قد يتفق فيها عدم الأثر للمؤدى إلا بواسطة عقلية أو عادية؟ فإنه لا يلزم من عدم جريان الأصل فيما يتفق فيه ذلك لغوية التعبد بالأصل ، لأنه يكفي في صحة التعبد به جريانه في سائر الموارد مما كان المؤدى فيها بنفسه أثرا شرعيا أو ترتب عليه أثر شرعي بلا واسطة عقلية أو عادية.

وبالجملة : بعدما كان المجعول في الأصول العملية مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، فلا يمكن أن يثبت به الأثر الشرعي الذي يتخلل بينه وبين المؤدى واسطة عقلية أو عادية (1) وكذا لا يمكن أن يثبت به ملزوم المؤدى أو ما يلازمه شرعا ، فان التعبد بالبناء العملي على ثبوت مؤدى الأصل لا يلازم التعبد بالبناء العملي على ثبوت الملزوم أو ما يلازم المؤدى ، فلو كان مؤدى الأصل جواز الصلاة في الجلد المشكوك كونه من مأكول اللحم ، فلا يثبت به حلية

ص: 490


1- أقول : الأولى في وجه عدم مثبتية الأصول أن يقال : إن دليل الأصل منصرف إلى تطبيق القضايا الشرعية المترتبة على المؤدى ، وإلا فمن حيث إمكان الاطلاق فلا قصور فيه ، كيف! ولنا أن نقول : إنه ما المراد من تطبيق العمل على مؤدى الأصل؟ فان كان المراد تطبيق العمل عليه بجميع لوازمه فعدم شموله للوازم العقلية والشرعية المترتبة عليها صحيح ، لكن لازمه عدم شمول دليل التعبد اللوازم الشرعية المترتبة على اللوازم الشرعية الخارجة عن محل الابتلاء في زمان ورود التعبد بالمؤدى ، وإن كان المراد تطبيق العمل عليه في الجملة - ولو بانتهاء الامر بالآخرة إلى الأثر الشرعي - فالتفكيك بين اللوازم العقلية والشرعية الخارجة عن محل الابتلاء بعد اشتراكهما بالآخرة في ترتيب العمل وتطبيقه لا وجه [ له ] فتوهم : معقولية أحدهما دون الآخر غير وجيه. ومن هنا ظهر أيضا : بطلان توهم أن التنزيل لابد وأن يكون بلحاظ جعل المماثل للأثر بلا واسطة ، إذ كيف يعقل جعل الأثر للخارج عن محل الابتلاء؟ كما لا يخفى ، فتدبر.

الحيوان المتخذ منه الجلد ، مع أن جواز الصلاة في الجلد إما أن يكون من اللوازم الشرعية المترتبة على كون الحيوان مأكول اللحم وإما أن يكون جواز الصلاة في الجلد وحلية أكل الحيوان لازمين ل- [ عدم ] كون الحيوان مسوخا أو ذا ناب ومخلب ، فالأصل الذي يؤدي إلى جواز الصلاة في الجلد كما لا يثبت به الملزوم ( وهو [ عدم ] كون الحيوان مسوخا أو ذا ناب ومخلب ) كذلك لا يثبت به ما يلازم جواز الصلاة ( وهو كون الحيوان مأكول اللحم ) لما عرفت : من أن التعبد باللازم لا يلازم التعبد بالملزوم ولا بما يلازم اللازم.

وحاصل الكلام : هو أن التعبد بثبوت العلة يلازم التعبد بثبوت المعلول الشرعي ، سواء لم يكن في البين إلا علة واحدة ومعلول شرعي واحد أو كان في البين علل ومعلولات متعددة كلها شرعية ، فان التعبد بمبدأ السلسلة وأول العلل يقتضي التعبد بجميع العلل والمعلولات المتوسطة إذا لم يتخلل بينها واسطة عقلية أو عادية ، وإن تخلل بينها واسطة عقلية أو عادية فالتعبد بمبدأ السلسلة يقتضي التعبد بالعلل والمعلولات إلى ما قبل الواسطة العقلية أو العادية ، دون ما بعدها ، هذا إذا كان المتعبد به ثبوت العلة.

وأما إذا كان المتعبد به ثبوت المعلول : فهو لا يلازم التعبد بثبوت العلة ولا بثبوت معلول آخر إذا كان للعلة معلولان وكان أحد المعلولين مؤدى الأصل دون الآخر ، كما في المثال المتقدم لو فرض كون جواز الصلاة في الجلد وحلية أكل الحيوان معلولي [ عدم ] كون الحيوان ذا ناب ومخلب ، فتأمل جيدا.

وينبغي ختم الكلام في هذا المبحث بذكر أمور :
الأول :

قد عرفت : أن إثبات الامارات للوازم والملزومات ليس لأجل حكاية

ص: 491

الامارة عنها ، فان الحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه ، وقد لا تكون البينة - مثلا - ملتفتة إلى اللوازم والملزومات ، فضلا عن الاخبار عنها ، فما في بعض الكلمات : من أن الوجه في اعتبار مثبتات الامارة هو حكايتها عن اللوازم والملزومات ، ضعيف غايته.

وأضعف من ذلك دعوى دلالة إطلاق أدلة اعتبار الامارات على إثبات اللوازم والملزومات دون أدلة الأصول ، فإنه ليس فيها إطلاق يعم التعبد باللوازم والملزومات.

وجه الضعف : هو أن إطلاق أدلة اعتبار الامارات ليس بأقوى من إطلاق أدلة الأصول لو لم نقل بأن إطلاق أدلة الأصول أقوى من إطلاق أدلة الامارات خصوصا بالنسبة إلى بعضها ، فإنه لا يكاد يشك في أقوائية إطلاق قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » من إطلاق أدلة بعض الامارات ، كاليد التي منشأ اعتبارها ليس إلا الغلبة.

وبالجملة - توهم : كون الوجه في اعتبار مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول هو أن أدلة الامارات تدل على إثبات اللوازم والملزومات وأدلة الأصول لا تدل على ذلك ، في غاية الوهن والسقوط ، بل الوجه في ذلك هو ما تقدم : من أن الحكم المجعول في باب الامارات معنى يقتضي إثبات اللوازم والملزومات ، بخلاف الحكم المجعول في باب الأصول ، فإنه لا يقتضي أزيد من إثبات مؤدى الأصل وما يلزمه من الأحكام الشرعية بلا واسطة عقلية أو عادية - بالبيان المتقدم - فالفرق بين الامارات والأصول العملية في ذلك إنما ينشأ من ناحية اختلاف المجعول فيهما ، لا من ناحية إطلاق الدليل.

ونظير الحكم الظاهري المجعول في باب الأصول العملية - من حيث عدم إثبات اللوازم والملزومات - الحكم الواقعي المجعول في باب الرضاع (1) وفي باب

ص: 492


1- 1 - أقول : لا يخفى أن باب الرضاع غير مرتبط بباب الأصول المثبتة ، إذ في الأصول المثبتة لا إشكال في ثبوت الكبرى ، وإنما الاشكال فيه في قصور دليل التنزيل للشمول ، وأما في باب الرضاع : الامر بالعكس، إذ لا قصور لدليل التنزيل في الشمول لكل ما ثبت من الكبرى ، وإنما الاشكال في ثبوت أصل كبرى حرمة أخت الأخت - مثلا - بعنوانه ، وإنما هو حرام بعنوان الأخت ليس إلا ، كما لا يخفى.

إجازة العقد الفضولي بناء على الكشف الحكمي فيها ، فان قوله علیه السلام في أخبار الرضاع : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » إنما يقتضي اختصاص الحرمة بما إذا تحقق من الرضاع أحد العناوين المحرمة بالنسب ، كالأم والأخت والعمة والخالة ، ولا يعم تحريم الرضاع ما إذا تحقق منه أحد العناوين الملازمة للعناوين المحرمة بالنسب ، كما إذا فرض أنه تحقق من الرضاع عنوان « أم الأخ » فان أم الأخ لم تكن من العناوين المحرمة إلا باعتبار كونها اما أو زوجة أب ، ولكن هذا يختص بباب النسب التكويني ، وأما الرضاع : فيختص نشره للحرمة بما إذا تحقق أحد العناوين المحرمة بالنسب أولا وبالذات بلا توسط عنوان ملازم ، إلا بناء على عموم المنزلة ، فالقول بعموم المنزلة في باب الرضاع نظير القول بالأصل المثبت في باب الأصول العملية.

وكذا الكلام في باب الإجازة بناء على الكشف الحكمي ، فان معنى الكشف الحكمي هو ترتيب خصوص الآثار المترتبة على تحقق الملكية أو الزوجية من زمان العقد دون ما يلازم تلك الآثار ، فلا يرجم الزاني بالمرأة قبل الإجازة بدعوى : أنه يكون من الزناء بذات البعل ، لان الإجازة تكشف عن كون المرأة كانت زوجة للمجيز من حين العقد ، فان الإجازة بناء على الكشف الحكمي لا تقتضي أزيد من ترتيب آثار الزوجية من زمان العقد ، وأما كون المرأة ذات بعل - ليكون الزناء بها زناء بذات البعل - فهو مما لا تقتضيه الإجازة ، إلا على القول بالكشف الحقيقي (1) فتأمل جيدا.

ص: 493


1- أقول : بل الكشف الحقيقي المشهوري أيضا لا يقتضي الرجم ، فإنه فرع عمله بالحرمة حين عمله ، ولا حرمة قبل الإجازة ولو علم بها ، بل الإجازة أيضا لا يكشف إلا عن الأحكام الوضعية السابقة لا الحكم التكليفي ، فراجع بيعنا ترى شرحه مفصلا.
الامر الثاني :

لا فرق فيما ذكرنا من عدم اعتبار مثبتات الأصول العملية بين أن تكون الواسطة العقلية أو العادية المتخللة بين مؤدى الأصل والأثر الشرعي خفية أو جلية. ويظهر من كلام الشيخ قدس سره اعتبار الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفية ، وقد ذكر لذلك أمثلة. وألحق بعض الأعاظم الواسطة الجلية بالواسطة الخفية ، وقال باعتبار الأصل المثبت فيها أيضا.

والتحقيق : أنه لا أثر لخفاء الواسطة فضلا عن جلائها ، فإنه إن كان الأثر أثرا لذي الواسطة حقيقة بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع - وإن احتمل ثبوتا أن تكون للواسطة دخل في ترتب الأثر على مؤدى الأصل - فهذا لا يرجع إلى التفصيل في عدم اعتبار الأصل المثبت ، فإنه لم يتخلل حقيقة بين مؤدى الأصل والأثر الشرعي واسطة عقلية أو عادية ، فلا وجه لاستثناء الواسطة الخفية من بين الوسائط والقول باعتبار الأصل المثبت فيها.

وإن كان الأثر أثرا للواسطة حقيقة والعرف يتسامح ويعده من آثار ذي الواسطة ، فلا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، فان نظر العرف إنما يكون متبعا في المفاهيم لا في تطبيقها على المصاديق (1) فقد يتسامح العرف في

ص: 494


1- أقول : إذا قلنا بأنّ «لاتنقض» سبقت بالنسبة إلى مايعدّ بالأنظار العرفيّة المسامحيّة نقضاً وتعبّداً ببقاء المتيقّن وإن لم يكن كذلك دقّة فصارت المسامحة العرفية مرجعا في تحديد مفهوم حرمة نقض الشيء والتعبّد ببقائه وان تطبيق هذا المفهوم على المورد دقيقي عقلي ، وحينئذٍ فالمسامحة العرفيّة كانت مرجعاً في هذا المفهوم لا في تطبيق كبرى الحكم الواقعي ، فلا يحتاج أن يدعي بأن الأثر في دليل الكبرى ثابت حقيقة بنظر العرف الذي الواسطة ؛ وهكذا في مسألة بقاء الموضوع كما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ). و أمّا جلاء الواسطة: فانّما يتصوّر في مورد يكون الملازمة بينهما بمقدار لا يرى العرف التفكيك بينهما حتّى في عالم التنزيل، كما يتصوّر في الأبوّة و النبوّة و أمثال ذلك، و ذلك على فرض تماميّة الصغرى لا إشكال في الكبرى أيضا، و لا مجال لدعوى الخفاء و الجلاء المصحّح للإثبات في جميع المقامات، كما لا يخفى.

تطبيق المفهوم على ما لايكون مصداقا له واقعا ، كما يشاهد أن العرف يتسامح ويطلق أسماء المقادير على ما ينقض عن المقدار أو يزيد يسيرا ، فالمسامحات العرفية لا أثر لها وتضرب على الجدار بعد تبين المفهوم.

وما قرع سمعك : من اتباع نظر العرف في باب الاستصحاب وأخذ الموضوع منه ، فليس المراد منه اتباع نظره المسامحي ، بل المراد منه أن الاتحاد المعتبر بين القضية المشكوكة والقضية المتيقنة إنما يرجع فيه إلى العرف بحسب ما هو المرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وسيأتي تفصيله ( إن شاء اللّه تعالى ).

وبالجملة : لا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، فان كان الحكم الشرعي فيما نحن فيه مترتبا على نفس الواسطة حقيقة وكانت هي الموضوع له واقعا ، فلا يمكن إثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة وإن فرض أن العرف يتسامح ويرى الموضوع للحكم نفس مؤدى الأصل لخفاء الواسطة وعدم الالتفات إليها. وإن كان الحكم الشرعي مترتبا في الواقع على ذي الواسطة وكانت الواسطة العقلية أو العادية علة لثبوت الحكم لمؤدى الأصل ، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت وإن فرض أن العرف يتسامح ويجعل الموضوع للحكم نفس الواسطة. فدعوى : اعتبار الأصل المثبت مع كون الواسطة خفية ، ضعيفة غايته وأضعف منها إلحاق الواسطة الجلية بها ، فإنه على هذا يلزم القول باعتبار الأصل المثبت مطلقا ، إذ ما من مورد إلا ويمكن فيه دعوى كون الواسطة خفية أو جلية

ص: 495

والأمثلة التي ذكرها الشيخ قدس سره لخفاء الواسطة ، لا تخلو : إما أن لا تكون فيها واسطة عقلية أو عادية ، وإما أن لا يجري الأصل فيها لاثبات الحكم المترتب على الواسطة.

أما ما ذكره : من استصحاب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآجر لاثبات نجاسة الطاهر منهما ، مع أن مجرد ملاقاة النجس الرطب للطاهر الجاف لا يكفي في نجاسة الطاهر ما لم تسر النجاسة من النجس إليه وينتقل أجزاء مائية نجسة إلى الطاهر

ففيه (1) أن في باب ملاقاة الطاهر للنجس إما أن نقول : إنه يكفي في نجاسة الطاهر مجرد مماسته للنجس الرطب وإما أن نقول : بأنه لا يكفي ذلك بل لابد في الحكم بنجاسة الطاهر من انتقال النجاسة من النجس إليه.

فإن قلنا بالأول : فالمثال يندرج في باب الموضوعات المركبة المحرزة بعض أجزائها بالوجدان والآخر بالأصل ، ولا يتخلل بين الموضوع والأثر الشرعي واسطة أصلا لا خفية ولا جلية ، فان المفروض : أن الحكم بنجاسة الطاهر مترتب على نفس ملاقاته للنجس الرطب ، فباستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس يحرز أحد جزئي الموضوع والجزء الآخر وهو المماساة محرز بالوجدان فيحكم بنجاسة الطاهر.

وإن قلنا بالثاني : فاستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس لا أثر له لأنه لا يثبت التأثير والتأثر وانتقال النجاسة من النجس إلى الطاهر لان ذلك من اللوازم العقلية لبقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين ، فالواسطة جلية ويكون من أردء أنحاء الأصل المثبت ، فأي فرق بين المثال وبين استصحاب بقاء الماء في الحوض والحكم بطهارة الثوب المغسول به؟ مع أنه من المتفق عليه كونه من

ص: 496


1- لا يخفى : أن استظهار أحد الوجهين إنما يكون من الأدلة الواردة في باب النجاسات ، ولا معنى لمراجعة العرف في ذلك ، فتأمل ( منه ).

الأصل المثبت ، وليس ذلك إلا لأجل أن لازم بقاء الماء في الحوض هو انغسال الثوب به عقلا ، ففيما نحن فيه أيضا لازم بقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين هو التأثير والتأثر وانتقال الاجزاء المائية من أحدهما إلى الآخر (1).

فالانصاف : أنه لا فرق بين استصحاب بقاء الماء في الحوض وبين استصحاب بقاء الرطوبة النجسة في الذباب الطائر من المحل النجس ، فكما أنه في الأول لا يمكن الحكم بطهارة الثوب المغسول في الحوض ، كذلك في الثاني لا يمكن الحكم بنجاسة المحل الذي لاقاه الذباب ، إلا إذا قلنا بكفاية مجرد مماسة النجس الرطب للطاهر في الحكم بالتنجيس.

نعم : في خصوص مطال الذباب احتمال آخر مال إليه بعض ، وهو عدم نجاسة الذباب بملاقاته للنجس. ولعله لقيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقات الذباب الطائر من المحل النجس إلى المحل الطاهر ، وعلى هذا يخرج المثال عما نحن فيه ، لأنه لا يجري استصحاب بقاء الرطوبة النجسة في الذباب ، كما لا يخفى.

وأما ما ذكره : من استصحاب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك لاثبات كون الغد يوم العيد فيترتب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل والفطرة ونحو ذلك ، فيحتاج إلى بسط من الكلام فيه ، لأنه مما تعم به البلوى ، ولا يختص البحث فيه بأول الشهرة وآخره ، بل يطرد في ثاني الشهر وثالثه ورابعه وهكذا ، فان الشك في أول الشهر يستتبع الشك في ثانيه وثالثه إلى آخر الشهر ، فإذا

ص: 497


1- أقول : أنشدك! بأن التعبد ببقاء الرطوبة المسرية إلى حين الملاقاة مثل التعبد ببقاء الماء في الحوض؟ كلا! إذ العرف لا يتعقل من بقاء الرطوبة المسرية إلى حين الملاقاة إلا سراية الرطوبة إلى الملاقي ( بالكسر ) وهذا بخلاف بقاء ماء في الحوض حين وقوع الثوب فيه ، إذ جريان الماء على الثوب أمر خارج يلازم لبقائه عرفا ، لا عين بقائه ، بخلاف سراية الرطوبة إلى الثوب ، إذ هو بنظرهم عين بقاء الرطوبة المسرية إلى حين الملاقاة بلا نظرهم إلى شيء ثالث هو الواسطة ، فتدبر.

أمكن إثبات أول الشهر بالأصل كما هو ظاهر كلام الشيخ قدس سره يرتفع الاشكال عن بقية أيام الشهر ويثبت به الاحكام الخاصة لكل يوم من أيامه ، وإن منعنا عن جريان الأصل وقلنا : إنه لا يثبت به أول الشهر لأنه يكون من الأصل المثبت ، فيقع الاشكال في الاحكام المختصة بأول الشهر وثانيه وثالثه وسائر الأيام ، ولابد من التخلص عنه بوجه آخر.

وخلاصة الكلام في ذلك : هو أن أول الشهر إما أن يكون معنى مركبا من الوجود المسبوق بعدم مثله أو الوجود المسبوق بضده فيكون الأول عبارة عن وجود اليوم مع عدم مثله أو وجود ضده في الزمان السابق ، وإما أن يكون الأول معنى منتزعا عن الوجود المسبوق بعدم مثله أو وجود ضده.

فعلى الأول : يجري استصحاب عدم هلال شوال أو استصحاب بقاء رمضان في اليوم الذي يشك أنه من شوال ، ويثبت به كون الغد أو الشهر وبعده ثاني الشهر وهكذا ، ويترتب عليه الاحكام الخاصة لكل يوم ، ولا يكون من الأصل المثبت ، لان الموضوع لتلك الأحكام إنما هو اليوم الأول أو الثاني أو الثالث من شوال ، والمفروض : أن اليوم الأول مركب من جزئين - أحدهما كون اليوم من شوال ، ثانيهما عدم كون اليوم السابق عليه منه أو كونه من رمضان ، والجزء الأول محرز بالوجدان للعلم بأن الغد من شوال ، والجزء الثاني محرز باستصحاب عدم هلال شوال أو بقاء رمضان في يوم الشك ، فيكون الغد أول شوال ، لأنه يوم مسبوق بعدم مثله أو بوجود ضده ، ويترتب على الغد أحكام اليوم الأول وفيما بعده أحكام اليوم الثاني وهكذا ، ولا يتوسط بين مؤدى الأصل وتلك الأحكام واسطة عقلية أو عادية حتى يقال : إنها خفية أو جلية.

وعلى الثاني : فاستصحاب عدم هلال شوال أو بقاء رمضان في يوم الشك لا يثبت كون الغد أول شوال وما بعده ثانيه ، لان « الأول » معنى منتزع من اليوم الذي لم يتحقق مثله فيما مضى ، والأصل الجاري في منشأ الانتزاع لا يثبت

ص: 498

به الاحكام المترتبة على ما ينتزع عنه ، لان الامر الانتزاعي ليس بنفسه مؤدى الأصل ، بل مؤدى الأصل منشأ الانتزاع ، فيتوسط بين مؤدى الأصل والأحكام الشرعية ذلك الامر الانتزاعي. وقد عرفت : ما في دعوى خفاء الواسطة.

فبناء على أن يكون « الأول » معنى انتزاعيا لا يكاد يمكن إثباته بالأصل الجاري في منشأ الانتزاع. والظاهر أنه لابد من الالتزام بالانتزاعية ، فإنه لا يمكن أن يكون معنى « الأول » مركبا من وجود الشيء وعدم سبق مثله أو وجود ضده ، لان التركيب إنما يعقل في موضوعات الاحكام ، لا في مداليل الألفاظ ، فان مداليل الألفاظ كلها تكون بسائط ، ولا يمكن أن يكون معنى اللفظ مركبا من مفهومين - كما أوضحناه في محله - فلا يكون مدلول لفظ « الأول » مركبا من مفهومين : أحدهما وجود الشيء في زمان ، وثانيهما عدم مثله في الزمان السابق أو وجود ضده فيه ، بل لابد من أن يكون « الأول » موضوعا للمعنى البسيط الحاصل منهما ولو كان ذلك المعنى البسيط نفس اجتماع المفهومين في الزمان ، كما إذا فرض أن الواضع تصور مفهوم اجتماع المفهومين في الزمان ووضع لفظ « الأول » بإزاء مفهوم الاجتماع ، ومن المعلوم : أن ضم الوجدان إلى الأصل لا يثبت عنوان الاجتماع إلا على القول بالأصل المثبت.

وبالجملة : لا إشكال في أن مدلول لفظ « الأول » معنى بسيط منتزع من وجود الشيء المسبوق بعدم مثله أو وجود ضده ، فاستصحاب بقاء رمضان أو عدم هلال شوال لا يثبت كون الغد أول شوال ، فيشكل الامر في الأحكام الشرعية المترتبة على أيام الشهر إذا لم يحرز اليوم الأول بالوجدان ، ويلزم تعطيل تلك الأحكام مع الشك في أول الشهر.

هذا ، ولكن يمكن دفع الاشكال بأن الظاهر كون المراد من « أول الشهر » في موضوع الاحكام هو يوم رؤية الهلال أو اليوم الذي انقضى من الشهر الماضي ثلاثون يوما بمعنى أنه يكفي فيه أحد الأمرين ، فعند الشك في الهلال

ص: 499

لا يلزم تعطيل الاحكام ، بل يعد الشهر الماضي ثلاثين يوما ، فيكون اليوم الواحد والثلاثون أول الشهر المستقبل ، وبعده ثانيه ، وهكذا.

فالمراد من « ثامن ذي الحجة » مثلا هو اليوم الذي انقضى من شهر ذي الحجة ثمانية أيام بعد رؤية الهلال أو بعد انقضاء ثلاثين يوما من ذي القعدة ، وهذا لا ينافي كون « أول الشهر » موضوعا لليوم الذي كان ليلته ليلة الهلال واقعا ، سواء كان يوم الرؤية أو لم يكن وسواء انقضى من الشهر الماضي ثلاثون يوما أو لم ينقض ، فان المدعى هو أن المراد من « اليوم الأول » الذي اخذ موضوعا للأحكام هو يوم الرؤية أو اليوم الذي سبقه ثلاثون يوما من الشهر الماضي ، فتأمل جيدا.

وأما ما ذكره : من استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محل الغسل أو المسح لاثبات غسل البشرة ومسحها ، فهو من أوضح مصاديق الأصل المثبت.

نعم : ربما يدعى قيام السيرة على عدم الاعتناء بالشك في الحاجب ، ومن هنا لم يعهد من أحد الفحص عن وجود دم القمل أو البق في بدنه عند الغسل ، مع أن البدن مظان لوجود ذلك فيه ، وغالبا يحصل فيه الشك ، ومع هذا لم يعهد الفحص عنه ، بل الفحص عن ذلك يعد من الوسوسة. ولكن للمنع عن قيام سيرة المتدينين على عدم الفحص مع الالتفات إلى ذلك قبل العمل أو في أثنائه مجال.

الامر الثالث :

قد ذكر الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - فروعا في المسائل الفقهية يظهر منهم التسالم على بعضها ، مع أنها توهم ابتنائها على اعتبار الأصل المثبت.

فمنها : ما ذكره المحقق وغيره : من أنه لو اتفق الوارثان على إسلام أحدهما

ص: 500

المعين في أول شعبان والآخر في غرة رمضان واختلفا فادعى أحدهما موت المورث في شعبان والآخر موته في أثناء رمضان ، كان المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورث ، مع أن أصالة بقاء حياة المورث إلى غرة رمضان لا تثبت موضوع التوارث ، وهو موت المورث عن وارث مسلم ، فان للإضافة الحاصلة من اجتماع موت المورث وإسلام الوارث في الزمان - وهي موت المورث في حال كون الوارث مسلما - دخلا في إرث الوارث ، وأصالة بقاء حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث لا تثبت هذه الإضافة ، بل غاية ما تثبته هو اجتماع الحياة والاسلام في الزمان ، وهو لا يكفي في التوارث.

هذا ، ولكن للمنع عن اعتبار الإضافة وحكاية الحال مجال ، فإنه يمكن أن يقال : إن الموضوع للتوارث نفس اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث في الزمان ، فيندرج المثال في الموضوعات المركبة المحرزة أحد جزئيها بالوجدان وهو إسلام الوارث في غرة رمضان ، والآخر بالأصل وهو حياة المورث إلى غرة رمضان فيجتمعان في الزمان ، وهذا يكفي في التوارث ، ويلزمه تنصيف المال بين الوارثين. ولو انعكس الفرض وكان الاختلاف في زمان إسلام الوارث مع الاتفاق على تاريخ موت المورث ، فيجري استصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث ، ويلزمه عدم التوارث.

وبالجملة : ابتناء الفرع المذكور على اعتبار الأصل المثبت مبني على أن تكون للإضافة الحاصلة من اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث في الزمان دخل في الحكم بالتوارث. ومن الممكن أن يكون نظر المحقق ومن تبعه في الحكم بتنصيف المال بين المتوارثين إلى عدم دخل الإضافة ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) في التنبيه الآتي مزيد توضيح لذلك.

ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق في كر وجد فيه نجاسة لا يعلم سبقها على الكرية وتأخرها ، فقالوا : إن استصحاب عدم الكرية قبل الملاقاة للنجاسة

ص: 501

معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرية ، وسيأتي الكلام في هذا الفرع ( إن شاء اللّه تعالى ).

ومنها : ما ذكره في التحرير : من أنه لو اختلف الولي والجاني في سراية الجناية - فقال الولي : إن المجني عليه مات بالسراية ، وقال الجاني : بل مات بسبب آخر من شرب السم ونحوه ، أو ادعى الجاني أن المجني عليه كان ميتا قبل الجناية ، وقال الولي : بل مات بالجناية - ففي الضمان وعدمه وجهان : من أصالة عدم الضمان ، ومن استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه. والظاهر : أن الحكم في المثال لا يمكن تصحيحه إلا على القول بالأصل المثبت ، فان استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه لا يثبت قتل الجاني أو سراية الجناية التي هي الموضوع للضمان. وليس الموضوع للضمان مركبا من الجناية وعدم السراية أو عدم وجود سبب آخر ، أو مركبا من الجناية وحياة المجني عليه ليندرج في الموضوعات المركبة التي يصح إحراز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالأصل ، بل الموضوع للضمان هو العنوان البسيط من القتل أو السراية أو نحو ذلك مما لا يمكن إحرازه بالأصل ، فما ذكره في التحرير لا ينطبق إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.

ومنها : ما ذكره جملة من الاعلام : من الحكم بضمان من كان يده على مال الغير مع الشك في إذن صاحبه ، والظاهر تسالم الفقهاء على ذلك. فقد يتخيل : أن ذلك مبني إما على القول باعتبار الأصل المثبت إن كان المستند في الحكم « أصالة عدم الإذن » فإنها لا تثبت اليد العادية ، وإما على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية إن كان الوجه فيه عموم « على اليد ما أخذت حتى تؤدي ».

هذا ، ولكن الظاهر أن الحكم بالضمان في المثال لا يبتني ، لا على القول بالأصل المثبت ولا على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فان

ص: 502

الموضوع للضمان مركب من اليد وعدم إذن صاحب المال ، وهما عرضان لمحلين : أحدهما صاحب اليد ، وثانيهما صاحب المال ، وقد تقدم : أنه لا جامع بين العرضين لمحلين إلا الاجتماع في الزمان ، فيكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان كما في المثال ، فان اليد محرزة بالوجدان وعدم الإذن محرز بالأصل ، فيتحقق موضوع الضمان.

ومنها : غير ذلك من الفروع التي يقف عليها المتتبع التي يتخيل ابتنائها على اعتبار الأصل المثبت ، وكثير منها قابلة للتوجيه ، وبعضها لا تستقيم إلا على القول بالأصل المثبت أو القول باعتبار الاستصحاب من باب إفادته الظن ليكون من الامارات ، فتأمل جيدا.

- التنبيه التاسع -
اشارة

لا إشكال في أن الأصل عند الشك في حدوث كل حادث عدمه إذا كان الشك في أصل الحدوث. وأما إذا كان الشك في تقدم الحدوث وتأخره مع العلم بأصل الحدوث : فتارة : يكون الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، كما إذا شك في موت زيد يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة. وأخرى : يكون الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، كما إذا شك في تقدم موت زيد على موت عمرو أو تأخره مع العلم بموتهما.

فان كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان : فلا إشكال في أن الاستصحاب يقتضي عدم الحدوث في الزمان المشكوك حدوثه فيه ، فإنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب مشكوك البقاء والارتفاع رأسا وبين أن يكون مشكوك البقاء والارتفاع في جزء من الزمان مع العلم بارتفاعه بعد ذلك ، فلو علم بموت زيد في يوم الجمعة وشك في

ص: 503

موته في يوم الخميس ، فاستصحاب بقاء الحياة إلى يوم الخميس يجري ويثبت به كل أثر شرعي رتب على حياة زيد في يوم الخميس.

نعم : استصحاب بقاء الحياة إلى يوم الخميس لا يثبت حدوث الموت في يوم الجمعة ولا حياته قبل يوم الجمعة ولا موته بعد يوم الخميس ، فان عنوان الحدوث والقبلية والبعدية - كعنوان السبق واللحوق والتقدم والتأخر والتقارن - من العناوين الانتزاعية واللوازم العقلية لوجود المستصحب في الزمان ، والاستصحاب لا يثبت شيئا من هذه العناوين - كما تقدم في التنبيه السابق - فلا يترتب على استصحاب بقاء حياة زيد في يوم الخميس إلا الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، وذلك واضح.

وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر : ففي جريان استصحاب عدم حدوث كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر مطلقا أو عدم جريانه مطلقا أو التفصيل بين ما إذا لم يعلم تاريخ حدوث أحدهما بالخصوص وبين ما إذا علم ذلك - ففي الأول يجري استصحاب عدم حدوث كل منهما بالإضافة إلى زمان الآخر ، وفي الثاني يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ ولا يجري في معلوم التاريخ - وجوه : أقواها التفصيل الأخير.

وقبل بيان وجه المختار ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أن اعتبار التوصيف وكون أحد الشيئين وصفا لآخر إنما يتصور بالنسبة إلى العرض ومحله ، لان العرض وإن كان له وجود نفسي - لأنه بنفسه من الماهيات الامكانية التي لها تقرر في وعاء الخارج - إلا أن وجودها النفسي قائم بالغير ، ومن هنا قيل : « إن وجود العرض لنفسه وبنفسه عين وجوده لغيره وبغيره » فيمكن أن يلاحظ العرض من حيث وجوده النفسي بمفاد كان التامة وليس التامة فيحمل عليه الوجود والعدم المطلق ، ويمكن أن يلاحظ من حيث وجوده الغيري وكونه قائما

ص: 504

بالغير بمفاد كان الناقصة وليس الناقصة فيحمل على الوجود والعدم النعتي ، وهو بهذا اللحاظ يكون عرضا لمحله ووصفا قائما به ، فيمكن أخذ العرض في موضوع التكليف من حيث كونه وصفا لمحله باعتبار وجوده الغيري ، ويمكن أخذه في موضوع التكليف من حيث هو باعتبار وجوده النفسي.

وأما فيما عدا العرض ومحله : فلا يمكن لحاظ التوصيف فيه ، فإنه لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفا للآخر مع أنه لا رابط بينهما إلا الوجود في الزمان ، سواء كان الشيئان جوهرين كوجود زيد ووجود عمرو ، أو كانا عرضين لمحل واحد كقيام زيد وعدالته أو لمحلين كقيام زيد وقيام عمرو ، أو كان أحدهما جوهرا والآخر عرضا لموضوع آخر كوجود زيد وقيام عمرو.

ففي جميع هذه الأقسام الثلاثة أو الأربعة لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفا للآخر ، فإنه لا رابط بين وجود زيد ووجود عمرو أو قيام زيد وعدالته أو قيام زيد وقيام عمرو أو وجود زيد وقيام عمرو إلا الاجتماع في الزمان ، وهذا لا يكفي في كون أحدهما وصفا للآخر ما لم يكن أحدهما عرضا قائما بالآخر ، فالتوصيف ينحصر بين العرض ومحله.

نعم : يمكن أن يتولد من اجتماع الشيئين في الزمان عنوان آخر ، كعنوان السبق واللحوق والتقارن ونحو ذلك من العناوين الانتزاعية المتولدة من وجود الشيئين في الزمان ، ويمكن أيضا أن تكون هذه العناوين الانتزاعية موضوعة للأحكام الشرعية ، إلا أن أخذ العنوان الانتزاعي موضوعا للحكم لا يصح إلا مع التصريح به أو استظهاره من الدليل ، وإلا فنفس أخذ الموضوع مركبا من شيئين لا رابط بينهما إلا الزمان لا يقتضي أزيد من إحراز اجتماعهما في الوجود.

وهذا بخلاف أخذ الموضوع مركبا من العرض ومحله ، فإنه لابد من إحراز عنوان التوصيف وكونه قائما بالمحل بمفاد كان وليس الناقصتين ، فإنه وإن كان يمكن أخذ العرض بوجوده النفسي جزء للموضوع من دون أن يكون لعنوان

ص: 505

التوصيف دخل في الحكم إلا أن ذلك يتوقف على التصريح به ، وإلا فالموضوع المركب من العرض ومحله يقتضي أن يكون لعنوان التوصيف وحيثية قيام العرض بالمحل دخل في الحكم (1).

ص: 506


1- أقول : لا إشكال في أن تقيد موصوف بوصف يقتضي توصيفه به الذي هو عبارة أخرى عن قيامه بموصوفه ، ولا إشكال أيضا في أن هذا القيام المأخوذ في موضوع الأثر في عالم ثبوته خارجا منوط بوجود موضوعه خارجا ، وأما في مقام سلبه عنه لا يحتاج إلى وجود موضوعه خارجا ، بل يكفي فيه سلبه عن الموصوف بالسلب المحصل ، لان ما هو نقيض اتصاف الذات بوصفه هو سلب هنا الاتصاف ، لا الاتصاف بالسلب ، ولذا نقول : إن نقيض الموجبة السالبة المحصلة ، لا المعدولة ، ولا نعني من السالبة المحصلة إلا القضية المشتملة على نسبة سلبية بين الموصوف ووصفه ، وهو غير نسبة أمر سلبي إلى الذات الذي هو مفاد المعدولة ، ففي الحقيقة مرجع النسبة الايجابية والسلبية إلى النسبة بين الشيئين بالوصل والفصل ، فمرجع ليس الناقصة إلى مثل هذه النسبة السلبية ، لا إلى نسبة أمر سلبي ، كيف! ونقيض كل شيء رفعه ، ورفع إثبات شيء لشيء هو سلب هذا الشيء عن الشيء ، وهذا السلب مرجعه في مفاد القضية إلى نسبة سلبية بين الموضوع ومحموله ، لا نسبة أمر سلبي إلى شيء ، ولذا قلنا : بأن نقيض اتصاف شيء بشيء ، هو عدم اتصافه ، لا اتصافه بعدم ذاك الشيء ، كي يقتضي هذا الاتصاف وجود موضوعه ، وتمام مركز البحث من هنا. بل و لئن سلّمنا بأنّ مفاد السالبة الناقصة هو اتّصاف الذات بأمر سلبيّ، نقول: إنّ اتّصاف شي ء بشي ء إذا كان مأخوذا في موضوع الأثر في القضيّة الإيجابيّة، فيكفي في إثبات نفي أثره استصحاب نقيض هذا الاتّصاف و لو بنحو مفاد كان التامّة بلا احتياج إلى مفاد كان الناقصة. نعم: لو احتيج في الاستصحاب كون مصبّه مأخوذا في لسان الدليل إيجابا و سلبا، فلك أن تقول: إنّ المأخوذ في الدليل في القضايا السالبة العدم المحمولي، و هو لا يكون إلّا منوطا بوجود موضوعه. و لكن أنّى لك بإثبات ذلك! علاوة على ما تقدّم: من منع كون مفاد السلب المحصّل- الّذي هو مفاد ليس الناقصة- و هو ربط أمر سلبيّ لموضوعه، بل مفاده مجرّد ربط سلبيّ صادق مع وجود الموضوع و عدمه، فتدبّر. و ببالي أنّه جعل من مقدّمات مدّعاه- فيما كتبه في اللباس المشكوك- إرجاع القضايا السالبة لبّا إلى المعدولة، بخيال أنّ طرف الربط الّذي هو مقوّم القضايا إمّا سلب أو إيجاب و لا يتصوّر شقّ ثالث، فلا جرم يكون مفاد السالبة حمل العدم النعتيّ على الموضوع الملازم لاتّصافه بالعدم النعتيّ، كاتصاف الذات في الموجبة بالوجود النعتيّ القائم بغيره. و لقد أوردنا عليه- في رسالتنا- أيضا بما لا مزيد عليه، و أشرنا هنا أيضا بأنّ طرف الربط في الإيجابيّة و السلبيّة شي ء واحد، و هو ذات الوصف، و إنّما الإيجاب و السلب من شئون النسبة: من كونها ربطا إيجابيّا تارة و ربطا سلبيّا أخرى، نظير الفصل و الوصل: من كونهما ربطين متقابلين. و حينئذ فلا يقتضي القضيّة السالبة المحصّلة- الّتي هي مفاد ليس الناقصة- إلّا سلب اتّصاف الذات بالوصف لا الاتّصاف بسلب الوصف، كما هو ظاهر، و ما يمتنع عن استصحاب الأعدام الأزليّة هو الثاني لا الأوّل، كما لا يخفى. و توهّم: أنّ النسبة و لو سلبيّة يقتضي وجود الموضوع خارجا، ممنوع أشدّ المنع، إذ في النسب الإيجابيّة بعد ما كانت حاكية عن وقوع الاتّصاف بالوصف الّذي هو لازم وجود الموصوف يقتضي وجوده عقلا، و هذا بخلافه في القضيّة السلبيّة و نسبتها، إذ لا يقتضي مثل هذه النسبة وجود شي ء خارجا. و السرّ فيه: هو أنّ وقوع هذا السلب خارجا ليس إلّا عين نقيض الإثبات خارجا، و من المعلوم: أنّ نقيض كلّ معلول كما أنّه بعدم نفسه كذلك أيضا بعدم علّته، كما هو الشأن في جميع المعروضات بالنسبة إلى عوارضها، غاية الأمر هذا العدم قائم بذات الشي ء، و في المقام أيضا هذه النسبة السلبيّة قائمة بذات الموضوع كقيامه بذات المحمول، و إن كان بينهما فرق من جهة أنّ النسبة السلبيّة دائما يلازم في الخارج عدم المحمول، بخلافه في طرف الموضوع، فانّه لا يلازم عدمه، بل يجتمع مع وجوده تارة و مع عدمه أخرى (و اللّه العالم).

ومما ذكرنا يظهر : ضابط الموضوعات المركبة التي يمكن إحراز أجزائها من ضم الوجدان بالأصل ، فان التركيب إن كان من غير العرض ومحله أمكن إحراز أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل إن لم يكن للعنوان المتولد من اجتماع الجزئين في الزمان دخل في الحكم ، وإلا فضم الوجدان بالأصل لا يمكن أن يثبت العنوان المتولد إلا على القول بالأصل المثبت.

وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله : فلا يمكن أن يلتئم الموضوع من ضم الوجدان بالأصل الذي يكون مؤداه نفس وجود العرض أو عدمه بمفاد كان وليس التامتين ، فإنه لا يثبت به عنوان التوصيف إلا إذا كان نفس التوصيف وقيام العرض بالمحل بمفاد كان وليس الناقصتين مؤدى الأصل ، وعلى ذلك يبتني عدم جريان أصالة عدم قرشية المرأة عند الشك فيها ، لان توصيف المرأة بالقرشية ليس مؤدى الأصل ، فان المرأة حال وجودها إما أن تكون قرشية وإما أن لا تكون ، وجريان أصالة عدم القرشية بمفاد ليس التامة لا يوجب

ص: 507

اتصاف المرأة بكونها غير قرشية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في الجزء الثاني من الكتاب في مبحث العام والخاص.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنه إذا شك في تأخر أحد الحادثين عن الآخر أو تقدمه.

فان كان أحدهما معلوم التاريخ - كما إذا علم بموت المورث في غرة رمضان وشك في تقدم إسلام الوارث على موت المورث ليرث منه أو تأخره عنه ليمنع عن الإرث - فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري ، لان حقيقة الاستصحاب ليس إلا جر المستصحب في الزمان الذي يشك في بقائه فيه ، ففي كل زمان شك في بقاء الموجود أو حدوث الحادث فالاستصحاب يقتضي بقاء الأول وعدم حدوث الثاني ، وأما لو فرض العلم بزمان الحدوث : فلا معنى لأصالة عدمه ، لعدم الشك في زمان الحدوث ، مع أن الاستصحاب هو جر المستصحب إلى زمان الشك ، فلابد وأن يكون في البين زمان يشك في بقاء المستصحب فيه ، ففي معلوم التاريخ لا محل للاستصحاب.

وما قيل : من أن العلم بالتاريخ إنما يمنع عن حصول الشك في بقاء المستصحب بالإضافة إلى أجزاء الزمان ولا يمنع عن حصول الشك في البقاء بالإضافة إلى زمان وجود الحادث الآخر الذي هو محل الكلام ، فان محل الكلام إنما هو فيما إذا كان الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر ، فيحصل الشك في وجود كل من الحادثين بالإضافة إلى زمان وجود الآخر ، وبهذا الاعتبار يجري استصحاب عدم حدوث كل منهما في زمان حدوث الآخر

فهو واضح الفساد ، فإنه إن أريد من لحاظ معلوم التاريخ بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر لحاظه مقيدا بزمان حدوث الاخر ، فهو وإن كان مشكوكا للشك في وجوده في زمان وجود الآخر ، إلا أنه لا تجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان ، لان عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد

ص: 508

كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقنا سابقا ، فلا يجري فيه الأصل (1) وإن أريد من لحاظه بالإضافة إلى زمان الآخر لحاظه على وجه يكون زمان الآخر ظرفا لوجوده ، فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان (2) وقد عرفت : أنه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان ، فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري على كل حال.

وأما في مجهول التاريخ : فلا مانع من جريان الأصل فيه ، للشك في زمان حدوثه ، والأصل عدم حدوثه في الأزمنة التي يشك في حدوثه فيها ، ومنها زمان حدوث معلوم التاريخ ، ففي المثال المتقدم يستصحب عدم إسلام الوارث إلى غرة رمضان الذي هو زمان موت المورث ، ويثبت به بضم الوجدان اجتماع عدم إسلام الوارث وموت المورث في الزمان ، ولا يثبت به عنوان آخر متولد من اجتماعهما في الزمان - حتى عنوان التقارن أو عنوان الحال ونحو ذلك - فلا يصح أن يقال : إنه مات المورث في حال عدم إسلام الوارث. ولو انعكس الامر وكان إسلام الوارث معلوم التاريخ وموت المورث مجهول التاريخ يجري استصحاب حياته إلى زمان إسلام الوارث ، ويثبت به اجتماع الاسلام والحياة في الزمان. فان قلنا : إن هذا المقدار يكفي في التوارث يرث الوارث المسلم من مورثه. وإن قلنا : إنه لا يكفي هذا المقدار في التوارث بل لابد من موت المورث في حال إسلام الوارث ، فاستصحاب حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث لا يثبت موته

ص: 509


1- لا يخفى : أنه إن لوحظ زمان وجود أحدهما قيدا للآخر ، فالأصل بمفاد ليس الناقصة لا يجري ، وأما الأصل بمفاد ليس التامة فيجري ويسقط بالمعارضة ، فان وجود كل منهما في زمان وجود الآخر كان مسبوقا بالعدم ، فإنه عند عدم كل منهما لم يكن لكل منهما وجود في زمان وجود الآخر ولو لأجل السالبة بانتفاء الموضوع ، ولعله هذا مراد صاحب الكفاية من قوله : « إن الأثر لو كان لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم الخ » فراجع وتأمل ( منه ).
2- أقول : مجرد ذلك لا يجدي لو كان المدار على أجزاء الزمان ولو إجمالا ، فإنه يصح أن يقال : بأن المعلوم التاريخ بقاء عدمه إلى زمان وجود الآخر مشكوك ، فباستصحابه يصدق الاجتماع بين الأمرين.

في حال الاسلام ، وذلك واضح.

هذا كله إذا كان أحدهما المعين معلوم التاريخ.

وإن كان كل منهما مجهول التاريخ وشك في التقدم والتأخر ، فالأقوى : جريان الاستصحاب في كل منهما ويسقطان بالمعارضة ، فيقال في المثال : الأصل عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث والأصل عدم موت المورث إلى زمان إسلام الوارث ، ولا يثبت بذلك تقارن الاسلام والموت ، كما تقدم.

وقد ذهب بعض الأعاظم إلى عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيه ، ويعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

ولا يخفى ما فيه ، فان الشك في كل من الحادثين متصل بيقينه ، لان اتصال الشك باليقين معناه : أن لا يتخلل بين اليقين والشك يقين آخر يضاد اليقين السابق (1) ولا إشكال في أنه لم يتخلل بين اليقين بعدم حدوث كل من الحادثين والشك في الحدوث يقين آخر بالحدوث ، ليوجب عدم اتصال زمان الشك في كل منهما بيقينه ، وذلك وإن كان بمكان من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بسط من الكلام فيه لتتميز الموارد التي لا يتصل فيها الشك باليقين.

فنقول : قد عرفت أن اتصال الشك باليقين إنما يكون بعدم تخلل يقين آخر يضاد اليقين السابق بين النسك واليقين ، كما إذا علم بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فإنه لا يتصل اليقين بعدم وجوب الجلوس قبل الصبح بالشك في وجوبه بعد الزوال لتخلل اليقين بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال بينهما ، فهذه القطعة من الزمان - وهي ما بين الصبح والزوال - قد أوجبت انفصال اليقين بعدم الوجوب عن الشك في

ص: 510


1- أقول : لقد أجاد فيما أفاد ، ونحن أيضا أوردنا عليه ، ولكن سيأتي أن هذا المقدار لا يجدي في جريانهما وتعارضهما ، فانتظر لتمام الكلام فيه ( إن شاء اللّه تعالى ).

الوجوب ، ولذا قلنا : إنه لا يجري استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال ، خلافا للفاضل النراقي رحمه اللّه سواء كان الزوال قيدا لوجوب الجلوس أو ظرفا ، خلافا للشيخ قدس سره على ما تقدم تفصيله.

وبالجملة : لا معنى لاتصال اليقين بالشك إلا بأن لا يتخلل بينهما يقين آخر بالخلاف. وليس اتصال الشك باليقين من الأمور الواقعية التي يدخلها الشك ، بل هو من الأمور الوجدانية التي يعرفها كل أحد ، فإن الأمور الوجدانية تتبع الوجدان ، فكل شخص يعرف أن شكه متصل بيقينه أو منفصل عنه.

نعم : انفصال الشك عن اليقين أو اتصاله به قد يكون واضحا - كالمثال المتقدم - وقد يكون خفيا ، ولا بأس بتوضيح ذلك بمثال ، وهو أنه لو كان إناء في الطرف الشرقي من الدار وإنا آخر في الطرف الغربي وعلم تفصيلا بنجاسة كل منهما ثم أصاب أحدهما المطر ، فتارة : يعلم تفصيلا بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي ، وأخرى : لا يعلم بذلك ، بل يعلم إجمالا بإصابة المطر لاحد الانائين ، وعلى الأول - فتارة : يكون الاناء الواقع في الطرف الشرقي متميزا عن الاناء الواقع في الطرف الغربي ومعلوما بالتفصيل حال إصابة المطر له ، بأن كان بمنظر من الشخص ثم طرء عليه الترديد والاجمال واشتبه بالاناء الغربي (1) وأخرى : لا يكون الاناء الشرقي متميزا عن الاناء الغربي حال إصابة

ص: 511


1- أقول: لا يحتاج في بيان التفصيل بين الموارد من حيث فصل اليقين و عدمه بخياله بضرب الشرق بالغرب و عكسه، بل نقول: بأنّ المعلوم بالإجمال تارة: العنوان الإجمالي المردّد بينهما، ك «أحدهما» و أخرى: العنوان التفصيليّ المردّد انطباقه على أحدهما، ك «إناء زيد» مثلا، و ذلك أيضا تارة: بفرض طروّ الترديد بعد ما علم انطباقه تفصيلا، و أخرى: بفرض الترديد من الأوّل مقارنا للعلم، و بعد ذلك نقول: فاسمع أوّلا بأنّ ما هو متعلّق الانكشاف بالمقدار الّذي تعلّق به الانكشاف التامّ يستحيل وقوع الترديد فيه، فالعلم بأيّ عنوان من العناوين يضادّ الشكّ فيه، و لذا قلنا كرارا: بأنّه لا بدّ من التمييز بين معروض العلم و معروض الشكّ و الترديد في جميع المقامات، من دون فرق في ذلك بين العناوين العرضيّة الإجماليّة أو الذاتيّة التفصيليّة، و من هذه الجهة حقّقنا بأنّ متعلّق العلم الإجمالي في جميع المقامات لا بدّ وأن يكون صورة ومعروض الشك صورة أخرى - وإن كانا متحدين وجودا - من دون سرايتهما إلى الخارج كي يستلزم عروض المتضادين على شيء ووجود واحد ، ومن ذلك نقول : إن مثل العلم وغيره من الصفات الوجدانية ظرف عروضها الذهن وظرف اتصافها خارجي ، قبال ما كان كلا الظرفين خارجية أو ذهنية. و بعد ما كان كذلك، فنقول: إنّه إذا علم بأحد الإناءين فلا جرم يصير المعلوم مثل هذا العنوان المخزون في الذهن- و إن لم يلتفت إلى ذهنيّته- و أنّ الترديد و الشكّ متعلّق بصورة أخرى محتمل انطباق العنوان المعلوم عليه خارجا، بمعنى اتّحادهما فيه وجودا الّذي هو أجنبيّ عن مرحلة عروض العلم أو الشكّ عليه، و حينئذ صحّ لنا دعوى أنّ ما هو معروض اليقين يستحيل أن يكون معروض الشكّ، و كذا بالعكس. فلا مجال في مثله دعوى احتمال انطباق العنوان بوصف المعروضيّة للعلم على العنوان الآخر، إذ جهة المعروضيّة إنّما هو من لوازم ذهنيّته المحال انطباقه بهذه الحيثيّة مع عنوان آخر خارجا، إذ هو فرع قابليّة مجيئه في الخارج، و ليس كذلك، و إلّا ينقلب الذهن خارجا. نعم: لا بأس في عالم الاتّصاف من دعوى احتمال انطباق ما هو المتّصف بالمعلوميّة بما هو بإزاء معروضه من العنوان على المشكوك، لأنّ مرحلة الاتّصاف من تبعات خارج العنوانين، و في هذا العالم يصلح انطباق أحدهما على الآخر، فيحتمل ذلك في كلّ واحد من الطرفين. و حيث اتّضح حال العناوين الإجماليّة العرضيّة فلننقل الكلام إلى العناوين الذاتيّة التفصيليّة، كإناء زيد أو الإناء الشرقي بقوله، فانّ العلم فيه أيضا في عالم العروض إذا تعلّق بمثله يستحيل عروض الشكّ إلّا بصورة أخرى المنتزعة عن وجوده، و إحدى الصورتين في عالم العروض يستحيل أن يتّحد مع الآخر في هذا العالم، لأنّهما متباينان ذهنا، و إنّما احتمل انطباق أحدهما على الآخر في عالم الاتّصاف الّذي يكون ظرفه خارجا، و هو ظرف اتّحادهما أيضا، كما أشرنا. فإذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: إنّ الغرض من احتمال الفصل باليقين في هذه الفروض إن كان احتماله في عالم الاتّصاف و الانطباق خارجا، فهذه الجهة لا يختصّ بخصوص الأمثلة المزبورة، بل يجري في كلّ علم إجماليّ بالنسبة إلى طرفه و لو كان المعلوم العنوان العرضي، كعنوان «أحدهما». و إن كان الغرض من الفصل احتمال عروض صفة اليقين على ما عرض عليه الشكّ، فذلك غير معقول بالنسبة إلى اليقين و الشكّ الفعليّين. نعم: لا بأس بالنسبة إلى اليقين الزائل بالشكّ الساري اللاحق على معروض اليقين، و في ذلك أيضا- مضافا إلى عدم الفرق بينه و بين العلم بالعنوان الإجمالي كأحدهما- أنّ العلم الزائل لا اعتبار به أصلا، لأنّ مدار الناقضيّة و المنقوضيّة في باب الاستصحاب على اليقين الفعلي كما هو ظاهر ، وحينئذ مثل هذا التفصيل بين الأمثلة لا يجدي إلا في إلقاء ذهن المبتدي المظلوم إلى الشرق والغرب! وإلا فلا محيص منه بأن يقول : إما بالغاء الاستصحاب عن أطراف العلم الاجمالي بقول مطلق مع قطع النظر عن المعارضة لو كان نظره إلى احتمال الفصل في عالم الاتصاف ، أو بجريانه مطلقا لو كان نظره إلى احتمال الفصل في عالم العروض ، فتدبر فيما قال وقلت.

ص: 512

المطر له ولم يكن بمنظر من الشخص ، بل مجرد أنه علم بإصابة المطر لما كان في الطرف الشرقي ، فهذه فروض ثلاثة :

الأول : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر مجملا مرددا بين ما كان في الطرف الشرقي وما كان في الطرف الغربي.

الثاني : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر معلوما بالتفصيل ثم طرء عليه الاجمال والترديد ، لوقوع الاشتباه بين الاناء الشرقي والاناء الغربي.

الثالث : ما إذا كان متعلق العلم مجملا من جهة ومبينا من جهة أخرى ، وهو ما إذا علم بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي مع عدم تميزه عما كان في الطرف الغربي ، فالفرض الثالث متوسط بين الفرض الأول والفرض الثاني. ولا إشكال في أنه في جميع الفروض الثلاثة يشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين اللذين كانا معلومي النجاسة قبل إصابة المطر لأحدهما.

أما في الفرض الأول والثالث : فواضح. وأما في الفرض الثاني : فلانه وإن كان ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل في أول الامر فلا شك في طهارته ، كما لا شك في نجاسة الآخر ، إلا أنه لما اشتبه الطاهر بالنجس فبالأخرة يشك في بقاء النجاسة في كل منهما. فالفروض الثلاثة تشترك في الشك في بقاء النجاسة المتيقنة في كل من الانائين ، ولكن في الفرض الأول يتصل الشك في بقاء النجاسة في كل منهما باليقين بالنجاسة ، ولم يتخلل بين الشك واليقين في كل من الانائين يقين آخر بالخلاف ، والعلم الاجمالي بإصابة المطر لأحدهما يكون

ص: 513

منشأ للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فاتصال الشك واليقين في الفرض الأول واضح ، فإنه لم ينقض على كل من الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة وزمان الشك في بقائها ، لأنه قبل العلم الاجمالي بطهارة أحدهما كان زمان اليقين بنجاسة كل منهما ، وبعد العلم الاجمالي بطهارة أحدهما صار زمان الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فلم يتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان آخر يعلم فيه بالخلاف ، فلا ينبغي الاشكال في اتصال زمان اليقين بزمان الشك في الفرض الأول.

كما لا ينبغي الاشكال في انفصال زمان الشك عن زمان اليقين في الفرض الثاني ، لان العلم بطهارة أحدهما المعين الممتاز عما عداه تفصيلا يوجب ارتفاع اليقين السابق ، فقد انقضى على ذلك الاناء المعين زمان لم يكن زمان العلم بالنجاسة ولا زمان الشك في بقائها ، وهو زمان العلم بالطهارة. والاجمال الطاري وإن كان أوجب الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، لان كلا منهما يحتمل أن يكون هو الذي أصابه المطر والذي تعلق العلم بطهارته تفصيلا ، إلا أنه لا يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين بنجاستهما ، لأن المفروض أنه قد انقضى على أحد الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، فكيف يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين؟ فلا مجا لاستصحاب بقاء النجاسة في كل منهما ، لأنه في كل إناء منهما يحتمل أن يكون هو الاناء الذي تعلق العلم بطهارته ، ففي كل منهما يحتمل انفصال الشك عن اليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، وذلك واضح.

وأما الفرض الثالث : فالأقوى فيه أيضا عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، كالفرض الثاني - وإن لم يكن بذلك الوضوح - فإنه قد انقضى على الاناء الشرقي زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، وهو زمان العلم بإصابة المطر له ، لأن الشك في بقاء النجاسة فيه إنما حصل بعد

ص: 514

اجتماع الانائين واشتباه الشرقي بالغربي ، فقبل الاجتماع والاشتباه كان الاناء الشرقي مقطوع الطهارة والاناء الغربي مقطوع النجاسة ، فلا يجري استصحاب النجاسة فيهما ، لان كل واحد من الانائين يحتمل أن يكون هو الاناء الشرقي الذي كان مقطوع الطهارة حال إصابة المطر له.

والحاصل : أنه فرق واضح بين العلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين وبين العلم التفصيلي بطهارة خصوص الاناء الشرقي ، فان العلم بالطهارة في الأول إنما يصير سببا للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، والعلم بالطهارة في الثاني ليس سببا للشك في بقاء النجاسة فيهما ، بل الشك إنما نشأ من اجتماع الانائين واشتباه الطاهر بالنجس ، فالشك في الفرض الأول إنما يكون مقارنا زمانا للعلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين ومتأخرا عنه رتبة لكونه معلولا له ، فيكون الشك فيه متصلا باليقين بالنجاسة. وأما الشك في الفرض الثلث : فهو متأخر عن العلم بالطهارة زمانا ، لأنه بعد العلم بطهارة الاناء الشرقي واجتماع الانائين ووقوع الاشتباه بينهما يحصل الشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين ، فلا يمكن أن يتصل فيه زمان اليقين بنجاسة الانائين بزمان الشك في بقاء النجاسة.

فالتحقيق : أنه لا فرق بين الفرض الثاني والفرض الثالث في عدم اتصال زمان الشك باليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، خلافا لبعض الاعلام (1).

ص: 515


1- هو المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي رحمه اللّه قال في العروة : « إذا علم بنجاسة شيئين فقامت البينة على تطهير أحدهما الغير المعين أو المعين واشتبه عنده أو طهر هو أحدهما ثم اشتبه ، حكم عليهما بالنجاسة عملا بالاستصحاب » انتهى. و ظاهره جريان الاستصحاب في جميع الفروض الثلاثة. و لشيخنا الأستاذ (مدّ ظلّه) حاشية يمنع فيها عن جريان الاستصحاب و الحكم بالنجاسة في جميع الفروض الثلاثة، و لكن لا بمناط واحد، بل في الفرض الأوّل لا يجري الاستصحاب لكونه من الأصول المحرزة و هي لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العمليّة أو لم يلزم، و في الفرضين الأخيرين الاستصحاب لا يجري لعدم اتّصال الشكّ باليقين، فتأمّل جيّدا (منه).

ويتفرع على ذلك عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه من المسفوح أو من المتخلف ، أو الدم المردد بين كونه من البق أو من البدن - بناء على نجاسة الدم مطلقا ولو قبل خروجه من الباطن بالذبح أو بمص البق - لعدم اتصال زمان الشك باليقين فيه ، لأنه حين ذبح الحيوان قد علم بطهارة خصوص الدم المتخلف ونجاسة الدم المسفوح بعدما كان جميعه نجسا ما دام في الباطن ، ولكن حين الخروج من الباطن بالذبح قد علم بطهارة بعضه وهو المتخلف ، فيكون نظير ما إذا علم بطهارة الاناء الشرقي في المثال المتقدم ، لان تخلف الدم في الحيوان يكون مطهرا له كإصابة المطر للاناء ، والشك في كون الدم من المتخلف أو من المسفوح إنما يحصل بعد اشتباه المتخلف بالمسفوح بأحد موجبات الاشتباه ، كما أن الشك في بقاء النجاسة في كل من الاناء الشرقي والغربي إنما يحصل بعد اشتباه الانائين ، فالشك في نجاسة الدم المردد لا يتصل باليقين بنجاسة الدم عند كونه في الباطن ، لان زمان الشك متأخر عن زمان العلم بالنجاسة ، فإنه لا يمكن حصول الشك في نجاسته في حال الذبح ، بل الشك إنما يحصل بعد زمان الذبح لأجل الاشتباه وعدم تمييز المسفوح عن المتخلف ، فيتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان العلم بطهارة الدم المتخلف ، وحيث يحتمل أن يكون الدم المردد من الدم المتخلف الذي قد علم بطهارته فلا يجري فيه استصحاب النجاسة.

والحاصل : أن اشتباه الدم المتخلف بالدم المسفوح يتصور على وجهين :

أحدهما : ما إذا كان الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح في أول الامر ثم حصل الاشتباه وتردد الدم الخاص بين كونه من المسفوح أو من المتخلف.

ثانيهما : ما إذا لم يكن الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح عند الشخص ، بل كان في بدنه أو لباسه دم تردد بين أن يكون من المسفوح أو من المتخلف.

وفي كلا الوجهين لا يجري استصحاب النجاسة فيه ، لان الوجه الأول يكون

ص: 516

من قبيل الفرض الثاني من الفروض الثلاثة في مثال الاناء المتقدم ، والوجه الثاني يكون من قبيل الفرض الثالث منهما ، وقد تقدم أنه لا يجري الاستصحاب فيهما.

ولا يتوهم : أن الدم المردد يكون من قبيل الفرض الأول من تلك الفروض ، فان متعلق العلم بالطهارة في الفرض الأول إنما كان مرددا بين الانائين من أول الامر ، وأما الترديد في الدم فهو إنما حدث بعد الاشتباه والخلط بين الدم المسفوح والدم المتخلف ، وإلا ففي حال الذبح قبل الاشتباه كان يعلم تفصيلا بطهارة خصوص الدم المتخلف ، فالترديد في الدم لا يمكن أن يكون من قبيل الفرض الأول ، بل هو إما من الفرض الثاني ، وإما من الفرض الثالث. وكذا الكلام في الدم المردد بين كونه من البدن أو من البق ، فإنه لا يجري فيه استصحاب النجاسة أيضا ، بل الأقوى فيه الطهارة ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت الضابط لاتصال زمان الشك بزمان اليقين وانفصاله عنه ، ظهر فساد ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين بعد العلم بالحدوث والشك في المتقدم والمتأخر منهما.

وحاصل ما أفاده وجها لذلك - بتحرير منا - هو أن العلم بحدوث الحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما يقتضي فرض أزمنه ثلاثة : زمان عدم كل منهما ، وزمان حدوث أحدهما ، وزمان حدوث الآخر ، فإنه لولا فرض هذه الأزمنة الثلاثة لا يمكن حصول الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فلابد من فرض أيام ثلاثة أو ساعات ثلاث ، ليكون اليوم الأول موطن العلم بعدم حدوث كل من الحادثين ، واليوم الثاني موطن العلم بحدوث أحدهما ، واليوم الثالث موطن العلم بحدوث الآخر منهما.

وقد عرفت : أن الشك في حدوث كل من الحادثين تارة : يلاحظ بالإضافة

ص: 517

إلى نفس أجزاء الزمان ، وأخرى : يلاحظ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر. فان لوحظ بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان ، فالشك في كل منهما يتصل بيقينه ، لأن الشك في كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يحصل من اليوم الثاني لا من اليوم الثالث ، فإنه في اليوم الثاني الذي هو موطن حدوث أحدهما يشك في انتقاض العدم في كل منهما بالوجود ، للعلم الاجمالي بحدوث أحدهما والشك فيما هو الحادث ، ففي اليوم الثاني يشك في حدوث البيع أو رجوع المرتهن عن الاذن ويبقى هذا الشك مستمرا إلى اليوم الثالث الذي هو موطن وجود الآخر ، فالشك في حدوث كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يكون متصلا باليقين ، فان موطن اليقين هو اليوم الأول وموطن الشك هو اليوم الثاني ، والاستصحاب إنما يجري من اليوم الثاني ، وذلك واضح.

وأما الشك في كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر : فهو لا يحصل إلا في اليوم الثالث ، فإنه ما لم يعلم بحدوث كل من الحادثين لا يكاد يحصل الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وموطن العلم بحدوث كل منهما إنما يكون في اليوم الثالث ، والاستصحاب إنما يتبع زمان الشك ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان الآخر إنما يجري في اليوم الثالث أيضا ، والشك في كل منهما بهذه الإضافة لا يمكن إحراز اتصاله باليقين ، لان اليقين بعدم بيع الراهن إنما كان في اليوم الأول والشك في تقدمه على رجوع المرتهن عن الاذن إنما يكون في اليوم الثالث ، فاليوم الثاني يكون فاصلا بين زمان اليقين وزمان الشك ، ولا يمكن استصحاب عدم البيع في زمان رجوع المرتهن من اليوم الثاني ، لان اليوم الثاني لم يكن موطنا للشك في حدوث البيع بهذه الإضافة ، بل كان موطنا لحدوثه بالإضافة إلى نفس الزمان ، فاستصحاب عدم البيع إلى زمان رجوع المرتهن على تقدير جريانه إنما يجري من اليوم الثالث ، ولا مجال لجريانه ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك في حدوث البيع بالإضافة إلى زمان حدوث الرجوع بزمان

ص: 518

اليقين ، لاحتمال أن يكون الحادث الأول في اليوم الثاني هو البيع ، ومع احتمال ذلك لا يمكن إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين.

ولا يخفى ما فيه ، فإن إضافة وجود أحد الحادثين إلى زمان وجود الآخر إن كانت باعتبار أخذ زمان وجود الآخر قيدا لوجوده ، فالشك في الوجود بهذا القيد وإن كان يحدث في اليوم الثالث ، إلا أنه لا يجري فيه الاستصحاب ، لا لعدم اتصال زمان الشك باليقين ، بل لعدم اليقين بعدم الوجود المقيد في الزمان السابق ، كما تقدم (1) وإن كانت الإضافة باعتبار أخذ زمان وجود الآخر ظرفا

ص: 519


1- أقول : في فرضنا لا إشكال وجدانا أن الزمان الأول - كما اعترف - هو زمان اليقين بعدمهما ، ولا إشكال أيضا في أن الزمان الثالث زمان اليقين بوجودهما الذي هو زمان انتقاض كل من اليقينين باليقين بوجوده. نعم : هو زمان الشك بحدوث كل واحد ، وإلا ففي هذا الزمان نعلم بوجودهما المردد بين كون حدوثه فيه أو في الزمان السابق ، وحينئذ فجر كل واحد من المتيقنين من حيث أجزاء الزمان إلى الزمان الثالث غير ممكن ، لأنه زمان اليقين بانتقاض كل واحد ، ومحض كونه زمان الشك بحدوث غيره فيه لا يجدي في إمكان جر المتيقن السابق إلى هذا الزمان الذي نقطع بانتقاض يقينه باليقين ، فبالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية المنطبقة على الأزمنة الثلاثة لا مجال لاستصحاب كل واحد منهما إلا بالنسبة إلى الزمان الثاني لا الثالث! كيف! وجره إلى الزمان الاجمالي المردد بين الثالث والثاني لا يعقل الجزم بالتطبيق إلا بجر كل منهما في تمام أطراف العلم من الأزمنة التي منها الزمان الثالث المعلوم انتقاض يقين كل واحد بيقين آخر ، وإلا فلو اغمض النظر عن الجر في تمام الأطراف فكيف يعقل الجزم بتطبيق بقاء وجود كل في زمان وجود الآخر؟. و بالجملة نقول: إنّ ما هو زمان الشكّ بوجود كلّ واحد هو الزمان الثاني، و إلّا فالزمان الثالث هو زمان اليقين بهما و إن كان حدوث كلّ فيه مشكوكا و لكن أصل الوجود فيه معلوم إجمالا، و مع هذا العلم يستحيل جرّ المتيقّن فيه، لأنّه يعلم انتقاض يقينه باليقين بالوجود، و مجرّد الشكّ في الحدوث مع العلم بأصل الوجود كيف يجدي في الاستصحاب؟ فما يجدي في الاستصحاب هو الشكّ في الزمان الثاني، و لكنّه لا يجدي في التطبيق، و ما يجدي في التطبيق هو الجرّ إلى الزمان الثالث، و هو لا يجدي في الاستصحاب ، لأنه زمان اليقين بالانتقاض. فان قلت: إنّ ما أفيد صحيح بالنسبة إلى الجرّ في الأزمنة التفصيليّة، و لنا أن نقول: إنّه بالوجدان يشكّ في بقاء كلّ منهما إلى زمان وجود الآخر بنحو الإجمال، فنجرّ المتيقّن إلى هذا الزمان إجمالا. قلت: إنّ المراد من الشكّ في البقاء إلى الزمان الإجمالي تارة: الشكّ في البقاء إلى الزمان الشكّ في انطباق المجمل عليه، و أخرى: يكون المراد الشكّ في بقائه إلى زمان يقطع بانطباق الزمان الإجمالي عليه و لو إجمالا، و الأوّل غير مثمر في تطبيق الكبرى على المورد، و الثاني يثمر في التطبيق، و لكنّه فرع إمكان الجرّ إلى جميع أطرافه، و لقد عرفت: أنّه لا يمكن الجرّ إلى الزمان الثالث الّذي هو من الأطراف، كما لا يخفى.

لوجوده ، فالشك في وجود كل منهما بهذا الاعتبار إنما يكون متصلا باليقين ، فان معنى أخذ زمان أحدهما ظرفا لوجود الآخر هو لحاظ زمان وجود أحدهما من جملة الأزمنة التي يمكن فرض وجود الآخر فيها ، ومن المعلوم : أن الأزمنة التي يمكن فرض وجود كل من الحادثين فيها هي اليوم الثاني واليوم الثالث ، فزمان الشك هو كل من اليومين ، غايته أنه في اليوم الثاني لم يكن زمان وجود الآخر طرفا للإضافة وفي اليوم الثالث يكون طرفا لها ، وهذا لا يوجب تفاوتا في ناحية الشك ، ولا يقتضي انفصاله عن اليوم الأول الذي هو زمان اليقين بعدم حدوث الحادثين ، فالشك في كل من الحادثين يتصل بيقينه ويجري استصحاب عدم كل منهما من زمان الشك في وجوده إلى زمان وجود الآخر - أي من اليوم الثاني إلى اليوم الثالث - فان كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم كل منهما في زمان وجود الآخر ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان وجود الآخر يجري ويسقط بالمعارضة ، وإن كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر فقط ، فاستصحاب العدم يجري ويترتب عليه الأثر بلا مزاحم.

وحاصل الكلام : أن المنع عن جريان استصحاب عدم كل من الحادثين في زمان الآخر إن كان مع أخذ زمان الآخر قيدا للمستصحب ، فالمنع عن جريان الاستصحاب في محله ، ولكن لا لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بل

ص: 520

لعدم المتيقن. وإن كان مع أخذ زمان الآخر ظرفا للمستصحب ، فلا وجه للمنع عنه ، فإنه من بعد اليوم الأول الذي هو ظرف اليقين بعدم كل من البيع ورجوع المرتهن عن الاذن يكون كل من البيع والرجوع مشكوك الحدوث في كل آن من آنات اليوم الثاني واليوم الثالث ومنها آن حدوث البيع أو آن حدوث الرجوع ، فان آن حدوث كل منهما إنما يكون من آنات اليومين ، فيجري استصحاب عدم حدوث البيع في آن حدوث الرجوع واستصحاب عدم حدوث الرجوع في آن حدوث البيع ، فالشك في كل منهما متصف بيقينه ، لأنه لم يتخلل بين اليقين بعدم البيع في اليوم الأول والشك في حدوثه في زمان الرجوع يقين آخر يضاد اليقين السابق ، وقد عرفت : أنه ما لم يتخلل اليقين بالخلاف لا يمكن أن ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، وكذا الكلام في سائر موارد الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر وتأخره عنه.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الشك في تقدم وجود الحادث وتأخره إن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان فاستصحاب العدم يجري في كل زمان شك في وجوده فيه ، وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث آخر ، فان كان أحدهما معلوم التاريخ فاستصحاب العدم إنما يجري في مجهول التاريخ فقط دون معلوم التاريخ - إلا على بعض الفروض الآتية - وإن كان كل منهما مجعول التاريخ فالاستصحاب في كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة إذا كان لعدم كل منهما في زمان الآخر أثر شرعي ، وإلا فالاستصحاب يجري في خصوص ماله الأثر بلا معارض ، من غير فرض بين الحادثين اللذين يمكن اجتماعهما في الوجود - كإسلام الوارث وموت المورث وكبيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن - وبين الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الوجود كالحدث والوضوء والنجاسة والطهارة - فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

ص: 521

تكملة :

عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ليس على إطلاقه ، بل قد يجري الأصل في معلوم التاريخ أيضا ويسقط بالمعارضة مع الأصل الجاري في مجهول التاريخ ، وقد لا يجري الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله ، فالفروض ثلاثة :

الأول : عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ، كالأمثلة المتقدمة : من إسلام الوارث وموت المورث ، أو بيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن في البيع ، ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من جزئين عدميين أو وجوديين أو مختلفين مع العلم بتاريخ وجود أحد الجزئين - كالمثالين المتقدمين - فان موضوع الإرث مركب من إسلام الوارث وموت المورث ، وموضوع نفوذ بيع الراهن مركب من البيع وعدم رجوع المرتهن عن الاذن ، ففي مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ لا يجري وفي مجهوله يجري ويترتب عليه الأثر الشرعي حسب اختلاف المقامات.

الفرض الثاني : جريان الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله (1) وذلك

ص: 522


1- أقول : الاستصحاب في مجهول التاريخ تارة عدمي ، ولقد تقدم شرحه في المثال السابق ، وأخرى وجودي ، كما في استصحاب الطهارة والحدث ، وفي هذا المقام لا نحتاج إلى جر المستصحب إلى زمان وجود الآخر أو عدمه كي يحكم العقل بتطبيق المقيد ، بل المقصود استصحاب وجود كل منهما في حد نفسه. و حينئذ نقول: إنّه لو فرض أنّه ما مضى إلّا زمانين نعلم إجمالا بوجود الحالتين فيهما و شكّ في تقدّم أحدهما على الآخر، ففي هذه الصورة لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في كلّ منهما، لأنّ في الزمان الأوّل لم يكن يقين بوجود كلّ منهما، و في الزمان الثاني أمر كلّ واحد منهما مردّد بين الشكّ في الحدوث أو الارتفاع، فلم يحرز موضوع الاستصحاب: من الشكّ في وجود ما ينطبق عليه البقاء، فلا محيص حينئذ من فرض زمان ثالث نشكّ في بقاء كلّ من الحادثين. و حينئذ نقول: لا شبهة في عدم اتّصال هذا الزمان بزمان المتيقّن، كي يصدق بأنّه زمان بقاء ما حدث، لأنّ ما حدث إذا كان زمانه إجماليّا مردّدا بين الزمان، فالزمان المتّصل بزمانه أيضا مردّد بين الزمانين، و حينئذ فهذا الزمان الإجمالي يحتمل أن يكون الزمان الأوّل، فالزمان المتّصل حينئذ هو الزمان الثاني المردّد أمره بين الحدوث و الارتفاع، فهذا الزمان الثالث لم يحرز اتّصاله بزمان المتيقّن، إلّا على تقدير كون الزمان الحادث هو الزمان الثاني، و في هذا التقدير يقطع ببقائه. و لئن شئت قلت: إنّ ما هو موضوع الاستصحاب هو الشكّ في بقاء الشي ء في زمان و ارتفاعه فيه، بحيث يحتمل ملازمة حدوثه مع وجوده في ثاني زمانه و يحتمل انفكاكه عنه و عدم الملازمة بينهما، و في المقام بالنسبة إلى الزمان الثالث و إن احتمل الملازمة، و لكن احتمال الانفكاك بين حدوثه في ثاني زمانه معدوم، إذ نقطع بعدم الانفكاك بين الحدوث و ثاني زمانه في الزمان الثالث، ففي الحقيقة الشكّ بالبقاء في هذا الزمان يرجع إلى الشكّ في اتّصاف بقاء الشي ء من جهة الشكّ في الحدوث المتّصل به، لا من جهة الشكّ في قطع الحادث، و ما هو موضوع الاستصحاب هو الأخير، لا مطلق الشك في البقاء. و من هذا البيان ظهر: وجه اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين بالمعنى الّذي ذكرنا في الاستصحاب المفقود في المقام، و هذا معنى آخر من الاتّصال غير ما أفاده أستاذنا: من احتمال الفصل باليقين كي يرد عليه ما في التقرير. و يا ليت! أنكر الفصل المزبور في جميع المقامات، على ما شرحناه سابقا، و حينئذ فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام أصلا كي ينتهي أمره إلى التعارض. بل و لئن شئت أيضا نقول: بأنّ المنصرف من أخبار الاستصحاب كون الزمان المشكوك فيه بمثابة لو تمشي القهقرى تضع قدمك على زمان اليقين من زمان الشكّ، و في المقام ليس الأمر كذلك، إذ لو تمشي القهقرى في الأزمنة التفصيليّة ما تنتهي إلّا إلى زمان اليقين بالعدم لا بالوجود. نعم: لا بأس بتصوّر هذا المعنى في المقام بالنسبة إلى الأزمنة الإجماليّة، و لكن قد عرفت: أنه غير قابل للانطباق على الأزمنة التفصيليّة، لعدم إحراز الانطباق على زمان خاصّ كذلك، فلو كان الأثر مترتّبا على وجود شي ء في الأزمنة التفصيليّة لما يكاد يترتّب مثل هذا الأثر. نعم: لو كان في البين أثر يترتّب على مجرّد بقائه في الزمان الإجمالي بلا احتياج إلى التطبيق على الأزمنة التفصيليّة لا بأس بترتّبه. و من هنا ظهر: دفع نقض من بعض المعاصرين رحمه اللّه و هو الفاضل الگلپايگاني «الشيخ عبد اللّه» من أنّ لازم اعتبار الاتصال بالمعنى الأخير جريان الاستصحاب حتّى في الشكّ البدوي في الرافع الوارد على المعلوم بالإجمال من حيث الزمان، مع أنّه لم يلتزم به أحد. و توضيح الجواب: أنّ عدم التزامهم به ليس من جهة إجراء الاستصحاب في الأزمنة التفصيليّة كي يصير نقضا، و إنّما هو من جهة جريانه في الأزمنة الاجمالية المستتبع في الزمان الثاني التفصيلي الذي هو طرف العلم ، للعلم الاجمالي إما بالطهارة الوجدانية أو التنزيلية ، وهذا المعنى غير جار في المقام ، لما عرفت : من أن في الزمان الثاني الامر مردد بين الحدوث والارتفاع، فكيف ينطبق عليه الزمان الاجمالي؟ كما أن في الزمان الثالث أمره ينتهي إلى الشك في البقاء من جهة الشك في الحدوث المتصل به ، لا من جهة الشك في قطع الامر الحادث ، وحينئذ فكم فرق بين مقامنا والفرض المزبور! فتأمل في المقام ، فإنه مما زلت فيه الاقدام. و من التأمّل فيما ذكرنا كلّه اتّضح أيضا وجه التفصيل بين المعلوم تاريخه و مجهوله: من جريان الاستصحاب في معلومه دون مجهوله، كالمسألة السابقة، و إن كان الفرق بينهما في وجوديّة المستصحب و عدميّته. و العجب من المقرّر! حيث إنّه في المقام التزم بجرّ المستصحب من الزمان الإجمالي إلى الزمان التفصيليّ و التزم بالتعارض بين المعلوم و المجهول، و لم يلتزم بجرّه من الزمان التفصيليّ إلى الإجمالي بوجود غيره في المسألة السابقة كي يلتزم هناك أيضا بالتعارض. و تقدّم أيضا بطلان ما اعتذر في وجه عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ، فراجع و تدبّر فيه.

ص: 523

في كل مقام كان الشك في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا الشك في حدوث أحدهما في زمان حدوث الآخر ، كما إذا علم بالحدث والوضوء وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وكما إذا علم بنجاسة الثوب وطهارته وشك في المتقدم منهما والمتأخر ، فإنه في مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ أيضا يجري ويسقط بالمعارضة.

فلو علم المكلف أنه قد توضأ في أول النهار وعلم أيضا بالحدث ولكن شك في تقدم الحدث على الوضوء أو تأخره عنه ، كان الأصل في مرحلة البقاء في كل من الوضوء والحدث جاريا ، ويتعارض الأصلان من الجانبين ، فيستصحب بقاء الوضوء إلى زمان الشك وبقاء الحدث أيضا إلى زمان الشك ، فلو كان زمان الشك في تقدم الحدث على الوضوء وتأخره عنه هو أول الزوال ، فاستصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال يعارض استصحاب بقاء الحدث إليه. ودعوى : عدم اتصال زمان الشك في بقاء الوضوء والحدث بزمان اليقين ، قد عرفت ضعفها.

ص: 524

وتوهم : أن استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال لا يجري - لان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء يقتضي تأخر الحدث عن الوضوء - فاسد ، فان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت تأخره إلا على القول بالأصل المثبت ، فاستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا أثر له ، لان الأثر المترتب على الحدث إنما هو كونه رافعا للطهارة وناقضا لها ، وهذا إنما يكون إذا تأخر الحدث عن الوضوء ، واستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت التأخر ، فلا يجري في الحدث استصحاب بقاء العدم ، بل يجري فيه استصحاب بقاء الوجود إلى الزوال الذي هو زمان الشك في المتقدم والمتأخر ، ويعارض مع استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال ، غايته أن الاستصحاب في طرف الوضوء إنما يكون شخصيا من حيث الزمان للعلم بزمان وجوده ، وفي طرف الحدث يكون كليا لعدم العلم بزمان حدوثه ، وهذا لا يوجب فرقا بين الاستصحابين ، فالأقوى أن الاستصحاب في مرحلة البقاء يجري في كل من الوضوء والحدث ويسقط بالمعارضة وإن علم تاريخ أحدهما وجهل تاريخ الآخر. وقياس مسألة الوضوء والحدث بمسألة إسلام الوارث وموت المورث - حيث إنه لا يجري فيها الاستصحاب في معلوم التاريخ - في غير محله ، فان الشك في تلك المسألة إنما كان في الحدوث وفي مسألة الوضوء والحدث انما يكون في البقاء ، فما يظهر من الشيخ قدس سره من اتحاد حكم المسألتين ، ليس على ما ينبغي ، فان الفرق بينهما في غاية الوضوح.

هذا كله في الطهارة الحدثية ، وكذا الكلام في الطهارة الخبثية ، فلو غسل الثوب في مائين : أحدهما طاهر والآخر نجس ، فاستصحاب بقاء الطهارة والنجاسة في الثوب يجري ويسقط بالمعارضة ، من غير فرق بين كون الماء المغسول به الثوب قليلا أو كثيرا ، أو كان أحدهما قليلا والآخر كثيرا ، غايته أنه لو كان الماء قليلا فزمان حدوث النجاسة معلوم بالتفصيل دون زمان الطهارة ،

ص: 525

ولو كان الماء كثيرا فزمان كل من الطهارة والنجاسة لا يكون معلوما بالتفصيل.

وتوضيح ذلك - هو أن الماء المغسول به الثوب لو كان قليلا : فحال ملاقاة الثوب للماء الثاني قبل انفصال الغسالة عنه يعلم تفصيلا بنجاسته ، إما لنجاسة الماء الأول المغسول به وإنما لنجاسة الماء الثاني الملاقي له فعلا ، ففي زمان ملاقاة الثوب للماء الثاني يعلم تفصيلا بنجاسة الثوب ويشك في زوالها ، لاحتمال أن يكون الماء الثاني هو النجس ولم يتعقبها مزيل ، فيجري استصحاب بقاء النجاسة التي يتعلق العلم التفصيلي بها من حيث نفسها ومن حيث زمانها. وهذا بخلاف الطهارة ، فإنه وإن كان قد علم بطهارة الثوب إلا أنه لا يعلم زمانها ، لتردده بين كونه في زمان عسله بالماء الأول أو بالماء الثاني ، فزمان حصول الطهارة يكون مرددا ، إلا أن ذلك لا يضر باستصحاب بقاء الطهارة ، للعلم بحصولها في الثوب في إحدى الحالتين والشك في ارتفاعها عنه ، لاحتمال أن يكون الماء الثاني هو الطاهر ، فيجري استصحاب بقاء كل من الطهارة والنجاسة في الثوب وهذا من غير فرق بين أن يكون الثوب قبل غسله بالمائين نجسا أو طاهرا.

وقد يتوهم : عدم جريان استصحاب الطهارة إذا كان الثوب قبل غسله بالمائين طاهرا ، لان الطهارة السابقة قد ارتفعت عن الثوب قطعا بملاقاته للماء النجس ولم يعلم بحصول طهارة أخرى للثوب ، بل هي مشكوكة الحدوث ، لاحتمال أن يكون الماء الأول هو الطاهر ، ولا أثر لملاقاة الثوب الطاهر للماء الطاهر ، فاستصحاب الطهارة يكون من القسم الثاني من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي ، بل أسوأ منه ، لان القسم الثاني كان عبارة عن احتمال حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فإنه لا يحتمل وجود فرد آخر والطهارة في الثوب مقارنا لارتفاع الطهارة السابقة ، لان ارتفاع الطهارة السابقة عن الثوب إما يكون بملاقاته

ص: 526

للماء الأول وإما أن يكون بملاقاته للماء الثاني. فان كان بملاقاته للماء الأول ، فهو وإن كان قد حدث في الثوب فرد آخر من الطهارة ، إلا أن حدوثه لم يكن مقارنا لارتفاع الطهارة السابقة ، بل قد تخللت النجاسة بين الطهارة المرتفعة والطهارة الحادثة. وإن كان بملاقاته للماء الثاني ، فارتفاع الطهارة السابقة إنما يكون من زمان ملاقاته للماء الثاني ، ولا يحتمل حدوث طهارة أخرى في الثوب بعد غسله بالماء الثاني. وعلى كلا التقديرين : لا يحتمل حدوث طهارة أخرى في الثوب مقارنة لارتفاع الطهارة السابقة عنه ، فاستصحاب الطهارة في المثال يكون أسوأ حالا من استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

هذا ، ولكن فاسد التوهم بمثابة من الوضوح ، فإن الطهارة والمستصحبة في المثال إنما تكون شخصية لا كلية ، والاجمال والترديد إنما هو في ناحية الزمان ، وفرق واضح بين أن يكون المستصحب بنفسه مرددا بين ما هو مشكوك الحدوث وما هو مقطوع الارتفاع - كما في القسم الأول والثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي - وبين أن يكون زمان حدوث المستصحب مرددا مع العلم بحدوثه كما في المثال ، فإنه يعلم وجدانا بطهارة الثوب في أحد الحالين : إما في حال غسله بالماء الأول وإما في حال غسله بالماء الثاني ، ويشك في ارتفاع الطهارة عنه ، فجعل المثال من الاستصحاب الكلي واضح الفساد.

وتوهم : عدم اتصال زمان الشك في الطهارة بزمان اليقين بها ، قد عرفت ضعفه. فالأقوى : جريان استصحاب الطهارة في المثال ومعارضته لاستصحاب النجاسة. هذا إذا كان الماء المغسول به الثوب قليلا.

وإن كان كثيرا : فزمان وجود كل من طهارة الثوب ونجاسته لم يكن معلوما بالتفصيل - بناء على عدم اعتبار التعدد وانفصال الغسالة في طهارة المغسول بالماء الكثير - فإنه لا يعلم بنجاسة الثوب في آن ملاقاته للماء الكثير الثاني ،

ص: 527

لاحتمال أن يكون هو الطاهر فيطهر الثوب بمجرد ملاقاته له.

ولكن قد عرفت : أن الجهل بزمان وجود المستصحب لا يضر بجريان الاستصحاب ، ففي الفرض أيضا يجري استصحاب بقاء الطهارة في الثوب ، للعلم بطهارته في أحد الحالين : إما حال ملاقاته للكر الأول وإما حال ملاقاته للكر الثاني والشك في زوالها لاحتمال أن يكون الكر الثاني هو الطاهر ، ويعارض مع استصحاب بقاء النجاسة في الثوب ، للعلم بها أيضا في أحد الحالين والشك في ارتفاعها لاحتمال أن يكون الكر الثاني هو النجس منهما.

وإن كان أحد المائين المغسول بهما الثوب قليلا والآخر كثيرا : فان كان الماء الثاني قليلا فزمان النجاسة المستصحبة يكون معلوما بالتفصيل ، كما إذا كان كل من المائين قليلا. وإن كان الماء الأول قليلا فزمان كل من الطهارة والنجاسة لا يكون معلوما بالتفصيل ، كما إذا كان كل من المائين كثيرا ، وذلك واضح.

وعلى جميع التقادير : العلم بزمان حدوث النجاسة أو الجهل به لا يضر باستصحابها ولا باستصحاب الطهارة ، فتأمل في المقام جيدا ، فإنه من مزال الاقدام.

الفرض الثالث : عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ومعلومه ، كما إذا علم بكرية الماء وملاقاته للنجاسة وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فإنه لا تجري أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية ولو مع العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة ، لان الظاهر من قوله علیه السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء » هو أنه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرية ولو آنا ما ، فان الظاهر منه كون الكرية موضوعا للحكم بعدم تنجيس الملاقاة ، وكل موضوع لابد وأن يكون مقدما على الحكم ، فيعتبر في الحكم بعدم تأثير الملاقاة من سبق الكرية ، ولذلك بنينا على نجاسة المتمم للكر ، لأنه يتحد فيه

ص: 528

زمان الكرية والملاقاة ، فلا محيص من القول بنجاسة الماء مطلقا ، سواء جهل تاريخ الملاقاة والكرية أو علم تاريخ أحدهما ، سواء كانت الملاقاة معلومة التاريخ أو الكرية.

أما في صورة الجهل بتاريخهما : فلان أصالة عدم كل منهما في زمان الآخر لا تقتضي سبق الكرية. وكذا إذا علم بتاريخ الملاقاة ، فان أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة تقتضي عدم تحقق موضوع الطهارة.

وأما إذا علم بتاريخ الكرية : فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لا تثبت تأخر الملاقاة عن الكرية ، ومع عدم إثبات ذلك لم يحرز موضوع الطهارة ، مع أنه لابد منه (1) فان تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز

ص: 529


1- أقول : مفهوم « إذا بلغ » - الذي هو المدرك لتنجس القليل - اعتبار ورود الملاقاة على ما لايكون كرا في التنجيس المستتبع لسبق عدم الكرية للملاقات ، بملاحظة موضوعية عدم الكرية للملاقات في التنجيس أيضا ، فالمعنى « إذا لم يكن فينجسه الشيء بالملاقات مع عدم الكرية » لا أن المفهوم « إذا لم يكن كرا فينجسه بعدم الملاقاة في ظرف الكرية » وحينئذ فلا شبهة في أن استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية وإن لم يثبت الملاقاة في ظرف الكرية ، إلا أنه ينفي موضوع النجاسة : من الملاقاة في ظرف عدم الكرية. وأما ما ذكره المقرر إنما يصح لو كان التنجيس مترتبا على عدم الملاقاة في ظرف الكرية لا مترتبا على الملاقاة في ظرف عدم الكرية. ولقد عرفت : أن مقتضى المفهوم هو الثاني لا الأول. و عمدة النكتة في ذلك: هو أنّ من شأن أخذ المفهوم في القضيّة الشرطيّة تجريد الجزاء عن حيث إضافته إلى الشرط و الأخذ بنقيضه في طرف المفهوم، و لازمه حفظ نقيض الجزاء بجميع شئونه في طرف المفهوم، و حينئذ فمن المعلوم: أنّ نقيض الجزاء «ينجّسه» و من البديهي: أنّ تجريد هذا الجزاء عن إضافته إلى الشرط في المنطوق يقتضي أيضا تجريد الملاقاة المأخوذ في هذا الجزاء، لأنّه من شئونه، و لازمه حينئذ كون المفهوم ما ذكر، لا ما توهّم، فتدبّر فيما قلت و قال بعين الإنصاف! إذ صحّة ما قال مبنيّ على عدم تجريد الملاقاة عن الإضافة بالكرّيّة، و هو مستلزم لعدم أخذ المفهوم من القضيّة رأسا، و هو كما ترى! و إلّا فلو قلنا [بأنّ هنا] حكمان: أحدهما عدم المنجّسيّة بالملاقاة في ظرف الكرّيّة، و الآخر تنجّسه بالملاقاة في ظرف عدم الكرّيّة، فما لا يجدي فيه الاستصحاب هو الحكم الأوّل، و أمّا الحكم الأخير فيجدي فيه الاستصحاب المزبور جدا كما تقدم ( واللّه العالم ) وحينئذ فلا قصور في استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية في معلوم التاريخ لاثبات الطهارة.

وجوده في ترتب الحكم عليه ، ومع الشك في وجوده يبنى على عدم الحكم ، من غير فرق بين الشك في أصل وجود الموضوع وبين الشك في وجوده في الزمان الذي يعتبر وجوده فيه ، كما فيما نحن فيه ، فإنه وإن كان قد علم بالكرية إلا أنه يشك في وجودها قبل الملاقاة للنجاسة ، فظهر : أنه لابد من الحكم بالنجاسة في المثال مطلقا.

نعم : لولا كون التعليق على الامر الوجودي يقتضي إحرازه لكان ينبغي في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتاريخ الكرية. وكان مبنى شيخنا الأستاذ - مد ظله - قبل هذا على طهارة الماء عند العلم بتاريخ الكرية ، وعلى ذلك جرى في رسالته العملية المسماة ب « الوسيلة » وفي حاشية العروة. ولكن في المقام عدل عن ذلك (1) وبنى على النجاسة مطلقا حتى مع العلم بتاريخ الكرية. نعم : لو كان الماء مسبوقا بالكرية ثم طرء عليه القلة ، فاستصحاب بقاء الكرية إلى زمان الملاقاة يجري ويحكم عليه بالطهارة ، فتأمل جيدا.

- التنبيه العاشر -

ربما قيل : بجريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة في باب العبادات عند الشك في عروض المانع أو القاطع.

وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر : أنه لا مجال للاستصحاب في ذلك ، فراجع.

* * *

ص: 530


1- أقول : يا ليت لم يعدل عما كان عليه!.
- التنبيه الحادي عشر -

لا ينبغي التأمل والاشكال في عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، كالنبوة والإمامة. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في هذا التنبيه.

ولكن الانصاف : أنه لا يستحق إطالة الكلام فيه.

فالأولى : عطف عنان الكلام إلى

- التنبيه الثاني عشر -
اشارة

المتكفل لبيان تمييز الموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصص عن الموارد التي يرجع فيها إلى عموم العام.

ومحل الكلام إنما هو فيما إذا ورد عام أفرادي يتضمن العموم الزماني وخرج بعض أفراد العام عن الحكم وشك في خروجه عنه في جميع الأزمنة أو في بعضها ، كقوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فان له عموم أفرادي بالنسبة إلى جميع أفراد العقود ، ويتضمن العموم الزماني أيضا لوجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان ، وقد خرج عنه المعاملة الغبنية ، فإنه لا يجب الوفاء بها ، ولكن يشك في أنها خرجت عن العموم مطلقا في جميع الأزمنة ، أو في خصوص زمان ظهور الغبن؟ أي تردد أمر الخيار بين كونه على الفور أو على التراخي.

فيقع الكلام في أنه هل يجب الرجوع إلى عموم العام فيما عدا القدر المتيقن من زمان الخروج؟ أو أنه يجب استصحاب حكم المخصص؟.

وقد حكي عن المحقق الكركي رحمه اللّه أنه في المثال يجب الرجوع إلى عموم « أوفوا بالعقود » فيكون الخيار على الفور. وقيل : إنه يجب الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص فيكون الخيار على التراخي.

ص: 531

وقد اضطربت كلمات بعض الاعلام في ذلك وذهب يمنة ويسرة ولم يأت بشيء يمكن أن يكون ضابطا للموارد التي يرجع فيها إلى العام والموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصص ، بل حمل كلمات الشيخ قدس سره في هذا المقام على ما لا ينبغي الحمل عليه ، وفتح عليه باب الاشكال والايرادات السبعة أو الثمانية التي ذكرها.

وعلى كل حال : تنقيح البحث في ذلك يستدعي رسم أمور :

الأول : لا إشكال في أن الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفا لوجود الزماني ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على القيدية مكثرا للموضوع ليكون وجود الشيء في زمان غير وجوده في زمان آخر ، ومع عدم قيام الدليل على ذلك لا يكون الزمان إلا ظرفا لوجود الشيء ، لان نسبة الزمان إلى الزماني كنسبة المكان إلى المكين لا يقتضي أزيد من الظرفية ، سواء كان الزماني من مقولة الأعيان والموضوعات الخارجية أو كان من مقولة الافعال ومتعلقات التكاليف أو كان من مقولة الأحكام التكليفية والوضعية ، فان الزمان في جميع ذلك إنما يكون ظرفا لوجودها (1) وعليه يبتني جريان الاستصحاب ، فإنه لولا كون

ص: 532


1- أقول : ينبغي للمقرر المستقصي لأنحاء مفاد الخطابات أن يتعرض في فرض الظرفية شقوقا أخرى ، وهو أن مفاد الدليل تارة : حكم شخصي مستمر لموضوع شخصي ، بحيث لو انقطع هذا الشخص لم يكن الخطاب متكفلا لحكم آخر لشخص آخر ، وإن كان قابلا للتحديد من حيث أوله وآخره. وأخرى : حكم سنخي ثابت لكل قطعة من القطعات الموجودة في الفرد الشخصي المستمر على وجه قابل للانحلال بأحكام بلحاظ كل واحد من القطعات الموجودة في ضمن هذا الفرد المستمر الشخصي ، ولازمه عدم اقتضاء الدليل الدال على نفي الحكم عن قطعة معينة ذهاب الحكم عن بقية القطعات. وثالثة : يكون الخطاب متكفلا لحكم سنخي لسنخ وجود الموضوع القابل للانطباق على شخص آخر منقطع عن الشخص الأول مع فرض اخذ الزمان في جميع هذه الفروض ظرفا ، بحيث لو فرض اخذه في لسان الدليل كان لمحض الإشارة إلى أمد استمرار الحكم أو موضوعه سنخيا أو شخصيا ، كما هو ظاهر. وسيجئ ( إن شاء اللّه تعالى ) بيان نتيجة هذا التشقيق.

الزمان ظرفا لوجود المستصحب لم يكد يجري الاستصحاب ، لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب إنما هو جر المستصحب في الزمان ، فلو كان الزمان قيدا لوجود المستصحب فلا يكاد يمكن جريان الاستصحاب فيه ، لان الوجود المقيد بزمان يباين الوجود في غير ذلك الزمان ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يكون من قسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الامر الثاني : إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيدا في الحكم أو المتعلق

فتارة : يلاحظ الزمان على وجه الارتباطية ، أي يلاحظ قطعة من الزمان مجتمعة الآنات متصلة بعضها مع بعض على نحو العام المجموعي ، فيعتبر وجود الحكم أو المتعلق في مجموع الآنات بحيث لا يخلو آن منها عن وجود الحكم أو المتعلق ، فلو خلا آن عنهما يرتفع الحكم من أصله ويفوت المتعلق ولا يمكن بقاء الحكم أو إيجاد المتعلق في الآن الثاني ، كما في باب الصوم ، فان حقيقة الصوم هو الامساك من الطلوع إلى الغروب (1) فقد قيد الامساك بكونه في مجموع آنات النهار من حيث المجموع ، فيتحقق عصيان الخطاب إذا خلا آن من آنات النهار عن الامساك ، كما يتحقق عصيان خطاب « أكرم العلماء » عند ترك إكرام فرد من أفراد العلماء إذا كان المطلوب إكرام مجموع العلماء.

وأخرى : يلاحظ الزمان قيدا للحكم أو المتعلق على وجه الاستقلالية ، نظير العام الأصولي ، فيكون كل آن من آنات الزمان يقتضي وجود الحكم أو المتعلق

ص: 533


1- أقول : ويمكن في تصور الصوم بجعله عبارة عن الامساك المستمر المحدود أوله بما تقارن الفجر وآخره بما تقارن الغروب ، بحيث يكون الفجر والغروب معينا للحدين وكاشفا عنهما بنحو الكشف اللازم عن الملزوم ، فيكون النهار من أوله وآخره توئما مع المرتبة الخاصة من مراتب الامساك الواجب ، لا انه قيد فيه ، كما لا يخفى. وبمثل هذا التصوير أيضا ربما يفر عن الشبهة الواردة على الغسل قبل الفجر بناء على بعض التقاريب في إبطال الواجب التعليقي ، فتدبر.

فيه مستقلا ، فيتعدد الحكم أو المتعلق بتعدد الآنات ، ويكون لكل آن حكم أو متعلق يخصه لا ربط له بالحكم أو المتعلق الموجود في الآن الآخر ، فلو خلا آن عن وجود الحكم أو المتعلق كان الآن الثاني مستتبعا لوجود الحكم أو المتعلق فيه ، ولا ملازمة بين عصيان الخطاب في آن لعصيانه في الآن الآخر ، بل لكل آن طاعة وعصيان يخصه.

والحاصل : تقسيم العام إلى الأصولي والمجموعي لا يختص بالعموم الافرادي ، بل يأتي في العموم الزماني أيضا ، غايته أن الاستقلالية والارتباطية في العموم الزماني إنما يلاحظان بالنسبة إلى أجزاء الزمان وآناته ، من غير فرق بين سعة دائرة العموم الزماني وضيقها ، فتارة : لا تكون محدودة بل ما دام العمر ، وأخرى : تكون محدودة بالسنة أو الشهر أو اليوم أو أقل من ذلك ، وهذا كله واضح لا إشكال فيه.

الامر الثالث : اعتبار العموم الزماني بأحد الوجهين يتوقف على قيام الدليل عليه.

فتارة : يكون دليل الحكم بنفسه متكفلا لبيان العموم الزماني بالنصوصية ، كقوله : « أكرم العلماء في كل زمان » أو « في كل يوم » أو « دائما » أو « مستمرا » ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العموم الزماني. وكقوله تعالى : « نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » (1) بناء على أن تكون « أنى » زمانية لا مكانية.

وأخرى : يستفاد العموم الزماني من دليل لفظي آخر ، كقوله : « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد صلی اللّه علیه و آله حرام إلى يوم القيامة » (2)

ص: 534


1- 1 - البقرة : 223
2- أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، الحديث 19.

وثالثة : يستفاد من دليل الحكمة ومقدمات الاطلاق ، وذلك إنما يكون إذا لزم من عدم العموم الزماني لغوية الحكم وخلو تشريعه عن الفائدة ، كما في قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (1) فإنه لو لم يجب الوفاء بالعقد في كل زمان يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقود ، لأنه لا فائدة في وجوب الوفاء بها في الجملة وفي آن ما. ولقد أجاد المحقق الكركي رحمه اللّه فيما أفاده من قوله : إن العموم الافرادي في قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » يستتبع العموم الزماني ، وإلا لم ينتفع بعمومه الافرادي.

وبالجملة : كما أنه قد يستفاد العموم الافرادي من دليل الحكمة ، كقوله تعالى : « أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ » (2) حيث إن إطلاقه بقرينة الحكمة يدل على حلية كل فرد من أفراد البيع - لأنه لا معنى لحلية فرد مردد من البيع - كذلك قد يستفاد العموم الزماني من الاطلاق بقرينة الحكمة (3).

الامر الرابع : مصب العموم الزماني تارة : يكون متعلق الحكم ، وأخرى : يكون نفس الحكم ، بمعنى أنه :

تارة : يلاحظ الزمان في ناحية متعلق التكليف والفعل الصادر عن المكلف ، كالوفاء والاكرام والشرب ونحو ذلك من متعلقات التكاليف الوجودية أو العدمية ، فتكون آنات الزمان قيدا للوفاء والاكرام والشرب ، أي يكون الوفاء أو الاكرام في كل آن معروض الوجوب وشرب الخمر في كل آن معروضا للحرمة ، سواء كان العموم الزماني علين وجه العام الأصولي أو العام المجموعي.

ص: 535


1- المائدة : 1.
2- البقرة : 275.
3- أقول : يمكن ان يقال في هذه الأمثلة : ان الزمان اخذ لبيان مقدار الاستمرار وأمده ، لا انه مأخوذ قيدا في الحكم أو الموضوع بأحد النحوين ، كما لا يخفى.

وأخرى : يلاحظ الزمان في ناحية نفس الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة ، فيكون الحكم الشرعي ثابتا في كل آن من آنات الزمان.

فعلى الأول : يكون العموم الزماني تحت دائرة الحكم ويرد الحكم عليه ، فان الحكم كما يرد على المتعلق يرد على قيده أيضا ، والمفروض : أن الزمان في الوجه الأول يكون قيدا للمتعلق فيرد الحكم عليه لا محالة.

وعلى الثاني : يكون العموم الزماني فوق دائرة الحكم وواردا عليه ، وسيأتي لذلك مزيد بيان.

وهذان الوجهان - أي كون العموم الزماني قيدا للحكم أو المتعلق - وإن كانا يتحدان بحسب النتيجة ، بداهة أنه لا فرق بين قوله : « الشرب في كل آن آن حرام » وبين قوله : « الشرب حرام والحرمة ثابتة له في كل آن آن » فان النتيجة في كل منهما إنما هي دوام الحكم واستمراره في جميع الآنات ، إلا أنهما يختلفان فيما هو المهم بالبحث في المقام ، على ما سيأتي توضيحه.

الامر الخامس : يختلف العموم الزماني الملحوظ في ناحية المتعلق مع العموم الزماني الملحوظ في ناحية الحكم من جهتين :

الأولى : إذا كان العموم الزماني قيدا للمتعلق فيمكن أن يتكفل اعتباره نفس دليل الحكم ، كقوله : « أكرم العلماء في كل زمان » أو « دائما » وكقوله : « نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » وأما إذا كان العموم الزماني قيدا للحكم فلا يمكن أن يتكفل بيانه نفس دليل الحكم ، بل لابد من بيانه بدليل منفصل (1) فان استمرار الحكم ودوام وجوده إنما هو فرع ثبوت الحكم

ص: 536


1- 1 - أقول : ولا يخفى عليك : ان المولى لو قال : « يجب اكرام العالم مستمرا إلى آخر الشهر » مع إقامة القرينة الحافة بالكلام على وجه يصير ظاهرا في رجوع القيد إلى الحكم لا الموضوع ، فهل هذا الدليل الواحد غير متكفل لثبوت الحكم واستمراره؟ فلم يحتاج إلى اثبات الاستمرار من دليل آخر منفصل؟ وما الفرق من هذه الجهة بين استمرار الموضوع والحكم؟ إذ كل منهما محتاج على ما دل على استمرارهما زائدا عما دل على ثبوتهما ولو في طي خطاب واحد.

ووجوده ، فنسبة الحكم إلى عموم أزمنة وجوده نسبة الحكم والموضوع والعرض والمعروض ، فان مركب العموم الزماني ومحله ومعروضه إنما يكون هو الحكم ، ففي قضية قولنا : « الحكم مستمر » أو « دائمي » يكون « الحكم » موضوعا و « مستمر » أو « دائم » محمولا ، فلا يمكن أن يكون الحكم متكفلا لبيان أزمنة وجوده.

والحاصل : أن دليل الحكم إنما يتكفل بيان أصل ثبوت الحكم ووجوده ، وأما استمراره ودوامه : فلابد وأن يكون بدلالة دليل آخر ، وذلك واضح.

الجهة الثانية : لو كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم : فعند الشك في التخصيص وخروج بعض الأزمنة عن العموم يصح التمسك بالعموم الزماني الذي دل عليه دليل الحكم ، فلو قال : « أكرم العلماء في كل يوم » أو « في كل زمان » أو « مستمرا » أو « دائما » أو نحو ذلك من الألفاظ الموضوعة للعموم الزماني ثم شك في وجوب إكرام العالم في قطعة من الزمان ، فالمرجع هو الدليل الاجتهادي الذي تكفل العموم الزماني ، ولا تصل النوبة إلى استصحاب وجوب الاكرام الثابت قبل القطعة المشكوكة من الزمان ، فان الشك في التخصيص الزماني كالشك في التخصيص الافرادي يرجع فيه إلى أصالة العموم وعدم التخصيص.

ولا مجال للرجوع إلى الاستصحاب ، بل لا يجري فيه الاستصحاب ، لأن المفروض أن الدليل الاجتهادي قد تكفل لحكم كل زمان من أزمنة ظرف وجود المتعلق ، فقوله : « أكرم العلماء في كل يوم » يكون دليلا على وجوب إكرام كل فرد من أفراد العلماء في كل يوم من أيام العمر أو السنة أو الشهر ، فكان لكل يوم حكم يخصه لا ربط له باليوم السابق أو اللاحق ، فإنه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيام العمر أو السنة

ص: 537

موضوعا لاكرام واحد مستمر ، بل العموم الزماني إنما أخذ على نحو العام الأصولي ، من غير فرق بين الألفاظ الدالة على العموم الزماني ، فسواء قال : « أكرم العلماء في كل يوم » أو قال : « أكرم العلماء مستمرا » يكون كل يوم أو كل زمان موضوعا مستقلا لوجوب الاكرام ، فيتعدد الحكم والمتعلق حسب تعدد الأيام والأزمنة.

فلو شك في وجوب الاكرام في بعض الأيام والأزمنة لا يمكن استصحاب حكم اليوم والزمان السابق (1) لارتفاع ذلك الحكم بمضي اليوم السابق وتصرم الزمان الماضي ، فلا يمكن الحكم ببقائه في اليوم الثاني والزمان اللاحق إلا بالرجوع إلى ما يدل على العموم الزماني : من الدليل الاجتهادي ، ولا يصح الرجوع إلى الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فاستصحاب الحكم فيما كان المتعلق مصب العموم الزماني ساقط من أصله ولا مجال لجريانه.

بل لو فرض أنه لم يكن للدليل الاجتهادي عموم بالنسبة إلى جميع الأيام والأزمنة كان المرجع في زمان الشك هو سائر الأصول العملية : من البراءة والاشتغال ، لا استصحاب حكم العام ، من غير فرق بين الشك في أصل التخصيص أو في مقداره ، كما إذا علم بخروج بعض الأزمنة وشك في خروج الزائد ، ففيما عدا القدر المتيقن من التخصيص يرجع إلى ما دل على العموم الزماني لو كان ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال ، ولا يجري استصحاب حكم الخاص. فلو علم بعدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة وخروجه عن عموم

ص: 538


1- أقول : ما أفيد في فرض التقيد بالزمان في غاية المتانة. ولكن يمكن دعوى ان غالب ما توهم فيها عموم الأزمان كونها من قبيل الطبيعة السارية في ضمن القطعات المستمرة في الزمان ، على وجه يكون الزمان مبينا لأمد استمراره ، فهنا لا قصور في استصحابه لولا عمومها زمانا ، وإن كان الحكم فيها انحلاليا ، كما لا يخفى.

قوله : « أكرم العلماء في كل يوم » وشك في وجوب إكرامه يوم السبت ، ففي يوم السبت يرجع إلى العموم ، لا إلى استصحاب حكم الخاص.

وبالجملة : لو كان المتعلق مصب العموم الزماني ، فلا مجال لاستصحاب حكم العام إذا شك في أصل التخصيص ، ولا استصحاب حكم الخاص إذا شك في مقدار التخصيص ، بل لابد من الرجوع إلى العام أو إلى سائر الأصول الاخر ، هذا إذا كان متعلق الحكم مصب العموم الزماني.

وأما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم : فلا مجال للتمسك فيه بالعموم إذا شك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى الاستصحاب ، على عكس ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم.

والسر في ذلك : هو أن الشك في التخصيص أو في مقداره فيما إذا كان الحكم مصب العموم الزماني يرجع إلى الشك في الحكم ، وقد تقدم أن الحكم يكون بمنزلة الموضوع للعموم الزماني إذا كان مصب العموم نفس الحكم ، ولا يمكن أن يتكفل العموم الزماني وجود الحكم مع الشك فيه ، لأنه يكون من قبيل إثبات الموضوع بالحكم ، فالعموم الزماني دائما يكون مشروطا بوجود الحكم ، ولا يمكن أن يدل قوله : « الحكم مستمر في كل زمان » على وجود الحكم مع الشك فيه ، فلو قال : « أكرم العلماء » وعلم من دليل الحكمة أو غيرها أن وجوب الاكرام مستمر وثابت في كل زمان ثم شك في وجوب إكرام العالم في زمان - لاحتمال التخصيص - فلا يصح الرجوع إلى ما دل على استمرار وجوب إكرام العلماء ، فان استمرار الحكم يتوقف على وجود الحكم ، والمفروض : الشك فيه.

وكذا لو علم بعدم وجوب إكرام زيد العالم في يوم الجمعة وشك في وجوب إكرامه في يوم السبت ، فإنه أيضا لا يجوز التمسك بقوله : « الحكم مستمر في كل زمان » بل لابد من الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند الشك في أصل

ص: 539

التخصيص والرجوع إلى استصحاب حكم الخاص عند الشك في مقداره ، بل لو لم نقل بحجية الاستصحاب كان المرجع سائر الأصول العملية ، لا عموم العام.

والحاصل : أن محل الكلام إنما هو فيما إذا كان عام أفرادي يستتبع عموم زماني ، فالعموم الزماني إنما يكون في طول العموم الافرادي ومتأخر عنه رتبة ، سواء كان مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي أو متعلقه.

غايته أنه لو كان مصب العموم متعلق الحكم كان الحكم واردا على العموم الزماني كوروده على المتعلق ، فيكون تحت دائرة الحكم ، ولأجل ذلك صح أن يكون نفس دليل الحكم متكفلا لبيان العموم الزماني كتكفله لبيان العموم الافرادي ، فعند الشك في التخصيص أو في مقداره يتمسك بعموم الدليل.

وأما لو كان مصب العموم نفس الحكم كان العموم الزماني واردا على الحكم وواقعا فوق دائرة الحكم ، ولأجل ذلك لا يصح أن يكون دليل الحكم متكفلا لبيان العموم الزماني ، بل لابد من التماس دليل آخر يدل على عموم أزمنة وجود الحكم ، فعند الشك في التخصيص أو في مقداره لا يجوز التمسك بما دل على العموم الزماني ، لان الدليل إنما كان متكفلا لعموم أزمنة وجود الحكم ، فلا يتكفل أصل وجود الحكم.

والشك في التخصيص الزماني يستتبع الشك في وجود الحكم ، فلا يصح التمسك بعموم ما دل على العموم الزماني (1) ففي مثل قوله تعالى : « أَوْفُوا

ص: 540


1- 1 - أقول : إذا كان مصب العموم الزماني في نفس الحكم ، فلا شبهة في أن مرجع ذلك إلى أخذ العموم قيدا للحكم ، ولازمه كون الحكم الذي هو مركز هذا القيد مهملة عارية عنه ، كما هو الشأن في رجوع كل قيد إلى المقيد ، إذ لا محيص من أخذ القيد مهملا بالنسبة إلى هذا القيد ، كما هو الشأن أيضا في كل موضوع إلى محموله ، وحينئذ الاستمرار والدوام من عوارض الطبيعة المهملة التي يطرء عليه العموم من حيث الفرد تارة والزمان أو المكان أخرى ، فالعموم زمانا ملازم لوجود ما هو مهملة من هذه الجهة في الزمان الثاني والثالث ، فهذه الوجودات في الأزمنة المتعددة مستفادة من استمرار الطبيعة ، لا من نفسها. و حينئذ فالشك تارة: يتعلق بأصل الطبيعة التي هي موضوع هذا الاستمرار و كانت مهملة محضة، و أخرى: يتعلق بتوسعة وجود المهملة و سرايته بحسب الأزمنة المتمادية. ففي الصورة الأولى: دليل الاستمرار لا يتكفّل لإثبات وجود، لأنه وارد على الحكم في ظرف الفراغ عن وجوده، فلا بد حينئذ من إحرازه بدليل آخر متكفل لنفس الحكم. و اما الصورة الثانية: فأصل الحكم بنحو الإهمال محرز بدليله حسب الفرض، و إنّما الشك في سعة الحكم من جهة الزمان، ففي هذه الصورة لا يكون المتكفل لرفع هذا الشكّ إلّا دليل الاستمرار بعد الفراغ عن وجود موضوعه- من الطبيعة المهملة- بدليل أو قرينة أخرى. و حينئذ فما أفيد: من ان الاستمرار من قبل المحمول بالنسبة إلى الحكم في غاية المتانة، و لكن هذا الموضوع ليس إلّا الحكم المهمل و الطبيعة المهملة من تلك الجهة، لا الطبيعة السارية في ضمن كلّ وجود في كل زمان، بل مثل هذا السريان الحاكي عن انبساط وجود الحكم في كلّ زمان عين المحمول. و حينئذ يسأل عما أفيد: من ان الشك في التخصيص الزماني منشأ للشك في نفس الحكم، بأنه ما المراد من هذا الحكم المشكوك؟. فان أريد به وجوده المستفاد من سريان الطبيعة إلى الأزمان، فرافع هذا الشك لا يكون إلّا ما هو متكفل لإثبات العموم الزماني بلا احتياج إلى دليل آخر، بل الدليل الآخر غير متكفل لإثباته، كيف! و إثباته مستتبع للغويّة دليل الاستمرار. و إن أريد من الحكم المشكوك الحكم المهمل و الطبيعة المهملة الّتي هو مركز هذا العموم و معروضه، فلا شبهة في أنّ الشكّ في استمراره غير ملازم للشكّ في وجوده، إذ الدليل المتكفّل لإثبات الطبيعة مفروض الثبوت بنحو لو لا هذا العموم لا يكون متكفلا إلّا لإثبات الحكم للمورد مهملة، فهذا العموم الزماني تثبت تعميمه من حيث الزمان. و لئن شئت توضيح ما ذكرنا، فنفرض الكلام في المثال المعروف: من «أوفوا بالعقود» إذ له جهتان: عموم أفرادي كان شأنه إثبات الحكم لكل فرد من العقد بنحو الإهمال من حيث الزمان، و عموم زماني يقتضي تعميم حكم كلّ فرد من حيث الزمان، و من البديهي: أنّ عمومه الأزماني تبع عمومه الأفرادي، إذ ما لم تثبت الحكم لكل فرد يستحيل تحقق عموم زماني له، لأنه وارد عليه ورود الحكم على موضوعه. و لكن نقول: إن الشك في حكم الفرد تارة: من جهة احتمال تخصيص العموم الفردي، ففي مثل ذلك يستحيل على فرض هذا التخصيص ثبوت الحكم لهذا الفرد في الزمان دون زمان ، بل مرجعه إلى فقدان الفرد المزبور للحكم إلى الأبد ، لان مرجع تخصيص الفرد إلى عدم ثبوت الطبيعة لهذا الفرد وخروج الفرد المزبور عن مصب الحكم للتالي ، فالتخصيص بحسب الأزمان على وجه يصلح للتفكيك بين الأزمان في حكم الفرد المزبور فرع دخول الفرد في العموم الافرادي ، فمثل هذا التخصيص كتعميمه أيضا تبع عمومه أفرادا ، وحينئذ إذا خرج فرد من الخطاب ويحتمل خروجه للتالي أو في زمان خاص ، فلا شبهة في عدم العموم الأزماني بدوا ، واما عمومه الافرادي بالنسبة إلى ثبوت الحكم في الجملة محكم ، فإذا ثبت هذا المقدار بالعموم الافرادي فيرجع إلى العموم الأزماني لاثبات بقية الأزمنة ، وحينئذ كيف ينتهي الامر فيه إلى الاستصحاب؟ وإلى ذلك نظر من أنكر على الشيخ في مصيره في مثل « أوفوا بالعقود » إلى الاستصحاب عند الشك في خروج الفرد في زمان مع احتمال وجود الحكم فيه في زمان آخر. نعم لا يجري إلى العموم زمانا لو كانت القضية متكفلة لاثبات الحكم الشخصي المستمر مع فرض ظرفية الزمان ، وذلك أيضا في صورة تقطيع الحكم وسطا ، لا أولا ولا آخرا ، كما أفاده العلامة الأستاذ. وما أفيد في شرح كلام الشيخ ليس بيانا جديدا ، كما لا يخفى.

ص: 541

بِالْعُقُودِ » لو كان مصب العموم الزماني نفس لزوم العقد ووجوب الوفاء به كان مفاده - بضميمة دليل الحكمة التي اقتضت العموم الزماني - قضيتين شرعيتين : الأولى وجوب الوفاء بكل عقد من أفراد العقود ، وهذا هو المدلول المطابقي لقوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ». الثانية استمرار وجوب الوفاء بكل عقد في جميع الأزمنة. وهذه القضية الثانية هي التي تكفل لبيانها دليل الحكمة ، وواضح : أن القضية الثانية متفرعة على القضية الأولى محمولا وموضوعا ، فهي مشروطة بوجودها.

فلو شك في وجوب الوفاء بعقد من العقود في زمان فلا يمكن التمسك بعموم ما دل على استمرار وجوب الوفاء في كل زمان ، لأن المفروض : الشك في وجوب الوفاء بالعقد في الزمان الخاص ، فيشك في موضوع ما دل على العموم الزماني فلا يصح الرجوع إليه ، لأنه لا يمكن إثبات الموضوع بالحكم ، بل لا محيص من استصحاب بقاء وجوب الوفاء به الثابت قبل زمان الشك. هذا إذا شك في أصل التخصيص. ولو شك في مقداره ، كالمعاملة الغبنية

ص: 542

- حيث إنه علم بخروجها عن عموم وجوب الوفاء بالعقود ولكن تردد زمان الخروج بين الأقل والأكثر - فالمرجع فيما عدا القدر المتيقن من زمان الخروج هو استصحاب حكم الخاص ، وهو عدم وجوب الوفاء بها ، فيثبت كون الخيار على التراخي ، ولا يصح الرجوع إلى عموم ما دل على وجوب الوفاء بالعقد في كل زمان لاثبات كون الخيار على الفور.

فظهر مما ذكرنا : أنه في كل مورد كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه عند الشك في التخصيص الزماني أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى عموم العام لو كان ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال ، وفي كل مورد كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ، فلا مجال للتمسك فيه بالعام الزماني عند الشك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى الاستصحاب لو تمت أركانه ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : « ثم إذا فرض خروج بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم فشك فيما بعد ذلك الزمان بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟ الحق التفصيل في المقام بأن يقال : إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديا بأن اخذ كل زمان موضوعا مستقلا بحكم مستقل لينحل العموم إلى أحكام متعددة بعدد الأزمان » إلى أن قال : « وإن اخذ لبيان الاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائما ثم خرج فرد في زمان وشك في حكم ذلك الفرد » إلى آخر ما أفاده في المقام.

فان ما ذكره من التفصيل يرجع إلى ما ذكرناه. والمراد من قوله في الوجه الأول : « إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديا » هو أخذ الزمان ظرفا لمتعلق الحكم ، بالبيان المتقدم : من كون مصب العموم الزماني فعل المكلف وما هو الصادر عنه ، ومن قوله في الوجه الثاني : « وإن اخذ لبيان الاستمرار كقوله :

ص: 543

أكرم العلماء » هو أخذ الزمان ظرفا للحكم ، بأن يكون مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي ، ويتفرع على ذلك عدم جريان الاستصحاب في الوجه الأول وجريانه في الوجه الثاني.

وقد خفي على بعض الاعلام مراد الشيخ قدس سره ومحل كلامه ، وتخيل أن ما ذكره من التفصيل بين الوجهين إنما هو في مورد كان المتعلق مصب العموم الزماني ، فحمل قوله في الوجه الثاني : « وإن اخذ لبيان الاستمرار » على كون الاستمرار في الأزمنة اخذ بنحو العام المجموعي ، وجعل مورد المنع عن الرجوع إلى العام ما إذا كان العموم الزماني ملحوظا في ناحية المتعلق على جهة الارتباطية بنحو العام المجموعي ، ومورد المنع عن الرجوع إلى الاستصحاب ما إذا كان العموم الزماني ملحوظا في ناحية المتعلق على جهة الاستقلالية بنحو العام الأصولي.

ففتح على الشيخ قدس سره باب الايراد ، وأشكل عليه بإشكالات كلها مبنية على ما تخيله : من أن محل النفي والاثبات إنما هو فيما إذا كان المتعلق مصب العموم الزماني (1) ولو كان محل النفي والاثبات ذلك ، فالحق مع المستشكل ، ولكن قد عرفت : أن النفي والاثبات لا يردان على محل واحد ، بل مورد أحدهما ما إذا كان المتعلق مصب العموم الزماني ، ومورد الآخر ما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي.

وعبارة الشيخ قدس سره في « الفرائد » وإن كانت مجملة قابلة لان يتوهم منها اتحاد مورد النفي والاثبات ، ولكن عبارته في « المكاسب » - في باب خيار الغبن - تنادي بالتغاير ، وأن مورد النفي عن التمسك بالعام هو ما إذا كان الحكم الشرعي مصب العموم الزماني ومورد إثبات التمسك به هو ما إذا كان متعلق

ص: 544


1- أقول : لا وجه لحمل كلمات الأساطين على معنى لا يتوهمه الأصاغر من الطلاب! فصلا عن الأعاظم!.

الحكم مصب العموم الزماني ، وعلى كلا التقديرين : يكون العموم الزماني ملحوظا على وجه الاستقلالية بنحو العام الأصولي ، ومن غير فرق بين أن يكون بيان العموم الزماني بمثل قوله : « في كل زمان » أو « ويستمر » أو « دائما » ونحو ذلك من الألفاظ الموضوعة للعموم الزماني ، فسواء قال : « الحكم موجود في كل زمان » أو قال : « الحكم يستمر في جميع الأزمنة » يكون المعنى واحدا ، وليس قوله : « في كل زمان » قرينة على لحاظ العموم الزماني بنحو العام الأصولي ، وقوله : « ويستمر » وقرينة على لحاظه بنحو العام المجموعي ، وذلك واضح.

فتحصل : أنه ليس مراد الشيخ من التفصيل بين الوجهين التفصيل بينهما في مورد يكون مصب العموم الزماني متعلق الحكم ، بل مصب العموم الزماني في أحد الوجهين هو متعلق الحكم ، وفي الآخر نفس الحكم ، فيستقيم حينئذ التفصيل في التمسك بالعام في أحدهما والتمسك بالاستصحاب في الآخر (1) ولا يرد عليه شيء من الاشكالات ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

تكملة :

بعدما تبين أن مورد التمسك بالعام هو ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم ومورد التمسك بالاستصحاب هو ما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ، فيقع الكلام حينئذ في تشخيص المورد ، وقبل ذلك ينبغي

ص: 545


1- أقول : ولقد عرفت بأنه مع تمام الزحمة لا يتم ما أفيد من التفصيل ، وان الأساطين بعد علم منهم بهذا التقريب أنكروا على الشيخ في مصيره إلى الاستصحاب دون عموم العام أو إطلاقه ، بل لنا أيضا مجال الانكار لعدم مرجعية الاستصحاب لولا العموم حتى في صورة اخذ عموم الأزمان في متعلق الحكم ، إذ من الممكن كون العموم بملاحظة سراية الطبيعة إلى قطعات المستمر الشخصي ، لا بلحاظ قيدية الزمان ومفرديته ، ولقد أشرنا أيضا : من إمكان جعل غالب موارد العموم الأزماني من هذا القبيل ، فتدبر.

تأسيس الأصل عند الشك في مصب العموم ، فنقول :

إنه تارة : يشك في أصل العموم الزماني للحكم أو المتعلق وعدمه ، وفرض حصول الشك في العموم الزماني إنما هو فيما إذا لم يلزم لغوية تشريع الحكم مع عدم العموم الزماني بأحد الوجهين ، وإلا فلا يمكن حصول الشك فيه ، كما لا يخفى.

وأخرى : يعلم بالعموم الزماني ويشك في مصبه.

فان كان الشك في أصل العموم الزماني فلا إشكال في أن الأصل يقتضي عدمه (1) لان أخذ العموم الزماني قيدا للحكم أو للمتعلق يتوقف على لحاظه ثبوتا وبيانه إثباتا ، فلو قال : « أكرم العلماء » وشك في استمرار الوجوب في جميع الأيام أو شك في كون الاكرام في جميع الأيام واجبا ، ففي ما عدا اليوم الأول لا يجب الاكرام ، لأصالة البراءة عنه ، وذلك واضح.

وان كان الشك في مصب العموم الزماني بعد العلم به فلا إشكال أيضا في أن الأصل اللفظي يقتضي عدم كون المتعلق مصب العموم الزماني ، فان الشك في ذلك يرجع إلى الشك في تقييد المتعلق بقيد زائد ، وأصالة الاطلاق تقتضي عدم التقييد ، وليس العموم الزماني من القيود التي لا يمكن أخذه في

ص: 546


1- أقول : في فرض الشك المزبور ، تارة : يقطع وجوب الاكرام في خصوص اليوم الأول وكان الشك في تعميم الخطاب حكما أم موضوعا في الزائد ، وأخرى : لا يعلم وجوب اليوم أيضا بخصوصه ، وحينئذ ، فتارة : يتم البيان ولو بمقدمات الحكمة لاثبات الوجوب لصرف الطبيعة الجامعة بين أفراد الأيام وإنما الشك في وجوب كل فرد بحسب الأزمنة ، وأخرى : لا يتم البيان بالنسبة إلى صرف الطبيعة أيضا ، وحينئذ فما أفيد : من ثبوت الوجوب في اليوم الأول ، إنما يتم على الفرض الأول ، وهو أيضا يحتاج إلى دليل بالخصوص ، وإلا فصرف الخطاب باكرام العلماء لا يقتضي إلا وجوب كل فرد في الجملة. واما بقية الفروض لا يقتضي الخطاب وجوب خصوص اليوم الأول ، بل على الفرض الثاني لا يجب إلا صرف الجامع بين الافراد التدريجية ، وفي الثالث ينتهي الامر إلى العلم الاجمالي في الأيام التدريجية فيجب عقلا إكرامه في جميع الأيام ما لم ينته على غير المحصور ، كما لا يخفى.

المتعلق حتى لا يصح التمسك بالاطلاق ، لأنه قد تقدم أن اعتبار العموم الزماني في ناحية المتعلق مما يمكن أن يتكفل بيانه نفس دليل الحكم ، فيقول : « أكرم العلماء في كل يوم » أو « مستمرا » فعند الشك في اعتبار العموم الزماني في ناحية المتعلق يرجع إلى أصالة الاطلاق ، ويتعين حينئذ أن يكون مصبه نفس الحكم الشرعي ، للعلم باعتبار العموم الزماني ، فإذا كان الأصل عدم اعتباره في المتعلق يتعين اعتباره في الحكم ، لان دليل الحكمة تقتضي ذلك.

ولا يتوهم : أن إطلاق الحكم يقتضي عدم أخذ العموم الزماني قيدا له ، لما عرفت : من أن دليل الحكم لا يمكن أن يتكفل لبيان أزمنة وجوده ، بل لابد من أن يكون بيانه بدليل منفصل آخر (1) فإذا لم يقم دليل لفظي على اعتباره في المتعلق ، فدليل الحكمة يقتضي اعتباره في ناحية الحكم ، لان دليل الحكمة إنما يجري لبيان الاحكام وتشخيص مرادات الآمر ، ومن جملة مقدمات الحكمة في المقام إطلاق المتعلق وعدم تقييده بالعموم الزماني ، فإنه مع تقييد المتعلق بذلك لا تصل النوبة إلى التمسك بمقدمات الحكمة ، لان أخذه في ناحية المتعلق يغني عن أخذه في ناحية الحكم ، كما أن أخذه في ناحية الحكم يغني عن أخذه في

ص: 547


1- أقول : إذا علم بالعموم الزماني وشك في رجوعه إلى الحكم أو المتعلق ، فلا شبهة في أن المتعلق إن كان له إطلاق بنحو يثبت الحكم لصرف الطبيعة ، فهذا الاطلاق كاف لاثبات استمرار الحكم لصرف الجامع بين الافراد التدريجية إلى آخر الافراد ، ولا يحتاج إلى إثبات استمراره كذلك إلى دليل آخر. نعم : يحتاج في إثبات استمراره بنحو ثبوته للطبيعة السارية إلى جميع الافراد في الأزمنة المتمادية إلى قيام دليل عليه ، وحينئذ فعند الشك فيه لا مجال للتمسك بالاطلاق في المتعلق ، بل هذا المعنى من العموم مشكوك في كل واحد من الحكم والمتعلق ، وإنما يعلم إجمالا بثبوته في أحدهما ، فعلى مختاره : يكفي احتمال رجوعه إلى المتعلق في نفي جريان الاستصحاب ، للشك في بقاء الموضوع؛ وفي مثله أي دليل يثبت العموم في الحكم دون الموضوع؟ وما معنى لأصالة الاطلاق في الموضوع دون الحكم؟ وحينئذ فما أفيد من قوله : « فتحصل الخ » لا محصل له. ولنا مجال أن نقول : إنه ما فرحنا [ فرضنا ] من المبنى ، فكيف بهذه النتيجة! وعليك بالتأمل والانصاف فيما ذكرنا!!.

ناحية المتعلق ، لما تقدم في بعض الأمور السابقة : من اتحاد نتيجة أخذ العموم الزماني في ناحية الحكم أو المتعلق. وإنما تظهر الثمرة بين الوجهين في جواز التمسك بالعام أو الرجوع إلى الاستصحاب - بالبيان المتقدم - وإلا فبحسب النتيجة العملية لا فرق بين أخذ الزمان قيدا للحكم أو للمتعلق ، فإذا لم يقيد المتعلق بالعموم الزماني كان قيدا للحكم لا محالة ، لجريان أصالة الاطلاق في ناحية المتعلق وعدم جريانها في ناحية الحكم ، فتأمل جيدا.

فتحصل : أن في كل مورد شك في مصب العموم الزماني بعد العلم به فالأصل يقتضي أن يكون مصبه نفس الحكم الشرعي لا المتعلق ، ويترتب عليه ما تقدم : من عدم جواز الرجوع إلى العموم عند الشك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد من الرجوع إلى الاستصحاب.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى تكليفية ووضعية ، والتكليفية تنقسم إلى الأوامر والنواهي (1).

أما الأحكام الوضعية : فمصب العموم الزماني فيها ينحصر أن يكون نفس الحكم الوضعي بناء على المختار من أن الأحكام الوضعية بنفسها مجعولة ما عدا السببية والجزئية والشرطية والمانعية ، فإنه على هذا ليس في البين متعلق حتى يمكن أخذه مصبا للعموم الزماني ، لان المتعلق عبارة عن الفعل الذي تعلق به التكليف أمرا أو نهيا ، وأما الأحكام الوضعية : فليس لها متعلقات لكي

ص: 548


1- أقول : الأولى أن يقال : إن الأحكام الوضعية المتعلقة بالأعيان الخارجية بملاحظة عدم قابلية الأعيان للتقطيع في الزمان عرفا لا محيص من كون مصب العموم فيها نفس الحكم ، لا الموضوع. وأما بالنسبة إلى المنافع : فلا قصور في عموم المنفعة زمانا وعدمه ، وحينئذ ففي مثلها لا قصور في جريان ما فرض من الشك في مصب العموم فيه مع تأسيس أصله. ثم بعد فرض كون مصب العموم هو الحكم عند الشك في بقاء الحكم في بقية الأزمنة بعد الجزم بخروج زمان أي مانع عن التمسك بما دل على استمرار هذا الحكم الثابت بدليل آخر لموضوعه في الجملة ، فتدبر.

يبحث فيها عن مصب العموم الزماني ، فينحصر أن يكون مصب العموم فيها نفس الحكم الوضعي : من الطهارة والنجاسة والملكية والزوجية والرقية وغير ذلك من الاعتبارات العرفية والأحكام الوضعية ، فيكون المرجع عند الشك في التخصيص الزماني فيها هو الاستصحاب.

ومنه يظهر : عدم جواز التمسك بعموم قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » لاثبات فورية الخيار في المعاملات الغبنية ، بل لابد من استصحاب بقاء الخيار في كل زمان شك فيه بعد العلم بثبوته عند ظهور الغبن ، لان مفاد قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » ليس وجوب الوفاء به تكليفا وحرمة التصرف فيما انتقل عن المتعاقدين ، بل مفاده لزوم العقد وعدم انفساخه بالفسخ ، فيكون مدلوله حكما وضعيا ، ومصب العموم الزماني فيه نفس لزوم العقد ، وفي مثله لا مجال للتمسك بالعموم.

فظهر : أنه في الأحكام الوضعية يكون العموم الزماني فيها قيدا لنفس الحكم بناء على كونها متأصلة بالجعل ، بل ولو قلنا : بكونها منتزعة عن التكليف ، كما هو مختار الشيخ قدس سره فان أقصى ما يلزم منه هو إمكان أن يكون مصب العموم الزماني فيها متعلق التكليف ، ولكن مجرد إمكان ذلك لا يقتضي كونه مصب العموم الزماني ما لم يقم دليل على أخذه في ناحية المتعلق ، لما عرفت : من أن الأصل فيما لم يقم دليل على ذلك هو أن يكون مصب العموم نفس الحكم الشرعي ، ومن المعلوم : أنه لم يقم دليل على أخذ العموم الزماني قيدا في ناحية المتعلق في باب الأحكام الوضعية ، فدليل الحكمة تقتضي أن يكون مصبه نفس الحكم الوضعي على المختار أو الحكم التكليفي على مختار الشيخ قدس سره ففي باب الوضعيات لو شك في تخصيص العموم الزماني أو في مقداره لا مجال للرجوع إلى العموم ، بل لابد من الرجوع إلى استصحاب حكم العام في الأول واستصحاب حكم الخاص في الثاني.

ص: 549

وأما في باب التكاليف : ففي التكاليف التحريمية يمكن أن يكون مصب العموم الزماني فيها متعلق الحكم ، كما يمكن أن يكون نفس الحكم بعدما كانت التكاليف التحريمية مستمرة في الأزمنة ولها عموم زماني ، فيمكن أن يكون مصب العموم الزماني في مثل قوله : « لا تشرب الخمر » متعلق النهي فيكون الشرب في كل زمان حراما ، ويمكن أن يكون مصب العموم نفس الحكم فتكون حرمة الشرب مستمرة في جميع الأزمنة.

فعلى الأول : يكون المرجع عند الشك في التخصيص أو في مقداره هو العموم ، فلو شك في حرمة شرب الخمر في زمان المرض أو شك في حرمته في زمان تخفيف المرض بعد العلم بعدم الحرمة في زمان اشتداد المرض يرجع إلى عموم قوله : « لا تشرب الخمر » ولا يجري استصحاب الحرمة في الأول واستصحاب الترخيص في الثاني.

وعلى الثاني : لا يكون المرجع عند الشك في التخصيص أو في مقداره عموم قوله : « لا تشرب الخمر » بل لابد من استصحاب الحرمة في الأول واستصحاب الترخيص في الثاني.

وهذا كله مما لا إشكال فيه ، إنما الاشكال فيما هو الصحيح من الوجهين ، فقد يقال : إن مصب العموم الزماني في باب النواهي إنما يكون متعلق النهي بتقريب أن تعلق النهي أو النفي بالطبيعة المرسلة بنفسه يقتضي ترك جميع الافراد العرضية والطولية المتدرجة في الأزمنة ، لا ترك خصوص الافراد العرضية ، فيكون النهي بمدلوله اللفظي يقتضي العموم الزماني ، وقد تقدم : أن دليل الحكم إنما يمكن أن يتكفل لبيان العموم الزماني المأخوذ في ناحية المتعلق ولا يمكن أن يتكفل لبيان العموم الزماني المأخوذ في ناحية الحكم ، فإذا كان قوله : « لا تشرب الخمر » بنفسه يدل على العموم الزماني ، فلابد وأن يكون مصب العموم الزماني شرب الخمر ، لا الحرمة.

ص: 550

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن النهي أو النفي بنفسه لا يدل على أزيد من ترك الافراد العرضية ، وأما ترك الافراد الطولية : فهو إنما يستفاد من دليل الحكمة وإطلاق النهي (1) وقد تقدم : أنه إذا استفيد العموم الزماني من دليل الحكمة فلابد وأن يكون مصبه نفس الحكم الشرعي ، لا متعلقه.

وقد اختلفت كلمات شيخنا الأستاذ - مد ظله - في ذلك ، ففي الفقه - عند البحث عن خيار الغبن - رجح عدم دلالة النهي والنفي على ترك الافراد الطولية وإنما يستفاد العموم الزماني بالنسبة إلى الافراد الطولية من دليل الحكمة ، وفي الأصول توقف في ابتداء الامر ولم يرجح أحد الوجهين ، ولكن أخيرا مال إلى أن النهي إنما يتعلق بالقدر المشترك بين الافراد العرضية والطولية المتدرجة في الزمان ، سواء كان للنهي تعلق بالموضوع الخارجي كالنهي عن شرب الخمر ، أو لم يكن له تعلق بالموضوع الخارجي كالنهي عن الغناء ، غايته أنه في الأول يدوم النهي بدوام وجود الموضوع خارجا ، وفي الثاني يكون دوامه ببقاء المكلف على شرائط التكليف ، فليس النهي بمدلوله اللفظي يدل على العموم الزماني.

وقد حكي عن الأصحاب : أن بنائهم على التمسك بالاستصحاب في موارد الشك في التخصيص الزماني أو في مقداره ، وكأنهم جعلوا مصب العموم الزماني نفس الحكم لا متعلقه ، فتأمل في المقام فإنه بعد يحتاج إلى زيادة بيان.

ثم لا يخفى عليك : أنه لو بنينا على أن النهي بمدلوله اللفظي يدل على العموم الزماني وأن مصب العموم هو المتعلق ، فالتمسك به في موارد الشك في التخصيص أو في مقداره إنما يصح إذا كان لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الحالات والطواري اللاحقة للمكلف : من المرض والصحة والاختيار

ص: 551


1- أقول : لا يخفى بأنه ليس في هذه الكلمات إلا مصادرات محضة ، ولعلها من اجتهادات المقرر.

والاضطرار ونحو ذلك ، فلو لم يكن لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الطواري لا يصح التمسك بالعموم الزماني إذا شك في حرمة المتعلق عند عروض بعض الطوري ، بل لابد من الرجوع إلى الاستصحاب ، فان العموم الزماني إنما يكون في طول العموم الافرادي والأحوالي ، فالعموم الزماني إنما ينفع إذا كان الشك متمحضا من حيث الزمان ، فإذا كان لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الافراد والأحوال كان المرجع عند الشك في التخصيص الزماني هو العموم. ولا يتوهم : أن العموم الزماني يغني عن الاطلاق الأحوالي ، بل نحتاج في رفع الشك إلى كل منهما ، وذلك واضح. وهذا كله في التكاليف التحريمية.

وأما التكاليف الوجوبية : فما كان منها من الأصول الاعتقادية كقوله تعالى : « آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » (1) فيمكن أيضا أن يكون مصب العموم الزماني فيها نفس الوجوب ، ويمكن أيضا أن يكون مصب العموم متعلق الحكم ، ولا يترتب على الوجهين ثمرة عملية ، لأنه لا يحصل الشك في التخصيص الزماني فيها ، وعلى فرض حصوله فلا يجري فيها الاستصحاب ، لأنه يعتبر فيها عقد القلب والاعتقاد ، والاستصحاب لا يوجب ذلك.

وما كان منها من الفروع الدينية : كقوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة » (2) وكقوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ » (3) وغير ذلك من الاحكام الوجودية ، فان كان للزمان دخل في ملاك الحكم والمصلحة التي اقتضت تشريع الوجوب - كالصوم - فلا إشكال أيضا في صحة كون العموم الزماني قيدا للحكم ، فيكون وجوب الصوم مثلا مستمرا من الطلوع إلى الغروب ، ويمكن كونه قيدا للمتعلق ، فيكون الامساك من الطلوع إلى الغروب

ص: 552


1- النساء : 136.
2- 2 - لم نعثر عليه
3- البقرة : 183.

واجبا ، فان كان في البين قرينة على كونه قيدا للمتعلق فهو ، وإلا فلابد وأن يكون قيدا للحكم ، كما تقدم.

وتظهر الثمرة بين الوجهين : في وجوب الامساك في بعض النهار مع العلم بعدم تعقبه بالامساك في بقية النهار لاختلال بعض شرائط التكليف ، كما لو علمت المرأة أنها تحيض في آخر النهار ، أو علم المكلف أنه يسافر قبل الزوال

فإنه لو كان الاستمرار قيدا للطلب : فمقتضى القاعدة وجوب الامساك في جزء من النهار ولو مع العلم بعدم تعقبه بسائر الاجزاء (1) ومع المخالفة تجب الكفارة ، لان الطلب محفوظ ما دامت الشرائط موجودة ، ولا عبرة بفقدانها في آخر النهار بعدما كان المكلف واجدا لها في أول النهار ، فان وجوب الامساك في كل جزء من أجزاء النهار تابع لدليل الحكم ، فإذا دل الدليل على استمرار الحكم في جميع أجزاء النهار ، فمعناه « أنه يجب الامساك في كل جزء من النهار إذا كان المكلف واجدا للشرائط » فلا يتوقف وجوب الامساك في أول النهار على وجوبه في آخر النهار ، فإنه لا معنى لاشتراط الحكم في أول النهار بتعقبه بالحكم في آخر النهار ، هذا إذا كان الاستمرار قيدا للطلب.

ص: 553


1- أقول : لو قلنا في الصوم : إن العموم الزماني مأخوذ فيه قيدا بنحو ما أفاد سابقا : من العموم المجموعي لا الافرادي ، فلا مجال له من اخذ هذه الثمرة ، لان الحكم في كل زمان ملازم مع الحكم في الزمان الآخر ، فمع العلم بانتفائه في زمان ينتفي الحكم في البقية. نعم : لو كان العموم مأخوذا فيه بنحو الاستغراق صح ما أفيد ، ولازمه - مضافا إلى عدم الفرق من هذه الجهة بين كون الزمان قيدا للطلب أو المطلوب - استحقاق المكلف بترك صومه عقوبات متعددة وكون تكليفه بالصوم انحلاليا ، بل ولازمه عدم قصد القربة في الصوم بأمر وحداني متعلق به ، ولا أظن التزامه من أحد. ثم في التزامه شرطية التعقب في جميع الاجزاء الارتباطية التدريجية من الغرائب! كيف! ولازم الارتباطية كون الاحكام الضمنية المتعلقة بالاجزاء متلازمات الوجود ثبوتا وسقوطا بلا احتياج فيها إلى الالتزام بالشرط المتأخر كي نعالج الفاسد باعتقاده بالأفسد. وأعجب منه!! التزامه في المقام بوجوب تمام الامساك إلى الغروب ، مع أنه ينافي مع إنكاره الواجب التعليقي ، فتدبر.

وإن كان الاستمرار قيدا للمطلوب - وهو الامساك - فلازمه أن يكون وجوب الامساك إلى الغروب فعليا من أول الطلوع ، لأنه مع عدم فعليته لا يجب الامساك من أول الطلوع ، فوجوب الامساك في أول الطلوع لا يمكن إلا إذا كان التكليف بالامساك إلى الغروب فعليا من أول الطلوع ، ولازم فعليته - مع كون المطلوب أمرا مستمرا إلى الغروب - هو أن يكون الشرط في صحة الامساك في أول الطلوع تعقبه بالامساك في بقية النهار جامعا لشرائط التكليف ، وهذا المعنى من الشرط المتأخر لا محيص عنه في جميع أجزاء المركبات الارتباطية ، كما تقدم الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب. فلو علم المكلف بعدم تعقب الامساك في أول النهار بالامساك في بقية النهار لاختلال شرائط التكليف في أثناء النهار ، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الامساك في أول النهار وعدم وجوب الكفارة عليه مع عدم الامساك قبل اختلال الشرائط ، فلابد من قيام دليل على وجوب الامساك والكفارة عند تركه مع العلم بعدم تعقب الامساك في أول النهار بالامساك في بقية النهار لاختلال شرائط التكليف ، فتأمل جيدا.

هذا إذا كان للزمان دخل في المصلحة والملاك. وإن لم يكن للزمان دخل في ذلك ، كالصلاة بالنسبة إلى الأزمنة التي تكون ظرفا لايقاعها ، فقد يتوهم : أن العموم الزماني لا يمكن أن يكون قيدا للحكم ، فان استمرار الحكم في جميع الأزمنة يقتضي اشتغال المكلف بالصلاة مثلا في كل زمان.

ولا يخفى ضعفه ، فان استمرار الحكم إنما يعتبر في الأزمنة التي تكون ظرفا لايجاد المتعلق فيها ، فإذا فرض أن ظرف إيجاد الصلاة بحسب الجعل الشرعي كان في أول زوال الشمس وفي العصر والمغرب والصبح كذلك ، فمعنى استمرار الحكم هو بقاء وجوب الصلاة في جميع الأيام في تلك الأوقات ، وعدم اتصال أزمنة امتثال الصلوات لا يضر باتصال الحكم واستمراره في أزمنة إيجاد المتعلق ،

ص: 554

ففي باب الصلاة أيضا يمكن أن يكون مصب العموم الزمني نفس الحكم ، ويمكن أن يكون المتعلق.

وتظهر الثمرة بين الوجهين : فيما إذا خرج المقيم عن بلد الإقامة من دون أن يعزم على إنشاء سفر جديد وقلنا : بأن الإقامة قاطعة للسفر حكما لا موضوعا ، فإنه لو كان العموم الزماني ظرفا للحكم وكان وجوب القصر على المسافر مستمرا إلى أن ينقطع سفره ، فعند الشك في وجوب القصر أو التمام في مدة خروجه عن بلد الإقامة قبل إنشاء سفر جديد يرجع إلى استصحاب وجوب التمام الذي كان ثابتا في حال الإقامة قبل الخروج عن بلدها. ولو كان العموم الزماني ظرفا للمتعلق وكان القصر في كل صلاة رباعية في جميع أزمنة السفر واجبا ، ففي المثال يرجع إلى العموم ويجب عليه القصر ، فان المقدار المتيقن في تخصيص العموم هو ما دام كونه في بلد الإقامة ، فإذا خرج عن بلد الإقامة يجب عليه القصر (1).

نعم : لو قلنا : بأن الإقامة قاطعة للسفر موضوعا - كما هو أقوى الوجهين فيها - فالواجب هو التمام ما لم ينشأ سفرا جديدا ، سواء كان الزمان ظرفا للحكم أو للمتعلق ، وذلك واضح.

وكذا الكلام فيمن رجع عن قصد المعصية في أثناء السفر ولم يكن الباقي قدر المسافة ، ففي وجوب القصر أو التمام عليه وجهان : مبنيان على أن أزمنة السفر اخذت ظرفا للحكم أو للمتعلق ، فعلى الأول ، يجب عليه التمام ، لاستصحاب حكم الزمان الذي كان قاصدا فيه المعصية. وعلى الثاني : يجب عليه القصر ، لعموم ما دل على وجوب القصر في كل صلاة ما دام في السفر ، والقدر المتيقن خروجه عن العموم هو ما دام كونه قاصدا للمعصية. والمسألة

ص: 555


1- أقول : بعدما عرفت من بطلان المبنى ، لا مجال للتكلم في أمثال هذه الفروع. وربما نوفق لتوضيح الكلام في باب الإقامة والرجوع عن المعصية بأحسن من ذلك.

فقهية ، توضيحها موكول إلى محله ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا لكي لا يشتبه عليك الامر.

- التنبيه الثالث عشر -
اشارة

قد أجرى بعض استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب الارتباطي ، وقد تقدمت الإشارة إليه في تنبيهات الأقل والأكثر

وتفصيله : هو أنه ربما يستشكل في جريان الاستصحاب بأن المتيقن السابق كان هو الوجوب المتعلق بجملة العمل الواجد للجزء أو الشرط المتعذر ، وقد علم بارتفاعه بسبب تعذر بعض أجزاء الجملة ، ووجوب ما عدا الجزء المتعذر لم يكن متيقنا سابقا ، بل هو مشكوك الحدوث ، فيختل ركن الاستصحاب.

هذا ، وقد ذكر الشيخ قدس سره وجوها ثلاثة لجريان الاستصحاب :

الأول : استصحاب وجوب الاجزاء المتمكن منها ، للعلم بتعلق الطلب بتلك الاجزاء ولو في ضمن تعلقه بالكل والشك في ارتفاعه عنها بسبب تعذر بعض الاجزاء ، فلم يختل ركن الاستصحاب : من اليقين السابق والشك اللاحق ، غايته : أن المستصحب إنما يكون هو القدر المشترك بين الوجوب النفسي والوجوب المقدمي ، لان وجوب الاجزاء المتمكن منها كان قبل تعذر البعض مقدميا ، فان الوجوب النفسي إنما كان متعلقا بالكل ، فيكون كل جزء واجبا بالوجوب المقدمي ، وبعد تعذر البعض يكون وجوبها نفسيا ، فإنه على تقدير كون الاجزاء المتمكن منها واجبة واقعا فوجوبها إنما يكون نفسيا ، ولكن تغيير صفة الوجوب لا يمنع عن استصحاب القدر المشترك بين النفسي والمقدمي. هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في الوجه الأول.

ولكنه ضعيف ، لما فيه أولا : من أن وجوب الجزء لا يكون مقدميا ، بل الجزء إنما يجب بعين الوجوب النفسي المتعلق بالكل ، ولا يمكن أن يتعلق

ص: 556

الوجوب المقدمي بالجزء ، بل نفس الطلب النفسي المتعلق بالكل ينبسط على الاجزاء ، نظير انبساط البياض على الجسم ، فيكون لكل جزء حظ من الوجوب النفسي ، ومعه لا يمكن أن يكون له وجوب آخر مقدمي ، وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث المقدمة.

وثانيا : أن استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري لا يجري ، فان الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدمي سنخا ويباينه حقيقة ، وليست النفسية والمقدمية من قبيل الشدة والضعف ، فاستصحاب القدر المشترك في المقام يرجع إلى استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه ، بل لو فرض أن النفسية والمقدمية يكونان من مراتب الوجوب - كالشدة والضعف - ولكن لا إشكال في تباينهما عرفا ، فلا يجري استصحاب القدر المشترك.

الوجه الثاني : استصحاب شخص الوجوب النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها ، بدعوى : أن الجزء المتعذر يعد عرفا من حالات متعلق الوجوب النفسي لا من أركانه ومقوماته ، فلا يضر تعذره وفقدانه ببقاء متعلق الوجوب النفسي واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لان معروض الوجوب النفسي بنظر العرف كان هو بقية الاجزاء المتمكن منها ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي أنها هي التي كانت متعلق الوجوب النفسي ، ويكون تعذر الجزء منشأ للشك في بقائه ، نظير الماء الذي نقص عنه مقدار بحيث يشك في بقائه على الكرية ، فإنه لا إشكال في استصحاب بقاء الكرية ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فليكن تعذر الجزء فيما نحن فيه كنقصان مقدار من الماء في مثال الكر لا يوجب اختلاف القضيتين.

وهذا الوجه وإن كان أبعد عن الاشكال من الوجه الأول ، إلا أنه يرد عليه : أن هذا البيان إنما يتم في الموضوعات العرفية والمركبات الخارجية ، فإنه

ص: 557

يمكن فيها تمييز ما يكون من حالات الموضوع عما يكون من مقوماته. وأما المركبات الشرعية : فلا يكاد يمكن معرفة الركن فيها وتمييز المقوم عن غيره إلا من طريق الأدلة. وليس للعرف في ذلك سبيل ، بداهة أن تشخيص كون السورة ليست من أركان الصلاة ومقوماته دون الركوع والسجود لا يمكن إلا بقيام الدليل على ذلك ، فان دل الدليل على كون السورة جزء للصلاة مطلقا حتى في حال عدم التمكن منها كانت السورة ركنا في الصلاة ومقومة لها ، فيسقط الامر بالصلاة عند عدم التمكن منها. وإن قام الدليل على عدم كونها جزء في حال عدم التمكن منها فلا تكون ركنا في الصلاة ، ولا يسقط الطلب ببقية الاجزاء عند تعذر السورة. وإن لم يقم دليل على أحد الوجهين يبقى الشك في سقوط الطلب عن بقية الاجزاء وعدمه على حاله ، للشك في ركنية السورة. ولا مجال للرجوع إلى العرف في معرفة كونها ركنا وغير ركن ، فان تشخيص ذلك ليس بيد العرف. ففي المركبات الشرعية لا يمكن العلم بما يكون من حالات المركب أو مقوماته إلا من طريق السمع.

وهذا الاشكال بعينه يرد على « قاعدة الميسور » أيضا (1) فإنه يعتبر فيها أن تكون الاجزاء الميسورة مما لا تعد عرفا مباينة لمتعلق التكليف ، وذلك إنما يكون إذا كان الباقي ركن المركب وبه قوامه ، وهذا المعنى في المركبات الشرعية لا يمكن تشخيصه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في تنبيهات الأقل والأكثر.

فظهر : أن الوجه الثاني لاستصحاب بقاء الوجوب عند تعذر بعض الاجزاء يتلو الوجه الأول في الضعف.

الوجه الثالث : استصحاب الوجوب النفسي المردد بين كونه متعلقا سابقا بالواجد للجزء المتعذر مطلقا حتى مع تعذره ( ليسقط التكليف عن الفاقد للجزء

ص: 558


1- أقول : قد تقدم الكلام في هذا الاشكال في محله ، وما ذكر هناك تحرير في المقام أيضا ، فراجع وتأمل.

المتعذر ) وبين كونه متعلقا بالواجد له مقيدا بحال التمكن منه ( ليبقى التكليف بالفاقد ) فيستصحب بقاء التكليف ويثبت به اختصاص جزئية الجزء المتعذر بحال التمكن منه.

وهذا الوجه أضعف الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ قدس سره في تقريب استصحاب بقاء الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب ، فإنه يكون من أردء أنحاء الأصل المثبت. فالانصاف : أنه لا سبيل إلى الاذعان بشيء من الوجوه الثلاثة.

نعم : يمكن تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعله يسلم عن الاشكال (1) وهو أن جزئية المتعذر لو كانت ثبوتا مختصة بحال التمكن والاختيار كان التكليف بما عدا الجزء المتعذر باقيا على ما كان عليه - أي كان التكليف به بعين التكليف المتعلق بالكل الواجد للجزء المتعذر قبل تعذره من دون أن يرتفع ذلك التكليف ويحدث تكليف آخر يتعلق بخصوص الاجزاء المتمكن منها بل هو ذلك التكليف - غايته أنه قبل تعذر الجزء كانت دائرة متعلق التكليف أوسع ، لانبساط التكليف عليه ، وبعد تعذر الجزء تتضيق دائرة متعلق التكليف ويخرج الجزء المتعذر عن سعة دائرة المتعلق مع بقاء الباقي على حاله ، نظير البياض الذي كان منبسطا على الجسم الطويل فصار قصيرا ، فإنه لا إشكال في أن البياض الباقي في الجسم القصير هو عين البياض الذي كان في

ص: 559


1- أقول : ما أفيد في غاية المتانة لتقريب احتمال بقاء التكليف ، فلابد حينئذ في قباله احتمال آخر وهو كون التكليف بالاجزاء الباقية مرتبطا بالتكليف بالبقية ثبوتا وسقوطا ، وهذا الارتباط لا يمكن إلا أن يكون التكليف من الأول بالواحد للمتعذر حتى مع تعذره ، قبال الصورة الأولى : من كون التكليف متعلقا بالواجد في خصوص حال التمكن ، فيرجع حينئذ إلى الوجه الثالث الذي جعله أردء الوجوه. مع أن المقصود من استصحاب التكليف في المقام إثبات وجوب البقية ، لا إثبات كون معروضه الواجد مقيدا بحال التمكن ومن غير هذه الجهة لا نفهم وجه المثبتية ، فتدبر.

الجسم الطويل ، من دون أن ينعدم ذلك البياض ويحدث بياض آخر ، غايته أنه تبدل حده وكان قبل قصر الجسم محدودا بحد خاص وبعد قصره يكون محدودا بحد آخر ، والتكليف المنبسط على جملة المركب يكون كالبياض المنبسط على الجسم الطويل ، فلو تعذر بعض أجزاء المركب يبقى التكليف بالبقية على ما كان ، من دون أن يرتفع ذلك التكليف ويحدث تكليف آخر بالبقية ، وذلك واضح لا ينبغي التأمل فيه. هذا في مقام الثبوت.

وأما في مقام الاثبات : فان قام الدليل على اختصاص جزئية الجزء المتعذر بحال التمكن والاختيار فلا إشكال في وجوب الباقي ، كما لا إشكال في عدم وجوبه إذا قام الدليل على إطلاق جزئية الجزء المتعذر وعدم اختصاصها بحال التمكن.

وإن لم يقم دليل على أحد الوجهين وشك في إطلاق الجزئية وعدمه فيشك في بقاء التكليف ببقية الاجزاء المتمكن منها ويجري استصحاب التكليف ، فالمستصحب هو شخص التكليف النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها قبل تعذر الجزء ، والتعذر إنما يكون منشأ للشك في بقاء التكليف بالبقية ، لاحتمال اختصاص جزئيته بحال التمكن والاختيار ، وقد عرفت : أنه على هذا التقدير يكون شخص التكليف الذي كان منبسطا على البقية في حال انبساطه على الكل باقيا ، فالمستصحب ليس هو القدر المشترك بين التكليف النفسي والغيري ، بل هو شخص التكليف النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها.

فإن قلت : بناء على هذا ينبغي عدم الفرق بين أن يكون الباقي معظم الاجزاء أو بعض الاجزاء. فلو فرض أنه تعذر جميع أجزاء الصلاة ما عدا التشهد يلزم القول بجريان استصحاب وجوب التشهد ، لأنه لو كان التشهد في الواقع واجبا كان وجوبه بعين وجوب الكل ولم يحدث فيه وجوب آخر عند تعذر

ص: 560

ما عداه ، فينبغي أن يستصحب وجوبه ، مع أن ظاهر الاعلام : التسالم على اعتبار أن يكون الباقي معظم الاجزاء.

قلت : نعم وإن كان وجوب الباقي هو عين الوجوب السابق الذي كان متعلقا بالكل حقيقة ، إلا أن القضية المشكوكة لو لم يكن الباقي معظم الاجزاء تباين القضية المتيقنة عرفا ، فان وجوب التشهد مثلا يكون مندكا عرفا في ضمن وجوب البقية ويكون الطلب المتعلق به طلبا تبعيا ضمنيا ، فيكون وجوبه قبل تعذر بقية الاجزاء نحوا يغاير وجوبه بعد تعذرها عرفا وإن كان هو هو حقيقة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، فان وجوبه في حال تعذر الجزء عين وجوبه السابق عقلا وعرفا ، فيجري الاستصحاب إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، ولا يجري إذا كان بعض الاجزاء ، فتأمل جيدا.

تتمة :

يظهر من كلام الشيخ قدس سره عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف أو قبله ، لان المستصحب هو الوجوب الكلي المنجز على تقدير اجتماع الشرائط ، لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا.

أقول : المراد من استصحاب الحكم الشخصي هو استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي يجري في الموارد الجزئية ويشترك في إعماله المقلد والمجتهد ، فيكون اليقين والشك من كل مكلف موضوعا له (1) ولا إشكال في أنه يعتبر في جريانه فعلية الخاطب وتحقق الشرائط خارجا.

وأما استصحاب الحكم الكلي : فهو الذي يكون من وظيفة المجتهد إعماله ولاحظ

ص: 561


1- أقول : هذه الكلمات أيضا مبنية على البناء على عدم جريان الاستصحاب التعليقي ، وإلا فلا يصل النوبة إلى تشكيل هذا التنبيه والتتمة.

للمقلد فيه ، وهو وإن لم يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض تحقق الشرائط خارجا واختلال بعضها ليمكن فرض حصول الشك في بقاء الحكم الكلي ، بداهة أنه لولا فرض تحقق الشرائط واختلال بعضها لا يمكن حصول الشك في بقائه ، كما في استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فإنه وإن كان لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، إلا أنه لابد من فرض وجوده في مقام الاستصحاب - وقد تقدم توضيح ذلك في الاستصحاب التعليقي - فاستصحاب بقاء التكليف بالمركب عند تعذر بعض أجزائه وإن كان وظيفة المجتهد ولا يتوقف إعماله على تنجز التكليف وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع بما له من الشرائط خارجا ليجري استصحاب بقاء التكليف على هذ التقدير ، ولكن فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار من الوقت ، فان المفروض : أن التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع وإلا لم يجر الاستصحاب رأسا ، فالذي يحتاج إليه في المقام هو فرض دخول الوقت مع كون المكلف واجدا لشرائط التكليف ، فيستصحب وجوب بقية الاجزاء عند تعذر البعض ولو في أول الوقت.

ولا يتوهم : أنه مع عدم فرض طرو التعذر بعد الوقت يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فإنه إنما يرجع إليه إذا كان وجود الجزء المتعذر من مقومات المتعلق وأركانه ، لا من خصوصياته وحالاته. نعم : بالنسبة إلى فرض دخول الوقت لابد منه ، وإلا يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فتأمل.

ثم لا يخفى عليك : أن التمسك بالاستصحاب أو ب « قاعدة الميسور » إنما ينفع في غير باب الصلاة ، وأما في الصلاة فلا أثر للاستصحاب أو « قاعدة الميسور » لقيام الدليل على أن « الصلاة لا تسقط بحال » إلا في صورة فقدان الطهورين.

ص: 562

- التنبيه الرابع عشر -

المراد من « الشك » الذي اخذ موضوعا في باب الأصول العملية وموردا في باب الامارات ليس خصوص ما تساوى طرفاه ، بل يشمل الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق ، فالمراد من « الشك » في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو خلاف اليقين ، لأنه من أحد معانيه - كما هو المحكي عن الصحاح - مضافا إلى ما تقدم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي : من أن الشك إنما اخذ موضوعا في الأصول العملية من جهة كونه موجبا للحيرة وعدم كونه محرزا وموصلا للواقع ، لا من جهة كونه صفة قائمة في النفس في مقابل الظن والعلم ، فكل ما لايكون موصلا ومحرزا للواقع ملحق بالشك حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، كما أن كل ما يكون موصلا للواقع ومحرزا له ملحق بالعلم حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، فالظن الذي لم يقم دليل على اعتباره حكمه حكم الشك ، لاشتراكهما في عدم إحراز الواقع وعدم إيصالهما إليه.

وحينئذ لا حاجة إلى دعوى : كون رفع اليد عن اليقين السابق بسبب الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره يرجع إلى نقض اليقين بالشك للشك في اعتبار الظن ، فيندرج في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ». مع أن في هذه الدعوى مالا يخفى ، فان متعلق الشك هو حجية الظن ومتعلق الظن هو الواقع ، فلا يمكن أن يكون رفع اليد عن اليقين عند الظن بالواقع نقضا لليقين بالشك ، بل هو نقض لليقين بالظن ، فنحتاج إلى إثبات كون الظن ملحقا بالشك حكما أو موضوعا. هذا تمام الكلام في تنبيهات الاستصحاب.

* * *

ص: 563

خاتمة
اشارة

ينبغي ختم الكلام في الاستصحاب بذكر أمور :

- الأول -
اشارة

يعتبر في الاستصحاب اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فان الحكم المجعول في الاستصحاب - من البناء العملي على بقاء المتيقن وجر المستصحب في الزمان - يقتضي اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، سواء قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن أو من باب بناء العقلاء ، فإنه على جميع التقادير يتوقف حقيقة الاستصحاب على اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فلو اختلف المتعلقان خرج عن الاستصحاب.

ولعمري! إن ذلك بمكان من الوضوح ، فإنه من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بما ذكره الشيخ قدس سره من أنه « لولا اتحاد المتعلقين يلزم بقاء العرض بلا موضوع أو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، وكل منهما بمكان من الاستحالة » فان الاستدلال بذلك تبعيد للمسافة بلا موجب (1) لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب والحكم المجعول

ص: 564


1- 1 - أقول لو بنينا على إمكان انتقال العرض أو بقائه بلا معروض لا يكفي مجرد عدم اتحاد الموضوع في حال الشك مع الموضوع في حال اليقين لمنع جريان الاستصحاب ، لان المعتبر فيه الشك في بقاء المستصحب بما له من الخصوصية الثابتة له حال حدوثه ، ومنها خصوصية معروضه ، ومن المعلوم : ان هذا المعنى على ما ذكر من المبنى محفوظ حتى مع احتمال تبدل الموضوع حين الشك ، إذ حينئذ لا قصور في صدق الشك في بقاء شخص العرض القائم بالمحل السابق ، فيشمله حينئذ دليل التعبد ، بخلاف ما لو بنينا على الاستحالة ، فإنه بملاحظة احتمال تبدل الموضوع وإن يشك في العرض ، ولكن هذا الشك يلازم مع الشك في استعداد المستصحب للبقاء ، فبناء على اعتباره - على مختاره - فلا مجال لاستصحابه. وإلى ذلك نظر شيخنا العلامة في إقامة البرهان ، فلا مجال لرده بأنه من باب تبعيد المسافة ، إذ الكلام في البقاء التعبدي لا الحقيقي ، وان البرهان يناسب الأول لا الثاني ، فلا يكون في المقام محل لهذا البرهان ، كما تخيل بعض من الأساطين.

فيه لا يعقل تحققه إلا باتحاد القضيتين ولابد من إحراز الاتحاد ، فلا يجري الاستصحاب مع الشك فيه ، لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، كما لا يخفى.

ولا فرق في ذلك بين الاستصحابات الحكمية وبين الاستصحابات الموضوعية ، كما لا فرق بين المحمولات الأولية وبين المحمولات المترتبة ، غايته أنه في المحمولات الأولية يكون الموضوع نفس الماهية المعراة عن الوجود والعدم ، وفي المحمولات المترتبة يكون الموضوع الماهية المقيدة بالوجود أو العدم.

وتوضيح ذلك : هو أن الشك تارة : يكون في المحمولات الأولية من الوجود والعدم. وأخرى : يكون في المحمولات المترتبة من القيام والقعود والكتابة والعدالة ونحو ذلك من المحمولات التي لا يصح حملها على الماهية إلا بعد وجودها ، سواء كان بلا واسطة كالقيام والقعود ، أو كان مع الواسطة كحركة الأصابع ، فان الشخص إنما يكون متحرك الأصابع بتوسط الكتابة.

فان كان الشك في المحمول الأولي : فالموضوع في القضية المشكوكة والقضية المتيقنة نفس الماهية المجردة عن الوجود والعدم ، فإنه لا يمكن الشك في وجود الشيء بقيد كونه موجودا ، بل لابد من فرض الشيء ، بما له من التقرر الذهني معرى عن الوجود والعدم ، ليستصحب وجوده إن كان مسبوقا بالوجود ، أو عدمه إن كان مسبوقا بالعدم ، ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة في استصحاب الوجود والعدم ، فان الشيء الذي يشك في بقاء

ص: 565

وجوده أو عدمه هو عين الشيء الذي كان متيقن الوجود أو العدم ، وذلك واضح.

وإن كان الشك في المحمول المترتب - كالشك في بقاء عدالة زيد - فالمحمول الأولي يكون جزء للموضوع ولابد من إحرازه في مقام استصحاب المحمول المترتب.

فان كان الموضوع محرزا بالوجدان وكان الشك متمحضا في بقاء المحمول المترتب - كما إذا علم بوجود زيد وشك في بقاء عدالته - فلا إشكال في جريان الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين (1) فان الشك إنما هو في عدالة من كان متيقن العدالة ، فيتحد متعلق الشك واليقين.

وإن لم يكن الموضوع محرزا بالوجدان بل تعلق الشك بكل من الموضوع والمحمول الثانوي - كما إذا شك في وجود زيد وعدالته - فتارة : يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع بحيث لو أحرز الموضوع كان المحمول المترتب محرزا أيضا ، كما إذا شك في مطهرية الماء لأجل الشك في بقاء إطلاقه أو شك في نجاسة الماء لأجل الشك في بقاء تغيره. وأخرى : لا يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع ، بل كان كل منهما متعلقا للشك مستقلا عن منشأ يخصه ، كما إذا شك في حياة زيد لاحتمال موته وعدالته لاحتمال فسقه ، بحيث لو كانت الحياة محرزة كانت عدالته مشكوكة أيضا.

ص: 566


1- أقول : لولا البرهان السابق : من امتناع بقاء العرض بلا موضوع ، أو قلنا : بعدم لزوم إحراز الاستعداد في المستصحب وقلنا : بحجية الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي ، لا نحتاج في استصحاب المحمولات الثانوية بنحو مفاد كان التامة إلى إحراز وجود الموضوع ، بل الاستصحاب جار حتى مع الشك في الموضوع. نعم : بنحو مفاد كان الناقصة يحتاج إلى وجوده ، لان إثبات شيء لشيء ولو تعبدا فرع ثبوت المثبت له. ثم في هذا الفرض لا يكفي استصحاب الموضوع لاثبات المحمول ، لعدم كون الترتب شرعيا ، فينبغي له حينئذ ان يتعرض هذا الشق أيضا.

فان كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع فلا إشكال في أن جريان الأصل في الموضوع يغني عن جريانه في المحمول المترتب ، لأنه رافع لموضوعه إذا كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم بحقيقته بحدوده وقيوده بحيث كان الشك متمحضا في بقاء الموضوع.

وأما لو كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في حقيقة الموضوع - لتردده بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، كما إذا شك في أن موضوع النجاسة ومعروضها هو ذات الكلب بما له من المادة الهيولائية المحفوظة في جميع التبدلات والانقلابات حتى في حال انقلابه ملحا ، أو أن موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية الزائلة عند انقلابه ملحا - فلا يجري الاستصحاب ، لا في ناحية الموضوع ، ولا في ناحية المحمول إذا صار الكلب ملحا (1).

أما في ناحية المحمول : فللشك في موضوعه ، لاحتمال أن يكون موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية.

وأما في ناحية الموضوع : فلان الموجود في الحال يباين الموجود سابقا ، لان تمايز الأشياء إنما يكون بالصور النوعية ، والملح يباين الكلب بما له من الصورة النوعية ، فالمتيقن السابق انعدم قطعا بانقلاب الكلب ملحا ، والموجود في الحال لم يكن موجودا سابقا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل الاستصحاب في المقام يكون أسوء حالا من استصحاب بقاء المعلوم بالاجمال عند خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء بتلف أو امتثال أو نحو ذلك ، وقد تقدم في بعض مباحث الأقل والأكثر عدم جريان الاستصحاب فيه. هذا إذا أريد استصحاب ذات الموضوع.

ص: 567


1- أقول : والأولى ان يقال : إنه بناء عليه يرجع استصحاب الموضوع إلى استصحاب الشخص المردد بنحو الاجمال بين الباقي والزائل.

وإن أريد استصحاب الموضوع بوصف كونه موضوعا للنجاسة فهو يرجع إلى استصحاب النجاسة ، وقد عرفت : أنه لا يجري ، للشك في موضوعها.

فتحصل : أن الشك في المحمول المترتب إن كان مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم به فجريان الأصل في ناحية الموضوع يغني عن جريانه في ناحية المحمول إذا كان الأصل السببي واجدا للشرائط المعتبرة في الشك السببي والمسببي ، على ما تقدمت الإشارة إليه.

وإن كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك فيما هو الموضوع فالاستصحاب لا يجري ، لا في ناحية الموضوع ولا في ناحية المحمول. هذا كله إذا كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في الموضوع. وإن كان كل من الموضوع والمحمول متعلقا للشك في عرض واحد ، فتارة : يكون الموضوع مما يتوقف عليه وجود المحمول عقلا ، كتوقف العدالة على الحياة. وأخرى : مما يتوقف عليه شرعا ، كتوقف الكرية العاصمة على إطلاق الماء ، فان الكرية لا تتوقف على كون الماء مطلقا ، لتحقق الكرية مع إضافة الماء ، إلا أن الشارع اعتبر في الكرية إطلاق الماء ، فيكون دخل الاطلاق في الكرية شرعيا (1) بخلاف دخل الحياة في العدالة فإنه عقلي.

فان كان التوقف شرعيا : يجري الاستصحاب في كل من الموقوف والموقوف عليه ، ويثبت بالاستصحابين الأحكام الشرعية المترتبة على وجود المستصحبين ،

ص: 568


1- أقول : في المثال عصمة الماء يتوقف على القيدين شرعا بلا قيام أحد القيدين بالآخر. نعم : في المثال الثاني يكون العدالة متقوما بالحياة وقائما بالوجود ، فمع الشك في الحياة لا مجال لاستصحاب العدالة ، لما تقدم من البرهان ، والعدالة على تقدير الحياة الحقيقي أيضا غير مثمر في ترتيب الأثر ، لعدم ترتب الأثر إلا على العدالة الفعلية ، واستصحاب الحياة أيضا لا يفي لاثبات التقدير كما لا يفي لاثبات اثر العدالة الفعلية ، لكونه مثبتا ، كما لا يخفى ، فتدبر. وحينئذ فما أفيد في مثله : من إحراز القيدين بالاستصحاب غير صحيح ، خصوصا بملاحظة ما أفيد : من أن القيدين عرضان لمحل واحد ، فتدبر.

ففي المثال يجري استصحاب كل من إطلاق الماء وكريته ويثبت به كون الماء عاصما لا يحمل خبثا ، فان استصحاب إطلاق الماء كما يجدي في الآثار المترتبة على إطلاق الماء : من كونه رافعا للحدث والخبث ، كذلك يجدي في دخله في الكرية ، لكونه شرعيا ، وهذا المقدار من الدخل الشرعي يكفي في صحة الاستصحاب. ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الكرية والاطلاق.

وإن لم يكن التوقف شرعيا : كالحياة والعدالة ، فقد يستشكل في استصحاب الحياة والعدالة. أما في العدالة : فللشك في موضوعها. وأما في الحياة : فلعدم كون دخله في العدالة شرعيا ، فمن حيثية دخله في العدالة لا يجري فيه الاستصحاب وإن كان يجري فيه الاستصحاب من حيث الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، كحرمة تزويج زوجته وعدم تقسيم أمواله ونحو ذلك ، وليس الكلام فيه ، وإنما الكلام في استصحاب الحياة من حيث ترتب العدالة عليه ، مع أن ترتب العدالة على الحياة عقلي.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان استصحاب الحياة إنما يجري من حيث إن للحياة دخلا في الحكم الشرعي المترتب على الحي العادل ، كجواز تقليده والاقتداء خلفه ونحو ذلك من الأحكام الشرعية المترتبة على حياة الشخص وعدالته ، ولا حاجة إلى استصحاب الحياة من حيث دخله في العدالة حتى يقال : إن دخله في العدالة عقلي ، فإنه لا ملزم إلى استصحاب الحياة من هذه الحيثية.

وبالجملة : بعدما كان الموضوع لجواز التقليد مركبا من الحياة والعدالة وهما عرضان لمحل واحد ، فلابد من إحراز كلا جزئي المركب ، إما بالوجدان وإما بالأصل.

فإذا كانت الحياة محرزة بالوجدان : فالاستصحاب إنما يجري في العدالة ،

ص: 569

ويلتئم الموضوع المركب من ضم الوجدان بالأصل. وإن كانت الحياة مشكوكة : فالاستصحاب يجري في كل من الحياة والعدالة ، ويلتئم الموضوع المركب من ضم أحد الأصلين بالآخر ، لان كلا منهما جزء الموضوع ، فلكل منهما دخل في الحكم الشرعي.

وإن كان دخل أحدهما في الآخر عقليا : فلا مانع من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة. نعم : لا يجري استصحاب عدالة الحي ، لعدم إحراز الحياة ، وإنما يجري استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، وهذا التقدير يحرز باستصحاب الحياة.

وليس المقصود إثبات الحياة من استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بل في نفس الحياة أيضا يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة ، لان الموضوع في كل منهما هو الشخص ، فيثبت كلا جزئي الموضوع لجواز التقليد.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره في المقام بقوله : « لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ، لان موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة الخ ».

فتحصل : أن في جميع أقسام الشك في المحمولات الأولية وفي المحمولات المترتبة يجري الاستصحاب بعد بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : أن الشك في المحمول الأولي أو المحمول المترتب لا يحصل غالبا - بل دائما - مع بقاء القضية المتيقنة على ما كانت عليها من الخصوصيات المحتفة بها ،

ص: 570

بل لابد وأن يحصل فيها تغير واختلاف يوجب الشك في بقائها ، وعلى هذا يشكل إحراز اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كثير من الموارد (1) ولذلك اشتهر بين المتأخرين : « ان الموضوع في باب الاستصحاب إنما يؤخذ من العرف لا من العقل ولا من دليل الحكم » وتوضيح البحث في ذلك يستدعي تقديم أمور :

الأول : محل الكلام والاشكال إنما هو في الاستصحابات الحكمية ، وأما الاستصحابات الموضوعية : فالغالب فيها اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، ولا يتفاوت الحال فيها بين أخذ الموضوع من العرف أو العقل أو الدليل ، ففي مثل استصحاب حياة زيد أو قيام عمرو تكون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة عقلا وعرفا ودليلا ، فلا يختلف العرف والعقل فيها.

نعم : قد يتفق في بعض الاستصحابات الموضوعية اختلاف العرف والعقل في اتحاد القضيتين ، كما في استصحاب كرية الماء إذا نقص منه مقدار يشك في بقائه على الكرية ، وكما في استصحاب الزمان والزماني المبني على التقضي والتصرم ، فان القضية المشكوكة تباين القضية المتيقنة عقلا ولا تباينها عرفا ، بالبيان المتقدم في استصحاب الليل والنهار.

وهذا بخلاف الاستصحابات الحكمية ، فان الغالب فيها اختلاف القضيتين (2) لأن الشك في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه من الخصوصيات

ص: 571


1- أقول : في كل مورد يكون الشك في بقاء المحمول من جهة الشك في علته الخارجة عن موضوعه ومعروضه لا يضر ذلك بالشك في بقاء ما تيقن حقيقته موضوعا ومحمولا ، بل القضية المشكوكة حينئذ عين القضية المتيقنة ، فتدبر.
2- 2 - أقول : تنقيح المقام وتوضيح المرام يقتضي ان يقال أولا : انه لا اشكال في أن كل عنوان إذا أحرز مفهومه ومعناه بالرجوع إلى العرف في شرح لفظه ، فلا شبهة في أنه يحكي عن حقيقته ، من دون فرق بين عنوان بقاء الشيء أو الاتحاد بين الشيئين وغيرهما ، فإنهما أيضا كالماء والكلاء من المفاهيم المحرزة من العرف في مقام شرح لفظها ، وفي هذا المقام لا مجال للاختلاف بين العقل والشرع أصلا ، إذ لا طريق للعقل في كشف المفاهيم الحاكية عن حقيقة الشيء إلا العرف خاصا أم عاما. نعم : ربما يقع الاختلاف بينهما ، تارة : فيما قام به عنوان البقاء والاتحاد ، وأخرى : فيما ينتزع منه هذين العنوانين. وتوضيحه بان يقال : إنه تارة : يكون مثل هذين العنوانين في حيز الخطاب ، فلا شبهة في حكايتهما عن واقعهما وحقيقتهما دقة وعقلا ، وحينئذ لا يكون اختلاف العرف والعقل في نفس هذا العنوان ، وانما اختلافهما يتمحض فيما تقوم به هذا العنوان وهو موضوع الحكم في القضية المتيقنة ، إذ فيه ربما يرى العقل شيئا لا يصدق حقيقة في الزمان الثاني بقائه حتى لو التفت العرف إليه لا يرى بقائه ، ويرى العرف شيئا يصدق عليه البقاء حقيقة حتى بنظر العقل. فحينئذ اختلاف العرف والعقل ليس إلا فيما قام عليه عنوان البقاء حقيقة ، لا في نفسه ، ففي هذا الفرض لابد وان يرجع النزاع في الباب إلى ما سيق لسان التعبد ببقاء الشيء بلحاظ اي موضوع من العقلي أو العرفي؟ بملاحظة ما يفهمون من دليل الكبرى ، أو ما يفهمون من نظائره من سنخ هذا الحكم من سائر أحكامهم. و تارة: لا يكون عنوان البقاء و الاتحاد في حيز الخطاب، بل انما ينتزع مثل هذه العناوين من إرجاع الشك إلى اليقين بتوسيط لحاظ اليقين بشي ء في متعلق الشك، إذ مثل هذا اللحاظ يقتضي نحوا من الاتحاد بينهما الموجب لانتزاع البقاء عنه أيضا. و حينئذ نقول: إن اتحاد هذا اللحاظ مختلفة، فتارة: يكون اللحاظ متعلقا بالشي ء بتمام خصوصياته المحفوظة فيه دقة، و أخرى: يكون اللحاظ بالمتيقّن لا بهذه الخصوصية، و يعبّر عنه بالنظر المسامحي. ثم الملحوظ تارة: نفس ذات الشي ء، و أخرى: ذاته بما هو مدلول الدليل. و ذلك أيضا تارة: بما هو مدلوله بدوا، و أخرى: مستقرّا، و لو بتوسيط القرائن متصلة أو منفصلة. و من المعلوم: أنّه من أي نحو من النّظر ينتزع نحو من البقاء، و في هذه الصورة ليس مدار اختلاف العرف و العقل في صدق البقاء من جهة الاختلاف في حقيقة البقاء و لا من جهة اختلافهما في حقيقة الموضوع، بل ربما يفهم حقيقة الموضوع الحكم في دليل الكبرى بنحو يراه العقل موضوعا بحيث لا يصدق عليه البقاء حقيقة حتّى بنظر العرف، و لكن مع ذلك في إرجاع الشك إلى اليقين ربما يكون بلحاظ و نظر مسامحي موجب لانتزاع عنوان البقاء و الاتحاد المسامحي، و لازم ذلك كفاية هذا المقدار في تطبيق عموم «لا تنقض» دقة عقلا، و لكن لا يكفي في تطبيق عنوان «تعبد بالبقاء» على المورد دقة. من هنا ظهر: انه على هذا المسلك لا يحتاج إلى تنقيح موضوع كبرى الدليل كي يفرق بين الأحكام العقليّة و النقليّة ثم في العقلية يتشبّث إلى فهم العرف موضوعا آخر بمناسبات ارتكازية عندهم، بل الموضوع أيما كان حتى مع فرض معرفة العرف إياه دقة ، ولكن بعدما كان نظره في ارجاع الشك إلى المتيقن نظرا مسامحيا يكتفى بهذا المقدار في تطبيق عموم « لا تنقض » دقة ، ففي هذا المسلك أيضا لا يحتاج إلى جعل فهم العرف قرينة على كشف المراد من الدليل في الكبرى وجعل ظهوره على الخلاف بدويا ، بل يكفي في تطبيق عموم « لا تنقض » حينئذ دقة مجرد المسامحة في النظر في ارجاع الشك إلى اليقين ، وان كان الموضوع واقعا وحقيقة هو الذي اقتضاه ظهور دليله بلا قيام قرينة على خلافه ، وحينئذ نتيجة هذا المسلك جواز الاكتفاء ببقاء الموضوع مسامحة عرفية ، ولا يحتاج إلى المسامحة في موضوع الكبرى في فهم العرف من كبرى الدليل ولو بنظرهم دقة ، بخلاف المسلك الأول من تنقيح موضوع الدليل ، كي يصدق عنوان البقاء المأخوذ في حيز الخطاب على المورد دقة ، ولعمري! ان المقرر نظر إلى المسلك الأول وقال ما قال. و التحقيق اختيار المسلك الثاني، إذ ليس في البين عنوان «بقاء» و عنوان «اتحاد» في لسان الدليل أصلا، و إنما ينتزع مثل هذه العناوين من إرجاع الشك إلى اليقين بالنظر الشخصي، و حينئذ فلا بدّ من تنقيح هذا النّظر، بلا احتياج إلى تنقيح موضوع الحكم في دليل الكبرى، و عليه نقول: انه يكفي لإثبات كون النّظر في إرجاع الشك إلى اليقين مسامحيا نفس مورد النصوص، إذ من المعلوم بحسب المورد اليقين دقة متعلق بالحدوث و الشك دقة متعلق بالبقاء، فيستحيل ان يكون الشك راجعا إلى متعلق اليقين دقة، بل لا بد و ان يكون النّظر في إرجاع الشك إلى اليقين مسامحيا، و حينئذ يكفي في تطبيق هذا العام دقة مجرد اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة مسامحة، و لا يحتاج إلى الاتحاد الحقيقي كي يحتاج إلى استفادة كون الموضوع في الكبرى شيئا قابلا للبقاء الحقيقي كي يصدق عليه الاتحاد دقة، و من التأمل فيما ذكرنا ظهر مواقع النّظر في كلمات المقرّر الناشئ عن اعوجاج المسلك، فتدبر في المقام فانه من مزال الأقدام!.

ص: 572

لا يمكن إلا في باب النسخ ، وأما في غير باب النسخ : فالشك في بقاء الحكم غالبا أو دائما يستند إلى انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، فيحصل الاختلاف بين القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، من غير فرق في ذلك بين الأحكام الشرعية المستكشفة من المستقلات العقلية بقاعدة الملازمة وبين الأحكام الشرعية المستكشفة من الأدلة السمعية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها ، لاشتراك الكل في توقف حصول الشك على انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ولذلك مست الحاجة إلى أخذ الموضوع من العرف والرجوع إليه في

ص: 573

اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لاختلاف العقل والعرف والدليل في ذلك ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ).

الامر الثاني : لا إشكال في أن المرجع في مفاهيم الألفاظ ومداليلها إنما هو العرف العام (1) سواء وافق عرف اللغة أو خالفه ، ولا عبرة باللغة إذا كان العرف العام على خلافها ، فان الألفاظ تنصرف إلى مفاهيمها العرفية بحسب ما ارتكز في أذهان أهل المحاورات ، فعند تعارض العرف واللغة في مفهوم اللفظ يحمل على المفهوم العرفي ، سواء كان أعم من المفهوم اللغوي أو أخص منه ، بل ولو كان مباينا معه لو اتفق ذلك ، فلابد من الرجوع إلى العرف في تشخيص مفهوم الحنطة والزبيب والعنب والحطب وغير ذلك من الموضوعات الخارجية.

الامر الثالث : لا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، ولا يرجع إلى العرف في تشخيص المصاديق بعد تشخيص المفهوم ، فقد يتسامح العرف في استعمال الألفاظ وإطلاقها على ما لايكون مصداقا لمعانيها الواقعية ، فإنه كثيرا ما يطلق لفظ « الكر » و « الفرسخ » و « الحقة » وغير ذلك من ألفاظ المقادير والأوزان على ما ينقص عن المقدار والوزن أو يزيد عنه بقليل.

فالتعويل على العرف إنما يكون في باب المفاهيم ، ولا أثر لنظر العرف في باب المصاديق ، بل نظره إنما يكون متبعا في مفهوم « الكر » و « الفرسخ » و « الحقة » ونحو ذلك ، وأما تطبيق المفهوم على المصداق : فليس بيد العرف ، بل هو يدور مدار الواقع ، فان كان الشيء مصداقا للمفهوم ينطبق عليه قهرا ، وإن لم يكن مصداقا له فلا يمكن أن ينطبق عليه ، ولو فرض أن العرف يتسامح أو يخطئ في التطبيق ، فلا يجوز التعويل على العرف في تطبيق المفهوم على المصداق مع العلم بخطائه أو مسامحته أو مع الشك فيه ، بل لابد من العلم بكون

ص: 574


1- أقول : بعد التأمل فيما ذكرنا في المقام ترى بأن هذه المقدمات أجنبية عن المطلب.

الشئ مصداقا للمفهوم في مقام ترتيب الآثار.

إذا تمهد ذلك فنقول : قد يستشكل فيما أفاده الشيخ قدس سره من الترديد بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل.

أما أولا : فبأن الرجوع إلى العقل إنما يستقيم في المستقلات العقلية ، وأما الموضوعات الشرعية : فليس للعقل إليها سبيل (1) فان مناطات الأحكام الشرعية ليست بيد العقل ، فلا معنى للرجوع إلى العقل في موضوعات الأحكام الشرعية المستكشفة من الطرق السمعية.

وأما ثانيا : فبأنه لا وجه للمقابلة بين ما اخذ في الدليل موضوعا وبين ما يراه العرف موضوعا ، فان العرف ليس مشرعا يجعل موضوعا في مقابل موضوع الدليل. وإن أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه ، فهو صحيح ، إلا أنه لا يختص بالمقام ، بل تشخيص معنى اللفظ ومفهومه إنما يرجع فيه إلى العرف مطلقا ، فلا معنى لجعل الموضوع العرفي مقابلا لموضوع الدليل في خصوص باب الاستصحاب. وإن أريد من الموضوع العرفي ما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل مع أنه ليس منها حقيقة ، فقد عرفت : أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان الترديد بين العقل والدليل والعرف إنما يكون بلحاظ مقام بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لا بلحاظ مقام تعيين أصل الموضوع ، حتى يقال : إن تعيين الموضوع إنما يكون بيد الشرع وليس للعقل والعرف إلى ذلك سبيل ، فان ذلك مما لا ينبغي توهمه في المقام ، بل المقصود هو أنه هل يعتبر في اتحاد القضيتين أن يكون المشكوك فيه عين المتيقن عقلا مطلقا؟ أو أنه يكفي في الاتحاد العينية

ص: 575


1- أقول : هذا الكلام أيضا أجنبي عن المقصود بعد التأمل فيما ذكرناه مفصلا.

العرفية مطلقا؟ أو أنه لا هذا ولا ذلك بل تختلف الموارد حسب اختلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل؟.

وتوضيح ذلك : هو أن الشك في بقاء الحكم الشرعي من غير جهة النسخ لا يمكن إلا بأحد وجهين : إما لاحتمال وجود الرافع أو الغاية للحكم فيشك في بقائه ، وإما لانتفاء بعض الخصوصيات التي كان الموضوع واجدا له أو وجود بعض ما كان فاقدا له ، فيحصل الشك في بقاء الحكم الشرعي.

فلو اعتبرنا في اتحاد القضيتين بقاء الموضوع عقلا يختص الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي على الوجه الأول ، ولا يجري الاستصحاب إذا كان الشك على الوجه الثاني ، بداهة أن كل خصوصية كان الموضوع واجدا أو عادما لها يحتمل عقلا أن يكون لها دخل في الموضوع ، فلا يمكن إحراز بقاء الموضوع بل يشك في بقائه ، فلا يجري استصحاب الحكم ، لما عرفت : من أنه لابد من الاستصحاب من إحراز بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

فان كان منشأ الشك في بقاء الحكم انتفاء بعض الخصوصيات ينسد باب الاستصحاب إذا كان المعتبر فيه بقاء الموضوع عقلا ، لان انتفاء الخصوصية عن الموضوع وإن لم يلازم العلم بارتفاع الموضوع عقلا ، إلا أنه يلازم الشك في بقائه. ولا سبيل إلى دعوى العلم بارتفاع موضوعات الأحكام الشرعية عند انتفاء بعض الخصوصيات ، بل لا يمكن دعوى العلم بارتفاع الموضوع عند انتفاء بعض الخصوصيات في موضوعات الاحكام العقلية ، كما تقدم بيان ذلك.

فما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من أن انتفاء بعض الخصوصيات يوجب العلم بارتفاع الموضوع عقلا ، مما لا يمكن المساعدة عليه بل أقصى ما يقتضيه هو الشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال أن تكون لتلك الخصوصية دخل في الموضوع ، ويحتمل أيضا أن لا تكون لها دخل فيه ، بل تكون علة

ص: 576

لحدوث الحكم فقط ، وقد عرفت : أن الشك في بقاء الموضوع كالعلم بعدمه يمنع عن جريان الاستصحاب ، فبناء على اعتبار بقاء الموضوع عقلا لا يجري الاستصحاب إذا كان الشك في بقاء الحكم لأجل انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، وينحصر الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود الرافع أو الغاية ، لبقاء الموضوع فيهما حقيقة واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة عقلا ، فان عدم الرافع والغاية ليس من قيود الموضوع وحدوده ليرجع الشك في وجودها إلى الشك في بقاء الموضوع ، بل ينعدم الموضوع بوجود الرافع والغاية قهرا ، فالرافع ما يكون وجوده معدما للموضوع ، لا أن عدمه قيد فيه ، وكيف يمكن أن يكون الموضوع مقيدا بما يوجب إعدامه؟ (1).

وبالجملة : الرافع هو الذي لا يمكن أن يجتمع مع الموضوع في الزمان ، وهذا لا يقتضي أن يكون عدمه قيدا في الموضوع ، بل لا يمكن ذلك. وكذا الغاية ، فإنها - على ما عرفت في أوائل الاستصحاب - عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الموضوع وعمره ، فلا تكون عدم الغاية قيدا في الموضوع ، فالشك في بقاء الحكم لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية لا يرجع إلى الشك في الموضوع ، بل يشك في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلا ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة حقيقة بالمداقة العقلية ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : أن المراد من « الرافع » في المقام ما يقابل المانع ،

ص: 577


1- أقول : بعد بطلان علية الوجود ومؤثريته في عدم شيء لاستحالة السنخية بين الوجود والعدم ، فامر المانع لا يتصور إلا بأحد الأمرين : إما بفرض المضادة بين الوجودين أو بتقيد الوجود بعدم غيره واخذ هذا التقيد في موضوع الحكم ، ولا مجال للمصير إلى الأول ، وإلا يخرج عدم المانع عن المقدمية ، وهو غير ملتزم به في جملة من كلماته ، فتعين الأخير ، ولازمه انتفاء الموضوع بنقيض قيده ، كما هو الشأن في جميع القيود. ومن العجب! برهانه بأنه كيف يمكن ان يكون الموضوع مقيدا بما يوجب اعدامه؟ إذ ما يوجب اعدامه هو وجوده ، وهو نقيض القيد ، لا نفسه.

لا ما يقابل المقتضي ، فان الرافع يستعمل في معنيين :

أحدهما : الامر الوجودي الذي يوجب رفع الشيء وإعدامه عن صفحة الوجود بعد حدوثه ووجوده ، ويقابله المانع ، وهو الذي يمنع عن حدوث الشيء ويزاحم رشح المقتضي وتأثيره في وجود المقتضى ( بالفتح ).

ثانيهما : الامر الزماني الذي يمنع عن تأثير المقتضي في اقتضائه لبقاء المقتضى ( بالفتح ) بعد تأثيره في الحدوث ، سواء كان الرافع وجوديا أو عدميا ، فالرافع المقابل للمقتضي أعم من الرافع المقابل للمانع ، لان الأول يعم الامر الوجودي والعدمي ، والثاني يختصن بالامر الوجودي ، فمثل زوال التغير عن الماء المتغير يكون رافعا بالمعنى الثاني (1) وهو الذي يقابل المقتضي ولا يكون رافعا بالمعنى الأول ، لان زوال التغير أمر عدمي لا يقابل المانع.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أنه بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي لم يبق فرق بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، فان المفروض : جريان الاستصحاب عند الشك في الرافع والغاية ولو مع اعتبار بقاء الموضوع عقلا ، فمهما رجع الشك في بقاء الحكم إلى الشك في وجود الرافع والغاية يجري الاستصحاب مطلقا ، سواء اخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، وإن كان الشك في بقاء الحكم لا لأجل الشك في وجود الرافع والغاية لا يجري الاستصحاب مطلقا ، سواء اخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، لأن الشك في بقاء الحكم من غير جهة الشك في وجود الرافع والغاية يرجع لا محالة إلى الشك في المقتضي ، والمفروض : عدم جريان الاستصحاب فيه ، فلم تظهر ثمرة بين أخذ الموضوع من العقل أو من العرف أو

ص: 578


1- أقول : الظاهر أن مثل زوال التغير ما كان من الأمور العدمية الموجبة لعدم تأثير المقتضى كون وجوده شرطا لتأثير المقتضى ، فبانتفائه ينتفى تأثيره ، فادخالها في عنوان « الرافع » لا يخلو عن تمحل. نعم : لا بأس به بمعناه اللغوي ، كما لا يخفى.

من الدليل.

وجه الدفع ، هو ما عرفت : من أن المراد من الرافع في محل البحث هو ما يقابل المانع ، لا ما يقابل المقتضي (1) وحينئذ تظهر الثمرة بين أخذ الموضوع من العقل أو من العرف أو من الدليل ، فإنه لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الزائل عنه التغير لا يجري الاستصحاب لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع عقلا ، لاحتمال أن يكون لوصف التغير دخل في موضوع النجاسة. وأما لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع عرفا فالاستصحاب يجري ، لبقاء الموضوع عرفا ، فان موضوع النجاسة ذات الماء وليس لوصف التغير دخل في الموضوع عرفا. وكذا لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل ، فإنه يجري فيه الاستصحاب على بعض الوجوه - كما سيأتي بيانه - مع أن الشك في بقاء النجاسة في لا يرجع إلى الشك في وجود الرافع المقابل للمانع ، ولا إلى الشك في المقتضي ، وذلك واضح.

هذا كله إذا كان المعتبر في اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة بقاء الموضوع عقلا.

وإذا كان المعتبر في الاتحاد بقاء الموضوع بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل : فجريان الاستصحاب وعدمه يدور مدار ما يستفاد من ظاهر الدليل. فان استفيد منه كون الخصوصية التي كان الموضوع واجدا لها من قيود الموضوع ، فالاستصحاب لا يجري عند زوال تلك الخصوصية. وإن استفيد منه كون الخصوصية علة لثبوت الحكم وكان منشأ الشك في بقاء الحكم احتمال كونها علة له حدوثا وبقاء ، فالاستصحاب يجري.

ص: 579


1- أقول : قد تقدم ان مرجع الرافع بالمعنى المزبور أيضا إلى كون عدمه قيدا ، وحينئذ لا فرق بين القيود من تلك الجهة في كون الشك فيها راجعا دقة إلى الشك في الموضوع. نعم : لو كان عدمه مأخوذا قيدا في ناحية الحكم لا بأس ببقائه دقة.

وعلى هذا ينبغي أن يفرق بين قوله علیه السلام « الماء المغير نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغير » (1) فان المعنى وإن كان لا يختلف ، إلا أن الأول ظاهر في كون التغير قيدا للماء فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغير ، والثاني ظاهر في كون التغير علة لعروض النجاسة على الماء فيكون الموضوع ذات الماء. فان كان الدليل من قبيل الأول لا يجري الاستصحاب إذا زال التغير ، للشك في بقاء الموضوع. وإن كان الدليل من قبيل الثاني يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع.

وهذا بخلاف ما إذا كان المعتبر بقاء الموضوع عقلا ، فإنه لا يجري الاستصحاب مطلقا ، لاحتمال أن يكون للتغير دخل في الموضوع وإن كان ظاهر الدليل لا يقتضي ذلك ، فلم يحرز بقاء الموضوع عقلا.

وإن كان المعتبر في اتحاد القضيتين بقاء الموضوع عرفا : فينبغي أن لا يفرق في جريان الاستصحاب في المثال بين الوجهين ، لبقاء الموضوع عرفا ، فان العرف بحسب ما هو المرتكز في ذهنه - من مناسبة الحكم والموضوع - يرى موضوع النجاسة نفس الماء والتغير علة لعروضها عليه. فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، ويكون عدم ترتيب آثار النجاسة على الماء الذي زال عنه التغير من نقض اليقين بالشك بنظر العرف.

وليس المراد من أخذ الموضوع من العرف الرجوع إليه في مفهوم الموضوع أو في مصداقه ، حتى يقال : إن الرجوع إلى العرف في المفهوم لا يختص بباب الاستصحاب بل تشخيص المفاهيم إنما يكون بيد العرف مطلقا في جميع المقامات ، أو يقال : إنه لا عبرة بنظر العرف في المصداق. بل المراد من أخذ الموضوع من العرف الرجوع إليه في تشخيص الموارد التي

ص: 580


1- لم نجد حديثا بهذين التعبيرين ، فالظاهر أنه رحمه اللّه أراد النقل بالمعنى ( المصحح ).

يصدق فيها نقض اليقين بالشك ، والرجوع إليه في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق.

وتوضيح ذلك : هو أن الألفاظ وإن كانت موضوعة للمعاني النفس الأمرية ، إلا أن تشخيص معنى اللفظ وتمييزه عما عداه إنما يرع فيه إلى العرف ، فقد يكون المعنى معلوما بالتفصيل بجميع حدوده وقيوده لدى العرف ، وقد لا يكون معلوما لديهم بالتفصيل وإن كان أصل المعنى على سبيل الاجمال مرتكزا في ذهنه ، ولذلك قد يشك في صدق المعنى على بعض ماله من المراتب ، ألا ترى؟ أن مفهوم « الماء » مع أنه من أوضح المفاهيم العرفية كثيرا ما يحصل الشك في صدقه على بعض الافراد ، كالماء المخلوط بمقدار من التراب على وجه لا يلحقه اسم الطين.

وبالجملة : الشك في صدق المفهوم على بعض المراتب والافراد ليس بعزيز الوجود ، بل في غالب المفاهيم العرفية يشك العرف في صدقها على بعض المراتب. وكون المعنى مرتكزا في ذهنه لا ينافي حصول الشك في الصدق ، ومن المعلوم : أن المرجع عند الشك في صدق المفهوم على بعض المراتب والافراد إنما هو العرف. فلو شك في صدق مفهوم الحطب على القصب يرجع فيه إلى العرف ، فان صدق عليه عنوان الحطب عرفا يثبت له آثار الحطب ، وإن لم يصدق عليه عنوان الحطب عرفا ، فان صدق عليه عنوان آخر فهو ، وإن استقر الشك وكان العرف بنفسه مترددا في الصدق وعدمه ، فالمرجع هو الأصول العملية. فظهر : أن الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق ، فان مورد الرجوع إليه في المصداق إنما هو بعد تبين المفهوم وتشخيص المعنى ، وهذا هو الممنوع عنه ، لأنه لا عبرة بنظر العرف في المصداق ، بل لابد من إحراز المصداق بعد أخذ المفهوم من العرف. وأما الرجوع إليه في الصدق : فهو إنما يكون في مورد إجمال المفهوم وعدم تشخيص المعنى ، ولابد من الرجوع إليه في

ص: 581

ذلك ، فان تشخيص المعنى من وظيفة العرف. هذا كله في المفاهيم الافرادية.

وأما الجمل التركيبية : فلابد فيها من اتباع نظر العرف فيما يستفاد منها ، لان المعتبر في الجمل التركيبية هو ظهور الجملة في المعنى بحسب المحاورات العرفية ، سواء وافق ظهور الجملة لظهور المفردات أو خالفه ، فإنه لا عبرة بالظهورات الافرادية ، بل المتبع هو الظهور النوعي للجملة. فلابد من الرجوع إلى المحاورات العرفية في تشخيص مدلول الجملة التركيبية ، من غير فرق في ذلك بين القضايا الشرعية وغيرها ، فكما يرجع إلى العرف فيما يستفاد من القضايا العرفية المستعملة في مقام إظهار مقاصدهم ، كذلك يرجع إلى العرف فيما يستفاد من القضايا الشرعية المستعملة في مقام إظهار الاحكام الواقعية أو الظاهرية.

ومن جملة القضايا الشرعية قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب « لا تنقض اليقين بالشك » فإنه لابد من الرجوع إلى العرف في مفاد ذلك ، لان صدق نقض اليقين بالشك وعدم صدقه إنما يكون أمرا عرفيا ، فقد يكون رفع اليد عن اليقين السابق بالشك اللاحق نقضا لليقين بالشك عرفا ، وقد لا يكون نقضا عرفا ، وقد يشك أيضا في صدق النقض وعدمه.

وهذا الاختلاف إنما يشنأ من اختلاف الموضوعات والاحكام بحسب ما يراه العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، فان العناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام تختلف.

فرب عنوان يكون بنظر العرف مقوما للموضوع لمناسبة الحكم والموضوع ، فيدور الحكم مدار وجود العنوان ، كقوله : « يجب إعطاء الزكاة للفقير » (1) وكقوله : « يجب تقليد المجتهد الحي » فان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون لعنوان الفقر والاجتهاد والحياة دخل في وجوب إعطاء الزكاة والتقليد ،

ص: 582


1- أقول : في كون الفقر والغناء من هذا القبيل - بحيث لا يجري استصحاب وجوب اعطائه عند الشك في فقره - إشكال.

فيرتفع موضوع الحكم عرفا إذا صار الفقير غنيا أو مات المجتهد أو زالت عنه ملكة الاجتهاد ، لان الغني يباين الفقير عرفا ، وكذا الحي والمجتهد يباين الميت والعامي ، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون الموضوع لوجوب الزكاة والتقليد خصوص الفقير والمجتهد الحي ، لا ذات الانسان ، فارتفاع الحكم بارتفاع وصف الفقر والاجتهاد والحياة إنما يكون لارتفاع الموضوع عرفا ، وإن كان ثبوتا لارتفاع علة الحكم لا موضوعه ، ولكن بنظر العرف يكون من ارتفاع الموضوع وتبدله إلى موضوع ، آخر يباين الموضوع السابق ، بحيث لو قام دليل على جواز إعطاء الزكاة أو جواز التقليد لمن زال عنه وصف الفقر أو الاجتهاد كان ذلك بنظر العرف تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ورب عنوان يكون بنظر العرف من الوسائط الثبوتية لعروض الحكم على موضوعه من دون أن يكون له دخل في الموضوع عرفا لمناسبة الحكم والموضوع ، كقوله : « الماء المتغير نجس » فان النجاسة بنظر العرف من الاعراض القائمة بذوات الأشياء ، فيكون موضوع النجاسة ومعروضها ذات الماء ، لا الماء المتغير ، بل التغير إنما يكون عرفا علة لعروض النجاسة على الماء ، فيكون الموضوع محفوظا عرفا عند زوال التغير عن الماء ، بحيث لو قام دليل على طهارته كان ذلك بنظر العرف من رفع الحكم عن موضوعه ، لا رفع الحكم بارتفاع موضوعه ، من غير فرق في ذلك بين قوله : « الماء المتغير نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغير » أو « إذا تغير الماء ينجس » فان اختلاف العبارة لا يوجب الاختلاف في نظر العرف ، لأنه على جميع التقادير معروض النجاسة ذات الماء والتغير واسطة لعروضها ، كما أنه لا فرق في القسم الأول بين قوله : « يجب إعطاء الزكاة للفقير » وبين قوله : « يجب إعطاء الزكاة للشخص إذا كان فقيرا » وغير ذلك من التعبيرات ، فإنه على كل حال يكون للفقر دخل في الموضوع عرفا. ورب عنوان يشك العرف في كونه من مقومات الموضوعات أو كونه من

ص: 583

العلل والوسائط الثبوتية ، كقوله : « لا يجب الوفاء بالعقد الضرري » فإنه يشك في أن عنوان « الضرر » من المقومات حتى لا يجب الوفاء بالعقد عند ارتفاع الضرر بالتمكن من فسخ العقد آنا ما - وإن لم يفسخ - فيكون الخيار على الفور ، أو أنه علة لعدم وجوب الوفاء بالعقد ، فلا يرتفع جواز العقد بالتمكن من الفسخ ، فيكون الخيار على التراخي.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أنه يعتبر في جريان الاستصحاب صدق نقض اليقين بالشك عرفا عند عدم ترتيب آثار المتيقن على المشكوك ، وصدق ذلك يتوقف على أن يكون العنوان بنظر العرف علة لثبوت الحكم - لا مقوما للموضوع - ليكون المشكوك فيه عين المتيقن عرفا ، فإنه لو كان العنوان مقوما للموضوع كان المشكوك فيه مباينا للمتيقن ، فيكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك - فلا يجري فيه الاستصحاب. وكذا لو شك في كون العنوان مقوما للموضوع أو علة لثبوت الحكم ، فإنه لا يجري الاستصحاب أيضا ، للشك في صدق النقض وعدمه ، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالاستصحاب إنما يجري في مورد علم من مناسبة الحكم والموضوع كون العنوان من العلل والوسائط الثبوتية.

وتوهم : أنه مع العلم بكون العنوان علة للحكم لا نحتاج إلى الاستصحاب لبقاء الموضوع فيكفي نفس دليل الحكم في إثباته عند ارتفاع العنوان ، فاسد فان مجرد كونه من العلل لا يكفي في بقاء الحكم بعد زواله ، لاحتمال أن يكون العنوان علة حدوثا وبقاء ، فيرتفع الحكم بارتفاع علته ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا التمسك بالاستصحاب.

وبالجملة : ثبوت الحكم عند انتفاء ما اخذ في الدليل عنوانا للموضوع يتوقف على أمرين - أحدهما : كون العنوان من علل ثبوت الحكم لا من قيود موضوعه ، ثانيهما : كون علة لحدوث الحكم من دون أن يكون بقائه علة لبقاء

ص: 584

الحكم ، والمتكفل لاثبات الامر الأول إنما يكون دليل الحكم بضم مناسبة الحكم والموضوع ، والمتكفل لاثبات الامر الثاني أخبار الاستصحاب ، لصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب آثار المتيقن على المشكوك ، فمن مجموع الدليلين - أي دليل الحكم ودليل الاستصحاب - يستفاد بقاء الحكم عند ارتفاع العنوان.

فتحصل : أن التعويل على العرف في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب ليس من التعويل عليه في مسامحاته وخطائه في التطبيق ، بل الوظيفة في أمثال المقام هو التعويل على العرف ، لان نظره هو المتبع.

وقد ظهر مما ذكرنا ثمرة الترديد بين أخذ الموضوع من العرف أو من العقل أو من الدليل في باب الاستصحاب ، ففي مثال الماء المتغير الذي زال عنه التغير يجري استصحاب النجاسة مطلقا إن بنينا على أخذ الموضوع من العرف ، ولا يجري الاستصحاب مطلقا إن بنينا على أخذه من العقل ، التفصيل بين أخذ عنوان التغير قيدا للموضوع في ظاهر الدليل أو شرطا للحكم - ففي الأول لا يجري الاستصحاب وفي الثاني يجري - إن بنينا على أخذ الموضوع من الدليل.

والأقوى : اتباع نظر العرف في بقاء الموضوع ولا عبرة بنظر العقل ، فإنه لا معنى للرجوع إلى العقل في مفاهيم الألفاظ وما يستفاد من دليل الحكم وخطاب « لا تنقض » (1) كما أنه لا عبرة بظاهر الدليل بعد ما كان المرتكز العرفي بحسب مناسبة الحكم والموضوع على خلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل ابتداء ، فإنه بعد الالتفات إلى المرتكز العرفي وما تقتضيه مناسبة الحكم

ص: 585


1- أقول : ولئن تأملت فيما أسلفناه لك ، لا ينبغي مجال لهذا الكلام ، كما أنه لا مجال لكلامه الآخر من قوله : « لا وجه للمقابلة بين الدليل والعرف » إذ لفهم العرف مضمون الخطاب مقام وللنظر في ارجاع الشك إلى اليقين مقام آخر ، إذ ربما يكون دائرة هذا النظر أوسع عندهم من الآخر. ولعمري! إن هذه الكلمات من نتايج المغالطة في أساس المطلب ، فتدبر.

والموضوع لم يبق للدليل ظهور على خلاف المرتكز العرفي.

ومن هنا صح أن يقال : إنه لا وجه للمقابلة بين الدليل والعرف ، فان مفاد الدليل يرجع بالآخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف ، لان المرتكز العرفي ومناسبة الحكم والموضوع يكون قرينة صارفة عما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء ، فلو كان الدليل ظاهرا بدوا في قيدية العنوان وكانت مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدمه فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، لأنها تكون بمنزلة القرينة المتصلة ، فلم يستقر للدليل ظهور على الخلاف ، فالمقابلة بين العرف والدليل إنما هو باعتبار ما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء مع قطع النظر عن المرتكز العرفي ، وإلا فبالأخرة يتحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع ما يقتضيه المرتكز العرفي ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

- الامر الثاني -

يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب في ظرف الشك متيقن الوجود سابقا ليكون الشك متمحضا في بقائه ، وبذلك يمتاز الاستصحاب عن « قاعدة اليقين » فان المتيقن في القاعدة إنما يكون مشكوك الحدوث في ظرف الشك ، ولذلك يعبر عنها بالشك الساري ، وقد تقدم سابقا : أنه لا يمكن أن يعمها أخبار الاستصحاب ، ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول :

إنه قد يتوهم شمول الاخبار للاستصحاب والقاعدة معا (1) بتقريب : أن

ص: 586


1- 1 - أقول : لو تأملت فيما قلت في وجه كون العام مسوقا بلحاظ الأنظار العرفية في البحث السابق ، يتضح لك وجه عدم الجمع بين القاعدتين ، لان قوام الاستصحاب بكون النظر في ارجاع القضية المشكوكة إلى المتيقنة - تبعا لصدق نقض أحدهما بالآخر - نظرا مسامحيا عرفيا ، وإلا فبالدقة القضية المشكوكة بقاء الشيء والمتيقنة حدوثه ، واحدهما غير الآخر ، فلا مجال حينئذ لصدق النقض دقة ، بل لابد من النظر إليه مسامحة ، ولازمه حينئذ كون النظر في ارجاع الضمير في الشك به أيضا مسامحيا ، ولو بالتجريد عن حيث الحدوث والبقاء ، كما أن في القاعدة قوامه بكون النظر في ارجاع الشك إلى اليقين دقيا ، ولا مجال للجمع بين النظرين - ولو في النقض - إلا لمن كان أحوال العينين!. و لئن أغمض عمّا ذكر لا يبقى مجال لما أفيد، إذ من البديهي ان اختلاف اليقينين كما يكون بالمتعلق كذلك يكون بالزمان، و اليقين في القاعدة هو اليقين الأمس، و اليقين في الاستصحاب هو اليقين الفعلي- خصوصا لو كان حادثا أيضا فعلا- و هما فردان من اليقين، و سيجي ء أيضا إبطال ما تشبّث به لمنع شمول اخبار الباب للقاعدتين (إن شاء اللّه تعالى) كما في الحاشية الآتية.

قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يدل على عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين ، ومنها اليقين في القاعدة ، فإنه فرد من أفراد اليقين ، فيعمه قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ولا يمنع عن ذلك اختلاف الاستصحاب والقاعدة في الأثر المترتب على عدم نقض اليقين بالشك ، حيث إنه في الاستصحاب يجب ترتيب آثار بقاء متعلق اليقين لا آثار حدوثه ، وفي القاعدة يجب ترتيب آثار ثبوت متعلق اليقين في ظرف تعلق اليقين به.

فلو تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم شك في عدالته في يوم السبت ، فان كان الشك في بقاء العدالة مع العلم بثبوتها في يوم الجمعة ، فعدم نقض اليقين بالعدالة بالشك فيها معناه : ترتيب آثار بقاء العدالة في يوم السبت الذي هو ظرف تعلق الشك بالعدالة ، وذلك مفاد الاستصحاب.

[ ترتيب آثار ثبوت العدالة في يوم الجمعة ] (1).

وان كان الشك في ثبوت العدالة في يوم الجمعة ، فعدم نقض اليقين بالعدالة بالشك فيها معناه : ترتيب آثار ثبوت العدالة في يوم الجمعة الذي هو ظرف تعلق اليقين بها ، وهذا مفاد القاعدة ، وليس مفادها ترتيب آثار بقاء العدالة في يوم السبت ، فمفاد القاعدة يخالف مفاد الاستصحاب. ولكن هذا الاختلاف لا يمنع عن اندراجهما في عموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فان الاختلاف في الأثر إنما هو لاختلاف الخصوصيات الفردية ، نظير

ص: 587


1- كذا في النسخة ، والظاهر أنها زائدة ، أو سقطت من أولها كلمة « لا » ( المصحح ).

اختلاف أثر عدم نقض اليقين بعدالة زيد مع أثر عدم نقض اليقين بقيام بكر.

والحاصل : أن اليقين بوجود الشيء في زمان مع تبدله إلى الشك في الوجود واليقين بوجود الشيء في زمان مع انحفاظه في زمان الشك فردان من اليقين يعمهما قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في هذا التقريب من الضعف ، فان اليقين في القاعدة ليس فردا مغايرا لليقين في باب الاستصحاب ، لان تغاير أفراد اليقين إنما يكون بتغاير متعلقاته - كاليقين بعدالة زيد وقيام بكر - وإلا فاليقين من حيث نفسه لا يتعدد ، ومتعلق اليقين في القاعدة والاستصحاب غير متعدد ، لان متعلق اليقين في كل منهما هو عدالة زيد ، وعدم انحفاظ اليقين في القاعدة وانحفاظه في الاستصحاب لا يوجب أن يكون اليقين في أحدهما فردا مغايرا لليقين في الآخر ، فان الانحفاظ وعدمه من الطوارئ اللاحقة لليقين بعد وجوده ، وذلك لا يقتضي تعدد أفراد اليقين مع وحدة المتعلق ، بداهة أن تعدد أفراد الطبيعة الواحدة إنما يكون لأجل اختلاف المشخصات الفردية حال وجود الافراد ، فلابد وأن يكون لكل فرد خصوصية حال وجوده يمتاز بها عن الفرد الآخر.

ومن المعلوم : أن اليقين في القاعدة ليس له خصوصية حال وجوده يمتاز بها عن اليقين في الاستصحاب ، بل الخصوصية إنما تلحق به بعد وجوده ، والخصوصية اللاحقة بعد الوجود لا تكون من الخصوصيات المفردة. فتوهم : أن اليقين في القاعدة فرد مغاير لليقين في الاستصحاب ويكون العموم الافرادي لليقين في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » شاملا لهما ، ضعيف غايته.

نعم : لا بأس بتوهم شمول إطلاق قوله : « لا تنقض » لهما ، بتقريب : أن الشك اللاحق في القاعدة وفي الاستصحاب إنما يكون من الأحوال والطواري

ص: 588

اللاحقة لليقين ، ولا مانع من إطلاق الحكم بالنسبة إلى الطواري اللاحقة للموضوع ، فإطلاق قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لحالتي بقاء اليقين وزواله يقتضي شمول الحكم للقاعدة والاستصحاب.

هذا ، ولكن التحقيق : أنه لا يمكن أن تعم أخبار الباب كلا من القاعدة والاستصحاب (1) لأنه لا يمكن الجمع بينهما في اللحاظ من جميع الجهات ، لا من جهة اليقين ولا من جهة المتيقن ولا من جهة النقض ولا من جهة الحكم.

أما من جهة اليقين : فلان اليقين في باب الاستصحاب إنما يكون ملحوظا من حيث كونه طريقا وكاشفا عن المتيقن ، وفي القاعدة يكون ملحوظا من حيث نفسه (2) لبطلان كاشفيته بعد تبدله إلى الشك.

ص: 589


1- أقول : الأولى في المقام ان يقال : انه بعد كون المراد من اليقين في القاعدتين هو اليقين المرآتي غاية الامر كل بحسب زمان وجوده كما أن المراد من النقض البناء منه بلحاظ الجري العملي على طبق اليقين أو المتيقن في المقامين كما أن المتيقن في البابين أمكن تجريده عن الزمان في البابين ، بان يراد اليقين بوجود مع الشك بهذا الوجود الجامع بين الحدوث والبقاء ، بلا لحاظ أحدهما في البين. عمدة الاشكال في الجمع في اطلاق النقض ، إذ هو في القاعدة حقيقي وفي الاستصحاب مسامحي ، ولا يمكن الجمع بينهما ، لما تقدمت الإشارة إليه في الحاشية السابقة ، فتدبر فيه.
2- أقول : كاشفية اليقين إنما هو بلحاظ زمانه ، فمعنى عدم النقض في القاعدة أيضا عدم رفع اليد عن الكاشف السابق ، وذلك لا ينافي مع عدم كشفه فعلا ، فاليقين في كلا البابين اخذ بنحو الكاشفية ، غاية الامر بلحاظ زمان وجوده فعلا أم سابقا. واما المتيقن : فلهذا القائل ان يقول : إن المتيقن هو طبيعة العدالة الجامعة بين الحدوث والبقاء ، وهذا معنى ثالث ينطبق على مورد الاستصحاب والقاعدة ، ونحن أيضا لا نريد إلا استفادة الجامع بين القاعدتين ، لا نفسهما. والمراد من النقض أيضا هو الجري العملي على طبق اليقين الجامع بين الباقي والزائل. ولعمري! إن هذا البيان حاك عن عدم الوصول إلى المقصد ، إذ تمام المقصد في وجه الامتناع هو الجمع بين اللحاظين في إطلاق النقض المستتبع لارجاع الشك إلى اليقين دقة ومسامحة ( واللّه العالم ) فتدبر. نعم: لو أغمض عن هذه الجهة لنا إشكال آخر في شمول الاخبار لقاعدة اليقين، و هو ان الظاهر من عنوان «اليقين» المأخوذ في اخبار الباب كون جريه بلحاظ حال النسبة الحكميّة في الكلام، و لازمه كونه فعليا في ظرف الحكم بالتعبد بحرمة نقضه ، وهذا مختص بالاستصحاب ولا يجري في القاعدة ، اللّهم إلا ان يقال : ان ظهوره من هذه الجهة معارض بظهور النقض في الحقيقة ، ولازم هذا الظهور حمله على القاعدة. نعم : الذي يسهل الخطب تطبيق الامام علیه السلام إياه على الاستصحاب.

وأما من جهة المتيقن : فلان المتيقن في الاستصحاب لابد وأن يكون معرى عن الزمان غير مقيد به ، وفي القاعدة لابد من لحاظه مقيدا بالزمان ، لان مفاد القاعدة إنما هو عدم نقض المتيقن في الزمان الذي تعلق اليقين به ، فلو تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة وفي يوم السبت شك في عدالته في يوم الجمعة ، فمعنى عدم نقض اليقين بالشك : هو عدم نقض اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة بالشك فها ، فلابد في القاعدة من لحاظ زمان حصول اليقين في الحكم بعدم انتقاض المتيقن في ذلك الزمان ، بخلاف الاستصحاب ، فإنه لا يلاحظ فيه زمان حصول اليقين.

وأما من جهة النقض : فلان نقض اليقين في الاستصحاب إنما يكون باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن ، وفي القاعدة إنما يكون باعتبار نفس اليقين ، وذلك من لوازم لحاظ اليقين موضوعا أو طريقا.

وأما من جهة الحكم : فلان الحكم المجعول في القاعدة إنما هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو النباء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك.

فالقاعدة تباين الاستصحاب من كل جهة من هذه الجهات الأربع ، فلا يمكن أن يعمهما أخبار الباب ، بل لابد وأن تكون الاخبار متكفلة لاعتبار أحدهما ، وحيث إن موردها لا ينطبق على القاعدة فلابد وأن تكون متكفلة لاعتبار الاستصحاب (1) فالقائل باعتبار القاعدة لابد من أن يلتمس دليلا آخر

ص: 590


1- أقول : ولعمري! إنه لا يفي شيء مما أفيد لمنع الجامع ، إذ هي بين ما لا يتم وبين ما لا يمنع عنه ، فتدبر فيما قلنا تعرف.

على ذلك. وقد يستدل لها بقاعدة الفراغ ، وسيأتي البحث عنها ( إن شاء اللّه تعالى ).

- الامر الثالث -

يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب مشكوك البقاء ، فلا مجال للاستصحاب لو أحرز بقاء المستصحب أو ارتفاعه ، من غير فرق بين الاحراز الوجداني الحاصل من العلم وبين الاحراز التعبدي الحاصل من الطرق والامارات ، فلا يجري الاستصحاب مع قيام الطريق على بقاء المستصحب أو ارتفاعه ، وكذا غير الاستصحاب من سائر الأصول العملية. وهذا في الجملة مما لا خلاف فيه ، إلا ما يظهر من بعض الكلمات في بعض المسائل الفقهية : من البناء على إعمال التعارض بين الامارات والأصول ، ولكنه ضعيف ، فلا ينبغي التأمل والاشكال في تقدم الامارات على الأصول العملية.

وإنما الاشكال في وجه ذلك ، فقد يقال - بل قيل - إن الوجه فيه هو كون الامارة رافعة لموضوع الأصل بالورود.

والأقوى : كونها رافعة لموضوعه بالحكومة لا بالورود ، وقد تقدم تفصيل الفرق بين الحكومة والورود في أول البراءة.

وإجماله : هو أن ورود أحد الدليلين على الآخر إنما يكون باعتبار كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر بعناية التعبد به ، وبذلك يمتاز عن التخصيص بعد اشتراكهما في كون الخروج في كل منهما يكون بالوجدان على وجه الحقيقة. ولكن يمتاز التخصص عن الورود بأن الخروج فيه يكون بذاته تكوينا بلا عناية التعبد (1) كخروج الجاهل عن موضوع قوله : « أكرم العلماء » وكخروج العالم

ص: 591


1- 1 - أقول : وبعبارة أخرى ، تارة : يكون خروج المورد عن تحت دليل آخر وعدم شموله له ذاتيا ، وأخرى : عرضيا وناشئا عن تصرف من ناحية الحاكم في البين ، بحيث لولا هذا التصرف لكان دليل المورود شاملا له ، فالأول داخل في اصطلاح التخصص والثاني في الورود ، وحينئذ يفرق بين الأدلة القطعية والتعبدية بخروج المورد عن الأصول في الأول بالتخصص وفي الثاني بالورود.

بالحكم عن مورد التعبد بالامارات وعن موضوع الأصول العملية مطلقا شرعية كانت أو عقلية. وأما الورود : فالخروج فيه إنما يكون بعناية التعبد ، كخروج الشبهة عن موضوع الأصول العقلية - من البراءة والاشتغال والتخيير - بالتعبد بالامارات والأصول الشرعية ، فإنه بالتعبد بها يتم البيان فلا يبقى موضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ويحصل المؤمن عن بعض أطراف الشبهة فلا يبقى موضوع لحكم العقل بالاحتياط وترتفع الحيرة فلا يبقى موضوع لحكم العقل بالتخيير.

فخروج الشبهة عند قيام الامارة أو الأصل الشرعي عليها عن موضوع حكم العقل بالبراءة والاحتياط والتخيير وإن كان على وجه الحقيقة ، إلا أن ذلك إنما يكون ببركة التعبد بالامارات والأصول ، فإنه لولا التعبد بها كانت الشبهة داخلة في موضوع الأصول العقلية ، ففرق بين العلم بحكم الشبهة وبين قيام الامارة أو الأصل عليه ، فإنه في الأول تخرج الشبهة عن موضوع الأصل العقلي بالتخصص لان العلم مما لا تناله يد التعبد الشرعي ، وفي الثاني تخرج الشبهة عن موضوع الأصل العقلي بالورود بعناية التعبد بالامارات والأصول ، فاستعمال الورود مكان التخصص وبالعكس يكون على خلاف الاصطلاح.

وعلى كل حال : الورود يشارك التخصص في النتيجة ، فان ورود أحد الدليلين على الآخر إنما هو باعتبار كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة. وبذلك يمتاز الورود عن الحكومة ، فان حكومة أحد الدليلين على الآخر لا توجب خروج مدلول الحاكم عن مدلول المحكوم وجدانا وعلى وجه الحقيقة ، بل الخروج في الحكومة إنما يكون حكميا.

ص: 592

فالحكومة تشارك التخصيص في النتيجة ، ولكن تمتاز عنه بأن التخصيص إنما يقتضي رفع الحكم عن بعض أفراد موضوع العام من دون أن يتصرف المخصص في عقد وضع العام أو في عقد حمله ، كقوله : « لا تكرم زيدا » عقيب قوله : « أكرم العلماء » فان مفاد قوله « لا تكرم زيدا » ليس إلا عدم وجوب إكرام زيد العالم.

وأما الحكومة : فهي لا تكون إلا بتصرف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر أو في عقد حمله ، بمعنى : أن دليل الحاكم إما أن يتصرف في موضوع دليل المحكوم بادخال ما يكون خارجا عنه أو باخراج ما يكون داخلا فيه ، كقوله : « زيد عالم » أو « ليس بعالم » عقيب قوله : « أكرم العالم » وإما أن يتصرف في محمول دليل المحكوم بتضييق دائرة الحكم وتخصيصه ببعض حالاته وأفراده ، كقوله - تعالى - « ما جعل عليكم في الدين من حرج » وكقوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » بناء على أن يكون الحرج والضرر من الحالات اللاحقة لنفس الاحكام ، لا لموضوعاتها ، كما أوضحناه في محله.

ولا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من دليل المحكوم ، كما توهمه بعض الاعلام من كلام الشيخ قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح ، حيث قال قدس سره : « وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر الخ » وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) ما يتعلق بشرح عبارة الشيخ قدس سره في ذلك المبحث ، والغرض في المقام مجرد التنبيه على أنه لا يعتبر في الحكومة التفسير وشرح اللفظ ، بأن يكون دليل الحاكم مصدرا بأداة التفسير أو ما يلحق به كتفسير قرينة المجاز لما أريد من لفظ ذي القرينة ، كقوله : « رأيت أسدا يرمي » حيث إن كلمة « يرمي » تكون شارحة ومفسرة لما أريد من لفظ « الأسد ». وكأن من اعتبر في الحكومة أن يكون دليل الحاكم بمدلوله اللفظي مفسرا لما أريد

ص: 593

من دليل المحكوم خص الحكومة بما كان من قبيل حكومة أصالة الظهور الجارية في قرينة المجاز على أصالة الظهور في ذيها ، وعلى ذلك بنى الاشكال في حكومة الامارات على الأصول العملية (1)ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعله سقط من القلم. (المصطلح).(2) حيث إنه ليس في أدلة الامارات ما يقتضي شرح ما ريد من أدلة الأصول ، فلا تكون الامارات حاكمة على الأصول.

وليت شعري! أنه ما الموجب لتخصيص الحكومة بذلك؟ فإنه لم يقم دليل على اعتبار الشرح والتفسير اللفظي في باب الحكومة ، بل سيأتي - في مبحث التعادل والتراجيح - أن الحكومة لا تختص بالأدلة اللفظية ، بل تأتي في اللبيات أيضا ، فدعوى : أنه يعتبر في الحكومة شرح اللفظ ، مما لم يقم عليها برهان ، بل لو بنينا على اختصاص الحكومة بذلك قل مورد الحكومة فان في غالب الحكومات ليس ما يقتضي التفسير وشرح اللفظ.

فالتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أزيد من تصرف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر وفي عقد حمله ولو لم يكن بلسان الشرح والتفسير ، بل لو كان مفاد تصرف أحد الدليلين بمدلوله المطابقي في مدلول الآخر ما تقتضيه نتيجة تحكيم المقيد والخاص على المطلق والعام كان ذلك أيضا من الحكومة ، مع أنه ليس في تحكيم المقيد على المطلق والخاص على العام ما يقتضي شرح اللفظ ، بناء على ما هو الحق عندنا : من أن التقييد والتخصيص لا يوجب استعمال لفظ المطلق والعام في خلاف ما وضع له ، بل التقييد والتخصيص يكون مبينا لموضوع

ص: 594


1- أقول : وإن بنى الأستاذ في كفايته منع الحكومة في الامارات على الأصول على هذه الجهة أيضا ، ولكن ذلك ليس عمدة وجهه ، بل عمدة ما منع الحكومة في المقام هو بنائه على توجه التنزيل في أدلة الامارات إلى المودى بلا نظر فيها إلى تتميم كشفه [ ومن هذه ]
2- الجهة أيضا أنكر قيامها مقام العلم الموضوعي ولو من حيث كشفه وطريقيته ، فبناء على هذا المبنى لابد وان ينكر الحكومة ولو بالمعنى الذي أنت تدعيه ، وحينئذ لابد وان ينازع معه في المبنى ، وإلا فتفريعه منع الحكومة بأي معنى تقول في غاية المتانة.

الحكم واقعا ، لا لما أريد من لفظ المطلق والعام ، كما أوضحناه في محله ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).

ثم إن تصرف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر ، تارة : يكون بتوسعة دائرة الموضوع أو تضييقه بادخال ما يكون خارجا عنه أو باخراج ما يكون داخلا فيه ، كقوله : زيد عالم أو ليس بعالم عقيب قوله : « أكرم العلماء » كقوله : لا شك لكثير الشك عقيب قوله : « من شك بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع » وأمثال ذلك.

وأخرى : يكون باعدام أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر في عالم التشريع مع بقائه في عالم التكوين.

والقسم الأول من الحكومة إنما تكون فيما بين الأدلة المتكفلة لبين الاحكام الواقعية ، والحكومة فيها واقعية ، وسيأتي البحث عنها في مبحث التعادل والتراجيح.

وأما القسم الثاني منها : فهو إنما يكون فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الظاهرية ، والحكومة فيها إنما تكون ظاهرية ، وذلك كحكومة الامارات مطلقا على الأصول الشرعية وكحكومة الأصول التنزيلية على غيرها وكحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فان الحكومة في جميع ذلك إنما تكون باعدام دليل الحاكم في عالم الاعتبار والتشريع ما اخذ موضوعا في دليل المحكوم.

وذلك : لان المجعول في الامارات إنما هو الوسطية في الاثبات والاحراز - على ما أوضحناه في محله - ولم يؤخذ الشك موضوعا في باب الامارات ، بل الجهل بالواقع يكون موردا للتعبد بها ، فتكون الامارة رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول ، وكذا الأصل المحرز يكون رافعا لموضوع الأصل الغير المحرز ، لان الأصل المحرز وإن اخذ الشك في موضوعه أيضا كالأصل الغير المحرز ، إلا أن الأصل المحرز يقتضي ثبوت المتعبد به ، فان المجعول فيه هو البناء على أحد

ص: 595

طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر في عالم التشريع فيرتفع به موضوع الأصل الغير المحرز (1) وكذا الحال في الأصل السببي والمسببي ، فان الأصل السببي مطلقا - ولو كان غير متكفل للتنزيل - رافع للشك المسببي ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ).

وبالجملة : حكومة الأدلة المتكفلة للأحكام الظاهرية بعضها على بعض إنما تكون باعتبار رفع دليل الحاكم موضوع دليل المحكوم في عالم التشريع مع بقائه في عالم التكوين ، فان قيام الامارة على خلاف مؤدى الأصل لا يوجب رفع الشك خارجا ، لاحتمال مخالفة الامارة للواقع ، فموضوع الأصل محفوظ تكوينا ، ولكن لما كان المجعول في باب الامارات هو الاحراز وإلغاء احتمال الخلاف كانت الامارة رافعة للشك في عالم التشريع ، لان المكلف يكون محرزا للواقع بحكم التعبد بالامارة ، فلا يبقى موضوع الأصل.

وكذا الكلام في حكومة الأصول بعضها على بعض. والجامع بين الكل : هو أن مفاد التعبد بأحد الدليلين إن رجع إلى إثبات متعلق الشك الذي اخذ موضوعا في الدليل الآخر ، فالدليل المثبت لمتعلق الشك يكون حاكما على الآخر ، سواء كان إثبات المتعلق بتوسط جعل الاحراز كما في الامارات - أو بتوسط الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في أحد طرفي الشك - كما في الأصول المحرزة - وقد يكون مفاد الدليل إثبات متعلق الشك بلا توسط جعل الاحراز وبلا توسط البناء العملي على بقاء الواقع في أحد طرفي الشك بل نفس التعبد بمفاد الدليل يقتضي إثبات متعلق الشك - كما في الأصل السببي والمسببي - على ما سيأتي بيانه.

فظهر : أن الوجه في تقدم الامارات على الأصول العملية إنما هو الحكومة ،

ص: 596


1- أقول : بعدما كان ميزان الأصلية على عدم كون نظر الدليل إلى جهة كشفه ولا تتميم كشفه ، فلا يعقل أن يثبت به المعرفة التي هو غاية أصالة الحل ، ومع عدم ثبوته كيف يثبت الحكومة؟ فتدبر.

لا الورود ، لان الامارة لا توجب رفع الشك حقيقة ، وقد عرفت : أنه يعتبر في الورود ارتفاع موضوع المورود حقيقة.

فدعوى : ورود الامارات على الأصول والأصول بعضها على بعض ، لا تستقيم إلا بأحد وجوه :

الأول دعوى : أن المراد من « العلم » الذي اخذ غاية للتعبد بالأصول العملية ليس خصوص العلم الوجداني ، بل مطلق الحجة ، سواء كانت عقلية كالعلم ، أو شرعية كالأمارات ، فيكون مفاد قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك ، بل تنقضه بيقين آخر » لا تنقض الحجة بغير الحجة بل تنقضها بالحجة ، فقد اخذ الشك واليقين كناية عن الحجة واللاحجة ، فتكون الامارة واردة على الاستصحاب وسائر الأصول الشرعية ورافعة لموضوعها حقيقة ، كورودها على الأصول العقلية. وتوهم : أن الأصل الشرعي أيضا حجة فلا وجه لرفع اليد عن الأصل بالامارة ، لأنه كما يمكن أن يقال : « إن العمل بالامارة في مورد الأصل يكون من نقض الحجة بالحجة » كذلك يمكن أن يقال : « إن العمل بالأصل على خلاف الامارة يكون من العمل بالحجة » فلا يلزم من ترك العمل بالامارة والاخذ بالأصل الشرعي طرح الامارة بلا حجة على خلافها ، فلو كان المراد من « العلم » الذي اخذ غاية في الأصول هو مطلق الحجة ، يلزم التعارض بين أدلة الامارات وأدلة الأصول ، وإلى ذلك أشار الشيخ قدس سره بقوله : « وإلا أمكن أن يقال : إن مؤدى الاستصحاب » إلى قوله : « ولا يندفع مغالطة هذا الكلام » فاسد ، فان الشك لم يؤخذ في موضوع الامارات ، فيصح أن يقال : « إن الاخذ بالامارة في مورد الأصل يكون من نقض الحجة بالحجة » فيندرج في قوله علیه السلام « بل تنقضه بيقين آخر » وهذا بخلاف الاخذ بالأصل في مورد

ص: 597

الامارة ، فإنه يلزم منه ترك العمل بالحجة المطلقة بلا مخصص ، لان أدلة حجية الامارة لم تكن مقيدة بعدم قيام الأصل على خلافها ، فتخصيص حجيتها بما إذا لم يكن أصل على خلافها يكون بلا موجب ، بخلاف الأصل ، فان دليل اعتباره مقيد بما إذا لم تقم حجة على خلاف مؤدى الأصل.

هذا ، ولكن لا يخفى ما في هذا الوجه من الضعف ، فان جعل العلم كناية عن الحجة مما لا شاهد عليه ، بل الظاهر من العلم واليقين الذي اخذ غاية في الأصول العملية هو خصوص الاعتقاد الراجح الذي لا يجامعه احتمال الخلاف. مع أن هذا البيان إنما يتم في خصوص الامارات ، وأما الأصول : فلا يتأتى فيها هذا التقريب ، لأن الشك اخذ موضوعا في مطلق الأصول والعلم بالخلاف اخذ غاية في الجميع ، فلا وجه لتقدم الأصول المحرزة على غيرها ، لان رفع اليد عن الأصل المحرز بالأصل الغير المحرز أيضا يكون من رفع اليد عن الحجة بالحجة على الخلاف ، كما أن رفع اليد عن الأصل الغير المحرز بالأصل المحرز يكون من رفع اليد عن الحجة بالحجة على الخلاف ، فالمغالطة التي ذكرها الشيخ قدس سره تبقى على حالها في باب الأصول ، ويلزم وقوع التعارض بينها.

الوجه الثاني - دعوى : أن المراد من الغاية خصوص العلم الوجداني ، ولكن متعلق العلم أعم من الحكم الواقعي والظاهري ، فتكون الامارة واردة على الأصول ، للقطع بحجيتها ، فيقطع بالحكم الظاهري على خلاف مؤدى الأصل عند قيام الامارة على الخلاف.

وهذا الوجه بمكان من الفساد ، فإنه إن أريد من الحكم الظاهري مؤدى الامارة ، فالمؤدى مشكوك ، لاحتمال مخالفة الامارة للواقع ، وإن أريد من الحكم الظاهري اعتبار الامارة وحجيتها ، فهو وإن كان متيقنا - للعلم بحجية الامارات إلا أن العلم بالحجية لم يؤخذ غاية للتعبد بالأصول العملية ، بل الغاية هي العلم بخلاف مؤدى الأصل ، أي العلم بمتعلق الشك الذي اخذ

ص: 598

موضوعا فيه ، ومتعلق الشك هو الاحكام الواقعية وموضوعاتها ، فلابد من أن يتعلق العلم بها ، والعلم بحجية الامارة أجنبي عن العلم بالحكم الواقعي. هذا ، مع أن العلم بالحجية لا يختص بباب الامارات ، بل الأصول أيضا كذلك ، للعلم بحجيتها ، فان أدلة اعتبارها لا تقصر عن أدلة اعتبار الامارات.

وبالجملة : تشترك الأصول مع الامارات في العلم بحجيتها ، وتشترك الامارات مع الأصول في عدم العلم بالمؤدى ، فدعوى : أن الوجه في ورود الامارات على الأصول كون المراد من الغاية الأعم من الحكم الواقعي والظاهري ، ضعيفة جدا.

الوجه الثالث - دعوى : أن المراد من الغاية مطلق الاحراز ، لا خصوص العلم الوجداني (1) فيكون معنى قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك بل تنقضه بيقين آخر » هو أن الاحراز لا ينقض بالشك ، بل لابد من نقضه باحراز آخر يخالف الاحراز السابق.

ويمكن تقريب هذا الوجه بما تقدم في بيان قيام الطرق والامارات والأصول المحرزة مقام القطع الذي اخذ في الموضوع على وجه الطريقية.

وحاصله : أن ظاهر الدليل وإن كان يعطى اعتبار خصوص الكشف الوجداني والاحراز التام الحقيقي ، إلا أنه لما كان اعتبار القطع من حيث

ص: 599


1- أقول : وهنا وجه رابع إليه نظر استاذنا في كفايته ، وهو ان موضوع الأصل هو الشك بالحكم باي عنوان طار على العمل زائدا على حيث الشك بحكمه ، وحينئذ مفاد دليل الامارة يثبت الحكم لعنوان « ما أخبر به العادل » أو « قامت البينة عليه » أو غيرها ، فعند قيامها على مورد لا يبقى مجال الشك بالحكم المخالف بأي عنوان ، بل نقطع بالحكم بعنوان اخر. وبهذه العناية والمناط يقدم الامارة على الأصول حتى الاستصحاب ، كما أنه بهذا المناط يقدم الاستصحاب على سائر لأصول من جهة اليقين بالحكم بعنوان نقض اليقين بالشك ، فالمورود بقول مطلق هو الأصل الذي يثبت الحكم لصرف الشك أو عدم العلم بلا عنوان آخر في البين. ولكن لقد أجاد فيما أفاد: من عدم تمامية تقريب الورود بوجه من الوجوه المزبورة ، كما لا يخفی.

الطريقية والكاشفية لا من حيث كونه صفة قائمة في النفس ، فيستفاد من الدليل - ولو بتنقيح المناط - أن الموضوع هو العنوان الكلي الأعم من الاحراز الوجداني والاحراز التعبدي ، أي مطلق الكاشف والمحرز ، سواء كان إحرازه وكشفه من مقتضيات ذاته بلا جعل جاعل أو بتتميم كشفه بجعل الشارع ، فإنه لولا استفادة ذلك من الدليل الذي اخذ القطع موضوعا فيه لم يكن وجه لقيام الامارات والأصول المحرزة مقام القطع ، فقيامها مقامه لا يمكن إلا بجعل الموضوع عنوانا كليا ينطبق على ما جعله الشارع محرزا ، فيكون أخذ خصوص العلم في ظاهر الدليل لكونه من أحد مصاديق المحرز ، لا لخصوصية فيه ، وعلى هذا تستقيم دعوى : ورود الامارات على الأصول مطلقا وورود الأصول المحرزة على غيرها ، فإنه بعد قيام الامارة على خلاف مؤدى الأصل يكون مؤدى الامارة محرزا ببركة التعبد بها وتتميم كشفها ، فيكون من قامت عنده الامارة قد أحرز خلاف مؤدى الأصل ، ويخرج مورد الامارة عن قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ويندرج حقيقة في قوله : « بل تنقضه بيقين آخر » فتكون الامارة واردة على الأصل ، لأنه لا يعتبر في الورود أزيد من كون المورد خارجا عن موضوع دليل المورود حقيقة ، وبعد قيام الامارة على خلاف الأصل يكون مؤدى الامارة خارجا عن موضوع الأصل حقيقة ، لأن المفروض : أن المراد من « اليقين » الذي اخذ غاية للتعبد بالأصل مطلق الاحراز.

وبذلك يظهر أيضا ورود الأصول المحرزة على غيرها ، لأنه أيضا ببركة التعبد بالأصل المحرز يخرج المؤدى عن موضوع الأصل الغير المحرز حقيقة ، فإنه قد أحرز خلافه ، وذلك بعد البناء على أن الغاية للتعبد بالأصول مطلقا الاحراز واضح.

وهذا الوجه أحسن ما يمكن أن يقال في تقريب ورود الامارات على الأصول وورود الأصول المحرزة على غيرها.

ص: 600

ولكن مع ذلك لا يخلو عن مناقشة بل منع ، لان قيام الامارة والأصل المحرز مقام القطع الطريقي ليس مبنيا على جعل الموضوع عنوانا كليا يعم الاحراز التعبدي بتنقيح المناط ، وإن ذكرنا ذلك وجها لقيام الطرق والأصول مقام القطع الطريقي ، إلا أنه قد تقدم : أنه يمكن المناقشة فيه بمنع تنقيح المناط القطعي ، بل عمدة الوجه في قيامها مقامه : هو أن المجعول في الامارات لما كان الاحراز والوسطية في الاثبات ، فتكون حاكمة على الدليل الذي اخذ القطع في موضوعه ، بل قد تقدم : أن حكومتها على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية التي لم يؤخذ القطع في موضوعها إنما تكون بتوسط كونها محرزة لها ، فحكومتها على نفس القطع والاحراز الذي اخذ في الموضوع أولى وأحرى : فراجع ما ذكرناه في مبحث القطع.

وبتقريب آخر : قيام الطرق والامارات والأصول المحرزة مقام القطع الطريقي إنما هو بعناية كونها متكفلة لاثبات مؤدياتها ، فتكون المؤديات محرزة ببركة التعبد بها ، ولذلك لم تقم الأصول الغير المحرزة مقام القطع الطريقي ، فإنها غير متكفلة لاثبات المؤدى ، وحينئذ لا يمكن أن يكون بين الامارات والأصول ورود ، لأنه يعتبر في الورود أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر بنفس التعبد به لا بعناية ثبوت المتعبد به.

ولأجل ذلك كانت الأصول الغير المحرزة واردة على الأصول العقلية ، لأنه بنفس التعبد بها يرتفع موضوع حكم العقل - بالبيان المتقدم - والامارات إنما تكون رافعة لموضوع الأصول بعناية ثبوت المتعبد به فيها لا بنفس التعبد ، لاشتراك الأصول معها في التعبد ، فلا تصح دعوى : كون الامارات واردة على الأصول ، بل لابد من كونها حاكمة عليها.

نعم : نتيجة كل حكومة هي الورود بعناية رفع الموضوع ، كما أنه بعناية رفع الحكم تكون النتيجة هي التخصيص ، فتأمل جيدا.

ص: 601

- الامر الرابع -
اشارة

قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين الامارة والأصل ، وحاصله : أنه يعتبر في الامارة أمران :

أحدهما : أن تكون لها جهة كشف في حد ذاتها ، فان ما لايكون كاشفا بذاته لا يمكن أن يعطيه الشارع صفة الكاشفية.

ثانيهما : أن يكون اعتبارها من حيث كونها كاشفة ، أي كان اعتبارها تتميما لكشفها.

وأما الأصل : فهو إما أن لا يكون فيه جهة كشف كأصالة البراءة والحل ، وإما أن يكون له جهة كشف ولكن لم يكن اعتباره من تلك الجهة ، بل كانت جهة كشفه ملغاة في نظر الشارع واعتبره أصلا عمليا ، ولذلك قد يشتبه الشيء بين كونه أمارة أو أصلا عمليا ، لعدم العلم بجهة الاعتبار (1) وقد وقع البحث والخلاف في جملة من الأمور ، فقيل : إنها من الامارات ، وقيل : إنها من الأصول العملية.

فمنها : « اليد »
اشارة

فإنه لا خلاف في اعتبارها في الجملة ويحكم لصاحبها بالملكية ، وقد

ص: 602


1- 1 - فلو شك في كون الشيء أمارة أو أصلا ، يبنى على كونه أصلا ، بمعنى أن النتيجة العملية تقتضي أن يكون أصلا ، فإنه وإن لم يكن في البين ما يعين كونه أمارة أو أصلا ، إلا أن الامارة تشارك الأصل في إثبات المؤدى وتختص باثبات اللوازم والملزومات ، وحيث لم يعلم كونه أمارة لم يثبت إثباته للوازم والملزومات ، والأصل عدمها ، فتأمل ( منه )

استقرت على ذلك طريقة العقلاء واستفاضت به النصوص عموما وخصوصا في الموارد الجزئية ، من غير فرق بين يد المسلم والكافر ، إلا في اللحوم وما يتعلق بها ، فإنه لا عبرة بيد الكافر فيها ولا يحكم له بالملكية ، إما لما قيل : من كون يده أمارة على كون اللحم من الميتة ، وإما لأصالة عدم التذكية ، وكل منهما غير قابل لان يملك. وهذا كله مما لا إشكال فيه ، إنما الاشكال في كون اليد من الامارات أو من الأصول العلمية.

والظاهر أن تكون من الامارات ، فان بناء العقلاء وعمل الناس كان على اعتبار اليد وترتيب آثار الملكية على ما في اليد لصاحبها ، وليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بالملكية لصاحب اليد بلا ركون النفس ، بل لابد وأن يكون عمل العقلاء على ذلك لكشف اليد في نوعها عن الملكية ، لان الغالب في مواردها كون ذي اليد مالكا لما في يده ، فان استيلاء عير المالك على ملك الغير وتصرفه فيه تصرف الملاك في أملاكهم خلاف العادة ، وبناء العرف والعقلاء على عدم الالتفات إلى احتمال كون ذي اليد غاصبا ، بل يعاملون مع اليد معاملة الكاشف والطريق كسائر الكواشف العقلائية والطرق العرفية ، وما ورد من الشارع في اعتبار اليد إنما هو إمضاء لما عليه عمل الناس ، وليس مفاد أدلة اعتبارها تأسيس أصل عملي بحيث لم يلاحظ الشارع جهة كشفها ، فان ذلك بعيد غايته ، وقوله علیه السلام في بعض أدلة اعتبار اليد « وإلا لما قام للمسلمين سوق » (1) لا يدل على التعبد بها ، بل إنما هو لبيان حكمة إمضاء ما عليه العقلاء ، فإنه لولا اعتبار اليد لاختل النظام ولم يبق للمسلمين سوق.

وبالجملة : ملاحظة عمل العقلاء في باب اليد وأدلة اعتبارها يوجب القطع بكونها من الامارات ، لا من الأصول العملية ، وحينئذ لا إشكال في كونها حاكمة

ص: 603


1- الوسائل : الباب 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الحديث 2 ولفظ الحديث « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

على الاستصحاب. مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية كانت مقدمة على الاستصحاب ، لورودها مورده غالبا ، فإنه قل مورد لم يكن الاستصحاب على خلاف اليد ، فلو قدم الاستصحاب عليها يلزم المحذور الذي علل به الحكم في الرواية ، وهو قوله علیه السلام « لما قام للمسلمين سوق » فلا محيص عن الاخذ بمقتضى اليد وطرح الاستصحاب.

وقد انعقد الاجماع على ذلك مع الجهل بحال اليد وكون المال من الأملاك القابلة للنقل والانتقال ، وأما مع العلم بحال اليد أو عدم كون المال مما يقبل النقل والانتقال ، فلا أثر لليد ، بل لابد من العمل بما يقتضيه الاستصحاب.

وتفصيل ذلك : هو أنه تارة : يعلم كيفية حدوث اليد على المال : من كونها عادية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك ، ثم احتمل انتقال المال إلى ذي اليد بناقل شرعي ، وأخرى : لا يعلم كيفية حدوث اليد على المال ، بل احتمل أن يكون قد انتقل إلى ذي اليد من تأول حدوث يده عليه. وعلى الثاني : فتارة تكون اليد على ما كان وقفا قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله إليه بأحد مجوزات بيع الوقف ، وأخرى : تكون اليد على ما كان ملكا للغير قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله إليه عن مالكه بناقل شرعي. فهذه أقسام ثلاثة ينبغي البحث عنها.

الأول : ما إذا علم حال اليد وأنها حدثت على وجه الغصب أو الأمانة أو الإجارة ، ثم احتمل انتقال المال إلى صاحب اليد ، ولا ينبغي الاشكال في سقوط اليد والعمل على ما يقتضيه استصحاب حال اليد (1) فان اليد إنما تكون

ص: 604


1- 1 - أقول : لا يخفى : ان اليد المعلوم حدوثه على مال الغير غصبا أم أمانة بعد كون بقائه على المال محتمل الانقلاب إلى اليد المالكية - كما هو المفروض - بان كانت هذه اليد الباقية المحتملة مشمول دليل حجية اليد ، فلازم اماريته كون دليل اعتباره رافعا للجهل بعنوانه ، حيث إن مقتضى رفع الجهل عن ملكية ما في اليد تطبيق اليد الملكية عليه الملازم لعدم كونها غصبية ولا أمانة في الظاهر ، وحينئذ يرفع الشك في عنوان اليد فيرتفع به الاستصحاب ، نظرا إلى حكومة دليل الامارة على الأصل ، وبعد ذا لا يبقى مجال القول : بان دليل اعتبار اليد انما يشمل ما هو مجهول العنوان وبالاستصحاب يصير معلوم الغصبية أو الأمانية ، إذ الغرض من الجهل بالعنوان المأخوذ في دليل أمارية اليد ان كان بنحو الموردية - كما هو الشأن في كل أمارة - فهو لا يفيد بعد فرض كون دليل الامارة رافعا له وحاكما على استصحاب عنوانه ، وإن كان الغرض أخذ الجهل في موضوع دليل اعتبار اليد ، فحكومة الاستصحاب مسلم ، ولكن لازمه كون اليد أصلا عمليا ، لا أمارة ، وهو خلاف مختاره وفرضه. و ان لم تكن هذه اليد المعلوم حدوثه على مال الغير من الأول مشمول دليل الاعتبار- كما هو التحقيق- فوجود هذه اليد و لو لم يكن في البين استصحاب بمنزلة العدم، بل المرجع حينئذ استصحاب بقاء المال على ملك الغير، و حينئذ صحّ لنا دعوى: ان الاستصحاب لا يكون مانعا عن شمول دليل اعتبار اليد، فإمّا أن لا يشمل لها ذاتا و لو لم يكن استصحاب، أو يشمل بلا صلاحية الاستصحاب لمنعه، و حينئذ استصحاب عنوان اليد أجنبي عن مرحلة أمارية اليد للملكيّة. نعم: ربما يفيد في مقام آخر، و هو ان مجرّد استصحاب بقاء المال في ملكيّة الغير في فرض عدم شمول دليل اليد مثل اليد المعلوم حدوثه في ملك الغير لا يثبت عنوان الغصبيّة أو الأمانة، فمع الشك في أحد العنوانين في اليد الباقية يستصحب الغصبيّة أو أمانيّته للحكم بضمان صاحبها و عدمه، و هذه الجهة غير مرتبط بعالم اعتبارها من حيث الملكيّة، فترى في البين خلط مقام بمقام! فتدبر.

أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة والغصب ونحوهما ، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب ، فلا تكون كاشفة عن الملكية.

ولا سبيل إلى دعوى حكومة اليد على الاستصحاب ، بتوهم : أن اليد أمارة على الملكية فيرتفع بها موضوع الاستصحاب لان موضوعه اليد العادية واليد تقتضي الملكية فلا يبقى موضوع الاستصحاب ، فان اليد إنما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها ، والاستصحاب يرفع موضوع اليد.

وبعبارة أخرى : أمارية اليد وإن كانت تقتضي عدم كونها عادية ، إلا أن إثباتها لذلك فرع إثباتها الملكية ، لان لازم الملكية كون اليد غير عادية ، والامارات وإن كانت تثبت اللوازم ، إلا أن إثباتها لها يتوقف على إثباتها

ص: 605

للملزومات ، واستصحاب حال اليد يمنع عن إثباتها الملزوم ، فإنه بمدلوله المطابقي يثبت كون اليد عادية.

فلا ينبغي الاشكال في حكومة الاستصحاب على اليد إذا كان المستصحب حال اليد ، وعلى ذلك يبتني قبول السجلات وأوراق الإجارة (1) وينتزع المال عن يد مدعي الملكية إذا كان في يد الطرف ورقة الاستيجار المثبتة لكون يد المدعي كانت يد إجارة ، كما عليه عمل العلماء من سالف الزمان.

القسم الثاني : ما إذا كان المال وقفا قبل استيلاء ذي اليد عليه واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف فاشتراه ذو اليد ، ففي اعتبار اليد وعدمه وجهان : من أن العلم بكون المال وقفا قبل استيلاء ذي اليد عليه كالعلم بكونه ملكا للغير قبل ذلك لا أثر له في مقابل اليد ، فإنه ليس في البين إلا استصحاب بقاء الوقفية ، وهو كاستصحاب بقاء المال على ملك الغير يكون محكوما باليد. نعم : لو علم أن اليد حدثت على ما كان وقفا واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف بعد ذلك ، كان استصحاب حال اليد حاكما عليها ، وأما إذا لم يعلم ذلك بل احتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ، فلا يكون في البين ما يقتضي سقوط أمارية اليد ، وهذا الوجه هو الذي اختاره « السيد الطباطبائي » في كتاب القضاء من ملحقات العروة.

والأقوى : عدم اعتبار اليد ووجوب انتزاع المال عن يده وتسليمه إلى أرباب الوقف ، إلا أن يثبت الملكية الفعلية ، فان اليد إنما تكون أمارة على الملك في المال الذي يكون في طبعه قابلا للنقل والانتقال فعلا ولم يكن محبوسا

ص: 606


1- أقول : بل يبتني على المختار : من عدم شمول دليل الاعتبار إلا ما كان مجهول العنوان من الأول ، إذ استصحاب بقاء ملكية الغير محكمة بلا احتياج إلى استصحاب عنوان اليد في رفع دليل اعتبار اليد على الملكية ، كما لا يخفى.

عنه (1) ولا يكفي مجرد إمكان طرو ما يقبل معه النقل والانتقال.

وبعبارة أخرى : اليد إنما تكون أمارة على أن المال انتقال من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد أسباب النقل والانتقال على سبيل الاجمال بلا تعيين سبب خاص ، وذلك إنما يكون بعد الفراغ عن أن المال قابل للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، فان الانتقال فيه إنما يكون بعد طرو ما يوجب قابلية النقل فيه : من عروض أحد مسوغات بيع الوقف ، ففي الوقف لابد من عروض المجوز للبيع أولا ثم ينقل إلى الغير ، وأمارية اليد إنما تتكفل الجهة الثانية وهي النقل إلى ذي اليد ، وأما الجهة الأولى : فلا تتكفل لاثباتها اليد ، بل لابد من إثباتها بطريق آخر ، بل الجهة الأولى تكون بمنزلة الموضوع للجهة الثانية ، فاستصحاب عدم طرو ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد ، فإنه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد ، فهو كاستصحاب حال اليد.

وتوهم : أن اليد وإن كانت أمارة على النقل إلى ذي اليد ، إلا أن لازم ذلك طرو ما يسوغ النقل إليه ، وشأن الامارة إثبات اللوازم والملزومات ، فاليد كما تثبت النقل تثبت طرو المجوز للنقل أيضا

فاسد ، لما عرفت : من أن قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع

ص: 607


1- أقول : لا مجال لجعل حجية اليد منوطة بالقابلية الواقعية ، وإلا يلزم عدم الاعتناء باليد بمحض الشك في الجزئية أيضا إذا شك في قابلية المحل واقعا ، ومجرد عدم العلم بعدم القابلية فيه لا يجدي في حجية اليد على هذا المبنى ، إذ مجرد الشك في القابلية الواقعية يكفي في الشك في حجيته ، لأن الشك في الشرط شك في المشروط ، فلا محيص حينئذ من إناطة حجيتها على الشك في القابلية ، بل وعلى عدم العلم بها بإناطة شرعية ، إذ حينئذ صح حكومة الاستصحاب على دليل حجية اليد ، بناء على المختار : من إمكان أمارية الشيء بالنسبة إلى الملزوم دون اللازم أو العكس ، وإلا فعلى مسلك المقرر في باب حجية مثبتات الامارة لا محيص في المقام من المعارضة بين اليد والأصل المزبور ، لان كل واحد يرفع موضوع الآخر ، كما لا يخفى ، وهو كما ترى يكشف عن فساد المسلك في وجه حجية مثبتات الامارة ، فراجع وتدبر.

للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات ، ألا ترى؟ أنه لو شك في كون ما في اليد خلا أو خمرا مع كونه في السابق خمرا لا يمكن إثبات كونه خلا بمجرد كونه في اليد ، بدعوى : أن اليد تكون أمارة على الملك والخمر لا يملك فلابد وأن يكون خلا لان الامارة تثبت اللوازم ، وليس ذلك إلا من جهة كون المالية لا تكون من لوازم الملكية ، بل هي موضوع لها ، واليد لا تثبت الموضوع ، فلا تكون اليد أمارة على انقلاب الخمر خلا ، بل استصحاب بقاء الخمرية حاكم على اليد ، واليد على ما كان في السابق وقفا كاليد على ما كان في السابق خمرا من الجهة التي نحن فيها ، فلا تكون اليد على الوقف أمارة على طرو مسوغات بيع الوقف.

فان قلت : ما الفرق بين الوقف والأراضي المفتوحة عنوة؟ مع أنه لو كان ما في اليد من الأراضي المفتوحة عنوة وادعى الملكية تقر يده عليه ، ولا يجري استصحاب بقائها على الحالة السابقة.

قلت : الفرق بينهما هو أن الأراضي المفتوحة عنوة تكون ملكا للمسلمين وتقبل النقل والانتقال فعلا ، غايته أن المتصدي لنقلها هو الولي العام حسب ما اقتضته المصلحة النوعية ، وهذا بخلاف الوقف ، فإنه وإن قلنا بأنه ملك للموقوف عليه ، إلا أنه محبوس فعلا وغير قابل للنقل والانتقال إلا بعد طرو المسوغ.

فان قلت : عدم قابلية الوقف للنقل والانتقال ليس أشد وأعظم من عدم قابلية الحر له ، مع أنه قد ورد عدم سماع دعوى الحرية مع كون المدعى به تحت اليد ، بل تقر يده عليه إلى أن يثبت كونه حرا.

قلت : قياس الوقف على الحر مع الفارق ، فإنه في الوقف كان المال محبوسا قبل استيلاء ذي اليد عليه ، وأما الحر : فلم يعلم أنه كان حرا قبل استيلاء ذي اليد عليه. نعم : الأصل في الانسان أن يكون حرا ولكن إذا لم يكن تحت اليد ،

ص: 608

وأما إذا كان تحت اليد : فلا تجري فيه أصالة الحرية ، بل تكون اليد أمارة على الرقية.

نعم : لو فرض أن ما في اليد كان حرا قبل استيلاء ذي اليد عليه وأمكن انقلاب الحر رقا فادعى ذو اليد الرقية والملكية ، كان قياس الوقف عليه في محله ، إلا أنه لا يمكن انقلاب الحر رقا ، وعلى فرض إمكان ذلك لا تكون اليد أمارة على الانقلاب والرقية ، كما في مثال الخل والخمر.

فظهر : أن اليد على الوقف لا تكون أمارة على الملكية ، بل ينتزع المال عن ذي اليد إلى أن يثبت عروض ما يجوز بيع الوقف ، فتأمل جيدا.

القسم الثالث : ما إذا لم يعلم حال اليد واحتمل أنها حدث في ملك صاحبها بانتقال المال عن مالكه إليه ، وهذا القسم هو المتيقن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك في ملك مالكه وعدم انتقاله إلى ذي اليد ، لان استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلا بلازمه العقلي (1) وليس ذلك مؤدى الاستصحاب بمدلوله المطابقي ، وأمارية اليد تقتضي عدم كون اليد في ملك الغير ، ولا يعتبر في أمارية اليد أزيد من الشك في كون المال مال الغير وهو ثابت بالوجدان ، فاليد بمدلولها المطابقي تقتضي رفع موضوع الاستصحاب ، وهو بمدلوله الالتزامي يرفع موضوع اليد ، فيكون وزان اليد وزان سائر الامارات الحاكمة على الاستصحاب. فلا ينبغي التأمل والاشكال في عدم جريان استصحاب في هذا القسم ، وإلا تبقى اليد بلا مورد ، كما لا يخفى.

ص: 609


1- أقول : ليس المقام من اللوازم العقلية الغير الثابتة بالأصل ، بل من باب تطبيق العقل عنوان المقيد على ما يكون المقيد ثابتا بالوجدان والقيد بالأصل ، نظير استصحاب المائية لما في الكوز ، حيث يجدي لترتيب الأثر على ماء الكوز وأمثاله ، وحينئذ ليس وجه تقديم اليد عليه إلا من جهة اماريته لشمول دليله مثل هذا اليد دون ما كان معلوم العنوان من الأول ، كما أشرنا سابقا ، فتدبر.
تتمة :

إن لم يكن في مقابل ذي اليد من يدعي ملكية المال ، فلا إشكال في وجوب ترتيب آثار كون المال ملكا لذي اليد والمعاملة معه معاملة المالك.

وإن كان في مقابله من يدعي الملكية وثبت كون المال كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه ، ففي انتزاع المال عن يده وتسليمه إلى المدعي وعدمه تفصيل ، فإنه تارة : تثبت الملكية السابقة باقرار ذي اليد ، وأخرى تثبت بالبينة ، وثالثة : تثبت بعلم الحاكم.

فعلى الثالث : لا ينتزع المال عن ذي اليد قولا واحدا ، فإنه لا أثر لعلم الحاكم بأن المال كان للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه ، لاحتمال أن يكون قد انتقل المال إليه بناقل شرعي ، فلا مستند لانتزاع المال عن يده إلا استصحاب بقاء المال في ملك المدعي ، وقد عرفت : أن اليد تكون حاكمة على الاستصحاب.

وعلى الثاني : فالمحكي عن بعض : أنه ينتزع المال عن ذي اليد إلا أن يقيم بينة على انتقال المال إليه. وحكي عن آخر : انتزاع المال عن يده إذا ضم الشاهدان إلى شهادتهما بالملكية السابقة عدم العلم بالانتقال أو شهدا بالملكية الفعلية للمدعي ، وكان مستند شهادتهما استصحاب بقاء الملكية السابقة.

والأقوى : عدم انتزاع المال عن ذي اليد مطلقا ، فان البينة لا يزيد حكمها عن علم الحاكم ، ولا أثر لضم عدم العلم بالمزيل ، كما لا أثر لاستصحاب الشاهدين بقاء المال على ملك المدعي ، فان استصحاب الشاهد لا يزيد على استصحاب الحاكم (1) بل لو شهدا بالملكية الفعلية بمقتضى الاستصحاب كان

ص: 610


1- 1 - أقول : ذلك كذلك لو كان العلم بملكية المال فعلا للبينة غير نادر ، ولو بضم علمه بعنوان اليد على المال من الأول ، وإلا فمقتضى عدم تعطيل البينة على المدعي في الأملاك في الموارد الغالبة الالتزام بتقديم اليد السابقة على اللاحقة في موارد البينة على الملكية الفعلية دون غيرها. نعم مع عدم إقامته على الملكية الفعلية لا تفيد البينة لعدم حجية اليد ، لعدم كونه ميزانا للحكم كي يلزم تعطيل البينة في الدعاوي كثيرا كما لا يخفى.

ذلك من التدليس في الشهادة ، فإنهما قد أعملا الاستصحاب في مورد لا يجوز إعماله فيه ، لكونه محكوما باليد ، فلا يجوز للشاهد الشهادة بالاستصحاب إلا في مورد لم يكن المال في يد أحد المتداعيين ، كما إذا كان المال في يد ثالث لا يدعيه وتداعيا عليه شخصان وكان المال ملكا لأحدهما سابقا ، ففي ذلك يجوز الشهادة بالاستصحاب. وأما إذا كان المال في يد من يدعيه فلا يجوز الشهادة عليه بالاستصحاب.

فالتحقيق : أن حكم البينة حكم علم الحاكم لا يجوز انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي (1).

وأما على الأول : وهو ما إذا أقر ذو اليد بأن المال كان في السابق ملكا للمدعي أو لمورثة ، فالأقوى - وفاقا للمحكي عن المشهور - انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي ، لان باقراره تنقلب الدعوى ويصير المدعي منكرا والمنكر مدعيا ، فإنه عند إقراره بأن المال كان للمدعي إما أن يضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه وإما أن لا يضم إلى إقراره ذلك بل يدعي الملكية الفعلية مع إقراره بان المال كان للمدعي.

فان لم يضم إلى إقراره دعوى الانتقال يكون إقراره مكذبا لدعواه الملكية الفعلية (2) فإنه لا يمكن خروج المال عن ملك من كان المال ملكا له ودخوله في

ص: 611


1- أقول : هذا أيضا في صورة لا يكون مستند الشاهد إلا استصحاب الملكية السابقة في قبال اليد التي هي حجة على الملكية حتى في حق الشاهد ، وإلا ففي صورة احتمال عدم حجية اليد عنده - لاحراز عنوان كونه يدا على ملك الغير حقيقة أم تعبدا - يتبع البينة وينتزع المال من يده.
2- أقول : أولا - مجرد عدم ضم دعوى الانتقال إلى اقراره لا يقتضي مكذبية إقراره ليده ، وإنما المكذب له دعوى عدم الانتقال ، لا عدم دعوى الانتقال ، إذ يكفي في صحة هذه مجرد احتمال الانتقال إليه واقعا ، وهو غير دعوى الانتقال ، وفي هذه الصورة أمكن دعوى عدم انتزاع المال ، لعدم منافاة إقراره مع اليد الكاشفة عن الملكية الفعلية ، كصورة عدم إقراره. ثم في صورة دعواه الانتقال قد يجي ء في البين شبهة العلامة الأستاذ: بان مجرد عدم أمارية اليد على الانتقال لا يخرج اليد عن الأمارة على الملكيّة الصرفة، فيبقى ذو اليد على حجته، فلم ينتزع المال من يده. و أصالة عدم الانتقال و إن كان مع الطرف، إلّا انه يكفي لهذا الطرف في استمساك المال أيضا حجية اليد على الملكية و لا يرفع أحد الحجّتين للآخر، فلا مجال لانتزاع المال من يده. و مثل هذه الشبهة لا يكاد يرفع بدعوى الانقلاب، إذ غايته أصالة عدم الانتقال يجعل مدّعيه مدّعيا على خلاف الحجة في دعواه، و لكن ذلك المقدار لا يقتضي انتزاع المال من يد من بيده المال، لعدم قصور اليد عن الحجية على صرف الملكية و إن لم يثبت الانتقال، و حينئذ الانتزاع المزبور يحتاج إلى بيان مقدمة أخرى: و هي أن بناء المشهور على الانقلاب يقتضي حجية أصالة عدم الانتقال، إذ معلوم: انه بلا حجية هذا الأصل لا معنى لكون مخالفه مدعيا، لعدم قيام حجة على خلافه، كما هو الظاهر. و حينئذ نقول: ان حجيّة هذا الأصل إنما هو بلحاظ ترتيب أثر عدم الانتقال: من بقاء الملكيّة عليه، و مع قيام الأمارة على ملكية الغير لا يكاد يترتب عليه الأثر المزبور، و مع عدمه لا معنى لحجيّة الأصل أصلا. و حينئذ قولهم بتقديم قول الآخر بأصله بكشف عن عدم حجيّة اليد المزبورة، فبتلك الشهرة و الإجماع يستكشف عدم حجية اليد، فينتزع المال. و بمثل هذا البيان نجيب عن الشبهة الصادرة عن الأستاذ أيضا. و مرجع ما ذكرنا إلى عدم الجمع بين حجية أصالة عدم الانتقال و حجية اليد، فمع اقتران الأصل بدعوى الانتقال من الإجماع على الانقلاب يستكشف حجّية الأصل الملازم لعدم حجيّة اليد، و مع عدم اقتران الأصل بدعوى الانقلاب يبقى اليد على حجيّتها المستتبع لعدم حجيّة الأصل، لعدم الشكّ في أثره، فتدبّر.

ملك ذي اليد بلا سبب ، فدعواه الملكية الفعلية تكون مناقضة لاقراره ، ومقتضى الاخذ باقراره بطلان يده وعدم سماع دعواه.

وإن ضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعيا للانتقال إليه ، فإنه يخالف قوله الأصل المعول عليه في المسألة - وهو أصالة عدم الانتقال إليه - فينطبق على ما ذكرناه في محله في تشخيص المدعي والمنكر : من أن المدعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة

ص: 612

من بينهما ، فان ارتفاع الخصومة من البين إنما هو لأجل كون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة الموافق لقول أحدهما.

ومن ذلك يظهر : أن قول الأصحاب في تحديد المدعي والمنكر : من « أن المدعي من خالف قوله الأصل » يرجع إلى قولهم : « إن المدعي من إذا ترك ترك » ولا تختلف النتيجة بين الحدين ، بل هما متلازمان ويرجع مفاد كل منهما إلى الآخر ، فما يظهر من بعض الكلمات : من « أن النسبة بينهما العموم من وجه » ليس على ما ينبغي ، وتفصيله موكول إلى محله.

وفيما نحن فيه لا إشكال في أن ذي اليد لو ترك دعواه الانتقال إليه بعد إقراره بأن المال كان للمدعي ترتفع الخصومة من البين ، وكان المرجع بعد الاقرار أصالة عدم الانتقال ، ولا يجوز التعويل على اليد ، لسقوطها بالاقرار.

وتوهم : أن إقرار ذي اليد لا يزيد حكمه عن العلم بالواقع ، فكما أنه في صورة العلم بأن المال كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه لا ينتزع المال عن ذي اليد ولا يصير المدعي منكرا ، كذلك في صورة إقرار ذي اليد بأن المال كان في السابق للمدعي

فاسد ، فان انقلاب الدعوى ليس من آثار الواقع ، بل من آثار نفس الاقرار ، حيث إن المرء مأخوذ باقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع ، كما إذا أقر بعين لاثنين على التعاقب ، فإنه تدفع العين للمقر له الأول ويغرم قيمة العين للثاني ، ففرق بين العلم بكون المال كان ملكا للمدعي سابقا وبين إقرار ذي اليد بذلك ، ففي الأول لا تنقلب الدعوى ولا يصير ذو اليد مدعيا ، وفي الثاني تنقلب الدعوى.

دفع دخل :

ربما يتوهم المنافاة بين ما ذكرنا : من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي

ص: 613

اليد بأن المال كان للمدعي وبين ما ورد في محاجة أمير المؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في قصة فدك على ما رواه في الاحتجاج مرسلا عن مولانا الصادق علیه السلام في حديث فدك : « إن أمير المؤمنين علیه السلام قال لأبي بكر : تحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين؟ قال : لا ، قال علیه السلام فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل على ما تدعيه ، قال علیه السلام فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي! وقد ملكته في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعده! ولم تسأل المؤمنين على ما ادعوا علي! كما سئلتني البينة على ما ادعيت عليهم! » الخبر (1).

وجه المنافاة : هو أن الصديقة - سلام اللّه عليها - قد أقرت بأن فدكا كان ملكا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وادعت أنها نحلة ، فلو كان الاقرار موجبا لانقلاب الدعوى وصيرورة ذي اليد مدعيا ، لكان مطالبة أبي بكر البينة منها علیهاالسلام في محلها ، ولم يتوجه عليه اعتراض أمير المؤمنين علیه السلام بعد البناء على أن ما تركه النبي صلی اللّه علیه و آله لم ينتقل إلى وارثه بل يكون صدقة للمسلمين لما رووه عنه صلی اللّه علیه و آله من قوله : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهما ولا دينارا الخ » (2). فيكون المسلمون بمنزلة الوارث له صلی اللّه علیه و آله وحيث إن أبا بكر ولي المسلمين كان له حق مطالبة البينة من الصديقة علیهاالسلام على دعواها بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد ملكها فدكا في أيام حياته ، لأنها صارت مدعية بإقرارها بأن فدكا كان ملكا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا ينفعها كونها ذي يد.

ص: 614


1- 1 - الاحتجاج ، ج 1 ، ص 122
2- مسند أحمد بن حنبل : ج 1 ، ص 4 ونقلها أيضا في موارد أخرى من كتابه وكلها بلفظ يغاير مع ما نقله المتن.

هذا ، ولكن التحقيق في الجواب عن الشبهة : هو أن يقال : إن إقرار الصديقة علیهاالسلام بأن فدكا كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يوجب انقلاب الدعوى ، فإنه على فرض صحة قوله صلی اللّه علیه و آله « نحن معاشر الأنبياء لا نورث الخ » لا يكون إقرارها بأن فدكا كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كاقرار ذي اليد بأن المال كان لمن يرثه المدعي ، فان انتقال الملك من النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المسلمين ليس كانتقال الملك من المورث إلى الوارث ، لان انتقال الملك إلى الوارث إنما يكون بتبدل المالك الذي هو أحد طرفي الإضافة ، وأما انتقاله إلى المسلمين فإنما يكون بتبدل أصل الإضافة ، نظير انتقال الملك من الواهب إلى المتهب ومن الموصي إلى الموصى له.

وتوضيح ذلك : هو أن الملكية عبارة عن الإضافة الخاصة القائمة بين المالك والمملوك ، فللملكية طرفان : طرف المالك وطرف المملوك.

وتبدل الإضافة قد يكون من طرف المملوك ، كما في عقود المعاوضات ، فان التبدل في البيع إنما يكون من طرف المملوك فقط مع بقاء المالك على ما هو عليه ، غايته أنه قبل البيع كان طرف الإضافة المثمن وبعد البيع يقوم الثمن مقامه ويصير هو طرف الإضافة.

وقد يكون من طرف المالك ، كالإرث : فان التبدل فيه إنما يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه ، غايته أنه قبل موت المورث كان طرف الإضافة نفس المورث وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصير هو طرف الإضافة.

وقد يكون بتبدل أصل الإضافة ، بمعنى أنه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك والمملوك وتحدث إضافة أخرى لمالك آخر ، كما في الهبة ، فان انتقال المال إلى المتهب بالهبة ليس من قبيل انتقاله بالإرث ولا من قبيل انتقاله بالبيع ، بل انتقاله إليه إنما يكون باعدام الإضافة بين الواهب والموهوب وحدوث إضافة

ص: 615

أخرى بين المتهب والموهوب ، وكما في الوصية ، فان انتقال المال الموصى به إلى الموصى له في الوصية التمليكية إنما يكون أيضا باعدام الإضافة بين الموصي والموصى به وحدوث إضافة أخرى بين الموصى له والموصى به.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن انتقال ما كان للنبي صلی اللّه علیه و آله إلى المسلمين بناء - على الخبر المجعول - ليس كانتقاله إلى الوارث ، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له ، ضرورة أن المسلمين لم يرثوا المال من النبي بحيث يكون سبيلهم سبيل الوارث ، بل غايته أن أموال النبي صلی اللّه علیه و آله تصرف بعد موته في مصالحهم ، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالا من انتقال المال إلى الموصى له ، ولا أقل من مساواته له ، ومن المعلوم : أن إقرار ذي اليد بأن المال كان ملكا لما يرثه المدعي إنما أوجب انقلاب الدعوى من حيث إن الاقرار للمورث إقرار للوارث (1) لما عرفت : من قيام الوارث مقام المورث في طرف الإضافة ، ولذا لو أقر ذو اليد بأن المال كان لثالث أجنبي عن المدعي ومورثه لا ينتزع المال عن يده ولا تنقلب الدعوى ، وإقرار ذي اليد بأن المال كان للوصي يكون كاقراره بأن المال كان للثالث الأجنبي (2) ليس للموصى له انتزاع المال عن يده ، وبدعوى أنه أوصى به إليه ،

ص: 616


1- أقول : إن مجرد كونه إقرارا للمورث في زمان لا يقتضي كونه إقرارا للوارث فعلا ، فلا مجال لاثبات المال للوارث إلا أصالة عدم الانتقال المبتنى على عدم حجية اليد من الخارج لا من جهة هذا الاقرار ، وحينئذ حال الوارث والوصي والولي السابق بالنسبة إلى اللاحق في حجية الأصل - لولا اليد وحكومة اليد على الأصل المزبور - في حد سواء ، ولا يجدي ما ذكر من الفرق يفارق من الجهة المقصودة في المقام ، فتدبر.
2- أقول : كيف يكون كذلك؟ والحال انه في صورة الاعتراف بكون المال للأجنبي لا يجدي أصالة عدم الانتقال منه إليه حجية للمدعي ، فلولا حجية اليد لا يكون المدعي منكرا ، بخلاف باب الاعتراف بالانتقال من الموصي أو من الولي السابق بالنسبة إلى الولي اللاحق ، فان أصالة عدم الانتقال حجة في حقهما لولا حجية اليد ، كما لا يخفى.

فان الموصي أجنبي عن الموصى له ولا يقوم مقامه ، فليس الاقرار للموصي إقرارا للموصى له ، كما كان الاقرار للمورث إقرارا للوارث ، بل تستقر يد ذي اليد على المال إلى أن يثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي.

فاقرار الصديقة علیهاالسلام بأن فدكا كان ملكا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يوجب انقلاب الدعوى (1) لأنه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الاقرار بأنه ملك للمسلمين ، فان المسلمين لا يقومون مقام النبي صلی اللّه علیه و آله بل هم أسوأ حالا من الموصى له ، لما عرفت : من أن أقصى وما يدل عليه الخبر المجعول هو أن أموال النبي صلی اللّه علیه و آله تصرف في مصالحهم إذا تركها ولم تنتقل عنه في أيام حياته ، فلم يبق في مقابل يد الصديقة علیهاالسلام إلا استصحاب عدم الانتقال وهو محكوم باليد ، فليس لأبي بكر مطالبة الصديقة علیهاالسلام بالبينة ، بل عليه إقامة البينة بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يملكها فدكا في أيام حياته ، فتأمل جيدا (2).

ص: 617


1- أقول : قد أشرنا سابقا : بأن كيفية الاختلاف بين الإرث والمقام لا يجدي شيئا ، إذ لولا حجية اليد ، أصالة عدم الانتقال من الولي السابق يجدي للولي اللاحق بزعمهم الفاسدة ولا يغنيهم ، كما هو الشأن في الوارث ، وحينئذ لا يرفع الشبهة في فرض تسليم الخبر المجعول إلا دعوى أن الأصل حجية اليد مطلقا وتقدمه على الأصل ، غاية الامر الاجماع قام على الانقلاب الملازم لعدم حجية اليد في خصوص دعوى الانتقال من الطرف أو مورثه ، دون غيره ، فتدبر.
2- وعن بعض الاعلام دفع الشبهة بوجه آخر بعدما سلم انقلاب الدعوى باقرارها علیهاالسلام بأن فدكا كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلا أنه أجاب عن الشبهة : بأن أبا بكر لم يكن جازما بعدم انتقال فدك منه صلی اللّه علیه و آله إليها في أيام حياته ، ومع عدم الجزم بذلك ليس له حق الدعوى ومطالبة البينة منها ، فتأمل ( منه ).
ومنها : « قاعدة الفراغ والتجاوز »
اشارة

فقد قيل : بكونها من الامارات لما فيها من الكاشفية ، فان الغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب من الاجزاء هو الجري على وفق الإرادة والآتيان بكل جزء في المحل المضروب له وإن لم يلتفت تفصيلا إلى الجزء في محله ولم يتعلق القصد به كذلك بل كان مغفولا عنه في محله (1) إلا أنه مع ذلك يأتي المكلف بالجزء في محله قهرا جريا على الإرادة السابقة في أول الشروع في العمل المركب ، فالإرادة المتعلقة بالكل عند الشروع فيه هي التي توجب الاتيان بكل جزء في محله ، ولا يحتاج غالبا إلى تعلق إرادة مستقلة بكل جزء جزء في محله ، فان الإرادة الأولية حيث كانت محفوظة في خزانة النفس كان الشخص مقهورا في الجري على وفقها ما لم تحدث إرادة أخرى مضادة للإرادة الأولية ، فالغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب هو الاتيان بأجزائه في محالها ، والشارع قد اعتبر هذه الغلبة ، كما يومي إليه قوله علیه السلام في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (2) فتكون القاعدة من الامارات الكاشفة عن وقوع الفعل المشكوك فيه ، وحينئذ تكون القاعدة حاكمة على استصحاب عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ، كحكومة سائر الامارات الاخر عليه.

ص: 618


1- أقول : على تقدير هذه الغلبة ظهور اخباره المأخوذ في موضوعها الشك ينادي بالغاء جهة كشفه ، وما في بعض الاخبار : من التعليل بالأذكرية ، محمول على بيان حكمة الجعل ، لا انه موضوع الجعل تتميم كشفه بقرينة الاخبار الاخر الظاهرة في كونها في مقام التعبد بوجود المشكوك في ظرف الشك ، كما لا يخفى.
2- الوسائل : الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 7.

مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية أمكن أن يقال : إنها حاكمة أيضا على الاستصحاب ، كما يظهر من الشيخ قدس سره حيث ذكر قبل التعرض لحكومة اليد على الاستصحاب بأسطر ما لفظه « وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنه من القواعد التعبدية لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب الخ » فراجع العبارة ، فان الذي يظهر من كلامه إمكان أن يكون أحد التنزيلين في الأصول التنزيلية رافعا لموضوع التنزيل الآخر. ولكن لم يبين وجهه ، ولعل الوجه في ذلك هو أن موضوع الاستصحاب إنما هو الشك في بقاء الحالة السابقة ، وهو إنما يكون مسببا عن الشك في حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة (1) ومثل قاعدة اليد - بناء على كونها من الأصول العملية - وأصالة الصحة في عمل الغير وقاعدة الفراغ والتجاوز إنما يكون مؤداها حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة ، فتكون رافعة لموضوع الاستصحاب ، فتأمل.

وإن أبيت عن ذلك كله ، فلا إشكال في أن قاعدة الفراغ والتجاوز وردت في مورد الاستصحاب ، فلو قدم الاستصحاب عليها تبقى القاعدة بلا مورد ، فلا ينبغي التأمل في تقدم القاعدة على الاستصحاب. والظاهر : أنه لا كلام فيه ، وإنما الكلام يقع في مباحث فقهية :

ص: 619


1- أقول : باللّه عليك! ان بقاء عدم الشيء مع حدوث وجوده الطارد لهذا البقاء هل هما من غير باب النقيضين المحفوظين في رتبة واحدة؟ فأين السببية والمسببية؟ فالأولى في وجه الحكومة ان يقال : إن الاستصحاب ناظر إلى اثبات اليقين في ظرف الشك ، بلا نظر منه إلى نفي الشك - كما توهم - وقاعدة التجاوز ناظرة إلى نفي الشك وانه ليس بشيء ولو بملاحظة الغاء احتمال الخلاف والجري على وفق احتمال الوجود ، بلا نظر فيه أيضا إلى كشفه كي يصير أمارة ، ومع الاغماض عن ذلك ، فلا محيص من التقريب الآخر ، كما لا يخفى ، فتدبر.
المبحث الأول

اختلفت كلمات الاعلام في أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ هل هي عين الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ فترجع القاعدتان إلى قاعدة واحدة ، أو أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ غير الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ بل كل منهما قاعدة مستقلة برأسها لا يجمعهما كبرى واحدة ، إحداهما مضروبة للشك في الاجزاء في أثناء العمل ، والأخرى مضروبة للشك في صحة مجموع العمل بعد الفراغ منه.

ويمكن أن يستظهر من كلام الشيخ قدس سره اتحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة الشرعية ، حيث قال : « الموضع السادس - أن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح » انتهى. فتكون الكبرى المجعولة الشرعية هي عدم الالتفات إلى الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، سواء كان متعلق الشك وجود الشيء أو صحته ، لأن الشك في الصحة يرجع إلى الشك في وجود الصحيح ، فالجامع بين القاعدتين هو الشك في الوجود ، غايته أن الشك في قاعدة التجاوز يتعلق بوجود الشيء ، وفي قاعدة الفراغ يتعلق بوجود الصحيح ، وهذا المقدار من الاختلاف لا يقتضي اختلاف الكبرى ، بل هو من اختلاف الموارد والصغريات.

هذا ، ولكن يرد عليه :

أولا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وفي قاعدة الفراغ إنما هو صحة الموجود بمفاد كان الناقصة (1) ولا جامع

ص: 620


1- أقول : لقد أجاد فيما أفاد ، فياليت! لم يرجع عن هذه الجهة ، على ما سيأتي مع ما فيه.

بينهما ، فلا يمكن اندراجهما في كبرى واحدة (1).

وأما ما أفاده قدس سره من أن الشك في قاعدة الفراغ يرجع إلى الشك في الوجود بمفاد كان التامة غايته أن متعلق الشك هو وجود الصحيح لا مطلق الوجود

ففيه : أن التعبد بقاعدة الفراغ إنما هو لاثبات صحة الموجود ، لا لاثبات وجود الصحيح ، وإثبات صحة الموجود بوجود الصحيح يكون من الأصل المثبت.

فان قلت : إن المهم في مقام الخروج عن عهدة التكليف إنما هو وجود الصلاة الصحيحة من المكلف ولا حاجة إلى إثبات صحة الصلاة المأتي بها ، فإنه لو فرض محالا وجود الصلاة الصحيحة من المكلف مع كون المأتي بها فاسدة ، لكان ذلك موجبا لفراغ الذمة والخروج عن عهدة التكليف.

قلت : نعم : وإن كان المهم في باب التكاليف هو إثبات وجود متعلق التكليف صحيحا ولو مع عدم إثبات صحة المأتي به (2) إلا أن قاعدة الفراغ لا تختص بباب التكاليف ، بل تعم الوضعيات ، والمهم في باب الوضعيات هو إثبات صحة الموجود ، فان الأثر مترتب على صحة العقد الصادر عن المتعاقدين ، ولا أثر لوجود العقد الصحيح بمفاد كان التامة ، بل لابد من إثبات صحة العقد الموجود في مقام ترتب الأثر.

وثانيا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو أجزاء المركب ، وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلق نفس المركب بما له من الوحدة الاعتبارية ، ولفظ

ص: 621


1- أقول : ولا قصور في أخذ الجامع لولا دعوى انصراف عنوان « الشيء » عن النسبة التصديقية ، كانصرافه عن الترتيب والموالاة.
2- أقول : ربما يحتاج إلى صحة الموجود في قضاء سجدته في الصلاة أو السجود السهو فيها وأمثال ذا المأخوذ في موضوعها صحة الموجود ، ولا يكفي وجود الصحيح ، كما لا يخفى.

« الشيء » في قوله علیه السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » (1) لا يمكن أن يعم الكل والجزء في مرتبة واحدة بلحاظ واحد (2) فان لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته إنما يكون في الرتبة السابقة على تأليف المركب ، لأنه في مرتبة التأليف لا يكون الجزء شيئا بحيال ذاته في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ويكون لحاظه تبعيا ، ففي مرتبة لحاظ الكل شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا آخر مستقلا ، لان الكل ليس إلا الاجزاء ، فلا يمكن أن يراد من لفظ « الشيء » في الرواية ما يعم الجزء والكل ، بل إما أن يراد منه الجزء فتختص الرواية بقاعدة التجاوز ، وإما أن يراد منه الكل فتختص بقاعدة الفراغ

وثالثا : يلزم التناقض في مدلول قوله علیه السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » لو كان يعم الشك في الجزء والكل ، فإنه لو شك المصلي في الحمد وهو في الركوع ، فباعتبار الشك في الحمد قد جاوز محله فلا يجب عليه العود ، وباعتبار الشك في صحة الصلاة لم يتجاوز عنها ، لأنه بعد في الأثناء ، فيجب عليه العود ، فتأمل.

ورابعا : التجاوز في قاعدة التجاوز إنما يكون بالتجاوز عن محل الجزء

ص: 622


1- الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 2.
2- أقول : ما أفيد إنما يتم في فرض إرادة الكل من « الشيء » وإرادة جزئه ، إذ حينئذ يلزم اجتماع اللحاظين في الجزء استقلالا وتبعا ، وأما لو أريد من « الشيء » عنوانه الكلي ومن إطلاقه سرايته في اي مصداق منه بلا لحاظ كل ولا جزء ، فلا قصور في شمول الاطلاق كلا العنوانين : من الصلاة والركوع. نعم : قد يشكل من جهة آخر ، وهو ان الشك في الكل إن كان من جهة الشك في هذا الجزء المشكوك يصدق عليه ان الكل بوصف انه كل شيء مشكوك ، واما ان كان من جهة الشك في صحته لفقد موالاة مثلا لا يصدق على الكل انه شيء مشكوك ، لأنه بما هو شيء بملاحظة اجتماع أفعاله المقطوع الوجود ، وبملاحظة موالاته فلا يحسب عند العرف شيئا ، فما منه شيء لا يكون مشكوكا ، وما منه مشكوك لا يكون شيئا ، كما لا يخفى.

المشكوك فيه ، وفي قاعدة الفراغ إنما يكون بالتجاوز عن نفس المركب لا عن محله (1).

وخامسا : متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو نفس الجزء ، وأما قاعدة الفراغ : فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل ، بل هي ظرف للشك ، فلا يمكن أن يجمعهما كبرى واحدة (2).

ولأجل ذلك التزم بعض الاعلام بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية وأن قاعدة التجاوز بنفسها قاعدة مستقلة لا ربط لها بقاعدة الفراغ ، ولذلك تختص قاعدة التجاوز بالشك في أجزاء الصلاة ، ولا تطرد في أجزاء سائر المركبات ، بخلاف قاعدة الفراغ ، فإنها لا تختص بباب دون باب ، بل تعم جميع الأبواب - كما عليه الفقهاء - ومع تعدد الكبرى المجعولة الشرعية ترتفع الاشكالات بحذافيرها.

هذا ، ولكن الانصاف : أن القول بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية بعيد غايته (3) فان ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب يوجب القطع بأن

ص: 623


1- أقول : وفيه ما فيه ، ولا يحتاج فساده إلى البيان ، إذ يكفي في عناية مضي الشيء مضي محله ، فالتجاوز استعمل في معنى واحد بدالين ، أريد مصداقه الحقيقي بدال والتنزيلي بدال آخر ، ولا ضير فيه ، فتدبر.
2- أقول : لا قصور في الجامع في الشك بوجود الشيء بين وجود الركوع والصلاة بما هو كل ، كما تقدم. نعم : بناء على شمول الشيء للإضافات - لو كان الشك في الكل من جهة الموالاة مثلا - يبقى مجال إشكال ان في الصلاة ما صدق عليه شيء لا شك فيه ، وإنما الشك في الموالاة التي لا يصدق عليه شيء ، وحينئذ فلا محل لتعميم الشك في الشيء للشك في الكل الصحيح لفقد موالاته ، كما لا يخفى.
3- أقول : ولا يخفى على المتدرب ان اخبار الباب على لسانين - أحدهما : أن الشك في الوجود ليس بشيء ، وأخرى : بلسان أن كل شيء سلك فيه مما قد مضى فامضه كما هو ، إذ هو ظاهر في التعبد بجعله ، كما ينبغي من التمامية ، وهذا اللسان غير لسان التعبد بالغاء الشك في الوجود والبناء على وجوده كما في الطائفة الأولى. وبقي قوله : « إنما الشك في شيء لم تجزه » وهذا اللسان أيضا هو لسان قاعدة التجاوز ومختص بالشك في الوجود ، ولا يرتبط بالشك في صحة الموجود. نعم: يرد عليه إشكال لزوم تخصيص المورد، فلا محيص من علاجه، و سيجي ء أيضا بيانه. و على أي حال: الاخبار بين الشك في ذات الوجود فهي مختصة بالاجزاء، و بين الشكّ في صحة الموجود فهو مختصّ بما له جهة صحة و فساد بلحاظ فقد قيد أو شرط أو جزء، و أمّا الشك في ذات الكلّ أو الشكّ في وجود الصحيح: فلا يستفاد من هذه الأخبار شي ء و حينئذ لا مجال لأخذ الجامع بين الكلّ و الجزء كي يحتاج إلى عناية، مع أنّه تصحّ بلا تكلف عناية و لا تنزيل، كما أشرنا.

الشارع في مقام بيان ضرب قاعدة كلية للشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، خصوصا مع تقارب التعبيرات الواردة في الاخبار (1) فان من أعطاها حق التأمل لا يكاد يشك في وحدة الكبرى المجعولة الشرعية وهي عدم الاعتناء والالتفات إلى المشكوك فيه بعد التجاوز عن محله مطلقا أي شيء كان المشكوك فيه ، ففي مقام إعطاء القاعدة لم يلاحظ الشارع إلا ما صدق عليه عنوان « الشيء » من غير فرق بين الجزء والكل ، غايته أن الشك في الكل يكون بنفسه صغرى للكبرى المجعولة الشرعية بلا عناية ، وأما الشك في الجزء : فهو إنما يكون صغرى لها بعناية التعبد والتنزيل ، يعني أن الشارع نزل الشك في الجزء في باب الصلاة

ص: 624


1- منها : رواية زرارة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة؟ قال علیه السلام يمضي ، قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟ قال علیه السلام يمضي ، قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ؟ قال : يمضي ، قلت : شك في القراءة وقد ركع؟ قال : يمضي ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟ قال علیه السلام - يمضي في صلاته ، ثم قال علیه السلام يا زرارة! إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ. و منها: رواية إسماعيل بن جابر، قال: قال أبو جعفر عليه السلام إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض، و إن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض، كلّ شي ء شك فيه ممّا قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه. و منها: موثّقة ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال عليه السلام كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو. و منها: موثّقة ابن أبي يعفور: إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره، فليس شكّك بشي ء، إنما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه. و منها: غير ذلك (منه).

منزلة الشك في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه ، فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب وصار من مصاديق الشيء تعبدا وتنزيلا ، فالكبرى المجعولة الشرعية ليست هي إلا عدم الاعتناء بالشئ المشكوك فيه بعد التجاوز عنه. ولهذا الكبرى صغريان : وجدانية تكوينية وهي الشك في الكل بعد الفراغ عنه من غير فرق بين الصلاة وغيرها (1) وصغرى تعبدية تنزيلية وهي الشك في الجزء في خصوص باب الصلاة.

والذي يدل على هذا التنزيل رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » فيكون المراد من « الشيء » في قوله علیه السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » (2) مطلق الشيء مركبا كان أو غير مركب ، ولا يشمل جزء المركب بما هو جزء في عرض شموله للكل ، بل إنما يشمله بعناية التعبد بعد تنزيل الجزء منزلة الكل في كونه شيئا بلحاظ المرتبة السابقة على التركيب ، فلم يستعمل الشيء في الجزء والكل في مرتبة واحدة حتى يقال : إنه لا يصح إطلاق الشيء على الجزء في مرتبة إطلاقه على الكل ، فيرتفع الاشكال الثاني الذي هو العمدة.

وأما بقية الاشكالات - فالانصاف : أنها ضعيفة يمكن الذب عنها بلا مؤنة.

أما الاشكال الأول : ففيه أن المراد من الشك في الشيء إنما هو الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، والمشكوك فيه في قاعدة الفراغ أيضا وجود الكل بمفاد كان التامة ، غايته أن الشك في وجود الكل يكون مسببا عن الشك

ص: 625


1- أقول : لو علم بفوت سجدة في صلاته مع الشك في صحتها بعد الفراغ عنه من جهة الاخلال بالترتيب أو الموالاة ، لا مجال لاجراء « قاعدة التجاوز » بلحاظ انطباقه على الجزء ، فلا محيص من إجراء القاعدة بلحاظ الشك في وجود الصحيح ، ومن المعلوم : أن هذا البيان لا يثبت موضوع قضاء السجدة ، إذ هو من آثار صحة هذه الصلاة ، لا من آثار وجود الصحيح في العالم ، كما هو ظاهر.
2- الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 2.

في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلق الشك في قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ.

وأما الاشكال الثالث : ففيه أن التناقض في المدلول مبني على صدق الشك في الكل عند الشك في الجزء في الأثناء بعد التجاوز عن محل الجزء ، وهو ممنوع ، فان الشك في الكل إنما يصدق بعد الفراغ عنه ، فلا يصدق على الشك في الحمد عند الركوع الشك في الصلاة قبل التجاوز عنها ، بل إنما يصدق عليه الشك في الحمد بعد التجاوز عنه ، فلا يجب العود إليه ، وذلك واضح.

وأما الاشكال الرابع : ففيه أن المراد من التجاوز إنما هو التجاوز عن محل المشكوك فيه مطلقا ، فان الشك في قاعدة الفراغ أيضا يكون بعد التجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه الذي كان سببا للشك في وجود الكل.

وأما الاشكال الخامس : ففيه أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو وجود الجزء ، وليس الكل في قاعدة الفراغ ظرفا للشك ، لما عرفت : من أن الشك في الكل دائما يكون مسببا عن الشك في وجود الجزء أو الشرط. فلم يختلف متعلق الشك في القاعدتين.

فتحصل : أنه لا مانع من الالتزام بوحدة الكبرى المجعولة الشرعية (1) وربما تترتب على ذلك ثمرات مهمة ، يأتي الإشارة إليها ( إن شاء اللّه تعالى ).

وبما ذكرنا ظهر : اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة ، ولا تجري في أجزاء سائر المركبات الاخر ، لاختصاص مورد التعبد والتنزيل بأجزاء الصلاة ، فلا خصوصية للطهارات الثلاث حتى قال : إنها خارجة عن عموم قاعدة التجاوز بالتخصيص للاخبار والاجماع ، فإنه لا عموم في القاعدة حتى يكون

ص: 626


1- أقول : لعمري! ان استنباط القاعدتين من اختلاف لسان الاخبار في غاية الامكان ، فحمل الجميع على مساق واحد ثم منع الشمول للكل والجزء إلا بتوسيط تنزيل الجزء منزلة الكل مما يأبى عنه الطبع والذوق المستقم.

خروجها بالتخصيص.

المبحث الثاني

التجاوز عن الجزء إنما يكون بالتجاوز عن محله ، لا عن نفسه ، للشك في وجوده ، فلا يتحقق التجاوز عن نفسه ، ولذلك قبل : إنه لابد من تقدير المحل الذي يضاف إليه التجاوز.

ولكن يمكن أن يقال : إنه لا حاجة إلى التقدير ، إذ بعدما نزل الشك في الجزء منزلة الشك في الكل كان نسبة التجاوز إلى الجزء على الحقيقة ، بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه (1) فأضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة ، كما هو مسلك السكاكي في باب الاستعارة. وعلى كل حال : المراد من المحل المتجاوز عنه هو المحل الشرعي ، أي المحل الذي عينه الشارع للجزء حسب ما يدل عليه أدلة الترتيب بين الاجزاء ، ولا عبرة بالمحل العادي في شيء من الموارد.

وقد ذهب بعض الاعلام إلى اعتبار المحل العادي في بعض الموارد ، كالشك في التطهير والاستبراء بعد التجاوز عن محلهما العادي ، وكالشك في غسل الجانب الأيسر لمن اعتاد غسله عقيب غسل الجانب الأيمن بلا فصل.

وفيه مالا يخفى ، فان فتح باب المحل العادي يوجب تأسيس فقه جديد ، مع أنه لا عين له في الاخبار. نعم : قد تقتضي العادة صدق عنوان التجاوز والمضي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلة.

وتفصيل ذلك : هو أن الجزء المشكوك فيه ، تارة : يكون هو الجزء الأخير من

ص: 627


1- أقول : مجرد التنزيل لا يكفي ، بل يحتاج إلى عناية تنزيل المشكوك منزلة الموجود ، وحينئذ يكفي هذه العناية لإضافة التجاوز إليه ، بلا احتياج إلى تنزيل الجزء منزلة الكل ، كما لا يخفى.

العمل ، كالتسليم في الصلاة ، وغسل الجانب الأيسر في الغسل الترتيبي ، والمسح في الوضوء ، ونحو ذلك. وأخرى : يكون الجزء المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير.

فان كان ما عدا الجزء الأخير ، فلا إشكال في صدق التجاوز والمضي والفراغ عن العمل ، ولا يأتي فيه البحث عن اعتبار المحل العادي ، لان التجاوز عن ما عدا الجزء الأخير إنما يكون من التجاوز عن المحل الشرعي ، فان المفروض : اعتبار الترتيب بين الاجزاء.

وإن كان المشكوك فيه هو الجزء الأخير ، فقد يتوهم : عدم جريان قاعدة الفراغ في العمل الذي يشك في جزئه الأخير ، للشك في تحقق الفراغ ، فان الفراغ عن العمل لا يكاد يتحقق إلا بالجزء الأخير منه.

هذا ، ولكن التحقيق : أنه لا فرق في عدم الاعتناء بالشك بين أن يتعلق الشك بالجزء الأخير أو بغيره.

أما في باب الصلاة : فواضح ، فإنه عند الشك في التسليم تجري قاعدة التجاوز ، ولا نحتاج إلى قاعدة الفراغ.

وتوهم : أن التجاوز عن الجزء إنما يكون بالدخول في الغير المترتب عليه شرعا وليس ما وراء التسليم ما يكون مترتبا عليه شرعا فاسد ، فان الشك في التسليم ، إما أن يكون في حال الاشتغال بالتعقيب ، وإما أن يكون في حال السكوت. وعلى الثاني : فاما أن يكون الشك فيه بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا كالحدث ، وإما أن يكون بعد فعل ما ينافيها عمدا لا سهوا كالتكلم ، وإما أن يكون قبل فعل المنافي.

فان كان الشك في التسليم في حال الاشتغال بالتعقيب : فلا ينبغي الاشكال في جريان قاعدة التجاوز فيه ، فان محل التعقيب شرعا بعد التسليم ، ولا يضر بذلك عدم كون التعقيب من أجزاء الصلاة ، فإنه يكفي كونه من توابع الصلاة وملحقاتها كالاذان والإقامة ، وقد صرح في رواية « زرارة » بجريان

ص: 628

قاعدة التجاوز في الأذان والإقامة.

وإن كان الشك في التسليم بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا : فلا يبعد جريان قاعدة التجاوز فيه أيضا ، فإنه وإن لم يجعل الشارع لما ينافي الصلاة محلا بل جعله من المبطلات ، إلا أنه لما كان تحليلها التسليم كان محل التسليم قبل فعل المنافي ، فان الحكم المجعول الشرعي - الأعم من الوضعي والتكليفي - وهو عدم وقوع المنافي قبل التسليم ، فيجري عليه حكم المحل الشرعي.

وبذلك يمكن أن يقال : إن حكم المنافي العمدي دون السهوي حكم المنافي العمدي والسهوي من هذه الجهة ، لأنه يعتبر أن يكون التسليم قبل الكلام ، ولا ينافي ذلك كون الكلام السهوي غير مبطل للصلاة ، فإنه على كل حال تحليلها إنما يكون بالتسليم ، فتأمل.

وإن كان الشك في التسليم في حال السكوت قبل فعل المنافي العمدي والسهوي : فالأقوى كونه من الشك في المحل ، ويجب فعل التسليم إذا لم يكن السكوت ماحيا للصورة بطوله ، وإلا دخل في القسم السابق. هذا كله إذا كان الشك في الجزء الأخير من الصلاة.

وإن كان الشك في الجزء الأخير من المركبات الاخر - كالغسل والوضوء ونحو ذلك - فقاعدة التجاوز لا تجري فيه ، لما عرفت : من أن قاعدة التجاوز إنما تجري في خصوص أجزاء الصلاة ولا تعم الشك في أجزاء المركبات الاخر. ولكن تكفينا قاعدة الفراغ ، فان دعوى اختصاصها بما إذا كان المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير ممنوعة ، خصوصا إذا لزم من الاعتناء والالتفات إلى الجزء إعادة المركب من أوله ، كما في المركبات التي يعتبر فيها الموالاة ، كالوضوء ، فان الشك في المسح بعد جفاف الأعضاء أو قبله مع تخلل الفصل الطويل المفوت للموالاة لو كان يقتضي الاعتناء والالتفات إليه كان اللازم إعادة الوضوء ، لفوات الموالاة بين الاجزاء. والظاهر : جريان قاعدة الفراغ ،

ص: 629

لصدق الانصراف والمضي ، فيشمله قوله علیه السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (1) فان إعادة الوضوء في الفرض ينافي المضي عليه. نعم : لو كان الشك في المسح قبل جفاف الأعضاء ، فلا إشكال في أنه يجب المسح مع عدم تخلل الفصل الطويل ، لأنه يكون من الشك في المحل ، فلا يصدق عليه الانصراف والمضي ، هذا إذا كان الاعتناء بالشك يقتضي إعادة المركب.

وأما إذا كان الاعتناء به لا يقتضي إلا الاتيان بالجزء المشكوك فيه ، لعدم اعتبار الموالاة بين الاجزاء - كالتوصليات وكالغسل - ففي جريان قاعدة الفراغ وعدمه إشكال ، ولعل من اعتبر المحل العادي اعتبره في هذا القسم من المركبات ، وقد عرفت : أنه لا عبرة بالمحل العادي. ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : إن صدق التجاوز والمضي لا يتوقف على العلم باتيان الجزء الأخير ، بل يكفي في صدق ذلك الاتيان بمعظم الاجزاء إذا كان من عادة المكلف عدم الفصل بين الاجزاء والآتيان بها متوالية (2).

والحاصل : أنه لا يعتبر في صدق المضي والتجاوز عن الشيء عدم كون المشكوك فيه الجزء الأخير ، بل لو علم المكلف أنه أتى بالجزء الأخير وكانت بقية الاجزاء مشكوكة لم يصدق عليها التجاوز والمضي ، فصدق التجاوز والمضي يدور مدار فعل معظم الاجزاء ، لكن مع جريان العادة على التتابع والموالاة بين الاجزاء ، فإنه لا يصدق عرفا التجاوز عن جملة المركب إلا إذا جرت العادة على ذلك ، فاعتبار العادة إنما هو لأجل صدق المضي والتجاوز معها ، لا لكونها

ص: 630


1- الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 6 لفظ الحديث « كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ».
2- أقول : في صدق المضي لمحض العادة المزبورة نظر ، والعمدة صدقه باتيان معظم أجزائه وعدمه ، كان في البين عادة أم لا ، فتدبر.

معتبرة في حد نفسها - كما مال إليه بعض الاعلام - فإنه قد عرفت عدم قيام الدليل على اعتبارها ولا يمكن الالتزام بذلك كلية ، فهل ترى أنه يمكن القول بعدم وجوب أداء الدين إذا كان من عادة المديون أداء الدين في وقت خاص فشك في أدائه في وقته المعتاد تمسكا بقوله علیه السلام « كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (1) فتأمل جيدا.

المبحث الثالث

لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ، لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتب عليه. وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال منشأه اختلاف الاخبار (2) فظاهر جملة منها اعتبار ذلك - كموثقة ابن أبي يعفور وظاهر جملة

ص: 631


1- الوسائل الباب 23 من أبواب الخلل ، الحديث 3.
2- أقول : هذا الاشكال ناش عن جعل مفاد قاعدة الفراغ الشك في الوجود ، وإرجاع موثقة « ابن يعفور » إلى بيان قاعدة الفراغ وجعل لسانه مع لسان موثقة « ابن بكير » واحدا ، وإلا لا يبقى مجال إشكال أصلا ، لأن الشك في الوجود مختص بالاجزاء المستلزم تجاوزه للدخول في الغير ، بخلاف الشك في صحة الموجود الذي هو مفاد موثقة « ابن بكير » فإنه لا يقتضي الدخول في الغير بعد صدق مضي العمل بفراغه عنه. نعم: قد يشكل الأمر في موثقة «ابن بكير» من جهتين: إحداهما- من حيث اقتضاء عمومه قاعدة التجاوز في غير الصلاة أيضا، مع ان ظاهرهم تخصيصها بباب الصلاة. ثانيهما- عدم عملهم به في مورد القاعدة المستلزم لتخصيص المورد المستهجن. و حلّ الإشكال: هو انه بعد شرح التجاوز و الدخول في الغير في الوضوء بالدخول في غير الوضوء بقرينة الفقرة الأخرى من قوله عليه السلام «صرت في حالة أخرى من الصلاة» لا يبقى مجال تخصيص المورد و لا التعدي في قاعدة التجاوز المضروب في أثناء العمل إلى غير باب الصلاة. و حينئذ المستفاد من هذه الرواية نوعا من قاعدة التجاوز الجاري بعد العمل أيضا، و لا بأس بالتعدّي عنه إلى غير باب الصلاة. و اما النوع الجاري في الأثناء: فهو مختص بباب الصلاة. و أمّا قاعدة الفراغ: فهو لا يحتاج إلى الدخول في الغير ، بل جارية حتى مع الشك في الصحة من جهة الترتيب والموالاة ، ولا مجال لجريان القاعدة الأولى بنوعيه ، كما لا يخفى : فتدبر تعرف.

أخرى عدم اعتبار الدخول في الغير - كموثقة ابن بكير - فيدور الامر بين حمل المطلق على المقيد وبين الاخذ بالاطلاق وحمل التقييد على الغالب ، لان الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ، فلا يكون للتقيد ظهور في كونه للاحتراز ، نظير قوله تعالى : « وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ».

وقد يناقش في إطلاق المطلق بدعوى انصرافه إلى الغالب ، فإنه بعد تسليم كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ينصرف المطلق إلى ما هو الغالب ، فيدور الامر بين الوجهين : حمل التقييد على الغالب فيخرج عن كونه للاحتراز ، أو حمل المطلق على الغالب فيلغو الاطلاق. هذا ، ويمكن الخدشة في كلام الوجهين.

أما في الوجه الأول : فبأن مجرد غلبة القيد لا يوجب رفع اليد عن ظهوره في كونه للتقييد ، فان الأصل في التقييد أن يكون للاحتراز ، إلا إذا علم من الدليل أو من الخارج ورود القيد مورد الغالب ، بحيث كان ذكره لمجرد الغلبة لا للاحتراز به ، كما في الآية المباركة.

وأما في الوجه الثاني : فبأن مجرد كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير لا يوجب انصراف المطلق إلى الغالب ، فإنه لا عبرة بغلبة الوجود ما لم تقتض صرف ظهور اللفظ - كما بيناه في محله - فالانصاف : أن الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة هو حمل المطلق على المقيد.

فالأولى بل الأقوى اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ أيضا ، ولكن يكفي في الغير المعتبر فيها مطلق الغير ، بحيث يكون الشخص في حالة أخرى مغايرة لحال الاشتغال بالمركب ، كما يدل عليه قوله علیه السلام في ذيل صحيحة زرارة : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حالة أخرى

ص: 632

في الصلاة أو غيره فشككت في بعض ما سمى اللّه مما أوجب اللّه عليك لا شيء عليك » (1) نعم : لا يبعد عدم كفاية السكوت المجرد ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « وقد صرت في حالة أخرى » أو قوله : « دخلت في غيره » ونحو ذلك مما ورد في الاخبار ، هو الاشتغال بأمر وجودي مغير لحال الاشتغال بالمركب.

ومن ذلك يظهر : أن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إنما يكون شرطا خارجيا اعتبره الشارع تعبدا ، لا لكونه يتوقف عليه صدق الفراغ ، فإنه لا يبعد صدق الفراغ بمجرد الاتمام ولو مع عدم الاشتغال بأمر وجودي. نعم : اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز انما هو لأجل أنه يتوقف صدق التجاوز عليه ، لا لمحض التعبد ، فتأمل.

المبحث الرابع
اشارة

قد اختلفت كلمات الاعلام في « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ، فقيل : إنه مطلق الغير ، سواء كان من الاجزاء أو من المقدمات ، كالهوي والنهوض ، سواء كان جزء مستقلا أو كان جزء الجزء كآخر السورة بل الآية عند الشك في أولها.

وحيث إن الاخذ بعموم الغير بهذه المثابة ينافي قوله علیه السلام في رواية إسماعيل « وإن شك في السجود بعدما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » (2) فإنه لو كان يكفي مطلق الدخول في الغير لم يكن وجه للتحديد في القيام عند الشك في السجود لان النهوض إلى القيام أقرب من

ص: 633


1- الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- الوسائل الباب 15 من أبواب السجود ، الحديث 4.

السجود إلى القيام ويصدق على النهوض أنه غير السجود فالتحديد بالقيام ينافي عموم « الغير » التزم صاحب هذا القول بأن رواية إسماعيل تكون مخصصة لعموم « الغير » فيكون النهوض إلى القيام خارجا عن العموم.

ولما كان الالتزام بالتخصيص في غاية الوهن والسقوط - بداهة أن قوله علیه السلام في الرواية « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه » إنما سيق لبيان الكبرى الكلية فلابد وأن يكون قوله علیه السلام « شك في السجود بعد ما قام » من صغريات تلك الكبرى ولا يمكن إخراجه عنها - قال بعض الاعلام بخروج المقدمات عن عموم « الغير » مع الالتزام بالعموم بالنسبة إلى الاجزاء المستقلة وأجزاء الاجزاء.

وقيل : بخروج أجزاء الاجزاء عن العموم أيضا ويختص بالاجزاء المستقلة بالتبويب التي رسم لكل منها باب على حدة عند تدوين كتاب الصلاة كتكبيرة الاحرام والقراءة والركوع والسجود والتشهد ونحو ذلك - فلا يعم المقدمات ولا أجزاء الاجزاء ، فلو شك المصلي في أول السورة وهو في آخرها يلزمه الرجوع إليها وإعادة السورة من أولها (1).

وهذا هو الأقوى ، لان شمول قوله علیه السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » للشك في الاجزاء إنما كان بعناية التبعد والتنزيل ولحاظ الاجزاء في المرتبة السابقة على التركيب ، فإنه في تلك المرتبة يكون كل جزء من أجزاء الصلاة وأجزاء أجزائها من الآيات والكلمات

ص: 634


1- أقول : لا يحتاج تخصيص « الغير » بما اعتبر جزء للصلاة بل ولا إلى هذه العناية والتنزيل [ بل ] المنصرف من « الغير » بقرينة الأمثلة ما كان له وجود مستقل ولو بمثل الشك في وجود آية مع الدخول في آية أخرى ، فضلا عن الشك في الحمد مع الدخول في السورة ، مع أنهما لم تكونا مستقلان بالثبوت ، بل ولا في اعتبار الجزئية بناء على كون الجزء مطلق القراءة ، ولذا اعتنى بالدخول في القيام مع أنه ما لم يشتغل بالقراءة أو التسبيح لا يكون قيامه جزء للصلاة ، كما لا يخفى.

بل الحروف شيئا مستقلا في مقابل الكل. وأما في مرتبة التأليف والتركب : لا يكون الجزء شيئا مستقلا في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ، كما تقدم. فدخول الاجزاء في عموم « الشيء » في عرض دخول الكل لا يمكن إلا بعناية التعبد والتنزيل. وحينئذ لابد من الاقتصار على مورد التنزيل ، والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، فان عمدة ما ورد في عدم الاعتناء عند الشك في أجزاء الصلاة هو صحيحة « زرارة » ورواية « إسماعيل بن جابر » والمذكور فيهما هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ففي صحيحة زرارة ، قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة » إلى أن قال : « قلت : رجل شك في الركوع وقد سجد؟ قال علیه السلام يمضي في صلاته ، ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (1).

وفي رواية إسماعيل بن جابر ، قال : « قال أبو جعفر : إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2).

وبعدما كان الظاهر من صدر الروايتين هو الاجزاء المستقلة - كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود فلا سبيل إلى دعوى عموم « الشيء » المذكور في الذيل للمقدمات وأجزاء الاجزاء ، فان الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل ، فلا يعم أول السورة وآخرها أو أول الآية وأخرها ، وإلا كان ينبغي تعميمه لأول الكلمة وآخرها ، مع أن الظاهر أنه لا قائل به.

ص: 635


1- الوسائل : الباب 23 من أبواب الواقع في الصلاة ، الحديث 1.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع الحديث 4.

فالقدر الثابت من الدليل هو جريان قاعدة التجاوز في خصوص الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ولا تجري قاعدة التجاوز عند الشك في أول السورة مع كون المكلف في آخرها ، فضلا عن الشك في أول الآية وهو في آخرها ، أو أول الذكر وهو في آخره ، فتأمل جيدا.

بقي التنبيه على أمور :

الأول : قد عرفت : أن مقتضى رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » خروج المقدمات من الهوي والنهوض عن عموم قاعدة التجاوز ، إلا أنه قد ورد في بعض الروايات عدم الالتفات إلى الشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود.

ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال علیه السلام قد ركع » (1) وهذا بظاهره ينافي ما ذكرناه من خروج المقدمات عن عموم القاعدة.

وحكي عن بعض : أنه حمل قوله علیه السلام في رواية زرارة وإسماعيل بن جابر : « شك في الركوع وقد سجد - أو - بعدما سجد » على الهوي إلى السجود ، ولا يخفى بعده.

فالأولى أن يقال : إن للهوي إلى السجود مراتب ، فإنه من مبدء التقوس إلى وضع الجبهة على الأرض يكون كله هويا ، فيحمل الهوي في رواية « عبد الرحمن » على آخر مراتبه الذي يتحقق به السجود ، فيرتفع التعارض بين الأدلة (2) ولا يخفى : أن حمل رواية « عبد الرحمن » على ذلك أقرب من حمل

ص: 636


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع ، الحديث 6.
2- 2 - أقول : هذا المعنى ينافي مع جعل السجود بدخول الغاية ، فان ظاهره خروج ما بعده عن المغيا ، فلا يشمله الاطلاق ما يتحقق به السجود كي يقيد إطلاقه بخصوصه ، بل التصرف في قوله : « بعدما قام » على النهوض المشرف للقيام أولى من هذا التصرف. وحينئذ لولا إعراضهم عن هذه الرواية لا محيص من إدخال المقدمات مثل الهوي والنهوض في الغير ، كما لا يخفى.

السجود على الهوي ، فإنه لا يلزم من ذلك سوى تقييد إطلاق الهوي وحمله على المرتبة الأخيرة ، فلا عبرة بالهوي قبل وضع الجبهة على الأرض.

الامر الثاني : مقتضى ما ذكرناه من أن المراد من « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه هو الجزء المترتب على المشكوك فيه بحسب ما قرره الشارع ، هو جريان قاعدة التجاوز لو شك في الحمد عند الاشتغال بالسورة ، أو شك في السجود في حال التشهد ، لان كلا من السورة والتشهد مترتب على الحمد والسجود. ولكن الذي يظهر من روايتي « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » عدم جريان قاعدة التجاوز في الفرضين ، فان المذكور في رواية زرارة هو الشك في القراءة بعد الركوع ، والمذكور في رواية إسماعيل بن جابر هو الشك في السجود بعد القيام ، ولم يذكر فيهما التشهد والسورة.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن عدم ذكر التشهد في رواية « إسماعيل » لمكان أن الامام علیه السلام في مقام بيان الشك في الركوع والسجود من الركعة الأولى التي لا تشهد فيها ، فيكون الشك في السجود من الركعة الثانية في حال التشهد داخلا في الكبرى الكلية المذكورة في ذيل الرواية ، وهي قوله : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وأما عدم ذكر السورة في رواية زرارة : فيمكن أن يقال : إن المراد من الشك في القراءة الشك في مجموع الحمد والسورة ، وأما الشك في الحمد وحدها بعد الاشتغال بالسورة : فلم يتعرض السائل لفرضه ، بل ذكره الامام علیه السلام في الكبرى الكلية المذكورة في الذيل وهي قوله علیه السلام « إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » فتأمل جيدا.

ص: 637

الامر الثالث : لا فرق في « الغير » المترتب على الجزء المشكوك فيه بين أن يكون من الاجزاء الواجبة أو المستحبة ، بل لا فرق بين أن يكون جزء مستحبا أو كان مستحبا في حال الصلاة وإن كان خارجا عن حقيقتها - كالقنوت على أحد الوجهين فيه - ويدل على ذلك قوله في صحيحة زرارة « رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة؟ قال علیه السلام يمضي » (1) فان الأذان والإقامة من المستحبات الخارجة عن الصلاة المتقدمة عنها ، فالمستحبات الداخلية أولى بذلك.

الامر الرابع : الشك في التشهد بعد القيام يندرج في الكبرى الكلية المذكورة في الروايات وإن لم يصرح به.

الامر الخامس : لو شك في القراءة في حال الهوي إلى الركوع قبل الوصل إلى حده ، فان قلنا : إن الهوي من القيام إلى الركوع من المقدمات كالهوي إلى السجود ، فلا إشكال في وجوب العود إلى القراءة ، وإن قلنا : إن الهوي ليس من المقدمات بل هو من واجبات الركوع كما هو المختار - لان لازم كون القيام المتصل بالركوع من الأركان هو وجوب الهوي من مبدء التقوس إلى حد الركوع - فالظاهر عدم وجوب العود إلى القراءة ، لصدق الدخول في الغير ، والمسألة لا تخلو عن إشكال.

* * *

ص: 638


1- أقول : لا أرى دلالته على مدعاه : من أن « الغير » الكافي الشك في جزء الصلاة ولو كان مستحبا نفسيا فيها ، إذ غاية دلالته جريان قاعدة التجاوز فيما هو من تبعات الصلاة بملاحظة الترتيب المأخوذ فيها ، لا في نفس أجزائه بملاحظة الترتيب المأخوذ بينه وبين ما هو مستحب نفسي في الصلاة. نعم : غاية الامر يتعدى من المستحبات الخارجية إلى المستحبات الداخلية بملاحظة الترتيب المأخوذ في نفسها ، لوحدة السنخية ، لا بينها وبين ما هو جزء للصلاة الذي هو من غير سنخها ، فتدبر.
المبحث الخامس: في جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشرائط
اشارة

اعلم : أن الشرائط المعتبرة في الصلاة على أقسام ثلاثة :

الأول : ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، كالطهور والستر والاستقبال.

الثاني : ما كان شرطا عقليا لنفس الاجزاء ، بمعنى أنه مما يتوقف عليه تحقق الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة ، فإنه لا يكاد يصدق على الحروف المنفصلة عنوان الكلمة.

الثالث : ما كان شرطا شرعيا للاجزاء ، كالجهر والاخفات بالقراءة ، بناء على كونها شرطا للقراءة لا للصلاة في حال القراءة ، كما لا يبعد دلالة قوله تعالى : « وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ » (1) على كونهما شرطا للصلاة.

وقبل التعرض لحكم الأقسام ينبغي التنبيه على أمر :

وهو أن المجعول في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو البناء على وقوع الجزء المشكوك فيه ، فإنها لو لم تكن من الامارات فلا أقل من كونها من الأصول المحرزة ، كما يدل عليه رواية حماد بن عثمان قال : « قلت : لأبي عبد اللّه علیه السلام أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، فقال علیه السلام قد ركعت » (2) وكقوله علیه السلام في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ

ص: 639


1- سورة بني إسرائيل الآية : 110.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع ، الحديث 2.

أذكر » (1) إلى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في كون القاعدة محرزة لوقوع المشكوك فيه ، كالاستصحاب.

ولا ينافي ذلك قوله علیه السلام في بعض الاخبار : « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (2) فان عدم دلالة ذلك على التنزيل والاحراز لا يضر بدلالة الاخبار الاخر عليه.

وبالجملة : ملاحظة الاخبار توجب القطع بكون الحكم المجعول في الباب هو البناء على وقوع المشكوك فيه ، من غير فرق في ذلك بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ. وكان شيخنا الأستاذ - مد ظله - قبل هذا يميل إلى عدم كون قاعدة الفراغ من الأصول المحرزة ، إلا أنه لما كان ذلك ينافي وحدة الكبرى المجعولة الشرعية التزم بأن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز من الأصول المحرزة ، وهو الحق الذي لا محيص عنه.

إذا تبين ذلك ، فنقول : قد عرفت أن الشروط على أقسام ثلاثة :

الأول : ما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، وهو أيضا على قسمين : فإنه تارة : يكون للشرط محل مقرر شرعي ، كما لا يبعد أن تكون الطهارة الحدثية كذلك ، فان قوله تعالى : « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » الخ (3) يدل على أن محل الطهارة قبل الصلاة. وأخرى : لا يكون للشرط محل شرعي كالاستقبال والستر ، فان المعتبر شرعا وقوع الاجزاء في حال الاستقبال والستر من دون أن يكون لهما محل شرعي ، غايته أنه يتوقف عقلا تحقق الاستقبال والستر قبل الصلاة مقدمة ليقع التكبير في حال الاستقبال والستر. وعلى كلا

ص: 640


1- الوسائل : الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 7.
2- الوسائل : الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 6 ولفظ الحديث « كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ».
3- 3 - المائدة : 6

التقديرين : فتارة يشك في حصول الشرط في أثناء المشروط ، وأخرى يشك فيه بعد الفراغ عنه.

فان كان الشك في الشرط في أثناء المشروط وكان للشرط محل مقرر شرعي : فلا إشكال في جران قاعدة التجاوز فيه ، ويترتب عليه جميع آثار وجود الشرط كما لو أحرز الشرط بأصل آخر ، وهذا في الشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة بل تتعلق بها الإرادة بتبع تعلقها بالمشروط واضح ، ولكن الظاهر أن لا يكون له مثال. وأما الشرائط التي يمكن أن تتعلق بها إرادة مستقلة - كما إذا كان عمل من الأعمال المستقلة المستحبة أو الواجبة شرطا لعمل آخر ، كالطهارة الحدثية وكصلاة الظهر ، فان كلا منهما مما يمكن أن تتعلق به الإرادة لا بتبع إرادة المشروط بل بنفسه ، ومع ذلك يكون وجوده شرطا لصحة المأمور به ، فالطهارة شرط لمطلق الصلوات ، وصلاة الظهر شرط لصحة صلاة العصر حسب ما دلت عليه أدلة الترتيب - ففي جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الشرط في أثناء المشروط وعدمه وجهان.

وعلى تقدير جريان القاعدة : ففي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف من المشروط أو وجوب الاقتصار على ترتيب آثار وجود الشرط بالنسبة إلى خصوص ما بيده من المشروط ، وجهان.

والثمرة بين الوجوه الثلاثة مما لا تكاد تخفى.

فإنه لو قلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز كان اللازم في مثال الطهارة قطع الصلاة واستينافها بعد تجديد الطهارة لو شك فيها في أثناء الصلاة ، وفي مثال صلاه الظهر والعصر العدول بالنية وإتمامها ظهرا لو شك في صلاة الظهر في أثناء صلاة العصر. وإن قلنا بجريان القاعدة فبناء على وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف : كان اللازم جواز فعل كل مشروط بالطهارة بلا تجديد الوضوء في مثال الطهارة وعدم وجوب

ص: 641

الاتيان بصلاة الظهر بعد إتمام العصر ولو مع بقاء الوقت.

وأما بناء على وجوب الاقتصار على خصوص ما بيده : فغاية ما يلزم جواز إتمام ما بيده من الصلاة مع الشك في الطهارة وجواز إتمامها عصرا مع الشك في الظهر ، وأما بعد الاتمام : فيجب تجديد الطهارة للصلوات الاخر ويجب فعل الظهر مع بقاء الوقت.

هذا ، والانصاف : أن المسألة لا تخلو عن الاشكال ، فان مقتضى كون قاعدة التجاوز من الأصول المحرزة هو وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا ، ففي المثالين : لا يجب تجديد الطهارة للصلوات كما لو كان مستصحب الطهارة ، ولا يجب فعل الظهر بعد إتمام العصر كما لو فرض أنه قام أصل محرز على فعل صلاة الظهر. ولكن الالتزام بذلك في غاية الاشكال ، كما أن الالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز أصلا - بدعوى أن مورد القاعدة هو الاجزاء والشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة - أشكل ، فان الشك في الطهارة الحدثية لا يقصر عن الشك في الأذان والإقامة مع أنهما من المستحبات الخارجة عن الصلاة. بل الذي يعتبر في القاعدة هو إمكان أن يتعلق بالمشكوك إرادة تبعية ، لا أنه لابد وأن يكون كذلك.

والذي يترجح في النظر هو جريان القاعدة بالنسبة إلى خصوص ما بيد المكلف من الصلاة ، ففي المثالين : يمضي على صلاته ولو مع الشك في الطهارة ويتم صلاته عصرا وبعد الصلاة يجب عليه تجديد الوضوء للصلوات الاخر ويجب عليه فعل الظهر مع بقاء الوقت ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا إذا شك في الشرط في أثناء الصلاة.

وإن شك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه ، بل يمكن جريان قاعدة التجاوز ، فان الشك في الفراغ مسبب عن الشك في الشرط ، فتجري قاعدة التجاوز بالنسبة إلى نفس الشرط إذا كان للشرط محل

ص: 642

مقرر شرعي ، كما هو مفروض الكلام.

ودعوى : اختصاص قاعدة التجاوز بما إذا كان الشك في أثناء العمل مما لا شاهد عليها ، بل الذي يعتبر في قاعدة التجاوز هو أن يكون الشك فيما قد جاوز المكلف محله ودخل في غيره ، وأما كون الغير متصلا بالمشكوك : فلا يعتبر ، فإنه لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز لو شك المكلف في أول الصلاة وهو في آخرها.

فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز في مفروض الكلام. وفي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط حتى بالنسبة إلى غير الصلاة التي فرغ عنها المكلف أو وجوب الاقتصار على خصوص تلك الصلاة؟ إشكال ، تقدم الكلام فيه. هذا كله إذا كان للشرط محل مقرر شرعي.

وإن لم يكن للشرط محل شرعي ، كالستر والاستقبال :

فان كان الشك فيه في أثناء الصلاة : فالأقوى عدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لأنه ليس له محل شرعي لكي يصح إضافة التجاوز إليه ، فلا يندرج في قوله علیه السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » والمحل العادي قد عرفت ما فيه.

فما ينقل عن المدارك وغيره - من أن الشك في الشروط عند الدخول في المشروط أو الكون على هيئة الداخل حكمه حكم الشك في الاجزاء في عدم الالتفات فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة وأمثالها بعد الدخول في الغاية والمشروط - ضعيف غايته.

وإن كان الشك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ.

هذا كله إذا شك في القسم الأول من الشروط ، وهو ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء.

القسم الثاني : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، كالموالاة بين حروف

ص: 643

الكلمة. ولا إشكال أيضا في جريان قاعدة التجاوز عند الشك فيه ، لأن الشك في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة يرجع إلى الشك في وجود الكلمة وقاعدة التجاوز تحرز الوجود ، وفرق واضح بين الموالاة في حروف الكلمة وبين الموالاة في كلمات الآية ، فان الموالاة بين حروف الكلمة مما يتوقف عليها وجود الكلمة عقلا ، بخلاف الموالاة بين كلمات الآية ، فإنه لا يتوقف عليها وجود الآية عقلا مطلقا ، من غير فرق في ذلك بين الموالاة بمعنى عدم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة وبين الموالاة بمعنى التتابع العرفي بناء على اعتبارها زائدا على اعتبار عدم الفصل الطويل الماحي للصورة - كما هو قول جماعة - فإنه لا يكاد يشك في تحقق الآية عقلا ولو مع القصل الطويل بين كلماتها ، فالموالاة بين كلمات الآية بكلا وجهيها إنما تكون من الشروط الشرعية لا العقلية. هذا ، مضافا إلى أن الموالاة بين كلمات الآية إنما تكون من شرائط الصلاة كالستر والاستقبال ، وليست من شرائط الآية ، بخلاف الموالاة بين حروف الكلمة ، فإنها من شرائط نفس الكلمة.

فما يظهر من الشيخ قدس سره من اتحاد حكم الموالاة بين حروف الكلمة مع الموالاة بين كلمات الآية ، ليس على ما لا ينبغي ، بل الأقوى اختلاف حكمهما ، فإنه عند الشك في الموالاة بين حروف الكلمة تجري قاعدة التجاوز ، لما عرفت : من أن الشك فيها يرجع إلى الشك في وجود الكلمة.

وأما الشك في الموالاة بين كلمات الآية : فان كان الشك فيها بالمعنى المقابل لمحو الصورة فهو يرجع إلى الشك في عروض المبطل ، لان الفصل الطويل الماحي للصورة من المبطلات مطلقا ولو وقع عن نسيان ، فيكون حكمه حكم الشك في سائر المبطلات العمدية والسهوية ، وفي جريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة وعدمه جريانه كلام تقدم تفصيله.

وإن كان الشك فيها بالمعنى المقابل للتتابع العرفي فالقطع بفواتها سهوا

ص: 644

لا يوجب البطلان ، فضلا عن الشك فيه ، فان المفروض : أنها شرط للصلاة في حال القراءة والأذكار ، وبمجرد القراءة بفوت محلها ، فان العود إلى القراءة والذكر لتدارك الموالاة يوجب الزيادة العمدية ، فلا يجوز العود إلى القراءة لتدارك الموالاة.

وعلى كل حال : لا أثر لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في فوات الموالاة بين الكلمات بكلا معنييها ، فما في كلام الشيخ قدس سره من عطف الموالاة بين الكلمات على الموالاة بين حروف الكلمة ، مما لا وجه له.

القسم الثالث من الشروط ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، ولم نعثر له على مثال سوى الجهر والاخفات بالقراءة على أحد الوجهين فيهما والبحث عن الشك في الجهر والاخفات بالقراءة قليل الجدوى ، لورود النص على عدم وجود العود إلى القراءة عند نسيانهما ولو مع التذكر قبل الركوع ، فعدم وجود العود إليها مع الشك فيهما أولى. ولكن مع ذلك ينبغي بيان حكم الشك في هذا القسم من الشروط ، لعل المتتبع يعثر على مثال له غير الجهر والاخفات.

فنقول : لو شك في فوات ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، فان كان الشك بعد الدخول في الركن فلا إشكال في الصحة ، لان العلم بفواته نسيانا بعد الدخول في الركن لا أثر له ، فضلا عن الشك في الفوات. وإن كان الشك قبل الدخول في الركن وبعد الدخول في الغير المترتب على الجزء المشروط بالمشكوك فيه فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز فيه ، بل يصح جريان القاعدة في كل من الشرط والمشروط ، لأن الشك في وجود الشرط الشرعي يستتبع الشك في وجود المشروط بوصف كونه صحيحا ، والمفروض : أن المكلف قد دخل في الغير المترتب على المشكوك فيه ، فهو قد تجاوز محل الشرط والمشروط.

فتحصل : أنه لا فرق في جريان قاعدة التجاوز بين الشك في الشرط العقلي المقوم للحقيقة وبين الشك في الشرط الشرعي للجزء. ودعوى : أن

ص: 645

قاعدة التجاوز لا تجري في الشرط الذي لا يستقل بالوجود ، مما لا شاهد عليها ، لصدق التجاوز على ما يكون من الكيفيات.

وبما ذكرنا : يظهر الاشكال فيما أفاده الشيخ قدس سره في الموضع السادس ، قال قدس سره « إن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح ، ومحل الكلام مالا يرجع فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الحصة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية ، لكن الانصاف : أن الالحاق لا يخلو عن إشكال الخ ».

ولا يخفى : أن كلام الشيخ قدس سره في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب ، بل لم يعلم المراد منه ، فان الشك في مطلق الشروط يرجع إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، فلا فرق من هذه الجهة بين ما ذكره في الموضع الخامس وما ذكره في الموضع السادس ، إلا أن يقال : إن البحث في الموضع الخامس كان مخصوصا بما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء - كالطهارة والستر والاستقبال - وفي الموضع السادس يكون البحث عن الشك فيما يكون شرطا لنفس الاجزاء ، كالموالاة.

ولكن مع ذلك لا تخلو العبارة عن شيء ، فإنه لم يعلم أن محل كلامه في الموضع السادس الشروط التي يتوقف عليها وجود الجزء عقلا - كما يشهد له التمثيل بالموالاة بين حروف الكلمة - أو أن محل كلامه في الشروط الشرعية. ولكن سوق العبارة يقتضي أن يكون محل الكلام خصوص الشروط العقلية ، فراجع العبارة وتأمل فيها.

وعلى كل حال : لا وجه للاشكال في الالحاق ، فإنه لا مجال للتأمل في جريان قاعدة التجاوز في كل من الشروط العقلية والشرعية.

ص: 646

المبحث السادس

يعتبر في قاعدة الفراغ والتجاوز أن يكون الشك في صحة العمل راجعا إلى كيفية صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعا وحكما ، فلو كان الشك في الصحة لأجل الشك في متعلق التكليف من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية لا تجري فيه قاعدة التجاوز والفراغ ، بل لابد من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية حسب اختلاف المقامات ، فان قاعدة الفراغ والتجاوز إنما جعلت لعلاج الشك في صحة العمل المأتي به من حيث انطباقه على المأمور به ، فلابد وأن يكون الشك متمحضا في الانطباق ، فلا تجري القاعدة إذا كان الشك في الصحة من حيثية أخرى غير حيثية الانطباق وإن حصل منه الشك في الانطباق أيضا.

وضابط كون الشك متمحضا في الانطباق هو أن يكون الشك بعد العمل ، بمعنى أنه يتوقف حصول الشك على صدور العمل ، بحيث لولا العمل لم يحصل الشك في الصحة والفساد ، بخلاف ما إذا لم يكن الشك متمحضا في الانطباق ، فإنه يمكن فرض حصول الشك ولو مع عدم فرض صدور العمل. إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الشك في صحة العمل المأتي به وعدمها يتصور على وجوه :

فتارة : يشك في الصحة والفساد مع كون المكلف ملتفتا حال الشروع في العمل إلى ما يعتبر فيه من الاجزاء والشرائط وما ينبغي أن يقع عليه العمل ، غايته أنه بعد العمل طرء الشك في وقوعه على ما كان ينبغي أن يقع عليه ، لاحتمال أنه حصل له الغفلة وترك جزء أو شرطا نسيانا.

وأخرى : يشك في صحة العمل وفساده مع عدم التفات المكلف حال

ص: 647

الشروع إلى ما ينبغي وقوع العمل عليه ، بل عمل عملا واحتمل مصادفته للواقع عن غير اختيار ، بحيث لو كان حين العمل ملتفتا لكان أيضا شاكا في مطابقة ما يأتي به للمأمور به ، كما إذا لم يحرز جهة القبلة بل توجه إلى جهة وصلى نحوها غفلة وبعد الصلاة التفت إلى حاله واحتمل أن تكون تلك الجهة هي القبلة ، وكما في الجاهل المقصر إذا عمل عملا بلا تقليد واجتهاد وبعد ذلك احتمل مطابقة ما أتى به في حال الجهل لفتواه أو فتوى من يجب عليه تقليده في الحال ، وهذا الوجه يتصور على وجهين :

أحدهما : أنه حال الشك يعلم صورة العمل وكيفية وقوعه ، كما إذا علم أن الجهة التي صلى نحوها هي هذه الجهة الخاصة ويشك في كونها هي القبلة.

ثانيهما : أنه لا يعلم صورة وقوع العمل وأن الجهة التي صلى نحوها أي من الجهات الأربع.

وثالثة : يشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عنه ، مع أن المكلف قبل العمل كان ملتفتا إلى أنه لا يجوز له الدخول في العمل لكونه شاكا في أنه واجد لشرط صحة العمل أو فاقد له وكان حكمه قبل العمل على خلاف ما تقتضيه قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ثم غفل وصلى ، وهذا الوجه أيضا يتصور على وجهين :

أحدهما : أنه بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد توضأ قبل الصلاة بعدما شك في الطهارة.

ثانيهما : أنه لا يحتمل ذلك ، بل يعلم أنه لم يتوضأ قبل الصلاة بعدما شك في الطهارة.

ورابعة : يشك في صحة العمل وفساده بعد العمل مع كونه قبل العمل كان شاكا في أنه واجد لشرط الصحة ، ولكن كان يجوز له الدخول في العمل بحيث كان حكمه قبل العمل موافق لما تقتضيه قاعدة الفراغ ، كما إذا كان قبل

ص: 648

الصلاة مستصحب الطهارة أو قامت عنده البينة عليها وبعد الصلاة زال السبب المجوز للدخول في العمل إما لعلمه بفسق الشاهدين وإما لشكه في عدالتهما.

فهذه جملة ما يتصور من الوجوه التي يمكن أن يقع عليها لا شك في صحة العمل المأتي به وفساده.

ولا إشكال في جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في الوجه الأول ، بل هو المتيقن من مورد القاعدة.

وكذلك لا ينبغي الاشكال في جريان القاعدة في الوجه الأول من الوجه الثالث ، وهو ما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ولكن احتمل أنه توضأ وصلى ، بداهة أن استصحاب الحدث لا يزيد حكمه على العلم بالحدث ، فكما أنه لو كان عالما بالحدث واحتمل بعد الفراغ من الصلاة أنه توضأ قبلها تجري في حقه قاعدة الفراغ ، كذلك لو كان مستصحب الحدث.

وأما الوجه الثاني من الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث ، فالأقوى عدم جريان القاعدة فيه (1) لان قاعدة الفراغ إنما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد العمل لا على الاستصحاب

ص: 649


1- أقول : لا يخفى ان موضوع قاعدة التجاوز أو الفراغ هو الشك الفعلي المتعلق بالعمل السابق ، والعلم السابق بصحة الفعل أو فساده لا يرفع هذا الشك ، وحينئذ يشمل إطلاقه هذه الصورة ، بل لو فرض علمه الوجداني بالفساد أو الصحة ثم طرء هذا الشك الساري على فرض عدم اخلاله بقربيته أو فرض توصليته ، لا بأس بجريان القاعدة أيضا. ثم إن في صورة وضوئه بعد استصحاب حدثه فهذا الشك وإن لم يرجع إلى الشك في حكمه الظاهري بل موكد له ، ولكن لما كان هذا الشك حادثا بعد العمل فاستصحابه أيضا محكوم بالقاعدة. و لا يقال: إن هذا الشك لا يرفع الاستصحاب السابق، فعلى فرض عدم الحكومة عليه يجري الإشكال السابق. لأنه يقال: ان مرجع هذا الشك بالنسبة إلى السابق إلى الشك في انتقاض اليقين باليقين، و في مثله لا يجري الاستصحاب، فاحتماله مساوق احتمال عدم جريان الاستصحاب في السابق.

الجاري قبل العمل ، لأنه لا موضوع لها قبل العمل ، ولما كان المكلف قبل الصلاة مستصحب الحدث يكون في حكم من دخل في الصلاة عالما بالحدث ، فلا تجري في حقه قاعدة التجاوز.

ولا ينتقض ذلك بالوجه الأول ، فان جريانها فيه ليس لأجل حكومتها على استصحاب الحدث الجاري قبل الصلاة ، بل لأجل كون المكلف يحتمل الوضوء قبل الصلاة بعد استصحاب الحدث ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا استصحاب الحدث المستصحب ، وهذا الاستصحاب إنما يجري بعد الصلاة ، فتكون القاعدة حاكمة عليه ، وأين هذا مما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث؟ فالفرق بين الوجهين مما لا يكاد يخفى.

بقي الكلام في حكم الوجه الثاني بكلا وجهيه والوجه الرابع.

أما الوجه الأول من الوجه الثاني : وهو ما إذا لم يعلم المكلف بعد الفراغ صورة العمل وكيفية وقوعه - كما إذا لم يعلم الجهة التي صلى نحوها ، أو لم يعلم أنه حرك الخاتم في يده أو لم يحركه ، أو لم يعلم مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده ، ونحو ذلك من الأمثلة - فمقتضى إطلاق قوله علیه السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » عدم الاعتناء بالشك. ولكن مقتضى التعليل الوارد في بعض أخبار الوضوء وهو قوله علیه السلام « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » عدم شمول القاعدة لمفروض الكلام ، فان المفروض : أن المكلف دخل في العمل غفلة عن غير التفات ، فلم يكن هو حين العمل أذكر من حين الشك. ولكن هذا مبني على كون التعليل لإفادة الكبرى الكلية ليكون علة للحكم فيدور الحكم مداره ، وللمنع عن كونه علة للحكم مجال ، بل لا يبعد أن يكون لبيان حكمة التشريع ، لان الغالب كون المكلف حين العمل أذكر من حين الشك ، فالتعليل ورد مورد الغالب ، وفي مثله لا يستفاد منه الكبرى الكلية ، فتأمل جيدا.

ص: 650

وأما الوجه الثاني من الوجه الثاني : وهو ما إذا علم المكلف صورة العمل وأنه صلى إلى هذه الجهة المعينة أو علم أنه لم يحرك الخاتم في يده ولكن يحتمل وصول الماء تحته ، فالأقوى : عدم جريان القاعدة فيه ، فان الشك فيه لا يتمحض في جهة انطباق المأتي به على المأمور به ، بل الشك في الصحة والفساد في مثله إنما يكون لأمر خارج عن حيثية الانطباق ، فان الشك في وصول الماء تحت الخاتم أو كون هذه الجهة المعينة هي القبلة لا ربط له بعمل المكلف ، بل الشك في ذلك حاصل ولو لم يصدر من المكلف عمل ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، فان الشك فيه متمحض في الانطباق وعدمه ، لأن الشك في وصول الماء تحت الخاتم بعد تحريكه أو الشك في كون الجهة التي صلى نحوها هي القبلة لا يكون إلا بعد صدور العمل عن المكلف.

وحاصل الكلام : أنه فرق واضح بين ما إذا عمل الجاهل مدة ثم شك في كيفية عمله وأنه كانت صلاته مع السورة أو بلا سورة أو أنه صلى مع المشكوك أو لا ، وبين ما إذا علم المكلف أنه صلى بلا سورة أو صلى في الثوب المعين المشكوك كونه من المشكوك (1) فان الشك في الأول يتمحض في انطباقه على فتوى من يقول ببطلان الصلاة مع المشكوك أو بلا سورة ، وفي الثاني يكون لأمر خارج وإن حصل منه الشك في انطباق العمل على الواقع المأمور به ، وقد عرفت : أن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك المتمحض في الانطباق وعدمه.

ص: 651


1- أقول : لا إشكال في أن مصب القاعدة هو صورة الشك في انطباق المأمور به على المأتي به ، سواء كان الشك في الانطباق من جهة الشك في اتيان العمل مع شرطه المعلوم مصداقه أو مع الجزم باتيانه مع الشك في مصداقية الموجود شرطه. وتنظير المقام بفرض اتيان الصلاة بلا سورة غلط ، إذ الشك فيه ناش عن الشبهة الحكمية ، وأين هذا مع اتيان الصلاة إلى جهة الجنوب مع الشك في كونه مصداق القبلة؟ وحينئذ لا وجه لتخصيص القاعدة بالشك الأول بعد صدق كون المأمور به مما يشك انطباقه مع المأتي به في الفرضين. وبذلك تعرف حال سائر التضيقات في المقام ، لان ذلك كله خلاف إطلاق لفظ القاعدة ، كما لا يخفى.

وبما ذكرنا ظهر : عدم جريان قاعدة الفراغ في الوجه الرابع ، فان الشك فيه أيضا لا يتمحض في الانطباق ، لان قيام البينة مثلا قبل الصلاة على كون هذه الجهة هي القبلة إنما تجدي في صحة الصلاة إذا كانت محفوظة بعد الصلاة ، والمفروض : أنه بعد الصلاة ارتفعت البينة إما لعلم المكلف بفسق الشاهدين وإما لشكه في عدالتهما ، وعلى كلا التقديرين : يرجع شكه إلى الشك في كون هذه الجهة هي القبلة ، فيندرج في الوجه الثاني من الوجه الثاني.

وكذا الكلام فيما إذا كان المكلف عالما بجهة القبلة وبعد الصلاة شك في مطابقة عمله للواقع ، فإنه لا تجري في حقه قاعدة الفراغ أيضا ، لسراية شكه بعد الصلاة إلى ما قبل الصلاة ، ويرجع شكه بالآخرة إلى كون هذه الجهة هي القبلة ، سواء كانت في حال الشك متذكرا لمدرك علمه وأنه حصل من السبب الذي ينبغي حصول العلم منه أو لم يكن متذكرا لمدرك قطعه ويحتمل حصوله عن سبب لا ينبغي الاعتماد عليه ، فان التذكر لمدرك العلم وعدم التذكر لا دخل له بسراية الشك وكونه لجهة أخرى غير جهة الانطباق ، فما استجوده الشيخ قدس سره من التفصيل بين الصورتين - عند التعرض لمدرك قاعدة اليقين بعد بيان عدم شمول أخبار الاستصحاب لها - مما لا وجه له ، فراجع وتأمل جيدا.

المبحث السابع

لا تجري قاعدة الفراغ والتجاوز في حق من يحتمل الترك عمدا ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » وقوله علیه السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك الخ » هو اختصاص القاعدة بصورة احتمال الترك غفلة عن نسيان ، خصوصا قوله علیه السلام « هو حين

ص: 652

يتوضأ أذكر منه حين يشك » فان مقابل الأذكرية هو النسيان لا العمد ، فاحتمال عموم القاعدة لصورة الشك في ترك الجزء أو الشرط عن عمد ضعيف غايته. نعم : يمكن أن يقال إنه تجري في حقه أصالة الصحة ، بناء على تعميم أصالة الصحة لعمل نفسه وعمل غيره. وهذا أيضا لا يخلو عن إشكال ، فان أصالة الصحة في عمل نفسه ترجع إلى قاعدة الفراغ ، للعلم بأنه لم يجعل الشارع للشك في عمل الشخص نفسه قاعدتين ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث قاعدة الفراغ والتجاوز.

ومنها: « أصالة الصحة »
اشارة

وتمام الكلام فيها يتم برسم أمور :

الأول :

لا إشكال في اعتبار أصالة الصحة في عمل الغير وحكومتها على الاستصحاب الجاري في موردها ، سواء قلنا : بأنها من الامارات أو من الأصول. وقد استدل على ذلك بالكتاب والسنة والاجماع وبناء العقلاء والسيرة المستمرة بين المسلمين وبلزوم العسر والحرج مع عدم البناء على الصحة بل اختلال النظام ، وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع ، وإن كان أكثرها لا يخلو عن مناقشة بل منع ، حتى لزوم العسر والحرج الذي قيل : إنه عمدة الوجوه التي استدلوا بها على أصالة الصحة ، فان الحاجة إلى أصالة الصحة إنما هي في غير مقام اليد وهو ليس بمثابة يلزم منه العسر والحرج عند عدم البناء

ص: 653

على الصحة (1) فتأمل.

وعلى كل حال : يكفينا الاجماع المحقق ، فإنه لا ينبغي التأمل في انعقاد الاجماع على اعتبار أصالة الصحة في الجملة (2) والظاهر أن يكون نفس أصالة الصحة معقد الاجماع على نحو الكبرى الكلية ، فلا يضر بالتمسك بالاجماع وقوع الاختلاف في بعض الصغريات والموارد الجزئية.

والحاصل : أن الاجماع تارة : ينعقد على الحكم الشرعي في الموارد الجزئية ، وأخرى : ينعقد على عنوان كلي. فان كان الاجماع على الوجه الأول : فلابد من الاقتصار على الموارد التي انعقد فيها الاجماع ولا يجوز التعدي عنها ، وإن كان على الوجه الثاني : فاللازم هو الاخذ باطلاق معقد الاجماع ، كما إذا قام دليل لفظي على ذلك ، فللفقيه الفتوى بالحكم معتمدا على الاجماع ولو في مورد الاختلاف.

والظاهر : أن الاجماع في المقام قام على الوجه الثاني ، كما يظهر ذلك بالمراجعة في كلمات القوم. كما أن الظاهر أن يكون المراد من الصحة في معقد الاجماع الصحة الواقعية ، لا مجرد الصحة عند الفاعل. نعم لو كان المستند في اعتبار أصالة الصحة ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على ما هو الفاسد ، كان المراد من الصحة هي الصحة عند الفاعل ، ولكن هذا إنما يتم مع علم الفاعل بما هو الصحيح والفاسد ، وأما مع جهله بذلك : فلا معنى لحمل فعله على الصحيح عنده ، كما لا يخفى.

الامر الثاني :

لا يبعد أن تكون أصالة الصحة في العقود بنفسها معقد الاجماع بالخصوص

ص: 654


1- أقول : لعله نظر إلى خصوص العقود المالية ، وإلا فبالنظر إلى سائر العقود والايقاعات لا محيص من جريان مناط اليد في المقام ، فتدبر.
2- أقول : بل السيرة الشرعية على العمل بها التي ربما يكون هي مدرك إجماعهم.

مع قطع النظر عن الاجماع على أصالة الصحة في مطلق عمل الغير (1) وحيث إن أصالة الصحة في العقود من المسائل المهمة التي تعم بها البلوى خصوصا في باب الترافع والتخاصم - فان قطع الخصومة وتشخيص المدعي والمنكر يتوقف على تعيين مقدار سعة أصالة الصحة ليكون المنكر من وافق قوله لها - فينبغي بسط الكلام فيها.

فنقول : قد اختلفت كلمات الاعلام في حكومة أصالة الصحة في العقود على جميع الأصول الموضوعية المقتضية لفساد العقد ، والمتحصل من الكلمات أقوال ثلاثة :

الأول : حكومتها على كل أصل يقتضي فساد العقد ، سواء كان الأصل جاريا في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين ، فلو اختلف المتعاقدان في كون العقد واجدا لشرائط الصحة - من العربية والماضوية أو في بلوغ العاقد أو في قابلية أحد العوضين للنقل والانتقال - قدم قول من يدعي الصحة ، ولا تجري أصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم كون المال قابلا للنقل والانتقال لو فرض أن في البين أصل موضوعي يقتضي عدم قابلية المال للانتقال ، فتكون أصالة الصحة حاكمة على جميع الأصول السببية والمسببية المقتضية لفساد العقد.

الثاني : حكومتها على خصوص الأصل الذي يقتضي فساد العقد من حيث الشرائط الراجعة إلى تأثيره : من العربية والماضوية ونحو ذلك. فلو كان الشك متمحضا في تأثير السبب وكونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه كان الأصل فيه الصحة. وأما لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في شرائط المتعاقدين أو شرائط العوضين فلا تجري فيه أصالة الصحة.

ص: 655


1- أقول : تكثير القواعد ليس من دأب الأساطين! بل الأستاذية في ارجاع الشتات تحت مسلك واحد!.

والحاصل : أن أصالة الصحة إنما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ، فإذا لم يكن في مورد الشك إلا أصل عدم الانتقال كانت أصالة الصحة حاكمة عليه. وأما إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد - كأصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم قابلية المال للنقل والانتقال - فلا تجري فيه أصالة الصحة.

الثالث : حكومتها على كل أصل يقتضي فساد العقد ، إلا إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في الشرائط العرفية للعوضين أو المتعاقدين ، كمالية العوضين ورشد المتعاقدين في الجملة.

وقد يختلف بعض الشروط حسب اختلاف العقود ، فرب شرط يكون من الشرائط العرفية لعقد ومن الشرائط الشرعية لعقد آخر ، كالبلوغ ، فإنه في عقد الضمان يمكن أن يقال : إن البلوغ من الشرائط العرفية للضامن ، بخلاف عقد البيع. والسر في ذلك : هو أن حقيقة الضمان إنما هو تحويل ما في الذمم وانتقال المال من ذمة إلى ذمة ، والعرف لا يرى للصبي ذمة ، فكان البلوغ من الشرائط العرفية في عقد الضمان ، بخلاف البيع ، فان حقيقته هو المبادلة بين المالين ولو كان المبيع أو الثمن كليا ، نعم : لازم كون أحدهما كليا هو اشتغال الذمة به ، والبلوغ لا يكون من الشرائط العرفية للمبادلة بين المالين. ولعل هذا هو الوجه في تفرقه بعض الأصحاب بين دعوى البلوغ في عقد الضمان وبين دعوى البلوغ في عقد البيع ، حيث بنوا على تقديم قول من يدعي عدم البلوغ في الأول لأصالة عدمه ، وتقديم قوله من يدعي البلوغ في الثاني لأصالة الصحة ، فتأمل.

ثم إن قول المحقق الثاني قدس سره « إن الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها » إلى آخر ما نقله الشيخ قدس سره يحتمل فيه أحد الوجهين الأخيرين ، فان كان المراد من الأركان الأعم من الشرايط العرفية والشرعية ينطبق على الوجه الثاني ، وإن كان المراد من الأركان خصوص الشرائط

ص: 656

العرفية ينطبق على الوجه الثالث ، ويحتمل الوجهان في كلام العلامة أيضا.

هذا ، والتحقيق : أن أصالة الصحة إنما تقدم على أصالة بقاء المال على ملك مالكه ولا تقدم على سائر الأصول الموضوعية الاخر (1)كذا في النسخة، لكن يظهر بالتأمّل أنّ الصحيح «للترتّب على السبب» (المصحّح).(2) فإنه لا دليل على أصالة الصحة في العقود سوى الاجماع ، وليس لمعقد الاجماع إطلاق يعم جميع موارد الشك في الصحة والفساد ، بل القدر المتيقن منه هو ما إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لايجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه.

وبعبارة أوضح : أهلية العاقد لايجاد المعاملة وقابلية المعقود عليه للنقل

ص: 657


1- أقول : الأولى ان يقال : انه بعدما كان مرجع الصحة والفساد إلى تمامية الشيء من حيث ترتب الأثر عليه وعدمه ، فلا محيص من أن يكون مركز هذا الأصل ما يتصور له الصحة والفساد ، ولازم ذلك : هو كون مجرى هذا الأصل تارة هو السبب وأخرى المسبب من حيث تماميته في قابليته للترتب على المسبب
2- وحيث إن مجرى هذا الأصل لابد وأن يكون محرزا بالوجدان ، فلا محيص في فرض الشك في قابلية المسبب للتأثر ان يرجع الشك إلى قابليته شرعا مع كون المسبب محرزا عرفا بالوجدان. ثمّ إنّ الشكّ في تماميّة المسبّب أو السبب تارة من جهة قيد يكون محلّه العقد أو المتعاقدين أو العوضين، أو محلّه نفس المسبّب. و على أي حال: جميع هذه القيود راجعة إمّا إلى السبب أو المسبّب، لاستحالة تماميّة السبب و قابليّة المسبّب و عدم الأثر. و حينئذ فكلّ مورد يكون الشكّ في قيد من ناحية العرف لا مجرى لأصالة الصحّة، لعدم إحراز العنوان. و كلّ مورد يكون الشكّ في قيد شرعي يجري فيه أصالة الصحة، لعموم التعليل في رواية «اليد» بعد الجزم بعدم الفرق في الجريان من حيث المورد و بطلان الترجيح بلا مرجّح، كما لا يخفى. و أمّا توهّم: كفاية اجزاء العقد عرفا في إثبات تماميّة السبب، فهو كما ترى! إذ مهما شكّ في وجود قيد من قيود نفس العقد فأصالة الصحّة في نفس العقد لا يقتضي أزيد من تماميّة العقد في المؤثّريّة، و ليس شأنه إثبات قابليّة المحلّ للتأثّر، فمع الشك فيه عرفا للشكّ في فقد قيد عرفي لا ينتج مثل هذا الأصل ترتب المسبّب على السبب. نعم: لو أحرز قابليّته العرفيّة و تحقق مثل هذا البيع فيحتاج في إثبات تماميّته إلى إجراء أصالة الصحّة في المسبّب، فتدبّر.

والانتقال إنما يكون مأخوذا في عقد وضع أصالة الصحة ، فلا محل لها إلا بعد إحراز أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه ، فأصالة الصحاة إنما تجري إذا كان الشك راجعا إلى ناحية السبب من حيث كونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه أو فاقدا له. وأما لو كان الشك راجعا إلى أهلية العاقد أو قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، فالمرجع هو سائر الأصول العملية حسب ما يقتضيه المقام.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أن الشك في الصحة والفساد إن كان مسببا عن الشك فيما يعتبر في الايجاب والقبول - من العربية والماضوية والموالاة ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) في شروط العقد - تجري فيه أصالة الصحة.

وإن كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في فقدان شرط من شروط العوضين : فان كان للشرط دخل في مالية العوضين عرفا أو شرعا - كالخمر - أو كان للشرط دخل في قابليتهما للنقل والانتقال - كالوقف - فلا تجري فيه أصالة الصحة.

وإن لم يكن للشرط دخل في ذلك - كالعلم بهما أو التساوي بينهما إن كانا من جنس المكيل والموزون - فالظاهر : أنه تجري فيه أصالة الصحة ، لان الجهل بجنس العوض أو بمقداره أو زيادة أحد العوضين عن الآخر لا دخل له في المالية ، ولا يقتضي عدم القابلية لنقل والانتقال ، ولذلك صح هبة المجهول والمصالحة عليه ، وكذلك يصح التفاضل بين المالين في غير عقود المعاوضة ، بل حتى في عقود المعاوضة غير عقد البيع ( على قول ) فمثل هذه الشرائط لا دخل لها في مالية العوض وقبوله للانتقال ، بخلاف الوقف والخمر والحر ، فإنها لا تقبل النقل والانتقال ولا تصلح للمعاوضة عليها ، فلا تجري أصالة الصحة إذا كان الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في كون المبيع خلا أو خمرا أو كونه حرا أو عبدا أو كونه وقفا أو ملكا ، بل لا تجري أصالة الصحة إذا شك في كون

ص: 658

المبيع رهنا لم يأذن مالكه في بيعه أو غير رهن ، لأن الشك في جميع ذلك يرجع إلى الشك في قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، وقد عرفت : أنه مع عدم إحراز القابلية لا تجري أصالة الصحة.

نعم : لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في وقوع التفاضل بين العوضين وعدمه أو علم المتعاقدين بجنسهما ومقدارهما وعدمه فلا مانع من البناء على الصحة ، لما عرفت : من أن مثل هذه الشروط لا دخل لها بمالية العوضين وقبولهما للنقل والانتقال. هذا كله إذا كان الشك في شرط من شروط العوضين.

وإن كان الشك في شرط من شروط المتعاقدين : فان كان الشرط من الشروط التي تعتبر عرفا أو شرعا في أهلية المالك للنقل والانتقال فأصالة الصحة لا تجري فيه ، كالعقل والبلوغ والرشد ونحو ذلك. وإن كان من الشروط التي لا تضر بأهلية المالك - كالاختيار المقابل للاكراه - (1) فعند الشك فيه تجري أصالة الصحة. وقد يشك في بعض الشروط أنها من أي القبيل؟ كاشتراط كون العاقد غير محرم.

وبالجملة : كل ما يكون الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في اختلال شرط من شروط سلطنة العاقد للنقل والانتقال ، فأصالة الصحة لا تجري فيه ، لان سلطنة العاقد تعتبر في عقد وضع أصالة الصحة. وكل ما يكون الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في اختلال شرط من شروط العقد ، فأصالة الصحة تجري فيه.

ص: 659


1- أقول : كونه من شروط المتعاقدين نظر ، لظهور « تجارة عن تراض » كونه قيد التجارة ، غاية الامر محله المتعاقدين ، بخلاف البلوغ والعقل ، إذ لسان حديث « رفع القلم » يقتضي قصورهما عن أهلية صدور المعاملة ، وذلك راجع إلى نفس المتعاقدين ، نظير اعتبار المالية في العوضين القائم بهما المعاملة ، وحينئذ لك أن تلاحظ لسان العقود وتجري الأصل في محله عند إحراز موضوعه.

وقد يكون للشرط جهتان : جهة ترجع إلى سلطنة المالك للنقل والانتقال فيكون من شرائط المتعاقدين ، وجهة ترجع إلى نفس العقد فيكون من شرائط العقد كالبلوغ ، فان البلوغ كما يكون شرطا لتصرف المالك كذلك يكون شرطا لعقد العاقد ، فإنه لا يصح عقد غير البالغ ولو بالوكالة عن البالغ.

فان كان الشك في البلوغ من الجهة الأولى - كما إذا شك في بلوغ المالك العاقد - فأصالة الصحة لا تجري في العقد ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في عقد وضع أصالة الصحة.

وإن كان الشك فيه من الجهة الثانية - كما إذا شك في بلوغ الوكيل العاقد - فأصالة الصحة تجري في عقده ، لأن الشك في ذلك متمحض في الشك في صحة العقد وفساده ، والمتيقن من مورد أصالة الصحة هو ما إذا كان الشك متمحضا في صحة العقد وفساده.

وتوهم : أن الشك في بلوغ الوكيل يستتبع الشك في صحة عقد الوكالة وأصالة الصحة لا تجري في عقد الوكالة ، فإنه ليس للموكل السلطنة على توكيل غير البالغ ، فالشك في صحة عقد الوكالة يرجع إلى الشك في اختلال شرط من شروط المتعاقدين

فاسد ، فان اشتراط أهلية الوكيل للوكالة أو سلطنة الموكل للتوكيل ليس شرطا زائدا على اشتراط بلوغ العاقد ، بل عدم سلطنة الموكل لتوكيل غير البالغ إنما يتولد من اشتراط بلوغ العاقد ، فيرجع الشك في صحة عقد الوكالة إلى الشك في صحة عقد الوكيل ، وبعد جريان أصالة الصحة في عقده لا يبقى مجال للشك في صحة عقد الوكالة وعدمها ، حتى يقال : إنه لا تجري في عقد الوكالة أصالة الصحة ، فتأمل جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا تجري أصالة الصحة عند الشك في اختلال شرط من شروط قابلية العوضين للنقل والانتقال أو اختلال شرط من

ص: 660

شروط أهلية المالك وسلطنته على النقل والانتقال ، بل مورد أصالة الصحة في العقود هو ما إذا كان الشك متمحضا في اختلال شرط من شروط صحة العقد ، لأنه ليس في البين دليل لفظي يؤخذ باطلاقه ، والقدر المتيقن من معقد الاجماع هو ما ذكرناه (1) ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح في المباحث الآتية.

الامر الثالث :

لا إشكال في أن المراد من صحة العمل هو ترتيب الآثار المقصودة منه ، بمعنى أنه يبنى على كون العمل واجدا للشرائط المعتبرة فيه عند الشك في ذلك ، فعلى هذا تكون صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الايجاب عبارة عن كونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه : من كونه وقع بصيغة الماضي والعربية وغير ذلك. وأما تحقق القبول بعده : فهو ليس مما يعتبر في صحة الايجاب ، بل الايجاب إن وقع واجدا لما يعتبر فيه فهو صحيح تعقبه القبول أو لم يتعقبه ، فان صحة الايجاب عبارة عن « أنه وقع على ما ينبغي أن يقع عليه ، بحيث لو تعقبه القبول لكان مؤثرا في النقل والانتقال » وهذا المعنى من الصحة التأهلية للايجاب لا يتوقف على تحقق القبول ، فليس معنى صحة الايجاب وقوع القبول عقيبه ، كما أنه ليس معنى صحة القبول وقوع الايجاب قبله.

وبالجملة : صحة العقد المركب من الايجاب والقبول غير صحة كل من الايجاب والقبول منفردا ، فان صحة العقد عبارة عن الصحة الفعلية - أي كون العقد مؤثرا للنقل والانتقال - وصحة الايجاب أو القبول عبارة عن الصحة التأهلية ، فأصالة الصحة في الايجاب لا تثبت وقوع القبول.

وقد صرح الشيخ قدس سره بذلك ، وإن كان قد يسبق إلى الذهن

ص: 661


1- أقول : ذلك ينافي مع ما أسسه سابقا : من انعقاد الاجماع على الكبرى الكلية ، فراجع ما ذكره.

المنافاة بين ما ذكره في « الامر الثالث » وبين ما ذكره في « الامر الثاني » عند رد مقالة المحقق الثاني ، حيث قال رحمه اللّه ما لفظه « وأما ما ذكره : من أن الظاهر إنما يتم مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنما يتم إذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحة فعله صحة فعل هذا الفاعل الخ » فان ظاهر ما أفاده في « الامر الثاني » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين تثبت صحة الفعل في الطرف الآخر ، وهذا بظاهره ينافي ما صرح به في « الامر الثالث » من أن أصالة الصحة في فعل الموجب لا نثبت فعل القابل ، فتأمل (1).

وعلى كل حال : لا إشكال فيما أفاده : من أن صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الايجاب معناها « أنه لو انضم إليه القبول لكان مؤثرا في النقل والانتقال » وصحة عقد الصرف والسلم معناها « أنه لو تعقبه القبض في المجلس لكان مؤثرا في النقل والانتقال » (2) فأصالة الصحة في الايجاب أو في عقد

ص: 662


1- وجهه : هو أنه يمكن دفع التنافي بين الكلامين ، فان ما أثبته في « الامر الثاني » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين تثبت صحة الفعل الصادر عن الطرف الآخر إذا توقف صحة أحد الفعلين على صحة فعل الآخر ، كما في صورة الشك في بلوغ أحد المتعاقدين ، فان صحة فعل البالغ تتوقف على صحة فعل الآخر المتوقفة على بلوغه أيضا. وما منع عنه في « الامر الثالث » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين لا تثبت صدور أصل الفعل من الطرف الآخر مع عدم توقف صحة فعل أحدهما على صدور الفعل عن الآخر ، كما في الايجاب ، فان صحته لا تتوقف على وقوع القبول عقيبه ، فما ذكره في « الامر الثاني » لا ينافي ما ذكره في « الامر الثالث » فتأمل جيدا ( منه ).
2- أقول : الأولى أن يقال : إن القبض بناء المشهور من كونه شرطا ناقلا ، فأصالة الصحة لا يجري في العقد مع الشك فيه ، من جهة أن المتيقن من مجراه صورة احتمال الصحة والفساد حين وجود العقد ، وفي المقام ليس كذلك ، وإلا فلا قصور في جريانها في العقد مع الشك في القبض. نعم : لو كان القبض من أجزاء السبب كان الامر كما ذكر ، ولكن له باثباته! إذ الظاهر من كلماتهم أن القبض شرط صحة العقد لا جزء المؤثر. و من هنا نقول: بأنّه لو بنينا على شرطيّة المتأخّر- و لو بمذاق المشهور في إجازة الفضولي- لا قصور في جريان أصالة الصحّة في المقام أيضا. نعم: في الإجازة بناء على كونه منشأ لإضافة العقد إلى المالك لا يجري أصالة الصحّة حتّى على مذاق المشهور: من الكشف، لعدم إثباته الإضافة الّتي هي موضوع الصحّة و الفساد. و من هنا ظهر أيضا: عدم جريان استصحاب إذن المرتهن في بيع الرهن عند الشكّ في رجوعه قبله. نعم: لا بأس في بيع الرهن مع الشكّ في رجوعه، لعدم قصور في استصحاب بقاء إذنه و رضاه، فتدبّر فيما قلت.

الصرف والسلم لا تثبت وقوع القبول أو تحقق القبض في المجلس عند الشك في ذلك. وكذا الكلام في بيع الراهن مع الشك في إذن المرتهن ، أو مع الشك في تقدم البيع على رجوع المرتهن عن إذنه وتأخره ، فان أصالة الصحة في بيع الراهن لا تثبت إذن المرتهن أو تقدم البيع على الرجوع ، بل مقتضى ما ذكرناه في الامر السابق هو عدم جريان أصالة الصحة في بيع الراهن في المثال ، للشك في صدوره عمن له الولاية والسلطنة على البيع ، فيشك في موضوع أصالة الصحة. وأولى من ذلك بيع الوقف مع الشك في عروض ما يسوغ معه بيع الوقف ، فان بيع الوقف لا يتصف بالصحة التأهلية ، بل إما أن يقع البيع مصاحبا للصحة الفعلية وإما أن يقع باطلا من رأسه ، بخلاف الأمثلة المتقدمة ، فإنها تتصف بالصحة التأهلية مع عدم وقوع ما شك في وقوعه ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة في بيع الوقف مع الشك في عروض المسوغ ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :

لا تجري أصالة الصحة في عمل الغير إلا بعد إحراز صدور العمل بعنوانه الذي تعلق به الامر أو ترتب عليه الأثر ، فلا تجري أصالة الصحة مع الشك في صدور العمل بالعنوان الذي يترتب عليه الأثر أو يتعلق به الامر ولو مع العلم

ص: 663

بصدور دات العمل ، فلو شك في أن غمس الثوب في الماء كان بعنوان التطهير أو بعنوان إزالة الوسخ منه لا تجري فيه أصالة الصحة ، فان غمس الثوب في الماء بنفسه لا يتصف بالصحة والفساد ، بل الذي يتصف بهما هو الغسل بالماء ، فلابد من إحراز كون الغمس كان بعنوان الغسل لكي يشك في صحته وفساده ، وكذا أصالة الصحة في أفعال الصلاة إنما تجري بعد إحراز كون الافعال صدرت بعناوينها التي تعلق الامر بها ، فلو شك في كون الانحناء كان بعنوان الركوع أو بعنوان قتل الحية لا تجري فيه أصالة الصحة ، فان الانحناء بنفسه لا يتصف بالصحة والفساد ، بل الذي يتصف بهما هو الركوع.

وبالجملة : يتوقف جريان أصالة الصحة على إحراز صدور العمل على الوجه والعنوان الذي يكون العمل به موضوع الأثر ومتعلق الامر ، سواء كان العنوان من العناوين التي لا تتوقف حصولها على القصد كغسل الثوب ، أو كان من العناوين القصدية كالركوع والسجود ، وكالفراغ ذمة الغير في باب النيابة ، فإنه لولا قصد النيابة في العمل لا يكاد يقع العمل عن الغير المنوب عنه ، فلابد من إحراز كون النائب قصد بالعمل عنوان النيابة لكي تجري في عمله أصالة الصحة عند الشك في صحة العمل وفساده ، ولا يمكن إثبات قصد النيابة بأصالة الصحة في العمل.

لا أقول : إن أصالة الصحة لا تثبت القصد مطلقا ، إذ رب قصد يكون شرطا شرعيا لصحة العمل ، كقصد التقرب في العبادات ، ولا إشكال في جريان الصحة عند الشك في صحة الصلاة وفسادها من جهة الشك في قصد القربة.

بل أقول : إن موضوع الصحة إذا كان العمل بما له من العنوان القصدي فأصالة الصحة في العمل المأتي به لا تثبت أن الاتيان بالعمل كان بذلك العنوان القصدي ، وذلك واضح لا ينبغي الاشكال فيه.

ص: 664

إنما الاشكال في أنه يكفي في إثبات كون العمل المأتي به كان واجدا للعنوان إخبار العامل بذلك ، أو أنه لابد من العلم به أو قيام السنة عليه؟.

أما في باب العقود والايقاعات وما يلحق بها : فالظاهر كفاية إخباره بذلك وإن لم يحصل الوثوق بقوله ، لاندارجه في قاعدة « من ملك شيئا ملك الاقرار به » على إشكال في بعض الموارد.

وأما في العبادات : فإذا حصل الوثوق من قوله يقبل قوله ، لان الاقتصار في إثبات مثل هذه الموضوعات على العلم والبينة يوجب العسر والحرج ، بل ينسد باب النيابة في العمل مع كثرة الحاجة إليها وعموم البلوى بها ، فلا مجال لدعوى اعتبار العلم أو البينة ، بل الظاهر كفاية مطلق الوثوق وإن لم يكن الخبر عدلا ، فان التقييد بالعدالة إن كان لأجل إدراج خبره في أدلة حجية خبر العادل ، ففيه : أن أدلة حجية الخبر الواحد تختص بالاخبار القائمة على الأحكام الشرعية ولا تعم الموضوعات الخارجية ، لما دل على اعتبار التعدد فيها ، مع أنه في الخبر الواحد أيضا يكفي مطلق الوثوق بالصدور ، كما تقدم في محله. وإن كان التقييد بالعدالة لأجل حصول الوثوق من إخباره ، ففيه : أن الوثوق لا يتوقف على العدالة ، بل قد يحصل الوثوق من خبر الفاسق مالا يحصل من خبر العادل. فما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من اعتبار العدالة ، لا وجه له.

وبما ذكرنا يظهر ما في كلام الشيخ قدس سره « الامر الرابع » فإنه قال قدس سره « إن الفعل النائب عنوانين : أحدهما من حيث إنه فعل من أفعال النائب » إلى أن قال : « والثاني من حيث إنه فعل للمنوب عنه ، حيث إنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة » إلى أن قال : « والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من هذه الحيثية الثانية ، بل لابد من إحراز صدور الفعل الصحيح على وجه التسبيب » انتهى.

والانصاف : أن ما أفاده في هذا المقام مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه إن

ص: 665

أحرز أن العامل قصد النيابة وتفريغ ذمة الغير بعمله - إما من إخباره وإما من الخارج - فأصالة الصحة تجري في عمله ويحكم ببراءة ذمة المنوب عنه. وإن لم يحرز أن العامل قصد النيابة في عمله فلا تجري في عمله أصالة الصحة ، لعدم إحراز العنوان المتعلق للأثر ، فلا موضوع لأصالة الصحة. هذا مضافا إلى ما في جعل باب النيابة من باب التسبيب مالا يخفى ، فتأمل جيدا.

الامر الخامس :

قد تبين مما ذكرنا في « الامر الثاني » الاشكال فيما ذكره الشيخ قدس سره في « الامر الخامس » من قوله : « فلو شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بمالا يملك - كالخمر - أو بعين من أعيان ماله فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البايع ، لأصالة عدمه » انتهى.

فإنه لا تجري في المثال أصالة الصحة في الشراء ، للشك في قابلية الثمن للانتقال ، وقد عرفت : أنه مع الشك في قابلية العوضين للانتقال لا تجري أصالة الصحة ، مضافا إلى أنه لا معنى للحكم بصحة الشراء مع القول بعدم انتقال شيء من تركه المشتري إلى البايع ، فإنه إما أن نقول بانتقال المبيع من البايع إلى المشتري وإما أن لا نقول بذلك. فعلى الأول : يلزم الحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون أن يدخل في ملك البايع ما يقابله من الثمن ، وهو كما ترى! وعلى الثاني : لا أثر لأصالة الصحة في شرائه ، لان كلا من الثمن والمثمن بعد باق على ملك مالكه ، فأي أثر يترتب على أصالة صحة الشراء؟ فالانصاف : أن ما أفاده الشيخ مما لا يستقيم.

نعم : لا إشكال فيما أفاده في عنوان « الامر الخامس » وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار مثبتات أصالة الصحة ، ولا إشكال فيه بناء على كونها من الأصول

ص: 666

العملية (1) وقد استشهد بكلام العلامة قدس سره على ذلك ، وينبغي تحرير كلام العلامة مع ما علق عليه جامع المقاصد ، ليتضح محل الاستشهاد.

قال العلامة قدس سره في القواعد : « لو قال آجرتك كل شهر بدرهم من غير تعيين ، فقال : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ، فان قدمنا قول المالك ، فالأقوى : صحة العقد في الشهر الأول هنا. وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى : التقديم فيما لا يتضمن دعوى » انتهى. وقد أفاد في كلامه هذا فرعين من فروع التنازع بين المالك والمستأجر.

الأول : ما إذا اختلف المالك والمستأجر ، فقال المالك : آجرتك كل شهر بدرهم ، وقال المستأجر : آجرتني سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر. قال في جامع المقاصد - على ما حكي عنه - وجه النظر : هو أن المستأجر لما كان يدعي صحة عقد الإجارة - لان بناء العلامة على بطلان إجارة كل شهر بدرهم من حيث جهالة مدة الإجارة - فكان القول قول المستأجر ، لموافقة قوله لأصالة الصحة. ولكن لما كان أصالة الصحة لا تثبت وقوع العقد على السنة ، لان أصالة الصحة في عقد الإجارة إنما تجري بعد إحراز مدة الإجارة التي هي ركن في عقد الإجارة - كالعوضين في عقد البيع - فصار ذلك منشأ توقف العلامة في تقديم قول المستأجر ، وحيث إن بناء المحقق الثاني على عدم جريان أصالة الصحة في العقود إلا بعد إحراز استكمالها للأركان اختار في الفرع المذكور عدم

ص: 667


1- أقول : بل ولو قلنا بأنها من الامارات ، فان مجرد اعتبارها من حيث تتميم كشفها في جهة الصحة والفساد لا يقتضي تتميم كشفها من سائر الجهات ، ومثبتية الامارات ليس إلا بالبناء على تتميم كشف الاحتمالات المتعلقة بمداليلها أجمع مطابقة أو التزاما. نعم : على مسلكه في شرح مثبتية الامارة لا محيص من التزامه بعدم التفكيك بين الا مارية والمثبتية ، فما لا يكون مثبتا لابد وأن يكون عنده أصلا عملية. ولقد أجرينا القلم في رد ما أفيد في مورد كلامه ، فراجع.

تقديم قول المستأجر ، فإنه لا منشأ لتقديم قول المستأجر إلا كون قوله موافقا لأصالة الصحة ، وهي لا تجري ، لأنها لا تثبت وقوع العقد على السنة ، فان ذلك أمر خارج يلازم صحة عقد الإجارة ، وأصالة الصحة لا تثبت اللوازم والملزومات.

وبذلك يظهر : أنه يصح الاستشهاد على عدم حجية مثبتات أصالة الصحة بما ذكره العلامة في الفرع الأول أيضا. فما يظهر من بعض المحشين : من أن نظر الشيخ قدس سره في الاستشهاد بكلام العلامة إنما هو الفرع الثاني ليس في محله ، بل التحقيق إن نظر الشيخ في الاستشهاد إلى كل من الفرعين.

ثم إن كلمة « هنا » في قوله : « فان قدمنا قول المالك صح في الشهر الأول هنا » ساقطة في كلام الشيخ قدس سره ولكنها موجودة في القواعد ، وقد ذكر جامع المقاصد وجه التقييد ب « هنا » ما حاصله : أن العلامة وإن كان بنائه على بطلان إجارة كل شهر بدرهم ، إلا أن في هذا الفرع خصوصية تقتضي صحة الإجارة في الشهر الأول ، فان النزاع بين المستأجر والمالك في كون عقد الإجارة وقع على السنة بدينار أو على كل شهر بدرهم يستلزم الاتفاق منهما على أن ثمن الإجارة في الشهر الأول هو الدرهم. ثم قال المحقق الثاني : « إن الاتفاق على ذلك مبني على أن يكون قيمة الدينار اثني عشر درهم ، فلو كان قيمته عشرة دراهم لم يحصل منهما الاتفاق ».

أقول : ولو فرض أن قيمة الدينار كانت اثني عشر درهم لا يحصل الاتفاق بينهما في الشهر الأول ، لان المستأجر يدعي أن ثمن الإجارة في مجموع السنة هو الدينار لا الدرهم. نعم : دعواه ذلك تتضمن أن يكون ثمن الإجارة في الشهر الأول جزء من اثني عشر جزء من الدينار يسوي قيمته درهم ، والمالك يدعي أن ثمن الإجارة خصوص الدرهم ، ومجرد كون الجزء من اثني عشر جزء من الدينار يسوي قيمته درهم لا يقتضي الاتفاق منهما على كون ثمن الإجارة في الشهر

ص: 668

الأول هو الدرهم ، ألا ترى أنه لو قال المالك : آجرتك بدرهم وقال المستأجر بل آجرتني بثوب يسوي قيمته درهم ، لم يكن ذلك اتفاقا منهما على كون ثمن الإجارة هو الدرهم ، وذلك واضح.

الفرع الثاني : ما إذا ادعى المستأجر اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا ، وأنكر المالك التعيين فيهما. وقد قوى في هذا الفرع تقديم قول المستأجر إذا لم يتضمن دعوى. وعن جامع المقاصد في شرح قوله : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى » ما حاصله : أن المستأجر تارة يدعي اجرة تساوي أجرة المثل ، وأخرى يدعي اجرة أنقص من أجرة المثل ، فعلى الأول : يقدم قول المستأجر ، لان دعواه لا تتضمن دعوى على المالك. وعلى الثاني : لا يقدم قول المستأجر ، لان دعواه تتضمن عدم استحقاق المالك أجرة المثل.

أقول : لا فائدة في تقديم قول المستأجر لو كان يدعي اجرة تساوي أجرة المثل ولا أثر لجريان أصالة الصحة في عقد الإجارة ، فإنه على التقديرين لا يطالب أكثر من أجرة المثل ، سواء قلنا بصحة عقد الإجارة أو فسادها. وعلى كل حال : يستفاد من قول العلامة : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى » عدم إثبات أصالة الصحة في العقود اللوازم والملزومات.

الامر السادس :

قد تقدم أن أصالة الصحة في العقود تكون حاكمة على أصالة الفساد وعدم انتقال المال عن مالكه إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر ، كما إذا كان الشك متمحضا في شرائط العقد - من العربية والماضوية والصراحة ونحو ذلك - فإنه ليس في البين أصل عملي يكون مفاده عدم وقوع العقد بالعربية أو الماضوية ، لان العقد حال وقوعه : إما أن يكون واجدا للشرائط المعتبرة فيه وإما أن يكون فاقدا لها ، فليس في البين إلا أصالة الفساد وعدم انتقال المال

ص: 669

عن مالكه ، ولا مجال لها مع أصالة الصحة ، سواء قلنا : إن أصالة الصحة من الأصول المحرزة المتكفلة لتنزيل أو قلنا : إنها من الأصول الغير المحرزة ، فإنه على كل تقدير تقدم على أصالة الفساد إما بالحكومة بناء على كونها من الأصول المحرزة ، فإنها تكون حينئذ محرزة لشرائط العقد ووقوعه بالعربية مثلا (1) وإما بالتخصيص بناء على كونها من الأصول الغير المحرزة ، فإنه لو قدم أصالة الفساد لم يبق لأصالة الصحة مورد. هذا إذا لم نقل بأنها من الامارات ، وإلا كان تقديمها على أصالة الفساد في غاية الوضوح وإن كان القول بكونها من الامارات بعيدا غايته ، فإنه ولو سلم كون الصحة من مقتضيات ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على الفساد ، إلا أنه قد عرفت : أن عمدة الدليل على اعتبار أصالة الصحة هو الاجماع ، ولم يظهر من الاجماع أن اعتبارها كان لأجل كشفها عن الصحة.

وبعبارة أخرى : لم يعلم أن التعبد بها كان تتميما لكشفها ، وقد تقدم - في المباحث السابقة - أنه لا يكفي في كون الشيء أمارة مجرد كونه واجدا لجهة الكشف ما لم يكن اعتباره من تلك الجهة ، فالقول بأمارية أصالة الصحة مما لا سبيل إليه. ولكن لا يتفاوت الحال من الجهة التي نحن فيها ، وهي حكومتها على أصالة الفساد إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر غير أصالة عدم الانتقال.

وإن كان في البين أصل موضوعي آخر : فان كان مؤداه عدم تحقق الشرائط الراجعة إلى سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال ، فقد تقدم أنه لا تجري أصالة الصحة عند الشك فيها ، بل لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك فيما يعتبر في سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال لم تجر

ص: 670


1- أقول : ولو قلنا بالأمارية لا يثبت عربية العقد ، فضلا عن أن يكون من الأصول المحرزة.

فيه أصالة الصحة ولو لم يكن في البين أصل موضوعي آخر غير أصالة الفساد وعدم انتقال المال عن مالكه ، كما لو شك في كون المبيع غنما أو خنزيرا ، فإنه ليس في مورد الشك أصل يقتضي كون المبيع خنزيرا ، ومع ذلك لا تجري في العقد أصالة الصحة ، للشك في قابلية المبيع للانتقال.

وإن كان مؤدى الأصل الموضوعي ما عدا الشرائط الراجعة إلى سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال ، كما إذا كان الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في بلوغ الوكيل القاعد أو كان مسببا عن وزن المبيع أو اختباره - ونحو ذلك مما كان مفاد الأصل عدم تحقق شرط الصحة - فقد تقدم : أن الأقوى جريان أصالة الصحة في العقد وحكومتها على مثل هذه الأصول الموضوعية أيضا. ولكن يظهر من عبارة « الفرائد » المنع عن جريان أصالة الصحة في مثل ذلك.

ثم لا يخفى : أن نسخ « الفرائد » في هذا المقام مختلفة مضطربة غاية الاضطراب ، وقد حكي أن عبارة الشيخ قدس سره كانت في الأصل مختصرة تقرب من خمسة أسطر ، وللمرحوم السيد الكبير الشيرازي قدس سره حاشية مفصلة تقرب من صفحة ، وفي بعض نسخ « الفرائد » حاشية السيد رحمه اللّه رقمت في المتن وعبارة الشيخ قدس سره كتبت في الهامش ، وفي بعض النسخ عبارة الشيخ رقمت في المتن وحاشية السيد رحمه اللّه رقمت في الهامش مع ما فيها من التكرار والاضطراب المخل بالمقصود ، وفي بعض النسخ رقم كلام الشيخ والسيد 0 معا في المتن وصار خلط بين الكلامين بحيث لا يتميز كلام أحدهما عن الآخر. وأحسن ما رأيناه من نسخ « الفرائد » النسخة المعروفة بطبع « محمد علي » فإنها موافقة للنسخة المصححة ، وفي هذه النسخة رقم كلام الشيخ قدس سره في الهامش وعبارة السيد رحمه اللّه في المتن.

والأولى نقل العبارة قبل بيان المقصود منها ، قال قدس سره « وأما

ص: 671

تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد - كأصالة عدم البلوغ وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن - فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة ومن تأخر عنه. والتحقيق : أنه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر - كما هو ظاهر كلمات جماعة بل الأكثر - فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الأصول : فان أريد بالصحة من قولهم : « إن الأصل الصحة » نفس ترتب الأثر ، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الموضوعي ، لأنه مزيل بالنسبة إليها ، وإن أريد بها كون الفعل على وجه يترتب عليه. الأثر - فيكون الأصل مشخصا للموضوع من حيث ثبوت الصحة له لا مطلقا - ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر ، لأنه إذا شك في بلوغ البايع فالشك في كون الواقع البيع الصحيح - بمعنى كونه بحيث يترتب عليه الأثر - شك في كون البيع صادرا عن بالغ أو غيره ، وهذا مرجعه إلى الشك في بلوغ البايع. فالشك في كون البيع الصادر من شخص صادرا عن بالغ الذي هو مجرى أصالة الصحة والشك في بلوغ الشخص الصادر منه العقد الذي هو مجرى الاستصحاب مرجعهما إلى أمر واحد ، وليس الأول مسببا عن الثاني ، فان الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد ، فمقتضى الاستصحاب ترتب أحكام العقد الصادر عن غير البالغ ، ومقتضى هذا الأصل ترتب حكم الصادر من بالغ ، فكما أن الأصل معين ظاهري للموضوع وطريق جعلي إليه ، فكذلك استصحاب عدم البلوغ طريق ظاهري للموضوع ، فان أحكام العقد الصادر عن غير البالغ لا يترتب عند الشك في البلوغ إلا بواسطة ثبوت موضوعها بحكم الاستصحاب. نعم : لو قيل بتقديم المثبت على النافي عند تعارض الأصلين تعين ترجيح أصالة الصحة ، لكنه محل تأمل. ويمكن أن يقال هنا : إن أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد عن غير بالغ بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فان بقاء الآثار السابقة مستند

ص: 672

إلى عدم السبب الشرعي ، لا إلى عدم السببية شرعا فيما وقع. نعم : لما كان المفروض انحصار الواقع فيما حكم شرعا بعد سببية تحقق البقاء ، فعدم سببية هذا العقد للأثر الذي هو مقتضى الاستصحاب لا يترتب عليه عدم الأثر ، وإنما يترتب على عدم وقوع السبب المقارن لهذا العقد ، فلا أثر لأصالة عدم البلوغ المقتضية لعدم سببية العقد المذكور حتى تعارض أصالة الصحة المقتضية لسببيته ، وأصالة الصحة تثبت تحقق العقد الصادر من بالغ. ولا معارضه في الظاهر بين عدم سببية هذا العقد الذي هو مقتضى الاستصحاب وبين وقوع العقد الصادر عن بالغ الذي يقتضيه أصالة الصحة ، لان وجود السبب ظاهرا لا يعارضه عدم سببية شيء وإن امتنع اجتماعهما في الواقع من حيث إن الصادر شيء واحد. لكن يدفع هذا أن مقتضى أصالة الصحة ليس وقوع فعل صحيح في الواقع ، بل يقتضي كون الواقع هو الفرد الصحيح ، فإذا فرض نفي السببية عن هذا الواقع بحكم الاستصحاب حصل التنافي. وإن قيل : إن الاستصحاب لا يقتضي نفي السببية لان السببية ليست من المجعولات ، بل يثبت الآثار السابقة. قلنا : كذلك أصالة الصحة لا تثبت وقوع السبب وإنما تثبت حدوث آثار السبب. وكيف كان : فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الاشكال » انتهى.

ومقصوده من هذا الكلام - على طوله - بيان اتحاد مرتبة أصالة الصحة مع الاستصحابات الموضوعية ، من دون أن يكون بينهما سببية ومسببية إذا كانت أصالة الصحة من الأصول الموضوعية المحرزة لمتعلق الشك ، وهو المراد من قوله : « وإن أريد بها كون الفعل على وجه يترتب عليه الأثر ».

ولقد أجاد فيما أفاد ، فإنه عند الشك في بلوغ العاقد مثلا يتحقق موضوع الاستصحاب وموضوع أصالة الصحة دفعة في مرتبة واحدة ، لان مؤدى أصالة الصحة صدور العقد من البالغ ومؤدى الاستصحاب عدم بلوغ العاقد ،

ص: 673

فيتعارضان.

وبالجملة : الشك في صحة العقد وفساده إنما هو باعتبار الشك في وجود قيده ، وهو بلوغ العاقد ، والشك في العقد باعتبار البلوغ عبارة أخرى عن الشك في البلوغ ، وهو المراد من قوله : « إن الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد » والشك في القيد يكون مجرى لكل من الاستصحاب وأصالة الصحة في عرض واحد ، غايته أن مفاد أصالة الصحة وقوع العقد عن بالغ ومفاد الاستصحاب عدم بلوغ العاقد ، فيكون البلوغ في أصالة الصحة قيدا للمحمول وفي الاستصحاب قيدا للموضوع ، وهذا مجرى اختلاف في التعبير لا يوجب اختلاف مرتبة الأصلين ، فأصالة الصحة تثبت سببية العقد والاستصحاب يثبت عدم سببيته ، فيتعارضان.

فان قلت : الغرض من استصحاب عدم البلوغ ترتيب آثار فساد العقد وعدم انتقال المال عن مالكه ، وهذا الأثر لم يترتب على عدم بلوغ العاقد وعدم سببية العقد الواقع منه للنقل والانتقال ، بل هو من آثار عدم وجود سبب النقل والانتقال بمفاد ليس التامة ، فان عدم المعلول إنما يستند إلى عدم وجود العلة لا إلى عدم علية الموجود. والحاصل : أن الاستصحاب إنما يكون بمفاد ليس الناقصة وهو عدم سببية العقد الصادر ، والأثر الشرعي إنما يترتب على مفاد ليس التامة وهو عدم وجود سبب النقل والانتقال ، وعدم سببية العقد الصادر وإن كان يلازم عدم وجود سبب النقل ، إلا أن هذا التلازم ليس شرعيا ، بل لمكان القطع بعدم وجود سبب مقارن للعقد المشكوك كونه سببا ، واستصحاب عدم بلوغ العاقد الذي كان يقتضي عدم سببية العقد الصادر لا يثبت عدم وجود سبب النقل إلا على القول بالأصل المثبت ، فالاستصحاب لا يجري ، لأنه لا يترتب عليه الأثر المقصود في المقام ، وتبقى أصالة الصحة سليمة عن المعارض ، وهذا هو المراد من قوله قدس سره : « ويمكن أن يقال هنا : إن

ص: 674

أصالة عدم البلوغ » إلى قوله : « لكن يدفع هذا ».

قلت : لا يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه موضوع الأثر الشرعي ، بل يكفي في صحة الاستصحاب كون المستصحب نقيض ما هو الموضوع للأثر ، ويترتب على الاستصحاب عدم وجود موضوع الأثر. ولا يتوقف في جريان الاستصحاب على أن يترتب على المستصحب أثر آخر ، بل نفي موضوع الأثر بنفسه من الآثار التي يكفي لحاظه في جريان الاستصحاب ، ففي المقام إنما يراد من الاستصحاب نفي موضوع الصحة ، ويثبت به نقيض ما تثبته أصالة الصحة (1).

وحاصل الكلام : أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب إذا كان المستصحب نقيض موضوع الأثر ، كما لا إشكال في أن الموضوع إن كان بمفاد كان الناقصة فنقيضه يكون بمفاد ليس الناقصة ، وإن كان بمفاد كان التامة فنقيضه يكون بمفاد ليس التامة ، فإنه لا يعقل أن يكون نقيض مفاد كان

ص: 675


1- أقول : ما أفيد - من أن الاستصحاب إذا كان مفاده نقيض موضوع الأثر يكفي هذا المقدار في جريانه بلا احتياج إلى ترتيب أثر في كبرى الدليل على هذا العنوان السلبي - في غاية المتانة. ولكن لنا أن نقول : إن الأثر إذا رتب على عنوان خاص كحيوة زيد ، فيكفي ذلك في استصحاب نقيضه : من عدم الحياة. وأما إذا كان الأثر مترتبا على الشيء لا بعنوانه الخاص بل بما هو مصداق الجامع وأول وجود له كما نحن فيه - حيث إن النقل والانتقال من آثار الجامع بين العقد الصادر وغيره وأن شخص العقد الصادر من أول مصاديق وجوده لا أن هذا الشخص بخصوصيته موضوع الأثر - ففي هذه الصورة في طرف الاثبات يكفي هذا الوجود في ترتبه ، ولكن في ترتب نقيض الأثر لا يكفي نقيض هذا الشخص ، بل يحتاج إلى إثبات نقيض الجامع الذي هو موضوع، ومن المعلوم : أن الاستصحاب لا يثبت إلا نقيض هذا الشخص الذي يثبته أصالة الصحة وهو غير كاف ، لأنه ليس نقيض موضوع يثبته أصالة الصحة ، بل النقيض أصالة عدم وجود السبب رأسا ، لا عدم سببية الموجود بشخصه. و توهّم: أنّه لا بأس في نفي الجامع من نفي الشخص بالتعبّد في ظرف نفي الأفراد الأخر بالوجدان، مدفوع بأنّ لازمه أيضا إثبات نفي الجامع في قبال استصحاب الكلّي، و لقد أوضحنا فساده في محلّه، فراجع و تدبر.

الناقصة ليس التامة وبالعكس ، لان نقيض كل شيء رفعه ، ومن المعلوم : أن ما تثبته أصالة الصحة إنما هو مفاد كان الناقصة ، وهو بلوغ العاقد وسببية العقد الواقع ، ويترتب عليه أثر النقل والانتقال ، فإذا كان موضوع أثر النقل والانتقال مفاد كان الناقصة فنقيضه يكون مفاد ليس الناقصة الذي هو مؤدى الاستصحاب ، والمفروض : أنه يكفي في صحة الاستصحاب إثبات ما هو نقيض موضوع النقل والانتقال.

فدعوى : أن عدم سببية العقد الصادر ليس موضوع الأثر ولا يترتب عليه عدم النقل والانتقال - لان عدم المسبب يستند إلى عدم وجود السبب لا إلى عدم سببية الموجود - وإن كانت في محلها ولا سبيل إلى الخدشة فيها ، إلا أن عدم سببية العقد الصادر يكون نقيض ما هو الموضوع للنقل والانتقال ، وكما يصح التعبد بكون الموجود هو الموضوع للأثر كما هو مفاد أصالة الصحة ، كذلك يصح التعبد بكون الموجود نقيض موضوع الأثر كما هو مفاد الاستصحاب ، وإلى ذلك يرجع قوله قدس سره « ولكن يدفع هذا الخ ».

فان قلت : قد تقدم في الأحكام الوضعية : أن السببية لا تنالها يد الجعل وإنما المجعول الشرعي هو ترتب المسبب أو التكليف على سببه أو موضوعه ، فالاستصحاب لا يجري لنفي سببية العقد وإنما يجري لنفي الحكم الوضعي وهو النقل والانتقال ، فليس الاستصحاب في المقام إلا أصلا حكميا ، وأصالة الصحة تكون حاكمة عليه ، لأنها من الأصول الموضوعية ، كما هو مفروض الكلام.

قلت : هذا الاشكال بمثابة من الفساد! بداهة أن التعبد بوجود موضوع التكليف أو سبب الوضع بلحاظ وجود التكليف والوضع أمر بمكان من الامكان ، فإذا صح التعبد بوجود الموضوع والسبب صح التعبد بعدم الوجود أيضا ، مع أنه على هذا يلزم أن تكون أصالة الصحة أيضا من الأصول الحكمية ،

ص: 676

فإنه كما لا يصح التعبد بعدم سببية العقد الواقع ، كذلك لا يصح التعبد بسببية العقد الموجود ، فلا يعقل التفكيك بين مفاد الاستصحاب ومفاد أصالة الصحة ، وإلى هذا أشار بقوله : « وإن قيل » إلى قوله : « وكيف كان ».

هذا حاصل ما أفاده السيد الكبير قدس سره في كلامه المتقدم.

ومنه يظهر الاشكال فيما ذكره الشيخ قدس سره في الامر الثاني من الأمور التي عقدها في أصالة الصحة ، حيث قال - ردا على من قال بعدم جريان أصالة الصحة عند الشك في بلوغ الضامن أو أركان العاقد كالمحقق والعلامة 0 - « والأقوى بالنظر إلى الأدلة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال هو التعميم » فراجع.

هذا ، ولكن مع ذلك كله المسألة لا تخلو عن الاشكال ، فان المدرك في أصالة الصحة في العقود ليس إلا الاجماع ، وهو لا يخلو : إما أن يكون عمليا وإما أن يكون لفظيا. فان كان عمليا : فاللازم متابعة مقدار العمل ولا محل لملاحظة النسبة بين الاستصحاب وأصالة الصحة. وإن كان لفظيا : فالمتبع ملاحظة مقدار إطلاق معقد الاجماع.

فان استفيد منه كون أصالة الصحة من الأصول الموضوعية والحكمية - بمعنى أنها تجري في جميع موارد الشك في الصحة والفساد سواء كان في مورد الشك أصل موضوعي يكون الشك في الصحة والفساد مسببا عنه كما إذا كان الشك في بلوغ العاقد أو وزن المبيع أو اختباره أو لم يكن في مورد الشك إلا أصالة عدم النقل والانتقال كما إذا كان الشك في شرائط صحة العقد من العربية والماضوية ونحو ذلك - فلا محالة تكون أصالة الصحة أخص مطلقا من الاستصحاب ، فإنه ليس في مورد من موارد أصالة الصحة إلا والاستصحاب على خلافها ، فمقتضى صناعة الاطلاق والتقييد تخصيص الاستصحاب بما عدا الشك في صحة العقد وفساده مطلقا.

ص: 677

وإن استفيد من معقد الاجماع اختصاص أصالة الصحة بما إذا كان الشك متمحضا في النقل والانتقال من دون أن يكون في مورد الشك أصل موضوعي يقتضي عدم كون العقد واجدا لشرائط النقل والانتقال ، ففي جميع موارد الأصول الموضوعية يبنى على فساد العقد ولا تجري أصالة الصحة.

والذي يقوى في النظر : جريان أصالة الصحة في ما عدا الشك في أهلية العاقد أو قابلية العوضين للنقل والانتقال - على التفصيل المتقدم - ولابد من التأمل التام في كلمات القوم.

هذا تمام الكلام فيما كان يهم البحث عنه في أصالة الصحة في فعل الغير. وأما أصالة الصحة في قول الغير واعتقاده : فلا إشكال فيها - على التفصيل الذي ذكره الشيخ قدس سره - فلا يهمنا البحث عنها.

- الامر الخامس -
اشارة

من الأمور التي ينبغي البحث عنها في خاتمة الاستصحاب بيان النسبة بينه وبين سائر الوظائف المقررة للجاهل.

أما النسبة بينه وبين القرعة : فالظاهر أنه لا يمكن اجتماعهما في مورد حتى تلاحظ النسبة بينهما (1) لان التعبد بالقرعة إنما يكون في مورد اشتباه موضوع التكليف وتردده بين الأمور المتباينة ، ولا محل للقرعة في الشبهات البدوية سواء كانت الشبهة من مجاري أصالة البراءة والحل أو من مجاري الاستصحاب ، لان المستفاد من قوله علیه السلام « القرعة لكل مشتبه » أو « مجهول » (2) هو

ص: 678


1- أقول : وذلك تمام ، إنما الكلام في تخصيص مصب الاستصحاب أو البراءة في غير المشتبه بالأمور المتبائنة مطلقا ، لامكان كون المشتبهين بين الشخصين على وجه لا بأس بجريان الاستصحاب أو البراءة في كل منهما.
2- 2 - قد راجعت الوسائل والمستدرك فلم أجد حديثا بهذا اللفظ نعم : في الوسائل « كل مجهول ففيه القرعة » الباب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث 11 و 1. وفي المستدرك « دعائم الاسلام ، عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه : أنهم أوجبوا الحكم بالقرعة في ما أشكل » الباب 11 ح 1 ( المصحح ).

مورد اشتباه الموضوع بين الشيئين أو الأشياء ، فيقرع بينهما لاخراج موضوع التكليف ، ولا معنى للقرعة في الشبهات البدوية ، فإنه ليس فيها إلا الاحتمالين والقرعة بين الاحتمالين خارج عن مورد التعبد بالقرعة ، فموارد البراءة والاستصحاب خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصص ، لا بالتخصيص ، كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره .

والحاصل : أن عنوان « المجهول » و « المشتبه » و « المشكوك » وإن كان يعم الشبهة البدوية ، إلا أن المتفاهم من عنوان القرعة هو أن يكون بين الموضوعات المتعددة لا بين الاحتمالين في موضوع واحد. فالحري إنما هو ملاحظة النسبة بين أصالة الاحتياط والتخيير وبين القرعة ، لا بينها وبين الاستصحاب وأصالة الحل والبراءة.

ولا إشكال في أن مورد القرعة إنما هو الموضوعات الخارجية ، وأما الأحكام الشرعية : فلا مجال للقرعة فيها ، بل إن أمكن فيه الاحتياط فهو ، وإلا فالتخيير ، فان قوله علیه السلام « القرعة لكل أمر مشتبه » وإن كان بظاهره يعم اشتباه الحكم الشرعي ، إلا أن مورد أخبار القرعة هو ما إذا كان الاشتباه في الموضوع الخارجي.

لا يقال : إن المورد لا يقتضي التخصيص ، لأنه يقال : نحن لا ندعي التخصيص من جهة المورد ، بل ندعي أنه من الموارد يستكشف أن مصب العموم هو خصوص الموضوعات ولا يعم الاحكام.

ثم إن الموضوع المشتبه تارة : مما يتعلق به حق اللّه ( تعالى ) وأخرى : مما يتعلق به حق الناس. فان كان مما يتعلق به حق الناس : فالوظيفة قد تقتضي

ص: 679

الاخذ بقاعدة « العدل والانصاف » من التثليث والتنصيف والتربيع حسب اختلاف الموارد والدعاوي (1) كما في موارد اختلاف البينات عند تردد الموضوع بين الشخصين أو الأشخاص ، فان المتحصل من مجموع الأخبار الواردة في ذلك وفي باب الدرهم الودعي هو الاخذ بما يقتضيه العدل والانصاف. وقد تقتضي الوظيفة إخراج الموضوع المشتبه بالقرعة.

وكذا الحال فيما إذا كان الموضوع متعلقا لحق اللّه ، فان الوظيفة قد تقتضي الاحتياط ، وقد تقتضي التخيير ، وقد تقتضي القرعة. والانصاف : أن تشخيص موارد القرعة عن موارد الاحتياط والتخيير وقاعدة العدل والانصاف في غاية الاشكال ، ولذلك قيل : « إن العمل بالقرعة إنما يكون في مورد عمل الأصحاب ولا يجوز الاخذ بعموم أخبارها » فإنه عند اشتباه الموطوء بغيره في الغنم تجري فيه القرعة - كما ورد به النص - وأما عند اشتباه الحرام بغيره في غير الموطوء لا تجري فيه القرعة ، مع أن الفرق بينهما غير واضح. ولابد من التأمل التام والمراجعة في كلمات الاعلام.

وعلى كل حال : قد عرفت أن المورد الذي يجري فيه الاستصحاب لا تجري فيه القرعة ، وبالعكس ، فلا يمكن أن يعارض أحدهما الآخر حتى نحتاج إلى ملاحظة النسبة بينهما.

وأما نسبة الاستصحاب مع سائر الأصول العملية - من البراءة والتخيير والاحتياط وقاعدة الحل والطهارة - فقد تقدم : أن الاستصحاب يكون واردا على الأصول العقلية وحاكما على الأصول الشرعية ، لأنه من الأصول المحرزة المتكفلة للتنزيل ، ولذلك يقوم مقام القطع الطريقي ، فيكون الاستصحاب رافعا لموضوع الأصول العقلية حقيقة بالورود ولموضوع الأصول الشرعية بالحكومة.

ص: 680


1- أقول : قاعدة العدل والانصاف إنما يجري في صورة لم تجر قاعدة القرعة ، كيف! ويصير القرعة مرجحا لا ينبغي مع هذا المرجح اقتضاء العدل والانصاف ، كما لا يخفى.

وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في حديث « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) مع أنه لا يحتاج إلى هذا التطويل ، فان المراد من قوله علیه السلام « حتى يرد فيه نهي » إن كان هو الورود من قبل اللّه ( تعالى ) بالوحي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله كان مفاد الحديث مفاد سائر العمومات الاجتهادية ، نظير قوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » (2) فيكون أجنبيا عن أدلة أصالة البراءة ، بل ينبغي عده من أدلة أصالة الإباحة ردا على من قال بأصالة الحظر قبل الشرع. وإن كان المراد من « الورود » الوصول والعلم بالنهي كان المراد من « الشيء » الشيء المشكوك ، فيكون مفاده مفاد سائر أدلة البراءة ولا خصوصية للحديث المبارك ، وقد عرفت : أن الاستصحاب باعتبار إحرازه يكون رافعا لموضوعها. وقد تكرر منا الكلام في تفصيل ذلك (3).

- الامر السادس -

في تعارض الاستصحابين.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو أن الشك في بقاء أحد المستصحبين إما يكون مسببا عن الشك في بقاء المستصحب الآخر وإما أن يكون الشك في بقاء كل من المستصحبين مسببا عن أمر ثالث ، ولا يمكن أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر ، فإنه لا يعقل أن تكون علة الشيء معلوله. وما قيل : من أن الشك في عموم كل من العامين من وجه مسبب عن

ص: 681


1- من لا يحضره الفقيه : ج 1 ح 937.
2- قد تكرر منه رحمه اللّه الاستشهاد بهذه الآية ، ولم نعثر عليها ، والظاهر أنه سهو منه ( المصحح ).
3- أقول : قد تقدم أن البيان الذي صدر منه لتحكيم الاستصحاب غير تام بالنسبة إلى ما اخذت المعرفة غاية له ، كأصالة الحلية والطهارة : فلا محيص في تحكيمه عليها أيضا بما ذكرنا من البيان.

الشك في عموم الآخر ، فاسد ، فان الشك في عموم كل منهما إنما يكون مسببا عن العلم الاجمالي بعدم إرادة العموم في أحدهما ، لامتناع إرادة العموم في كل منهما ثبوتا في مقام الجعل والتشريع ، وذلك واضح.

فان كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر : فلا إشكال في حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، بل في حكومة كل أصل سببي على كل أصل مسببي - ولو لم يكن الأصل السببي من الأصول المحرزة - إذا كان الأصل السببي واجدا لشرطين :

أحدهما : أن يكون ترتب المسبب على السبب شرعيا لا عقليا ، بمعنى أن يكون أحد طرفي الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على أحد طرفي الشك السببي ، فالشك في بقاء الكلي لأجل الشك في حدوث الفرد الباقي خارج عن محل الكلام ، لان بقاء الكلي ببقاء الفرد عقلي ، فلا يكون استصحاب عدم حدوث الفرد حاكما على استصحاب بقاء الكلي ، بل يجري استصحاب بقاء الكلي في عرض استصحاب عدم حدوث الفرد ، ولا معارضة بينهما ، وقد تقدم تفصيل ذلك في استصحاب الكلي.

ثانيهما : أن يكون الأصل السببي رافعا للشك المسببي ، فالشك في جواز الصلاة في الثوب لأجل الشك في اتخاذه من الحيوان المحلل خارج عن محل الكلام أيضا ، فان أصالة الحل في الحيوان وإن كان تجري ، إلا أنها لا تقتضي جواز الصلاة في الثوب ، لبقاء الشك في جواز الصلاة فيه على حاله ، لان أصالة الحل لا تثبت كون الثوب متخذا من الأنواع المحللة ، على ما تقدم بيانه أيضا في استصحاب الكلي.

فإذا كان الأصل السببي واجدا لهذين الشرطين فلا ينبغي التأمل في حكومته على الأصل المسببي ، لأنه رافع لموضوعه ، فلا يمكن أن يعارضه الأصل

ص: 682

المسببي ، لان كل حكم مشروط بوجود موضوعه ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب الحكم عليه ، ولا يعقل أن يكون الحكم متكفلا لوجود موضوعه. فالأصل المسببي إنما يجري إذا بقي الشك الذي اخذ موضوعا فيه والأصل السببي رافع ومعدم له في عالم التشريع ، لان التعبد بمؤدى الأصل السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك المسببي ، ولا عكس ، وبداهة أن التعبد بطهارة الماء المغسول به الثوب النجس بنفسه يقتضي التعبد بطهارة الثوب (1) إذ لا معنى لطهارة

ص: 683


1- أقول : مفاد « كل شيء طاهر » الجاري في الماء المشكوك طهارته إذا كان التعبد بطهارته في ظرف الشك به بلا نظر فيه إلى إلغاء الشك أصلا ، فتارة : يكون طهارة ما غسل به من الآثار الواقعية المترتبة على طهارة الماء أعم من الواقعية والظاهرية ، وأخرى : تكون بواقعيتها مترتبة على طهارة الماء واقعا ، وإنما يستفاد طهارته الظاهرية من عناية نظر القاعدة في تعبده بالطهارة في الماء إلى طهارة ما غسل به ، حيث إنه من آثارها بمقتضى دليل الكبرى الواقعي. ولا إشكال في التقديم على الوجه الأول ، ولكن لم يلتزم به أحد ، فلا محيص من الوجه الثاني. وحينئذ ففي التقديم بمناط نفي الموضوع للأصل المسببي إشكال ظاهر ، إذ غاية اقتضاء التعبد بطهارة الماء في ظرف الشك التعبد بطهارة الثوب المغسول به أيضا في ظرف الشك بلا نظر منه إلى نفي الشك ، وحينئذ فلو كان في البين استصحاب نجاسته لا مجال لحكومة هذا الأصل على الاستصحاب المزبور ، إذ كل واحد يثبت التعبد بحكم في ظرف الشك طهارة أو نجاسة ، من دون نظر لأحدهما إلى نفي موضوع الآخر من الشك في الطهارة والنجاسة. و توهّم: جريان القاعدة في الرتبة السابقة لسبق رتبة شكّه فلا يبقى شكّ في طهارة الثوب كي يجري الاستصحاب، مدفوع أوّلا: أنّ تقدّم رتبة المشكوك لا يقتضي مطلقا تقدّم رتبة شكّه- كما بيّنّا نظيره في العلم الإجمالي في مسألة الملاقي- و ثانيا: سلّمنا تقدّم رتبة الشكّ، و لكن نقول: إنّ الحكم بتعبّد الأثر في طول التعبّد بطهارة الماء، و لازمه كونه في عرض التعبّد بالنجاسة باستصحابه، فلم لا يجري الاستصحاب كي لا يبقى مجال للتعبّد بطهارة الثوب مع فرض وجود موضوعها في رتبة واحدة؟ و من هنا ظهر: أنّه لو بنينا أنّ لكلّ واحد من الأصلين النّظر إلى نفي الشكّ يجي ء الكلام أيضا في أنّه لم تجري أوّلا التعبّد بطهارة الثوب الناظر إلى نفي شكّه؟ بل من الممكن أن تجري الاستصحاب الناظر إلى نفي الشكّ عن طهارة الثوب كي لا يبقى مجال لنظر عموم طهارة الماء إلى التعبّد بمثل هذا الأثر، كما لا يخفى. و حينئذ ما أفاده المقرّر- بطوله و تكراره المملّ- مما لا يسمن و لا يغنى من جوع! فلا محيص في وجه تقديم الأصل السببي إلى بيان آخر، و لا يكاد يتمّ هذا البيان، كما لا يتمّ في وجه تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي أيضا، كما لا يخفى. و حينئذ الّذي يقتضيه التحقيق أن يقال في وجه التقديم بمناط الحكومة: هو أنّ لسان القاعدة إذا كان هو الطهارة في ظرف الشكّ في طهارة الماء، فمثل هذا اللسان بعد ما كان ناظرا إلى إثبات الأثر ففي الحقيقة نفس جعل الطهارة للماء المشكوك ناظر إلى نفي التعبّد بعدم آثار طهارة الماء المشكوك، و مرجع هذا النّظر في الحقيقة إلى النّظر إلى نفي استصحاب عدم الآثار مهما شكّ في طهارة الماء. و لا نعني من الحكومة إلّا كون أحد الأصلين ناظرا إلى نفي الآخر، إمّا بدوا أو بتوسيط نظره إلى نفي موضوعه، و ما نحن فيه من قبيل الأوّل، لا الأخير، كما هو الشأن في حكومة «لا ضرر» و «لا حرج» على أدلّة الأحكام. و المقرّر تخيّل أنّه من قبيل الأخير، فوقع في حيص و بيص و لم يأت مع تكراره بشي ء! و من هنا ظهر حال استصحاب السببي بالنسبة إلى المسبّبي، من دون احتياج في وجه التقديم إلى نفي الشكّ كي يرد عليه أيضا بأنّ شأن الاستصحاب ليس نفي الشكّ، مع أنّه لو كان كان استصحاب السببي أيضا ينفي الشكّ عن المسبّب. فان قلت: كما أنّ نظر الأصل السببي إلى نفي التعبّد بعدم آثار طهارة الماء المشكوك، كذلك نظر الأصل المسبّبي إلى إثباتها في ظرف الشكّ بها، فقهرا كان ناظرا إلى نفي التعبّد بأثر طهارة الماء المشكوك أيضا. قلت: غاية نظر الأصل المسبّبي إلى نفي ثبوت ما نظر إليه الأصل السببي، لا إلى نفي نظره، و بعبارة أخرى: نظر الأصل المسبّبي إلى نفي التعبّد، بنقيض مؤدّاه، و هو عين ما هو المنظور في الأصل السببي بلا نظر منه إلى نفي نظره إلى اللوازم، بل بالنسبة إليه ليس إلّا من باب تخصيص نظر الأصل السببي إلى غير هذا الأثر. و هذا بخلاف الأصل السببي، فانّه يرفع التعبّد بخلاف أثره بنفس نظره إلى إثبات اللوازم، و حينئذ فمن طرف الأصل السببي كان نفي الأصل المسببي بنظره إليه، و من طرف الأصل المسببي كان نفي النّظر إلى الأصل السببي إلى أثره بالتخصيص، و من المعلوم: أنّ عند الدوران بين الحكومة و التخصيص كان الحاكم مقدّما على التخصيص، كما لا يخفى، فتدبّر و افهم و اغتنم!!.

الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث ، سواء كانت طهارة الماء مؤدى الاستصحاب أو مؤدى قاعدة الطهارة ، فيرتفع الشك في بقاء نجاسة الثوب ، وأما التعبد بنجاسة الثوب : فهو بنفسه لا يقتضي التعبد بنجاسة الماء المغسول به ، نعم : لازم بقاء النجاسة في الثوب هو نجاسة الماء ، فإنه لو كان الماء طاهرا لم تبق النجاسة في الثوب ، فاستصحاب بقاء نجاسة الثوب بمدلوله المطابقي لا يقتضي نجاسة الماء وغير مزيل للشك فيها. فاثبات نجاسة الماء المغسول به الثوب باستصحاب بقاء نجاسة الثوب

ص: 684

يتوقف على مقدمتين - الأولى : بقاء الشك في نجاسة الثوب بعد غسله بالماء المشكوك الطهارة. الثانية : حجية الأصل المثبت. والأصل الذي يكون مؤداه طهارة الماء يرفع الشك في بقاء نجاسة الثوب ، لما عرفت : من أنه لا معنى لطهارة الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث ، فلم يبق موضوع لاستصحاب بقاء نجاسة الثوب.

ومن هنا يظهر : أن عدم جريان الأصل المسببي لا يبتني على عدم حجية الأصل المثبت ، بل لا يجري الأصل المسببي ولو فرض حجية الأصل المثبت ، لان الأصل إنما يثبت اللوازم والملزومات العقلية والعادية بعد جريانه ، وجريانه يتوقف على وجود موضوعه ، والأصل الجاري في الشك السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، فهو يسقط بسقوط موضوعه في الرتبة السابقة ، ولا تصل النوبة إلى المنع عن إثباته اللوازم والملزومات.

والحاصل : أن جريان الأصل المسببي يتوقف على الشك في مؤداه والشك في مؤداه يتوقف على عدم جريان الأصل السببي - إذ مع جريانه يرتفع الشك في مؤدى الأصل المسببي - وعدم جريان الأصل السببي يتوقف على جريان الأصل المسببي وإثباته اللوازم العقلية. وأما جريان الأصل السببي : فهو لا يتوقف على شيء ، لان موضوعه محرز بالوجدان وليس له في مرتبة جريانه رافع.

وظني أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى إطالة الكلام فيها ، ولم يعهد الاشكال فيها من أحد إذا كان دليل اعتبار الأصل السببي مغايرا لدليل اعتبار الأصل المسببي ، وإنما استشكل من استشكل فيها مع اتحاد دليل اعتبار الأصلين ، كقوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ». ومنشأ الإشكال : هو أن نسبة قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى كل واحد من الشك السببي والمسببي يتوقف على شيء ، لان موضوعه محرز بالوجدان وليس له في مرتبة جريانه رافع. وظني أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى إطالة الكلام فيها ، ولم يعهد الاشكال فيها من أحد إذا كان دليل اعتبار الأصل السببي مغايرا لدليل اعتبار الأصل المسببي ، وإنما استشكل من استشكل فيها مع اتحاد دليل اعتبار الأصلين ، كقوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

ومنشأ الإشكال : هو أن نسبة قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى كل واحد من الشك السببي والمسببي على حد سواء ، فإنه يعم كل فرد من أفراد اليقين ولا شك ، كما أن قوله : « أكرم العلماء » يعم جميع

ص: 685

الافراد المتدرجة في الوجود ، فلا وجه لملاحظة الدليل أولا مع الشك السببي حتى يقال بارتفاع الشك المسببي ، بل يمكن العكس ويلاحظ الدليل أولا مع الشك المسببي فيرتفع به الشك السببي بناء على حجية الأصل المثبت.

وبعبارة أوضح : فردية الشك المسببي للعام محرزة بالوجدان كما أن فردية الشك السببي له أيضا محرزة بالوجدان ، فلا معنى لاخراج الشك المسببي عن كونه فردا للعام بادخال الشك السببي في أفراد العام ، مع أن نسبة العام إلى كل من الفردين على حد سواء.

ويمكن تقريب الاشكال بوجه آخر : وهو أن الحكومة تتوقف على تعدد الدليل ليكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ومفسرا لمدلوله ، فلا يعقل الحكومة في دليل واحد ، لأنه يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم وكون الدليل الواحد شارحا ومفسرا لنفسه ، فالأصل السببي لا يمكن أن يكون حاكما على الأصل المسببي مع اتحاد دليل اعتبارهما.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك فساد ذلك ، فان قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » عام انحلالي ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين والشك في الخارج ، فهو بالنسبة إلى الشك السببي والمسببي بمنزلة دليلين متغايرين ، كما إذا كان لكل منهما دليل يخصه من أول الامر ، فيكون أحد الدليلين رافعا لموضوع دليل الآخر وحاكما عليه. وأما حديث اعتبار الشرح والتفسير في الحكومة : فقد عرفت ما فيه ، وسيأتي تفصيله أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ).

فالتحقيق : أنه لا مجال للتوقف في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، سواء توافقا في المؤدى أو تخالفا ، وسواء كان دليل اعتبارهما متحدا أو متعددا ، فان اتحاد الدليل وتعدده لا دخل له بذلك بعدما كان الدليل عاما انحلاليا.

ص: 686

وإن شئت قلت : إن قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لا يمكن أن يعم الأصل السببي والمسببي في عرض واحد جمعا ، إذ يلزم من دخول كل منهما خروج الآخر ، ولكن خروج الأصل السببي عن العموم يوجب التخصيص بلا مخصص ، لأنه فرد للعام وجدانا ، وليس في البين ما يوجب خروجه عنه ، وأما خروج الأصل المسببي عنه فلا يلزم منه ذلك ، بل الأصل المسببي خارج عنه بالتخصص ، لارتفاع موضوعه ، لما عرفت : من أن الأصل السببي رافع للشك المسببي ومعدم له في عالم التشريع ، فلا يلزم من خروجه التخصيص بلا مخصص.

وبعبارة أوضح : دخول الشك المسببي في العموم يحتاج إلى مؤنة خروج الشك السببي عنه ، فإنه لولا خروجه لا يكاد يمكن دخول الشك المسببي فيه ، لعدم انحفاظ الشك ، فلابد في دخوله من خروج الشك السببي ، بخلاف دخول الشك السببي في العموم ، فإنه لا يحتاج إلى مؤنة ، لكونه من أفراد العموم وجدانا ، فهو داخل بنفسه ، ومن المعلوم : أنه إذا توقف شمول العموم لفرد على خروج فرد عنه لا يكون العموم شاملا له من أول الامر لكي يلزم من شموله خروج ما هو معلوم الفردية ، وذلك واضح لا خفاء فيه.

هذا كله إذا كان الشك في أحد المستصحبين مسببا عن الشك في الآخر.

وإن كان الشك في كل منهما مسببا عن أمر ثالث : فهو على أقسام ، لأنه إما أن يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عملية للتكليف المنجز ، وإما أن لا يلزم منهما مخالفة عملية. وعلى الثاني : فإما أن يقوم دليل من الخارج على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين - كتتميم الماء النجس كرا بماء طاهر حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين المجتمعين فلا يمكن بقاء النجس على نجاسته والطاهر على طهارته - وإما أن لا يقوم دليل على عدم إمكان الجمع بينهما. فان لم يقم دليل على ذلك : فإما أن يكون لبقاء كل من المستصحبين في

ص: 687

زمان الشك أثر شرعي - كما لو توضأ المكلف بمايع مردد بين الماء والبول غفلة فان استصحاب طهارة البدن يقتضي ترتيب آثار الطهارة على البدن واستصحاب بقاء الحدث يقتضي ترتيب آثار الحدث - وإما أن يكون لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك دون الآخر ، كما في دعوى الموكل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية فهذه جملة ما ذكره الشيخ قدس سره من الأقسام.

وقبل بيان أحكامه ينبغي تمهيد مقدمتين ، وإن كان قد تقدم الكلام فيهما في أول مبحث الشك في المكلف به.

الأولى : هل الأصل في تعارض الأصول يقتضي التخيير في إعمال أحدها؟ أو أن الأصل في تعارض الأصول يقتضي التساقط؟ فقد يقال ، بل قيل : إن الأصل يقتضي التخيير ، قياسا لها على تعارض الطرق والامارات على القول بالسببية فيها ، على ما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) في مبحث التعادل والتراجيح : من أن الأصل في تعارض الامارات هو التساقط بناء على الطريقية والتخيير بناء على السببية.

والأقوى : هو التساقط ، فان التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ولا يقتضيه أدلة اعتبار الأصول ، لان أدلة اعتبارها تقتضي إعمال كل أصل بعينه ، فإذا لم يمكن ذلك فلابد من التساقط. وقياس الأصول المتعارضة على الامارات المتعارضة مع الفارق ، فان الامارات المتعارضة بناء على السببية فيها إنما تندرج في صغرى التزاحم ، سواء قلنا بالسببية الباطلة التي ترجع إلى التصويب أو قلنا بالسببية الصحيحة التي توافق مسلك التخطئة. أما على الأول : فرجوع التعارض في الامارات إلى باب التزاحم واضح. وأما على الثاني : فالسببية التي لا تنافي مذهب التخطئة عبارة عن اشتمال كل من الامارات المتعارضة على المصلحة السلوكية ، على ما تقدم بيانها في الجمع بين

ص: 688

الحكم الظاهري والواقعي (1)كذا في النسختين، و الصحيح (الحكمين الفعليين القائمين» (المصحّح).(2).

وتقدم أيضا : أنه لا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل الحق هو أن المجعول في باب الامارات نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، من دون أن يكون في العمل بها مصلحة سوى مصلحة الواقع عند الإصابة. ولكن لو قلنا بالمصلحة السلوكية فإنما نقول بها في حال انفتاح باب العلم والتمكن من إدراك الواقع ، فإنه في هذا الحال يمكن أن يتوهم بقبح التعبد بالامارات مع كونها قد تخالف الواقع ، لأنه يلزم تفويت مصلحة الواقع على المكلف مع تمكنه منها بتحصيل العلم. وأما في صورة انسداد باب العلم وعدم تمكن المكلف من إدراك الواقع : فلا موجب للالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأنه لا يلزم من التعبد بالامارات تفويت مصلحة الواقع ، بل باب الوصول إلى المصالح الواقعية منسد على المكلف حسب الفرض ، والمقدار الذي يدركه المكلف من إصابة الامارة للواقع خير جاءه من قبل التعبد بها ، فلا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية في

ص: 689


1- أقول : قد تقدم منا في مبحث الاشتغال : بأنه بناء على اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية لا عليته لا محيص من استفادة التخيير من إطلاق الأصول ، لان المقدار المتيقن من قبل العقل الحاكم بحرمة المخالفة العملية تنجزيا هو تقيد التعبد بالعمل بكل واحد في حال عدم العمل بالآخر ، ونتيجته التخيير محضا ولو بنينا فيها على الطريقية ، فارجاع البحث في المقام إلى مسألة السببية في الطرق أو طريقيتها أجنبي عن المقام. ثمّ إنّ فيما أفاد: من تصوّر المصلحة السلوكيّة على موضوعيّة الطرق الّذي هو راجع إلى المصلحة في تطبيق العمل على المؤدّى لا نفسه، إنّما يحتاج إليه بناء على إمكان إطلاق الحكم الواقعي بمقتضياته لمرتبة الشكّ بنفسه، و إلّا فلا قصور لتصوّر الحكم الفعلي قائمين
2- بنفس المؤدّى في ظرف الشكّ بالواقع بلا تضادّ بينهما مع اختلاف الرتبة، مع أنّ البناء على الأوّل من مجرّد مصلحة السلوك أيضا لا يكفي للجمع بين الحكمين الفعليين، كما لا يخفى، فالالتزام بمصلحة السلوك على مذهب المخطّئة ممّا لا يغني من جوع! كما لا يخفى. و لعمري! إنّ فيما أفيد لا يرى إلّا مصادرات محضة، فتدبّر فيها. و لكلماته أيضا مواقع نظر أخرى.

صورة انسداد باب العلم ، بل المصلحة السلوكية تختص بصورة انفتاح باب العلم إن لم نقل : إنه يكفي في صحة التعبد بالامارات مصلحة التسهيل ، وإلا فنمنع عن المصلحة السلوكية حتى في صورة انفتاح باب العلم.

وعلى كل حال : السببية التي توافق مسلك المخطئة عبارة عن اشتمال الامارة على المصلحة السلوكية في صورة التمكن من إدراك الواقع وانفتاح باب العلم.

وعلى هذا تندرج الامارات المتعارضة في باب التزاحم ويكون التخيير في الاخذ بأحدها على القاعدة ، لأنه لا يتمكن المكلف من الجمع بين الامارتين المتعارضتين (1) فلا يمكنه إلا سلوك أحد الطريقين وإدراك إحدى المصلحتين ، فيكون المكلف مخيرا في سلوك أحدهما إن لم يكن لأحدهما مرجحات باب التزاحم. هذا كله في الطرق والامارات.

وأما الأصول العملية : فهي وإن لم تكن طريقا إلى الواقع لأنها ليست كاشفة عن الواقع ، إلا أنه لا يمكن القول بالسببية فيها ، لان التعبد بالأصول العملية إنما يكون في ظرف انسداد باب العلم (2) وعدم التمكن من إدراك الواقع ، لأنها وظيفة الشاك والمتحير الذي لا تصل يده إلى الواقع ، فالتعبد بها يختص بصورة انسداد باب العلم ، ومعه لا يمكن اشتمال الأصول على المصلحة

ص: 690


1- أقول : وسيجئ في محله ( إن شاء اللّه تعالى ) أن نتيجة التزاحم في باب الامارات ليس التخيير على الاطلاق.
2- لا يخفى : أن هذا البيان لا يتم في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنها تجري ولو مع التمكن من تحصيل العلم بالفحص. ولكن الذي يسهل الخطب : هو أنه لا نقول بالمصلحة السلوكية في الامارات فضلا عن الأصول ، بل سيأتي في مبحث التعادل والتراجيح الاشكال في إدراج الامارات المتعارضة في صغرى التزاحم على القول بالسببية بمعنى اشتمالها على المصلحة السلوكية. فالأقوى فيها التساقط ، إلا على القول بالسببية التصويبية ، فإذا كان هذا حال الامارات ، فما ظنك بالأصول العملية! فتأمل جيدا. ( منه ).

السلوكية ، لأنه يكفي في التعبد بها مصلحة التسهيل وعدم وقوع المكلفين في كلفة الاحتياط ، فإذا لم يكن في الأصول العملية مصلحة السلوك لا يمكن إدراج الأصول المتعارضة في باب التزاحم ، لما عرفت : من أن إدراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم إنما كان لأجل اشتمالها على المصلحة السلوكية ، والأصول العملية فاقدة لها ، فلا تندرج في صغرى التزاحم.

وما ذكره الشيخ قدس سره من إمكان إدراج الاستصحابين المتعارضين في باب التزاحم إذا فرض أن العمل بأحد الاستصحابين يقتضي سلب القدرة وعدم التمكن من العمل بالآخر ، مجرد فرض لا واقع له ، بل الظاهر أن يكون من المستحيل.

فالانصاف : أن القول بالتخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا سبيل إليه ، بل هو قول بلا دليل ، لان نسبة أدلة الاعتبار إلى كل من الأصلين على حد سواء ولا يمكن الجمع بينهما حسب الفرض ، فلابد من التساقط.

ولا موقع للترجيح بين الأصول المتعارضة ، فان الترجيح إن كان لأجل موافقة أحد المتعارضين لأصل عملي آخر ، فالأصل المعارض يعارض كل من الأصلين المتعارضين مع اتحاد رتبتهما ، لان تعارض الأصول العملية إنما يكون باعتبار المؤدى ، فقد يعارض مؤدى أصل لمؤدى أصول متعددة مع اتحاد الرتبة ، وإلا لا يعقل وقوع التعارض بينها ، فالأصل العملي لا يصلح لان يكون مرجحا لاحد الأصلين المتعارضين.

وإن كان الترجيح لأجل موافقة مؤدى أحد المتعارضين لامارة غير معتبرة ، فالامارة لا تكون في رتبة الأصل ولا يمكن أن تكون الامارة مرجحة للأصل ، لان اعتبار الأصل ليس من جهة كشفه عن الواقع حتى تكون موافقة الامارة له مقتضية لأقوائية كشفه وأقربية مؤداه للواقع.

ص: 691

فالترجيح في باب الأصول المتعارضة ساقط من أصله ولا محيص عن القول بالتساقط ، وقد تقدم في مبحث الاشتغال ما ينفع المقام (1) فراجع.

المقدمة الثانية : المجعول في باب الأصول العملية وإن كان هو البناء العملي على أحد طرفي الشك ، الا أنه تارة : يكون المجعول هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشك وتنزيله عملا منزلة الواقع. وأخرى : يكون المجعول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك ، من دون أن يكون الجعل متكفلا لثبوت الواقع في أحد الطرفين. ويعبر عن الأول بالأصل المحرز أو المتكفل للتنزيل ، وعن الثاني بالأصل الغير المحرز ، ولا يخفى ما في التعبير من المناسبة.

ويدخل في القسم الأول الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة ، فان هذه الأصول كلها متكفلة للتنزيل والاحراز ، والمجعول فيها هو البناء العملي على ثبوت الواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الثبوت - كالاستصحاب - أو البناء العملي على الاتيان بالواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الفراغ والسقوط - كقاعدة الفراغ والتجاوز -.

ويدخل في القسم الثاني البراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة ، فان المجعول في هذه الأصول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون أن تكون متكفلة لثبوت الواقع أو الاتيان به (2).

ص: 692


1- أقول : قد أشرنا ولقد مر منا في مبحث الاشتغال : بأن بناء على الاقتضاء في العلم الاجمالي للموافقة القطعية لا محيص في الأصول النافية المشتملة على الترخيص على خلاف الواقع من التخيير ، لان منجزية العلم وعليته لحرمة المخالفة القطعية مانع عن الجمع بينهما ، ولازمه تقييد العقل جريان كل واحد في ظرف عدم العمل بالآخر ، ولا نعني من التخيير إلا هذا. كما أنه في الأصول المثبتة الموافقة للمعلوم بالاجمال عملا لا بأس بجريانها حتى في الاستصحاب المسمى عندهم بالأصول المحرزة ، فراجع ما تلوناه سابقا بلا احتياج إلى التكرار والاصرار. وباللّه عليك! لا تعتني إلى هذا الرعد والبرق ، فإنه لا يزيدك إلا خسارا!!!.
2- 2 - أقول : لو لم يكن قاعدة الطهارة ناظرة ولو تنزيلا إلى إثبات الطهارة الواقعية لابد من الالتزام بأحد المحذورين ، إذ الدليل الدال على طهارة ماء الوضوء - مثلا - إما أن يدل على شرطية الطهارة الواقعية أو الأعم من الواقعية والظاهرية ، فعلى الأول : يلزم عدم إحرازه بأصالة الطهارة ، وعلى الثاني : يلزم عدم لزوم إعادة الوضوء مع كشف نجاسة الماء بعد الوضوء ، ولا يلتزم أحد بواحد منهما ، فتدبر. ومن هنا ظهر حال أصالة الحل ، لوحدة اللسان وظهور اتحاد السوق ، فتدبر.

وتظهر الثمرة بين الأصول المحرزة وغيرها في موارد عديدة :

منها : قيام الأصول المحرزة مقام القطع الطريقي ، دون الأصول الغير المحرزة ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث القطع.

ومنها : عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا ، سواء كان مؤداها نفي التكليف المعلوم بالاجمال ولزم من جريانها مخالفة عملية ، أو كان مؤداها ثبوت التكليف المعلوم بالاجمال ولم يلزم من جريانها مخالفة عملية ، فان التعبد ببقاء الواقع في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدها ، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الانائين مع العلم بطهارة أحدهما؟ ومجرد أنه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحة التعبد ببقاء النجاسة في كل منهما ، فان الجمع في التعبد ببقاء مؤدى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف.

وهذا بخلاف الأصول الغير المحرزة ، فإنه لما كان المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك فلا مانع من التعبد بها في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية.

وبذلك يظهر : أن المانع من جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي إنما هو عدم قابلية المجعول فيها لان يعم جميع الأطراف ، لا لقصور أدلة اعتبارها ، فإنه لا مانع من شمول قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لكل واحد من اليقين والشك المتعلق بكل واحد من الأطراف.

فما يظهر من الشيخ قدس سره من أن المانع من جريان الأصول في

ص: 693

الأطراف هو عدم شمول الدليل لها لأنه يلزم أن يناقض صدر الدليل ذيله ، لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في مبحث الاشتغال. والغرض من إعادته دفع ما ربما يناقش فيما ذكرناه - من عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة عملية - بأنه يلزم على هذا عدم جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء ، لان استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، لأنه إن كان المايع ماء فقد ارتفع الحدث وإن كان بولا فقد تنجس البدن ، فالتعبد بالجمع بينهما لا يمكن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليين أو العاديين ، فان استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيته ينافي العلم بعدم الواقع في أحدهما ، لما بين الحياة والنبات من الملازمة ، وكذا التعبد ببقاء الكلي وعدم حدوث الفرد ونحو ذلك من الأمثلة التي تقتضي الأصول العملية فيها التفكيك بين المتلازمين. والالتزام بعدم جريان الاستصحابين إذا أوجبا التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين والعاديين بعيد غايته ، بل لا يمكن الالتزام به ، فان ثمرة القول بعدم حجية الأصل المثبت إنما تظهر في التفكيك بين المتلازمين ، فدعوى : عدم جريان الأصول المحرزة إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين ، تنافي القول بعدم حجية الأصل المثبت.

هذا ، والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال :

إنه تارة : يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه ، لأنهما يتفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوته أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيه ، كما في استصحاب نجاسة الانائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته ، فان الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاسته.

ص: 694

وأخرى : لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه (1) بل يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيه أو نفي ما علم تفصيلا ثبوته ، بل لا يحصل من التعبد بمؤدى الأصلين إلا العلم بمخالفة أحدهما الواقع ، كما في الأصول الجارية في الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين ، فإنه لا يلزم من استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء أو من استصحاب بقاء الحياة وعدم نبات اللحية العلم التفصيلي بمخالفة ما يؤديان إليه ، لأنهما لم يتحدا في المؤدى ، بل كان مؤدى أحدهما غير مؤدى الآخر ، غايته أنه يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين ، بخلاف استصحاب النجاسة أو الطهارة في كل من الانائين ، فان الاستصحابين متحدان في المؤدى مع العلم التفصيلي بالخلاف.

فالفرق بين القسم الأول والثاني مما لا يكاد يخفى ، والذي منعنا عن جريانه في أطراف العلم الاجمالي هو القسم الأول ، لأنه لا يمكن التعبد بالجمع بين الاستصحابين اللذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالاجمالي.

وأما التعبد بالجمع بين الاستصحابين المتخالفين في المؤدى الذي يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين : فلا محذور فيه ، فان التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر ، لأنه يجوز التفكيك الظاهري بين المتلازمين

ص: 695


1- أقول : لو كان المراد من العلم التفصيلي مجرد العلم بشيء ولو بعنوانه الاجمالي مثل « أحدهما » فكما أن نجاستهما ينافي طهارة أحدهما المعلومة ، كذلك بقاء الأمرين تعبدا ينافي العلم التفصيلي بعدم بقاء أحدهما. وإرجاع ذلك إلى العلم بمخالفة أحد الأصلين للواقع دون الآخر تحكم محض ومفهوم لا محصل له ، ومجرد مخالفة الأصلين للمؤدى لا يجدي في رفع المناقضة بين بقائهما مع العلم بعدم بقاء أحدهما ، إذ العقل كما يرى المضادة بين طهارة أحدهما مع نجاستهما تعبدا بتقابل التضاد ، كذلك يرى المضادة بل المناقضة بين بقاء الشيئين مع عدم بقاء أحدهما تفصيلا.

الواقعيين ، إلا أن يقوم دليل آخر من إجماع أو غيره على ثبوت التلازم واقعا وظاهرا ، كما في تتميم النجس كرا بطاهر ، على ما سيأتي بيانه.

فظهر : أن القول بعدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي لا يلازم القول بعدم جريانها إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين أو العاديين ، فتأمل.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الأقسام التي ذكرها الشيخ قدس سره لتعارض الاستصحابين ولو كانت تشترك في العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، إلا أنه منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين. ومنها : ما يجري فيه كل من الاستصحابين. ومنها : مالا يجري فيه شيء من الاستصحابين (1).

والأولى في تحرير الأقسام هو أن يقال : إن الاستصحابين إما أن يلزم منهما المخالفة العملية وإما أن لا يلزم منهما ذلك. وعلى الثاني : فاما أن يؤديان جمعا إلى ما يخالف المعلوم بالتفصيل فيما بين الأطراف أو لا يؤديان إلى ذلك. وعلى الثاني : فاما أن لا يكون لأحدهما أثر شرعي في زمان الشك وإما أن يكون لكل منهما أثر شرعي. وعلى الثاني : فاما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين اللذين قام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ولو ظاهرا وإما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، فالأقسام خمسة.

ولكن منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين ، وهو ما إذا لم يكن لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك ، بداهة أن الاستصحاب إنما يجري باعتبار الأثر ، فإذا لم يكن لأحدهما أثر فلا مجال لجريانه. ومنها : ما يجري فيه الاستصحابان من دون أن يكون بينهما معارضة ، وهو ما إذا لزم من جريان

ص: 696


1- أقول : ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر ما في هذه النتيجة المأخوذة من مقدماته من النظر والاشكال ، بلا احتياج إلى الاستدلال ، فتدبر.

الاستصحابين التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، كاستصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء. ومنها : مالا يجري فيه كل من الاستصحابين ، وهو القسم الأول والثاني والرابع. ولكن لا بمناط واحد ، بل في القسم الأول لا يجري الاستصحابان لأنه يلزم منهما المخالفة العملية ، كما في استصحاب طهارة الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما. وفي القسم الثاني لا يجريان لمكان أنهما يؤديان إلى ما يخالف المعلوم بالاجمال ، كما في استصحاب نجاسة الانائين مع العلم بطهارة أحدهما. وفي القسم الرابع لا يجريان لمكان قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بين الاستصحابين ، كما في تتميم الماء النجس كرا بماء طاهر ، فإنه لولا قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين لكانت القاعدة تقتضي بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ، ولكن قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين يوجب حصول الشك في بقاء الطاهر على طهارته وفي بقاء النجس على نجاسته ، فان الاجماع لم يقم إلا على اتحاد حكم المائين ، فيمكن أن يكون الماء الطاهر باقيا على طهارته والماء النجس صار طاهرا بالخلط ، ويمكن العكس ، فإن الاجماع لا يفيد أزيد من حصول الشك في بقاء الحالة السابقة لكل من المائين ، فموضوع الاستصحاب في كل منهما ثابت ، إلا أنه لا يجريان معا ، لأنه يلزم من جريانهما اختلاف حكم المائين المختلطين ، والمفروض : قيام الاجماع على الاتحاد. فالقسم الرابع يشارك القسم الأول والثاني في سقوط كل من الاستصحابين ، إلا أنه في القسم الأول كان السقوط لأجل عدم إمكان التعبد بهما ، وفي القسم الثاني يكون السقوط لأجل قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بينهما ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : أن الشيخ قدس سره لم يتعرض في تقسيمه للقسم الثاني ، وعلل سقوط الاستصحابين في القسم الأول بأنه يلزم منهما المخالفة

ص: 697

العملية. والتعليل بذلك ينافي مسلكه : من أن أدلة الاستصحاب بل مطلق الأصول لا تعم أطراف العلم الاجمالي ، فإنه على هذا ينبغي أن لا يفرق بين ما إذا لزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية وبين ما لم يلزم منه ذلك ، كما صرح بذلك في ذيل العبارة ، حيث قال : « ولذا لا نفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة » انتهى. فإنه لو كانت الحالة السابقة فيهما النجاسة لم يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية.

والانصاف : أن كلام الشيخ قدس سره في المقام وفي مبحث الاشتغال عند البحث عن الشبهة المحصورة وفي مبحث القطع عند البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية ، لا يخلو عن اضطراب ، فإنه تارة : يحوم حول المخالفة العملية ، وأخرى : يحوم حول قصور الأدلة وعمد شمولها لأطراف العلم الاجمالي ، فراجع وتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في الاستصحاب.

وقد وقع الفراغ منه في ليلة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من شهور سنة 1345.

* * *

ص: 698

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

خاتمة: في التعادل والترجيح

اشارة

والأولى تبديل العنوان بالتعارض ، فان التعادل والترجيح من الأوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين ، فكان الأنسب جعل العنوان للقسم والجامع بينهما.

وعلى كل حال : لا إشكال في أن البحث عن التعادل والتراجيح من أهم مباحث الأصول ، وليست المسألة من المسائل الفقهية ولا من المبادي ، لأنها تقع كبرى لقياس الاستنباط ، بل عليها يدور رحى الاستنباط في معظم المسائل. وقد تقدم : أن ضابط المسألة الأصولية وقوعها في كبرى قياس الاستنباط ، فلا ينبغي التأمل في كون المسألة من المسائل الأصولية ، مع أن البحث عن كونها من المبادي أو من المسائل قليل الجدوى. فالأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو أهم من ذلك ، وهو بيان ما يتحقق به التعارض والفرق

ص: 699

بينه وبين التزاحم والحكومة وأقسام التعارض وأحكامها ، فالكلام يقع في مباحث.

المبحث الأول: في ضابط التعارض

إعلم أن تعارض الدليلين إنما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث يؤل حكايتهما إلى اجتماع الضدين ويكشفان عن ثبوت النقيضين في نفس الامر وفي عالم الجعل والثبوت ، ضرورة أنه لو أمكن اجتماع المحكيين بهما في عالم الجعل والتشريع لم يتحقق التعارض بين الدليلين ، فان التعارض إنما يعرض الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين ، فلابد في تعارض الدليلين من تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في الوعاء المناسب لهما : من وعاء التكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، سواء كان التنافي في تمام المدلول أو في جزئه - كالعامين من وجه - وسواء كان التنافي بينهما لأجل امتناع اجتماعهما ذاتا في حد أنفسهما ، أو كان التنافي بينهما لأجل ما يلزمهما من اللوازم التكوينية والشرعية ، أو كان التنافي بينهما باعتبار بعض العوارض والحالات اللاحقة للموضوع : من الانقسامات السابقة على الحكم أو اللاحقة له بعد الحكم ، فكما يتحقق التنافي بين الدليلين لو كان مفاد أحدهما حرمة شرب الخمر في زمان ومكان خاص وحالة مخصوصة وغير ذلك من الوحدات الثمانية التي يعتبر في التناقض وكان مفاد الآخر عدم الحرمة في تلك الوحدات ، كذلك يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين حرمة شرب الخمر في جميع حالاته وكان مفاد الآخر جواز شربه في بعض

ص: 700

حالاته ، فإنه بالنسبة إلى ذلك الحال يلزم اجتماع النقيضين لورود النفي والاثبات عليه ، وكذا يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب الصلاة على العالم والجاهل وكان مفاد الآخر عدم وجوبها على الجاهل.

ومن ذلك يظهر (1) فساد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير موضوعيهما (2) فان موضوع الحكم الظاهري مقيد بالجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي وموضوع الحكم الواقعي غير مقيد بذلك ، ضرورة أن الحكم الواقعي وإن لم يمكن فيه الاطلاق والتقييد اللحاظي لحالة العلم والجهل ، إلا أنه لا محيص من نتيجة الاطلاق أو التقييد ، لأنه لا يعقل الاهمال النفس الأمري.

فان كانت النتيجة مطلقة وكان الحكم الواقعي محفوظا في حال علم المكلف وجهله : فلا محالة يلزم اجتماع النقيضين في حال جهل المكلف بالحكم

ص: 701


1- لا يخفى اختلاف نسخ « الفرائد » في هذا الموضع ، فمن بعضها يظهر : أن الشيخ قدس سره في مقام بيان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ، ومن بعضها يظهر : أنه في مقام بيان تغاير موضوع الأصول العملية مع موضوع الامارات ، لا تغاير موضوع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ، فراجع وتأمل جيدا ( منه ).
2- أقول : إن كان الغرض من عدم اختلاف موضوع الحكم الواقعي والظاهري عدم اختلافهما وجودا ، ففي غاية المتانة ، كيف! ولولا اجتماعهما في الوجود لا يبقى مجال اجتماعهما في المورد. وإن كان الغرض عدم اختلافهما في عالم عروض الحكم بحسب موطن عروضه ، ففيه : أن معروض الحكم الواقعي هو الذات في الرتبة السابقة عن الجهل بحكمه ، وفي الحكم الظاهري هو الذات في الرتبة اللاحقة عن الجهل بحكمه ، بناء على التحقيق : من جعل الجهل من الجهات التعليلة للحكم الظاهري ، فإنه حينئذ لابد وأن يرى الذاتان في رتبتين : ذات في الرتبة السابقة عن الجهل ، وذات في الرتبة اللاحقة عن الجهل بحكمه ، ومن البديهي : أن أحد الذاتين غير الآخر في هذا العالم وإن كانا منتزعين عن وجود واحد خارجا ، ولقد حققنا في محله أيضا : بأن الحكم الظاهري يستحيل أن يجتمع مع الحكم الواقعي الفعلي إلا بهذا الاعتبار ، كما هو الشأن في وجه الجمع بين قبح التجري مع حسن العمل واقعا ، وكذلك الامر في طرف العكس بعد الجزم بعدم انقلاب الواقع عما هو عليه بمحض قيام الطريق على خلافه ، خصوصا في الطرق العقلية ، فتدبر.

الواقعي ، لاجتماع موضوع الحكم الواقعي والظاهري معا في ذلك الحال ، فيلزم اجتماع الضدين : من الوجوب والحرمة.

وإن كانت النتيجة مقيدة بحال العلم وكان الحكم الواقعي مخصوصا بصورة العلم به : فاجتماع النقيضين وإن لم يلزم لتغاير الموضوعين ، إلا أنه يلزم التصويب الجمع على بطلانه. فالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ضعيف غايته.

ويتلوه في الضعف الجمع بينهما بحمل الاحكام الواقعية على الانشائية والاحكام الظاهرية على الفعلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن مع ما عندنا من الوجه في دفع التنافي بين الحكمين ، فراجع.

وعلى كل حال : قد عرفت أن التعارض إنما يلحق الدليلين ثانيا وبالعرض ، والذي يتصف به أولا وبالذات هو مدلول الدليلين وما يحكيان ويكشفان عنه ويؤديان إليه مطابقة أو التزاما. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدى امتنع اجتماع المدلول المطابقي أو الالتزامي لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع ، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين مطلقا أو في بعض الافراد والحالات ، من غير فرق بين أن يتكاذب الدليلان بأنفسهما ابتداء - كما إذا كان أحدهما ينفي ما يثبته الآخر - وبين أن ينتهي الامر إلى التكاذب ولو لأمر خارج ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وعلم من الخارج أن الواجب هي إحدى الصلاتين ، فان الدليلين وإن لم يتكاذبا ابتداء ولم يمتنع اجتماع مؤداهما ثبوتا إلا أنه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين ، فان كلا منهما يثبت مؤداه وينفي بلازمه مؤدى الآخر ، فيؤول الامر إلى امتناع اجتماع المؤديين.

والحاصل : أن ضابط تعارض الدليلين هو أن يؤديان إلى ما لايمكن تشريعه

ص: 702

ويمتنع جعله في نفس الامر ولكن بعد أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، فلو علم بكذب أحد الدليلين لمكان العلم بكون أحدهما غير واجد لشرائط الحجية واشتبه بما يكون واجدا لشرائطها كان ذلك خارجا عن باب التعارض (1) بل يكون من اشتباه الحجية باللا حجية ، ولا يأتي فيه أحكام التعارض ، وإنما يعمل فيه ما تقتضيه قواعد العلم الاجمالي.

وفي حكم ذلك ما إذا علم بعدم تشريع مؤدى أحد الدليلين مع إمكانه ثبوتا ، كما إذا كان مؤدى أحد الدليلين وجوب الدعاء عند الهلال وكان مؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر وعلم بكذب مضمون أحدهما ، فإنه أيضا ليس من باب التعارض ، بل من باب اشتباه الحجية باللا حجة ، ويعمل على ما يقتضيه العلم الاجمالي.

فظهر : أنه مجرد العلم بكذب أحد الدليلين صدورا أو مضمونا لا يكفي في وقوع التعارض بينهما ، بل يعتبر في وقوع التعارض بين الدليلين أمران : أحدهما : أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، ثانيهما : أن يمتنع اجتماع مدلولهما ثبوتا

ص: 703


1- أقول : باب اشتباه الحجة باللا حجة لا يحتاج إلى العلم بكذب أحدهما ، بل هو صورة العلم بعدم عدالة أحد الراويين أو صدور أحدهما تقية ولو علم بصدورهما عن الامام علیه السلام وهذه الجهة غير صورة العلم بكذب أحد الدليلين مع العلم بعدالتهما وعدم إعمال التقية فيهما ، ففي هذه لا محيص من كونه من باب التعارض. وحينئذ ففي فرض العلم بعدم تشريع أحد الحكمين ولو من الخارج - كمثال الهلال ودية الحر - يدخل في باب التعارض ولو بالعرض ، نظير ما اعترف به : من وجوب صلاة الظهر والجمعة. ولا أظن أن أحدا يرى الفرق بين المثالين إلا في وحدة سنخ الحكم في الثاني دون الأول ، وإلا فمع اشتراكهما في إمكان تشريع الحكمين ذاتا وامتناعه عرضا - الذي هو ملاك التعارض بالعرض بين الدليلين - لا يبقى مجال التفرقة بينهما ، ولقد تقدم منه سابقا أيضا نظير هذا الكلام في الاستصحابين المثبتين ، وتخيل أن اتحاد سنخ الحكم أيضا له دخل في تعارضهما ، وجعل المختلفان مضمونا داخلا في فرض العلم بكذب أحدهما بلا تعارض بينهما ، ولعمري! إن مثل هذه الدعوى مختص بمن لا يسئل عما يفعل ، وإلا فشأن القوم أجل من هذه الدعاوي! فتدبر.

في عالم الجعل والتشريع ، فتأمل جيدا.

المبحث الثاني: في الفرق بين التعارض والتزاحم

اشارة

وحاصله : أن التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين ، إلا أن عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنما يكون في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا ، لأنه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدين أو النقيضين في نفس الامر.

وأما التزاحم : فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنما يكون في مرحلة الامتثال بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدر وجوده وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملائمة من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والانشاء (1) وإنما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا ، لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، فيقع التزاحم بينهما لتحقق القدرة على امتثال أحدهما ، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر ورافعا لموضوعه ، فان كل تكليف يستدعي حفظ القدرة على متعلقه

ص: 704


1- أقول : جعل الحكم وإنشائه في مقام التشريع على موضوعه المقدر وجوده إن كان قابلا للتحقق ولو لم ينته إلى مرحلة الفعلية الامتثالية ، فلازمه جواز الجعلين حتى في صورة ملازمة امتثال أحدهما لتعجيز الآخر. وإن لم يكن قابلا للتحقق إلا في صورة انتهاء أمره إلى الفعلية ، فكيف يكون مجعولان بينهما الملائمة في ظرف العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق؟ بل لا محيص من تقيد إطلاق هذا الجعل بصورة القدرة ، فينتهي الامر حينئذ في صورة العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق إلى الجزم بعدم أحد الجعلين واقعا ، كما لا يخفى ، فتدبر.

وصرفها نحوه وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر ، والمفروض : ثبوت القدرة على كل منهما منفردا وإن لم يمكن الجمع بينهما ، فكل من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله ، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال.

فما في بعض الكلمات : من أن تزاحم الحكمين إنما يكون لأجل تزاحم المقتضيين والملاكين اللذين يقتضيان تشريع الحكمين على طبقهما ، ضعيف غايته ، فان تزاحم الملاكين لا دخل له بتزاحم الحكمين ، بداهة أن عالم تزاحم الملاكات غير عالم تزاحم الاحكام ، فان تزاحم الملاكات إنما يكون في عالم تشريع الاحكام وإنشائها على موضوعاتها ، ولا محالة يقع الكسر والانكسار بين الملاكين ، فتتعلق إرادة الشارع بتشريع الحكم على طبق أقوى الملاكين لو كان أحدهما أقوى من الآخر ، وإلا فلابد من الحكم بالتخيير ، وأين هذا من تزاحم الحكمين؟ فان تزاحم الاحكام إنما يكون في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد تشريع الاحكام على طبق ما اقتضته الملاكات ، فإرجاع تزاحم الاحكام إلى تزاحم الملاكات لا يخلو عن غرابة ، مع ما بين البابين من البون البعيد. وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في الجزء الأول من الكتاب.

فتحصل : أن الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم هو أن التعارض إنما يكون باعتبار تنافي مدلولي الدليلين في مقام الجعل والتشريع ، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال ، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، كما هو الغالب في باب التزاحم (1) وإما لقيام الدليل من الخارج

ص: 705


1- أقول : بعد بناء الأصحاب طرا على الفرق بين العلم والقدرة في صلاحية القدرة لتقييد الخطاب ولو عقلا ، بخلاف العلم - لكونه في رتبة لاحقة عن الخطاب باطلاقه بلا صلاحية لتقييد مضمونه - لا محيص من إرجاع العلم إلى شرائط تنجيز الخطاب دون نفسه ، بخلاف القدرة ، فإنه من شرائط نفسه السابقة عن مرحلة تنجزه. وحينئذ لا يبقى مجال لاطلاق الخطاب لحال العجز ولو كان العجز اتفاقيا ، ولازمه عدم تشريع إطلاق الحكم ، نظير عدم تشريع إطلاقه في مجمع العامين من وجه ، خصوصا الحاصل من باب الاتفاق مع فرض وجود الملاكين فيه. وحينئذ كيف يرى فرق بين الخطابين في المجمع الحاصل من باب الاتفاق وبين الخطابين الغير الشامل لصورة العجز عن موافقتهما؟ إذ كل منهما في عدم تشريع الاطلاقين في الخطابين على حد سواء ، فلم يجعل أحدهما من باب العلم بعدم تشريع أحدهما - فيكون من باب التعارض - بخلاف الآخر؟ وحينئذ لو كان مدار تزاحم الحكمين صورة وجود الحكمين باطلاقهما لصورة العجز عن أحد الامتثالين ، فلا محيص من عدم تقيد مضمون الخطاب بالعجز، بل كان مثل العلم شرط تنجيز الخطاب ، وهو بمكان من البعد من كلمات الأصحاب المؤسسين لهذه الأساسات والجاعلين لهذه الاصطلاحات!! فظهر مما ذكرنا : أن المدار في باب التزاحم لو كان على ما أفيد ، فيلزم على مسلك تقيد مضمون الخطاب بالقدرة إرجاع موارد العجز أيضا إلى باب التعارض بين إطلاقي الخطابين ، كما في العامين من وجه بالنسبة إلى المجمع ، وحينئذ على الاسلام السلام!!!. و بالجملة: التحقيق أن يقال: إنّه لا نعني من باب التزاحم إلّا صورة الجزم بوجود الغرضين مع ضيق خناق المولى من تحصيلهما، و لذا لو علم من الخارج أهميّة أحدهما يكشف ذلك من تقيّد الحكم في الآخر مع العلم بفوت غرضه، كما أنه لو فرض الجهل به ليحكم العقل بتنجّز غرضه الآخر المعلوم. كما أنّه لو كان أحدهما موسّعا و الآخر مضيّقا بحيث لا يتزاحمان في الوجود يحكم العقل بحفظ الغرضين مهما أمكن، بل و لو كان أحدهما مشروطا بالقدرة يحكم العقل بتقديم المطلق في التأثير بمناط التخصّص و التخصيص. كما أنّه لو كان لأحدهما بدل يحكم العقل بتقديم ما لا بدل له في التأثير في فعليّة حكمه و تشريعه، إلى غير ذلك من نتائج التزاحم. و هذا بخلاف ما لو لم يحرز الغرضان في المورد، بل يعلم بعدم وجود الغرض في أحد الموردين، فانّه لا مجال لجريان ما ذكرناه من النتائج، بل لا محيص إلّا من إعمال مرجّحات باب التعارض على ما سيجي ء (إن شاء اللّه تعالى). و لذا ترى أنّ القائلين بامتناع اجتماع الأمر و النهي لم يلتزموا باعمال قواعد التعارض: من الأخذ بالأرجح سندا من حيث العدالة و الوثوق، بل اعلموا فيه نتائج التزاحم، خصوصا في حكمهم بصحّة الصلاة مع الجهل بالغصبيّة أو بحرمته و عليه: فلا أدري الداعي عن العدول عن مشي القوم إلّا حيث الانفراد و بيان اصطلاح جديد لجلب أذهان صغار الطلاب نحوه! و إظهار ما يقتضيه جمود لفظ تزاحم الحكمين أو الغرضين و الملاكين! مع ما عرفت: أنّ ما أفيد من الفرق لا يتمّ إلّا بجعل القدرة كالعلم من شرائط التنجّز و الامتثال دون الخطاب، و لعمري! إنّ هذا المعنى ممّا لم يلتزم به أحد، حتّى سيّد الأساطين « السيد محمد الأصفهاني » أستاذ هذا المحقق الذي قوام تحصيله وأساس فضله منه حسب ما سمعنا عنه مرارا ، فتدبر فيما ذكرنا تعرف.

ص: 706

على عدم وجوب الجمع بينهما ، كما في بعض فروع زكاة المواشي ، كما لو كان المكلف مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ثم ملك واحدا آخر من الإبل وصارت ستة وعشرين ، فمقتضى أدلة الزكاة هو وجوب خمس شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول الستة والعشرين ، ولكن قام الدليل على أن المال لا يزكى في المقام الواحد مرتين ، فيقع التزاحم حينئذ بين الحكمين ، لأنه لابد من سقوط ستة أشهر إما من حول الخمس والعشرين وإما من حول الستة والعشرين ، فإنه لولا السقوط وبقاء كل حول منهما على حاله يلزم تزكية المال في ظرف ستة أشهر مرتين ، كما لا يخفى.

وبالجملة : وقوع التزاحم بين الحكمين لا يختص بصورة عدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، بل قد يتفق التزاحم بين الحكمين مع التمكن من الجمع بينهما ، إلا أن ذلك نادر ، والغالب أن يكون التزاحم لعدم القدرة على الجمع بين المتزاحمين ، وأقسامه خمسة.

فان التزاحم تارة : يكون لأجل اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كونهما متغايرين بالذات ومختلفين في الهوية ، بحيث يكون الاتحاد بينهما من قبيل التركيب الانضمامي - نظير تركب الجسم من المادة والصورة - وعلى ذلك يبتني جواز اجتماع الأمر والنهي ويندرج مورد تصادق متعلق الأمر والنهي في صغرى التزاحم ، كما هو المختار. وأما لو كان التركيب بين المتعلقين اتحاديا - نظير التركيب من الجنس والفصل - وكان أحد المتعلقين متحدا مع الآخر بالهوية والذات ولو في الجملة وفي بعض الموارد ، فلا يكون من باب التزاحم ، بل

ص: 707

يندرج مورد تصادق متعلق الأمر والنهي في صغرى التعارض - كتعارض العامين من وجه - وعلى ذلك يبتني امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فإنه على هذا يكون الامر بالصلاة والنهي عن الغصب بعينه كالأمر باكرام العالم والنهي عن إكرام الفاسق ، ولا إشكال في أنه في مورد تصادق العالم والفاسق يقع التعارض بين الدليلين ، لأنه يلزم أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي ، وقد تقدم في الجزء الثاني من الكتاب تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه.

وأخرى : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع التلازم بين متعلق الحكمين ، بمعنى أنه اتفق الملازمة بين امتثال أحد الحكمين لمخالفة الآخر ، فلو كانت الملازمة بينهما دائمية يندرجان في صغرى التعارض ، لامتناع تشريع حكمين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر دائما (1) كما لو فرض أنه قام الدليل على وجوب استقبال القلبة وحرمة استدبار الجدي في القطر الذي تكون القبلة فيه نقطة الجنوب - كالعراق - فان الدليلين يتعارضان لا محالة ، وذلك واضح.

وثالثة : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع أحد المتعلقين مقدمة لوجود الآخر ، كما لو توقف انقاذ الغريق على التصرف في أرض الغير ، فلو كان أحد المتعلقين مقدمة لوجود الآخر دائما لم يندرجا في باب التزاحم ، بل يندرجان في باب التعارض ، لامتناع تشريع الحكمين على هذا الوجه ، كما لا يخفى.

ورابعة : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع المضادة بين المتعلقين ، كما لو

ص: 708


1- أقول : لا يرى فرقا إلا في استحالة أصل التشريع في الثاني وإطلاقه في الأول ، فلازمه أيضا استحالة تشريع الحكم في خصوص مورد العجز من باب الاتفاق ، نظير عدم تشريع إطلاق الحكمين في العامين من وجه ، خصوصا مع وجود الملاك فيهما ، وهذا المقدار لا يجدي فرقا في إدخال أحدهما في باب التعارض والآخر في التزاحم. ولئن قيل : بأن الخطاب مع عدم انتهائه إلى الحكم بالامتثال دائما مستحيل ولغو بخلاف ما لو لم يكن ذلك رأسا ، ولذا نفرق في القدرة بين الصورتين. لنقول : بأن لازمه لغوية الخطاب مع ملازمته مع الجهل ، ومرجعه إلى شرطية فعلية الخطاب بالعلم به أحيانا ، وهو دور ، فتدبر.

اتفقت نجاسة المسجد في وقت الصلاة ، فلو كانت المضادة دائمية يخرج عن باب التزاحم.

وخامسة : يكون التزاحم لأجل كون أحد المتعلقين مترتبا في الوجود والامتثال على الآخر وقد اتفق عدم قدرة المكلف على الجمع بين إيجاد المتعلقين كل في محله ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية مع عدم تمكن المكلف من القيام إلا في إحدى الركعتين لضعف ونحوه. فهذه جملة أقسام التزاحم.

وأما مرجحات باب التزاحم :

فهي أمور :

منها : ما إذا كان أحد المتزاحمين مضيقا والآخر موسعا ، فان المضيق يقدم على الموسع.

ومنها : ما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية دون الآخر ، فيقدم ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها.

ومنها : ما إذا كان لاحد المتزاحمين بدل اضطراري دون الآخر ، فان مالا بدل له مقدم على ماله البدل.

ومنها : ما إذا كان ظرف امتثال أحد المتزاحمين مقدما على ظرف امتثال الآخر ، فان المقدم في الامتثال يقدم على غيره.

ومنها : ما إذا كان أحد المتزاحمين أهم من الآخر ، فإنه يقدم الأهم على غيره.

فهذه الأمور الخمسة مرجحات باب التزاحم ، وقد تقدم الكلام فيها وفي أمثلتها في الجزء الأول ، فراجع.

وأما مرجحات باب التعارض : فسيأتي الكلام فيها ( إن شاء اللّه تعالى ).

ص: 709

فتحصل : أن التعارض يغاير التزاحم موضوعا وحكما ولا يمكن أن يشتبه أحدهما بالآخر ، فتأمل جيدا

المبحث الثالث

يعتبر في التعارض أن لا يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، فان الحاكم إنما يثبت أو ينفي مالا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه ، فلا يعقل أن يعارض المحكوم دليل الحاكم ، وذلك واضح لم يقع فيه الكلام. وإنما وقع الكلام في ضابط الحكومة.

فقيل : إن ضابط الحكومة هو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر.

ولعل منشأ تفسير الحكومة بذلك : هو ما ذكره الشيخ قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح ، قال قدس سره « وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبينا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه » إلى أن قال : « والفرق بينه وبين التخصيص أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، هذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام ، وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير » انتهى.

والتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسرا لمدلول الآخر وشارحا له ، بحيث يكون مصدرا بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك ، فان غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط ، بل لم يوجد فيها ما يكون مصدرا بأحد أداة التفسير.

ص: 710

وإن قيل : إن المراد من التفسير ما يعم تفسير قرينة المجار لذي القرينة ، حيث إن قرينة المجاز إنما تكون شارحة لما أريد من لفظ ذي القرينة مع عدم كونها مصدرة بأداة التفسير.

قلنا : قصر الحكومة على ذلك أيضا يوجب خروج غالب الموارد عنها.

فدعوى : أنه يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين مبينا لما أريد من مدلول الآخر وما يكون اللفظ ظاهرا فيه ، مما لا شاهد عليها ، فإنه ليست الحكومة مدلول دليل لفظي حتى يدعى أن المستفاد من الدليل ذلك.

والظاهر أن مراد الشيخ قدس سره من التفسير في قوله : « وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير » ليس هو التفسير اللفظي ، بل المراد منه نتيجة التفسير وإن لم يكن تفسيرا لفظيا ، بداهة أنه لو كان مفاد أحد الدليلين بمدلوله المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ، لكان حاكما على الآخر ، مع أنه ليس في تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ما يوجب شرح اللفظ : فان الخاص والمقيد لم يتعرض لما أريد من لفظ العام والمطلق ، بل وظيفة الخاص والمقيد بيان الموضوع النفس الأمري وما تعلقت به الإرادة الواقعية ، من دون أن يتصرف في لفظ العام والمطلق ، بناء على ما هو التحقيق : من أن التخصيص والتقييد لا يوجب التجوز في لفظ العام والمطلق. نعم : بناء على أن التخصيص والتقييد يقتضي المجازية ، يكون الدليل الذي كان مفاده المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق شارحا ومبينا لما أريد من لفظ العام والمطلق ، فان الخاص والمقيد يكون حاله حال سائر قرائن المجاز ، إلا أن ذلك بمعزل عن الواقع ، كما أوضحناه في محله.

وبالجملة : تحكيم قوله : « لا تكرم النحويين » على قوله : « أكرم العلماء » لا يقتضي أزيد من أن الموضوع النفس الأمري لوجوب الاكرام هو العام الغير النحوي ، من دون أن يستلزم ذلك تصرفا في لفظ « العلماء » فلو فرض أنه كان

ص: 711

هذا المعنى مدلول دليل آخر لا بلسان التخصيص والتقييد ، كما لو قال عقيب قوله « أكرم العلماء » : « العالم هو غير النحوي » أو قال : « النحوي ليس عالما » كان قوله هذا حاكما على قوله : « أكرم العلماء » مع أنه ليس فيه شرح وتفسير لفظي ، فتخصيص الحكومة بما يكون فيها شرح اللفظ بلا موجب ، بل سيأتي في شرح عبارة الشيخ قدس سره ما يظهر منه جريان الحكومة فيما بين الأصول العقلائية التي لا مسرح للفظ فيها.

فالتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أزيد من أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى تصرف في عقد وضع الآخر بنحو من التصرف (1) إما بأن يكون مفاد أحدهما رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع ، كما في حكومة الامارات على الأصول العملية وحكومة الأصول بعضها على بعض - على ما تقدم بيانه في خاتمة الاستصحاب - وإما بأن يكون مفاد أحدهما إدخال ما يكون خارجا عن موضوع الآخر أو إخراج ما يكون داخلا فيه. وقد يرجع مفاد أحد الدليلين إلى التصرف في عقد حمل الآخر لا في عقد وضعه ، كأدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، فإنها تكون حاكمة على الاحكام الأولية ، مع أنه لا يرجع مفادها إلى التصرف

ص: 712


1- أقول : الأولى أن يقال : إن قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين إلى مفاد دليل الآخر من حيث عقد حمله ، إما بتوسيط التصرف في موضوعه بنحو من العناية إخراجا أم إدخالا ، أو بلا توسيط هذا التصرف بل كان ناظرا بدوا إلى تعين مفاد دليل الآخر بلا تصرف فيه بنحو من العناية إلى موضوعه أو حكمه. ومن الثاني عموم « لا ضرر » وأمثاله على أدلة التكاليف ، وقد تقدم أن تقديم الاستصحاب السببي على المسببي أو على « قاعدة الحلية » و « الطهارة » من هذا القبيل أيضا. ومن الأول كل مورد يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الآخر تعبدا وتنزيلا ، أو مدخلا لغيره فيه كذلك ، إذا قوام حكومة هذا اللسان أيضا إنما هو بملاحظة نظره إلى حكمه المصحح لتنزيله. و من هنا نقول: بأنّه قد يقع المعارضة بين إطلاق نظر التنزيل بالنسبة إلى حكم مع دليل ذلك الحكم فيرجع فيه إلى إعمال قواعد الجمع: من الأخذ بأقوى الدليلين. نعم: لو كان في نظره أقوى كان دليل التنزيل مقدما على الآخر و لو كان بينهما عموم من وجه.

في موضوعات الاحكام ، بل يرجع تصرفها إلى إلى نفس الاحكام ، كما أوضحناه في « رسالة لا ضرر ». ولكن الغالب في الحكومات رجوع تصرف الحاكم إلى عقد وضع المحكوم ، سواء كانت الحكومة فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الواقعية ، كحكومة قوله : « لا شك لكثير الشك » على قوله : « من شك بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع » أو كانت الحكومة فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الظاهرية ، كحكومة الامارات على الأصول ، فان الحكومة في جميع ذلك ترجع إلى تصرف دليل الحاكم في عقد وضع دليل المحكوم بنحو من التصرف ، من غير فرق بين أن يتقدم دليل المحكوم على دليل الحاكم في الورود والتعبد والتشريع أو يتأخر عنه. ولا وجه لما في بعض الكلمات : من أنه يعتبر في الحكومة أن يتقدم تشريع مفاد المحكوم على تشريع مفاد الحاكم ، بحيث يلزم لغوية التعبد بدليل الحاكم لولا سبق تشريع ما يتكفله دليل المحكوم والتعبد به.

وكأن من اعتبر في الحكومة ذلك غره ما يعطيه ظاهر كلام الشيخ قدس سره من قوله في كلامه المتقدم : « مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه الخ » وأنت خبير بأنه من أوضح أفراد الحكومة حكومة الامارات على الأصول ، مع أنه يصح التعبد بالامارات ولو لم يسبق التعبد بالأصول ، بل ولو مع عدم التعبد بها رأسا.

نعم : الغالب في الحكومة التي تكون بين الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية هو سبق تشريع مفاد دليل المحكوم على مفاد دليل الحاكم ، كقوله : « لا شك لكثير الشك » أو قوله : « لا شك للامام مع حفظ المأموم » ونحو ذلك ، فإنه لولا سبق تشريع أحكام الشكوك لا يحسن تشريع مفاد قوله : « لا شك لكثير الشك ».

فتحصل مما ذكرنا : أنه لا يعتبر في الحكومة شرح اللفظ وتفسير أحد الدليلين لما أريد من دليل الآخر ، ولا يعتبر أيضا تقدم تشريع مفاد المحكوم على مفاد الحاكم ، بل الذي يعتبر في الحكومة : هو أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى

ص: 713

نحو تصرف في عالم التشريع في عقد وضع الآخر - كما هو الغالب - مع بقاء الموضوع في عالم التكوين على حاله ، ولذلك كانت نتيجة الحكومة هي التخصيص كما أن نتيجة الورود هي التخصص ، وقد تقدم تفصيل الفرق بين التخصيص والورود والحكومة والتخصص في أول مبحث البراءة وأشرنا إليه أيضا في خاتمة الاستصحاب.

وإجمال الفرق بين هذه العناوين : هو أن التخصص عبارة عن « خروج الشيء عن موضوع الدليل بذاته تكوينا » كخروج الجاهل عن قوله : « أكرم العلماء » وكخروج العالم بالحكم الشرعي عن موضوع التعبد بالامارات والأصول العملية.

وأما الورود : فهو عبارة عن « خروج الشيء عن موضوع أحد الدليلين حقيقة بعناية التعبد بالآخر » كخروج الشبهة عن موضوع الأصول العقلية بالتعبد بالامارات والأصول الشرعية ، فالورود يشارك التخصص في كون الخروج في كل منهما يكون على وجه الحقيقة ، إلا أن الخروج في التخصص يكون بذاته تكوينا بلا عناية التعبد ، وفي الورود يكون بعناية التعبد.

وأما الحكومة : فقد عرفت أنها عبارة عن « تصرف أحد الدليلين في موضوع الآخر رفعا أو وضعا ولكن لا حقيقة بل حكما » ففي الحقيقة دليل الحاكم إنما يتصرف فيما يتكفله دليل المحكوم من الحكم الشرعي بعناية التصرف في الموضوع.

وأما التخصيص : فهو عبارة عن « سلب الحكم عن بعض أفراد موضوع العام بلا تصرف في الموضوع » فالتخصيص يشارك الحكومة في كون التصرف في كل منهما إنما يكون في الحكم الشرعي ، إلا أن التصرف في الحكومة إنما يكون بتوسط التصرف في الموضوع ، وفي التخصيص يكون التصرف ابتداء في الحكم ، ولأجل ذلك لا تلاحظ النسبة بين دليل الحكام والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم الحاكم ولو كانت النسبة بينه وبين المحكوم العموم من وجه

ص: 714

وكان ظهور الحاكم أضعف من ظهور المحكوم ، بداهة أن لحاظ النسبة وقوع الظهور فرع التعارض ، وقد عرفت : أن دليل المحكوم لا يمكن أن يعارض دليل الحاكم ، لان دليل المحكوم إنما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه - كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقة - ودليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته ، فلا يمكن أن يعارض قوله : « أكرم العلماء » مع قوله : « النحوي ليس بعالم » أو قوله : « المنجم عالم » فدليل الحاكم دائما يتكفل بيان مالا يتكفل بيانه دليل المحكوم ، فلا يعقل وقوع المعارضة بينهما ، وذلك واضح لا ينبغي تطويل الكلام فيه (1)و الظاهر زيادة كلمة «في» (المصحّح).(2).

المبحث الرابع

العام والخاص المتخالفان في السلب والايجاب وإن كانا متعارضين بحسب ما لكل منهما من الظهور ابتداء ، إلا أن أصالة الظهور في طرف الخاص تكون

ص: 715


1- أقول : قد أشرنا إلى تصوير المعارضة بينهما أحيانا في بعض المقامات ، مثل ما لو كان في البين كبريات متعددة ، كعنوان « النجفي » و « العراقي » وكثر ابتلائه ببعضها دون بعض ، ففي هذه الصورة لو قيل : « زيد ليس عراقيا » أو « نجفيا » ربما ينصرف الذهن منه إلى الحكم الذي هو مورد ابتلائه دون غيره ، وربما يكون في
2- إطلاق نظره إلى غير هذا الحكم في غاية الضعف ، بحيث كان إطلاق دليل الكبرى للمورد أظهر ، ففي مثل هذه الصورة يقدم دليل الكبرى على دليل التنزيل ، وتوجب صرف نظره الذي به قوام حكومته إلى غيره من سائر الكبريات ، وربما يكون الظهوران يتساويان ، فقهرا يتساقط الظهوران بلا تقديم أحدهما على الآخر ، كما هو ظاهر ، فتدبر فيما ذكرنا كي يغرنك صورة ما أفاده من البرهان المقتضي لعدم معقولية المعارضة بين دليل الكبرى ودليل التنزيل في الصغرى إخراجا أو إدخالا. و توضيح المغالطة: أنّه لو فرض عدم تكفّل دليل الكبرى لإثبات صغراه لا يكاد تقديم دليل التنزيل ما لم يكن في نظره إلى مثل هذا الكبرى أيضا أقوى منه، و مع أقوائيّة نظره إليه من دليل الكبرى بالنسبة إلى المورد كان دليل التنزيل حاكما عليه و لو كان دليل الكبرى أيضا ناظرا إلى إثبات موضوعه. و حينئذ لا يبقى لما ذكر من البرهان نتيجة و إن كان قابلا لاغتشاش الأذهان.

حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام ، بل في بعض الفروض يحتمل أن تكون واردة عليها ، وإلى ذلك إشارة الشيخ قدس سره بقوله : « ثم إن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللفظية أيضا ، فإن أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز. فان كان المخصص مثلا دليلا علميا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنص القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي. وإن كان المخصص ظنيا معتبرا كان حاكما على الأصل الخ ». ولا بأس بشرح عبارة الشيخ قدس سره في المقام ، فإنها لا تخلو عن دقة ، بل قد التبس المراد منها على كثير من الاعلام ، وقبل ذلك ينبغي تقديم مقدمة قد تقدم الكلام فيها في حجية الظواهر.

وهي أن لكل كلام صادر عن كل متكلم دلالة تصورية ودلالة تصديقية. أما الدلالة التصورية : فهي عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية ، فان لكل كلمة من الكلمات التي يتركب منها الكلام ظهورا في المعنى الموضوعة له ، وهو الذي يخطر في ذهن السامع عند اشتغال المتكلم في الكلام إذا كان السامع عالما بالأوضاع.

وأما الدلالة التصديقية : فتطلق على معنيين :

أحدهما : دلالة جملة الكلام على ما هو المتفاهم منه عند أهل المحاورات ، وهو الذي يقع في جواب السؤال عما قاله المتكلم ، فيقال : قال كذا وكذا ، وثبوت هذه الدلالة للكلام يتوقف على فراغ المتكلم عنه ، فإنه لا يصح السؤال والجواب عما قاله المتكلم مع اشتغاله بالكلام ، إذ للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن والمقيدات والمخصصات في حال اشتغاله بالكلام ، فلا ينعقد لجملة الكلام ظهور إلا بعد فراغ المتكلم عن كلامه ، فينعقد لكلامه ظهور فيما له من المعنى العرفي بحسب ما جرت عليه طريقة المحاورات ، فقد يكون الظهور

ص: 716

العرفي لجملة الكلام مطابقا لظهور مفردات الكلام إذا لم يحتف به قرينة المجاز أو التقييد والتخصيص ، وقد يكون ظهور الجملة مخالفا لظهور المفردات إذا احتف بالكلام أحد هذه الأمور.

ثانيهما : دلالة الكلام على إرادة المتكلم مؤداه وأن مفاده العرفي هو المقصود من إلقاء الكلام ، وهذا المعنى من الدلالة هي التي تقع في جواب السؤال عما أراد المتكلم من كلامه فيقال : أراد كذا وكذا ، فقد يصح الجواب عن السؤال بأنه أراد ما يكون الكلام ظاهرا فيه بحسب المحاورات العرفية إذا لم يعتمد المتكلم على القرائن المنفصلة ، وقد لا يصح الجواب بذلك إذا علم أن المتكلم اعتمد في بيان تمام مراده على القرائن المنفصلة أو كان عادته على ذلك وإن لم يعلم اعتماده على المنفصل في هذا الكلام الخاص ، كما هو الشأن فيما صدر من الأئمة علیهم السلام فإنه جرت عادتهم على الاعتماد بالمنفصلات غالبا لمصالح هم أعرف بها ، ولذا ترى أن العام أو المطلق ورد عن إمام علیه السلام والخاص أو المقيد ورد عن إمام آخر علیه السلام مع ما بينهما من الفصل الطويل ، وسيأتي الكلام في توجيه ذلك. والمقصود في المقام هو بيان عدم جواز الحكم بان ظاهر الكلام هو المراد النفس الأمري إذا كان المتكلم ممن يعتمد غالبا على المنفصلات. وأما إذا لم يكن من عادته ذلك : فان علم في كلام خاص أنه اعتمد على المنفصل فلا يجوز الاخذ بظاهر كلامه ، وإن لم يعلم ذلك فلا إشكال في جواز الاخذ بظاهر كلامه ولو احتمل أنه اعتمد على المنفصل ، لان الطريقة العقلائية قد استقرت على اتباع ظهور الكلام وعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للمراد النفس الأمري ، وهذا كله مما لا إشكال فيه.

إنما الاشكال في أن عمل العقلاء على ما يكون الكلام ظاهرا فيه (1) هل

ص: 717


1- وتظهر الثمرة بين الوجهين في المورد الذي لا تجري فيه أصالة عدم القرينة من جهة احتمال وجود القرينة على الخلاف احتمالا عقلائيا ، فإنه بناء على اعتبار نفس الظهور يبنى على ظاهر الكلام. وأما بناء على عدم كفاية نفس الظهور لا يبنى على الظهور ، لعدم جريان أصالة عدم القرينة ، فان أصالة عدم القرينة وإن كانت من الأصول العقلائية ، إلا أنه ليس بناء العقلاء على جريانها مع احتمال وجود القرينة احتمالا عقلائيا فتأمل ( منه ).

هو لأجل حصول الظن منه - ولو نوعا - بأن ظاهره هو المراد؟ أو أن متابعة العقلاء لظهور الكلام لأجل البناء على أصالة عدم القرينة المنفصلة؟ (1) ولا محيص عن أحد الوجهين ، فإنه لا يمكن أن يكون بناء العقلاء على الاخذ بالظهور لمحض التعبد ، إذ ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد ، فاما أن يكون الوجه في عمل العقلاء على الظهور كون الكلام كاشفا في نوعه عن المراد النفس الأمري فلا يحتاج في استخراج المراد إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة ، وإما أن يكون الوجه فيه أصالة عدم القرينة فلا يكفي كون الكلام كاشفا في نوعه عن المراد ، بل لابد مع ذلك من إحراز عدم القرينة المنفصلة ولو بالأصل ، فيكون بناء العقلاء أولا على أصالة عدم القرينة ثم يعتمدون على أصالة الظهور ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، فإنه ليس فيما وراء أصالة الظهور أصل آخر يعول عليه العقلاء في مقام استخراج المراد من الكلام.

والتحقيق يقتضي التفصيل بين الموارد ، فإنه في المورد الذي يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم وما تعلقت به الإرادة النفس الأمرية لا يكتفى بمجرد

ص: 718


1- أقول : هذا الكلام إنما يتم بناء على كون المراد من الظهور الذي هو موضوع هذا البحث هو الدلالة التصورية وإلا فالظهور بمعنى الدلالة التصديقية قوام نفسه بها. ثم انه على اي معنى من الظهور إنما يصح التشقيق بناء على التحقيق : من عدم حجية أصالة عدم القرينة عند الشك في قرينية الموجود ، وإلا فلا يبقى مجال لهذا التشقيق بعد عدم تعبد من العقلاء في الأصل المزبور ، بل مدار بنائهم فيه أيضا على الظن النوعي بعدمه ولو بعد الفحص ، إذ حينئذ يلازم الظهور المزبور بنفسه أو بحجيته مع أصالة عدم القرينة. وما أفاد المقرر : من بيان الثمرة أيضا ينبغي حصرها في صورة الشك في قرينية الموجود ، وإلا مجرد عقلائية احتمال وجود القرينة لا يمنع عن الأصل المبني على الظن النوعي ، وإنما يمنع عن جريان الأصل في فرض الشك في قرينية الموجود ، كما هو الشأن في الشك في حائلية الموجود مع بنائهم على أصالة عدم الحائل في موارده ، ولعل المورد أيضا من مصاديقه ، فتدبر.

ظهور الكلام ، بل لابد من إحراز عدم القرينة المنفصلة ولو بالأصل (1) وفي المورد الذي لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم يكتفى بظهور الكلام ، كما إذا كان صدور الكلام لأجل البعث والزجر وتحريك إرادة العبد نحو المؤدى ، فان العبد ملزم بظاهر الكلام وليس له الاعتذار باحتمال وجود القرينة المنفصلة على خلاف ما يقتضيه ظاهر الكلام ، كما أنه ليس للمولى إلزام العبد بغير ظاهر كلامه.

وبالجملة : المتبع في مقام الاحتجاج والاعتذار نفس ظهور الكلام لا غير ، وقد تقدم تفصيل ذلك في حجية الظن.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه إذا ورد عام وخاص فالخاص لا يخلو : إما أن يكون قطعي السند والدلالة ، كالنص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية. وإما أن يكون ظني السند والدلالة ، كالخبر الواحد الظاهر في المؤدى. وإما أن يكون قطعي السند وظني الدلالة ، كالمتواتر الظاهر في المؤدى. وإما أن يكون ظني السند وقطعي الدلالة ، كالنص من الخبر الواحد. فهذه جملة ما يتصور من أقسام الخاص.

فان كان قطعي السند والدلالة : فلا إشكال في تخصيص العام به ، ولا مجال لجريان أصالة الظهور في طرف العام ، لان الخاص رافع لموضوعها ، للعلم بأن العموم ليس بمراد ، فالخاص يكون واردا على أصالة العموم.

بل يمكن أن يقال : إن مؤدى الخاص يكون خارجا عن مفاد أصالة الظهور بالتخصص لا بالورود ، لما عرفت : من أن ورود أحد الدليلين على الآخر إنما

ص: 719


1- أقول : إذا تعلق الغرض باستخراج واقع المراد كيف يكتفي بأصالة عدم القرينة؟ بل لا محيص له من تحصيل الجزم بعدمها ، كيف! والأصل المزبور لا يجدي إلا عذرا في المخالفة ، وهذا العذر موجود في الاخذ بالظهور على غرضه ، مع أن محط البحث تعين ما هو الحجة ، وليس أحد الحجتين أقوى من الآخر في الكشف عن الواقع كي يختص الحجية به ، فتدبر.

يكون بمعونة التبعد بأحدهما ، والخاص القطعي السند والدلالة لا يحتاج إلى التعبد ، لأنه يعلم بصدوره وإرادة مؤداه ، والعلم لا تناله يد التعبد. وعلى كل حال : لا إشكال في تقدم الخاص على العام إذا كان قطعي السند والدلالة.

وإن كان ظني السند والدلالة أو كان قطعي السند وظني الدلالة : فظاهر إطلاق كلام الشيخ قدس سره هو عدم تخصيص العام به ، بل يعمل بأقوى الظهورين : ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص.

ولكن الأقوى : وجوب الاخذ بظهور الخاص وتخصيص العام به ولو كان ظهوره أضعف من ظهور العام (1) فان أصالة الظهور في طرف الخاص تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام ، لان الخاص يكون بمنزلة القرينة على التصرف في العام ، كما يتضح ذلك بفرض وقوع العام والخاص في مجلس واحد من متكلم واحد ، فإنه لا يكاد يشك في كون الخاص قرينة على التصرف في العام ، كما لا ينبغي الشك في حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور

ص: 720


1- أقول : لا إشكال في تقدم ما سيقت للقرينية على التصرف في غيره ، ولا يلاحظ فيه الأظهرية. ولكن عمدة الكلام في هذا المعنى ، إذ مرجع سوقه قرينة على التصرف في الغير إلى سوقه لبيان حال الغير ، ولا يكون إلا بكونه ناظرا إلى شرح الغير ، وهو ليس إلا شأن الحاكم. واما المخصص - حسب اعترافه سابقا - لا يكون له مثل هذا النظر ابدا ، وإنما مفاده حكم آخر مضاد مع حكم غيره في فرد خاص أو مناقض ، ففي هذه الصورة لا مجال لدعوى سوقه للقرينة على شرح غيره ، بل كان معارضا مع غيره محضا ، وفي مثله لا محيص من الترجيح بالأقوى ، فيجري على الأقوى حكم القرينة ، لا انه حقيقة قرينة ، فاجراء حكم القرينة على الخاص حينئذ فرع أقوائيته ، وإلا فلو كان العام في دلالته على المورد أقوى - ولو من جهة إبائه عن التخصيص - يجري على العام حكم القرينة على التصرف في الخاص مثلا. ولعمري! إن ما أفيد في المقام من غرائب الكلام ، وأغرب منه استشهاده بتقديم « يرمي » على « الأسد » إذ مجرد وضعية الدلالة لا يقتضي الأقوائية بعد انصراف « يرمي » إلى الرمي بالنبال الغير المناسب للحيوان. واما بناء الأصحاب على تقديم الخاص : فإنما هو من جهة أظهرية الخاص عن العام ، فلو وجد مورد يكون العام بملاحظة بعض الخصوصيات آبيا عن التخصيص اي شخص يقدم الخاص عليه لمحض كونه خاصا! كما لا يخفى.

في ذي القرينة ولو كان ظهور القرينة أضعف من ظهور ذيها ، كما يظهر ذلك من قياس ظهور « يرمي » في قولك : « رأيت أسدا يرمي » في رمي النبل على ظهور « أسد » في الحيوان المفترس ، فإنه لا إشكال في كون ظهور « أسد » في الحيوان المفترس أقوى من ظهور « يرمي » في رمي النبل ، لأنه بالوضع وذلك بالاطلاق ، والظهور الوضعي أقوى من الظهور الاطلاقي ، ومع ذلك لم يتأمل أحد في حكومة أصالة ظهور « يرمي » في رمي النبل على أصالة ظهور « أسد » في الحيوان المفترس وليس ذلك إلا لأجل كون « يرمي » قرينة على التصرف في « أسد » ونسبة الخاص إلى العام كنسبة « يرمي » إلى « أسد ». فلا مجال للتوقف في تقديم ظهور الخاص في التخصيص على ظهور العام في العموم.

والشيخ قدس سره في المقام وإن عارض ظهور الخاص مع ظهور العام وحكم بأنه يؤخذ بأقوى الظهورين ، إلا أنه لم يلتزم بذلك في شيء من المسائل الفقهية ، فإنه لم يتفق في مورد عامل مع الخاص والعام معاملة التعارض ، بل يقدم الخاص مطلقا على العام ، سواء كان الخاص ظني السند والدلالة أو كان قطعي السند وظني الدلالة ، غايته أنه في الأول يكون الخاص حاكما على العام من جهتين : من جهة السند ومن جهة الدلالة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أن تقديم الخاص على العام لو كان بالحكومة فما الفرق بينها وبين التخصيص؟ فان التخصيص على هذا يرجع إلى الحكومة ، فلا وجه للمقابلة بينهما.

بيان الدفع : هو أن المقابلة بينهما إنما يكون لمكان أن أحد الدليلين تارة : يكون بنفسه حاكما على الآخر ولو كانت النسبة بينهما العموم من وجه. وأخرى : يكون أحد الدليلين في حد نفسه معارضا للدليل الآخر ، إلا أن أصالة الظهور فيه تكون حاكمة على أصالة الظهور في الآخر ، كالعام والخاص ، فان

ص: 721

الخاص في حد نفسه معارض مع العام ولو في بعض المدلول ، ولكن أصالة ظهوره في التخصيص تكون حاكمة على أصالة ظهور العام في العموم ، فترتفع المعارضة من بينهما ، فتأمل جيدا.

بقي في المقام حكم ما إذا كان الخاص ظني السند وقطعي الدلالة ، ولأجله مهدنا المقدمة ، وكان غرضنا منها شرح ما ذكره الشيخ قدس سره في حكم هذا القسم من الخاص ، فإنه بنى أولا على كون ظهور الخاص حاكما على ظهور العام ، ثم احتمل أن يكون واردا عليه بناء على كون العمل بظاهر العموم معلقا على عدم القرينة على التخصيص ، وعقبه بقوله : « فتأمل » وأما بناء على كون العمل بالظهور من جهة الظن النوعي بأنه هو المراد النفس الأمري : فقد جزم فيه بالورود ولم يحتمل فيه الحكومة. وقد خفي مراد الشيخ قدس سره من ذلك على كثير من طلبة العلم.

وعلى كل حال : لا كلام في تخصيص العام بهذا القسم من الخاص ، وإنما الكلام في وجه ذلك ، وأنه للحكومة أو للورود؟ أو يفصل بين الوجهين في اعتبار أصالة الظهور؟ فان بنينا على كون الوجه فيها أصالة عدم القرينة يكون الخاص حاكما على العام ، وإن بنينا على كون الوجه فيها الظن النوعي يكون الخاص واردا عليه (1).

ص: 722


1- أقول : مبنى ورود أصالة السند في الخاص على أصالة ظهور العام أو حكومته ليس إلا بجعل المعلق عليه في أصالة ظهور العام عدم الحجة على التخصيص كشفا أو قرينة أو عدم العلم به واقعا ، فعلى الأول : لا محيص إلا من الورود ، وعلى الثاني : لا محيص إلا من الحكومة ، وبقية ما أفيد ليس إلا تطويلا بلا طائل. ولا يظن أحد بان منشأ ترديد « شيخنا الأعظم » في الحكومة أو الورود ما ذكر من وجه حجية أصالة الظهور انه من باب الكشف أو أصالة عدم القرينة ، مع أن أول ذهن من صغار الطلاب يلتفت بعدم الفرق بين المسلكين في هذه الجهة! لان أصالة الظهور في العام إن كان معلقا على عدم الحجة على الخاص ، فدليل الخاص ولو كان ظنيا وارد على أصالة ظهور العام ، من دون فرق بين وجه حجيته من حيث الكشف أو أصالة عدم القرينة ، إذ على اي حال ورد الحجة على التخصيص ، فيرتفع موضوع أصالة الظهور حقيقة. وإن كان معلقا على عدم العلم بعدم التخصيص واقعا فيرتفع موضوع أصالة الظهور حكما ، من دون فرق أيضا بين وجه الحجية ابدا ، ولا نعني من الحكومة أيضا إلا هذا. ولعمري اني لا أرى من هذه الكلمات إلا تطويلا بلا طائل وتفصيلا بلا حاصل!!.

والأقوى : هو الحكومة مطلقا. ولعل نظر الشيخ قدس سره في احتمال الورود في الوجه الأول إلى أن بناء العقلاء على متابعة الظهور مقيد من أول الامر بعدم قيام القرينة على خلاف الظهور والخاص يكون قرينة على عدم إرادة ظهور العام ، فإنه قطعي الدلالة ، وكونه ظني السند لا يمنع عن قرينيته ، لأن المفروض. أنه قام الدليل القطعي على التعبد بسنده ، فيكون التعبد بسند الخاص رافعا لموضوع أصالة الظهور في طرف العام حقيقة ، لما عرفت : من أن موضوع أصالة الظهور مقيد بعدم قيام قرينة الخلاف وعدم ثبوت ما يقتضي عدم إرادة الظهور ، وقد ثبت ذلك ، فيكون نسبة الخاص إلى العام كنسبة الأدلة الشرعية إلى الأصول العقلية ، فكما أن التعبد بالأدلة رافع لموضوع الأصول العقلية ، كذلك التعبد بسند قطعي الدلالة رافع لموضوع بناء العقلاء على أصالة ظهور العام في العموم ، هذا غاية ما يمكن من تقريب الورود.

وفيه : أن الخبر الخاص بما هو خبر لا يكون قرينة على إرادة خلاف الظهور ، لاشتراك العام والخاص في ذلك ، وليس بناء العقلاء مقيدا بعدم ورود مطلق الخبر الخاص ، فان مطلق الخبر الخاص لا يكون قرينة على عدم إرادة العموم ، بل الخاص إنما يكون قرينة باعتبار كون مثبتا لمؤداه ، فان كان ثبوت المؤدى قطعيا كان رافعا لموضوع أصالة الظهور حقيقة وتصح دعوى الورود ، وإن لم يكن قطعيا فلا مجال لدعوى الورود. والخاص المبحوث عنه في المقام وإن كان قطعي الدلالة ، إلا أنه ظني السند ، ومعه لا يمكن حصول العلم بثبوت المؤدى ، فلو لم يقم دليل على التعبد بالسند كان وجوده كعدمه ، لا تصادم دلالته القطعية ظهور العام ولا يكون مثبتا للمؤدى ولا يصح لان يكون قرينة على التصرف

ص: 723

فيه. نعم : بعد قيام الدليل على التعبد بالسند يكون الخاص مثبتا للمؤدى ، وبتوسط ذلك يكون قرينة على إرادة خلاف الظهور ، فقرينية الخاص إنما تتم بمقدمتين : التعبد بسنده وثبوت المؤدى به ، وقد تقدم في المباحث السابقة : أن ضابط الورود هو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر بنفس التعبد ولو مع عدم ثبوت المتعبد به ، بحيث لو فرض انفكاك التعبد عن ثبوت المتعبد به لكان رافعا لموضوع الآخر. وأما إذا توقف الرفع على ثبوت المتعبد به ، فلا يكون أحدهما واردا على الآخر ، بل يكون حاكما عليه ، فما نحن فيه لا يندرج في ضابط الورود.

فالانصاف : أنه لا مجال لاحتمال كون الخاص واردا على أصالة الظهور ورافعا لموضوعها حقيقة مع كونه ظني السند ، ولعل الشيخ قدس سره أشار بقوله : « فتأمل » إلى تضعيف احتمال الورود لا إلى تقويته - كما عن بعض المحشين - هذا كله إذا كان الوجه في بناء العقلاء على متابعة الظهور هو أصالة عدم القرينة.

وإن كان الوجه فيه هو حصول الظن النوعي بكون الظهور كاشفا عن كونه هو المراد النفس الأمري : فالأقوى فيه أيضا الحكومة ، فإنه لا موجب لتوهم الورود إلا دعوى : أن بناء العقلاء على حجية الظهور مقيد بما إذا لم يكن في البين حجة أقوى توجب بطلان اقتضاء الظهور للحجية ، بداهة أن المتقضي لحجية الظهور والاخذ به إنما هو حيثية كشفه وحكايته عن المراد وإرائته لمتعلق الإرادة الواقعية ، والخاص إذا كان قطعي الدلالة مع التعبد بصدوره يوجب بطلان كشف العام عن كونه هو المراد وتبطل إرائته عن كونه متعلق الإرادة الواقعية ، فيكون الخاص رافعا لموضوع أصالة الظهور في طرف العام حقيقة ، ولا نعني بالورود إلا كون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر حقيقة.

وبالجملة : الفرق بين الوجهين في اعتبار أصالة الظهور مما لا يكاد يخفى ،

ص: 724

فإنه بناء على كون المدرك في اعتبارها أصالة عدم القرينة يمكن أن يقال : إن الخبر الخاص بنفسه لا يكون قرينة ، بل قرينيته باعتبار كونه مثبتا للمؤدى بتوسط التعبد بالسند ، فلا يتم فيه الورود ، بالبيان المتقدم. وأما بناء على كون المدرك في اعتبار أصالة الظهور هو جهة كشفه وإرائته ولو نوعا عن المراد النفس الأمري : فلا محيص عن كون الخاص واردا على أصالة الظهور ورافعا لموضوعها ، فان القطع بدلالة الخاص بضميمة التعبد بصدوره يقتضي بطلان كاشفية الظهور وإرائته عن المراد النفس الأمري ، ولعله لذلك جزم الشيخ قدس سره بالورود في هذا الوجه.

ولكن مع ذلك كله لا يتم الورود ، فإنه على كل حال الخاص إنما يكون رافعا لموضوع أصالة الظهور بتوسط إثباته للمؤدى ، ولا يكفي في ذلك مجرد التعبد بالسند ما لم يقتض ثبوت المتعبد به والمخبر عنه ، وقد تقدم : أنه مهما كان رفع موضوع أحد الدليلين بتوسط ثبوت المتعبد به في الآخر يخرج عن ضابط الورود ويندرج في ضابط الحكومة.

فالأقوى : أنه لا فرق بين الوجهين وأنهما يشتركان في كون الخاص حاكما على ظهور العام ، ولا يكون واردا عليه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا ، وتأمل في عبارة الشيخ قدس سره حق التأمل.

المبحث الخامس: في حكم التعارض

اعلم : أن التعارض إما أن يكون بين دليلين لا غير ، كما إذا قام أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة. وإما أن يكون بين أكثر ، كما إذا

ص: 725

قام ثالث في المثال على الإباحة. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون أحد المتعارضين واجدا لمزية وخصوصية يكون الآخر فاقدا لها ، وإما أن يكونا متساويين في المزايا والخصوصيات. وعلى الأول : فالمزية إما أن تكون في السند ، أو في جهة الصدور ، أو في الدلالة ، فهذه جملة ما يتصور في أقسام تعارض الأدلة.

فان كانا متساويين في المزايا والخصوصيات : فالقاعدة فيهما تقتضي التساقط. ولكن قام الدليل على التخيير في الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، وسيأتي البحث فيه.

وإن كان أحدهما واجدا للمزية : فالمزية إن كانت في السند أو في جهة الصدور ، فلابد من الاخذ بصاحب المزية وطرح الآخر. ويدل على ذلك أخبار الترجيح ، ويأتي البحث عنها أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ).

وإن كانت المزية في الدلالة : فاللازم هو الجمع بين المتعارضين وعدم جواز طرح أحدهما. وعن « غوالي اللئالي » دعوى الاجماع على أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح.

والمقصود بالكلام في هذا المبحث هو بيان المزية التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة إذا كان التعارض بين دليلين لا غير. وأما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين : فسيأتي الكلام فيه في مبحث مستقل. فنقول : لا إشكال في أنه ليس كل مزية تقتضي الجمع بين الدليلين. والمراد من « الامكان » في قولهم : « الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » ليس هو الامكان العقلي ، فإنه ما من دليلين متعارضين إلا ويمكن الجمع بينهما عقلا ، فينسد باب التعارض ، بل المراد من « الامكان » هو الامكان العرفي على وجه لا يوجب الجمع بين الدليلين خروج الكلام عن قانون المحاورات العرفية ، فلابد من الجمع بين الدليلين من أن يكون أحدهما واجدا

ص: 726

لمزية تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر.

وبالجملة : مجرد إمكان التأويل وحمل أحد المتعارضين على خلاف طاهره لا يكفي في جواز الجمع بين الدليلين ، وإلا لزم طرح الأخبار الواردة في باب المتعارضين - من الترجيح بالسند أو التخيير - أو حملها على الفرد النادر ، وهو ما إذا كان التعارض بين النصين اللذين لا يحتمل فيهما الخلاف ، وإلا ففي غالب موارد التعارض يمكن فيه التأويل وحمل أحد المتعارضين على خلاف ظاهره. فلابد وأن يكون مرادهم من « الامكان » هو الامكان العرفي ، بحيث يساعد عليه طريقة المحاورة بين أهل اللسان ، على وجه لا يبقى العرف متحيرا في استكشاف المراد من الدليلين ، فلا عبرة بالجمع التبرعي الذي لا يساعد عليه العرف والعقلاء ، كما لا عبرة بمجرد كون أحد الدليلين أظهر من الآخر ، فان الأظهرية لا تقتضي التصرف في الظاهر وحمله على خلاف ظاهره ما لم تصل الأظهرية إلى حد تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر (1) وكذا لا عبرة بما ذكروه في تعارض الأحوال : من الشيوع والغلبة وكثرة الاستعمال ونحو ذلك ، فإنه لا أثر لشيء منها في رفع التعارض عن المتعارضين ، بل طريق رفع التعارض ينحصر بأحد أمرين : إما أن يكون أحدهما نصا في مدلوله والآخر ظاهرا ، وإما أن يكون أحدهما بظهوره أو أظهريته في مدلوله قرينة عرفية على التصرف في الآخر (2) والجمع العرفي يدور مدار أحد هذين الأمرين ويندرج في كل منهما موارد عديدة.

ص: 727


1- أقول : بمعنى كون أحد التصرفين أبعد عن الآخر مع اشتراكهما في بعد التصرف ، بل لابد وأن يكون الأظهرية بمثابة توجب قرب التصرف في الآخر بالنسبة إلى الأظهر ، كما لا يخفى.
2- أقول : لا نتصور قرينية الظاهر للتصرف في غيره مع عدم مزية له على غيره بالدلالة إلا في باب الحكومة ، وإلا ففي باب التخصيص لا محيص من التفاضل في الظهور بمقدار يصير التصرف في غيره قريبا عرفيا ، كما أشرنا إليه.

فمن الموارد التي تندرج في النصوصية : ما إذا كان أحد الدليلين أخص من الآخر وكان نصا في مدلوله قطعي الدلالة ، فإنه يوجب التصرف في العام ورودا أو حكومة ، على التفصيل المتقدم.

ومنها : ما إذا كان لاحد الدليلين قدر متيقن في مقام التخاطب (1) فان القدر المتيقن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد الاطلاق ما لم يصل إلى حد يوجب انصراف المطلق إلى المقيد - كما تقدم تفصيله في مبحث المطلق والمقيد - إلا أن وجود القدر المتيقن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين ، فان الدليل يكون كالنص في القدر المتيقن ، فيصلح لان يكون قرينة على التصرف في الدليل الآخر ، مثلا لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب إكرام العلماء ، وكان مفاد الآخر حرمة إكرام الفساق ، وعلم من حال الآمر أنه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشد كراهة من الفاسق الغير العالم ، فالعالم الفاسق متيقن الاندراج في عموم قوله : « لا تكرم الفساق » ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق ، فلابد من تخصيص قوله : « لا تكرم العلماء » بما عدا الفساق منهم.

ومنها : ما إذا كانت أفراد أحد العامين من وجه بمرتبة من القلة بحيث لو خصص بما عدا مورد الاجتماع مع العام الآخر يلزم التخصيص المستهجن ، فيجمع بين الدليلين بتخصيص مالا يلزم منه التخصيص المستهجن وإبقاء ما يلزم منه ذلك على حاله ، لان العام يكون نصا في المقدار الذي يلزم من خروجه عنه

ص: 728


1- أقول : في النصوصية لا يحتاج إلى كونه قدرا متيقنا في التخاطب ، بل لو كان متيقنا عقلا يكفي في عدم قابلية التصرف فيه ، لأنه ينتهي إلى استيعاب التخصيص المستهجن دون غيره ، فإنه يصير حينئذ هذا المقدار متيقن الإرادة من اللفظ ، بحيث لا يبقى مجال التصرف فيه ، فقهرا يتصرف في غيره. والظاهر أن ما ذكر من المثال أيضا يساعد ما ذكرنا بناء على معلومية حاله بالقرائن الخارجية ، بلا كون هذا المقدار من القرائن الحافة بالكلام المنشأ لاستفادة هذا المقدار من اللفظ بالنصوصية ، كما لا يخفى.

التخصيص المستهجن ، ولا عبرة بقلة أفراد أحد العامين وكثرتها ، بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن.

ومنها : ما إذا كان أحد الدليلين واردا مورد التحديدات والأوزان والمقادير والمسافة ونحو ذلك ، فان وروده في هذه الموارد يوجب قوة الظهور في المدلول بحيث يلحقه بالنص ، فيقدم على غيره عند التعارض.

ومنها : ما إذا كان أحد العامين من وجه واردا في مورد الاجتماع مع العام الآخر ، كما إذا ورد قوله : « كل مسكر حرام » جوابا عن سؤال حكم الخمر ، وورد أيضا ابتداء قوله : « لا بأس بالماء المتخذ من التمر » فان النسبة بين الدليلين وإن كانت هي العموم من وجه ، إلا أنه لا يمكن تخصيص قوله : « كل مسكر حرام » بما عدا الخمر ، فإنه لا يجوز إخراج المورد ، لان الدليل يكون نصا فيه ، فلابد من تخصيص قوله : « لا بأس بالماء المتخذ من التمر » بما عدا الخمر.

هذا كله فيما يندرج في « الامر الأول » وهو ما إذا كان أحد المتعارضين نصا في تمام المدلول أو في بعضه دون الآخر.

وأما ما يندرج في الامر الثاني : وهو أن يكون أحد الدليلين قرينة عرفية على التصرف في الآخر ، فهو وإن لم ينضبط كلية ، لاختلاف ذلك باختلاف المقامات والخصوصيات المحتفة بالكلام - من القرائن الحالية والمقالية وخصوصيات المتكلم وغير ذلك مما يكون أحد الكلامين قرينة على التصرف في الآخر - إلا أن المنضبط من ذلك أمور :

منها : ما إذا تعارض العام الأصولي والاطلاق الشمولي ودار الامر بين تقييد المطلق أو تخصيص العام (1) كقوله : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفساق » فإنهما

ص: 729


1- أقول : يكفي في مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام بيان مرامه بهذا اللفظ المشغول به ، فان هذا المقدار يوجب ظهور اللفظ في المرام بمحض عدم ضم قرينة بهذا الكلام. ولا ينافي ذلك وجود قرينة منفصلة أخرى على جزء مرامه واقعا ، إذ إرادته الواقعية المتعلقة بجزء آخر لا ينافي كونه في مقام بيان تمام مرامه بالكلام السابق ، إذ لبيان تمام المرام مقام ولتماميته في موضوع المرام واقعا مقام اخر ، لامكان تخلف مقام البيان عن الواقع ولو لمصلحة في إخفاء الواقع فعلا ، غاية الامر يعطي الظهور الذي هو حجة على العبد إلى أن ينكشف الخلاف ، ولذا يكون المطلقات بتمامية مقدمات الحكمة من ظواهر الألفاظ ، وإلا فلو كان الغرض بيان تمام المرام واقعا يلزم كون المطلق داخلا في النصوص القطعية ، ومن لوازم ذلك عدم كفاية الفحص مع بقاء الشك في وجود القرينة المنفصلة في استفادة الاطلاق ، لعدم الجزم بتمامية المرام واقعا ، وهو كما ترى! فلا محيص من الالتزام بكون المطلقات بعد تمامية مقدمات الحكمة من الأدلة الظنية دلالة لا قطعية ، كي لا ينافيه الشك في جزء المرام بعد الفحص ، وحينئذ لا محيص إلا من تفكيك دلالته عن الواقع. وعليه : يكفي في دلالته المزبورة ما ذكرنا من مقام البيان ، وبعد إحراز هذا المقام من المتكلم بملاحظة غلبة هذا المقام مع واقع المرام نوعا يحصل من المقدمات المزبورة دلالة تصديقية نوعية على مرامه واقعا ، كما هو الشأن في كل لفظ صادر من المتكلم الذي كان في مقام الإفادة والاستفادة ، فان الدلالة التصديقية التي هي مدار الحجية في باب الألفاظ على إحراز هذا المقام ، كما لا يخفى ، فتدبر فيما قلت كي ترى عدم تمامية النتيجة المزبورة.

يتعارضان في العالم الفاسق ، ويدور الامر بين تقييد قوله : « أكرم العالم » بغير الفاسق ، وبين تخصيص قوله : « لا تكرم الفساق » بما عدا العالم ، ولكن شمول العام الأصولي لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له ، لان شمول العام لمادة الاجتماع يكون بالوضع (1) وشمول المطلق له يكون بمقدمات الحكمة ، ومن جملتها عدم ورود ما يصلح أن يكون بيانا للتقييد ، والعام الأصولي يصلح لان يكون بيانا لذلك ، فلا تتم مقدمات الحكمة في المطلق الشمولي ، ولابد حينئذ من تقديم العام الأصولي وتقييد المطلق بما عدا مورد الاجتماع. ولا مجال لتوهم العكس وتخصيص العام الأصولي بالمطلق الشمولي ، فان المطلق لا يصلح للتخصيص إلا إذا تمت فيه مقدمات الحكمة ، ومع وجود العام الأصولي لا يكاد يتم فيه مقدمات الحكمة ، لأنه يصح للمتكلم الاعتماد في بيان مراده على ظهوره الوضعي ، فالمطلق لا يصلح لان يكون مخصصا للعام

ص: 730


1- أقول : كيف يكون ذلك بالوضع مع الالتزام باحتياج مدخول العام إلى مقدمات الحكمة على مختاره؟!.

الأصولي ، والعام الأصولي يصلح لان يكون مقيد للمطلق الشمولي ، فلا مجال للتشكيك في تقديم التقييد على التخصيص ، من غير فرق بين ورود العام قبل المطلق أو مقارن له أو متأخر عنه (1).

ودعوى : أن الذي يكون من مقدمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا فالعام المتأخر عن المطلق لا يصلح لان يكون بيانا ، واضحة الفساد ، فان الذي يكون من مقدمات الحكمة هو عدم البيان المطلق ، لا عدم البيان في خصوص مقام التخاطب (2) كما أوضحناه في محله.

والمحقق الخراساني قدس سره قد أفاد في بعض فوائده الأصولية : من أن اللازم علينا جمع كلمات الأئمة علیهم السلام المتفرقة في الزمان وتفرض أنها وردت في زمان ومجلس واحد ويؤخذ ما هو المتحصل منها على فرض الاجتماع.

وهذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه : من أن العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب ، لا مطلقا ، فتأمل جيدا.

ومما ذكرنا ظهر وجه تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تخصيص العام الأصولي لو دار الامر بينهما (3) كقوله : « أكرم عالما » و « لا تكرم الفساق » بل

ص: 731


1- أقول : ولو تأملت فيما قلت ترى كمال المجال في تقديم التخصيص على التقييد في القرائن المنفصلة أحيانا ، فضلا عن الشك فيه.
2- أقول : ولعمري! لو تأملت فيما ذكرنا ترى وضوح فساد هذا الكلام ، لا الكلام الصادر من أستاذ أستاذك! وما أفاد استاذنا الأعظم في فوائده أراد بيان تشخيص ميزان الأظهرية الموجبة للجمع قبال عدم صلاحية مجرد أبعدية التصرف فيه عن غيره ، بأنه لو جمعا في كلام واحد لكان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، وذلك لا ينافي ما أفاد : من أن قوام ظهور المطلق بعدم إقامة القرينة على مرامه متصلا بكلامه. ولئن نظرت في غالب إشكالاته على استاذنا ترى كونها من هذا القبيل الذي يضحك به الثكلى!!
3- 3 - أقول : ما أفيد بمقتضى ما ذكرنا في شرح مقدمات الحكمة لا يكاد يتم في واحد من النتايج المزبورة في المنفصلات. نعم : لا باس بالالتزام بها في المتصلات في كلام واحد بعين ما أفيد من البرهان المزبور ، وإلا ففي المنفصلات لابد من ملاحظة الترجيح في الظهور حتى بين المطلق والعام ، أو الشمولي والبدلي ، كما لا يخفى.

الامر في تقييد الاطلاق البدلي أوضح من تقييد الاطلاق الشمولي ، لان المطلوب في الاطلاق البدلي صرف الوجود ، فلا يصلح لان يعارض ما يكون المطلوب فيه مطلق الوجود.

وبذلك يظهر : تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد المطلق الشمولي ، كقوله : « أكرم عالما » و « لا تكرم الفاسق » فإن الاطلاق الشمولي يمنع عن كون الافراد في الاطلاق البدلي متساوية الاقدام في حصول الامتثال بأي منها. ولا ينافي ذلك كون الاطلاق في كل منهما بمقدمات الحكمة ، فان مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي ، لان من مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الاقدام ، ومقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك ، ولا يمكن العكس ، كما لا يخفى وجهه على المتأمل ، فتدبر.

ومنها : ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الغاية ، كقوله : « يجب الامساك إلى الليل » وقوله : « إن جاءك زيد فلا يجب الامساك في الليل » (1) فان مفهوم الشرط يقتضي وجوب الامساك في الليل عند مجيء زيد (2) ومفهوم الغاية يقتضي عدم

ولكن لما كان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية بمقدمات الحكمة - كما بيناه في محلة - بخلاف القضية الغائية فإنها بالوضع تدل

ص: 732


1- لا يخفى : أن المثال لا ينطبق على ما نحن فيه ، فان النسبة بين المفهومين هي العموم المطلق ، فلا وجه لرفع اليد عن مفهوم الشرط مع كونه أخص من مفهوم الغاية ، ولكن الامر في المثال سهل ( منه ).
2- كذا في النسخة ، والصواب : عدم مجيء زيد ( المصحح ).

على انتفاء حكم ما قبل الغاية عما بعدها ، فاللازم تقديم مفهوم الغاية على مفهوم الشرط وسقوط القضية الشرطية عن كونها ذات مفهوم.

ومنها : ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الوصف - بناء على كون القضية الوصفية ذات مفهوم - فإنه يقدم مفهوم الشرط على مفهوم الوصف ، فان القضية الشرطية أظهر في كونها ذات مفهوم عن القضية الوصفية ، حتى قيل : « إن القضية الشرطية بالوضع تدل على المفهوم » فتصلح أن تكون قرينة على التصرف في القضية الوصفية وإخراجها عن كونها ذات مفهوم.

ومنها : ما إذا دار الامر بين التخصيص والنسخ ، فقيل : إن التخصيص أولى ، لكثرة التخصيص وقلة النسخ. وقيل : إن النسخ أولى.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو أنه يعتبر في النسخ أن يكون واردا بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ (1) كما أنه يعتبر في التخصيص أن يكون واردا قبل حضور

ص: 733


1- أقول : بعد كون النسخ في التشريعيات كالبداء في التكوينيات فكما ترى البداء الحقيقي في المخلوق قبل وقت العمل - كما لو كان بانيا على ضيافة زيد عند مجيئه ثم بدا له قبل المجئ - كذلك أمكن صورته في الخالق بملاحظة الاخبار على طبق المقتضيات المتكفل لها لوح المحو والاثبات ، فيخبر النبي صلی اللّه علیه و آله أيضا بوقوع موت كذا ، ولكن في اللوح المحفوظ مكتوب حياته لوجود مانع عن تأثير مقتضي موته مثلا ، ومن هذا القبيل باب النسخ في التشريعيات. وعليه : فلا قصور في تصوير النسخ قبل حضور وقت العمل أيضا ، كما أنه لا قصور في إمكان تأخير البيان عن وقت العمل لقيام مصلحة على خلافه ، كما هو الشأن في كلية جعل الحكم الظاهري على خلاف الواقع، إذ لا أقل من ترك إيجاب الاحتياط وارجاعه إلى حكم العقل بالبرائة الموجب لتفويت الواقع على المكلف لمحض ترك إيجاب الاحتياط ، كما هو ظاهر ، فتدبر. و المقرّر اعترف بالشق الثاني، فيا ليت يعترف بالأول أيضا! فتدبر، إذ لعلّ اعترافه فيما بعد في تصوير النسخ بعد انقطاع الوحي- بإمكان ورود الناسخ في زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و النبي صلّى اللّه عليه و آله أودعه إلى أوصيائه- عين الاعتراف بإمكان النسخ من اللّه الوارد على النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل العمل، و إنما أوكل النبي صلّى اللّه عليه و آله إبرازه إلى الوصيّ، و ذلك غير وروده واقعا، كما لا يخفى.

وقت العمل بالعام ، ولأجل ذلك وقع الاشكال في التخصيصات الواردة على الأئمة علیهم السلام بعد حضور وقت العمل بالعام ، فإنه رب عام نبوي صلی اللّه علیه و آله وخاص عسكري علیه السلام والمحتملات في مثل هذه المخصصات ثلاثة :

أحدها : أن تكون ناسخة لحكم العمومات.

ثانيها : أن تكون كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه ، وقد اختفت علينا المخصصات المتصلة ووصلت إلينا هذه المخصصات المنفصلة.

ثالثها : أن تكون هي المخصصات حقيقة ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام ، لان العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعي ، بل الحكم الواقعي هو الذي تكفل المخصص المنفصل بيانه ، وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير ، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهرا إلى أن يرد المخصص ، فيكون مفاد العموم حكما ظاهريا ، ولا محذور في ذلك ، فان المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكما واقعيا لا حكما ظاهريا.

هذا ، ولكن الالتزام بكون هذه المخصصات ناسخة على كثرتها بعيد غايته ، بل قيل : إنه لا يمكن ، لانقطاع الوحي بعد النبي صلی اللّه علیه و آله فلا يتحقق النسخ بعده ، وإن كان القول بذلك ضعيف غايته ، فإن انقطاع الوحي لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صلی اللّه علیه و آله لأنه يمكن أن يكون النبي صلی اللّه علیه و آله قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي علیه السلام وأودع الوصي إلى وصي آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تقويض دين اللّه ( تعالى ) إلى الأئمة علیهم السلام وعقد في الكافي بابا في ذلك ، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ولكن مع ذلك لا يمكن الالتزام

ص: 734

بكون المخصصات الواردة بعد حضور وقت العمل بالعمومات كلها تكون ناسخة للعمومات (1) فالاحتمال الأول ساقط ، ويدور الامر بين أحد الاحتمالين الأخيرين.

ص: 735


1- أقول : بعد إمكان تأخير المخصص عن وقت العمل بل وتقديم ورود الناسخ على العمل بشهادة تفويض إبرازه إلى الأئمة علیهم السلام من بعده - إذ ذلك مستلزم لتأخير بروز الناسخ وإعلامه بعد العمل لا وروده إذ يستحيل وروده واقعا بعد انقطاع الوحي - كانت التخصيصات الواردة بعد العمومات قابلة للنسخ والتخصيص ، فلا محيص من ترجيح التخصيص بوجه متيقن لا لصرف دعوى البداهة ، خصوصا مع اقتضاء أصالة العموم نسخية الخاص. و توهّم معارضته مع عموم ما دل على بقاء الأحكام من الحلال و الحرام مدفوع غايته، لأن عموم الأحكام لا يكاد ينطبق على المورد إلّا بعد جريان أصالة العموم في العام، لأنه محرز لموضوعه، فكيف يعارضه أصالة العموم في الحلال و الحرام معه؟ إذ لازم جريانه عدم الجريان، و هو محال. و بعبارة أخرى: أصالة العموم في الأحكام إنما هو في ظرف موضوعه، و لا يصلح مثله للمعارضة مع ما يحرز هذا الموضوع، فقهرا يصير هذا الأصل حاكما و مقدما على الأصل الآخر، كما ان إطلاق العام زمانا أيضا تبع لهذا العموم، فكيف يعارضه عمومه؟ نعم: ما يصلح للمعارضة له هو أصالة الإطلاق في طرف الخاصّ، فانه يقتضي ثبوت حكمه من الأول و هو ينافي العموم لهذا الفرد قبل ورود الخاصّ، و هذا التقريب على المختار- من صلاحية معارضة أصالة الإطلاق في المنفصل مع أصالة العموم- في غاية المتانة، فيجري بعد التعارض حكم التخصيص على الخاصّ. و لكن هذا الكلام إنما يصح في الخاصّ الوارد قبل العام، و اما الخاصّ الوارد بعد العام، فلا أثر لهذا النزاع بالنسبة إلى من وجد بعد ورود الخاصّ، حيث إن احتمال الناسخية لا يؤثر في حقه عملا كي يجري في حقه أصالة العموم فيصلح للمعارضة. نعم: يصلح هذا الثمر بالنسبة إلى الموجودين في زمان الخطابين، فانه يثمر هذا النزاع في حقّهم بالنسبة إلى القضاء و عدمه، و إلّا فبالنسبة إليهم أيضا لا يجدي أصالة الإطلاق في طرف الخاصّ بالنسبة إلى ما مضى من زمانه، فانه خارج عن محلّ ابتلائه، كما لا يخفى. ثم إن ما ذكرنا كلّه على فرض إرجاع النسخ إلى التصرف في الدلالة، و إلّا فلو كان باب النسخ- كما أشرنا- من قبيل صورة البداء فكان التصرف فيه من قبيل التصرف في الجهة. و حينئذ قد يتوهّم بأنه في الدوران بينهما يقدّم التصرف الدلالي على الجهتي، كما هو الشأن بين الجمع الدلالي أو الحمل على التقية، حيث إن بناء الأصحاب على تقديم الجمع على التقية، فلازمه في المقام تقديم التخصيص على النسخ. و لكن يمكن ان يقال: إن مناط تقديم الجمع على التقية إنما هو من جهة اقتضاء التقية طرح السند رأسا، بخلاف الجمع، و هذا المناط غير جار في المقام، حيث إنه على النسخ لا يلزم طرح السند رأسا ، بخلاف الجمع، وهذا المناط غير جار في المقام ، حيث إنه على النسخ لا يلزم طرح السند رأسا ، وليس في البين أيضا تعبد خاص بتقديم التصرف الدلالي على الجهتي ، كي يتعدى به إلى المورد. وحينئذ فلا محيص في المقام من إعمال المعارضة المزبورة بين الجمع والجهة في الخاص المتقدم ، فيجري عليه حكم التخصيص ، كما أشرنا. واما في الخاص المتأخر فيجري التفصيل الذي قلنا فيه سابقا ، كما لا يخفى ، فتدبر في ما قلت.

وقد استبعد الشيخ قدس سره الاحتمال الثاني ، بل أحاله عادة ، لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها ، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعدد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو أن يكون مفاد العمومات حكما ظاهريا والحكم الواقعي هو مفاد المخصصات المنفصلة وقد تأخر بيانها لمصالح أوجبت اختفاء الحكم الواقعي إلى زمان ورود المخصصات ، وقدم العام ليعول عليه ظاهرا ، فيكون التكليف الظاهري في حق من تقدم عن زمان ورود المخصصات هو الاخذ بعموم العام ، نظير الاخذ بالبراءة العقلية قبل ورود البيان من الشارع ، بداهة أن بيان الاحكام إنما كان تدريجيا ، فكما أنه قبل ورود البيان كان الحكم الظاهري هو ما يستقل به العقل : من البراءة والاحتياط ، كذلك كان الحكم الظاهري قبل ورود المخصصات هو ما تضمنته العمومات ، والفرق بينهما : هو أنه في البراءة كان عدم البيان وفي العمومات يكون بيان العدم (1).

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في تقريب الاحتمال الثالث وتبعيد الاحتمال الثاني.

ص: 736


1- لم يظهر لي وجه عدول الشيخ قدس سره عن التنظير بالبراءة الشرعية إلى البراءة العقلية ، مع أن التنظير بالبراءة الشرعية كان أولى ، فإنه يمكن ان تكون من بيان العدم لا عدم البيان ، فيتحد مفادها مع مفاد العمومات. والحق انه في العمومات أيضا يكون من عدم البيان لا بيان العدم ، فان العام إنما يكون حجة في المؤدى بواسطة جريان مقدمات الحكمة في مصب العموم ، ومن جملتها عدم بيان المخصص ، كما أوضحناه في محله ، فتأمل جيدا ( منه ).

ولكن الانصاف : أن الاحتمال الثاني لو لم يكن أقرب من الاحتمال الثالث فلا أقل من أن يكون مساويا له ، فانا نرى أن كثيرا من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا من الأئمة علیهم السلام مروية عن العامة بطرقهم عن النبي صلی اللّه علیه و آله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا ، فلا وجه لاستحالة الوجه الثاني أو استبعاده ، بل يمكن أن يقال : باستحالة الوجه الثالث ، فإنه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصصات المنفصلة تامة فلابد من إظهاره والتكليف به (1) وإن لم تكن تامة - ولو بحسب مقتضيات الزمان حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم - فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتى يكون مفاد العام حكما ظاهريا ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاص ، ولا محالة يكون الخاص ناسخا لا مخصصا ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأول وهو النسخ. وقد عرفت : أنه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال : لو تردد الخاص بين أن يكون مخصصا أو ناسخا ، فقيل : بتقديم التخصيص لكثرته وشيوعه ، حتى قيل : « ما من عام إلا وقد خص ».

ص: 737


1- أقول : تمامية مصلحة الحكم الواقعي لا يلازم إبرازه فعلا على المكلف ، بل يكفي فيه إيكال إبرازه إلى أوصيائه علیهم السلام مع إعطائه الحجة على خلاف الواقع ، كما لا يخفى. ثم إن الحكم الظاهري في المقام هو مفاد أصالة العموم لا مفاد العام، و هذا التعبير في كلماته أيضا مبني على المسامحة أو السهو من القلم. و لئن شئت توضيح ما ذكرنا بأزيد مما أشرت إليه، فاسمع بان الغرض من تمامية مصلحة الواقع ان كان عدم وجود مزاحم له في تنجّزه على المكلّف و إيصاله إليه، فلازمه استحالة جعل الطريق على خلافه، و إن كان الغرض تمامية المصلحة في عالم جعل الحكم واقعا على وفقه و لو لم يصل إلى المكلّف فعلا بل اقتضت المصلحة إيصاله إليه بعد حين، فذلك لا ينافي مع إبداء العام على المكلف في صورة كون الحكم المجعول واقعا على طبق الخاصّ الموكول إبرازه على وصيّه، كما لا يخفى.

وقيل : بتقديم النسخ ، فإنه لا يلزم من النسخ إلا تقييد الاطلاق ، وهو أولى من تخصيص العام عند الدوران بينهما ، كما تقدم.

وتوضيح ذلك : هو أنه قد اجتمع في العام ظهوران : ظهور في شموله لجميع الافراد حتى الافراد المندرجة تحت عنوان الخاص ، وظهور في استمرار حكمه ودوامه في جميع الأزمنة ، والظهور الأول يستند إلى الوضع ، لان العام بمدلوله الوضعي يعم جميع الافراد ، والظهور الثاني يستند إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، فان استمرار الحكم لجميع الأزمنة إنما هو بمعونة الاطلاق ومقدمات الحكمة وليس مدلولا لفظيا للعام ، فإذا دار أمر الخاص بين التخصيص والنسخ يقدم النسخ ، لأنه لا يقتضي أزيد من تقييد الاطلاق ، بخلاف التخصيص ، فإنه يلزم منه مخالفة الظهور الوضعي ، وقد عرفت : أنه لو دار الامر بين التصرف في العام الأصولي وبين التصرف في المطلق الشمولي ، يكون الثاني أولى. ولذلك أورد على الشيخ قدس سره من قوله بتقديم التخصيص على النسخ مع التزامه بتقديم تقييد الاطلاق على تخصيص العام.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر. أما في الوجه الأول : فلان مجرد كون التخصيص أكثر من النسخ لا يوجب حمل الخاص على التخصيص ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بالكثرة ما لم تكن قرينة عرفية بحيث توجب ظهور اللفظ في موردها.

وأما الوجه الثاني : فلان النسخ يتوقف على ثبوت حكم العام لما تحت الخاص من الافراد ، ومقتضى ما تقدم : من حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في العام ، هو عدم ثبوت حكم العام لافراد الخاص (1) فيرتفع موضوع النسخ.

ص: 738


1- 1 - أقول : كيف يكون أصالة الظهور في الخاص حاكما على أصالة العموم بعدما كان ذلك بالوضع وذاك بالاطلاق على مختاره؟.

ودعوى : أن النسخ يكون من قبيل تقييد الاطلاق فيقدم على تخصيص العام ، لا تخلو عن مغالطة ، فان النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت ، وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلة ، بل من جهة قوله علیه السلام « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (1) ونحو ذلك من الأدلة الدالة على استمرار أحكام الشريعة وعدم نسخها (2) فلو ثبت نسخ الحكم في مورد فإنما هو تخصيص لهذه الأدلة ، لا تقييد لاطلاق الأدلة الأولية المتكفلة لبيان أصل ثبوت الاحكام في الشريعة.

نعم : قد يستفاد استمرار الحكم من إطلاق الدليل بمعونة مقدمات الحكمة ، كقوله تعالى : « أوفوا بالعقود » حيث إنه يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقد مع عدم استمراره في الأزمنة ، وقد تقدم ( في تنبيهات الاستصحاب » أن العموم الافرادي في الآية الشريفة يستتبع العموم الزماني ، ولكن الاستمرار الذي يستفاد من مقدمات الحكمة غير الاستمرار المقابل للنسخ ، فان الاستمرار المقابل للنسخ عبارة عن استمرار الحكم ودوامه إلى يوم القيامة ، والاستمرار بهذا

ص: 739


1- أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، ح 19
2- أقول : هذا الجواب صحيح لو كان المراد من « الاطلاق » إطلاق العام زمانا إلى يوم القيامة ، وهو حينئذ لا يناسب ما أفاد : من تقديم أصالة الظهور في الخاص على أصالة الظهور في العام ، وإلا فلو كان المراد من « الاطلاق » إطلاق دليل الخاص بالنسبة إلى الزمان السابق عنه - كما في الخاص المتأخر عن العام - فالتمسك في مثله بعموم الحلال والحرام غير صحيح ، إذ ليس شأنه إلا إدامة ما ثبت إلى يوم القيامة ، لا اثبات ما ثبت من الأول ، إذ لا نظر لهذا العام إلا إلى إدامة ما ثبت وليس متكفلا لوقت ثبوته زمانا من حين العام أم بعده. نعم : ما أفيد إشكالا وجوابا صحيح في الخاص المتقدم لا المتأخر ، وهو خلاف ظاهر صدر كلامه الوارد عليه إشكاله بقوله : « ولا يخفى عليك الخ » ولعمري! ان كلماته في المقام لا يخلو عن اختلال النظام ، فتدبر. والتحقيق الرجوع إلى ما قلناه.

المعنى لا يقتضيه أدلة الاحكام ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، بخلاف الاستمرار في مثل الآية الشريفة ، فإنه عبارة عن عدم تحديد الحكم بزمان دون زمان ، وهذا الاستمرار يمكن أن يتكفله دليل الحكم بمعونة مقدمات الحكمة. وبالجملة : الاستمرار المقابل للنسخ غير الاستمرار المقابل لتقييد الحكم وتحديده بزمان خاص.

فدعوى : أن النسخ يكون من تقييد الاطلاق ، واضحة الفساد ، مع أنه لو سلم كونه من تقييد الاطلاق ، فقد عرفت : أنه لا مجال للنسخ إلا بعد ثبوت الحكم ، وظهور الخاص في التخصيص يمنع عن ثبوت حكم العام في أفراد الخاص (1) فيرتفع به موضوع النسخ.

فالأقوى : تقديم التخصيص على النسخ لو دار الامر بينهما ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام فيما إذا كان لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي التصرف في الآخر بحسب المحاورات العرفية.

المبحث السادس

إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين

فصوره وإن كانت كثيرة ، إلا أنه نحن نقتصر على ذكر أصولها ويعرف منها حكم سائر الصور (2).

ص: 740


1- أقول : قد تقدم انه يكفي لاثبات الحكم أصالة العموم في العام المتقدم ، وهو يصلح للمعارضة مع أصالة الظهور في الخاص.
2- 2 - أقول : قبل الشروع في الفروض ينبغي تنقيح مناط تعارض الظهورين وترجيحه ، فأقول : بعدما كان موضوع الحجية هو الظهور بمعنى الدلالة التصديقية النوعية الذي مرجعه إلى الكشف النوعي الحاصل من وضع اللفظ أو ما هو بحكمه الصادر في حال الإفادة والاستفادة ، فلا محيص من كون هذا المعنى من الكشف النوعي مناط الحجية ، ولازمه كون ما هو الأقوى ظهورا هو المقدم في الحجية ، ولذا نقول : بان وجه الترجيح في باب الجمع بين الظهورين المنفصلين هو الأقوائية في الظهور الذي هو مناط الحجية. وحينئذ فلو فرض وجود الأقوى في البين ورجحنا جانب الأقوى لا ينثلم المناط في الآخر مع انفصال الراجح ، وعليه : فلو فرض وجود معارض آخري أقوى ظهورا من هذا الظهور أيضا أو مساويا له لا يصلح لتقديم الأضعف على ما هو الأقوى بمحض انقلاب النسبة وصيرورة مقدار حجيته أخص من هذا الظهور ، إذ تقديم أخص الحجتين ليس تحت تعبد مخصوص كي يقال بصدق هذا المعني بينهما في مقدار الحجية ، بل وجه التقديم حسب اقوائية ظهور الأخص من حيث مناط الحجية ، وهذا المعنى لا يكاد ينثلم بمحض عدم حجية العام إلا فيما هو أخص مضمونا من الآخر مع كونه أضعف ظهورا في أصل ظهوره الذي هو مناط حجيته. و توهّم: لزوم ملاحظة النسبة بين الحجتين لا بين الدليلين و بين ما لا يكون حجة جزما، مدفوع: بان ما أفيد في غاية المتانة، و لكن عمدة الكلام في ان مجرد عمومية النسبة و خصوصيته لا يكون تعبّدا مناط الترجيح، و إنّما المناط فيه أقوائية دلالة الأخص مضمونا على الأعم، و هذا المعنى في المقام غير موجود، و ذلك: لأن نتيجة تقديم أحد المنفصلين على الآخر ليس إلّا قصر حجيته ببعض مدلوله و رفع اليد عنها عن البعض الآخر، و من البديهي: ان قصر حجيته ببعض المدلول لا يوجب أقوائيّة دلالة الدليل، لأن ظهوره في مقدار الحجية انما هو بعين ظهوره في التمام، و المفروض: ان هذا الظهور أضعف من غيره، فكيف يقدم مقدار الحجية حينئذ على ما هو أقوى منه دلالة بمحض أخصيّة نسبته؟ نعم: لو كان ذلك الأخصية حاصلة من قرينة متصلة كان لتقديمه على غيره مجال، لانقلاب أصل الظهور، و أين هذا و القرائن المنفصلة الغير الكاسرة لصولة الظهور! و إنّما هي كاسرة لحجيّته الغير الموجب لتغيير دلالته، لبقاء الدلالة فيه على ما كان قوة و ضعفا، كما لا يخفى. و حيث اتضح لك المرام، فنقول: امّا الفرع الأوّل: فحكمه واضح كما أفيد مع إتمامه بأنه لو رجح الخاصّين فيطرح العام و يعمل بالخاصّين لو لم يكن بينهما معارضة ذاتا، كما في المثال. و لو رجح العام سندا تقع معارضة عرضية بين الخاصّين، فيحتاج أيضا إلى ترجيح آخر. و إن كان بين الخاصّين أيضا معارضة ذاتية، فلا بد من إعمال الترجيح بينهما أوّلا، ثم تخصيص العام بالراجح، و لا وجه لاعمال الترجيح في العام حينئذ، لأنه فرع معارضة الخاصّين معه، و المفروض: ان وجود الترجيح بينهما توجب قصر الحجية بأحدهما، فلا يصلح الآخر للمعارضة مع العام و لو بضمه بغيره، بل المعارض للعام ليس إلّا الراجح، و المفروض: انه أقوى دلالة من العام ، فيقدم عليه جمعا. و اما الفرع الثاني: ففي الفرض المذكور لا يتصور عدم صلاحية العام لتخصيصهما، إلّا من جهة عدم صلاحية الأعم من الخاصّين لتخصيصه، و إلّا فمع صلاحيته فيلازم ذلك لصلاحية الأخص منه للتخصيص أيضا، ففي مثل هذا الفرض لا محيص من تخصيص العام بالأخص من الخاصّين و يرجع إلى المرجحات السندية بين العام و الخاصّ الأعم، بل و على مختاره من الانقلاب لا بد و ان يلاحظ النسبة بين العام المخصص و الأعم من الخاصّين. و ليس هنا مجال دعوى: ان نسبة العام لكل واحد من الخاصّين على السوية، إذ المفروض: ان العام بالنسبة إلى مقدار مدلول الأعم نصّ غير قابل للتخصيص، فما هو قابل له ليس إلّا الأخصّ من الخاصّين، فكيف يلاحظ العام مع مجموع الخاصّين كي ينتهي إلى ما ذكر من النتيجة؟ فما أفيد في المقام حينئذ لا يخلو عن اغتشاش. و مما ذكرنا في الحاشية السابقة أيضا ظهر بطلان توهّم مدارية انقلاب النسبة بعد التخصيص بمنفصل آخر، كما لا يخفى. و حينئذ فقوله في ذيل هذا الفرع: من مرجعيّة النسبة الحاصلة بعد التخصيص، كلام ظاهريّ كما تقدم وجهه مستوفى، فتدبّر.

ص: 741

الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان متباينان ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام النحويين ، ودليل آخر على عدم وجوب إكرام الكوفيين من النحويين ، وقام دليل ثالث على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ، فان النسبة بين كل من قوله : « لا تكرم الكوفيين » و « لا تكرم البصريين » وبين قوله : « أكرم النحويين » هي العموم المطلق ، والنسبة بين قوله : « لا تكرم الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم البصريين » هي التباين ، ولا إشكال في تخصيص العام بكل من الخاصين إذا لم يلزم منه التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيقع التعارض بين العام ومجموع الخاصين ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام العلماء ، وقام دليل آخر على عدم وجوب إكرام فساق العلماء ، وقام دليل ثالث على كراهة إكرام عدول العلماء ، فإنه لو خصص قوله : « أكرم العلماء » بكل من قوله : « لا تكرم فساق العلماء » وقوله : « يكره إكرام عدول العلماء » يبقى العام بلا مورد ، ففي مثل ذلك لابد من معاملة التعارض بين

ص: 742

العام ومجموع الخاصين ، وذلك واضح.

الصورة الثانية : ما إذا ورد عام وخاصان مع كون النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكر العلماء » و « لا تكرم النحويين منهم » و « لا تكرم الكوفيين من النحويين ». وحكم هذا القسم حكم القسم السابق : من وجوب تخصيص العام بكل من الخاصين إن لم يلزم التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيعامل مع العام ومجموع الخاصين معاملة التعارض.

وقد يتوهم في هذا القسم : أن العام يخصص بأخص الخاصين ، وبعد ذلك تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، فقد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه بعدما كانت قبل تخصيص العام بأخص الخاصين العموم المطلق - كالمثال - فإنه بعد تخصيص قوله : « أكرم العلماء » بما عدا الكوفيين من النحويين - الذي هو أخص الخاصين - تصير النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النحوي يعم الكوفي وغيره ، والعالم الغير الكوفي يعم النحوي وغيره ، فيتعارضان في العالم النحوي غير الكوفي.

هذا ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه لا وجه لتخصيص العام بأخص الخاصين أولا ، ثم تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، مع أن نسبة العام إلى كل من الخاصين على حد سواء ، فاللازم تخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة إن لم يلزم منه المحذور المتقدم ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين مجموع الخاصين.

نعم : لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام كانت النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما ورد في المثال قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النسبة إنما تلاحظ بين الكلامين بما لهما من الخصوصيات المحتفة بهما ، فان لحاظ النسبة إنما يكون بين الظهورات

ص: 743

الكاشفة عن المرادات ، وللخصوصيات دخل في انعقاد الظهور ، فالفرق بين المخصص المتصل والمنفصل مما لا يكاد يخفى.

وكما أن النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر تكون العموم من وجه ، كذلك تكون النسبة بين العام الفوق الذي لم يتصل به الخاص لو كان وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما لو فرض أنه قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أكرم العلماء الغير الكوفيين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » فإنه كما يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » لان النسبة بينهما العموم من وجه ، كذلك يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » ، فان النحوي الكوفي كما يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » كذلك يكون خارجا عن قوله : « أكرم العلماء » فان العام بعد تخصيصه بالمتصل أو المنفصل يخرج عن كون كبرى كلية ويكون معنونا بما عدا الخاص ، فالكوفي من النحوي يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » لا محالة ، لاتفاق العام المخصص بالمتصل والخاص الآخر على خروجه وعدم وجوب إكرامه ، فلا يمكن أن يبقى عموم قوله : « أكرم العلماء » على حاله ، بل لابد من أن يكون المراد منه العالم الغير الكوفي من النحويين ، فتكون النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه.

وتوهم : أن قوله : « أكرم العلماء » كما يكون معنونا بغير الكوفي من النحويين كذلك يكون معنونا بغير النحوي مطلقا ، فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم مطلقا ، وإن كانت النسبة بين العام المتصل به الخاص وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه

فاسد ، فان قوله : « لا تكرم النحويين » لا يمكن أن يعنون قوله : « أكرم العلماء » ويخصصه بما عدا النحوي ، لكونه معارضا بقوله : « أكرم العلماء غير

ص: 744

الكوفيين من النحويين ) والدليل المبتلى بالمعارض لا يمكن أن يعنون العام ويصير مخصصا له. وأما تخصيص العام بما عدا الكوفي من النحويين : فهو مما لا محيص عنه ، لتوافق الأدلة على عدم وجوب إكرامه ، فلا محالة يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه.

الصورة الثالثة : ما إذا ورد عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين العموم من وجه ، كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم النحويين » وقال أيضا : « لا تكرم الصرفيين » ولا إشكال في تخصيص العام بكلا الخاصين ، فيكون مجمع تصادق الخاصين وهو الصرفي النحوي موردا لكلا الخطابين (1).

الصورة الرابعة : ما إذا ورد عامان من وجه وخاص ، فان كان مفاد الخاص إخراج مورد افتراق أحد العامين تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا ورد بعد قوله : « أكرم النحويين ولا تكرم الصرفيين » قوله : « ويستحب إكرام النحوي غير الصرفي » فإنه حينئذ يختص قوله : « لا تكرم النحويين » بالنحويين من الصرفيين ، فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم الصرفيين » إلى العموم المطلق. وإن كان مفاد الخاص إخراج مورد الاجتماع تنقلب النسبة بين العامين إلى التباين ، كما إذا قال في المثال : « ويستحب إكرام الصرفي من النحويين » فإنه على هذا يختص قوله : « لا تكرم الصرفيين » بما عدا النحويين ، ويختص قوله : « لا تكرم النحويين » بما عدا الصرفيين ، فتكون النسبة بينهما التباين.

فظهر : أنه إذا كان بين الدليلين العموم من وجه ، فتارة : تنقلب النسبة إلى

ص: 745


1- أقول : ومع عدم إمكان تخصيصه بهما يرجع إلى التفصيل المزبور الذي أشرنا إليه في الفرع الأول.

العموم المطلق إذا قام دليل ثالث على إخراج مادة افتراق أحدهما عن الآخر وأخرى : تنقلب النسبة إلى التباين إذا كان مفاد الدليل الثالث إخراج مادة الاجتماع (1).

الصورة الخامسة : ما إذا ورد دليلان متعارضان بالتباين ، فقد يرد دليل آخر يوجب انقلاب النسبة من التباين إلى العموم المطلق ، وقد يوجب انقلابها إلى العموم من وجه.

فالأول : كقوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » ثم ورد دليل ثالث وأخرج عدول العلماء عن قوله : « لا تكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « أكرم العلماء » إلى العموم المطلق. ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في إرث الزوجة ، فان منها ما تدل على أنها ترث من العقار مطلقا ، ومنها ما تدل على عدم إرثها مطلقا ، ومنها ما تدل على إرثها إن كانت أم ولد.

والثاني : ما إذا ورد دليل رابع في المثال وخص قوله : « أكرم العلماء » بالفقهاء ، فان النسبة بين قوله : « أكرم العلماء » بعد تخصيصه بالفقهاء وبين قوله : « لا تكرم العلماء » بعد تخصيصه بما عدا العدول ، هي العموم من وجه.

هذا كله في انقلاب النسبة بين الدليلين. ومنه يظهر : انقلاب النسبة بين أكثر من دليلين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » و « يستحب إكرام الشعراء » فان النسبة بين الأدلة الثلاثة هي العموم من وجه. فقد تنقلب إلى التباين ، كما إذا ورد دليل وأخرج مورد الاجتماع - وهو العالم الفاسق الشاعر - عن مفاد الأدلة الثلاثة ، فتنقلب النسبة بين الأدلة إلى التباين بلا معارضة. وقد تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن أحد الأدلة الثلاثة ، فتصير النسبة بينه وبين الآخرين العموم

ص: 746


1- أقول : قد عرفت انقلاب هذه النسبة لا يكون مدارا في العمل أصلا.

المطلق. وقد تنقلب النسبة إلى التباين مع المعارضة بينهما ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن جميع الأدلة الثلاثة ، فيقع التعارض بينها ، لان مجمع العناوين يكون مورد النفي والاثبات ، فتأمل فيما تمر عليك من الأمثلة وكيفية انقلاب النسبة بينها.

وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد ، وحاصله : أن ملاحظة النسبة بين الأدلة إنما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة ، وقد تقدم : أن تعارض الأدلة إنما هو لأجل حكايتها وكشفها عما لا يمكن جعله وتشريعه لتضاد مؤدياتها ، فالتعارض بين الأدلة إنما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمري. ومن الواضح : أن تخصيص العام يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته (1) فان التخصيص يكشف لا محالة عن عدم كون عنوان العام تمام المراد ، بل المراد هو ما وراء الخاص ، لان دليل الخاص لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغوية التعبد به وسقوطه عن الحجية ، فلازم حجية دليل المخصص هو سقوط دليل العام عن الحجية في تمام المدلول وقصر دائرة حجيته بما عدا المخصص. وحينئذ لا معنى لجعل العام بعمومه طرف النسبة ، لان النسبة إنما يلاحظ بين الحجتين ، فالذي يكون طرف النسبة هو

ص: 747


1- أقول : بعد كون المدار في باب الألفاظ على الكشف النوعي بشهادة حجيتها حتى مع الظن الغير المعتبر على الخلاف ، كيف يقتضي تقديم حجة أخرى منفصلة عنه تضيق دائرة كشفه النوعي؟ إذ غاية ما يقتضيه الحجة الأخرى عدم مرادية المدلول واقعا ، وهذا المعنى لا ينافي مع بقاء كشفه النوعي الحاصل لولا هذا الدليل ، كما أن كسر صولة حجية العام ببعض مدلوله الذي هو نتيجة تقديم دليل آخر عليه لا يقتضي قوة دلالته وكشفه ، لان الحكم بالحجة لا يغير الدلالة قوة وضعفا ، فالمقدار من دلالة الدليل الذي هو تحت الحجية هو الموجود في ضمن تمام الدلالة ، ومن البديهي : ان هذا الموجود الضمني بحجيته وعدمها لا يستفيد قوة وضعفا ، بل يبقى على ما كان عليه من قوته وضعفه قبل الحجية ولولاها ، ولذا قلنا بأنه لا معنى لمدارية انقلاب النسبة بهذا المعنى ، ولعمري! لو تأملت فيما ذكرنا ترى منتهى الغرابة في كلامك لا كلام الغير!.

الباقي تحت العام الذي يكون العام حجة فيه ، فلو خصص أحد العامين من وجه بمخصص متصل أو منفصل يسقط عن الحجية في تمام المدلول ويكون حجة فيما عدا عنوان الخاص ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجيته وبين العام الآخر ، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق.

وبالجملة : انقلاب النسبة بين الأدلة إنما يكون من ثمرات تقديم الخاص على العام وحكومة أصالة الظهور فيه على أصالة الظهور في العام. وبذلك يظهر ضعف ما قيل : من أن النسبة بين الأدلة إنما تكون بما لها من الظهورات والمخصص المنفصل لا يزاحم الظهور وإنما يزاحم الحجية ، فالتخصيص بالمنفصل لا يوجب انقلاب النسبة.

هذا ، والانصاف : أن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، فإنه لا معنى لملاحظة النسبة بين ظهور كلامين لا يجوز العمل على أحدهما ، فالقول بعدم انقلاب النسبة عند التخصيص بالمنفصل يساوق القول بعدم حجية المخصص المنفصل ، فتأمل جيدا.

تكملة :

ينبغي تتميم البحث في المقام بالإشارة إلى بيان النسبة بين أدلة ضمان العارية ، وقد كثر الكلام فيها. والأدلة الواردة في باب العارية على طوائف أربع :

منها : ما يدل بعمومه أو إطلاقه على عدم ضمان العارية مطلقا ، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد علیه السلام قال : سمعته يقول : « لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا » (1).

ص: 748


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 10.

ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدراهم ، كرواية عبد الملك عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ليس على صاحب العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها ، إلا الدراهم ، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط » (1).

ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدنانير ، كرواية عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام « لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها الضمان ، إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا » (2).

ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية مطلق الذهب والفضة ، كرواية إسحاق بن عمار عنه علیه السلام قال : « العارية ليس على مستعيرها ضمان ، إلا ما كان ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا » (3).

وهذه الأدلة قد توافقت على عدم ضمان العارية إذا لم تكن من جنس الذهب والفضة ، إلا أن يشترط فيها الضمان.

وأما ما كان من جنس الذهب والفضة : فقد اختلفت فيها الروايات ، فظاهر إطلاق رواية « مسعدة بن زياد » عدم المضان فيهما أيضا ، ولكن لابد من الخروج عن هذا الاطلاق لتطابق بقية الأدلة على الضمان فيهما في الجملة. والنسبة بينها وبين رواية « مسعدة » العموم المطلق ، فلابد من تقييد إطلاق رواية « مسعدة » بما عدا جنس الذهب والفضة في الجملة.

وأما النسبة بين بقية الروايات : فهي قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، فرواية « الدراهم » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدراهم حتى الدنانير ، ورواية « الدنانير » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدنانير حتى الدراهم ، والنسبة بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي

ص: 749


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 3.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 1.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 4.

في الآخر هي العموم المطلق ، فيجب تخصيص عموم العقد السلبي في كل منهما بما عدا مورد العقد الايجابي في الآخر ، فتصير النتيجة عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ويرتفع التعارض عنهما ، لان الروايتين تكون بمنزلة رواية واحدة تنفي الضمان عما عدا الدراهم والدنانير.

نعم : يبقى التعارض بينها وبين ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة وإن لم يكونا مسكوكين ، فان مقتضى العقد السلبي في روايتي الدراهم والدنانير هو عدم الضمان في غير المسكوك من الذهب والفضة ، فيعارض مع ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة.

وقد يقال : إن النسبة بينهما العموم المطلق ، فان ما يدل بعمومه على عدم الضمان أعم مطلقا مما دل على الضمان في الدراهم والدنانير ومما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيندرج المقام فيما تقدم : من أنه لو ورد عام وخاصان يجب تخصيص العام بكل من الخاصين ولو كانت النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم النحويين » و « لا تكرم الصرفيين من النحويين ».

وروايات الباب تكون كذلك ، فان فيها عاما ينفي الضمان عن عموم العارية ، وفيها خاصين :

أحدهما : إثبات الضمان في عارية الدراهم والدنانير.

وثانيهما : إثبات الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيكون أحد الخاصين أخص من الآخر.

ولازم ذلك تخصيص العام بكل من الخاصين ، فتكون النتيجة ضمان عارية مطلق الذهب والفضة سواء كانا من المسكوكين أو من غير المسكوكين.

وإلى ذلك يرجع حاصل كلام الشهيد رحمه اللّه على طوله.

ص: 750

والمحكي عن الكفاية والرياض : أن النسبة بينهما هي العموم من وجه ، وقد أفادا في وجه ذلك بما لا تخلو عن إشكال.

ولذلك اعترض عليهما صاحب الجواهر قدس سره بأن إرجاع النسبة بينهما إلى العموم من وجه يقتضي التصرف في ألفاظ الروايات وتغيير عبارة الاخبار ، وإلا فبحسب ما يقتضيه ظاهر الاخبار هو كون النسبة بينهما العموم المطلق ، كما أفاده الشهيد رحمه اللّه .

هذا ، ولكن التحقيق أن النسبة بينهما العموم من وجه ، فان أخص الخاصين - وهو ما دل على ضمان عادية الدراهم والدنانير - متصل بالعام ، لان رواية الدراهم والدنانير قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، ومفاد العقد السلبي هو عدم ضمان العارية ، ومفاد العقد الايجابي ضمان الدراهم والدنانير ، فيكون مفاد العقدين عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ، وقد تقدم : أنه لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام تكون النسبة بينه وبين الخاص الآخر العموم من وجه

فان العقد السلبي في رواية الدراهم والدنانير بعمومه بدل على عدم ضمان الذهب والفضة الغير المسكوكين - كالحلي - والعقد الايجابي في رواية الذهب والفضة بإطلاقه يدل على ضمان الذهب والفضة الغير المسكوكين ، فيتعارضان ، ولابد إما من تخصيص عموم العقد السلبي في رواية الدراهم والدنانير بما عدا الذهب والفضة الغير المسكوكين ، وإما من تقييد إطلاق العقد الايجابي في رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوكين.

ولا يتوهم : أنه بعد التعارض يرجع إلى عمومات عدم الضمان التي لم يتصل بها استثناء الدراهم والدنانير (1) فإنه قد تقدم أيضا أن تلك العمومات قد

ص: 751


1- 1 - أقول : سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) ان موارد العامين من وجه خارجة عن مصب اخبار الترجيح ، لان طرح مجموع المرجوح في مادة الافتراق لا وجه له ، لعدم مزاحم لسنده ، وطرح السند في خصوص مورد الاجتماع مما لا يساعد العرف على التبعيض في هذا السند ، بل المرجع فيه بالنسبة إلى مورد الاجتماع هو التساقط مع الاخذ به في مورد الافتراق. ولا يتوهم بان ذلك تبعيض للسند أيضا ، إذ فرق بين عدم شمول دليل الحجية إلا بمقدار الامكان وبين طرحه بأدلة الترجيح ، وهذا الذي لا يساعد العرف من التبعيض في عالم الطرح بترجيح الغير ، فتدبر. ثم لو فرض كون المورد أيضا مصب اخبار الترجيح نقول بعد عدم انقلاب النسبة- كما حققناه- لا قصور في مرجحية العام على فرض إضرار انقلاب النسبة بمرجحية العام.

خصصت - ولو بالمنفصل - بما عدا الدراهم والدنانير ، فيكون حكمها حكم العام المتصل به الخاص في انقلاب النسبة بينها وبين الخاص الآخر إلى العموم من وجه ، ويكون الحلي الغير المسكوك موردا للنفي والاثبات.

هذا ، وربما يقال : إن تقييد إطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منهما أولى من تخصيص عموم ما دل على عدم الضمان بما عدا الحلي الغير المسكوك ، فان قوله علیه السلام « ليس في العارية ضمان إلا الدراهم والدنانير » يدل على نفي الضمان في عارية الحلي بالعموم أو بما هو بمنزلة العموم ، فان النكرة في سياق النفي في قوة العموم ، وقد تقدم : أن تقييد الاطلاق أولى من تخصيص العموم إذا دار الامر بينهما.

هذا ، ولكن الانصاف : أن تقييد إطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منهما يكون من التقييد بالفرد النادر المستهجن عرفا (1) فان عارية الدراهم والدنانير نادر جدا ، والغالب في عارية الذهب والفضة هو عارية الحلي الغير المسكوك ، لأنه هو الذي يستعار للزينة ، فحمل قوله علیه السلام « في عارية الذهب والفضة ضمان » على خصوص الدراهم والدنانير بعيد غايته يأباه أهل المحاورة.

ص: 752


1- أقول : بناء على إرجاع دلالة المطلقات إلى الدلالة العقلية لعدم البيان لا يبقى مجال لهذا الكلام ، فتدبر.

فالأولى : تخصيص عموم ما دل على عدم الضمان بما عدا مطلق الذهب والفضة ، فان تقييد الاطلاق وإن كان أولى من تخصيص العموم ، إلا أنه إذا لم يلزم محذور التقييد بالفرد النادر ، وإلا فيقدم تخصيص العام على تقييد المطلق. فالأقوى : ثبوت الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة ، كما هو المحكي عن المشهور ، فتأمل جيدا.

المبحث السابع

إذا لم يكن لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي الجمع العرفي بينهما ، فهل الأصل يقتضي سقوطهما رأسا مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير؟ أو أن الأصل لا يقتضي سقوطهما؟ والبحث عن ذلك تارة : يكون مبنيا على القول بالطريقية في الامارات ، وأخرى : يكون مبنيا على القول بالسببية فيها.

أما على القول بالطريقية : فقد يقال ، بل قيل : إن أدلة التعبد بالصدور تعم المتعارضين ، فيكون حكم مظنوني الصدور حكم مقطوعي الصدور في وجوب العمل بظاهرهما معا إن أمكن ، وإلا فيجمع بينهما ولو بضرب من التأويل ، وإن لم يمكن التأويل فيهما يحكم باجمالهما.

وفيه - أولا : أنه لا يجب التأويل في المقيس عليه وهو مقطوعا الصدور فضلا عن مظنوني الصدور ، فإنه لا دليل على وجوب التأويل وحملهما على خلاف ظاهرهما مع عدم مساعدة العرف وطريق المحاورة على ذلك. والقطع بالصدور لا يقتضي التأويل ، بل القطع بالصدور يلازم القطع بعدم إرادة المتكلم ظاهر كل منهما ، وأما استخراج المراد منهما بالتأويل : فهو ما لايقتضيه القطع بالصدور ، بل لابد من التوقف.

فما يظهر من الشيخ قدس سره من تسليمه وجوب التأويل في مقطوعي

ص: 753

الصدور ليس على ما ينبغي.

وثانيا : سلمنا وجوب التأويل في مقطوعي الصدور ، ولكن قياس مظنوني الصدور على مقطوعي الصدور ليس في محله ، لان أدلة التعبد بالسند لا يمكن أن تعم المتعارضين ، فان معنى التعبد بالسند هو البناء على صدور الكلام بما له من الظهور في مؤداه ، والمفروض : أنه لا يمكن البناء على صدور كل من المتعارضين بما لهما من الظهور ، وأين هذا من مقطوعي الصدور اللذين لا تنالهما يد التعبد؟.

والحاصل : أن الكلام في إمكان التعبد بسند المتعارضين مع عدم العلم بصدورهما ، واستحالة ذلك بمثابة لا يكاد تخفى ، فإذا لم يمكن التعبد بهما معا فلا يعمهما أدلة الاعتبار ، ولا محيص حينئذ من سقوط كل منهما وعدم وجوب العمل بأحدهما. ولا سبيل إلى توهم وجوب الجمع بينهما ولو بحمل أحدهما أو كلاهما على خلاف الظاهر ، فان ذلك تصرف في الروايتين بلا برهان ، بل تأويل أحدهما وحمله على خلاف ظاهره ينافي التعبد بالسند ، لما عرفت : من أن حقيقة التعبد بالسند هو البناء على صدور الكلام بما له من الظاهر ، فحمله على خلاف الظاهر ينافي أدلة التعبد بالصدور.

فظهر : أن قولهم : « الجمع بين الدليلين أولى من الطرح » إن أريد به ما يعم التأويل والحمل على خلاف الظاهر ، فهو كلام شعري لا محصل له ولا يساعد عليه الدليل والاعتبار! فالأقوى : أن القاعدة في المتعارضين تقتضي سقوطهما معا ، سواء قلنا : إن التعارض يكون بين الظهورين أو قلنا : إنه يكون بين السندين أو قلنا : إنه يكون بين سند كل منهما وظهور الآخر ، فإنه على جميع التقادير أدلة اعتبار السند والظهور لا تعم المتعارضين ، لأنه لا يترتب على التعبد بصدور المتعارضين أثر سوى البناء على إجمالهما وعدم إرادة الظاهر في كل منهما ، ولا معنى للتعبد بصدور كلام تكون نتيجة التعبد إجمال الكلام.

نعم : يمكن التعبد بصدور كلام مجمل يقتضي إجمال كلام آخر ، كما لو ورد

ص: 754

عقيب قوله : « أكرم العلماء » « لا تكرم بعض العلماء » وتردد البعض بين جميع أفراد العلماء ، فإنه لا مانع من التعبد بصدور قوله : « لا تكرم بعض العلماء » وإن كان أثر التعبد بصدوره إجمال قوله : « أكرم العلماء » فان هذا المقدار من الأثر يكفي في التعبد ، ففرق بين التعبد بمجمل يوجب إجمال ظاهر وبين التعبد بظاهر يوجب إجماله ، فان التعبد بالصدور في الأول لا محذور فيه ، بخلاف التعبد به في الثاني ، إذ لا معنى للتعبد بصدور ظاهر تكون نتيجة التعبد به إجماله وعدم جواز الاخذ بظاهره.

فالانصاف : أنه لا مجال لتوهم شمول أدلة حجية الخبر الواحد للخبرين المتعارضين معا حتى يجب تأويلهما ، فالأصل في المتعارضين السقوط ، ولكن بالنسبة إلى خصوص المؤدى (1).

وأما بالنسبة إلى نفي الثالث : فلا وجه لسقوطهما ، فان المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية فيكونان معا حجة في عدم الثالث.

وتوهم : أن الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامية لهما في نفي الثالث ، فاسد (2)أقول: كلام أستاذنا على مبناه في غاية المتانة، إذ مبناه في حكمه بالتساقط إنما هو من جهة ان في المتعارضين لما نعلم بكذب أحدهما فلا يكاد يدخل المعلوم الكذب بنحو الإجمال تحت دليل التعبد، فلا يكون داخلا فيه إلّا غيره المشكوك إجمالا، و حينئذ فبالنسبة إلى المدلول المطابقي كان من باب اشتباه الحجة بلا حجة، فلا مجال للأخذ بواحد منهما، بخلاف المدلول الالتزامي، فانه يؤخذ بما هو حجة في البين لعدم معارض له، و لعمري! إنك لو تأملت في مسلكك في الأصول التنزيلية من عدم صلاحية دليل التنزيل لما هو معلوم المخالفة إجمالا، لتصدّق في المقام أيضا بان المعلوم المخالفة لا يكون حجة رأسا حتّى في مدلوله الالتزامي، فلا يبقى لك المثبت له إلّا أحدهما المشكوك في البين. نعم: بناء على عدم إضرار العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما لشمول دليل التنزيل لكل منهما بمحض كونه مشكوكا تفصيلا، لا بأس بالأخذ بكلّ منهما في نفي الثالث بلا إضرار العلم الإجمالي بكذب أحدهما في كونه مشمول دليل التعبد بالنسبة إلى ما لا يلزم منه مناقضة أو مخالفة عملية، و لازم هذا المسلك الالتزام بجريان الأصول التنزيلية في طرفي العلم إذا لم يلزم منه محذور المخالفة العملية. فهذا المقرّر لو أمعن النّظر و فتح البصر! يرى التهافت بين مبانيه و بخلط بعضها ببعض و رميه في كلّ باب رميا بلا شعور.(3)أقول: و هذا الكلام الّذي سمعنا منه مرارا صريح في تفكيكه بين المدلول المطابقي و الالتزامي، فكيف تنسب إليه عدم التفكيك؟.(4)

ص: 755


1- أقول : الأولى جرى كلامه هذا بخصوص صورة يعلم بعدم صدور مضمون أحدهما واقعا ، واما لو فرض العلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين في صدور الكلام من الامام علیه السلام مع احتمال مطابقة مضمونهما للواقع : ففي مثل هذه الصورة لا بأس بالأخذ بكليهما مع عدم اقتضاء كل منهما لنفي غيره ، كما هو الشأن في الأصلين المثبتين في طرفي العلم بمخالفة أحدهما للواقع. ولازم هذا القائل في الأصول التنزيلية بالتساقط إعمال التعارض والتساقط في مثله أيضا.
2- 2 - للمحقق الخراساني قدس سره كلام في حاشيته على الفرائد لا يخلو عن إشكال ، فإنه جعل نفي الثالث بأحدهما الغير المعين لا بهما معا ، ومنع عن حجية المتعارضين في الدلالة الالتزامية
3- بتقريب : ان الدلالة الالتزامية وإن لم تكن تتبع الدلالة المطابقية في الحجية بل إنما تتبعها في الوجود ، إلا ان دليل اعتبار السند إنما يعم الدلالة الالتزامية بتبع الدلالة المطابقية ، فان قوله « صدق العادل » انما يدل على نفي ما ينافي خبر العادل لأجل دلالته على وجوب تصديقه فيما أخبر به ، ولا يدل على تصديقه في نفي ما ينافي خبر العادل في عرض دلالته على تصديقه فيما أخبر به ، بل وجوب تصديقه في الأول مترتب على وجوب تصديقه في الثاني ، فإذا فرضنا ان أدلة اعتبار السند لا تعم المتعارضين لم يبق مجال لحجيتهما في الدلالة الالتزامية ، فتأمل ، فان ما ذكر 1 لا يخلو عن مناقشة بل منع
4- ( منه ).

فان الدلالة الالتزامية إنما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية.

وبعبارة أوضح : الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى ، وأما كون المؤدى مرادا : فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية. فسقوط المتعارضين عن الحجية في المؤدى لا يلازم سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث ، لان سقوطهما عن الحجية في المؤدى إنما كان لأجل التعارض ، وأما نفي الثالث : فلا معارضة بينهما ، بل يتفقان فيه ، فلو كان مفاد أحد المتعارضين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكان مفاد الآخر حرمة الدعاء في ذلك الوقت ، فبالنسبة إلى نفي الكراهة والإباحة والاستحباب عن

ص: 756

الدعاء عند رؤية الهلال يتوافقان.

نعم : إذا كان التعارض بينهما لأمر خارج من دون أن يكونا في حد أنفسهما متعارضين ، فلا يتوافقان في نفي الثالث أيضا ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وثبت من الخارج عدم وجوب الصلاتين معا ، فان الدليلين في حد أنفسهما لا يكونان متعارضين ، لامكان تشريع وجوب كل من الصلاتين واقعا ، وإنما وقع التعارض بينهما لقيام الدليل من الخارج على عدم وجوب الصلاتين معا ، فالدليلان لا يشتركان في وجوب أحدهما في الجملة وعدم وجوب ما عداهما ، بل مفاد أحدهما وجوب خصوص فريضة الظهر ومفاد الآخر وجوب خصوص فريضة الجمعة ، وليس لكل منهما دلالة التزامية على عدم وجوب ما عدا المؤدى ، فلا مانع من سقوط كل منهما في إثبات المؤدى بالمعارضة والرجوع إلى البراءة عن وجوب فريضة.

نعم : لو كان مفاد الدليلين وجوب فريضة في اليوم واختلفا في تعيينها ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة ، لاشتراكهما في وجوب فريضة في الجملة ، فيلزم من الرجوع إلى البراءة طرح ما توافقا عليه. ولكن ليس مفاد الدليلين ذلك ، بل مفاد أحدهما وجوب خصوص صلاة الظهر ومفاد الآخر وجوب خصوص صلاة الجمعة ، فلم يتوافقا في وجوب فريصة. ولا عبرة بتحليل مفاد كل منهما إلى الجنس والفصل واشتراكهما في الجنس ، فان التحليل العقلي لا أثر له في باب الظهورات وما يستفاد من الألفاظ.

فتحصل : أن الدليلين إن كانا متعارضين في المؤدى بأنفسهما ، فهما يشتركان في نفي الثالث الخارج عن المؤديين ، أي يشتركان في نفي الأصل الجاري في المسألة لولا وجود المتعارضين. وإن كانا متعارضين لأمر خارج ، فلا يشتركان في نفي الثالث ، ويجوز الرجوع إلى الأصل الجاري في المسألة : من البراءة والاحتياط. وعلى كلا التقديرين : يتساقطان في المؤدى.

ص: 757

هذا كله على القول بحجية الامارات من باب الطريقية.

وأما على القول بحجيتها من باب السببية : فحكم الامارات المتعارضة حكم الاحكام المتزاحمة في وجوب الاخذ بأحدها تخييرا إن لم يكن لاحدها مزية تقتضي تعين الاخذ به.

وظاهر إطلاق كلام الشيخ قدس سره أنه لا فرق في ذلك بين السببية التي توافق مذهب التصويب وبين السببية التي توافق مسلك التخطئة ، بل سوق كلامه يقتضي أن يكون محل البحث خصوص السببية التي توافق مسلك التخطئة.

وتوضيح الكلام في ذلك : هو أن السببية تستعمل بمعنيين :

أحدهما : ما ينسب إلى المعتزلة ، وهو أن قيام الامارة على وجوب شيء أو حرمته سبب لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى غالبة على ما هو عليه تقتضي وجوب المؤدى أو حرمته ، فيكون حال قيام الامارة على الشيء حال تعلق النذر به. وهذا المعنى من السببية لا ينطبق على مذهب المخطئة ، فإنه من أحد وجوه التصويب الذي استقر المذهب على بطلانه.

ثانيهما : ما ينسب إلى بعض الامامية ، وهو أن قيام الامارة على وجوب الشيء أو حرمته وإن لم يكن من العناوين المغيرة للمصلحة أو المفسدة ولا يقتضي وجوب المؤدى أو حرمته ، إلا أن في سلوك الامارة والتطرق بها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند عدم إصابة الامارة له (1)

ص: 758


1- أقول : قد ذكرنا في مسألة تزاحم الأصلين : من أن التصويب المناسب لمذهب المخطئة لا ينحصر بصورة الالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل لو فرض قيام المصلحة بنفس العمل لا محيص من الالتزام بوجوب حقيقي في الرتبة المتأخرة عن الواقع ، كما أن الوجوب الواقعي الناشي عن المصلحة القائمة بالذات يستحيل ان يشمل مرتبة متأخرة عن نفسه ، فلا مضادة حينئذ بين الوجوبين ولا نعنى من التصويب الملائم مع المخطئة إلا هذا. وهذا المعنى من السببية أيضا لا أظن إجماعا ولا عقلا على خلافه ، وإنما الاجماع قام على بطلان السببية بمعنى انحصار المصلحة بمؤدى الامارة بلا مصلحة أخرى صالحة للتأثير في وجوب الذات في الرتبة السابقة عن الامارة ، وربما يأبى العقل عن مثله أيضا ، كما لا يخفى ، فتدبر. و من العجب! جعله السببية الغير المناسب لمذهب المخطئة هو الّذي ذكرنا: من تصوير المصلحتين في الذات و ما قام به الأمارة، بخيال تزاحم المصلحتين في التأثير، مع ان اختلاف الرتبة بين الأثرين مانع عن المزاحمة رأسا، و لذا قلنا: بان هذه الصورة لها كمال المناسبة للمخطئة، إذ ما لا يناسب له انحصار المصلحة بما قام به الأمارة بلا مصلحة في نفس الذات رأسا، كما لا يخفى.

وهذا المعنى من السببية لا ينافي التخطئة ، فان المصلحة السلوكية في طول الواقع لا في عرضه ، فلم يجتمع في المؤدى مصلحتان أو حكمان متماثلان أو متضادان ، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه ، غايته أن في سلوك الامارة مصلحة تداركية ، فالسببية بهذا المعنى لا ترجع إلى التصويب ولا تنافي الطريقية. وقد تقدم في مبحث الظن : أن من التزم بالمصلحة السلوكية كالشيخ قدس سره لم يلتزم بها مطلقا ، بل إنما يلتزم بها في خصوص انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من تحصيل الواقع ، لمكان قبح التعبد بالامارات مع تمكن المكلف من استيفاء المصلحة الواقعية ، فلابد وأن يكون في سلوك الامارات مصلحة تداركية. ونحن قد منعنا عن المصلحة السلوكية حتى في صورة انفتاح باب العلم وقلنا بكفاية مصلحة التسهيل في صحة التعبد بالامارات ولو مع تمكن المكلف من إدراك الواقع ، فراجع ما ذكرناه في مبحث الظن.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه لو قلنا بالسببية التي توافق مسلك التصويب ، فاندراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم واضح إذا كان التعارض لأجل تضاد المتعلقين ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب شيء وكان مفاد الآخر وجوب ضده.

وأما إذا كان التعارض لأجل اتحاد المتعلقين مع اختلاف الامارتين في السلب والايجاب (1) كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب الشيء ومفاد

ص: 759


1- أقول : الأولى في مقام استقصاء صور المسألة ان يقال : إن المصلحة القائمة بالشئ من جهة قيام الامارة تارة : قائمة بالذات مطلقا ، وأخرى : قائمة مشروطا بالأخذ بهذه الامارة. كما أن في الامارة القائمة على الإباحة تارة ، تكون الامارة موجبة لقيام مصلحة فيه مقتضية للترخيص فيه ، وأخرى : موجبة لعرائه عن كونه ذا مصلحة ، كما هو الشأن في الاباحات اللااقتضائية. فان كانت موجبة لقيام المصلحة في المتعلق: فمع وحدة الموضوع و إطلاق المصلحة لا شبهة في تزاحم المقتضيين في أصل تشريع الحكم الفعلي على وفقه، فمع التساوي- كما في المقام- ينتج الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل و الترك، و مع مزية أحدهما فرضا ينشأ الحكم على وفقه، و ربما ينتهي إلى إنشاء الأحكام الخمسة. و مع تقيد المصلحة بالأخذ به في مقام العمل فلا شبهة في ان تساوي المصلحتين- كما هو الشأن في المقام- يقتضي عقلا التخيير عقلا في مقام العمل بالاخذ بأي واحد منهما، إذ لا يمكن الأخذ بكليهما. و مع تزاحم الخبرين في اقتضاء المصلحة و اقتضاء عدمها- كما في التعارض بين الوجوب و الإباحة- فمع إطلاقهما ينتج الإباحة اللااقتضائية، و مع اشتراطهما بالاخذ كان أيضا مخيرا بين الأخذ بذي المصلحة فيصير واجبا و بين الأخذ بالأمارة الدالة على الإباحة فيصير مباحا لا اقتضائيا في حقه، كما لا يخفى.

الآخر عدم وجوبه أو حرمته ، ففي اندراج التعارض على هذا الوجه في صغرى التزاحم والقول بالتخيير في الاخذ بأحدهما إشكال بل منع ، لان أقصى ما تقتضيه الامارة هو أن تكون من العناوين الثانوية المغيرة لحسن الشيء وقبحه ، وتوارد العناوين الثانوية على متعلق واحد لا يقتضي التخيير ، ألا ترى؟ أنه لو نذر الشخص فعل شيء ونذر وكيله - بناء على صحة الوكالة في النذر - ترك الشيء لا يمكن القول بالتخيير في اختيار نذره أو نذر وكيله ، بحيث تلزمه الكفارة لو اختار أحدهما وخالفه ، بل لا محيص من سقوط كل من نذر نفسه ونذر وكيله ، ويرجع متعلق النذر إلى ما كان عليه قبل النذر ، فليكن حال الامارة المتعارضة في متعلق واحد بناء على القول بالسببية فيها حال النذر في التساقط. والذي يسهل الخطب بطلان أصل المبنى وفساده ، هذا إذا قلنا بالسببية التصويبية.

وإن قلنا بالسببية المخطئة : ففي اندراج الامارات المتعارضة في صغرى

ص: 760

التزاحم إشكال ، وإن كان يظهر من الشيخ قدس سره القول بالتزاحم فيها. وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : هو أن كلا من الامارتين المتعارضتين تشتمل على مصلحة سلوكية لازمة الاستيفاء بمقتضى دليل الحجية ، فيقع التزاحم بين المصلحتين في مقام السلوك ، ولا ملازمة بين سقوط طريقية كل منهما بالنسبة إلى المؤدى وبين وقوع التزاحم بينهما بالنسبة إلى المصلحة السلوكية ، فان المفروض : أن دليل الحجية يقتضي وجوب استيفاء تلك المصلحة ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما ، فلابد من التخيير في استيفاء إحديهما ، كما هو الشأن في جميع موارد تزاحم الحكمين.

هذا ، ولكن للنظر فيه مجال ، فان المصلحة السلوكية على القول بها إنما تكون قائمة بالطريق (1) فان سلوك الطريق ذو مصلحة ، فطريقية الطريق تكون بمنزلة الموضوع للمصلحة السلوكية ، والمفروض : سقوط طريقية المتعارضين. فلا يبقى موضوع للمصلحة السلوكية حتى يقال : بوقوع المزاحمة بين استيفاء إحدى المصلحتين ، مضافا إلى أن التزاحم إنما يكون بين الأحكام الشرعية ، ولا يكفي التزاحم بين المصلحتين ، كما تقدم.

فالانصاف : أن إدراج الامارات المتعارضة على مسلك المخطئة في صغرى

ص: 761


1- أقول : ما المراد من الطريق؟ فان كان الغرض منه الحجة الفعلية ، فما معنى للمصلحة السلوكية الموجبة للامر بالعمل به؟ بل لابد وأن تكون المصلحة المزبورة مسبوقة بالامر به أيضا ، فلازمه مع عدم المعارضة أيضا من قيام الأمرين بالطريق ، ولا أظن أحدا يقول به. و إن كان الغرض من الطريق مطلق الأمارة، فلا معنى للتساقط عند المعارضة، إذ مرجع التساقط إلى عدم شمول دليل الحجية لواحد منهما بمناط الترجيح بلا مرجح. و المفروض: انه لم يكن سابقا عن المصلحة السلوكية دليل و امر. علم اللّه! ما أدري على أي معنى أحمل هذا الكلام؟ إلّا ان أنسبه إلى سوء فهم المقرّر!. ثم بعد الغضّ عما ذكرنا نقول فيما نحن فيه أيضا: إذا كان في الوجودين المتضادين- كما هو مفروض الفرض السابق- كان من باب التضاد في الأحكام، فتدبر.

التزاحم في غاية الاشكال. ولعل مراد الشيخ قدس سره من السببية السببية التصويبية وإن كان يبعد ذلك - مضافا إلى أنها خلاف مسلكه - تصريحه بالسببية الظاهرية ، والسببية التصويبية تكون واقعية لا ظاهرية ، فتأمل جيدا. هذا كله إذا وقع التعارض بين الطرق والامارات في الأحكام التكليفية الشرعية.

وإن وقع التعارض بينها في حقوق الناس : فقد يكون التعارض موجبا للتساقط ، كما لو تداعيا شخصان فيما يكون بيد ثالث ، وأقام كل منهما البينة ، فان البينتين يتساقطان ويقر المال في يد ذي اليد إذا ادعى الملكية. وقد لا يوجب التساقط ، بل يجب إعمال المتعارضين معا - ولو في بعض المدلول - كالمثال إذا لم يدع ذو اليد الملكية ، فإنه ينصف المال بينهما بالسوية (1).

وكذا الحكم إذا وقع التعارض بين الأسباب في الوضعيات ، فإنه تارة : يحكم فيه بتساقط السببين المتعارضين ، كما إذا عقد الوكيل والموكل في زمان واحد على مال واحد مع اختلاف المعقود له ، كما لو باع أحدهما من زيد والاخر من عمرو. واخري : يحكم فيه باعمال السببين ، كما لو وضع شخصان يدهما دفعة واحدة علي ما يكون مباحا بالاصل في مقام الحيازة ، فينصف المال بينهما بالسوية.

وقد فات مني كتابة بعض ما يتعلق بالمقام من المباحث ، لخطب نزل بي في هذه الايام ، وهو فات الوالد ( تغمدة اللّه بغفرانه ) وكان ذلك في شهر جمادي الاخر سنة 1345 ، ولذلك طوينا الكلام عما افادة شيخنا الاستاذ - مذ ظله - في هذا المقام.

* * *

ص: 762


1- أقول : على فرض عدم حجية القرعة التنصيف من جهة قاعدة أخرى ، لا الجمع بين البينتين.

المبحث الثامن

اشارة

قد عرفت : أن القاعدة تقتضي سقوط الخبرين المتعارضين ، ولكن قد استفاضت النصوص على عدم السقوط مع فقد المرجح.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - في المتعارضين المتكافئين في المزايا الداخلية والخارجية ، وعلى ما سيأتي بيانها.

فقيل : بالتخيير في الاخذ بأحدهما.

وقيل : بالتوقف ، ومرجعه إلى الاحتياط ، لان التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل.

وقيل : بوجوب الاخذ بما يوافق منهما الاحتياط إن كان ، وإلا فالتخيير.

ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في ذلك.

فان منها : ما يدل على التخيير مطلقا ، كرواية الحسن بن جهم عن الرضا علیه السلام « قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟ قال علیه السلام فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت » (1).

ومنها : ما يدل على التخيير في زمان الحضور ، كرواية الحرث بن المغيرة (2) عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث [ وكلهم ثقة ] فموسع

ص: 763


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 40.
2- أقول : رواية الحرث نص في مرجعية التخيير عند عدم التمكن من الوصول إلى الإمام علیه السلام وان قوله علیه السلام « حتى ترى القائم » كناية عن زمان التمكن من الوصول إليه ، فهو كالصريح في الشمول لحال الغيبة ، فيخصص بها ما دل على التوقف المطلق على فرض وجوده ، ولا يحتاج إلى التشبث بقاعدة انقلاب النسبة على ما هو من السخافة! كما تقدم بطلانه بأوضح بيان ، بل يمكن دعوى : ان المشي على هذا المسلك يحدث فقها جديدا ، كما لا يخفى على المتدرب.

عليك حتى ترى القائم فترد إليه » (1) وفي معناها روايات اخر ذكرها في الوسائل في كتاب القضاء.

ومنها : ما يدل على التوقف في زمان الحضور ، كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث قال علیه السلام « إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (2).

هذا ما وقفت عليه من الاخبار ، ولم أقف على رواية تدل على التوقف مطلقا حتى في زمان الغيبة. ولكن حكي ما يدل على ذلك أيضا ، فتكون الاخبار على طوائف أربع.

والتحقيق في الجمع بينها : هو أن النسبة بين ما دل على التخيير في زمان الحضور وبين ما دل على التخيير المطلق وإن كانت هي العموم والخصوص وكذا النسبة بين ما دل على التوقف المطلق وما دل على التوقف في زمان الحضور ، إلا أنه لا تعارض بينهما ، فإنه لا منافاة بين التوقف أو التخيير المطلق وبين التوقف أو التخيير في زمان الحضور ، لان المطلوب من المطلق إذا كان مطلق الوجود فلا يحمل على المقيد ، بل يبقى إطلاق المطلق على حاله - كما أوضحناه في محله - فالتعارض إنما هو بين ما دل على التخيير وبين ما دل على التوقف ، غايته أن التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير مطلقا يكون بالعموم من وجه ، وبين ما دل على التخيير والتوقف في زمان الحضور يكون بالتباين. ولا يهمنا البحث عن رفع التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير في زمان الحضور ، فإنه لا أثر له ، مضافا إلى أنه لم يعلم العمل بما دل على التخيير في زمان الحضور.

فالحري رفع التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير مطلقا ، وقد عرفت : أن النسبة بينهما العموم من وجه ، ولكن نسبة ما دل على التخيير مطلقا مع

ص: 764


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 41.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.

ما دل على التوقف في زمان الحضور هي العموم والخصوص ، فلابد من تقييد إطلاق ما دل على التخيير بغير زمان الحضور ، فتنقلب النسبة حينئذ بين أدلة التخيير وأدلة التوقف مطلقا من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، لان أدلة التخيير تختص بعد تقييدها بما دل على التوقف في زمان الحضور بزمان الغيبة وعدم التمكن من ملاقاة الحجة علیه السلام فتكون أخص من أدلة التوقف مطلقا ، وصناعة الاطلاق والتقييد تقتضي حمل أخبار التوقف على زمان الحضور والتمكن من ملاقاة الامام علیه السلام فيرتفع التعارض من بينها (1) وتكون النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة - كما عليه المشهور - ولا وجه للقول بالتوقف أو الاخذ بما يوافق الاحتياط.

والاستدلال على وجوب الاخذ بما يوافق الاحتياط بقوله علیه السلام في خبر غوالي اللآلي : « إذن فخذ بما فيه الاحتياط لدينك » (2) ضعيف ، لضعف الرواية وعدم العمل بها ، كما سيأتي.

فالأقوى : هو التخيير مطلقا ، كان أحدهما موافقا للاحتياط أو لم يكن.

بقي التنبيه على أمور :

الأول : لا إشكال في اختصاص أدلة التخيير بتعارض الروايات المروية عن

ص: 765


1- لا يخفى : ان النسبة بين ما دل على التخيير في زمان الحضور وبين ما دل على التوقف مطلقا هي العموم والخصوص ، كالنسبة بين ما دل على التوقف في زمان الحضور وبين ما دل على التخيير مطلقا ، وصناعة الاطلاق والتقييد تقتضي تقييد اخبار التوقف مطلقا بزمان الغيبة ، فيعود التعارض بين الأدلة على حاله ، إلا ان تطرح اخبار التخيير في زمان الحضور لعدم العمل بها * فتأمل جيدا ( منه ).
2- في المصدر : « الحائطة لدينك » غوالي اللآلي : ج 4 ص 133 ( تحقيق مجتبى العراقي ) * أقول : لنا حق السؤال بأنه أين خبر يدل على التخيير في زمان الحضور محضا؟ إذ خبر الحرث كالصريح بالنسبة إلى زمان الغيبة ، لان التحديد إلى زمان القائم كناية عن مرور الأزمنة السابقة عن زمان حضوره ، كما لا يخفى.

الأئمة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - فلا تعم تعارض الأقوال في سلسلة طرق الروايات ، كما إذا تعارض أقوال أهل الرجال في التوثيق والتعديل. وكذا لا تعم تعارض أقوال أهل اللغة في مداليل ألفاظ الروايات ، وذلك واضح.

الثاني : الظاهر اختصاص أدلة التخيير بصورة تعارض الروايتين المرويتين عنهم علیهم السلام ولا تعم صورة اختلاف النسخ - كما حكي وقوع ذلك كثيرا في كتاب التهذيب - فان التعارض إنما جاء من قبل الكتاب ، فلا يندرج في قوله : « يأتي عنكما الخبران المختلفان » بل الظاهر أن أدلة التخيير لا تعم تعارض قول تلميذي الكليني في النقل عنه ، وإن كان المحكي عن بعض الاعلام اندراج ذلك في أدلة التخيير ، بدعوى : أن تعارض النقل عن الكليني رحمه اللّه يرجع إلى تعارض الخبرين.

الثالث : لا يجوز الاخذ بأحد المتعارضين تخييرا إلا بعد الفحص عن المرجحات التي يأتي بيانها ، فإنه بناء على وجوب الترجيح يتعين الاخذ بالراجح ولا يكون المرجوح حجة شرعية ولا يجوز العمل به ، فالفحص عن المرجحات يرجع إلى الفحص عن الحجية ، كالفحص عما يعارض الأصول اللفظية والعملية ، ولا إشكال في وجوب الفحص عنه.

الرابع : الأقوى كون التخيير في المسألة الأصولية أي في أخذ أحدهما حجة محرزة وطريقا إلى الواقع ، لا في المسألة الفقهية أي التخيير في العمل بمؤدى أحد الخبرين نظير التخيير بين القصر والاتمام في المواطن الأربعة ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (1) هو الاخذ بأحدهما ليكون حجية وطريقا مثبتا للواقع لا مجرد الاخذ في مقام العمل (2)

ص: 766


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.
2- 2 - أقول : بل بعد فرض اقتضاء التعارض بين المدلول الالتزامي لكل واحد مع المطابقي للآخر في كثير من الموارد وانتهاء الامر إلى النقيضين لا معنى حينئذ للوجوب التخييري ، كالتخيير بين القصر والاتمام ، بل لا محيص من التخيير العملي محضا أو التخيير في المسألة الأصولية المنتجة بالآخرة تعين مدلول أحدهما المأخوذ عليه. وربما يرجح الثاني ظهور قوله : « بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك » إذ هو ظاهر في أن طرف التخيير هو الاخذ بالخبر في مقام الاستطراق به الذي لازمه تعين مضمونه عليه بعد اخذه. ثم في كون التخيير في المسألة الأصولية شان المجتهد فقط فرع تخصيص دليله به ، وإلا فللمجتهد بعد الفحص عن المرجحات الفتوى بتخيير المقلد في الاخذ بأحد الخبرين أيضا ، كما أن كون التخيير على هذا بدويا لا شاهد له ، ولا أقل من الاستصحاب. وتوهم : عدم بقاء التحير بعد الاخذ فلا يكون الموضوع باقيا ، مدفوع بان الموضوع هو « المتحير لولا الاخذ » وهو باق ، إذ لا معنى لكون الحكم رافعا لموضوعه ، فتدبر كلماته ، فإنه لا يخلو من أنظار

ولا ينافي ذلك إطلاق قوله علیه السلام « فتخير » كما في خبر غوالي اللآلي (1) فان قوله علیه السلام « فتخير » صالح لكلا الوجهين ، فلا يعارض ظهور قوله علیه السلام « بأيهما أخذت » في أخذ أحدهما حجة.

نعم : ربما يتوهم دلالة قوله علیه السلام « موسع عليك بأية عملت » (2) - كما في رواية ابن مهزيار عن كتاب عبد اللّه بن محمد - على كون التخيير في المسألة الفقهية.

ولكن الظاهر من قوله علیه السلام « بأية عملت » هو الاخذ بأحد المتعارضين حجة وطريقا إلى العمل ، لا مجرد العمل بمضمون أحدهما ، فتأمل جيدا.

ويترتب على كون التخيير في المسألة الأصولية أو في المسألة الفقهية ثمرات مهمة

منها : كون التخيير للمفتي في الفتوى بمضمون أحد الخبرين لو كان التخيير في المسألة الأصولية ، والتخيير للمستفتي في العمل بمضمون أحدهما لو كان التخيير في المسألة الفقهية ، إلا في مقام الترافع وفصل الخصومة ، فإنه لا معنى

ص: 767


1- غوالي اللئالي : ج 4 ص 133.
2- الوسائل : الباب 15 من أبواب القبلة ، الحديث 8.

لتخيير المتخاصمين في العمل بأحدهما ، بل لابد للحاكم من اختيار مضمون أحدهما والحكم على طبقه ، لعدم فصل الخصومة إلا بذلك.

ومنها : كون التخيير استمراريا إذا كان التخيير في المسألة الفقهية ، لأنه يكون كالتخيير بين القصر والامام في المواطن الأربعة ، فللمكلف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارة وبمضمون الآخر أخرى ، إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك. وبدويا إذا كان التخيير في المسألة الأصولية ، فان معنى كون التخيير في المسألة الأصولية هو التخيير في جعل أحد المتعارضين حجة شرعية وأخذ أحدهما طريقا محرزا للواقع ، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أولا وجعل مؤداه هو الحكم الكلي الواقعي المتعلق بأفعال المكلفين ، فلا معنى لاختيار الآخر بعد ذلك.

وبالجملة : بعدما عرفت : من أن مقتضى القاعدة سقوط كل من المتعارضين عن الحجية وعدم شمول أدلة الاعتبار لهما ، فحجية أحدهما إنما تكون بمعونة أخبار التخيير ، وأدلة التخيير إنما تدل على اختيار أحدهما حجة ، وبعد اختيار أحدهما حجة يكون المجتهد محرزا للواقع ، ولا يبقى مجال لاختيار الآخر بعد ذلك حجة شرعية.

وبما ذكرنا يظهر : أنه لا مجال لاستصحاب بقاء التخيير بعد اختيار أحدهما ، إذا بناء على كون التخيير في المسألة الفقهية يكون الحكم بالتخيير باقيا قطعا وبناء على كون التخيير في المسألة الأصولية يكون الحكم بالتخيير مرتفعا قطعا. ولا ينبغي الشك في البقاء على كل من الوجهين حتى يجري فيه الاستصحاب.

نعم : يمكن فرض الشك في كون التخيير في أي المسألتين ، بدعوى : عدم استظهار أحد الوجهين من الاخبار ، فيشك في كون التخيير في المسألة الأصولية أو في المسألة الفقهية. ولكن إذا فرض الشك بهذا الوجه فلا مجال للاستصحاب ، للشك في موضوعه ، فإنه على أحد الوجهين يكون الموضوع باقيا ،

ص: 768

وعلى الوجه الآخر يكون الموضوع مرتفعا ، فالشك في أحد الوجهين يستلزم الشك في بقاء الموضوع. ولا جامع بين الوجهين حتى يجري فيه الاستصحاب ، فإذا لم يجر الاستصحاب وفرض الشك في أحد الوجهين فالامر يدور بين التعيين والتخيير ، لأنه على تقدير كون التخيير في المسألة الأصولية يتعين ما اختاره المكلف أولا ، وبناء على كون التخيير في المسألة الفقهية يكون المكلف مخيرا في اختيار أحدهما دائما ، وقد تقدم في مبحث البراءة : أنه مهما دار الامر بين التعيين والتخيير فالأصل العملي يقتضي التعيين (1) خصوصا في مثل المقام مما كان دوران الامر بين التعيين والتخيير في باب الطرق والامارات (2) فراجع ما ذكرناه في مبحث البراءة.

المبحث التاسع

اشارة

المشهور بين الأصحاب : أن التخيير إنما هو في صورة تعادل المتعارضين وتكافئهما في المزايا المنصوصة - على ما سيأتي بيانها - فلا يجوز الاخذ بأحدهما

ص: 769


1- أقول : باللّه! مسألة التعيين والتخيير إنما هو في صورة الدوران بين الوجوب التخييري أو وجوب أحدهما تعيينا ، ولقد عرفت : ان في باب التعارض المنتهى فيه الامر إلى التناقض في المدلول يستحيل الوجوب التخييري ، وإنما الممكن فيه هو التخيير العملي العقلي الذي هو نتيجة الإباحة ، وفي مثله عند الدوران بين الوجوب والإباحة من الذي يقول بالتعيين والوجوب؟ وكأن المقرر خلط بين التخيير العملي الممكن في المقام وبين الوجوب التخييري وزعم في المقام هذا التخيير - بشهادة تمثيله بالتخيير بين القصر والاتمام - وغفل عن استحالة الثاني وان ما هو ممكن هو صرف التخيير عملا الذي هو مفاد الإباحة ، بل في مثله عند الدوران يتعين الاخذ بالإباحة ، لا التعيين.
2- 2 - لا يخفى : أن دوران الامر بين التعيين والتخيير إنما يكون في مقام العمل ، وأما في مقام الفتوى : فالامر يدور بين المحذورين ، لأنه بناء على أحد الوجهين يتعين الفتوى بمضمون أحدهما بالخصوص ، وبناء على الوجه الآخر يتعين الفتوى بالتخيير ، فتأمل ( منه )

تخييرا (1) إلا عند فقد ما يقتضي ترجيح أحدهما.

وقد حكي عن بعض : القول بالتخيير مطلقا ، لاطلاق أدلة التخيير وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.

وأنت خبير : بأنه يجب الخروج عن إطلاق أدلة التخيير بظهور أدلة الترجيح في الوجوب ، فان المطلق مهما بلغ في الظهور لا يقاوم ظهور المقيد في التقييد ، القول باستحباب الترجيح ضعيف غايته.

ويدل على المشهور جملة من الاخبار :

منها : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال : « سئلت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء ، أيحل ذلك؟ قال علیه السلام من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت » إلى أن قال : « قلت : فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال علیه السلام الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال علیه السلام ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع

ص: 770


1- لا يخفى : أن في كلام الشيخ قدس سره في هذا المقام مواقع للنظر ، خصوصا قوله : « ومرجع التوقف أيضا إلى التخيير » فان مرجع التوقف إلى الاحتياط لا إلى التخيير - كما صرح بذلك قبل هذا - نعم : لو رجع التعارض إلى النفي والاثبات وكان الامر دائرا بين المحذورين وقلنا بعدم جواز الرجوع إلى الثالث ولو كان هو الأصل ، صح قوله : « ومرجع التوقف إلى التخيير » وأغرب من ذلك! ما أفاده في ذيل قوله : « والتحقيق » من قوله : « وإن لم نقل بذلك بل قلنا باستفادة العمل بأحد الخبرين المتعارضين من نفس أدلة العمل بالاخبار » فإنه يرد عليه : أنه لا يعقل استفادة ذلك من أدلة الحجية بناء على الطريقية. وبالجملة : في عبارة الشيخ قدس سره في هذا المقام ما لا يخفى ، فراجع ( منه ).

عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان الجمع عليه لا ريب فيه » إلى أن قال : « قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال علیه السلام ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة ، قلت : جعلت فداك! أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا بأي الخبرين يؤخذ؟ قال علیه السلام ما خالف العامة ففيه الرشاد ، قلت : جعلت فداك! فان وافقهما الخبران جميعا؟ قال علیه السلام ينظر إلى ما هم أميل إليه حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ، قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (1).

وظهور هذه الرواية الشريفة في وجوب ترجيح أحد المتعارضين بهذه المزايا مما لا يكاد يخفى.

والاشكال عليها : بأن موردها اختلاف الحكمين في مستند حكمهما وفي مثله لابد من الترجيح ، لعدم قطع الخصومة بالتخيير - كما تقدم - فلا تعم الرواية موارد تعارض الروايات في مقام الفتوى (2)

ص: 771


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- 2 - أقول : عمدة الاشكال على الرواية ، هو ان في مقام تعارض الحكمين لا معنى للترجيح في مدركهما ، بل الحاكم بعدما اخذ بالرواية وحكم في الواقعة على وفق رأيه في الشبهات الحكمية لابد وان يتبع هذا الحكم ، ومع تعارضه بحكم آخر يرجح أحد الحكمين بأعلمية الحاكم وأعدليته وأوثقيته ، ولا مجال حينئذ لترجيح مدرك أحد الحكمين على مدرك الآخر ، إذ لا يكون المرجع في الواقعة بالنسبة إلى مجتهد آخر - فضلا عن المقلد - عند صدور حكم الحاكم إلا الحكم ، لأنه نقيض الفتوى ، فمهما كان الحكم ثابتا - ولو بترجيح الحكم بمرجحات الحاكم - لا مجال لرجوع المجتهد الثالث إلى مدرك الحكم ، وحينئذ فلا محيص من الالتزام باعراض الأصحاب عن ذيل الرواية. كما ان المرفوعة أيضا مطعون في سنده، فلا يبقى مجال لوجوب الترجيح بالمرجحات المذكورة في الروايتين. و تسمية الأولى «مقبولة» من جهة كون صدوره مورد تسليم الأصحاب، لا هو بتمامه، بل لم يلتزم أحد برجوع الثالث عند تعارض الحكمين إلى مدركهما. و ظني انه استشكل شيخنا الأعظم بهذا البيان في رسائله، فراجع. نعم: لا بأس بالترجيح بمخالفة العامة و موافقة الكتاب، كما هو أيضا ديدن الأصحاب، و في غاية البعد أيضا حمل اخبار الترجيح بهما على الاستحباب.

ضعيف غايته ، فان الترجيح إنما يكون في مقابل التخيير ، وقد عرفت أن التخيير إنما يكون في المسألة الأصولية ، ومعنى الترجيح في المسألة الأصولية : هو أخذ الراجح حجة شرعية وطريقا محرزا إلى الواقع. وعليه : لا يمكن أن يفرق بين باب الحكومة وبين باب الفتوى ، بل نفوذ حكم من وافق حكمه الراجح إنما هو لأجل موافقة فتواه له.

وبالجملة : بعد البناء على كون التخيير والترجيح في المسألة الأصولية لا معنى للتفرقة بين باب الحكومة وبين باب الفتوى ، فإنه كما يلزم الحكم على طبق الراجح لأنه هو الحجة والطريق دون غيره ، كذلك يلزم الفتوى والعمل على طبقه.

وكأن من استشكل على الاستدلال بالرواية لوجوب الترجيح في مطلق المتعارضين غفل عن كون الترجيح في المسألة الأصولية ، أو بنى على كونه في المسألة الفقهية ، وقد تقدم ضعفه.

هذا كله ، مضافا إلى أن صدر الرواية سؤالا وجوابا وإن كان في مورد الحكومة ، إلا أن الظاهر من قوله علیه السلام « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا » إلى آخر الرواية ، هو أن الامام علیه السلام صار بصدد بيان الوظيفة الكلية عند تعارض مطلق الاخبار.

فالانصاف : أن التأمل في الرواية يوجب القطع بكون الترجيح لمطلق

ص: 772

تعارض الروايات ، فلا ينبغي الاشكال عل الاستدلال بها على وجوب الترجيح في مقام العمل والفتوى :

كما لا ينبغي الاشكال على الاستدلال بها بأن الظاهر من قوله في الذيل : « إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك » كون الترجيح بتلك المزايا إنما هو في زمان الحضور فلا دليل على وجوب الترجيح بها في زمان الغيبة ، فان اختصاص التوقف بزمان الخصوص لا يقتضي اختصاص الترجيح به.

وكذا لا ينبغي الاشكال بمعارضة الرواية لرواية « الاحتجاج » عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا؟ قال علیه السلام لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لابد أن يعمل بواحد منهما ، قال علیه السلام خذ بما فيه خلاف العامة » (1).

وجه المعارضة : هو أنه في المقبولة كان التوقف بعد فقد المرجحات ، وفي رواية « الاحتجاج » الامر بالعكس يكون الترجيح بمخالفة العامة بعد عدم إمكان التوقف ، لحضور وقت العمل أو غير ذلك.

هذا ، ولكن الأصحاب لم يعملوا برواية « الاحتجاج » بل عملهم على طبق ما في المقبولة ، فلا تصلح رواية الاحتجاج للمعارضة.

وبالجملة : دلالة المقبولة على وجوب الترجيح بالمزايا المذكورة في غاية الوضوح ، وجميع الاشكالات الواردة على الرواية يمكن الذب عنها ، وقد عمل بمضمونها الأصحاب واعتمدوا عليها ، ولذلك سميت بالمقبولة ، مضافا إلى اعتضادها بروايات اخر قد استقصاها الشيخ قدس سره في « الفرائد » أجمعها بعد المقبولة مرفوعة زرارة ، قال : « سئلت أبا جعفر علیه السلام فقلت : جعلت

ص: 773


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 42.

فداك! يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال علیه السلام يا زرارة! خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر ، فقلت : يا سيدي! إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال علیه السلام خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال علیه السلام انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ بما خالف ، فان الحق فيما خالفهم ، قلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع ، قال علیه السلام إذن فخذ بما فيه الاحتياط لدينك واترك الآخر ، قلت : فإنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال علیه السلام إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » (1).

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة رواها ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب « غوالي اللآلي » عن العلامة مرفوعا إلى زرارة ، وقد طعن صاحب الحدائق رحمه اللّه في الكتاب ومصنفه ، مع عدم وجود الرواية في كتب العلامة قدس سره إلا أنها تصلح لان تكون مؤيدة لمقبولة « عمر بن حنظلة » مضافا إلى سائر الروايات ، وبعد هذا لا ينبغي التأمل والاشكال في وجوب الترجيح بين الروايات المتعارضة.

نعم : يبقى الاشكال في وجوب الاقتصار على المرجحات المذكورة في الروايات ، أو أنه يجب التعدي عنها إلى كل مرجح لسند أحد المتعارضين أو لمضمونه ، وقد اختلفت في ذلك كلمات الاعلام. والأقوى : وجوب الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم جواز التعدي عنها ، فان الأصل وإن كان يقتضي وجوب الاخذ بكل ما يحتمل أن يكون مرجحا لاحد المتعارضين ، للشك في حجية الآخر والأصل عدمها ، إلا أنه

ص: 774


1- غوالي اللئالي : ج 4 ص 133 ح 229 ( تحقيق مجتبى العراقي ) مع تفاوت.

يحب الخروج عما يقتضيه الأصل باطلاقات أدلة التخيير (1) فان المتيقن من تقييدها هو ما إذا كان في أحد المتعارضين أحد المزايا المنصوصة ، ولا يستفاد من أدلة الترجيح وجوب الاخذ بكل مزية تقتضي أرجحية أحدهما سندا أو مضمونا ، فالقول بوجوب التعدي عن المرجحات المنصوصة خال عن الدليل.

نعم : يمكن أن يستدل له بقوله علیه السلام في مقبولة « عمر بن حنظلة » في وجه الترجيح بالشهرة : « فان الجمع عليه مما لا ريب فيه » وبقوله في وجه الترجيح بمخالفة العامة : « فان الرشد في خلافهم ». بتقريب : أن المراد من « المجمع عليه » ليس هو الاجماع المصطلح ، بحيث تكون الرواية مما قد أجمع الأصحاب ورواة الأحاديث على روايتها ، وإلا كانت الرواية متواترة مقطوعة الصدور ، بل المراد منه هو كون الرواية مشهورة بين الأصحاب معروفة بين الرواة وإن كانت من أخبار الآحاد ، ولا منافاة بين كون الرواية من أخبار الآحاد وبين اشتهارها بين أرباب الحديث وتدوينها في الأصول والكتب والمجامع ، ويقابلها الرواية الشاذة التي لم تكن معروفة عند الرواة ولم يشتهر نقلها وتدوينها في الأصول وكتب الأحاديث ، ومن المعلوم : أنه لا يصح حمل عدم الريب بقول مطلق على مثل هذه الرواية التي يجامعها احتمال عدم الصدور ، فان الخبر الواحد مهما بلغ في الاشتهار لا يكون مقطوع الصدور ، فلابد وأن يكون المراد من قوله علیه السلام « ممالا ريب فيه » هو عدم الريب بالإضافة إلى الرواية الشاذة التي لم تكن معروفة عند أصحاب الحديث ، فان الرواية المشهورة تكون أقرب إلى الصدور من الرواية الشاذة ، فيكون الريب المحتمل في الرواية الشاذة

ص: 775


1- أقول : بعد الجزم بمرجعية أحدهما وتردد بين التعيين والتخيير ، وإلا فالأصل يقتضي التساقط لا الترجيح ، وحينئذ يبقى الكلام في هذا الجزم بعد إطلاقات أدلة التخيير الحاكمة بعدم الترجيح ، فتدبر.

أقرب من الريب المحتمل في الرواية المشهورة ، لأنه يحتمل فيها مالا يحتمل في الرواية المشهورة فيصح حمل عدم الريب الإضافي على الرواية المشهورة ، ولازم ذلك هو التعدي إلى كل مزية تقتضي أقربية صدور ذي المزية من الفاقد لها ، فان قوله علیه السلام « فان المجمع عليه مما لا ريب فيه » يكون من منصوص العلة وبمنزلة الكبرى الكلية ، فيكون مفاد التعليل : هو الامر بأخذ كل خبر لا ريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر وأقرب صدورا منه. وهذا كما ترى يقتضي وجوب الاخذ بكل مرجع صدوري ولو لم يكن من مقولة الشهرة. هذا كله في قوله علیه السلام « فان المجمع عليه ممالا ريب فيه ».

وأما قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » فتقريب الاستدلال به على وجوب التعدي إلى كل مزية : هو أن التعليل بذلك إنما هو لأجل أن مضمون الخبر المخالف للعامة أقرب إلى الواقع من الخبر الموافق لهم ، لأنه يحتمل في الموافق أن يكون قد صدر تقية ، وليس المراد من قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » هو أن كل ما يكون مخالفا للعامة فهو الحق الموافق للواقع وكل ما يكون موافقا لهم فهو الباطل المخالف للواقع ، بداهة أن كثيرا من الاحكام الموافقة لرأي العامة ليست من الباطل ، فلابد وأن يكون المراد من قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » هو أقربية مضمون الخبر المخالف للعامة من الخبر الموافق لهم ، لأنه يحتمل في الموافق مالا يحتمل في المخالف ، فيكون حاصل التعليل : هو وجوب الاخذ بكل ما يكون مضمونه أقرب إلى الواقع من الخبر الآخر. ولازم ذلك هو التعدي إلى كل مزية تقتضي ذلك ولو لم تكن من مقولة مخالفة العامة. هذا غاية ما يمكن أن يستدل به للقول بوجوب التعدي عن المزايا المنصوصة.

ولكن للنظر فيه مجال. أما في قوله علیه السلام « فان المجمع عليه مما لا ريب فيه » فلانه لا شاهد على كون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى الغير ، بل ظاهره عدم الريب بقوله مطلق. ولا ملازمة بين كون الخبر مما لا ريب

ص: 776

فيه بقول مطلق وبين كونه مقطوع الصدور ، بل يصح حمل عدم الريب على الخبر المشهور المدون في كتب الأحاديث المعروف عند الرواة وأرباب الحديث ، فان مثل هذا الخبر مما تطمئن النفس بصدوره ويحصل الركون إليه بحيث لا يلتفت إلى احتمال عدم صدوره ولو كان موجودا في خزانة النفس ، فيصح أن يقال : إنه مما لا ريب فيه بقول مطلق ، بخلاف الخبر النادر الشاذ الذي لم يدون في كتب الأصحاب ولم يكن مشهورا عند أرباب الحديث ، فإنه لا تطمئن النفس بصدوره ، بل ولا يحصل الظن به.

فدعوى : أن المراد من قوله : « ما لا ريب فيه » هو عدم الريب بالإضافة إلى غيره ، مما لا شاهد عليها حتى يقتضي التعدي إلى كل مزية تقتضي أقربيه صدور أحد المتعارضين عن الآخر ، بل قصارى ما يقتضيه التعليل : هو التعدي إلى كل مزية تقتضي الاطمينان بالصدور وركون النفس إليه.

وأما قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » فالامر فيه أوضح ، فان التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلة ولا يصلح أن يكون كبرى كلية ، لان ضابط منصوص العلة - على ما أوضحناه في محله - هو أن تكون العلة على وجه يصح ورودها وإلقائها إلى المكلفين ابتداء بلا ضم المورد إليها ، كما في قوله : « الخمر حرام لأنه مسكر » فإنه يصح أن يقال : « كل مسكر حرام » بلا ذكر الخمر ، وكما في قوله علیه السلام « فان المجمع عليه مما لا ريب فيه » فإنه يصح أن يقال : « خذ بكل ما لا ريب فيه ».

وهذا بخلاف قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » فإنه لا يصح أن يقال : « خذ بكل ما خالف العامة » لما عرفت : من أنه كثير من الاحكام الحقة توافق قول العامة ، فلا يمكن أن يرد قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » دستورا كليا للمكلفين بحيث يكون بمنزلة الكبرى الكلية ، بل لابد

ص: 777

وأن يكون التعليل بذلك لبيان حكمة التشريع ، وليس من العلة المنصوصة ، فلا يجوز التعدي عنها إلى كل مزية تقتضي أقربية مضمون أحد المتعارضين للواقع. فالانصاف : أنه لم يظهر من الأدلة جواز التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فالأقوى : هو الاقتصار عليها ، فتأمل جيدا.

المبحث العاشر: المرجحات المنصوصة أربعة :

اشارة

منها : ما يكون مرجحا لسند أحد المتعارضين ، كموافقة أحدهما للشهرة وككون الراوي لأحدهما أوثق أو أعدل أو أصدق ونحو ذلك مما يرجع إلى صفات الراوي.

ومنها : ما يكون مرجحا لجهة الصدور ، ككون أحد المتعارضين مخالفا للعامة (1).

ص: 778


1- أقول : بعدما كانت حجية الجهة والدلالة من آثار الكلام الواقعي بحيث يكون بالنسبة إلى التعبد بالسند من قبيل الحكم الواقعي لموضوع قامت [ الامارة على ثبوته كقيام ] الامارة على ثبوت الموضوع لوجوب إكرام زيد بالنسبة إلى دليل التعبد باكرامه ما لمراد من كون الترجيح بمخالفة العامة من المرجحات الجهتية؟ فان أريد منه ان دليل وجوب الاخذ بالمخالف وطرح الموافق إنما هو لترجيح مجرد الجهة الثانية لأحدهما في ظرف صدور الكلام الواقعي على الجهة الأخرى كلية بلا نظر منه إلى حيث صدور ذي المرجح ، فلازمه عدم انتهاء النوبة إليه بعد تساقط عموم الحجية في إثبات الكلام الواقعي ، إذ حينئذ لا يحرز الكلام حتى ينتهي النوبة إلى ترجيح جهته ، ومجرد اقتضاء الحجية لا يكفي في هذا الترجيح الوارد على الكلام ما لم يحرز الكلام الواقعي بدليل تعبده فعلا. وإن كان الغرض ان دليل المرجح الجهتي أيضا ناظر إلى اثبات السند فلازمه كونه مرجحا سنديا ، كالأوثقية ، إذ لازم التعبد بسند ذي الجهة طرح سند الآخر ، إذ لا معنى للاخذ بسند ما اطرح جهته ، فلا نعني بالمرجح السندي إلا هذا. وحينئذ فالتحقيق ان جميع المرجحات يرجع إلى الترجيح في السند. نعم : وجه ترجيح السند ربما يختلف : من كونه قوة احتمال الصدور أو الجهة أو المضمون ، كما لا يخفى ، فتدبر.

ومنها : ما يكون مرجحا لمضمون أحد المتعارضين ، ككون أحدهما موافقا للكتاب. وقد وقع الكلام في ترتب هذه المرجحات وتقدم بعضها على بعض.

فقيل : إنها غير مترتبة ، بل كلها مرجحة في عرض واحد ، فلو كان أحد المتعارضين واجدا لبعضها وكان الآخر واجدا لبعضها الآخر وقع التزاحم بينها فيقدم ما هو الأقوى مناطا ، وإلا فالتخيير. وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس سره .

وقيل : بتقديم المرجح الراجع إلى جهة الصدور على المرجح السندي والمرجح المضموني ، فلو كان أحد المتعارضين مخالفا للعامة وكان الآخر موافقا للشهرة أو للكتاب قدم ما يخالف العامة. وهذا القول منسوب إلى الوحيد البهبهاني قدس سره .

وقيل : بتقديم المرجح السندي على المرجح الجهتي والمرجح المضموني ، فيقدم الخبر المشهور على الخبر المخالف للعامة أو الموافق للكتاب. وهذا هو الأقوى ، فان التعبد بجهة الصدور متأخر في الرتبة عن التعبد بأصل الصدور. وقد تقدم في حجية الظن ما ينفع المقام ، ولا بأس بإعادته.

فنقول : إن استنباط الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على أمور :

الأول : كون الخبر صادرا عن الامام علیه السلام والمتكفل لاثبات هذا الامر هو أدلة حجية الخبر الواحد.

الثاني : كون ظاهرا في المعنى ، والمتكفل لاثباته هو العرف واللغة.

الثالث : كونه صادرا لبيان الحكم الواقعي لا لجهة أخرى : من تقية ونحوها ، والمتكفل لاثبات ذلك بناء العقلاء على حمل الكلام على كونه صادرا لبيان إفادة المراد النفس الأمري ، لان الظاهر من المتكلم نوعا هو أن يكون كلامه

ص: 779

على طبق مراده ، وهذا أصل عقلائي يرجع إليه عند الشك في جهة الصدور.

الرابع : كون مضمونه تمام المراد لا جزئه ، والمتكفل لاثبات ذلك أصالة عدم التقييد والتخصيص وقرينة المجاز ، ونحو ذلك من الأصول اللفظية التي عليها بناء العقلاء عند الشك في إرادة التقييد والتخصيص والحقيقة.

ولا يخفى : أن التعبد بجهة الصدور فرع التعبد بالصدور والظهور (1) كما أن التعبد بكون المضمون تمام المراد فرع التعبد بجهة الصدور ، بداهة أنه لابد من فرض صدور الخبري لبيان حكم اللّه الواقعي حتى يتعبد بكون مضمونه تمام المراد ، لا جزئه. نعم : ليس بين التعبد بالصدور والتعبد بالظهور ترتب وطولية ، فإنه كما لا يصح التعبد بصدور كلام غير ظاهر ، كذلك لا يصح التعبد بظهور كلام غير صادر ، فالتعبد بكل من الصدور والظهور يتوقف على الآخر ، ولذلك

ص: 780


1- أقول : لا يخفى ان حجية الدلالة والجهة لما كانتا من لوازم كلام الامام علیه السلام فدليل حجية السند بالنسبة إليهما بمنزلة الأصل المنقح لموضوع الأثر الواقعي ، فيكون نسبة حجية الدلالة والجهة بالنسبة إلى حجية السند بمنزلة الحكم الواقعي بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، فهما بحسب الرتبة مقدمان على حجية السند ، كتقدم الأثر الواقعي لموضوع قامت الامارة على إثباته ظاهرا ، وحينئذ لا يكون المرجع بدوا إلا دليل التعبد بالسند ، ولا مجال للرجوع إلى التعبد بالدلالة بدونه ، ومن هذه الجهة كان المرجع عندهم بدوا دليل التعبد بالسند ، ثم بذلك يترتب على صدوره آثاره : من حجية دلالته وجهته ، لا أن وجهه تقدم حجية السند على حجية الدلالة رتبة ، كيف! والثاني بالنسبة إلى حجية السند من قبيل الحكم الواقعي المقدم رتبة على الحكم الظاهري ، فليس التعبد بالجهة فرع التعبد بالصدور ، بل وصوله إلى المكلف فرعه ، كما هو الشأن في كل حكم واقعي بالنسبة إلى حجية الامارة على موضوعه ، بل ولئن دققت النظر ترى التعبد بالسند فرع التعبد بالجهة ، لأنه ما لم يكن للكلام اثر لا معنى لوجوب ترتيب اثر صدوره ، كما لا يخفى. نعم : لا ترتيب بين التعبد بالدلالة والتعبد بالجهة ، إذ هما أثران عرضيان للكلام الواقعي ، ولكن بينهما فرق ، فان طرح الجهة يلازم غالبا طرح تمام السند ، بخلاف طرح الدلالة في مقام الجمع، فإنه مستلزم لطرح مقدار من الدلالة ، وهو لا يستلزم طرح السند رأسا ، وهذه الجهة هو النكتة في ديدنهم على تقديم الجمع على الحمل على التقية في مقام الترجيح ، لا ان الوجه تقدم رتبة الجهة على الدلالة ، كما هو ظاهر ، فتدبر فيما ذكرنا كي ترى ما في كلماته مواقع النظر!.

ربما يتوهم أنه يلزم الدور. ولكن يدفع بأن التعبد بالظهور لا يتوقف على فعلية الصدور والتعبد به ، بل يكفي في صحة التعبد بالظهور فرض الصدور ، ولا يصح العكس ، فتأمل.

وعلى كل حال : لا إشكال في أن التعبد بجهة الصدور يتوقف على التعبد بالصدور ، والتعبد بالمضمون يتوقف على التعبد بجهة الصدور ، ولازم ذلك هو تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي عند التعارض بينهما ، كما هو ظاهر أدلة الترجيح ، فان في مقبولة « عمر بن حنظلة » قدم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي. ولا يعارضها اقتصار بعض الأدلة على ذكر بعض المرجحات ، فإنه يجب تقييدها بما في المقبولة.

نعم : ربما يقع التعارض بين المقبولة وبين سائر الأدلة من جهة أخرى سيأتي البحث عنها. والمقصود في المقام : بيان تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي ، فان القاعدة تقتضي ذلك ، مضافا إلى دلالة أدلة الترجيح عليه.

فلا وجه لما عن الوحيد البهبهاني رحمه اللّه من تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري ، كما لا وجه لما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من وقوع التزاحم بين المرجحات عند التعارض وتقديم ما هو أقوى مناطا وإلا فالتخيير بدعوى : أن الترجيح بجميع المرجحات يرجع إلى الصدور ، فان التعبد بالأخذ بما يخالف العامة معناه : البناء على أنه هو الصادر وأن الموافق لهم غير صادر ، لأنه لا معنى للتعبد بصدور الخبر مع وجوب حمله على التقية ، إذ الحمل على التقية يساوق الطرح ، ولا يعقل أن تكون نتيجة التعبد بالصدور هي الطرح ، فمعنى عدم الاخذ بالخبر الموافق للعامة هو البناء على عدم صدوره ، فلا تشمله أدلة حجية الخبر الواحد. وكذا الحال في موافقة أحد المتعارضين للكتاب ، فان معنى الاخذ بالموافق : هو البناء على عدم صدور المخالف للكتاب. فالمرجحات المنصوصة كلها ترجع إلى الصدور.

ص: 781

هذا ، ولكن يرد عليه : أن الترجيح بالمخالفة للعامة والموافقة للكتاب إنما يرجع إلى التخصيص في الأصول العقلائية التي تقتضي البناء على صدور الكلام على وفق المراد وأن مضمونه تمام المراد. وأما الترجيح بالشهرة وصفات الراوي : فهو يرجع إلى التخصيص في أدلة حجية الخبر الواحد التي تقتضي البناء على صدور الخبر. فإرجاع المرجحات كلها إلى المرجح الصدوري وكونها مخصصة لأدلة حجية الخبر الواحد مما لا سبيل إليه.

وما قيل : من أنه لا معنى للتعبد بالصدور مع الحمل على التقية - فان الحمل على التقية يرجع إلى طرح الخبر الموافق للتقية ولا يمكن أن تكون نتيجة التعبد بالصدور طرح الخبر - فهو ناش عن الخلط بين الحمل على التقية في باب تعارض الخبرين وبين الحمل على التقية في غير باب التعارض.

وتوضيح ذلك : هو أن الخبر تارة : يكون بنفسه ظاهرا في الصدور تقية ، بحيث يكون فيه قرائن التقية ولو لم يكن له معارض ، كالاخبار الواردة في عدم بطلان الصلاة بالحدث قبل التسليم.

وأخرى : لا يكون في الخبر قرائن الصدور تقية بل مجرد كون مؤداه موافقا لمذهب العامة ، وقد تقدم : أن مجرد موافقة الخبر للعامة لا يقتضي الحمل على التقية ، بل لو لم يكن له معارض كان مشمولا لأدلة حجية الخبر الواحد ويجب العمل به ، وإنما يحمل على التقية في صورة التعارض بأدلة العلاج وأخبار الترجيح. والذي لا يمكن فيه التعبد بالصدور مع الحمل على التقية هو ما إذا كان الخبر في حد نفسه ظاهرا في التقية ، وأما إذا لم يكن في الخبر قرائن التقية ، فالحمل عليها إنما يكون بعد وقوع التعارض بينه وبين الخبر المخالف للعامة ، ووقوع التعارض بينهما فرع شمول أدلة التعبد بالصدور لكل من الموافق والمخالف.

لا أقول : إن أدلة التعبد بالصدور تعم كلا منهما بالفعل مع كونهما

ص: 782

متعارضين ، فان ذلك واضح الفساد ، بل أقول : إن كلا منهما في حد نفسه مشمول لأدلة الاعتبار ، فحمل الخبر الموافق للعامة على التقية إنما يكون بعد فرض التعبد بصدوره ، فلو فرض أن الخبر الموافق لهم كان مشهورا عند أرباب الحديث والخبر المخالف كان شاذا غير مشهور عند الأصحاب ، فمقتضى أدلة الترجيح هو البناء على عدم صدور الشاذ (1) ولا أثر لجهة مخالفته للعامة حتى يتدارك بها جهة شذوذه ، ليزاحم الخبر المشهور الذي تقتضي أدلة الترجيح البناء على صدوره.

ص: 783


1- أقول : اعترافه بان الترجيح بالمخالفة للعامة وموافقة الكتاب تخصص الأصول العقلائية - من أصالة الجهة والدلالة - كون هذا الترجيح كالأصلين في ظرف صدور الكلام الواقعي ، وحينئذ تقديم المرجح السندي عليهما في غاية المتانة ، إذ المرجح السندي يدل على عدم صدور المرجوح ، فأين كلام الامام علیه السلام كي يرجح أصالة جهته على الأصل في الآخر؟ بل كان المرجح السندي رافعا لموضوع المرجح الجهتي. ولكن لازم هذا المعنى - كما أشرنا في الحاشية السابقة - عدم انتهاء النوبة إلى المرجح الجهتي ، لأنه بعد فرض تساقط عموم دليل السند مع عدم مرجح سندي في البين لم يحرز كلام الامام علیه السلام كي ينتهي إلى ترجيح أصله العقلائي على غيره ، فلا محيص من الالتزام بكون المرجح الجهتي أيضا ناظرا إلى اثبات صدور الكلام الملازم لنفي صدور غيره. وحينئذ هذا المرجح كسائر المرجحات السندية ناظر إلى ترجيح السند ، وحينئذ لا يكون أحدهما منوطا بالآخر ، فيكون جميع المرجحات في عرض واحد ، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر والى ذلك نظر العلامة الأستاذ قدس سره في كلامه ، فاورد عليه. بل لنا في المقام كلام آخر، و هو: ان التعبد بالجهة بعد ما كان من آثار الكلام الواقعي، فقضية الترجيح بالجهة موجب في طرف الموافق تقية، للعلم الإجمالي بعدم صدوره أو حمله على التقية، و مع هذا العلم لا مجال لترجيح السند في فرض وجود مرجح جهته في الموافق للعامة، لأن العلم المزبور يمنع عن مجي ء التعبد بسنده، للعلم بعدم انتهائه إلى الأثر، و إلى ذلك أيضا نظر «العلامة الرشتي» المحكي في كفاية أستاذنا، لا ان نظره إلى وجود هذا العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن الترجيح الجهتي، كي يرد عليه ما أفاده العلامة الأستاذ. كما ان كلامه السابق أيضا وارد على الشيخ، بملاحظة ان الترجيح بالجهة فرع الصدور، و مع الشك فيه لا ينتهي إلى الترجيح بالجهة، فهذه ربما يشهد بان المرجح الجهتي أيضا راجع إلى الصدوري، فتدبر.

ومما ذكرنا يظهر الوجه في تقديم المرجح الجهتي على المرجح المضموني ، لتقدم رتبته عليه ، وإن كان يظهر من صحيح « القطب الراوندي » عن الصادق علیه السلام تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على مخالفة العامة ، حيث قال علیه السلام « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فذروه ، وإن لم تجدوه في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (1) والعمل بهذا الصحيح مشكل ، إلا أن يقال : إن موافقة الكتاب تكون من المرجحات الصدورية ، فتأمل.

بقي التنبيه على أمور.
الأول :

الترجيح بصفات الراوي وإن لم يصرح به في المقبولة لأنه لم يجعل صفات الراوي فيها من مرجحات الخبرين المتعارضين بل جعلت من مرجحات الحكمين المتعارضين ، إلا أنه يمكن أن يقال : إنه لما كان منشأ اختلاف الحكمين هو اختلاف الروايتين ، فيستفاد من ذلك أن المناط في ترجيح أحد الحكمين على الآخر بالصفات ، لكون مثل هذه الصفات مرجحة لمنشأ الحكم وهو الرواية (2) ويؤيد ذلك أن الأصدقية إنما تناسب كونها مرجحة للرواية لا لنفس الحكم.

ص: 784


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 29 ، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
2- أقول : فيه نظر جدا ، كيف! والترجيح بالصفات المزبورة مضمون رواية « فرقد » في علاج تعارض الحكمين ، والأصحاب أيضا عملوا به مع عدم بنائهم على الرجوع إلى مدرك الحكم ، كما أشرنا. مع أن الترجيح بالأفقهية إنما يناسب الترجيح الحكم والفتوى ولا يناسب الرواية ، وما ذكر من التأييد في الأصدقية أيضا لا تأييد فيه ، إذ أصدقية الحاكم في حكمه بملاحظة طريقية حكمه ، فلا يخلو عن المناسبة أيضا. ومن هنا ظهر انه لا بعد في مرجحية مطلق الأعدلية مرجحة للحكم كالأورعية ، فتدبر.

فالأقوى : وجوب الترجيح بالصفات التي لها دخل في أقربية صدور أحد المتعارضين - كالأصدقية في القول والأوثقية في النقل - ضرورة أنه ليس كل صفة في الراوي تكون مرجحة لروايته ، فان الورع والتقوى والمواظبة على أداء الفرائض والسنن لا دخل لها في نقل الرواية ، إذ ربما يكون الفاسق أضبط وأتقن في نقل الحديث من العادل. والمراد من قوله علیه السلام في المقبولة : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما » ليس الأعدلية والأورعية بمعنى الزهد في الدنيا ، بل المراد منه الأعدلية والأورعية في نقل الأحاديث.

ثم إن في وجوب تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة إشكال (1) ولا يبعد أن يكون الترجيح بالشهرة مقدما على الترجيح بالصفات ، لأنه في المقبولة جعلت الشهرة أو مرجحات الخبرين المتعارضين ، حيث قال علیه السلام بعد فرض كون الحكمين متساويين في الصفات : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به الجمع عليه بين أصحابك الخ ». والظاهر : أن يكون عمل المشهور أيضا على ذلك ، فإنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوي الغير أعدل وأصدق.

الامر الثاني :

قد تقدم - في مبحث الظن - أقسام الشهرة وما يصلح منها للترجيح ، ولا بأس بإعادته إجمالا في المقام ، فنقول : إن الشهرة على أقسام ثلاثة : شهرة روايتيه ، وشهرة عملية ، وشهرة فتوائية.

أما الشهرة الروايتية : فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وتدوينها في

ص: 785


1- أقول : على الكلام الأول يقتضي تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة ، لتقدمها على جميع المرجحات حتى الشهرة.

كتب الأحاديث. ولا إشكال في كونها مرجحة لاحد المتعارضين ، بل هي المراد من قوله علیه السلام في المقبولة : « فان الجمع عليه لا ريب فيه ».

وأما الشهرة العملية : فهي عبارة عن عمل المشهور بالرواية واعتمادهم عليها واستنادهم إليها. والنسبة بين الشهرة الروايتية والشهرة العملية العموم من وجه ، إذ رب رواية لم تكن مشهورة عند الرواة وأرباب الحديث ولكن عمل المشهور بها ، ورب رواية لم يعمل المشهور بها ولكن كانت مشهورة عند الرواة.

ولا إشكال في أن الشهرة العملية تكون مرجحة أيضا ، بل الترجيح بها أولى من الترجيح بالشهرة الروايتية ، فان عمل الأصحاب يكشف عن اعتبار الرواية ، بل لو كانت الشهرة العملية على خلاف الشهرة الروايتية فالعبرة على الشهرة العملية ، فان عدم عمل المشهور بالرواية المشهورة يكشف عن خلل فيها (1).

وأما الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن اشتهار الفتوى بمضمون الرواية مع عدم

ص: 786


1- أقول : لا يخفى عليك : ان المناط في أصل حجية الخبر إذا كان الوثوق بسنده ، فحينئذ فما لم يكن ما يوجب الوثوق به ، فدليل الحجية قاصر الشمول لمثله ، وفي مثله لا يكاد ينتهي النوبة إلى باب الترجيح. وبناء على هذا ربما نقول : ان الشهرة العملي في قبال اعراضهم عن الرواية عملا موجب لجبر السند أو وهنه ، وفي هذا المقام لا يكاد ينتهي النوبة إلي الترجيح سندا ، كانت الرواية مشهورة رواية أم لا. وعليه : فالشهرة العملية هي مدار الوثوق بالسند الذي هو مدار الحجية ، كما أن اعراضهم موجب لوهنه المضر بأصل حجية الرواية ، فحينئذ من أين يبقى في زماننا موقع ينتهي فيه الامر إلى الترجيح بالشهرة رواية كانت أم عملية؟ نعم : لا باس به في قرب الزمان بالأئمة علیهم السلام إذ القرائن على صدق الرواية كثيرة بحيث كان لهم طريق لاحراز الوثوق بالسند من طريق آخر غير الشهرة عملا ، ففي مثله أمكن جعل الشهرة رواية أم عملا من المرجحات ، ولكن أين هذا وزماننا الذي لا طريق لنا للوثوق إلا عمل الأصحاب ولو المتأخرين منهم الكاشف بتشابه الأزمان انه عليه أيضا عمل القدماء؟ كما اعترف به المقرر. و من هنا ظهر أيضا: ان مجرد الشهرة الفتوائية بلا استناد- و لو من المتأخرين- لا يجدي في الجبر و لا في الترجيح، كما لا يخفى، فتدبر.

العلم باستناد فتوى المشهور إليها. والذي يهم البحث عنه هو بيان حكم الشهرة الفتوائية من حيث كونها جابرة لضعف السند ومرجحة لاحد المتعارضين ، فان الذي يمكن لنا إحرازه هو الشهرة الفتوائية ، وأما الشهرة العملية : فلا سبيل لنا إلى إحرازها ، لأنها إنما تكون في عصر الحضور أو ما قاربه قبل تأليف كتب الفتوى ، فالذي لنا إليه سبيل هي الشهرة الفتوائية.

ولا إشكال في كون الشهرة الفتوائية على خلاف مضمون الرواية تكون موهنة لها على كل حال ، لان إعراض الأصحاب عن الرواية أقوى موهن لها ، وإنما الاشكال في كونها مرجحة لاحد المتعارضين أو جابرة لضعف سند الرواية ولو لم يكن لها معارض ، فان الترجيح والجبر يتوقف على الاستناد والاعتماد إلى الرواية. ولا يكفي في ذلك مجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية ، كما لا يكفي في الترجيح والجبر عمل المتأخرين بالرواية واستنادهم إليها ، فان العبرة على عمل المتقدمين من الأصحاب بالرواية ، لقرب زمانهم بزمان الأئمة علیهم السلام ومعرفتهم بحال الرواة وتشخيصهم غث الرواية عن سمينها ، فلا أثر لشهرة المتأخرين واستنادهم إلى الرواية ما لم تتصل بشهرة المتقدمين. وحينئذ ربما يشكل علينا الحال ، فإنه لا طريق لنا إلى العلم باستناد القدماء إلى ما بأيدينا من الرواية ، لأنه ليس من دأبهم ذكر مستند الفتوى ، بل بناءهم غالبا على مجرد الفتوى على طبق الاخبار بلا ذكر المستند ، كما لا يخفى على من راجع المتون ، فان قل ما يوجد فيها بيان المستند ، فلا سبيل لنا إلى إثبات أن مستند فتواهم كان ما بأيدينا من الرواية ، لاحتمال أن يكون لهم مستند آخر قد خفي علينا ، وقد عرفت : أنه ما لم يعلم استنادهم إلى الرواية لم تكن فتواهم مرجحة ولا جابرة.

هذا ، ولكن التحقيق : أن الامر ليس بتلك المثابة من الاشكال ، فإنه إذا توافقت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين على الفتوى بمضمون الرواية وكانت

ص: 787

الفتوى على خلاف ما تقتضيه القاعدة ولم يكن فيما بأيدينا ما يصلح أن يكون مستندا لفتوى المتقدمين إلا ما استند إليه المتأخرون من الرواية ، فيكشف ذلك كشفا عاديا على أن مستند المتقدمين هو تلك الرواية ، فان احتمال أن يكون للمتقدمين مستند آخر غير ما استند إليه المتأخرون - وقد خفي عليهم - بعيد غايته ، بل لا ينبغي احتماله ، فان اتصال المتأخرين بالمتقدمين مع انحصار المستند عند المتأخرين بما بأيدينا من الرواية يمنع عن احتمال اختلاف مستند المتقدمين لمستند المتأخرين ، بل لو ادعى أحد القطع باتحاد المستند لم يكن في دعواه مجازف. نعم : لو كانت شهرة المتأخرين على طبق ما تقتضيه القاعدة وإن استندوا إلى الرواية أيضا ، فلا مجال لاستكشاف كون مستند المتقدمين تلك الرواية ، لأنه يحتمل قريبا أن يكون مستند المتقدمين في الفتوى هو ما اقتضته القاعدة لا الرواية.

فلا أثر لشهرة المتأخرين واستنادهم إلى الرواية ، وكذا لا أثر لشهرة المتأخرين والمتقدمين لو فرض أنه لم يكن فيما بأيدينا من الكتب ما يصلح أن يكون مستندا لفتواهم ولو كانت الفتوى على خلاف القاعدة ، فان أقصى ما يستفاد من اشتهار الفتوى بين المتأخرين والمتقدمين هو استنادهم في الفتوى إلى ما يكون حجة عندهم - لان عدالتهم تأبى عن الفتوى بلا مستند - ولكن مجرد ذلك لا يقتضي وجوب موافقتهم في الفتوى ، لعدم العلم بالمستند وكيفية دلالته.

والفرق بين الشهرة والاجماع : هو أن الاجماع يكشف عن وجود مستند تام الدلالة والحجية عند الكل ، فيرجع الاجماع على الفتوى إلى الاجماع على وجود ما يكون حجة قطعية على المسألة ، فلا يجوز مخالفة المجمعين في الفتوى ، بخلاف الشهرة ، فإنها لا تكشف عن وجود حجة قطعية عند الكل ، بل غاية ما يستفاد منها هو استناد المشهور إلى ما يكون حجة عندهم ، وذلك لا يقتضي وجوب متابعتهم.

ص: 788

فتحصل : أنه إذا توافقت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى على خلاف ما تقتضيه القاعدة وكان فيما بأيدينا من الكتب - ولو لم تكن من الكتب المعتبرة كدعائم الاسلام والأشعثيات والفقه الرضوي - رواية على فتوى المشهور ، فهذه الشهرة تكون مرجحة للرواية إذا كانت معارضة مع غيرها وجابرة لضعف سندها ولو مع عدم المعارضة.

وأما إذا خالفت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى - كما اتفق ذلك في عدة مواضع منها جواز الصلاة في السنجاب - فالعبرة إنما تكون بشهرة المتقدمين. ومما ذكرنا ظهر وجه الحاجة إلى تحصيل شهرة المتقدمين على الفتوى ، فتأمل جيدا.

الامر الثالث :

قد ذكر الشيخ قدس سره للترجيح بمخالفة العامة وجوها أربعة. ولكن الظاهر : رجوع بعضها إلى بعض ، فان مرجع كون المخالفة للعامة من حيث نفسها مطلوبة للشارع إلى التعبد بمخالفة العامة ، فلا يكون كل منهما وجها على حدة ، مضافا إلى أنه لا ينبغي احتمال أن تكون المخالفة لهم من حيث إنها مخالفة مطلوبة ، بحيث تلاحظ المخالفة معنى اسميا فيأمر بها عنادا لهم ، فان ذلك لا يناسب مذهبنا.

بل التحقيق : أن المخالفة لوحظت معنى حرفيا للوصول إلى الحق ، لان الرشد في خلافهم - كما ورد التعليل به في الروايات - ومعنى كون الرشد في خلافهم : هو أن مؤدى الخبر المخالف لهم هو الحق المطابق للواقع ، كما يدل عليه جملة من الروايات. وأما بقية الوجوه التي ذكرها الشيخ : فالانصاف أنه لا ينبغي احتمالها في الروايات الواردة في باب الترجيح لاحد المتعارضين ، وإن كان يحتمل بعضها في بعض الروايات الواردة في غير باب الترجيح ، فراجع.

ص: 789

الامر الرابع :

الأخبار الواردة في الاخذ بموافق الكتاب وطرح المخالف له على طائفتين :

إحديهما : الأخبار الواردة في عرض الأحاديث على القرآن وأن ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو لم نقله أو اضربه على الجدار ، ونحو ذلك مما ورد عنهم علیهم السلام في الامر بطرح الخبر المخالف للكتاب.

ثانيهما : الأخبار الواردة في خصوص الروايات المتعارضة : من الامر بالعمل بما يوافق الكتاب وعدم العمل بما يخالفه. ولا إشكال في أن من شرائط حجية الخبر الواحد أن لا يكون مخالفا للكتاب ، ولذلك قد يستشكل في التوفيق بين الطائفتين ، فان الترجيح بموافقة الكتاب إنما يكون بعد فرض كون الخبر المخالف له واجدا لشرائط الحجية ، والمفروض : أن من شرائط الحجية عدم المخالفة للكتاب ، فكيف تكون الموافقة للكتاب من المرجحات؟ وقد اضطربت كلمات الاعلام في التوفيق بين الطائفتين.

وهذا الاشكال بعينه يرد على أخبار الترجيح بمخالفة العامة ، فان من شرائط حجية الخبر أن لا يكون واردا مورد التقية ، فكيف صارت المخالفة للعامة من المرجحات؟ ولعله لذلك ذهب بعض إلى كون مخالفة العامة أول المرجحات ، نظرا إلى أن الخبر الموافق لهم لم يكن جامعا لشرائط الحجية ، فلا تصل النوبة إلى المرجحات الاخر. وبعض آخر جعل موافقة الكتاب أول المرجحات ، نظرا إلى أن الخبر المخالف للكتاب لم يكن واجدا لشرايط الحجية ، فلا تصل النوبة إلى المرجحات الصدورية.

والتحقيق : أنه فرق بين ما يكون من شرايط حجية الخبر وبين ما يكون من مرجحاته.

أما في باب مخالفة العامة وموافقتهم : فقد أشرنا إليه سابقا ، وحاصله : أن

ص: 790

الذي يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية ، والذي يكون مرجحا مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية.

وأما في باب موافقة الكتاب ومخالفته : فالذي يكون من شرائط الحجية هو عدم مخالفة الخبر للكتاب بالتباين الكلي (1) فإنه هو الذي لا يمكن صدوره عنهم - صلوت اللّه عليهم - فيكون زخرفا وباطلا ، فإذا كان الخبر أعم من وجه من الكتاب كان اللازم إعمال قواعد التعارض بينهما ، ولا يندرج في قوله علیه السلام « ما خالف الكتاب فهز زخرف » بل يقدم ما هو الأظهر منهما ، وإلا فالتخيير أو الرجوع إلى الأصل. وكون الكتاب قطعي الصدور لا يوجب تقديمه على الخبر بعدما كانت دلالته على العموم ظنية.

وأما الذي يكون مرجحا لاحد المتعارضين : فهو الموافقة والمخالفة للكتاب بالعموم من وجه. وأما الموافقة والمخالفة بالعموم المطلق : فهي ليست من المرجحات أيضا ، لعدم المعارضة بين العام والخاص ، كما تقدم بيانه. فلو كان أحد المتعارضين موافقا للكتاب والآخر مخالفا له بالعموم والخصوص ، فاللازم هو الجمع بين الكتاب وبين الخبر المخالف له بتخصيص العام الكتابي بما عدا مورد الخاص الخبري ، أو تخصيص العام الخبري بما عدا مورد الخاص الكتابي.

ص: 791


1- ويؤيد ذلك : هو ان المذكور في روايات عرض الاخبار على الكتاب عنوان « المخالفة » والظاهر من المخالفة بقول مطلق هو المخالفة بالتباين. والمراد من قوله علیه السلام في بعض الاخبار : « مالا يوافق قول ربنا فهو زخرف » هو المخالف لقول اللّه تعالى بقرينة الاخبار الاخر. وهذا بخلاف الروايات الواردة في ترجيح أحد المتعارضين على الآخر ، فإنه لم يذكر فيها عنوان المخالفة بقول مطلق ، بل اقتصر في بعضها على عنوان « الموافقة » كقوله علیه السلام « خذ بما وافق الكتاب » وفي بعضها جمع بين الموافقة والمخالفة كليهما ، كقوله : « خذ بما وافق الكتاب واترك ما خالفه » وتصدق المخالفة في مقابل الموافقة على الموافقة بالعموم من وجه ، لان المراد من المخالفة هو عدم الموافقة ، والأعم من وجه لا يكون موافقا للكتاب ، فتأمل ( منه ).

فالمخالفة بالعموم والخصوص خارجة عن الطائفتين من الأخبار الواردة في عرض الاخبار على الكتاب. والمخالفة بالتباين الكلي تندرج فيما دل على طرح المخالف للكتاب وأنه زخرف وباطل ولو لم يكن للخبر المخالف معارض. والمخالفة بالعموم من وجه تندرج فيما دل على الترجيح بموافقة الكتاب عند التعارض ، فلو تعارض العامين من وجه وكان أحدهما موافقا للكتاب والآخر مخالفا له قدم الموافق له إذا كانا متكافئين بالنسبة إلى سائر المرجحات.

وكذا يندرج في أدلة الترجيح ما إذا كان التعارض بين الخبرين بالتباين الكلي وكان أحدهما موافقا للعام الكتابي ، كما إذا فرض أن مفاد أحد الخبرين حلية لحم الحمير وكان مفاد الآخر حرمة لحمه ، فيقدم ما دل على حليته لكونه موافقا للعام الكتابي وهو قوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » (1) فان ما دل على الحرمة وإن كان أخص من العام الكتابي وكان اللازم تخصيص العام الكتابي به - بناء على ما هو الحق من جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد - إلا أنه لما كان مبتلى بالمعارض فلا يصلح لان يكون مخصصا ، ونتيجة ذلك هو الاخذ بما دل على الحلية ، لموافقة العام الكتابي ، فتشمله أدلة الترجيح ، فما أفاده الشيخ قدس سره في الفرض : من أنه « يجب الرجوع إلى المرجحات الصدورية والجهتية ومع فقدها يتخير المكلف في اختيار أحدهما » لا يخلو عن إشكال ، فإنه كيف يكون الحكم في الفرض التخيير مع كون أحد المتعارضين موافقا للكتاب؟ بل لابد من الاخذ بالموافق بمقتضى أدلة الترجيح.

الامر الخامس :

الظاهر : أنه لا يجوز الرجوع إلى المرجحات الصدورية في تعارض العامين

ص: 792


1- قد أشرنا كرارا إلى عدم وجود هذه الآية في القرآن الكريم ( المصحح ).

من وجه ، بل لابد من الرجوع إلى المرجحات الجهتية ومع فقدها فإلى المرجحات المضمونية (1) فان التعارض في العامين من وجه إنما يكون في بعض مدلوليهما وهو مادة اجتماعهما ، وأما مادة افتراقهما فلا تعارض بينهما ، ومع فرض كون التعارض في بعض المدلول لا معنى للرجوع إلى المرجحات الصدورية.

فإنه إن أريد من الرجوع إليها : طرح ما يكون راويه غير أعدل أو غير أصدق أو ما يكون شاذا بحيث يعامل معه معاملة الخبر الغير الصادر ، فهو مما لا وجه له ، لأنه لا معارض له في مادة الافتراق ، والمفروض : أنه في حد نفسه مما تعمه أدلة حجية الخبر الواحد ، فلا وجه لطرحه كلية.

وإن أريد من الرجوع إليها : طرحه في خصوص مادة الاجتماع الذي هو مورد التعارض فهو غير ممكن ، فان الخبر الواحد لا يقبل التبعيض في المدلول من حيث الصدور بحيث يكون الخبر الواحد صادرا في بعض المدلول وغير صادر في بعض آخر.

ص: 793


1- أقول : الأولى ان يقال : بأنه كما يكفي للتعبد بالصدور بالخبرين في موارد الجمع الدلالي بقاء مقدار من الدلالة القابل للانتهاء إلى العمل في الظاهر المنصرف فيه - وهو العمدة في تقديم الجمع الدلالي على طرح السند والجهة ، من جهة عدم تكاذب في السند بنحو يحتاج إلى ترك التعبد بأحدهما ، بل يؤخذ بهما وينتهي الامر إلى التكاذب في الدلالة وترجيح الأظهر دلالته ، ولم يتوهم أحد شبهة التبعيض في السند في طرف الظاهر المطروح مقدار من ظهوره - نقول أيضا في المقام : إن مجرد مورد افتراقهما كاف لتصحيح التعبد بسندهما وجهتهما ، فينتهي الامر فيهما أيضا إلى التكاذب في الدلالة ، غاية الامر في المقام - حيث لا ترجيح لاحد الدلالتين - يحكم فيهما بالاجمال ، كمقطوعي الصدور. ولا مجال لتوهم التبعيض في السند بينهما كي يمنع، مع أن ما هو ممنوع هو التبعيض حقيقة لا تعبدا وتنزيلا ، كيف! والتفكيك بين اللوازم والآثار في التنزيلات فوق حد الاحصاء بحيث لا يأبى العرف أيضا عنه. وحينئذ فالتحقيق في العامين من وجه أن يقال : بأنه مثل موارد الجمع خارجة عن مصب التعارض الذي هو موضوع اخبار العلاج ، لان مصبها صورة تكاذبهما سندا أو جهة ، وفي العامين من وجه - مثل الظاهر المتصرف فيه - خارج عن مرحلة تكاذبهما سندا أو جهة ، بل التكاذب فيهما منحصر بالدلالة فيتساقطان دلالة ، ولذا كان ديدنهم في مثلها على الحكم بالتساقط والرجوع إلى الأصل ، كما لا يخفى.

وما يقال : من أن الخبر الواحد ينحل إلى أخبار متعددة حسب تعدد أفراد الموضوع ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، فان قوله : « أكرم العلماء » بمنزلة قوله : « أكرم زيدا وأكرم عمروا وأكرم خالدا » وهكذا ، فلا محذور في طرح أحد العامين من وجه في خصوص مادة الاجتماع ، لان الانحلال يقتضي أن يكون لخصوص مادة الاجتماع قضية تخصه ، فتسقط بالمعارضة مع ما هي أقوى منها صدورا

واضح الفساد ، فان الانحلال في القضايا الحقيقية لا يقتضي تعدد الرواية ، بل ليس في البين إلا رواية واحدة رتب فيها الحكم على موضوعه المقدر وجوده ، وانطباق ما اخذ في الرواية موضوعا على المصاديق الخارجية أمر قهري عقلي. وبالجملة : لا ينبغي الاشكال في عدم الرجوع إلى المرجحات السندية في تعارض العامين من وجه ، بخلاف المرجح الجهتي والمرجح المضموني ، فإنه لا محذور في الرجوع إليه.

نعم : ربما يشكل الحال على رأي من أرجع جميع المرجحات إلى المرجحات السندية ، فتأمل. فلو كان عموم أحد العامين من وجه موافقا للعامة وكان عموم الآخر مخالفا لهم ، فالواجب هو الاخذ بعموم المخالف وعدم العمل بعموم الموافق (1) ولا يجوز ترك العمل بالعام الموافق رأسا ، فان العام المخالف لهم لا يعارض العام الموافق لهم في تمام المدلول بل في خصوص مادة الاجتماع ، ونتيجة ذلك ترك العمل بالعام الموافق في خصوص مادة الاجتماع. وكذا لو كان عموم أحد العامين من وجه مخالفا للكتاب ، فإنه أيضا يجب ترك العمل بعمومه ، أي بالمقدار الذي يخالف الكتاب ، لا في تمام مدلوله.

ص: 794


1- أقول : تقدم كلامنا مع من صدر منه هذه الكلمات على حسب ضبط المقرر إياه ، نسئل اللّه التوفيق لاتمام بقية المسائل لو ظفرنا بها ( إن شاء اللّه تعالى ).

فتحصل : أن تقديم أحد العامين من وجه على الآخر إما بالمرجح الجهتي وإما بالمرجح المضموني ، ومع التساوي : فالقاعدة المستفادة من الاخبار تقتضي التخيير في العمل بأحد العامين وترك العمل بعموم الآخر. ولكن الذي يظهر من الأصحاب التسالم على تساقط العامين من وجه مع تساويهما في المرجحات والرجوع في مادة الاجتماع إلى الأصل الجاري في المسألة ، إلا ما يحكى عن الشيخ قدس سره في الاستبصار : من القول بالتخيير. ولم يظهر لنا وجه تسالم الأصحاب على التساقط مع إطلاق أدلة التخيير ، فتأمل جيدا.

الامر السادس :

لا ينبغي الاشكال في أن موافقة أحد المتعارضين للأصل لا يقتضي ترجيحه على الآخر ، فان الأصل ليس في مرتبة الامارة ، فلا يمكن أن يكون الأصل مرجحا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنه لا يجوز التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فالبحث عن الترجيح بالأصل الناقل أو المقرر ساقط من أصله.

هذا تمام الكلام في مبحث التعادل والتراجيح.

وقد تم بحمد اللّه الجزء الرابع من الكتاب ، ووقع الفراغ من تسويده في 21 شهر الصيام سنة 1345.

وأنا العبد الآثم محمد علي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي الخراساني

عفى اللّه تعالى عن جرائمهما

ص: 795

ص: 796

الفهرست

الفصل الثانيمن المقام الثالثفي الشك

في المكلف به

والكلام يقع فيه في مقامين... 4

المقام الأول في تردد المكلف به بين المتباينين... 4

فا ضابط الشك في المكلف به ... 4

أقسام الشك في المكلف به ... 7

في بيان ما هو المبحوث عنه ... 8

المبحث الأول : في الشك في المكلف به في الشبهة الموضوعية التحريمية والبحث نه يقع في مقامين : 9

المقام الأول : في الشبهة المحصوره : والكلام يقع فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في حرمة المخالفة القطعيّة ... 10

في أن الأصول العملية تختلف من حيث الجريان وعدم الجريان في أطراف العلم الاجمالى بحسب اختلاف المجعول فيها وحسب اختلاف المعلوم بالإجمال ... 10

في عدم جريان اصالة الإباحة عند دوران الامر بين المخذورين لمضادّتها لنفس المعلوم بالإجمال 12

في عدم جريان الأصول التنزيلية المحرزة في أطراف العلم الإجمالى من حيث قصور المجعول فيها عن شمولة لأطراف العلم الإجمالى... 14

ص: 797

لامانع من جريان الأصول الغير التنزيلّية في أطراف العلم الاجمالى إلا المخالفة لقطعيّة العمليّة للكتليف المعلوم في البين 16

اختلاف كلمات الشخ رحمه اللّه في القام ، حيث يظهر من بعضها الاشكال الثبوتي ومن بعضها الاشكال الإثباتي... 19

ما يرد على الشيخ على فرض رجوع كلامه إلى مقام الإثبات... 21

وأما الجهة الثانية : في وجوب الموافقة القطعية... 24

بيان ما قيل في وجه التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين قياساً على الأمارات بناءً على السببيّة 25

رفع شبهة التخيّر في تعارض الأصول ، وبيان ملاك التخيير... 27

كفاية الامتثال التعبّدي عن المعلوم بالإجمال... 32

في بيان ما يوجب الترخيص الواقعي أو الظاهري في بعض الأطراف دون الآخر 36

وجوه انحلال العلم الإجمالى... 37

رد ما يظهر من بعض : من تسمية ما نحن فيه بالانحلال التعبّدي ، وإثبات أنّه لا معنى للتعبّد بالانحلال 42

لا فرق في انحلال العلم الإجمالي بين أن يكون الأصل المثبت للتكليف موجوداً من اول الامر وبين أن يوجد بعد سقوط الأصول النافية للتكليف ... 44

دفع ما يتوهّم : من أنّه كيف يمكن انحلال العلم الإجمالى بالأصل المثبت للتكليف

في البعض ، مع أن قوام الاصل المثبت للتكليف يكون بالعلم الإجمالى ... 46

تتمة - في فرض انحلال العلم الإجمالى وإن ولم يكن في الطرف الآخر اصل مثبت للتكليف ، وبيان ما يمكن أن يقع مثالاً لذلك... 46

ص: 798

التنبيه على أمور :

الأول : لافرق في تأثير العلم الإجمالى بين أن يكون متعلق العلم عنواناً معيّناً ذا حقيقة واحدة وبين أن يكون المتعلق عنواناً مردّداً بين عنوانين مختلفى الحقيقة ، وردّ ما توهّمه صاحب الحدائق... 49

الامر الثاني : لايترتّب على مخالفة الاحتياط أزيد ممّأ يترتّب على مخالفة الواقع... 50

الامر الثالث : يعتبر في تأثير العلم الإجمالى امكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف 50

فساد قياس باب عدم الابتلاء بباب عدم الإرادة... 52

حكم الشك في الخروج عن مورد الإبتلاء... 54

الاقوى : وجوب الاجتناب عن المشكوك لمكان العلم بالملاك... 55

ما أفاده الشيخ في المسألة : من التمسّك بالطلاق أدلّة المحرمات... 57

الاشكال على التمسك بالمطلقات وجوابه ... 59

تكملة - في بيان أقسام الخروج عن مورد الابتلاء... 65

الامر الرابع : لايجب الاجتناب عن الملاقي لأحد طرفي المعلوم بالإجمال ، إلا إذ قلنا بأن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لأجل سراية النجاسة ... 67

اشكال على قياس الثمرة والحمل على منافع الدار ، والجواب عنه... 74

في وجه نجاسة الملاقي وأنّها هل بالتعبّد أم بالسراية؟ وبيان إبتناء المسألة عل الوجهين 76

الاشكال على المحقق الخراساني رحمه اللّه حيث ذهب إلى عدم وحوب الاجتناب على الملاقي لأحد الطرفين مطلقاً حتى على القول بالسرابة ... 78

في ماهو المستفاد من الأدلّة ، وتحقيق أنّه لادليل على كون نجاسة

ص: 799

الملاقي من الآثار المترتّبة على نفس النجس... 79

الاشكال على جريان الاصل في الملاقي لأحد الأطراف ، والجواب عنه... 81

نقل كلام المحقق الخراساني قدس سره في مسألة الملاقي ، وإزاحة شبهته... 85

تذييل - في تأسيس الاصل عند الشك في وجه نجاسة الملاقي... 89

الامر الخامس : في حكم الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ... 93

حكم الاضطرار إلى المعيّن بعد تعلّق التكليف وقبل العلم به ، وما إذ كان العلم مقارناً للاضطرار 94

حكم الاضطرار إلى المعيّن بعد العلم الإجمالى... 95

قياس الاضطرار قبل العلم الاجمالى بتلف البعض قبله والاضطرار بعد العلم الاجمالى بتلف البعض بعده ، وردّ ما قيل في المقام من الفرق... 97

حكم الاضطرار إلى غير المعيّن ... 98

بيان الفرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين... 100

رد ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن الترخيص في بعض الأطراف ينافي فعلية الحكم 101

كشف قناع - وهو أن الاضطرار إلى غير المعين هل يقتضي التوسط في التكليف أو التخبير؟ 104

الامر السادس - حكم ما لو كانت الأطراف تدريجية الوجود ... 108

توجيه ما أفاده الشيخ قدس سره في المقام ، والإيرد عليه ... 109

استقلال العقل بقبح الإقدام على ما يؤدي إلى المخالفة وتفويت مراد المولى مطلقاً ، من دون فرق بين أن لايكون للزمان دخل في الملاك والخطاب بين أن يكون له دخل فيهما... 112

تذييل - في أنه لو بنينا في الموجودات التدريجية على عدم وجوب الموافقه القطعية فلا تحرم المخالفة القطعية أيضاً 112

ص: 800

الاشكال على ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من ان العلم الاجمالى كما لايمنع من جريان الاصول العملية كذلك لايمنع من جريان الاصول اللفظية... 113

الاشكال على ما افاده الشيخ قدس سره من عدم الملازمة بين الحلية التكليفية والحليّة الوضعية في المعاملات 115

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة... 116

بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة وتحقيق حكمها ، وبيان وجه عدم حرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة فيها ... 116

تنبيه - في بيان امكان المخالفة القطعية في الشبهات الوجوبيّة ، ولزوم القول بتبعيض الاحتياط فيها 119

ضعف الوجوه المذكورة لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهه الغير المحصورة ... 120

تذييل - هل يسقط حكم الشك عن اطراف الشبهة الغير المحصوره أم لا؟... 122

المبحث الثاني : في المكلف به في الشبهة التحريمية الحكميّة ، والكلام فيه الكلام في الشبهة الموضوعية من حيث وجوب الموافقة القطعية ... 123

المبحث الثالث : في الشك في المكلف به في الشبهة الوجوبية والأقوى فيه : وجوب الموافقة القطعيّة ، ورد ما ينسب إلى المحقق الخونساري والقمي 0 من جواز المخالفة القطعية ... 123

رد ما ذكره الشيخ من عدم تصوير إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين ... 124

دفع ما ربما يتوهم : من أن وجوب الإتيان بالمحتمل الآخر عند الأيتان بأحد المحتملين ممّا يقتضيه استصحاب بقاء التكليف فلاحاجة في إثبات ذلك إلى قاعدة الاشتغال ... 125

تحقيق عدم جريان استصحاب الفرد المردّد... 126

ص: 801

يعتبر الاستصحاب أن يكون الأثر المقصود إثباته مترتّباً على بقاء المستصحب لا على حدوثه ، وأن يكون مترتّباً على النفس الواقع المشكوك فيه لاعلى الشك... 129

لا إشكال في أن الاستصحاب وارد على قاعدة الشتغال والبراءة ... 130

رد ما نسبه بعض إلى شيخ قدس سره من القول بعدم جريان الاستصحاب في الموارد التي يستقلّ العقل فيها بالبراءة والاشتغال 130

تحقيق عدم جريان استصحاب بقاء التكليف عند العلم بوجوب أحد الشيئين وإتيان أحد المحتملين ، وتميز مورد قاعدة الاشتغال عن مورد الاستصحاب... 131

التنبيه على أمور :

الأمر الأول : في رد القول بعد وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعيّة في الشرائط والموانع ، وردّ ما حكى عن المحقق القمّي رحمه اللّه من التفصيل في ذلك ... 134

الامر الثاني : في رد ما يظهر من الشيخ قدس سره من التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونه بالعلم الاجمالى في كيفية النيّة إذا كان المحتمل أوالمعلوم بالاجمال من العبادات ... 136

الامر الثالث : حكم ما لو كان المعلوم بالاجمال أمرين مترتّبين ، وتحقيق وجوب تأخير محتملات العصر عن محتملات الظهر 137

الامر الرابع : بيان تأثير العلم الاجمالى في الشبهات الوجوبية وإن كانت الأطراف غير محصورة 141

المقام الثاني في دوران الامر بين الأقل والأكثر

في بيان أقسام الاقل والاكثر ، ولزوم إفراد كلّ واحد من هذه الأقسام بفصل يخصّه 143

ص: 802

الفصل الأول : في دوران الأمر بين الاقل والأكثر في الاسباب والمحصلات والأقوى فيه : عدم جريان البراءة عن الأكثر مطلقاً 144

مجرد القول بالسببية لايكفي في شمول أدلّة البراءة لموارد الشك في المحصل مالم ينضم إليه القول بجعل الجزئية والشرطية مستقلا 146

الفصل الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والاكثر في الشبهات التحريمية والاقوى : فيه جريان البراءة عن حرمة الاقل مطلقاً ... 148

الفصل الثالث : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الغير ارتباطيين في الشبهة الوجوبية ، وأنه لاكلام ولا إشكال في جريان البراءة في الأكثر... 150

الفصل الرابع : في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الوجوبية الحكمية في باب الاجزاء والأقوى فيه : التفصيل بين البراءة العقليّة والشرعيّة... 150

تقرير ما أفاده الشيخ قدس سره في المسألة : من جريان البراءة مطلقاً... 151

في ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية رحمه اللّه في الإشكال على الشيخ... 152

بيان مقالة المحقق الخراساني رحمه اللّه وردّها... 155

بيان المختار في وجه عدم جريان البراءة العقليّة ... 159

تحقيق جريان البراءة الشرعية في الجزء المشكوك ، وفع توهم لزوم القول بالأصل المثبت 162

استغراب ما زعمه المحقق الخراساني : من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلّة البراءة الشرعية 165

تذييل : في شرح الكلام الشيخ قدس سره حيث استثنى من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر مورد الشك في حصول العنوان ومورد الشك في حصول الغرض ، وبيان الفرق بين المسبّبات التوليديّة والعلل الغائيّة 165

في بيان معنى «الغرض» المعطوف على «العنوان» في كلام الشيخ... 169

ص: 803

تحقيق عدم صحة تعلق الطلب بالملاكات... 174

ضعف ما أفاده الشيخ قدس سره في دفع الاشكال... 177

في رد ما أفاده المحقق الخراساني رحمه اللّه من أن الملاك يكون مسبّباً توليدياً ، وعليه بني عدم جريان البراءة العقليّة في الأقل والأكثر الارتياطي... 180

دفع وهم : وهو التمسك باستصحاب الاشتغال لإثبات وجوب الأكثر وفي مقابلة التمسك باستصحاب عدم وجوب الأكثر لإثبات وجوب الأقل... 181

بسط الكلام في أقسام استصحاب عدوم وجوب الأكثر ، وتحقيق عدم جريانه بأقسامه الأربعة 182

الفصل الخامس : في دوران الأمربين الأقل والأكثر في باب الشروط والموانع والكلام فيه عين الكلام في الأجزاء 189

في وجه إفراد البحث عن الشروط ، وبيان التفصيل بينها بحسب منشأ انتزاعها... 190

تتمة. في أن وجود النص المجمل في المسألة لايمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية واللفظية ، إلا في المخصص المحمل المتصل بالعام حيث إنّ إجماله يسري إلى العام ... 193

في أن المتعلقات التكاليف وموضوعاتها إنّما هي المسميّات والمعنونات الخارجيّة ، لا المفاهيم والعناوين 195

فساد ما ربما يتوهم : من أنّه لابد من إحراز انطباق مفهوم الصلاة مثلاً على المأتي به خارجاً فلايجوز الاقتصار على الأقل المتقّين للشك في صدق الصلاة عليه... 195

لولا إطلاق أدلة التخيير في باب تعارض الأخبار كان الحكم - عند تعارض النصّين في وجوب الأكثر - الرجوع إلى البراءة 196

حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن إطلاق أدلة التخيير

ص: 804

وعدم شمولها لمورد وجود العام الموافق لأحد المتعارضين ، وعدوله عن ذلك واختياره التفصيل بين القول بالتخيير في المسألة الاصولية والقول بالتخيير في المسألة الفقهيّة... 197

الفصل السادس : في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية 200

في بيان إمكان تحقق الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر الارتباطي ورد إرجاع الشيخ قدس سره هذه المسألة بمسألة الشك في المحصل... 200

مثال فقهي لتردد النفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية... 203

تحقيق عدم امكان تحقق الشبهة الموضوعية في الأجزاء والشرائط وانحصارها بباب الموانع 204

الفصل السابع في دوران الامر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية وبيان المراد من المركب التحليلي 205

في اختصاص مركب التحليلي بما اذا كان من قبيل الجنس والنوع. وأن الأقوى فيه : وجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة عن الأكثر ... 207

التنبيه على أمور :

الأول : لو شك في ركينة جزء للعمل فهل الأصل يقتضي الركنيّة أولا؟... 208

بيان الفرق بين الجزء الركني وغيره ... 209

أما المقام الأول : في اقتضاء نقص الجزء سهواً للبطلان وعدمه ، والكلام يقع فيه من جهات ثلاث : 210

الجهة الأولى : هل يمكن ثبوتاً التكليف بما عدا الجزء المسنىّ أولا يمكن؟... 210

في بيان ما قيل أو يمكن أن يقال في تصوير تكليف الناسي بماعدا الجزء المنسىّ... 211

ص: 805

1 - ما حكاه الشيخ الاستاذ عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره وهو عدم لزوم التفات المكلف إلى العنوان 211

2 - ما أفاده المحقق الخراساني رحمه اللّه من أنّه يمكن أن يؤخذ عنوان آخر يلازم عنوان الناسي 212

3 - ما أفاده المحقق الخراساني أيضاً وارتضاه الشيخ الاستاذ : من إمكان أن يكون المكلف به في الواقع في حق الذاكر والناسي هو خصوص ماعداه الجزا المسنيّ ،ثمّ يختص الذاكر بخطاب يخصّه بالنسبة إلى الجزء الذاكرله 213

الاشكال على الوجه الثالث والجواب عنه ... 214

الجهة الثانية : هل يكون في مقام الأثبات دليل على كون الناسي مكلفاً ببقيّة الأجزاء أم لا؟ 216

إناطة المسألة باطلاق دليل الجزء المسنىّ وعدمه ... 216

توجيه كلام الشيخ رحمه اللّه في المقام... 217

في ما حكى عن المحقق القمي قدس سره ... 219

أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المسنىّ هو رفع الجزئيّة في حال النسيان فقط ، ولا تقتضي رفعهما تمام الوقت إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت... 220

دفع ما يتوهّم : من أن مقتضي «حديث الرفع» الحاكم على الادلة الأولية هوعدم الجزئية في الحال النسيان واختصاصها بحال الذكر ... 221

يعتبر في جواز التمسك بحديث الرفع امور... 222

وجوب رفع اليد عما يقتضيه الظاهر الأوّلي للحديث ... 223

في اختصاص الحديث الشريف بالأحكام الانحلاليّة العدمية التي لها تعلق بالموضوعات الخارجيّة 224

ص: 806

بيان الفرق بين قوله صلی اللّه علیه و آله : «رفع ما لايعلمون» وقوله : «رفع النسيان» حيث إن مقتضي الأول رفع التكليف عن الجزء المجهول فقط، ومقتضي الثاني رفع التكليف عن الكلّ رأساً ... 227

الجهة الثالثة : هل هناك دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي الإجزأ بالمأتي به في الحال النسيان وكونه مجزيا عن الواقع ، أم لا؟ ... 228

المقام الثاني : في بطلان العمل بزيادة الجزء عمداً أو سهواً والكلام فيه يقع من جهات ثلاث : 229

الجهة الأولى : في تصوير وقوع الزيادة والاجزاء والشرائط ... 229

الاستشكال في امكان تحقق الزيادة ثبوتاً ، والجواب عنه بالصدق العرفي ... 230

الجهة الثانية : في بطلان العمل بالزيادة العمديّة أو السهويّة وعدمه ، وتحقيق أن الزيادة العمديّة تجتمع مع الصحّة ثبوتاً فضلاً عن السهويّة ... 231

التمسك باستصحاب الصحّة التأهليّة لإثبات عدم مانعيّة الزيادة ، والإشكال عليه 232

في بيان استصحاب بقاء الهيئة الاتصاليّة ، وإمكان تصورها في الصلاة ، وبيان الفرق بين المانع والقاطع 233

الاشكال على استصحاب الهيئة الاتّصالية... 235

الجهة الثالثة : هل قام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعده أم لا؟ وتحقيق أنّه لم يقم دليل على بطلان المركب بالزيادة السهوية أوالعمديّة إلا في باب الصلاة... 238

في الجمع بين الأخبار الواردة في بطلان الصلاة بالزيادة وحديث لا تعاد... 239

تكملة - في أنه لا يتحقق الزيادة بفعل ما لايكون من سنخ اجزاء المركّب قولا ً وفعلاً ، والتفصيل بين قصد الجزئية وعدمه فيما اذا كانت من سنخها ... 240

الامر الثاني من التنبيهات : فيما لو تعذر أحد القيود الوجودية أو العدمية باضطرار ونحوه 243

ص: 807

تحرير محل النزاع... 243

تحقيق عدم سقوط المانعيّة بسقوط النهي في باب النهى عن العبادة ، والتفصيل بين ما إذا كانت المانعيّة معلولة للنهي وبين ما إذا كانت معلولة للملاك، والإشارة إلى المحكي عن المشهور : من جواز الصلاة في الحرير عند الاضطرار إلى لبسه 244

في المانعية المنتزه من النهى في باب اجتماع الأمر والنهى ، وتحقيق سقوط المانعية بسقوط النهى في هذا الباب 246

في ما تقتضيه القاعدة الأولية في باب القيود ... 249

حكم القيدية المستفادة من نفس الأمر بالمركب بماله من القيود والشرايط ولأقوى فيه : سقوط الأمر بالمقيد عند تعذّر القيد 250

حكم ما إذا كان للقيد أمر يخصّه ، والتفصيل بين اطلاق دليل القيد وإطلاق دليل المقيّد ، وما إذا لم يكن لهما إطلاق ؛ وبيان حكم كلّ من الصور الثلاث عليحدة ... 250

في التفصيل المنسوب إلى الوحيد البهبهانى قدس سره في مورد إطلاق دليل القيد ، ومايرد عليه 251

في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة الأوليّة ... 253

مدرك القاعدة «الميسور» والتمسك بها على وجوب الباقي المتمكن منه ... 254

إيقاظ - يعتبر في القاعدة أن يكون الباقي المتمكن منه مما يعدّ عرفاً ميسور المتعذّر ولا بد من إحراز ذلك 256

صعوبة تشخيص الركن عن غيره والميسور عن الماين في الموضوعات الشرعيّة 257

في وجه ما قيل : إنّ التمسك بالقاعدة «الميسور» يتوقف على عمل الأصحاب 258

التمسك بالاستصحاب على وجود الباقي وبيان ضابط جريان الاستصحاب... 258

الأقوى في جريان الاستصحاب التفصيل بين إجمال دليل القيد وإطلاقه... 260

ص: 808

فرعان : 1 - إذا دار الأمر بين سقوط الجزء أو الشرط 2 - إذا كان للمركب بدل اضطراري - كالوضوء ودار الأمر بين الناقص والبدل ... 260

الامر الثالث من التنبيهات : فيما لو دار الأمر بين كون الشء شرطاً أومانعاً والأقوى فيه: الاحتياط بتكرار العبادة لكونه من دوران الأمر بين المتباينين ، ورد ما يظهر من الشيخ قدس سره من اندارجه في الأقل والأكثر 261

تتمة - في اشتباه الواجب بالحرام ... 263

الإشكال على الشيخ رحمه اللّه حيث أطلق الحكم بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر وترجيح ملاحضة مرحّجات باب التزاحم 263

خاتمة : في بيان ما يعتبر في العمل بالاحتياط ... 264

المقام الأول : في ما يعتبر في العمل بالاحتياط يعتبر في حسن الاحتياط اذا كان على خلافة حجة شرعية أن يعمل المكلف أولا بمودي الحجّة ، ثم يعقّبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة احرازاً للواقع ... 265

في ان وجوب تقديم العمل بمودي الحجة يختص بالأمارات والأصول المحرزة ، أما الأصول الغير المحرزة فلا يجب التقديم 266

التفصيل بين القول بالكشف والقول بالحكومة إذا كان اعتبار الحجة بدليل انسداد 266

إزاحة شهبة اعتبار قصة الوجة ، وبيان فساد بعض التوهمات في المقام ... 267

في تقدم رتبة الامتثال التفصيلى على الامتثال الاجمالى ... 269

تذييل : لايجوز الاحتياط في الشبهة الحكمية الإلزامية إلا بعد الفحص واليأس عن زوال الشبهة ، بخلاف الاحتياط في الشبهات الموضوعية والحكمية الغير الإلزامية ، حيث يحسن الاحتياط فيهما ولو مع التمكن من الفحص 271

ص: 809

التنبيه علي أمرين :

1 - الاقوى : سقوط الامتثال التفصيلى عند دوران الأمر بينه وبين سقوط الجزء أوالشرط 2 - لو عرض في الأثنا ما يوجب الترديد في النيّة ، والجوه المحتملة في ذلك ... 272

المقام الثاني : في شرائط العمل بالبراءة ، واستقصاء الكلام في ذلك يستدعى البحث عن جهات ثلاث : 277

في أدلة وجوب الفحص من طريق العلم الإجمالى ، ودفع الاشكالات الواردة عنه 277

تقرير حكم العقل بوجوب الفحص من طريق العلم الاجمالى ، ودفع الإشكالات الواردة عنه 278

الجهة الثانية : في استحقاق التارك للفحص العقاب وعدمه ... 280

ذكر الاقوال في المسألة وبيان مبناها ، وأن هذه الأقوال تأتي أيضاً في التارك للاحتياط في موارد وجوبه للإحيتاط في موارد وجوبه ... 281

في أن مناط وجوب التعلم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة وتحصيلها ، والاشاره إلى خلط الشيخ رحمه اللّه بين البابين 281

الجهة الثالثة : في صحة العمل المأتي في حال الجهل وفساده ... 285

مقتضى اصول المخظئة أن يكون المدار في الصحة والفساد على موافقته العمل للواقع ومخالفته ، لاعلى موافقته للطريق المنصوب ومخالفته ... 285

لو عمل الجاهل عملاً ثم بنى على التقليد أوالاجتهاد... 286

التنبيه على أمور :

الأول : في حكم التارك للفحص إذا وافقه عمله للواقع وخالف الطريق ، أو بالعكس 287

الامر الثاني : في بيان الملازمة بين استحقاق العقاب وبطلان العمل ، وكذا الملازمة بين عدم استحقاق العقاب وصحّة العمل. واستثناء

ص: 810

الأصحاب من هذه الملازمة مسألة الجهر بالقراءة في موضع وجوب الإخفاف وبالعكس ، ومسألة الإتمام في موضع وجوب القصر ... 289

وجوه التفصيّ عن الاشكال :

1 - ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من منع الملازمة بين صحة العمل والأمر به 290

2 - ما أفاده الشيخ قدس سره من الالتزام تارة :بعدم تعلق الأمر بالصلاة المقصورة عند الجهل بالحكم ، واخرى : بعدم تعلق الامر بالمأتي به في حال الجهل ... 292

3 - ما أفاده الشيخ الكبير رحمه اللّه من الالتزام بالأمر الترتّي... 293

4 - ما أفاده الشيخ الاستاد : من منع استحقاق الجاهل العامل العقاب... 294

الامر الثالث : في وجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعيّة : التحريميّة والوجوبيّة 301

تذييل - قد ذكر لأصل البراءة شرطان آخران 1 - أن لايلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر2 - أن لايلزم من جريانها ضرر على الغير... 302

الفصل الثالث من المقام الثالث في الاستصحاب

الأمر الأول : في تعريف الاستصحاب... 306

الامر الثاني : في ضابط المسألة الاصولية ، وتحقيق أن الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية تكون من المسائل الاصولية والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية تكون من القواعد الفقهية ... 307

الامر الثالث : في الفرق بين الاستصحاب و «قاعدة اليقين» و «قاعدة المقتضي والمانع » 313

إيقاظ - في أن المراد من المقتضي الذي ذهب الشيخ قدس سره إلى عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه معنى آخر أجنبّي عن

ص: 811

«قاعدة المقتضي والمانع» وبيان الوجوه المحتمله في المراد من المقتضي والمانع في القاعدة 314

الامر الرابع : يعتبر في الاستصحاب امور ثلاثة :

1 - اجتماع اليقين والشك في الزمان ... 316

2 - سبق زمان المتيقّن والشك في الزمان ... 316

3 - فعلية الشك واليقين ... 317

الامر الخامس : في بيان الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار : اختلاف المستصحب ، الدليل الدال عليه ، منشأ الشكّ في بقائه... 319

تحرير ما أفاده الشيخ قدس سره من عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل الدل على ثبوت المستصحب هو العقل ، والإشكال عليه ... 320

الامر السادس : في بيان مراد الشيخ والمحقق الخوانساري 0 من الشك المقتضي ، حيث اختارا عدم جريان الاستصحاب فيه ... 324

توضيح معنى الشك في المقتضي ، وبيان الفرق بين الشك في الرافع والشك في الغاية 326

أدلّة الاستصحاب :

1 - بنا العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة 2 : الاجماع المحكي في جملة من الكلمات 3 - الأخبار - منها : مضمرة زرارة 331

الاستدلال بالرواية يتوقف على إلغاء خصوصيّة تعلق اليقين بالوضوء ... 335

في عدم توقف الاستدلال بالرواية على تعيين الجزاء ... 336

دفع ما يتوهّم : من أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو سلب العموم لاعموم السلب ، وتمييز الموارد التي يصح فيها سلب العموم عما لايصحّ ... 338

مضمرة اخرى لزرارة :

إزاحة شبهة : في تطبيق التعليل الوارد في الرواية على المورد ... 341

ص: 812

إشارة إلى كيفية أخذ العلم في باب الطهارة والنجاسة الخبثيّة موضوعا لصحّة الصلاة وفسادها 342

منافات ماورد في بعض الروايات مع أخذ العلم بالنجاسة موضوعاً لوجوب الإعادة 348

في ما تضمّنت المضمرة : من حكم جملة من صور وقوع الصلاة مع النجاسة 353

تذييل - في وجه الجمع بين ما دل على عدم وجوب إعادة الصلاة عند انكشاف وقوعها في نجاسة الثوب أوالبدن وبين ما دل على اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن الظاهر في الطهارة الواقعيّة ... 354

في بيان وجه اجزاء الناقص عن التامّ عند قيام الدليل عليه ، ودفع توهم لزوم التخيير بين التام والناقص 356

صحيحة ثالثة لزرارة

الاشكال على استدلال بالرواية ... 358

الاشكال على ما افاده الشيخ في وجه عدم صحّة الاستدلال بالرواية ... 361

تحقيق أن مفاد الرواية ليس إلا استصحاب بلا مؤنة الحمل على التقية حتى في تطبيق الاستصحاب على المورد 362

رواية محمد بن مسلم ... 364

دفع ما اورد من استدلال بها : من انها ظاهرة في القاعدة اليقين ... 365

مكاتبة على بن محمد القاساني... 366

الاشكال على الشيخ قدس سره حيث جعلها من أظهر الروايات في دلالتها على حجيّة الاستصحاب 366

دفع ما يتوهم : من دلالة أخبار أصالة الحلّ والطهارة على اعتبار الاستصحاب 367

الكلام في مقدار دلالة أدلة الاستصحاب ... 372

بيان وجه المختار ، وهو حجيّة الاستصحاب في جميع الأقسام ، إلا في

ص: 813

الشك في المقتضي وما يلحق به من الشكّ في الغاية... 372

تحقيق عميق في معنى «اليقين» وامتيازه عن العلم والقطع ... 374

في عدم شمول الاخبار للشك في المقتضى... 375

تحقيق اندارج الشك في الرافع بجميع أقسامه في الأخبار، وردّ ما ينسب إلى المحقق السبزواري رحمه اللّه من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في الرافعية الموجود. وردّ ما يحكي عن الفاضل التوني رحمه اللّه من التفصيل بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعيّة واختصاص الاستصحاب بالوضعيّات... 377

تذييل - في تفصيل الأحكام الوضعيّة ، واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم امور : 378

الأمر الأول : في بيان ابتناء تقسيم الأحكام إلى التكليفية والوضعيّة على القول بأن للشارع جعل وإنشاء ، وردّما حكى عن بعض : من انكار الجعل والإنشاء بتوهم عدم امكان قيام الإراده والكراهة في المبدء الاعلى 378

الامر الثاني : في القرن بين الامور النتزاعية والاعتباريّة ، وإلإشارة إلى الخلط الواقع في جملة من الكلمات 380

الامر الثالث : في بيان المراد من الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، وبيان أقسامهما 384

الامر الرابع : في تحقيق أنّ الأحكام الوضعيّة متأصّلة بالجعل ، وردّ مقاله الشيخ 1 حيث التزم بأنّ هذه الأمور كلّها منتزعة عن التكاليف التي في موردها... 386

الامر الخامس : في أن موضوعات التكاليف إنما تكون من المخترعات الشرعيّة ، وأمّا موضوعات الأحكام الوضعية قد تكون تأسيسيه وقد تكون إمضائية ، وبيان الاصطلاح الجاري في السبب والموضوع والشرط 388

ص: 814

الامر السادس : في الفرق بين شرائط الجعل وشرائط المجعول ، والاشاره إلى الخلط الواقع للمحقق الخراساني رحمه اللّه في باب الشرط المتأخر ... 389

بيان نتيجة المقدّمات ، وإثبات عدم امكان جعل السببيّة ... 392

إزاحة شبهة - التي حصلت للمحقق الخراسانى رحمه اللّه وهي الخلط بين علل التشريع وموضوعات الأحكام ، والخلط بين كون المجعولات الشرعيّة من الأحكام الخارجيّة الجزئيّة أوكونها من القضايا الحقيقيّة الكليّة 395

تتمة : في بيان معنى الصحة والفساد ، وتحقيق أنّهما ليسا من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل 398

تعقيب كلام الشيخ قدس سره في الطهارة والنجاسة حيث حعلهما من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشرع 401

في أن الرخصة والعزيمة أمسّ إلى الأحكام التكليفية من الأحكام الوضعيّة ... 403

تنبيهات الاستصحاب ..........................................................

التنبيه الأول : يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشك ... 403

التنبيه الثاني : إثبات جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات ، والإشكال على جريانه في مؤدّيات الاصول 403

تقريب جريان الاستصحاب في مؤديات الاصول ... 406

ما أفاده المحقق الخراسانى رحمه اللّه في الذبّ عن الإشكال المتوهّم في استصحاب مؤدّيات الطرق والامارات 407

دفع ما توهّمه المحقق الخراساني قدس سره ... 409

التنبيه الثالث : في بيان أقسام استصحاب الكلّي وأحكامها ... 411

تحقيق جريان استصحاب الكلي في القسم الاول بلا إشكال ... 412

تحقيق جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني لوجود المقتضي وفقد المانع... 413

ص: 815

المانع الذي يمكن توهّمه هو أنّ الجامع إنّما يكون مسبّباً عن حدوث الفرد الباقي فبجريان الاستصحاب في السبب لاتصل النوبة إلى المسبّب ... 413

دفع المانع المتوهم اولاً : بأن ارتفاع القدر المشترك ليس مسبّباً عن عدم حدوث الفرد الباقي بل هو مسبب عن ارتفاع الفرد الزائل ... 416

وثانياً : تعتبر في حكومة الأصل السببي على الاصل المسببي :

1 - أن يكون الترتّب شرعياً

2 - أن يكون الأصل الجاري في الشك السببي رافعاً لموضوع الأصل المسببّي ومزيلاً للشكّ فيه 416

في أنّ استصحاب بقاء الكلي إنّما يقتضي ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس الكلي ولايثبت به الآثار المترتّبه على حدوث الفرد الباقي ... 419

في أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقّن السابق بهويّته وحقيقته مردّداً بين ما هو مقطوع الارتفاع وماهو مقطوع البقاء ؛ أما إذا كان الإجمال والترديد في محلّ المتيقّن وموضوعه فلايجري ؛ والجواب عن الشبهة العبائيّة 421

في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وبيان الوجوه المتصوّره فيه ... 423

تحقيق عدم جريان استصحاب في الوجه الاول من القسم الثالث ... 424

في بيان فساد الثمرة المذكورة في الوجه الأول... 426

تحقيق عدم جريان الاستصحاب في الوجه الثاني... 428

الأقوى جريان الاستصحاب في الوجه الثالث ... 428

فيما يتفرّع على الوجه الثالث ... 429

تذييل - في الإشارة إلى مخالفة الفاضل التوني رحمه اللّه للمشهور في جريان أصالة عدم التزكيّة عند الشكّ فيها ، والاستدلال عليه بوجهين

ص: 816

يمكن تطبيق كلام الفاضل على كلّ منهما

بيان ما في كلا الوجهين من النظر ، وتحقيق جريان استصحاب عدم التزكيّة... 431

التنبيه الرابع : في الاستشكال على جريان الاستصحاب في الزمان والزماني ، والكلام فيه يقع في مقامين : 434

المقام الأول : في استصحاب بقاء نفس الزمان ... 435

الشكّ في الزمان يمكن فرضه بوجهين :

1 - الشك بمفاد «كان» و «ليس» التامتين

2 - الشك بمفاد «كان» و «ليس» ناقصتين ... 435

إثبات عدم جريان الاستصحاب في الوجه الثاني ، وجريانه في الوجه الأول... 435

الإشكال في أن استصحاب وجود الليل أو النهار هل يثبت وقوع متعلّق التكليف أو موضوعه في الليل والنهار، أو أنّه لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت؟... 436

ادّعا أن أدلّة التوقيت لاتقتضي أزيد من اعبتار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقق معنى الظريفة ، وردّ هذه الدعوى 437

إشكال آخر يتولّد من استصحاب بقاء الوقت ... 438

المقام الثاني : في استصحاب الزمانيّات ... 439

بيان ما يتصور من وجوه الّتي يمكن أن يقع عليها الشكّ في بقاء الزمانيّات المتدرّجه في الوجود 439

تحقيق جريان الاستصحاب في الوجه الاول والثاني دون الوجه الثالث ... 440

تذييل - في ما حكاه الشيخ قدس سره عن الفاضل النراقي رحمه اللّه من القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الأحكام ... 442

ما أورده الشيخ رحمه اللّه على الفاضل النراقي بقوله : أوّلاً ، ثانياً ، ثالثا ً... 444

ص: 817

الإشكال على أفاده الشيخ قدس سره ... 445

في فساد مقالة الفاضل النراقي قدس سره ... 448

التنبيه الخامس : في جريان الاستصحاب في الموضوعات التي حكم العقل بحسنها أو قبحها والأحكام الشرعيّة المستكشفة من الأحكام العقليّة بقاعدة الملازمة. والمناظرة مع الشيخ قدس سره في المقام ... 449

التنبة على جرايان البراءة في المستقلات العقليّة وبيان منشأ الفرق بينها وبين الأخكام الشرعية ، والإشارة إلى أن الحكم العقلي تارة : تعمّ صورة العلم والظنّ والشك بمناط واحد ، واخرى : يكون للعقل حكمان : حكم لصورة العلم ، وحكم طريقي لصورة الظنّ والشكّ... 453

التنبيه السادس : تحقيق الكلام في الاستصحاب التعليقي ... 458

يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له 458

الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام تارة ً : يستفاد من نفس الديل أو من الخارج أنّ لها دخلاً في موضوع الحكم. واخرى : ليس لها دخل وثالثة لايستفاد أحد الوجهين ... 458

الشكّ في بقاء الحك الكلّي يتصور على أحد وجه ثلاث :

1 - الشك في بقائه من جهة احتمال النسخ ... 461

تنظير استصحاب الملكيّة المنشأة بالعقود التعليقيّة - كالجعاله والسبق والرمايه - باستصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ ... 461

الإيراد على الشيخ قدس سره حيث منع - في مبحث الخيارات من المكاسب - عن جريان الاستصحاب في العقود التعليقيّة ، مع أنّه من القائلين بصحّة الاستصحاب التعليقي في مثل العنب والزبيب ... 462

2 - الشك في بقاء الحكم الكلي على موضوعه المقدّر وجوده عند

ص: 818

فرض تغييّر بعض حالات الموضوع ... 462

3 - الشك في بقاء الحكم الكلي المرتب على موضوع مركّب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئية وتبدّل حالاته قبل فرض الحزء الآخر ، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليه ب- «الاستصحاب التعليقي» 463

تحقيق أن الاستصحاب التعليقي ممّا لا أساس له ولايرجع إلى معنى محصّل... 466

تقريب آخر للاستصحاب التعليقي ، وبيان فساده... 468

في أن أخذ موضوع الدليل المثبت للحكم من العرف غير أخذ موضوع الاستصحاب من العرف 469

ردّ ما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من استصحاب الملازمة بين الغليان والحرمة والنحاسة 471

القائل بالاستصحاب التعليقي لايلتزم بجريانه في جميع الموارد ... 472

المناقش في مثال العنب والزبيب ، بأن موضوع الحرمة والنجاسة هو ماء العنب وقد جفّ والزبيب لا يغلي إلا إذا اكتسب ماءً جديداً من الخارج... 472

تتمة - في حكومة الاستصحاب التعليقي المثب لنجاسة الزبيب وحرمته عند غليانه (على فرض الصحة) على استصحاب الطهارة والحلّيّة الفعليّة ، الثابتة للزبيب قبل غليانه ... 473

اشكال نشأ من الخلط بين الاصول السببيّة والمسبّبيّة الحارية في الشبهات الحكميّة والجارية في الشبهات الموضوعيّة 475

التنبيه السابع : في استصحاب أحكام الشرايع السابقة ورد الوجهين الذي استدلّ بهما على المنع 478

التنبيه الثامن : في بيان اعتبار مثبتات الأمارات دون مثبتات الاصول ... 481

امور تمتاز بها الامارت عن الاصول موضوعاً... 481

ص: 819

ما تمتاز به الأمارات عن الأصول حكماً ... 482

تحقيق أن المجعول في باب الطرق والأمارت إنّما هو الطريقيّة والكاشفيّةوالوسيطيّة في الإثبات ، دون مجرد تطبيق العمل على المؤدّى ، بل تطبيق العمل على المؤدي من لوازم المجعول فيها ... 484

المجعول في باب الاصول العمليّة مطلقاً هو مجرد تطبيق العمل على مؤدّي الأصل ، سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو كان من الاصول الغير المحرزة ، وأن الإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارت 486

تفصيل الكلام في وجه اعتبار مثبتات الأمارات دون الأصول ... 487

تضعيف ما في بعض الكلمات : من أنّ الوجه في اعتبار المثبتات الأمارة هوحكايتها عن اللوازم والملزومات ، وأضعف من ذلك دعوى دلالة إطلاق أدلة اعتبار الأمارات على إثبات اللوازم والملزومات دون الاصول 491

تنظير الحكم الواقعي المجعول في باب الأصول ، من حيث عدم إثبات اللوازم والملزومات 492

في أنّه لا أثر لخلفاء الواسطة أوجلائها في جريان الأصل المثبت وعد جريانه 494

توجيه الأمثلة التي ذكرها الشيخ قدس سره لخلفاء الواسطة ... 496

تحقيق معنى «أول الشهر» وأنّ استصحاب بقاء رمضان أوعدم هلال شوّال لا يثبت كون الغد أوّل شوّال 498

في الفروع الّتي توهّم ابتنائها على الأصل المثبت ... 500

التنبيه التاسع : في مقتضى الأصل عند الشك في تقدم الحدوث وتأخّره مع العلم بأصل الحدوث 503

تحقيق جريان الاستصحاب إذا كان الشك في التقدم والتأخّر

ص: 820

بالإضافة إلى أجزاء الزمان ... 503

فيما إذا كان الشك في القدّم والتأخّر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، واختيار التفصيل في المسألة 504

في أنّ اعتبار التوصيف وكون أحد الشيئين وصفاً للآخر إنّما يتصوّر بالنسبة إلى العرض ومحلّه 504

عدم جريان الأصل في مفهوم التاريخ... 508

تحقيق جريان الأصل في مجهول التاريخ ... 509

الإشكال على بعض الأعاظم حيث ذهب إلى عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ بزعم عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين فيه ... 510

بسط الكلام لتمييز الموراد التي لايتصل فيها الشكّ باليقين ، وبيان الضابط في المسألة 510

تفريع عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المرددّ بين كونه من المسفوح أو من المتخلّف والدم المردّد بين كونه من البقّ أومن البدن على مسألة اتصال زمان الشك بزمان اليقين ... 516

بيان فساد ما ذكره المحقق الخراساني رحمه اللّه من عدم احراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في باب الحادثين بعد العلم بالحدوث والشك في المتقدّم والمتأخر منهما ... 517

تكملة - في أن عدم جريان الأصل في المعلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ليس على إطلاقه ، بل قد يجري في معلوم التاريخ أيضاً ، وقد لايجري في كلّ من معلوم التاريخ ومجهوله ... 522

التنبيه العاشر : في الإشارة إلى ما تقدم في مباحث الأقلّ والأكثر: من أنّه لامجال لاستصحاب صحّة الأجزاء السابقة في العبادات عند الشك في عروض المانع أو القاطع ... 530

ص: 821

التنبيه الحادي عشر : إشاره إجماليّة إلى عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتاقديّة المطلوب فيها العلم واليقين 531

التنبيه الثاني عشر : في بيان تمييز الموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصّص عن الموارد التي يرجع فيها إلى عموم العامّ... 531

1 - تنقيح البحث يستدعي تقديم امور: الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفاً لوجود الزماني ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على القيديّة ... 532

2 - الزمان المأخوذ قيداً في الحكم أو المتعلّق تارة : يلاحظ على وجه الاتباطيّة ، واخرى : على وجه الاسقلاليّة 533

3 - اعتبار العموم الزماني بأحد الوجهين يتوقف على قيام الدليل عليه ، والدليل الدال على العموم تارة يكون نفس دليل الحكم ، واخرى يستفاد من دليل لفظي آخر ، وثالثة من مقدّمات الحكمة ... 534

4 - مصبّ العموم الزماني تارة يكون متعلّق الحكم، واخرى يكون نفس الحكم... 535

5 - يختلف العموم الزماني الملحوظ في ناحية المتعلق مع العموم الزماني الملحوظ في ناحية الحكم من جهتين 536

ضابط استصحاب حكم المخصّص هو ما إذا كان مصبّ العموم الزماني نفس الحكم، ومورد التمسك بالعامّ هو ما إذا كان مصبّ العموم الزماني متعلّق الحكم ... 537

شرح مراد الشيخ في المسألة ، ودفع ما تخيّله بعض الأعلام في مراده ... 543

تكملة - في تشخيص مصبّ العموم الزماني ، وأنّه في كل مورد شكّ في مصبّ العموم الزماني بعد العلم به،فالأصل يقتضي أن يكون مصبّه نفس الحكم الشرعي ، لاالمتعلق ... 545

ص: 822

مصبّ العموم الزماني في باب الأحكام الوضعيّة ... 548

مصبّ العموم الزماني في باب المحرّمات ... 550

مصبّ العموم الزماني في باب الواجبات ... 552

في بيان الثمرة بين أن يكون الاستمرار قيداً للطلب وبين أن يكون قيداً للمطلوب... 553

التنبيه الثالث عشر : في استصحاب الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركّب الارتباطي 556

تضعيف الوجوه التي ذكرها الشيخ قدس سره في وجه جريان الاستصحاب في المقام 556

تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعلّه يسلّم عن الإشكال ... 559

تتمة:يظهر من كلام الشيخ قدس سره عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين التعذّر الجزء بعد دخول الوقت أوقبله 561

التنبيه الرابع عشر : في أن المراد من الشكّ الذي اخذ موضوعا ً في باب الأصول العمليّة ومورداً في باب الأمارات ليس خصوص ما تساوى طرفاه ، بل يشمل الظنّ بالخلاف ... 563

خاتمة في بيان امور :

الأمر الأول : في أن اعتبار اتحاد متعلّق الشكّ مع متعلق اليقين في الاستصحاب من القضايا التي قياساتها معها 564

تحقيق جريان الاستصحاب في المحمولات الأوليّة وفي المحمولات المترتّبة وتفصيل الكلام في ذلك 565

في معنى أخذ الموضوع من العرف ، وأنّ محلّ الكلام والإشكال إنّما هو في الاستصحابات الحكميّة 570

في أنّ تعويل على العرف إنّما يكون في باب المفاهيم ولاعبرة بنظر العرف في باب المصاديق 574

ص: 823

الاستشكال فيما أفاده الشيخ قدس سره من الترديد بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أوالدليل بأنّ الرجوع إلى العقل إنّما يستقيم في المستقلات العقليّة وأما الموضوعات الشرعيّة فليس للعقل إليها سبيل ، وأنهّ لاوجه للمقابلة بين الموضوع العرفي والشرعي 575

دفع الإشكال عمّا أفاده الشيخ قدس سره ... 575

في بيان معنى «الرافع» المقابل للمانع وأنّه غير «الرافع» القمابل للمقتضي ، وبذلك يندفع ما ربّما يتوهّم : من أنّه بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي لم يبق فرق بين أحذ الموضوع من العقل أوالعرف أو الديل 577

توضيح معنى أخذ موضوع من العرف ، وأن الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق 581

الأقوى : اتّباع نظر العرف في بقاء الموضوع ولاعبرة بنظر العقل ،كما أنّه لاعبرة بظاهر الديل بعدما كان المرتكز العرفي بمناسبة الحكم والموضوع على خلاف ما يقتضيه الدليل ابتداءً ... 585

الامر الثاني : في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وتحقيق عدم شمول الأخبار لقاعدة اليقين 586

الامر الثالث : في وجه تقدّم الأمارات على الاصول العمليّة والاصول المحرزة على غيرها ، وتحقيق أنه بالحكومة لابالورود 591

في الفرق بين الورود والتخصّص ، والحكومة والتخصيص ... 591

لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلولة اللفظي شارحاً ومفسّراً لما اريد من دليل المحكوم 593

تحقيق أنه لايعتبر في الحكومة أزيد من تصرّف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر وفي عقد حملة ولولم يكن بلسان الشرح والتفسير ... 594

ص: 824

في تقسيم الحكوم على قسمين ... 595

في أنّ دعوى ورود الأمارات على الأصول والأصول بعضها على بعض لاتقسيم إلا بأحد وجوه الثلاث ، وكلّها مخدوشة 597

الامر الرابع : في الامور التي قد وقع البحث والخلاف في أنها من الأمارات أو من الاصول العمليّة 602

1 - قاعدة اليد

استظهار كون اليد من الامارات وتحقيق تقديمها على الاستصحاب ولوكانت من الأصول العمليّة 603

لا أثرلليد مع العلم بحالها من كونها غصباً أو أمانه أو إجارة ، بل لابدّ من العمل بما يقتضيه الاستصحاب ، وعلى ذلك يبتني قبول السجلات وأوراق الإجارة... 604

في عدم اعتبار اليد على ما كان وقفاً ، وبطلان قياسه بالأراضي المفتوحة عنوة ومدعي الحريّة 606

القسم المتيقن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على الاستصحاب هوما إذا لم يعلم حال اليد واحتمل أنّ المال حدث في ملك صاحبها ... 609

تتمة - فيما لوكان في المقابل ذي اليد من يدّعي الملكيّة مع ثبوت كون المال ملكاً للمدّعي قبل استيلاء ذي اليد عليه 610

انقلاب الدعوي وصيرورة المنكر مدعياً باقرار ذي اليد بالملكيّة السابقة للمدّعي 611

دفع دخل - في محاجّة أمير المؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في قصّة فدك ... 613

2 - قاعدة الفراغ والتجاوز

استظهار كون قاعدة الفراغ والتجاوز من الأمارات ، وأنّها تقدم على الاستصخاب ولو كانت من الأصول العمليّة 618

ص: 825

الكلام في بعض المباحث الفقهيّة المرتبطة بالقاعدة ... 619

المبحث الأول : في أن الكبرى المجعولة في القاعدة الفراغ هل هي عين الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ 620

في ما يرد على الشيخ حيث يستظهر من كلامه اتّحاد القاعدتين... 620

استظهار اتّحاد القاعدتين من ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب ودفع الإشكالات الواردة 623

المبحث الثاني : تحقيق أنّ التجاوز عن الجزء إنما يكون بالتجاوز عن محلّه لاعن نفسه ، أنّه لااعتبار بالمحلّ العادي ، وأنّه لايعتبر في صدق المضيّ والتجاوز عن الشيء عدم كون المشكوك فيه الجزء الأخير... 627

المبحث الثالث : في اعتبار «الدخول في الغير» في قاعدة التجاوز طبعاً وفي قاعدة الفراغ تعبّداً 631

المبحث الرابع : في بيان المراد من «الغير» الذي يعتبر الدخول فيه ، وتحقيق أنه يختص بالأجزاء المستقلّة بالتبويب - كالقراءة والركوع والسجود وغير ذلك - فلا يعمّ المقدمات ولاأجزاء الأجزاء... 633

التنبه على بعض فروع قاعدة التجاوز ... 636

المبحث الخامس : في جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشرائط ... 639

التنبيه على كون قاعدتي التجاوز الفراغ من الأصول المحرزة... 639

تقسيم الشروط على أقسام ثلاثة وبيان ما لكلّ منها من الحكم ... 640

المبحث السادس : يعتبر في قاعدة التجاوز أن يكون الشك في صحّة العمل رجعاً إلى كيفيّة صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعاً وحكماً ، فلوكان الشك في الصحّة من جهة الشبهة الحكميّة أوالموضوعية لاتجري فيه القاعدة ... 647

الوجوه المتصورة في الشك في صحة العمل المأتي به وفساده... 647

ص: 826

المبحث السابع : في عدم جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في حقّ من يحتمل الترك عمداً... 652

3 - أصالة الصحة

في مدرك اصالة الصحّة ... 653

بسط الكلام في اصالة الصحة في العقود ، وبيان اختلاف كلمات الأعلام في حكومتها على اصول الموضوعيّه المقتضيّة للفساد ... 654

تحقيق تقدم أصالة الصحة على أصالة بقاء المال على ملك مالكه الأول ، وعدم تقدمها على سائر الاصول المضوعيّة الاخر 657

في معنى اصالة الصحة وأنّ صحة كل شيء بحسبه ... 661

تحقيق عدم جريان أصالة الصحّة في العمل الغير إلا بعد احراز صدور العمل بعنوانه الذي تعلّق به الأمر أو ترتّب عليه الأثر 663

هل يكفي في إثبات كون العمل المأتي به كان واجداً للعنوان إخبار العامل بذلك؟ أو أنّه لابدّ من العلم به أوقيام البيّنه عليه؟ 665

في عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة ، وشرح كلام العلامة رحمه اللّه في مسألة اختلاف المالك والمستأجر 666

في ما إذا كان في مقابل أصالة الصحّة أصل موضوعي آخر غير أصالة عدم النقل والانتقال 669

إشارة إلى اختلاف نسخ الفرائد في هذه المقام، ونقل كلام السيّد الكبير الشيرازي قدس سره وبيان المقصود منه 671

الامر الخامس : في بيان نسبة الاستصحاب مع سائر الوظائف المقرّرة للجاهل 678

نسبة الاستصحاب مع القرعة ... 678

نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العمليّة ... 680

الامر السادس : في تعارض الاستصحابين ... 681

ص: 827

في حكومة كل أصل سببيّ على كل أصل مسببّي اذا كان الأصل السببي واجداً لشرطين : 1 - أن يكون ترتّب المسبّب على السبب شرعيّاً 2 - أن يكون الأصل السببي رافعاً للشكّ المسببّى ... 682

بيان منشأ الإشكال والترديد في حكومة الأصل السببي على المسبّبي ... 685

في ما إذا كان الشك في كل منهما مسبّباً عن أمر ثالث ... 687

هل الأصل في تعارض الاصول يقتضي التخيير في إعمال أحدها؟ أو يقتضي التساقط؟ والأقوى هوالتساقط 688

بيان الفرق بين الامارات المتعارضة والاصول المتعارضة ... 689

في عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الإجمالى ، وتحقيق أنّ المانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالى إنما هو عدم قابليّة المجعول فيها لأن يعمّ جميع الأطراف،لا ما يظهر من الشيخ قدس سره من لزوم تناقض الصدر والذيل في دليل الاستصحاب 693

تحقيق في دفع شبهة عدم جواز التكليف بين المتلازمين الشرعيّين ، وأنّه لامحذور في التعبّد بالاستصحابين المتخالفين الذي يلزم من جريانها التفكيك بين المتلازمين ... 694

الإشكال على الشيخ قدس سره في تحرير الأقسام التي ذكرها لتعارض الاستصحابين ، وبيان ما هو الأولى في ذلك 696

في التعادل والترجيح

في أن البحث عن التعادل والترجيح من أهم المباحث الاصوليّة وليست من المباحث الفقهيّة ولا من المبادي 699

المبحث الأول : في ضابط التعارض ... 700

المبحث الثاني : في الفرق بين التعارض والتزاحم ... 704

ص: 828

ردّ ما في بعض الكلمات : من أنّ التزاحم الحكمين إنّما يكون لأجل تزاحم المقتضيين والملاكين 705

وقوع التزاحم بين من الحكمين لا يختصّ بصورة عدم القدرة على الجمع بينها في الامتثال 707

أقسام التزاحم ... 707

مرجحات باب التزاحم ... 709

المبحث الثالث : في أنه يعتبر في التعارض أن لايكون أحد الدليلين حاكماً على الآخر ، وتحقيق أنّه لايعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلولة اللفظي شارحاً ومفسّراً لمدلول الآخر... 710

إجمال الفرق بين الحكومة والورود والتخصيص والتخصّص ... 714

المبحث الرابع : في أنه إصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة على إصالة الظهور في طرف العامّ ، بل في بعض الفروض يحتمل أن تكون واردة عليها. وشرح ما أفاده الشيخ 1 في المقام ... 715

الدلالة الصديقيّة تطلق على معينين ... 716

هل المناط في عمل العقلاء على ظواهر الكلام هو حصول الظنّ بأنّ ظاهره هو المراد؟ أولأجل البناء على أصلة عدم القرينة المنفصلة؟ ... 717

الوجوه المتصوره في العام والخاص ... 719

الأقوى وجوب الأخذ بظور الخاص وتخصيص العامّ به ولوكان ظهوره أضعف من ظهور العامّ ، وبيان الوجه في ذلك 720

في حكم ما إذا كان الخاصّ ظنّيّ السند وقطعيّ الدلالة ، وشرح ما ذكره الشيخ 1 في المقام ، فانّه بني أوّلاً على كون ظهور الخاصّ حاكماً على ظهور العامّ ثمّ احتمل أن يكون وارداً عليه ... 722

المبحث الخامس : في بيان حكم التعارض ... 725

ص: 829

بيان المزيّة التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة إذا كان التعارض بين دليلين 726

في انحصار رفع التعارض بين الدليلين باحد أمرين : 1 - أن يكون احدهما نصّاً في مدلولة ولآخر ظاهراً فيه 2 - أن يكون أحدهما بظهوره أواظهريّته في مدلولة قرينة عرفيّة على التصرف في الآخر ... 727

في بيان الموارد التي تندرج في النصوصية ... 728

في بيان الموارد التي تندرج في القرينة العرفيّة ... 729

تفصيل الكلام في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ، وتوجيه التخصيصات الوارده عن الأئمة علیهم السلام بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، وبيان المحتملات في ذلك ... 733

استبعاد الشيخ قدس سره الاحتمال الثاني وتقويته الاحتمال الثالث... 736

الإشكال فيما أفاده الشيخ قدس سره تقوية الاحتمال الثاني ... 737

النسخ على التخصيص ، والنظر في كلا الوجهين ... 738

المبحث السادس : فيما اذا كان التعارض بين أكثرمن دليلين ... 740

في بيان صور وقوع التعارض بين أكثر من دليلين ، وتمييز موارد انقلاب النسبة عن غيرها 742

تكملة - في الإشارة إلى بيان النسبة بين أدلّة ضمان العارية ... 748

المبحث السابع : فيما إذا لم يكن الجمع بين المتعارضين ، هل الأصل يقتضي سقوطهما رأساً - مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير - أويجب التعبّد بصدورهما؟... 753

تحقيق عدم صحّة التعبّد بصدور المتعارضين على القول بالطريقيّة ... 753

حجيّة المتعارضين لنفي الثالث... 755

ص: 830

حكم الامارات المتعارضة على القول بحجيّتها من باب السبيّية ... 758

الكلام فيما يظهر من اطلاق كلام الشيخ قدس سره من أنّه لافرق في جريان حكم التزاحم هنا بين القول بالسببيّة الَّتي توافق مذهب التصويب وبين السببيّة التي توافق مسلك التخطئة ... 758

المبحث الثامن : في النصوص المستفيضة الدالّة على عدم سقوط المتعارضين مع فقد المرجّح 763

التحقيق في الجمع بين الأخبار ... 764

اختصاص ادلة التخيير بتعارض الروايات وعدم شمولها لتعارض الأقوال في سلسة طرق الروايات 765

عدم شمول الادلّة لصورة اختلاف النُسخ ... 766

لايجوز الاخذ بأحد المتعارضين تخييراً إلا بعد الفحص عن المرجّحات ... 766

الأقوى : كون التخيير في المسألة الأصولية ، لافي المسألة الفقهيّة ... 766

بيان بعض الثمرات التي تترتّب على كون التخيير في المسألة الاصوليّة أو في المسألة الفقهيّة 767

المبحث التاسع : في بيان أنّ المشهور بين الأصحاب اختصاص التخيير بصورة تعادل المتعارضين وفقد ما يقتضي ترجيح أحدهما ، خلافاً لما حكى عن بعض من القول بالتخيير مطلقاً - لإطلاق أدلّة التخيير - وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب 769

الاستدلال للمشهور - وجوب الأخذ بالمرجّحات - بمقبولة « عمر بن حنظلة » ورفع الاشكالات الواردة عليها 770

الأقوى وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ... 774

المبحث العاشر: في أنّ المرجّحات المنصوصة أربعة ، والكلام في ترتّب المرجّحات المنصوصة وتقدّم بعضها على بعض 778

ص: 831

بيان الأقوال في المسألة ، وتقوية القول بتقديم المرجّح السندي على المرجّح الجهتي والمرجّح المضموني 779

ردّ ما ينسب إلى الوحيد البهبهاني رحمه اللّه من تقديم المرجّح الجهتي على المرجّح الصدوري ، وما أفاده المحققّ الخراساني قدس سره من وقوع التزاحم بين المرجّحات عند التعارض وتقديم ماهو الأقوى مناطاً وإلا فالتخيير 781

التنبيه على أمور :

1 - الأقوى : وجوب الترجيح بصفات الراوي التي لها دخل في أقربيّة صدور أحد المتعارضين 784

2 - في أقسام الشهرة وأحكامها ... 785

3 - في ما ذكره الشيخ قدس سره للترجيح بمخالفة العامّة : من الوجوه الأربعة ، وتحقيق الكلام في ذلك 789

4 - وجه الجمع بين الطائفتين من الأخبار الوارده في الأخذ بموافق الكتاب وطرح المخالف له 790

5 - في حكم تعارض العامّين من وجه ، وتحقيق عدم جواز الرجوع فيه إلى المرجّحات الصدوريّة ، بل لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الجهتيّة ومع فقدها إلى المرجّحات المضمونيّة ... 792

6 - في أنّ موافقة أحد المتعارضين للأصل لايقتضي ترجيحه على الآخر... 795

وقد تمّ بحمد اللّه فهر الجزء الرابع من كتاب فوائد الأصول ، وقع الفراغ من تسويده في يوم الأحد لثمان خلون من المحرّم الحرام من سنة 1409 ( ه. ق ) على هاجرها آلاف التحيّة والسلام.

وأنا العبد المذنب المحتاج إلى رحمة ربّه الغنيّ «رحمت اللّه رحمتي الأراكي»

ص: 832

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.